تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

التحليل الفلسفي على منظور التمثيل ..

وائل أحمد الكردي

التحليل الفلسفي على منظور  التمثيل
في بعض رسائل النور  للنورسي..

دراسة في تقريب المشابهات العائلية والاستخدام التداولي للنص مع الواقع

الدكتور وائل أحمد خليل الكردي*

* كاتب وباحث من السودان، البريد الإلكتروني: wailahkhkordi@gmail.com

 

 

 

القسم الأول: الأسس البنائية

1- التحليل الفلسفي

نعني به دراسة الفهم والتأثير على العقول الأخرى بحسب الاستيعاب الوافي لأنماط وطرق الحياة للشعوب والقبائل والفئات الاجتماعية، من خلال تحليل لغة الخطاب اليومي وتصنيفه في أطر دلالية ومعنوية، وبحيث يعتمد هذا التحليل على منطق غير صوري صرف وإنما على منطق عملي، أولا ًعلى مستوى الأخذ والاستنباط للمعنى، وثانياً على مستوى صياغة وبناء الحجة المؤثرة في تبليغ المعنى والقيمة المطلوبة.

والتحليل الفلسفي بهذا النحو إنما يبنى بالضرورة على كيفيات الاستخدام اللغوي والمشابهات العائلية في التصنيفات الدلالية.. وغير ذلك من مفاهيم مما طرحه الفيلسوف التحليلي لدفيش فيتجنشتاين في فلسفته المتأخرة[1] والتي تأسس عليها مجمل منهج التحليل الفلسفي اللغوي في طوره الراهن المتقدم.

واستخدامنا لهذا المنهج في الكشف عن إحدى وسائل «النورسي» في تحقيق الاستيعاب الإيماني لأسباب المعرفة وأغراض العلم، إنما هو استخدام لقواعد هذا المنهج كموقف كلي دون تخصيص أو تفصيل لمباحثه ومقولاته.

وما قصد بالمشابهات العائلية هو تعيين السقف الدلالي للسياقات النصية أو أقصى ما يمكن أن تحمله علامة لغوية في تعرضها للسياقات المختلفة والمتباينة، ليكون الأمر بمثابة تحقيق كافة أوجه الاحتمال لتبادل الخصائص والسمات المشتركة بين عدد من الشخوص المتميزين والمختلفين المنتمين إلى عائلة واحدة، والمشار إليه هنا إمكانات التفاعل المتبادل بين مطلوبات الاستخدام اللغوي المعين ومقتضيات الواقع الزماني – المكاني.

وقد جاء اختيار وتخصيص (مجموعة عصا موسى) كمصدر أساسي لهذه المقالة، لأنها تحوي أهم الدلائل والبراهين التوحيدية بما يوافق اتجاه البحث.

2- الوسيلة المنطقية في بناء منظور التمثيل

أوضح «النورسي» سبب استعماله كثيراً لمنظور التمثيل والتشبيه بقوله: «إن سبب كتابي التشبيهات والتمثلات على صورة الحكايات في هذه الرسائل هو التسهيل وإظهار مدى كون الحقائق الإسلامية معقولة ومتناسبة، محكمة ومتساندة.. ومعاني الحكايات هي ما في أواخرها من الحقائق، وأن ما يدل عليه هو من قبيل الكنايات، فإذا إنها ليست حكايات خيالية وإنما هي حقائق مطابقة»[2].

عليه، فقد جاء تمييز المنظور التمثيلي عن غيره من أساليب «النورسي» لاعتبارات منطقية كانت ذات فائدة عظمى في تعميم رسائل النور وتحقيق فاعليتها. ومنها أن التمثيل في أصله هو نمط قياسي يستهدف بناء الحجة الخطابية المؤثرة، وهو أقرب إلى الوسيلة السقراطية في توليد الأفكار والمعتقدات والقناعات من داخل العقل المتلقي أكثر من خارجه.

