تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الزمان والزمانية .. ضد زمان الحداثة

قواسمي مراد

الزمان والزمانية..

ضد زمان الحداثة

الدكتور ڤواسمي مراد*

*             أستاذ محاضر بقسم الفلسفة، كلية العلوم الاجتماعية، جامعة عبد الحميد بن باديس، مستغانم، عضو بمخبر: الأنساق، البنيات، النماذج والتطبيقات بجامعة وهران، الجزائر.

 

 

 

 

تقتضي الحقيقة الزّمانية فهمًا جديرًا بالتّحصيل في أفق الزّمان والتّاريخ، ولهذا فإنّ مساءلة ما هو الزّمان وما هي الزّمانية يؤدّي إلى مساءلة الوعي وحقيقته، فاقتراح التّركيز على بحث الحاضر الزّماني من بعدِ ردِّه ومدى علاقته بالماضي وارتباطه بالرّاهن يجعل البحث مواجهةً لأسئلةِ آليات فهم هذا الزّمان وكيفيات انعطائه الفينومينولوجيّة، فبفهم فينومينولوجيا الوعي الملتحمِ بالزّمانِ في صورتها الهوسرلية، يمكن فهم الفلسفة التي لا تستسلم للمقاربة إلَّا من خلال هذا السّؤال للحاضر في علاقته بأبعاده وأنماط عطائه.

إنّ فينومينولوجيا الزّمان هي النّقطة المفصلية التي يلتقي عندها تاريخ الذّات بالآخر وحتّى العالم الموضوعي، إذ تُشكّلُ مقامًا من مقامات التّفكير في مدى وعي العصر الخاص بالفكر الذي يُطلقُ عليه تسمية «الفلسفة الذّاتية الترانساندانتالية»، فتحليل الوعي بالزّمان يقود بحثَ الذّات (Sujet) الترانساندانتالية إلى نقطتها القصوى التي تدلّ في الآن معًا، على اكتمالها وانفجارها، أو بالأحرى تمزّقها، ذلك أنّ فينومينولوجيا هوسرل تمثّلُ لحظة الاكتمال من حيث هي، في الوقت نفسه لحظة اشتمال لفلسفة الوعي.

يُعتبرُ الزّمان أحد الموضوعات التي تعهّدت الفينومينولوجيا الهوسرلية بدراستها، بحيث كان اهتمامها الرّئيس في سنة 1905 تحليلُ واستكشافُ حقول المعطيات الحدسية الدّنيا: الحسّ، المادّة، الشّيء، المكان والانطباع الزّماني في «دروس الفينومينولوجيا من أجل الوعي الحميم بالزمان»[1] بحيث مرّت التّحليلات الفينومينولوجية فيما قبل هذه المرحلة، كما يصرّح هوسرل بنوعٍ من «صمت الوعي» لا يمكن فهمها إلَّا بفهم التّرابطات الانفعالية والفعالية للزّمان الكلّي في علاقته بالوعي، ذلك أنّ لفظة «الزّمان» نفسها مَجَازٌ يشيرُ إلى «حركةِ» هذا الانفعال بالنّفس، فالزّمان بهذا المعنى هو مفهومٌ، مُستَلهَمٌ من الميتافيزيقا الغربية عموماً ولا سيما الأرسطيّة بالأخص على غرار مفاهيم أخرى من مثل: الفعل، الانفعال، الإرادة واللّاإرادة[2]، وبصورة ما فإنّ الفينومينولوجيا تحمل تصوّراً نوعيًّا للزّمان.

- 1 - الكليّة الزّمانية

تتحقّق الصّورة الكليّة للتّركيب الترانساندانتالي الزّماني المحايث بصورة منفعلة في الوعي الدّاخلي المستمرّ للزّمان، وهذا بناءً على أنّه لكلّ حالة معيشةٍ ديمُومَتها، ولكن مع تمييز مدّة تجلّي الشّيء في الوعي الدّاخلي عن تجلّيه في العالم الخارجي المفارق من حيث هي مدّة موضوعية بحيث من الممكن تقسيم هذه الدّيمومة (Durée) إلى فترات متمايزة بخلاف ديمومة الوعي المحايِثَةِ[3]، ومن هنا ينجلي اختلاف ما بين الوعي القصدي والوعي المطلق، فيبدو بأنّ الأفعال القصدية تنبثق «في الزّمان»، في حين أنّ الوعي المطلق تحصيلٌ للزّمان لم يعد هو نفسه في الزّمان.

يتمّ في الصّورة الزّمانية هذه، وفي حضنها، تقوّم المُثُليَّات (Idéalités) التي تكتسي قيمةً «كليّة الزّمان» (Omnitemporelle)، بحيث إنّ بداهتها ذات فاعلية «كلّية الزّمان» من قِبَلِ الوعي، هي طبقةٌ قبل-تأمّلية كاملَة تُدعى بـ: طبقة التّركيب الانفعالي، إذ تدخل في حقل التّحليل الترانساندانتالي بما هو خلفيّة وأفق تاريخي للتّفكير، وبناءً عليه فالزّمانية، التي تتقوّم الصور المُثُلِيَّةِ الواعدة بتفكيرها لا تسمح بنسيانها، وفي هذا تأويل لاستثمار كانط من النّاحية الزّمانية انطلاقاً من الدّور الآيل إلى التّخيل المتعالي الذي يُعتَبَرُ قدرةً تركيبيةً للرّوح، وبهذا الفارق الموجود والأساسي تبقى وحدته التّركيبية أصلاً للتعقّل والفهم اللاّزمانيين[4].

إنّ التّركيب الزّماني الكلّي إذن، ٌناتج عن الوحدة الكليّة للوعي نفسه الذي يقصد الشّيء الواحد في تجلياته المتعدّدة والمتغيّرة، ولكن بما هو «محايثٌ» لتيّار الوعي، أي أنّ حالة وجوده في الوعي هي نفسها هويّته، إنّها مُحَايَثَة الوعي، من حيث إنّ الشّيء ليس بعنصرٍ واقعي، بل تحقّقٌ لـ«معنى» الشّيء في الوعي أو، بالأحرى، الوجود المثالي له من حيث هو موضوع قصدي، أي «المعنى الموضوعي» (Le sens objectif) باسم «الإجراء القصدي» (Intentionale leistung).

ومهما تعدّدت مظاهر الموضوع – كثرةً أو إضافةً – بموجب أنّ عمليّة «التّركيب» هي عمليّة انفعالية محضة يقوم بها الأنا في نشاطه: «فالمفارقات والمتناقضات تُعتَبَرُ صوَرًا لـ«التّركيب»[5]، ولكن في الوقت نفسه تقوم حياة الأنا كلّها على هذا «التّركيب» القائم لا فقط على تأليف متغيّرات ومتعدّدات الشّيء نفسه بما هو مُدرَك، بل القائم على لمّ شملِ الحياة النّفسية بما هي مُوحّدَةٌ في صورة «الكوجيتو الكلّي» (Cogito universel) الذي يقوم على تأليف الحالات الفرديّة للوعي كليّةً بوصفها مختلفةً ومتعدّدةً وقائمةً على فعل التّأسيس[6].

إنّ فعل التّأسيس، الذي يكتسب أهمية كبرى، يُعتَبَرُ مفهومًا مفتاحيًّا، بما هو «التّتَابع الزّماني للتّكوين، فكلّ حالة فرديّة، يمكن تصوّرها، لا تطفو إلَّا على أساس الوعي الشّمولي والموحّد»[7]، الأمر الذي يسمح باعتبار «الكوجيتو الكلّي» حياةً كليّةً موحّدةً بصورةٍ لا نهائيةٍ ولا محدودةٍ تتجلّى دفعةً واحدةً، كما أنّ صورة التّركيب الكلّي التي تعمل على تحقيق إمكان التّركيبات الأخرى، بما هي الوعي المحايث للزّمان، تتلاءم مع «الدّيمومة المُحايثة»[8][9] نفسها ليتمّ تأمُّلُها بناءً على كونها جُملةَ مراحل في الزّمان، ذات بدايةٍ ونهايةٍ، ولكن داخل الأفق اللاّنهائي والدّائم للزّمان المحايث[10].

يمكن الاستنتاج من ذلك، أنّ هناك تصوّرَيْنِ للزّمان نهائي ولانهائي، أو بالأحرى، الوعي بالزّمان والزّمان نفسُهُ، الأوّل هو الأحوال الزّمانية لتجلّي الزّمان، القائمةِ على الكثرة وحتّى التناقض، أمّا الثّاني فالزّمان بما هو حالةُ الوعي القصديّةِ الأبديّة[11].

وبذلك فثمّةَ تطابقًا أصليًّا ما بين انسجام الوعي مع موضوعاته ومدى قدرتِهِ على رؤيةِ هذه الموضوعات والتّجلي عندها وبين التّاريخية المحايِثَةِ التي هي التّسلسل الأصلي لهذا التّجانس وهذا التجلّي، وهو ما معناه بأنّ الزّمان الذي تُشتَقُّ التّاريخيّة منه زمانٌ بلا نقص، إنّه زمانٌ يحيط بنفسه ومُزامِنٌ لَهَا، فالإحاطة (Appréhension) تشكِّلُ وحدَةً تُعطَى فيها العديدُ من الأصوات، وهذا ممكن فقط لأنّ التّتابعَ في السّيرورةِ يكون من «دون بقايا» ليشكّل مجموعةً واحدةً، الواحدُ بعدَ الآخرِ في الوعي، غير أنّها تقعُ كلُّها في فعلٍ واحدٍ هو نفسُهُ فعلُ الكلِّ، مثلما يستلهم هوسرل فكرته من شتيرن (Stern).

من هنا يمكن القولُ بأنّ الأنا الكلّي يُمثّلُ جملةَ فعالياتٍ متقوِّمة (Activités constituantes) تتدفّقُ فيها الحياة بما هي تساوقٌ يُشكِّلُ وحدة التّكوين الكُلّي له [أي الأنا]، في شكلِ تقوّمٍ ذاتي: إنّها وحدة تاريخ الأنا[12].

وإذا كان التّعاقب والتّزامن من القوانين السّببية في علاقةِ الشّرط بالنّتيجة، فالأمر يختلفُ تمامًا بالنّسبة للوعي وحياة الوعي، بل إنّه من الخطر استعمال مفهوم «السّببية» (Causalité) الذي لابدّ من استبداله بمفهوم «الدّفع» (Motivation)، وهذا في مستويات الدّائرة الترانساندانتالية، التي يحكمها سيلٌ متدفّقٌ: «الصّورة الكليّة للسّيل» بما هي وحدةُ اندماجِ العناصر الخاصّة من ناحية تدفّقها هي ذاتها، في تيّارٍ واحدٍ يربط جميعَ العناصر كما يحكم كلّ عنصر خاص.

هذا هو المقصود بالدّفع من حيث هو القانون الصُّوري للتّكوين الكلّي الذي يتمّ بناءً عليه تقوّم السّيل الزّماني الكلّي: ماضي، حاضر ومستقبل بصورةٍ مستمرّةٍ ووفقاً للبنية الصُّورية للوعي القصدي وموضوعه المضايف له.

لو كانت «الزّمانية» (Temporalité) تحديدٌ لما هو محتوى في الزّمان فإنّه لا بدّ من الانتهاء إلى أنّ الوعي المطلق ليس زمانيًّا وهذا ما يضطلع به هوسرل إذ يرى بأنّ الـ«محمولات» (Prédicats) الزّمانية كالـ«آن» (Maintenant) الـ«قبل» (Auparavant) الـ«متتابع»(Successivement) الـ«تزامن» (Simultanément)... إلخ، لم تَعُد لِتنطَبِقَ على الوعي المُطلَقِ نفسه، وإنّما فقط على الموضوعات الزّمانية المحايثة مثل المعيشات القصدية للإدراك، ومنه فإنّ علاقة التقوّم التي تربط الموضوعات الزّمانية المحايثة بالوعي المطلق لا تلغي الفارق/الاختلاف الأساسي ما بين زمانية الأفعال القصدية ولا زمانية الوعي المطلق، فهذه اللاّزمانية للوعي المطلق في الحقيقة هي زمانية أُخرَى، بالنّظرِ إلى زمانية الوعي الذي يقعُ ما بعدَ المعيشات القصدية، وهذه الزّمانية الأخرى هي صورةُ حياةِ الذّات نفسها وهي مطلقة بالمعنى الذي تكون فيه غير قابلة للرّد إلى معيشاتٍ قصديةٍ لهذه الذّات.

إنّ ما يجعل الأنا التأمّلي لا زمانيًّا هو كون الزّمان المحايث لهذا الأخير مُمَوضَعٌ بالتأمّل، إذ يتجلّى السّيل في ثباته، الأمر الذي يعبّر به عن هذه اللاّزمانية (Intemporalité) بتعبير الفو-زمانية (Supratemporalité) كما لو أنّه، أي الأنا التأمّلي، غيرُ موجودٍ في الزّمان، وهذا بما أنّه لا يمكن إعطاء الاعتبار للذّات التي لا تتجلّي سوى بما هي متقوَّمة، إذ يتّجهُ، في دروس (1905) مؤلِّفُ كتاب الوعي الحميم بالزّمان، في أوّل تماثل التّجربة، تلك التي تؤكّد مبدأ مداومة (Permanence) الماهية، ليرى بأنّ الزّمانَ في الوقت نفسه ثابثٌ وسيّالٌ (Immobile et fluant)، ففي السّيلِ زمانٌ، زمانٌ ثابثٌ بإطلاق، موضوعيٌّ ومتطابق (Identique) إنّه الزّمان المتقوَّم.

في المقابل يغدو الأمر، وعلى غرار كانط بصورة كليّة، في اتّجاهه إلى القول بأنّ الزّمان والإيغو [الأنا] ليسا موجودان «في» (Dans) الزّمان، بأنّهما لَيْسَا، كما يصوغُهُ هيدغر، «داخل-الزمان «(Intratemporel)[13]، فأن يكون الأنا (Ego) خارج الزّمان أو فيما وراءه لا يعني أبدًا أنّه أبدي وخالد، بل معناه بأنّه «كلي الزّمان» (Omnitemporel) وهو ما يصرّح به هوسرل في ملحق غير مترجم من كتاب «الفلسفة الأولى»، أمّا عن دوام استمرار الذّاتية المطلقة فهو دوامٌ للتّزمين (Temporalisation) نفسه، الأمر الذي يؤكّد عليه هوسرل في مخطوط سنوات العشرينات «ليس المطلق شيئاً آخر سوى التّزمين المُطلق»[14].

ولكن لو كان زمانُ الموضوعات الطبيعية هو الزّمان الموضوعي، زمانُ موضوعياتٍ الفهمِ التي ليست مُفَردَنَةً كالموضوعات الواقعية في نقطة من الزّمان، ليس سوى بكيفية عرضيّة الزّمان الموضوعي، بما أنّ غياب مواقفها الزّمانية يسمح بإنتاجٍ مُماثلٍ في أزمنةٍ مختلفةٍ، إنّهُ ما يأذَنُ لهوسرل بفهم الفو-زمانية لموضوعات الفهم بما هي كليّةٌ زمانية (Omnitemporalité) أي في نهاية المطاف، كنمطٍ من الزّمانية، ذلك أنّ الوحدة الـ«فو-زمانية» ليست «خارج الزّمان» وإنّما تَعبُرُ وتخترق المتتالية الزمانية[15].

يتمّ هذا العبور من التّجربة قبل-الحملية (Antéprédicative)، والموضوعات الواقعيّةِ التي تؤسَّسُ في الزّمان الموضوعي، إلى تجربة حملية (Prédicative)، يُعتَبَرُ إجراؤها إنتاجاً لا واقعيًّا في كلّ زمان، الأمر الذي يدعو هوسرل إلى الاعتراف بتجلّي الوحدة الكليّة التي يمكن مشاهدتها والإلمام بها في وعي كلّي: بما أنّ الكوجيتو الكلّي هو الحياة الكليّة نفسها، في وحدتها وشموليتها اللامحدّدة واللاّمحدودة.

ذلكم هو مفتاحُ مشكلة الزّمان، فالوعي بالزّمان هو تلك الصّورة التّركيبية التي تجعل كلّ تركيبات الوعي ممكنةً، وبناءً على أن بنية الوعي تنقسِم إلى مادية منها وصورية فالزّمانية ليست هي ذلك الوعي المحايث للزّمان وإنّما مُضَايِفُهُ، فليست الزّمانية وإنّما الوعي الذي يكون موضُوعُهُ هو الذي يسمّيه هوسرل بـ«منبعِ صورةِ التّركيبات»، ومعناه أنّ الزّمانَ في الأصل صورةٌ لا مادّة، فالزّمان هو فعل الوعي الذي يُعتَبَرُ صورةً، في حين أن الزّمانية بما هي موضوع الوعي فإنّ هذا الأخير هو ما يجعل من المعيشات مُنتظَمَة، أي بما هي بدءٌ وانتهاءٌ، إمّا أنّها تتعاقبُ أو تتزامنُ[16]، وهو ما يعني بأنّ الكليّة الزّمانية محسوبة على جانب الصّورية القصدية، أفعال الوعي، بينما تُحسب عمليات التغيّر وحتّى التّناقض على الجانب المادّي المتعلّق بمحتويات الزّمان، أي موضوعات الوعي.

بناءً على ذلك، ليسَ الآن المتقوِّم والآن المتقوَّم مُتطابقان، وفقاً لرؤية هوسرل للتقوّم الذّاتي (L’auro-constitution) لسيلِ الوعي بالزّمان[17]، على أساس وجود تقدّم زماني بينهما: المتقوَّم على المتقوِّم، كما أنّه، يولي مُجمَلَ اهتماماته لظاهرةِ الإمساك (Rétention) بما أنّه لا بدّ من ربط خصوصيّة الإمساك بالطّابع التّأملي للتّحليل الفينومينولوجي من حيث إنّ التأمّل حركة انعطافٍ إلى الوراء تتضمّن القُدرَةَ على رؤية المعيشات من خلال مَوضَعَةٍ استذكارية (Objectivation rétrospective) لها، للمعيشات، وهذا في مرحلةٍ أوليةٍ من دون أن يولي الاهتمام للمستقبل (Futur).

إن ما يسمح برؤيةٍ استذكاريةٍ للأنا لنفسه هو بالضّبط طابعه الزّماني، فلا يمكن أن تكونَ الحياةُ المفارِقة محدَّدَةً من قِبَلِ المحايِثَة، ولكن كما يعلن هوسرل فإنّ الحياة المفارِقة تسمح بتقوُّم الزّمان المحايث (Temps immanent) ومن هنا يمكن فهم الفارق ما بين المتقوِّم (Constituant) والمتقوَّم (Constitué) بما هو «إجراء» (Leistung) التّعالي-الذّاتي (L’auto-transcendance) للسّيل وبما هو التّحويل المستمر للمفارِق إلى المحايِثِ، ما يتضمّن بأنَّ الأنا يتقوَّم ذاتَه-نفسها بإطلاقٍ (Protention) مستمرٍ، وهنا يتجلّى الإطلاق بما هو البعد الزّماني الأكثر أهمية.

فضلاً عن ذلك، وهذا منذ طور الفينومينولوجيا الوصفية، فإنّ اكتشاف الزّمانية المحايثة كَشَفَ بُعدًا جوهريًّا للقصدية، في «دروس الفينومينولوجيا من أجل الوعي الحميم بالزّمان»، حيث يوّضح هوسرل أن السّمة الزّمانية [سمة الذكر Souvenir][18] ليست كيفًا منظوريًا، متعلّقًا بالأشياء وغريبًا عن الوعي، وإنّما تأُخُذُ منبعها من تزمين أصلي؛ بفضل هذا الأخير فإنّ الوعي الرّاهن يتّسع بـ «الإمساك» (Rétention) وبـ «الإطلاق» (Protention) أو التّسبيق (Anticipation). هذا هو التصوّر الذي تمّت استعادته في «الأفكار...I» مع وعدٍ بضمان سيل الوعي الممتد من خارج «الآن الرّاهن» (Maintenant actuel)[19].

- 2 - أصل الزّمان: الزمانية الفينومينولوجية

إنّ المرحلة الموالية لمرحلة الرّد الفينومينولوجي، للزّمان، ليست مرتبطة بدراسة استحضار الغياب كما أنّها تسائل حركة التّفرقة الجذرية التي يسمّيها هوسرل بـ: «سيل الوعي المطلق»[20]، فالزّمانية هي خاصّيةُ ما ينعطي في الزّمانِ، بالتّعارض مع الأبدية، إنّها تجربة باطنية للزّمان يكتسب فيها هذا الأخير معنى مرتبطًا بالوعي، وهذا بالنّظر إلى نمط وجوده [الوعي] بما هو يتقوَّمُ الزّمانَ أو ينشُرُهُ، كما أنّ الزّمانية، من وجهة نظر نظامية، هي، عُقدة التّحليل التّكويني، غير ممكنةٍ إلَّا إذا تمّ إلحاقها إلى أنا يتقوّم نفسه بنفسه من حيث يؤسّس لانخراطه ضمن تاريخ هو تاريخه بالأصل، ومن هنا تجتمع عنده كلّ أنساق التقوّم الخاصة بكلّ ضروب الموضوعات الممكنة بالنسبة إليه.

يُعتَبَرُ منطق المزايدة في البحث الأصلي من سمات الفينومينولوجيا التي تمتدّ إلى اقتناص اللّحظات الحاسمة الأكثر جوارًا للحقيقة ولا سيما في دراستها لسؤال الزّمانية، وهذا لأجل كبح التّقهقر نحو لا نهائية المتقوَّم في المتقوِّم، بالنّظرِ إلى السيل[21] الذي يقصد الـ«ذاتية المطلقة»، أي مسيرتها التّاريخية في تغيّراتها المتأجّجة، وهذا المنطق الذي يتأسّس على سؤال الأصل يقود رحلة البحث الفينومينولوجي إلى تأسيس زمانيّة هذه المعيشات القصديّة على طبقةٍ قصوى من الوعي «يُهَنْدِسُـ»هَا هوسرل بوسمِ «سيل الوعي المطلق»، التقوّمي للزّمان»[22]. فكيف يتمّ التّعبير عن هذا السيل الأقصى، للوعي بما هو ذاتية مطلقة، تنبثق فيها المعيشات بصورة متتالية ؟

يُعتَبَرُ الأنا المحض انفتاحًا للدّيمومة المعيشة ووِحدتها، هو السّيل نفسه، إنّه الوعي بما هو كذلك أي وحدة كلّ المعيشات، «ففي سيلٍ واحدٍ ووحيدٍ تتقوّم في الآن معًا الوحدة الزّمانية المحايثة ووحدةِ سيلِ الوعي نفسه»[23].

وبمفاهيم أخرى، الأنا المحض يقدّم قصديّة زمانيّة مزدوجة، يقصد طرفها الأوّل المعيشات المتعالية أو المحايثة: فالأنا هو المنبع الذي تنبثقُ منه كلّ القصديات التي تنتظم وفقًا للإمساك والإطلاق في زمانيةٍ معيشةٍ، والقصديّة الثّانية هي تقوّمية-ذاتيّة  (Auto-constitutive) لنفسها بما هي سيلٌ طولي له ديمومته، وهي النّقطة القصوى لفينومينولوجيا محضة تدّعي توضيح المنبع المؤصِّل النّهائي، والذي يخصّص تعيين الزّمان للذّاتية أو تذويت الزّمان[24] (Subjectivation du temps) هذه الذّاتية التي تمتلك شيئًا ما ينبثق «الآن»، في نقطة الرّاهن، بصورةٍ مطلقةٍ.

أصلُ الزّمانِ إذن، هو التقوّم-الذّاتي للزّمانِ بما هو سيلٌ وحيدٌ ومطلقٌ، أي السيل الأقصى الذي تقتضي فيه القصديّة الطولية[25] (Intentionnalité longitudinale) القصديّة العَرَضِيّة (Intentionnalité transversale) من حيث إنّ الأولى هي زمانية العلاقة مع الذّات، والثّانية هي زمانية العلاقة مع الأشياء تتداخلان فيما بينهما، وكلٌّ منهما اقتضاءٌ للثانية بناءً على كونهما جانبينِ للشّيء الواحد نفسه[26][27].

لقد انشغل هوسرل، في فينومينولوجيا الوعي الحميم بالزّمان، كثيرًا بالأفعال القصديّة من مثل تنشيط-التذكّر (Remémoration)، تنشيط-الإحضار

 (Re-présentation)، التمثّل التمثّلي (Représentation représentative)، الانتظار (L’Attente) ولكنّ ما يُتقوَّم بالنّسبة له «الوعي الأوّلي والأصلي للزّمان» هو بالأحرى «المعرفة الخاصّة بانطباعٍ حسّي بسيط «كـالجريان الزّماني للصوت»، بحيث أعاد هيدغر الاعتبار إلى أنّ تحليل هوسرل يحملُ مستويَينِ مختلفين من الوعي بالزّمان، بالنّظرِ إلى مستوى الأفعال القصدية «للتذكّر» (Remémoration)، للإدراك... إلخ، التي تجري «في» الزّمان المحايث ومستوى الـ«وعي الأصلي بالزّمان» الذي يسميه هوسرل «سيل الوعي المطلق، التقوّمي للزمان».

لأجل تحصيل محتوى الإحساس المخصص لـ«الصّورة الزّمانية» للرّاهنية (Actualité)، أي لـ«انطباعٍ أصليٍ» مُحَصَّلٍ في نقطةٍ فرديةٍ من اللّحظة الحاضرة يبدو بأنّ هذا «الانطباع الأصلي»[28] يُفهَم بالتّماثل مع الانطباعات التي تتمثّل مَوقَعَة موضوع الإدراك في المكان والزّمان فالسّؤال الأكثر أهمية ليس هو معرفة ما إذا كان هذا الـ«الانطباع الأصلي» يُرفع بنمطٍ مستقلٍ من الحس أو لا يتعلّق إلَّا بالوصف الزّماني للمحتوى الحاضر للتّحصيل الإدراكي، وإنّما هناك سؤالٌ آخر يُطرَحُ ويوجد متضمَّنًا في التطوّر اللاّحق للتّحليلات نفسها، بالنّظرِ إلى كيف يمكن للانطباع الأصلي أن يُجدَّدَ بما هو «حساسية اللّحظة الحاضرة»[29].

من خلال الانطباع الأصلي[30]، يرتبطُ الوعي المطلق بلحظة حاضرة في الجريان الزّماني لفعلٍ قصدي كما يلتحم هذا الانطباع الأصلي، بإمساكات تسمح للوعي المطلق بالإبقاء على المجرى الذي جرى سلفًا لهذا الفعل القصدي نفسه بما هو حاضر، والأمر نفسه بالنّسبة للإطلاقات التي تَسبِقُ الوعي المطلق الحاضر والتي تتحقّق بواسطتها المجرى المستقبلي، أي تكملةُ الفعل القصدي[31].

يتميّز الإمساك بما هو لحظة لا مستقلة عن حاضرِ الوعي المطلق، لا بكونه فعلاً قصديًّا لتنشيط الإنتاج كتنشيط الذّكر (Remémoration)، وإنّما مؤانسة استذكارية استرجاعية، ممتدة مع الديمومة الجارية لموضوع-بدئي زماني محايث، ومن أقرب فإنّ إمساك الدّيمومة الجارية لموضوع-بدئي زماني ينكشف في الوقت نفسه بما هو إمساكٌ لـ«الانطباعات الأصلية» الجارية، أو بالأحرى التي جرت، والتي حصّل الوعيُ المطلق بواسطتها الموضوع الزّماني-البدئي في مسار انتشاره الحي.

وبالتّالي فإنّ حاضرَ الوعي المطلق هو في الآن معًا إمساك الماضي لموضوع-بدئي زماني محايث وإمساك المراحل الجاريّة في سيل الوعي المطلق نفسه، بما أنّ الوعي المطلق يُمْسَكُ ويُحتَجَزُ: إنّه يمسك الموضوعات الماضيّة في الحاضر ويُحتَجَزُ فيما لم يعد، سلفاً، حاضراً[32].

في هذا يُطلق هوسرل على إمساك الدّيمومة الماضية للموضوع-البدئي تسمية الـ«قصدية العرضيّة»، وعلى إمساك السّيل الجاري للوعي المطلق تسمية الـ«قصدية الطولية»، ومن هنا تبدو الصّيرورة-الزّمانية لا بما هي مجرّدَ تراكمٍ أو «كرة ثلجية» (Boule de neige) عند برغسون[33]، كما ليست مجرّد استطرادٍ خطّي (Refoulement linéaire)، كما لو أنّ كلّ مرحلةٍ جديدةٍ للوعي تدفع سلسلةَ المراحل السّابقة لمسيرةٍ يُعَدَّل فيها الماضي باستمرارٍ انطلاقًا من حاضر الإمساك، والمستقبل على الدّوام من قبل حاضر الإطلاق وليس هذا التّعديل، للحاضر، سوى ما يَسمَحُ بتجربة الدّيمومة الزّمانية.

في الفقرة 36 من دروس الوعي الحميم بالزمان، يتمّ الكشف عن أن الأخذ (Saisir) في حياته، التّزمين في الحضور ليس أخذًا في لقاءٍ سيكون ممتلئًا به، وإنّما فقط بأخذٍ عن بُعدٍ، كما لو أنّ التوضيح الفينومينولوجي للزّمان، في حركته القهقرية[34] (Régressif) نحو اللاّنهائي والعودة-الرّجعية (Rétro-référence)، قد تمّت مواجهتها بمفارقةٍ مزدوجة تتضمّن هذا السيل: مفارقةُ النّظر إلى الأصل واستباق (Avance) الأصل للسّيل بالنّظر إلى نفسه[35].

ففي حال تحصيل لحظةٍ حاضرةٍ [الإدراك] كتحليل الموضوعات «الموّزَعة» ضرورةً من خلال نقاط التّتابع الزّماني بمفاهيم «موضوعات النّظام الأعلى» قد وَجَّهَت ماينونغ (Meinong) إلى «نفي وجود إدراك اللّحن»، فهذا اللّحن لا يمكنه أن يُتَمَثَّلَ، إلَّا حينما يكتمل، بواسطة تحصيل تزامني (Simultané) وتراجعي/ارتدادي لكلّ المراحل التي تكوّنه وتتوسّط فرضية صورة منطقية تقوّمية للوحدة الحاوية لهذه الآناء (جمع آن) المتتابعة[36].

ولكن، في لحظةٍ ما، يتراجعُ السّؤال المتعلّق بأصل الزّمان، ذلك أنّ التّحديدات الزّمانية للموضوعات مؤّسَّسة على زمانيّة الأفعال القصديّة، ومن ثمة يبقى دائماً طلب فهمِ منبعِ استلهام هذه الأفعال القصدية لتحديداتها الزّمانية الخاصّة، فالمنطق الملازم لسؤال الأصل يقودُ هوسرل إلى تأسيس زمانيّة هذه المعيشات القصدية على طبقة (Strate)، في لحظة أولى، تُمثّلُ فهمَ هذا الوعي المُطلق بما هو وعي الحساسيّة (Sensation) قبل-القصدية المتضمّنةِ في الأفعال القصدية إدراك الموضوع الزّماني.

بينما فيِ لحظة ثانية، يتخلّى هوسرل عن هذا التّحليل للوعي بموضوع زماني محايث باسم الإحاطة (Appréhension) قبل-القصديّة (Pré-intentionnelle) ليصبح الوعي المطلق بكلّ بساطة وعيًا بكلّ موضوع بدئي زماني محايث (Proto-objet temporel immanent) كان فعلاً قصديًّا أو موضوعًا محايثًا، وهذا الوعي الذي يَتقوّم فيه الزّمان الأفعال القصدية لم يعد وعيًا قصديًا يرتبطُ بموضوعٍ في صورةِ موقفٍ عفوي أو تلقائي، إذ الوعي المطلق لفعلٍ قصدي، على النّقيض تمامًا، هو وعي منفعل (Passive) ناتج عن التأثّر (Affection) الذي يعيه مفروضًا عليه أكثر مما يكون اختيارًا.

ولكن في دروس «الفلسفة الأولى» (1923/1924) يبيّن هوسرل بأنّ الحياة الماضية والمستقبلية، للذّاتية، لا تُدرَكُ إلَّا في ردٍّ مضاعفٍ، فالذّكر (Souvenir) يمنحني الطّابع الترانساندانتالي على صورتين: أتذكّرُ وأقوم بتعطيل الكون، أو إذا مُنعت الاعتقاد الذي لديّ، من التّجربة أحمل من هذا «الأنا أذكر» الذي يستمرُّ بما هو معيشي الرّاهن المدرَك في التأمّل، والمثال اللاحق يوضّح ذلك.

في المعيش الحاضر تتـ-مثّل لي (Se re-présente) مثلاً، «رحلة البارحة بالقصر»، التي هي حدثٌ من الماضي، «بالتأكيد ليس لي حق استخدام في حكم من حدث الماضي بما هو فعل شخصي الإنساني الذي كان حدثًا سيكو-فيزيائيًا في العالم.

 لذلك فتنشيط-الذّكر (Remémoration) هو اعتقاد في هذا الماضي الواقعي، إنّه كهذا الاعتقاد المُعطّل باسم الرّد الفينومينولوجي الذي أُجرِيهِ ولكن بالنّظر إليه من قريب، فإنّني أدركُ بأنّ معيشي: «أنا أذكر» يتضمّنُ، مع ذلك في الوقت نفسه، «أنَا أدرَكتُ» (J’ai perçu)؛ والفعل الماضي «أنا أردتُ وتصرّفتُ» (Un j’ai voulu et agi)، فكل شيء يتعلّق بإدراك القصر، جسدي، ساقاي اللّتان حملتاني، بما هي تجربة ماضية، ذات وجود لم يحدُث، وجودُ وهمٍ ترانساندانتالي، وأيًّا كان وجود هذه الأخيرة، فإنّ استمرارية الإدراك، الذي يكون بواسطته لدربي وهدفي قيمةَ واقعٍ إدراكي، ليس ملغى، لأنّني أمتنع عن كلّ حكمٍ مرتبطٍ بالوجود العالمي[37].

كلّ ذكرٍ (Souvenir)، يقبل بكلّ بداهةٍ، ردًّا ترانساندانتاليًّا مضاعفًا بحيث ينتج عن الأوّل الذّكر بما هو معيشي الترانساندانتالي الحاضر، بينما الثّاني، الذي يتدخّل بصورةٍ فرديّةٍ في محتوى تنشيط-إنتاج الذّكر، يكشف جزءًا من حياتي الترانساندانتالية الماضيّة»[38].

كما يصدقُ شيءٌ مماثلٌ، أيضًا، على تحصيل مستقبلِ سيل تدفّق المعيش الترانساندانتالي، وبالتّالي، فإن العالم الماضي والمستقبلي في زمانيته الموضوعية (Temporalité objective) يمثّل الـ«خيط النّاظم»[39] الضّروري لتوضيح حياتي الترانساندانتالية الماضية والمستقبلية: إن لم يكن لدي الآن أي عالم ماض أو مستقبلي، قد عشتُ فيه أو سأعيش فيه، فلن يكون حينها أيضًا بالنّسبة لي حياتي الترانساندانتالية الماضية والمستقبلية.

من هنا، إذن، لا يمكنني «تعليقُ، بصورة محضة وبسيطة» أفقَ العالم، بما أنّه لا يمكنني كسبَ الدّائرة الترانساندانتالية الخالِصَة، مثلاً دائرة الماضي التي أدرِك فيها أنا-نفسي (Moi-même) بالأحرى في أفقي الماضي بما هو أنا إنساني قد عاش في عالمه المحيط، من الآن فصاعداً، الماضي وفي علاقة قصدية معه.

- 3 - الحاضر الحي.. توسيع النقطة - المنبع

يستلهم هوسرل بعض المفاهيم من الميتافيزيقا الأرسطية، وعلى رأسها الزّوج المفهومي: مادّة (Hylé)، صورة (Morphé)، ففيما يتعلّق بقانون الإدراك الزّماني للمادّة والصّورة يتّجه هوسرل إلى صياغة المعادلة التّالية: «مادّة بلا صورة وصورة بلا مادّة»[40]، فعملية التمسّك بالتّضايف الهيولي-المورفي (Hylé-morphé) المتقوَّم، معناه أنّ تحليلاتِه [هوسرل] مُنسَاقة إلى داخل زمانيّة متقوَّمة[41]، بينما هي أعمق من ذلك بما أنّ الهيولي هي بالأحرى مادّة زمانية[42]، تتجدّد بصورةٍ دائمةٍ، كما أنّ الصّورة هي نفسها ولكن مع محتوياتٍ جديدةٍ[43].

يتحقّق إمكان الانتقال إلى الإشكالية التّكوينية من خلال قطبي الزّمانية: المادّة والصّورة، بحيث أصبحت إشكاليّة الزمان والآخر[44] مساحةً للتجلّي، وهو ما معناه بأنّه يوجد في تقوّم الآخر والزّمان توجيهًا للفينومينولوجيا نحو منطقة «مبدأ المبادئ» من حيث هي حضور وتكريس له في جذريّته، وفعل الانتقال هذا، عبر الزّمانية من البنيوي إلى التّكويني، مثلما يرى دريدا، هو حركة فينومينولوجيّة داخليّة[45].

انطلاقاً ممّا مضى فإنّ هوسرل لم يوقف مسيرةَ البحثِ عن حلٍّ لهذه الصّعوبات المتعلّقة بالاهتمام بالتّحديدات المتعارضة، وحتى المتناقضة، بتحضير، بصورة أكثر حذقًا، ما يخصّ مفهوم الحاضر الحي (Présent vivant)، أو بصورةٍ أفضل، الحاضر الجارف (Présent torrentueux) الذي يختص بجمع التّحديدات المتعارضة، وحتى المتناقضة، لسيلٍ حاضر لا يجري، والذي هو أيضاً حاضر أبدي، فالزّمان والوعي بالزّمان لا ينبثقان من نقطة لا زمانية (Point intemporel) ولا حتى من عمق زمان موجود-قبلاً (Préexistant)، وإنّما للحاضر امتداد، أي هناك نقطة تمثّل الذّروة الفعلية للزّمان الحاضر يسميها هوسرل بـ«الانطباع الأصلي» تحوم حولها هالة مما يمضي ويأتي، وهذا الحاضر هو المَعلَم والنّقطة الإحداثية التي يمكن، على أساسها، فهم الدّيمومة بالمعنى الفينومينولوجي، فهي ديمومةُ المماثل في الآخر بما هي تشكيل للقصديّة التي تضمن استمرارَ النّقطة الحاليّة في الحاضر الممتد للدّيمومة الواحدة[46].

لا بدّ من الوقوف عند تصوّر هوسرل لمرحلة الزّمان المُحايث، بصدد الحاضر المتّسع (Elargi) لفعل الإدراك، الذي يحلّله بكيفية خُطاطية، إذ تتكوّن المرحلة الحاضرة للسّيرورة الإدراكية - [بفضل بيان يمثّل أنماط تقوّم السّيل الزّماني للوعي] بـ«مقطعٍ عرضي» - من المقصد القصدي (Visée intentionnelle) مرتبطًا بآنٍ، بالمقصد يرتبط بسلسلة اللّحظات التي يتمّ تحصيلها في الآن والتي بابتعادها عنه تصبح ماضيّة (Passées)، ومثل ذلك حينما يرتبط المقصدُ بسلسلةٍ من اللّحظات المستقبلية، أي القادمة (à-venir) باستمرار في الآن الأصلي للوعي[47].

كما أنّ الاهتمام بالزّمان يتعلّق أساسًا، بالآن في صيرورته ماض والماضي المُستحضََر (Présentifié) في الآن، وكون هوسرل قد حلّل وعي اللّحظات القادِمة (الإطلاق) بما هي عودةٌ بسيطةٌ لبنية وعي اللّحظاتِ الماضية، الإمساك، فإنّه يمكننا تجريد الإطلاقات المرتبطة في ارتباطها بالمستقبل القادم(Futur-à-venir) [48]، ولو أنّ الـ«مقطع العَرَضي»[49] (Coupe transversale) للحاضر يُفهَم بما هو مرحلة لا-مستقلّة عن سيرورة إدراكه فإنّه يتبع بأنّ الآن ليس سوى بُرهَةً (Moment) متلاشيةً و«حدًّا مثاليًّا»[50] من المرحلة الحاضرة.

ينبغي رفض الاستنباط أو بناء الزّمان انطلاقًا من نظرة لا زمانية تحتضن الانطباع-البدئي، فالزّمان لا ينبثق انطلاقًا من أبديّة ثابتة بالنّسبة لذاتٍ غير ملتزمة في الزّمان، مثلما هو عند القديس أوغسطين، أو من وعي لا زماني مثلما هو عند برانتانو.

بل الحاضر الحي هو تلقائيّة ابتدائيّة، إنّه انبثاق الرّوح نفسها، حضورها لذاتها في آنٍ مطلقٍ، في صورة «سيلان أصلي مستمر»، هو حضور لا يتسلسل معه أيّ شيء، منذ أن تبقى الذّات متطابقة مع نفسها متجدّدة باستمرار، إنّه الوعي بوصفه جديرًا بنفسه على تصعيد تشتته (Dispersion) الخاص وتلاشيه: فالذّات ليست تحديدًا

هي النفسه (Le même) كما يكون دائمًا آخرًا، وفي هذا المدّ (Flot) المطلق لحاضر أبدي، يكون ضمان، منذئذٍ، خلود الزّمان نفسه بما هو حاضر أبدي يشمل ما يلي:

1. الامتياز المرتبط بالحضور (Präsenz) بمعنى أفق العطاء المتمركز في انتظام الآن (Maintenant) (Jetzt).

2. المقاربة المنظورية للمعنى المحصَّل بما هو موجودٌ دائمٌ.

3. مدى التّماثل، الموجود، ما بين الزّمان والمكان الذي يقود إلى اعتبار الزّمان نظامًا تتموقع فيه أحداثٌ زمانية[51].

وبما أنّ الوعي الحميم بالزّمان أو المحايث، في المقام الأوّل، هو معيشٌ قصدي يتّجه نحو التّحديدات الزّمانية لموضوعٍ محايثٍ، بناءً على التّضايف القصدي بين المعيش الزّماني وموضوعه فإنّه لا بدّ من انعطاء التّحديد الزّماني لموضوعٍ في فعلٍ قصدي خاص، كما أنّ كلّ موضوع حاضرٍ هو تحديدًا، موضوعُ إدراكٍ، بحيث يكون في صورة موضوعٍ ماض يسمح لنفسه بالانعطاء في فعل الذّكر، كما يكون في صورة موضوع مستقبلي مسبوق في فعل الانتظار.

ليست هذه الأنواع الثلاثة، للتضايف القصدي، مُستقِلَّةً عن بعضها البعض، بل إنّ ما ينتمي الآن إلى الماضي، قد كان حاضراً في السابق، أي أنّ ما يتمُّ ذِكرُه حاليًّا قد تمّ إدراكُه في السّابقِ بصورةٍ متقدّمةٍ على صورة الحاضر، والشّيء نفسُهُ يصدق على الموضوع المستقبلي لانتظارٍ حاضرٍ، ذلك أنّه ما سيتمّ تحصيله بالتّتابع، من حيث إنّه الموضوع الحالي للإدراك.

من هنا تظهر القيمة الفينومينولوجية للحاضر، الذي هو بمثابة مركز الشّبكة العنكبوتية، فالأهم ليس وجود هذا التّشابك الحاصل ما بين الأفعال القصديّة الزّمانية لموضوعٍ واحدٍ، وإنّما ما يمكن تسميته بـ: مركزية الحاضر التي تعمل على نسج امتداداتها على مستويات أوسع من مجرّد نقطةٍ غايةً في الانتهاء، إنّه الحاضر الدّائم أو الحاضر الحي[52].

هذا الحاضر، أو الآن الأبدي، «النّقطة-المنبع» (Point-source) و«الانطباع الأصلي» هو ما «تنبثق منه حركة التّزمين، من حيث إنّه انفعالٌ محضٌ بالنّفس أصلا»[53] ففي البدء هو تولّد محضٌ بما أنّ الزّمانية ليست محمولاً فعليًّا لموجودٍ أبدًا، فحدس الزّمان نفسه ليس من نمطٍ إمبريقي، ومن هنا فالانطباع الأصلي هو البدء المطلق لتولّد الزّمان في صورةٍ عفويةٍ وبتكوينٍ تلقائي[54] من حيث هو النّقطة الصفر.

 

 



[1] تحمل الدّلالة الألمانية لعبارة «Zeitbewusstsein» معنى الالتحام ما بين الوعي (Bewusstsein) والزّمان(Zeit)  بحيث يسجّل غياب كلّ نوع من أنواع المسافة والابتعاد ما بينهما، وهذا بناءً على كون الفينومينولوجيا تصدق على الوعي وتجلياته لا غير، ما يعني بأنّ وصفها ينشغل، أوّلاً وأخيراً، بزمان الوعي لا الزّمان الموضوعي أو غيره ممّا تستبعده الدّراسة الوصفية للفينومينولوجيا. انظر: ريكور (ب): الزمان والسّرد، ج3، (الزمان المروي)، ترجمة: سعيد الغانمي، مراجعة: جورج زيناتي، دار الكتاب الجديد المتحدة، ليبيا، ط1، 2006، ص 34.

[2] انظر: دريدا (ج): الصوت والظاهرة (مدخل إلى مسألة العلامة في فينومينولوجيا هوسرل)، ترجمة: إنڤزّو فتحي، المركز العربي الثقافي، بيروت، ط1، 2005، ص ص 137-138.

[3] لا بدّ من تمييز الدّيمومة الموضوعية عن المحايثة منها، بما أنّ الدّيمومة المحايثة تتدفّق وفقًا لمراحل زمانية خاصّة بها، في الوقت نفسه الذي تكون بما هي حالات لحضور الشّيء نفسه، فحالات حضور الشّيء في الوعي [المكعّب مثلاً] هي نتيجة الوحدة التّركيبية لا نتيجة الأفكار المفكَّر فيها التي يلتصق بعضها مع بعض في الخارج.

[4] Kelkel (L) et Schérer (R) : Husserl , sa vie, son œuvre avec un exposé de sa philosophie, 1er édition, Coll : Philosophie, P.U.F, Paris, 1964, P 70.

[5] Husserl (E): Méditations cartésiennes (Introduction à la phénoménologie), traduit par : Gabrielle Peiffer et Emmanuel Lévinas, Librairie philosophique, J.Vrin, Paris, 1996, §18.

[6] Ibid.

[7] Ibid.

[8] إنّ الاعتقاد الطّبيعي في الواقع المستقل للزّمان الموضوعي، يتّخذ الزّمان المحايث لمعيش الوعي بوصفه تمثّلاً مشتقًا، إذن وبعكس الزّمان الموضوعي على طريقة المرآة، بحيث يسمح، هذا الأخير، بالانتهاء إلى تزامنية الآن الموضوعي والآن الذّاتي بناءً على افتراض تموقع الفعل الإدراكي في الزّمان المحايث بالطّريقة نفسها التي يتموقع بها آن الموضوع المفارق المدرَك في الزّمان الموضوعي. هذا الزّمان الموضوعي المتمثّل في الزّمان المحايث هو «الزّمان» الذي ميّزه برغسون (Bergson) عن الـ«ديمومة» (Durée)، إنّه نسق انتظام زمان مقذوف في المكان ويسهم، موضوعيًّا، في تحديد الهويّة الفرديّة لحدث بالنّظر إلى أحداث أخرى.

[9] Voir : Bernet (R) : La vie du sujet, (Recherches sur l’interprétation de Husserl dans la phénoménologie), 1ère édition, Coll : Épiméthée,  P.U.F, Paris, 1994, P226.

[10] Voir : Husserl (E) : Méditations cartésiennes, ibid.

[11] Ibid. § 18.

[12] Ibid. PP 128-129.

[13] Voir: Dastur (F): Husserl, Dès mathématiques à l’histoire, 2eme édition, Coll: Philosophie, P.U.F, Paris, 1999, P 75. et voir aussi: Dastur (F): Dire le temps (Esquisse d’une chrono-logi phénoménologique), Encre marine, PP 33-37.

[14] Hua VIII, P. 471-472, In : Dastur (F) : Dés mathématiques à l’histoire, ibid. P 76.

[15] Husserl (E) : Expérience et jugement (Recherches en vue d’une généalogie de la logique), traduction de l’allemand: Souche-Dagues (D), 3ème édition, P.U.F, Coll : Epiméthée, Paris, 2000, PP 313-316.

[16] Ricœur (P) : Husserl et le sens de l’histoire, In : A L’école de la phénoménologie, librairie philosophique, J.Vrin, Paris, 1986, PP 90, 91.

[17] Voir : Renaud (B) : Introduction à la philosophie de Husserl, 1ère édition,  Les éditions de la transparence, 2004, PP 168-172.

[18] لا يوجد إدراك إلاّ مما هو معطى في اللّحظة الحاضرة، فموضوعات الإدراك هي وحدها الواقعية (Réels/Real) والموضوع الماضي هو بالتّالي موضوع لا واقعي (Irréel/Irreal)، معطى على طريقة الصّورة (Image)، التي تمثّل موضوعًا خياليًّا مرتبطًا بإدراك، والذي بما هو تمثّل خيالي يبدع بطريقة ما وصف موضوعه بما هو ماضٍ، ولهذا ينبغي تجنّّب اعتبار بنية سيل الوعي المطلق بما هي صورة أو بما هي تمثّل مشاكل ومزامن لديمومة الزّمان المحايث، فليس الوعي وعاءً يحمل الانطباع الأصلي.

[19] يرى هيدغر بخلاف هوسرل، أن التفكير في الآن الراهن، أو الحاضر الحي يختلف تماماً عن التفكير في الحضور كـ«باروزيا» (Parousia)، من حيث الاختلاف الموجود ما بين الحاضر بما هو راهن والحاضر بمعنى «الكينونة-الحاضرة»، ويحدّد الحاضر بالدّرجة الأولى في معناه التّالي: الكينونة-في-الحاضر-الانتشار-في-الحضور (باروزيا) (...) لقد كان أرسطو يقول عن الزمان: «كلّ ما من الزّمان يوجد ويتقدّم منتشرًا، إنّما هو الآن الحاصل في كلّ مرة» وهذا التّحديد أقرب إلى تحديد هوسرل مقارنةً مع تحديد هيدغر، حتى وإن كان الماضي والمستقبل أقرب إلى العدم، وهنا وجه الاختلاف ما بين أرسطو وهوسرل، من حيث هما حضور لا ينفك عن أن يحضر. انظر: الوجود والزمان، في: هيدغر (م): التقنية-الحقيقة-الوجود، ترجمة: عبد الهادي مفتاح، مراجعة: محمد سبيلا، المركز الثقافي العربي، ط1، 1995، ص 107. Et voir aussi : Heidegger (M) : Question IV, traduit de l’allemand par : Jean Beaufret, François Fédier, Jean Lauxerois et Claude Roëls, Gallimard,  Paris, 1976, P 27.

[20] Bernet (R) : La vie du sujet, P 241.

[21] السّيل: هو حالة ترسّب من القصدية الكامنة، التي تشكّل البنية الأساسية للتزمّن بما هو تأسيس أصلي لنقطة من الزّمان، فهذه القصدية الكامنة تكفّ القصدية، من خلالها، عن أن تكون ما هي لدى كانط، يعني: راهنيةً محضة، تكفّ عن كونها خاصيّة للوعي ولـ«حالاته» وأفعاله لتصبح حياةً قصديّةً، هذا ما يجعل منها المعبر الذي يربط حاضر الأنا بماضيه على مستوى الموضع الزّماني له، مثلما كان [وليس مثلما أستحوذ عليه من جديد بفعل استذكار]، إمكانية هذا الفعل تقوم على البنية الأولية للحفظ كتداخل لجملة من الأشياء الماضية، تداخل بين الواحد والآخر مع الوعي بهذا التّداخل كقانون.

[22] يتعهّد هوسرل بهذه المهمّة، بطبيعة الحال، بعدما يتسنى إنجاز الرّد على الزّمان الموضوعي كمرحلة أولى في مستوى أرقى من مجرّد ردّ الموضوعات الزّمانية العالمية، وتغيّر التجليات التقوّمية لدرجة مختلفة للوحدات المحايثة للزّمان قبل-الإمبريقي. [دروس الزمان، الفقرة 34، ص 97].

[23] Husserl (E) : Leçons pour une phénoménologie de la conscience intime du temps, Traduit de l’allemand par : Henri Dussort, Préface de Gérard Granel, P.U.F. Paris, 1964, § 39, PP 105-109.

[24] Ibid. § 39, PP 107-108.

[25] تنشّط القصديّة الطّولية وعي الذّات من نمط جديد كلية وبصورة غير منتظرة بما أنّ الأمر يتعلّق بوعي قبل-تأمّلي ولا مموضِع، كما لابدّ من التّأكيد على أنّ هتين القصديتين تشكّلان «وحدةً ملتحمة تقتضي إحداهما الأخرى كوجهين للشّيء الواحد نفسه، مشتبكتان ببعضهما البعض» Ibid. P 108.

[26] إن الوعي التقوّمي للزّمان بمثابة مفارَقَةٍ قصوى، فأن نتحدّث، يقول هوسرل، بصرامة عن هذا الوعي المطلق يعني أنّه لا ينبغي حتّى أن يُسمّى «سيل الوعي المطلق، التّقوّمي للزّمان»، بما أن «السيل» لا يزال بعد مفهومًا زمانيًّا، موضوعيًّا، لا ينطبق بالأخص إلَّا على ما هو متقوَّم بالوعي المطلق، أي إنّه لو كانت الزّمانية تحديدًا لما هو محتوى في الزّمان، فإنّه ينبغي حينها الانتهاء إلى أنّ الوعي المطلق ليس زمانيًّا. ولكن أليس هذا سقوطًا في وعي الوعي اللاّزماني، الذي ينتقده هوسرل؟ إنّ هذا مدعاة إلى الغموض، عند هوسرل، كامن في أنّ تحليله لهذا الوعي المطلَق مرتبط بالمفاهيم نفسها التي يستخدمها قبلاً في زمانية الأفعال القصدية: «سيل» الوعي المطلق الذي ليس بسيل، لديه «أطوار» (Phases) ليست زمانية.Voir : Chenet (F) : Le temps (temps cosmique, temps vécue), édition Armand Colin, 2000, Paris.

[27] Husserl (E), ibid. § 39.

[28] Ibid. § 31, PP 87, 88.

[29] Ibid.

[30] تلعب مرحلة الانطباع دور المرحلة-الحدّ (Phase-limite) بالمقارنة مع الإمساكات؛ وهذه الأخيرة بدورها ليست على نفس المستوى، ولكن عليها أنّ تؤجّل أحدها إلى الأخرى وفقاً لسلسلة مستمرة من القصود لتشكيل دمجٍ مستمرٍ من إمساكات الإمساكات. تستقبل هذه الصّورة محتوى جديدًا دائمًا، وبالتّالي في كل انطباع، ينعطي فيها آن المعيش، «يضاف» انطباعٌ جديدٌ يتلاءم مع نقطة ديمومةٍ جديدةٍ باستمرارٍ، وباستمرار ينقلب الانطباع إلى إمساك، وهذا الأخير إلى إمساك معدَّل، مغيَّر، وهكذا دواليك. Voir : Husserl (E) : Idées directrices pour une phénoménologie et une philosophie phénoménologiques I (Introduction générale a la phénoménologie pur), traduction de : Paul Ricœur, Gallimard, Paris, 1950, § 81, P 277.

[31] Husserl (E), ibid. § 39.

[32] Ibid. P 107.

[33] إنّ الدّيمومة عند برغسون تمثُل بما هي لحن داخلي مستمر حيث يكون كلّ شيء في صيرورة، فالحياة لحن بدأ بميلادنا ويموت بموتنا. من هنا تظهر عملية الاستمرارية الموحّدة وغير القابلة للتّفكيك، فالماضي يدخل في الحاضر ويشكّل معه كلًّا موحدًا بفضل ما ينضاف إليه أو يُضاف فيه، فالزّمان يتأسّس من دون معرفة ما إذا كانت لحظات سابقة قد انتهت أم أنّ غيرها قد ابتدأ، وبهذا تجري فينا الدّيمومة، يقول برغسون، بقدرما يجري فينا الزّمان: أي إنّ الوعي يمسك بالماضي ويديره على نفسه بقدر ما يدور الزّمان، إنّها الحركة المزدَوَجَة للزّمانية حول اللّحظة الحاضرة، حركة تستجيب للعبة اللّف والدّوران المتشابكان، تلكم هي الكرة الثلجية. Voir : Chenet (F) : ibid. P 104.

[34] إنّ القول بأنّ التّصفيرة (Coup de sifflet) تتموقع في لحظة حاضر الزّمان الموضوعي، وبأن هذا الحاضر متقوَّم من قبل اللّحظة الحاضرة للزّمان المحايث يجبرنا على قبول زمانٍ بدئي أكثر (Plus primitif) يتمّ في وسطه تقوّم لحظة حاضر الزّمان المحايث وهكذا دواليك. لا يمكن لحركة التّقهقر، أو التّراجع (Régression) إلى اللاّنهائي، أن تكون مقسَّمة إلَّا إذا تمّ الكشف عن أسبابها العميقة، إن لم تكن هناك من نهاية في تأسيس الحاضر، فهل لأنّ هذه المسيرة في التّأسيس التقهقري للزّمان تسجَّل في فكر تقوّم الموضوعات، أو هل لأنّ الزّمان مفكَّر فيها تحت صورة مكوِّن حاوٍ توجد فيه اللّحظة الحاضرة، أو لأنّه ببساطة لا يوجد أصل حقيقي للزّمان ؟ قبل متابعة هذا النّقاش الخاص بالتّأسيس الفينومينولوجي لزمانية اللّحظة الحاضرة للوعي، ينبغي الفهم جيّداً بأنّ وعي الحاضر ليس مجرّد وعي فوري (Instantané) لآن (Maintenant) انتظامي من الزّمان الموضوعي. في الواقع، إن لم يكن المعيش الحاضر سوى إدراكًا للحظة الزّمان الموضوعي، فإنّه لن يكون هناك زمان وعلى العموم لا يوجد إدراك لديمومة الموضوع الزّماني الممتد مثلاً في اللّحن (Mélodie). بهذه النّتيجة الأخيرة يتمّ الوصول إلى أعمال برانتانو وماينونغ Meinong.Voir : Bernet (R) : La vie du sujet, ibid. P 221

[35] Voir : Chenet (F) : le temps, ibid. P 110.

[36] سيكون موضوع زماني ممتد، إذن، مدرَكًا على طريقة العدد، أي بحسابٍ تتابعي للوحدات وبجمعها بعد ذلك في تحصيل تركيبي ومزامن لموضوعٍ ما -أو لصورة موضوع– معقّد. إنّ المقاربة الماينونغية (Meiningienne) ما بين الموضوعات الزّمانية الممتدة والموضوعات المعقّدة لإدراك مكاني (شكل/Gestalt) مثل تحليل الزّمان يستلهم نمط الحساب الجدير بالتّطوير. إنّه ينير بصورة مثالية، مقاربة الزّمان التي دشّنها التّراث بواسطة أرسطو وأنجزها برغسون وهوسرل.

[37] Voir Husserl (E) : Philosophie première II (Théorie de la réduction phénoménologique), Traduction : Arion L.Kelkel, 2ème édition, P.U.F, Coll : Epiméthée, Paris, 1990, leçon 39, P 219.

[38] Ibid. P 220.

[39] Ibid. P 221-222.

[40] Husserl (E) : Idées…I, § 85, P 290.

[41] في الفقرة المخصّصة للهيولي [المادّة] والمورفي [الصّورة] يعلن هوسرل: بعد مقارنة البعد الدّيكارتي والبعد الزّماني للهيولي حدود الوصف الستاتيكي وضرورة الانتقال إلى الوصف التّكويني: «الزّمان، كما ستوضّحه الدّراسات اللاّحقة، زيادةً على ذلك هو وسم يعطي كلية نسقاً من المشكلات المحدودة بامتياز وصعوبة استثنائية، إذ سيبدو بأن تحليلاتنا السّابقة قد مرّت إلى غاية نقطة معينه تحت صمت بُعد الوعي كله» Voir : Méditations cartésiennes, ibid. §61.

[42] Derrida (J) : Genèse et structure et la phénoménologie, In : L’écriture et la différence, Editions du Seuil, Coll :Tel Quel, Paris, 1967, P 243.

[43] Husserl (E) : Idées…I, § 81, P 276.

[44] عن علاقة الزّمان بالآخر، من حيث إنّ هناك مونادًا يتقوّم بحضور المماثل في الموناد الخاص يضرب هوسرل المثال التالي: يعطى ماضي الأنا على نمط غير مباشر في الذّكر، بحيث إنّ حضوره هو حضور، بصورة ما، تغيّر قصدي للحاضر، حاضر ماضٍ يتمّ تأكيده ضرورةً في التّركيبات الموافقة للذّكر، في داخل دائرة الخصوصية [الانتماء] التي يطلق عليها هوسرل: دائرة الحاضر الحي، وكما أنّ هذا الماضي يرتقي على الحاضر الحي، من حيث هو تغيّر قصدي له، فوجود الآخر، الذي يصبح حاضراً بالتّماثل، يرتقي هو أيضًا الوجود الخاص فيصبح «ما يخصّني» على نحو أوّلي. Voir : Méditations cartésiennes, ibid. § 52.

[45] Derrida (J), ibid. P 244.

[46] انظر: ريكور (ب): السّرد والزّمان، نفسه، ص 41.

[47] Voir : Husserl (E) : Leçon conscience du temps, ibid. § 16, PP 54-56.

[48] Voir : Renaud (B) : Introduction à la philosophie de Husserl, ibid. PP 162-163.

[49] إنّ حاضر مرحلة الزّمان المطلق [«المقطع العرضي»] يحصّل الآن الحاضر، اللّحظات الماضية [والمستقبلية] لفعلٍ ما، كما أنّ مرحلة زمان مطلق واحدة تحصّل متتالية لمراحل الزّمان المحايث، ولكن بالنّظر إليها عن قرب، ينبغي القول بأنّ مرحلةً واحدةً للزّمان المحايث محصّلة من خلال متتالية مراحل الزّمان المطلق.

[50] Husserl (E), ibid. § 16, P 56.

[51] Bernet (R), ibid. P 217.

[52] Voir : ibid. P 194.

[53] دريدا (ج): الصوت والظاهرة نفسه، ص 131.

[54] Husserl (E), ibid. supplément I, PP 130, 131.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة