تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

علي شريعتي .. ورهانات التاريخ الإسلامي

شريف الدين بن دوبه

علي شريعتي..

ورهانات التاريخ الإسلامي

شريف الدين بن دوبه*

* أستاذ مساعد شعبة الفلسفة، سعيدة، الجزائر. البريد الإلكتروني:

bendouba.philos@yahoo.fr

 

 

 

 

في البدء

تقوم مسألة حكم السلف، وإدارته لراهن الخلف، على جملة من المبرّرات المنطقية، الطبيعية والوضعية، تكون الديمومة الزمنية مرجعاً طبيعيًّا لها تبرِّرُ السلطة التي يمارسها السلف، والقدماء على عقل الراهن، فالتقاطع الأزلي بين الحاضر والماضي والمستقبل فالمستقبل لا تقيمه الأجيال الحاضرة، بإرادتها ووعيها، بل هو صرح جديد بمعطيات ماضية، وروح المعلَم الجديد مخاض الفِكَر القبلية، التي تكوّنت عبر مسار تراكم تاريخي، فنحن لا ننتج أنفسنا، بل نكرّر السلف بروحه ومعتقداته في حاضرنا.

وإطلالة بسيطة على واقع الأمّة الإسلامية تنبئ على مستوى العشق الرهيب الذي يشدُّ المسلم إلى الماضي، لمستوى غريب قدّس فيه الأسماء، حين عجز عن إحياء رفاة هؤلاء الأسلاف، والدليل على ذلك رضا البعض من الشرائح الاجتماعية، وهي من حيث النسبة العددية في مستوى رهيب بتمثل السلف ليس كأجداد بل كاعتقاد.

وأصبحت العقيدة الصحيحة هي الرجوع إلى الماضي، وليس إلى التراث الثقافي ككل، بل اختزال التراث الثقافي للأمة في سلوك السلف فقط، واستمداد مادة المستقبل من هذا الماضي، حيث أصبح إنسان القرن الهجري الأول بثقافته، وظروفه المشروطة بمعطيات محددة، مصدراً للتشريع، ومرجعاً قيميًّا لجيل وجد نفسه أمام ثقافة جديدة، وأنماط بديلة للتفكير، وفي عصر أصبحت القيم عموماً محل مراجعة من طرف أصحاب القيم أنفسهم.

التاريخ المسؤول؟

ما التاريخ؟ سؤال ينقل الباحث المتخصص من حقل تخصصه إلى فضاء معرفي، يشعره بالاغتراب، وهو مجال المفاهيم، والمناهج، وقراءة النتائج، فالالتزام بعناصر الحدث، وملابسات العلة، كافٍ له في إطار تخصُّصه، ولكن الأسئلة التي يستثيرها البحث والمساءلة التي نضع فيها الحدث التاريخي، تنتج مسائل تقحمه في فضاء الفلسفة من دون إرادة منه، وعلى حد تعبير هنري مارو: «إنّنا تحريفاً للحكمة الأفلاطونية فإننا سنسجل على واجهة الأكربول: لا يدخل هنا إلَّا من كان فيلسوفاً، إلَّا من تأمّل في طبيعة التاريخ، وفيما يجب أن يكون عليه المؤرخ»[1].

استثمار الفلسفة في البحث التاريخي لازمة منهجية، وقيمية، حيث يكون التمكُّن من آليات القراءة النقدية عن طرق القنوات الفلسفية، الإبيستمولوجيا، الميتودولوجيا، مكسباً في يد المؤرِّخ، والحضور الفلسفي في التاريخ يكون على حدّ توصيف المفكر، والفيلسوف المصري إمام عبد الفتاح إمام في: «دراسة لمناهج البحث، أعني للطرق التي يمكن أن يكتب بها التاريخ، وكيفية التحقُّق من صحّة الوقائع التاريخية.. أعني فحصاً نقديًّا دقيقاً لمنهج المؤرخ، وهذا ما يسمّى أحياناً بالنشاط التحليلي للفلسفة.. وفي منظور تركيبي.. وفيه يقدّم الفيلسوف وجهة نظر عن مسار التاريخ ككل..»[2].

البحث في التاريخ يقتضي مناهج متعدّدة، ورؤية متعالية على الحقل التخصُّصي الضيق، الذي ورثته المدرسة الوضعية في تاريخ الفكر البشري، فالقراءة التركيبية وليدة البحث الفلسفي، البحث الذي يتأسّس على الروح الشمولية، التي تجمع المتعدِّد في وحدة ذهنية بالتصور التفسيري، ويكون المستقبل حقلاً ميدانيًّا نلمس فيه تلك الوحدة، وهي التي تعرف بفلسفة التاريخ.

وإن كان المفكر هنري مارو يذهب إلى أن الحضور الفلسفي في التاريخ لا يمسُّ فقط فلسفة التاريخ، بل المنهجية البحثية، يقول مارو: «إن صحة نظام علمي تستلزم قلقاً منهجيًّا معيناً، اهتماماً بأن يكون واعياً بآلية سلوكه وجهداً معيناً للتفكير في المشكلات الناشئة عن نظرية المعرفة لنزيل كل سوء فهم. فليس المقصود هنا فلسفة التاريخ بالمعنى الهيجلي أي البحث النظري في مستقبل الإنسانية، بل المقصود هنا هو الفلسفة النقدية للتاريخ والنظرة التأملية للتاريخ، لبحث مشكلات النظام المنطقي ونظرية المعرفة التي أثيرت من طرف المؤرِّخ[3].

وعليه فإنّنا نجد أن مفهوم التاريخ أول إحراج منطقي يعايشه الباحث، إذ نلمس اختلافاً في التعريفات، فعند أرسطو: «جمع الوثائق»، ويعرفه بيكون بأنه «العلم بالأمور الجزئية التي تكون الذاكرة وسيلتها»، وعند ابن خلدون: «فن عزيز المذهب جم الفوائد، شريف الغاية، إذ هو يوقفنا على أحوال الماضين من الأمم في أخلاقهم، والأنبياء في سيرهم، والملوك في دولهم وسياستهم، فهو محتاج إلى مآخذ متعددة، ومعارف متنوِّعة، وحسن نظر».

وهو عند السخاوي: «فنٌّ يبحث فيه عن وقائع الزمن من حيثية التعين والتوقيت بل عمَّا كان في العالم»، وهو في نظر هيجل «مجموع الدراسات الخاصة بالفكر باعتباره مناقض للطبيعة».

أما هنري مارو H.Marrou فقد كانت إجابته عن سؤال: ما التاريخ؟ على النحو التالي: «أقترح بأن أجيب، التاريخ هو معرفة الماضي البشري»[4]، وهي الإجابة نفسها التي يقترحها علينا ريمون أرون R.Aron مجيباً عن السؤال نفسه حينما يقول في مستوي أول: «إن التاريخ هو معرفة الماضي البشري»[5]، وفي مستوي ثانٍ: «التاريخ في المعني الضيق هو علم الماضي البشري، وفي المعني الواسع يدرس مصير الأرض والسماء والكائنات وبطبيعة الحال أيضاً الحضارات»[6].

علم التاريخ إذن: «هو ذلك الفرع من المعرفة الإنسانية الذي يستهدف جمع المعلومات عن الماضي، وتحقيقها وتسجيلها وتفسيرها، فهو يسجّل أحداث الماضي في تسلسلها وتعاقبها، ولكنّه لا يقف عند تسجيل هذه الأحداث، وإنّما يحاول عن طريق إبراز الترابط بين هذه الأحداث، وتوضيح علاقة السببية بينها أن يفسر التطور الذي طرأ على حياة الأمم والمجتمعات، والحضارات المختلفة، وأن يبيِّن كيف حدث هذا التطور ولماذا حدث»[7].

ارتباط التاريخ بالمنحى الرهطي للجماعة بديهية لا تقبل التأسيس البرهاني، ولكن إلغاء الأبعاد المشتركة بين بني البشر في الحدث التاريخي مغالاة تضع الباحث، والمتعلِّق بذلك التاريخ في متاهة، تفصله عن المسار الضروري الذي تقتضيه الطبيعة البشرية في بحثها عن الحقيقة.

فالحدث التاريخي بطبيعته الاجتماعية نتاج خاص بالعناصر المنتجة له، فمن غير المعقول إيقاع النسبة بين الحدث، وعناصر بشرية أخرى بحجة الاشتراك في خصوصية النوع، والعرض، فالرابطة بين العلة والمعلول أصيلة وليست اعتبارية.

أمّا المشترك في الحدث الاجتماعي الماضي فهو المعاني، التي لا تخرج عن الأصناف الأربعة، الزوج الأول منها التقريرية، التقييمية، متعلقة بتوصيف الدلالة، وهو يفترض منهجاً وصفيًّا تقريريًّا، يسمح بتوظيف المنهج التجريبي إلى حد ليس بالبعيد، فالتقريرية دلالات تحّدد موضوعيًّا العناصر الرئيسة في بناء الحادثة، العلة الفاعلة الإنسان، العلة المادية الأدوات، والظروف الاقتصادية المنتجة للحدث: حادثة المروحة مثلاً.. وهي عناصر تقريرية لا يختلف فيها المؤرخون.

والمعاني التقييمية أحكام متضمنة لمجموعة من القيم، تكون عبارة عن جملة صفات شرطية، لا توجد في صورة أنطولوجية مستقلة، بل هي إمكانية في حيازة الصفة عند الفاعل، أو في الفعل، كما أن أبعاد القيمة الثلاثية التقليدية تبقى مصاحبة للبحث القيمي، فهي الصفة التي إذا وجدت في شيء جعلته مرغوباً فيه وجديراً بالطلب، فالقيمة معلم إنساني، يمتلك جميع خصوصيات التعدّد والتنوع البشري داخله، والقيمية في الدلالة التاريخية ركن رئيس فيها.

والزوج الثاني من المعاني: التحليلية، والتركيبية، فهي معاني تتقاطع من الأولى، حيث يكون تضمن المعنى التقريري الوجودي داخل الحدث التاريخي، لإمكانات دلالية متعددة تستنطق من خلال آلية التحليل المنهجي المنتهج من قبل الباحث في الحقل.

مجال الاختلاف بين رجال التاريخ يكمن في الدلالات، وهي العلل الغائية، التي توجه الفعل البشري فرديًّا كان أو اجتماعيًّا، والتي تكون مجالاً للتأويل، فتتعدّد التفسيرات، وتصبح الحقيقة مطلباً في حيازة مجهول، كما هو حال القضايا التي يعجز الحقوقيين البتّ فيها بناءً عند حضور مالكي السلطة في المسألة.

ويتواضع الدارسون على تسمية المجال التاريخي الذي تدور حوله الاختلافات التأويلية بفلسفة التاريخ، الذي يقدِّم فيه المؤرِّخ حقائقه للفيلسوف بغية استنباط أحكام عملية يستنير بها المكلّف في تعامله مع المواقف الجديدة في حياته الفردية والجماعية، وهي أيضاً قواعد كلّية مستنبطة من مجموعة الأحداث.

والمقصد من خلال فلسفة التاريخ، يكمن في اصطياد الروح العامّة للتاريخ الواقعي لا التاريخ المزيّف، وتمكين القارئ من العبور عبر الاعتبار من لحظة العتمة الفكرية والعملية، إلى لحظة الإشراق الذي يبدِّد معالم اللبس، والذي نجده في المعاني الكلية التي تستبطنها الأحداث التاريخية.

علي شريعتي والتاريخ

الدكتور علي شريعتي مفكِّر، وثوري، وعالم اجتماع إيراني النسبة ثقافيًّا، وحضاريًّا، نشأ وترعرع في أحضان الثقافة الإمامية، تميّز شريعتي -حسب آية الله السيد محمود الطالقاني[8]- بروح مستقصية شكّاكة منذ بداية شبابه وأوائل عهده بالدراسة والتحصيل العلمي، كان يشكّ بكل شيء، حتى بدينه، فقد كان يشكّ بالدين السائد بين الناس، أي بذلك الإسلام الممسوخ، ذلك الإسلام الذي حُوِّل إلى دكان للارتزاق، ووسيلة للاحتراف وتربية المريدين، كان لا بد لشاب واعٍ مثل شريعتي أن يبدأ بالشك، لكنه لم يبقَ أسير الشك»[9].

ترك علي شريعتي مكتبة قيّمة في المجال الاجتماعي سجّل بها حضوره التوعوي، والتعبوي عند القاعدة الشعبية، والنخبوية للثورة الإسلامية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ويعدّ من أعلام الثوار في العالم الثالث، وصداقته مع المفكِّر الثوري فرانز فانونFrantz Fanon تؤكِّد ذلك.

تكمن مشكلة التاريخ عند شريعتي في القراءة، وليست في الحقائق التاريخية ذاتها، فتصنيف الأمم أو المجتمعات إلى ثلاث أصناف رئيسة -مجتمعات وحشية أو المجتمعات البدائية أو الأرشيفية الأثرية، مجتمعات تاريخية (المجتمعات القديمة التي نالت حظًّا من الحضارة فلا تصنّف بدائية، ولا تصنّف مدنية حديثة مثل مجتمعات مصر، الهند، إيران، اليونان)، مجتمعات حديثة- يقوم على أساس فوقي، وميل نحو تقزيم الشعوب الشرقية.

فتصنيف المجتمعات، وإخضاعها إلى نمط ونموذج معين، يفتقد إلى المرجعية الموضوعية، يقول شريعتي في هذا السياق: «أعتبر تفسير كل مجتمع أو أمر اجتماعي أو تاريخي وتأويلها على أساس القوانين الكلية والأحوال العامة لعلم التاريخ أو علم الاجتماع، نوعاً من التعميم العام الخطر ونظرة كلية تؤدي إلى منزلقات... ويتحوّل المفكر المستنير من مجتهد خلّاق واقعي النظرة عميق التفكير مدرك للواقع باحث عن الوسائل، إلى مقلد واضع للعموميات، ونمطي...»[10].

والأصل في ذلك يعود إلى طبيعة التاريخ نفسها، فهو على حد تعبير أحد المفكرين: «التاريخ منطقة جبلية، يعكف كل مؤرخ فيها على نحت أحجارها، وفقاً للخريطة التي رسمها»، فالتاريخ يعيش مطلب الموضوعية، والعلمية داخل الحقل الدراسي له، ولكنه على قاعدة غياب بعض الشروط يكون مجالاً للفهم ليس إلَّا.

يقول شريعتي: «ينبغي أن يكون التاريخ علماً، لكن بما أن الإنسان لم يعرف حتى الآن، ولم يعرف الزمان والمجتمع، لا يزال علم التاريخ ذا طابع فني، أي إن