وليس أدل على أهمية هذا الأمر من أن الله سبحانه وتعالى قد استخدم القصص للإيضاح والبرهان في كثير من آي القرآن. وهذا ما أكده النورسي بقوله: «إنه وإن قيل: إن القياس التمثيلي لا يفيد اليقين القطعي حسب علم المنطق، ولكن للقياس البرهاني نوع أقوى بكثير من برهان المنطق اليقيني، وأيقن من الضرب الأول للشكل الأول من المنطق، وذلك هو: أنه يظهر سن حقيقة كلية بواسطة تمثيل جزئي فيبنى الحكم على تلك الحقيقة ويظهر قانون تلك الحقيقة في مادة خصوصية لتعلم تلك الحقيقة العظمى وترجع إليها المواد الجزئية، فإنه يظهر بتمثيل –أن الشمس توجد بواسطة النورانية عند كل شفاف وهي ذات واحدة– مثلاً، يظهر به قانون للحقيقة وهو أنه لا يمكن القيد للنور والنوراني، ويتحد القريب والبعيد، ويتساوى القليل والكثير ولا يستطيع المكان أن يضبطه. وأيضاً إن تشكيل أثمار وأوراق الشجرة وتصويرهما في آن واحد وفي نمط واحد متكاملة وبسهولة في مركز واحد فقط بقانون امرئ واحد، مثلاً، هو تمثيل يظهر سن حقيقة معظمه وقانون كلي، ويثبت تلك الحقيقة وقانون تلك الحقيقة في صورة قاطعة للغاية بأن الكائنات العظيمة هي أيضاً مظهر وميدان جولان مثل هذه الشجرة لقانون الحقيقة ذاك... فجميع القياسات التمثيلية في جميع المقالات هي من هذا النوع، فهي أقوى وأيقن من البرهان القطعي المنطقي»[3].

ومن الوجهة التحليلية، فإن منظور التمثيل هو الأمثل في بناء الفهم والتأثير على الصياغات التداولية لأنماط وطرق الحياة المختلفة والمتباينة، وتلك فائدة كبيرة في الاتصال الدعوي.

القسم الثاني: المقامات الكلية

1- التحليل الفلسفي في مقام الكلمة

مقام الكلمة هو فاعلية النص بمكوناته السياقية وعلاماته اللغوية في تنظيم وإعادة تنظيم أمر العالم -ما علمنا منه وما لم نعلم- وسواء أكان على المستوى المادي الخارجي أم على المستوى النفسي الباطني.

لقد ربط النورسي في هذا المقام السلوك الإنساني الأخلاقي في قول «بسم الله» بالدلالة الكونية وواقع الكائنات حسبما ذكر من أمثلة على مستوى العلم الاجتماعي -في مثال الرجل السائح في صحاري الأعراب البدويين، ومثال رجل الجيش المتحرك باسم الدولة[4]– حيث لا يتحرك الرجل بدفعه الذاتي، بل لما في قول «بسم الله» من قوة إلهية. وكذلك على مستوى العلم الطبيعي في مثال الشجرة التي تحملها البذور الصغيرة والشجرة التي تخترق جذورها قلب الصخر الصلد وتنقب فيه بقوة «بسم الله»[5].

من ناحية أخرى يقول النورسي: «فإن جملة (بسم الله الرحمن الرحيم) مثلاً التي تكون آية واحدة فقط فكررت مائة وأربع عشرة مرة، هي حقيقة تربط العرش بالفرش وتنير الكائنات ويحتاج إليها كل أحد»[6].

وقد أشار النورسي في (مجموعة عصا موسى) إلى ما معناه أن قيمة الكلمة إنما تتعين بذاتها وحروفها ونظامها اللغوي، وأن أي ترجمة تخرج الكلمة من سياقها الدلالي والمعنوي الحقيقي فلا يكون النص البديل هو عين المقصود بالنص الأصلي على المستوى العقلي، وليس له عين التأثير على المستوى الفيزيائي، لذا «فإن ترجمة القرآن الحقيقية ليست ممكنة، وأن غير اللسان العربي -الذي هو اللسان النحوي- لا يمكن أن يحافظ على مزايا القرآن ونكاته عوضاً عنه، وأن تراجم البشر العادية والجزئية لا يمكن أن يضبطها بدلاً عن تعابير الكلمات القرآنية التي يؤتي كل حرف منها الثواب»[7].

وتحقيق ذلك من الجهة الفيزيائية على مثال (بسم الله) أن النطق بها مصحوباً بالنية والاستحضار ليس هو فعلاً أخلاقيًّا أو أدبيًّا مجرداً، وإنما هو أمر ثبتت دلالته العلمية في بحوث العلماء المعاصرين وما له من تأثير وسطوة بالقياس الفيزيائي، وهذا أمر مستفاد كثيراً في مسألة الدعوة إلى دين الله عز وجل بثبوت الوظيفة الإعجازية للنص القرآني الذي هو كلام الله تعالى.

وحقيقة ذلك أن الكلمة التي تخرج من مصدر ما إنما هي بالضرورة تكون محملة بمؤثرات البنية النفسية والعقلية والوجدانية والانفعالية لذلك المصدر، فكلمة واحدة قد تخرج محملة بنية الشر فتحدث ضرراً وأثراً سالباً، وقد تخرج هي عينها محملة بنية الخير فتحدث نماءً وأثراً إيجابيًّا، وذلك من خلال موجات كهرومغناطيسية تخرج مع الكلمة من مصدرها لتصطدم بموضوعها ويكون تأثيرها متفاوتاً بالشدة أو الضعف بحسب وحالة وقوة المصدر، والأمر في الأخير خاضع للسياق بكيفية استخدام الكلمة داخله.

وعلى هذا فالأمر أعظم كثيراً في حال استخدام كلام الله تعالى وسياقاته القرآنية، فإن التأثير يبلغ كماله على جهتين: جهة الأثر الوظيفي في استعمال السياق القرآني مجملاً أو مفصلاً، وجهة الدلالات البنائية للعلامات في سياق متفرد في انتظام الطاقة التام له بما أمكن مع التحدي بالإتيان بمثله من عند غير الله، وعلى نفس القدرة على الانتظام للطاقة، فلا يكون ممكناً إلَّا أن يأتي بنفس السياق عينه بحروفه وعلاماته.

وهذا أمر يعرف بالقياس الفيزيائي، ومن ذلك ما أثبته مركز أبحاث (بايوجومتري) بسويسرا الذي يؤمه المهندس إبراهيم كريم، والذي أثبت أن القول بالقرآن يحقق الضبط الكلي والكامل لأنظمة الاتزان للطاقة داخل ما يقال عليه بمثل كلمة (بسم الله) أو نحوها فلا يكون إلَّا نافعاً.

2- التحليل الفلسفي في مقام الرؤية الكونية الشاملة

إن مثال الشخصين المنطلقين في زمن ما إلى السياحة للتفرج والتجارة، وأن أحدهما كان شقيًّا ومعجباً بنفسه بأنه كافر أو فاسق غافل والآخر سعيداً وعارفاً بالله فهو مؤمن، وسلك كل منهما طريقاً مغايراً للآخر بحسب أخلاقه ومعتقده (بحسب الحكاية)[8].

فلعل المطلع بدقة وتمعن على تفاصيل هذه الحكاية التمثيلية يدرك الإشارة الكامنة فيها، لضرورة التكامل المعرفي بين عنصري الشهود (الذي يحصل بالتجريب والحس المباشر) والغيب (الذي يحصل بالإيمان والتصديق) في بناء العلم الحقيقي النافع بصورته الكلية، وما يترتب على هذه الصورة من فعل مؤداه أخيراً تعمير الأرض بنحوٍ ما يرضي الله سبحانه وتعالى.

وما دوَّنه النورسي في مقالته بالقسم الثاني من مجموعة عصا موسي يفي بحقيقة التصور المعرفي المتكامل للعلم بين الشهود والغيب، حيث قال من ضمن إشاراته في هذا المبحث من جملة ما قال: «إذا كان في العالم وفي كل شيء تغير وتبدل فهو فانٍ وحادثٌ لا يكون قديماً قطعاً، وإذا كان حادثاً فله صانع أحدثه قطعاً. وإذا كان وجود كل شيء وعدمه متساويين في ذاتهما إذن لم يوجد سبب ما فلا يمكن أن يكون واجباً وأزليًّا قطعاً. وإذا كان إيجاد بعضهما بعضاً بالدور والتسلسل المحالين والباطلين قد أثبت ببراهين قاطعة أنه ليس ممكناً فإنه لا بد من وجودٍ واجبٍ، وجودٍ يكون نظيره ممتنعاً ومثله محالاً وجميع ما عداه ممكناً وما سواه مخلوقه»[9].

وعلى نحو ذلك ما قد اعترف به المتأخرون من فلاسفة العلم المعاصرين أمثال توماس كون في كتابه (بنية الثورات العلمية)، والذي أقر فيه بمجرد النظر الأمين في حقيقة الكون وما يجري في أذهان العلماء بصدده، بضم عنصري (الاعتقاد) و(الميتافيزياء) كعناصر أساسية إلى جملة العناصر اللازمة لتحولات النموذج الإرشادي العلمي (بارادايم) في أذهان العلماء، والذي يعمل بصورة فطرية على سد الفاقد المعرفي المتنامي طرداً أمام العقل مع كل اكتشاف علمي كوني جديد.

فالأمر في البحث العلمي والمعرفي على نحو سيرة أسطورة (سيزيف) قديماً والذي حكم عليه أبداً برفع صخرة عالية على ظهره فيصعد بها إلى أعلى قمة الجبل الشاهق فإذا ما بلغها تدحرجت عنه إلى أسفل الجبال لينزل ويحملها على ظهره تارة أخرى إلى قمة الجبل، فيتكرر الأمر هكذا دوليك إلى ما لا نهاية.

ونحن في العلم الحديث تكررت الأسطورة عند علمائنا بنحو عملي ملائم لواقع عصرنا، فحملوا صخرة سيزيف وصعدوا حتى إذا ما أدركوا نهاية قمة الجبل وظنوا أنهم قد بلغوا من العلم منتهاه لم تتدحرج الصخرة إلى الأسفل لأنها في هذا المقام تكون صخرة المعرفة والرؤية الكلية الشاملة للكون، بل تظهر أمام العلماء قمة أكثراً علوًّا لا تكاد القمة الواقفون هم عليها تبلغ شيئاً أمامها، فيضطرون إلى بذل المجهود نفسه في الصعود مجدداً بالصخرة لبلوغ تلك القمة الجديدة، حتى إذا ما أدركوها وجدوا وراءها قمة جديدة، ويستمر الحال هكذا دواليك مصداقاً لقول الله تعالى بأنه ما آتنا من العلم إلَّا قليلاً.

3- التحليل الفلسفي في مقام الناموس الكوني

«إن إسناد كل موجود إلى واجب الوجود، له سهولة في درجة الوجوب. وإن إسنادها إلى الطبيعة في جهة الإيجاد، مشكل في درجة الامتناع وخارج دائرة العقل»[10].

هكذا تحدث النورسي في (عصا موسى) وضرب تمثيلاً لعدم بلوغ التمام في استثمار الحياة وتوليد القدرات الإبداعية لدى الإنسان إلَّا بتمام إدراك حقيقة الخضوع للناموس الكوني الذي يأتيه كل كائن في السماوات والأرض إما طوعاً أو كرهاً، فكان خيراً أن يأتيه الإنسان طوعاً كما السماوات والأرض، بحسب ما قال الله تعالى في القرآن العظيم.

وفائدة ذلك التمثيل: أن الرجل الوحشي الذي هو ضيق العقل والأفق بما لا يمكنه من ربط الأسباب والعلل بالآثار والحوادث والمقدمات بالنتائج، فذاك الرجل بدخوله القصر العظيم المشيد في الصحراء ويطلع على الكتاب الذي كتب فيه منهج تشكيل القصر فيقع في وعيه أن الكتاب هو الصانع له، وعندما يأتي هذا الرجل الوحشي إلى قصر هو أكمل من القصر الأول ويطلع على كتاب تشكيله الذي هو غير ذاك فيتأكد لديه بعقله الضال أن من يصنع هذه القصور هي تلك الكتب وأن ليس الأمر خلاف ذلك.

هذا المبدأ هو ما يماثل فكرة الطبيعة عند الملاحدة من الفلاسفة والعلماء وما يدعم ذلك من نظريات التطوريين مثل (الانتخاب الطبيعي) و(النشوء والارتقاء).

وكان أن رد النورسي على ذلك الادعاء بقوله: «.. فيرى مجموعة لقوانين العادات الإلهية وفهرسة للصنعة الربانية تكون بمثابة لوح محو وإثبات في دائرة الممكنات للقدر الإلهي، وتكون كتاباً متبدلاً ومتغيراً لإجراءات قوانين القدرة الإلهية وسميت خطأً وغلطاً بالطبيعة»[11].

ومن ثم يضرب النورسي تمثيلاً آخر بذاك الرجل الوحشي نفسه عندما يخترق دائرة معسكر للتدريب العسكري فيرى الجند يتحركون ويسكنون بأمر واحد ويطلقون النار بأمر واحد، فيتخيل أن أولئك الجند مربوط بعضهم ببعض بحبل واحد، والشيء نفسه عندما يشاهد الجماعة المسلمة تقوم وتركع وتسجد بصوت رجل واحد فيقع في ظنه أنهم أيضاً مربوطون بحبال مادية.

والحق أن الكون كله هو ذاك المعسكر وذاك المسجد، ولكن المنكرين والملحدين والوضعيين فيتصورون القوانين المنظمة للكون الواردة عن الله تعالى مواد مادية، ولا يأخذون من الحكمة الربانية الشاملة إلَّا ما له وجود علمي فقط، ويعتبرونها موجودات خارجية ومواد مادية، ويقيمون هذه القوانين المادية مقام القدرة الإلهية ويطلقون عليها اسم الطبيعة، ويمنحونها صفة الإيجاد الذاتي في حين أنها مجرد مظهر من مظاهر القدرة الإلهية[12]. «إن ذلك الأمر الموهوم بلا حقيقة، الذي يسميه الطبيعيون بالطبيعة، إن وجد وكان ذا حقيقة خارجية فإنما يمكن أن يكون صنعة ولن يكون صانعاً»[13].

إذن، فالناموس الكوني هو جماع أحوال الثوابت والمتغيرات التي لا ينفك عنها وجود الإنسان وتشكل ظرفه الحياتي. ولكن إدارة هذه الأحوال لا تكون من ذات الطبيعة وإنما بمحصلة الحكمة الإلهية المدبرة للكون، وما مثل سيدنا إبراهيم مع قومه وأمر الله تعالى للنار: أن كوني برداً وسلاماً على إبراهيم؛ ببعيد عن هذا الواقع.

إن الخضوع الواعي للناموس الكوني على هذا الفهم إنما يوازن بين تنمية وإطلاق القدرة الإبداعية لدى الإنسان وبين منع انفلات الحريات الشخصية، وحتى لا يسود بذلك مبدأ (البقاء للأقوى) تبعاً لسيادة معيار هوى النفس المنطلقة بغير عقال، فلا يكون من جراء ذلك الانفلات وورائه ما حاول الفيلسوف الإنكليزي التجريبي توماس هوبز في كتابه المشهور (التنين) الذي حاول فيه أن يقدم تفسيراً أخلاقيًّا بضرورة الانتقال من حالة (المجتمع الفطري أو الطبيعي) إلى حالة (مجتمع الدولة) كضرورة حتمية لسيادة حالة حرب الكل ضد الكل، التي سببها عدم وضوح الحقوق والتجاوز في ممارسة الحرية الشخصية، ولو أن هذه الحالة استمرت دون نشوء الدولة لأفنت الحرب الجنس البشري عن آخره، فكان لا بد من ضبط عقال هذا الهوى بالخضوع لقيد الدولة المفروض بالقانون، المستمد قصداً أو تلقاءً من الناموس الكوني.

وكذلك نرى في (العهد القديم) أن اليهود من بني إسرائيل قد ميزوا أنفسهم بالاختيار من غير كافة الشعوب، بأن لهم القدرة العالية إلى مقام الربوبية الكاملة والحكمة التي خلق بها الإنسان على صورة الله، ولكن الله هو عينه من أخفاها حتى لا ينازعه على عرشه الإنسان الذي هو على مثاله، فمنعه من الأكل من شجرة معرفة الخير والشر في الجنة، وبعد أن أُخرج منها وكوّن مجتمعاً متوحداً في طريقته ولغته وعقله طلب الرب النزول إليهم وبلبلة ألسنتهم وتفريقهم في الأرض[14]. هذا ما يدعون، وتعالى الله علوًّا كبيراً عمَّا يصفون.

والحق في هذا أن الله سبحانه وتعالى أعطى الإنسان الفرصة للتفوق والعلو في مراتب الترقي الوجودي البشري، وذلك بوسيلة خضوعه لله عز وجل، فبقدر ما يتجرد الإنسان عن حواجز العبودية لله تعالى بقدر ما يصبح (ربانيًّا)، وهذا لا يكون إلَّا للعارف بالله على علم حق.

وأشارت في ذلك الأحاديث القدسية للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن ارتقاء العبد في -أول درجات الرقي- لمقام القرب بأداء الفروض مما يضبطه على ميزان الكون، فلا يكون هو شذوذاً فيه، ثم يبلغ تمام الأمر بتحقيقه لمقام الحب بأداء النوافل، فيمنحه الله تعالى من دون الخلائق سمعاً ربانيًّا وبصراً ربانيًّا ويداً ربانية ورجلاً ربانية، ويكسوه نوراً كاملاً، ثم يضع له القبول في الأرض.

وهكذا فإن الأمر ليس في وجود أو فرض قيد على حرية الإنسان، فهذا أمر حتمي؛ لأن الإنسان حتماً يسلك فجًّا من الفجاج كل وقت باختياره، وإلَّا تعطل وجوده، فإن سلك أحدها ظل محكوماً بمضائقه ومنحنياته ومزالقه واستواءاته إلى أن ينتقل إلى غيره، ليحكم مرة أخرى بشروط هذا الجديد، وفي الأصل كان هذا اختياره، فالإنسان يختار ابتداءً ولكنه بعد ذلك يخضع لمقتضى أمر اختياره وكذلك كل التشريعات والنظم، ولكن المشكلة هي في نوع القيد الذي يفرضه عليه، فإما ماديًّا وإما وجوديًّا وإما نفسيًّا وإما اجتماعيًّا، وإما قيداً عبوديًّا ربانيًّا، وفي هذا نعمة الحرية الحقة.

4- التحليل الفلسفي في مقام الدفع التاريخي

ذكر النورسي في (عصا موسى): «أن القرآن أحدث انقلاباً في نفوس الناس، وفي قلوبهم، وفي أرواحهم، وفي عقولهم، وفي حياتهم الشخصية، وفي حياتهم الاجتماعية، وفي حياتهم السياسية»[15].

هذا القول العام يمكن تفصيله على عدة اتجاهات:

الاتجاه الأول: إن فطرة الله في الإنسان أنه إذا رجا أمراً يمكن وقوعه ولكنه ما زال غيباً وهو خير تطلَّع إليه، فإن هذا التطلع والرجاء يهون عليه كثيراً من مصائب الواقع الحاضر، ألم يضرب آل ياسر المثل الأعظم في الصبر على العذاب عندما بشرهم الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن موعدهم الجنة جزاء صبرهم هذا.

وألم نر في حياتنا اليومية أن الرجل يبدأ عملاً في اليوم الأول يرجو الأجر عليه بعد ثلاثين يوماً، فإن هذا التطلع يهون عليه مشقة عبور هذه الأيام بعمل شاق لثقته ببلوغ الأجر في نهايتها. فقياساً على ذلك تقوم الحجة على النفس الكسلى في العبادة والسعي والتحمل، لأن مصدر كسلها هو ضعف رجائها للخير الذي في الغيب والمتحصل إلى القلب بالإيمان، فلا تصبر على المجاهدة ومدافعة الهوى في راهنها الحاضر.

الاتجاه الثاني: التمثيل الذي أعطاه النورسي في مقام تصوير سر الإعجاز للقرآن، وفيه أن الشجرة التي تتناسب وتتوازن أعضاؤها ولا تظهر بصورتها الكاملة لأن الجزء الغالب منها مستور بحجب الغيب، فإن الرسام في بحثه للشجرة قد استعمل قياس التناسب والتوازن لاستدعاء الجانب المحجوب في خبرته بالجانب المشهود، فرسم الشجرة تخيلاً مطابقة للأصل بنحو هذا القياس في تكوين الصورة الذهنية الكلية وفق منظور (الجشتالت) والذي يفيد الاستدعاء الذهني لصورة الكائن بالكلية من خلال بعد واحد من أبعادها يكون هو فقط الظاهر أمام الباحث، وهذا الاستدعاء إنما يتم قياساً على معايير التناسب والتوازن في تكوين الكائنات كل بحسب ما خلقه الله عليه.

ويمكن أن نؤيد ذلك باستدعاء ما جاء في أحد أهم المذاهب في الفكر الفلسفي المعاصر وهو ما عرف بالمنهج الظاهراتي أو (الفينومينولوجي)، وهو ما أكد على أن بناء المعرفة الكلية السليمة من خلال وضع البعد الظاهر من صورة أي كائن في الذهن بين أقواس العزل عن المؤثرات الخارجية والأحكام السابقة وآراء الآخرين والأهواء الذاتية، وفي ذلك تعليق للحكم للحظات، ثم ينتقل الذهن إلى إعادة بناء هذه الصورة بأبعادها الظاهرة في حيز الشعور والانفعال الوجداني الحسي بها، لتتكشف تلك الأبعاد غير المنظورة منها جراء ذلك التفاعل بين بنية الذات وبنية الظاهرة، فتكتمل الصورة بنحوها الكلي أمام الإدراك بفعل الشعور العام بصدد الكائن ككل وليس بصدد الجزء اليسير المنظور منه.

والمبدأ الفلسفي في هذا أن الحقيقة الروحية لأي كائن تكون متضمنة في أي جزء من أعضائه أو جوانبه، بحيث إذا اطلعنا على جزء منه بالبصر فقد أدركت الكل بالشعور، ولربما تضمن هذا مبرراً منطقيًّا لإمكان إعادة بناء العظام وهي رميم وبعد أن توزعت أشلاء الجسد في عدد لا متناه من الكائنات وبواطن الأرض، ومنها ما راح أدراج الرياح أو غاص في أعماق البحار السحيقة.

أما الخطوة الثالثة والأخيرة لهذا المنهج، وهي الإيضاح لما تم اكتمال الإدراك له في هيئة لغة وصفية أو رسم بالخطوط والألوان أو كتابة بالأحرف والأرقام. والشاهد في مقام هذا التمثيل أن العقل البشري مفطور في نظر النورسي لإدراك الأنوار والأغراض الإلهية في سائر أحكام الخلق والخلائق، بحيث يمكن للعلماء من بني الانسان استنباط العلل والأسباب ووصف الكيفيات والكميات على الحقيقة بتوحيد المصدر المعرفي لديهم عند قراءة الكون المنظور والكتاب المسطور.

هذا، وإلَّا لما أدركنا الله تعالى بالسير في الأرض والنظر في كيفية بدء الخلق، في الوقت الذي لم يشهدنا فيه خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسنا، فلا محالة إذن أمام الإنسان إلَّا أن يقع لديه العلم بذلك عن طريق البحث والتعلم بالقياس والاستنباط على معايير التوازن والتناسب التكويني للخلق والانسجام والاتساق الوظيفي للأعضاء. وقدرة الملكة المعرفية لدى الإنسان غير متروكة له بحسب هواه، وإنما بحسب حظه من الأخذ بقراءة الكون والكتاب في آن معاً، والجمع بينهما مربوط حتماً بتقوى الله.

الاتجاه الثالث: ما يمكن أن يستنبط من قول النورسي بأن القرآن قد أحدث انقلاباً في نفوس الناس، وفي قلوبهم، وفي أرواحهم، وفي حياتهم[16].

إن محل حدوث ذلك الانقلاب هو ما يمكن الاصطلاح له (بالصدمة التاريخية)، التي حدثت بنزوله على مكان لا يحمل أيًّا من المقومات الحضارية العلمية المقدمة لنزوله في الزمان والمكان المعينين إلَّا اللغة. أي إن جزيرة العرب وقت نزول القرآن لم تكن تحمل أيًّا من المقدمات التاريخية المنطقية التي تستلزم بالضرورة نتيجة نزوله في المنطقة آنذاك، حيث إن السياق التاريخي للمنطقة كان يسير باتجاه مغاير تماماً لأن ينبئ بنزول هذا القرآن بكل ما له من حكمة علمية بالغة ويحمل كل حقائق الوجود فاستوجب ألَّا يفهمه إلَّا من بلغ مبلغاً عظيماً في العلوم وضرب بسهم نافذ في بناء التطور الحضاري مثل ما في بلاد اليونان والرومان وقتها.

ولكنه نزل على قوم لا يعلم أغلبهم إلَّا الصحراء والسماء، وأقوام يتقاتلون العقود الطوال بسبب كلمة، ونزل على رجل أمي لا يعلم القراءة ولا الكتابة (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلا يقع الظن فيه أصلاً أن يأتي بهذا القرآن من عند نفسه.

إن الصدمة التاريخية التي أحدثها نزول القرآن على جزيرة العرب قد تمثلت في انكسار مسار السياق التاريخي المتطور للعرب في اتجاهه التلقائي، وتحويل هذا المسار فجأة إلى وجهة مغايرة تماماً، مما لفت انتباه العالم كله وبكافة شعوبه وقبائله إلى هذه الظاهرة الخارقة، مما يثبت ملائمة وتوافق رسالته لكل الناس ولكل الأخبار التاريخية: ماضياً وحاضراً ومستقبلاً.

ولو أنه –أي القرآن- كان قد نزل على القوم المالكين لناصية الحضارة الفكرية والمادية والإنسانية آنذاك -مثل حضارة وفكر اليونان الذي اعتبره كثير من المؤرخين العهد الذهبي للفكر والحضارة الإنسانية– لما لفت الانتباه إليه على النحو الذي يحدث الأثر التاريخي المطلوب لانتشاره، لأنه كان سينظر إليه في هذه الحالة من جانب الشعوب المختلفة على أنه قد يكون مجرد حلقة من حلقات التطور الفكري الطبيعي المتفوق للوعي اليوناني.

إذن هناك فائدتان لغرابة القرآن ونزوله: أولاً إحداث الصدمة التاريخية الملفتة للانتباه نحوه، وثانياً إثبات ملائمته لكافة أهل الأرض وإلى قيام الساعة.

الخلاصة

يتضح من استخدام النورسي لمنظور التمثيل في مدوناته، أن هناك تأكيد على المنهج المستخدم في القرآن العظيم وتوافقاً معه، وهو منهج الاستعمال والتداول اللغوي لطرق وكيفيات الحياة للشعوب والقبائل، التي هي سنة الله تعالى في خلق الإنسان.

فاستفادة النورسي من هذا المنهج، لعلمه بأن الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة إنما تكون به. فإذا كان الله تعالى قد خاطب طبعاً عامًّا في سائر البشر وخلقاً مشتركاً بينهم عموماً تميزوا به عن غيرهم من الكائنات، مثل خلق وطبع (البيع والشراء) الذي ضرب الله تعالى به مثلاً كثيراً في القرآن الكريم لضبط قصد الأفهام نحو المعاني اللازمة للتوحيد والإيمان.

إذن فإن ما هو مطلوب منا نحن على الحقيقة هو تنزيل هذا المنهج إلى خطابنا الدعوي بصورة جزئية ونوعية على النحو الملائم لكل طريقة حياة، بما تقتضيه وتتسم به، وذلك أن الخطاب الرباني هو للكون كله يميز فيه بين جنس البشر وغيرهم من الكائنات والأجناس، أما نحن فخطابنا مقتصر على البشر كلهم، نميز فيه بين طريقة حياة لشعبٍ عن طريقةِ آخر.

ولعل في استخدام النورسي لهذا المنهج في ظرفه التاريخي والاجتماعي لعصره ووطنه، حجية كبيرة لفائدته في كسب وعي الشعوب إلى الإيمان، على الرغم مما قد يضرب عليه من أسباب البعد عن حقيقة التوحيد والعلم السليم.

والشاهد التاريخي على ذلك هو سريان دعوى النورسي سريان النار في الهشيم في ظل السيادة الملزمة بالتطرف العلماني ونقض الخلافة الإسلامية بالشدة ودحض مقومات الإيمان في نفوس الشعب التركي وتمثلها في العلم والعمل لديهم.

ولعل الدعوة النورسية في ذاك الزمان وتلك الظروف هي ما وضعت الأساس الحقيقي لما نشهده في راهننا المعاصر من صحوة إسلامية مرتدة على أعقاب الأتاتوركية تلك.

ونوصي في هذا المقام تزكيةً لشعلة هذه الصحوة، بضرورة إجراء الدراسات التصنيفية بحسب الأغراض المنهجية والأسلوبية للنورسي في ذاتها من وجهتها البنائية والتأثيرية، وذلك بجانب ما يُجرى فعليًّا من دراسات تصنيفية بحسب الموضوعات التي تناولها النورسي بالدراسة وتسديد الرأي.

 



[1] Wittgenstein, Ludwig – Philosophical Investigations – Basil BlackWell.

[2] بديع الزمان سعيد النورسي، مجموعة المقالات من كليات رسائل النور، ترجمة وتصحيح: الملا محمد زاهد الملازكردي، بيروت: عالم الكتب، ط1، 1985م، ص 60.

[3] المرجع السابق، ص 716 - 717.

[4] المرجع السابق، ص 8 - 9.

[5] المرجع السابق، ص 10.

[6] بديع الزمان سعيد النورسي، مجموعة عصا موسى، ترجمة وتصحيح: الملا محمد زاهد الملازكردي، بيروت: دار ابن زيدون، ط1، ص 78 - 79.

[7] المصدر السابق، ص 88.

[8] النورسي، مجموعة المقالات من كليات رسائل النور، ص 12 - 13.

[9] النورسي، مجموعة عصا موسى، ص 156.

[10] المصدر السابق، ص 189.

[11] المصدر السابق، ص 190.

[12] المصدر السابق، ص 191.

[13] المصدر السابق، ص 192.

[14] راجع: الكتاب المقدس، العهد القديم (برج بابل).

[15] النورسي، مجموعة عصا موسى، ص 149.

[16] النورسي، مجموعة المقالات من كليات رسائل النور، ص 149.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة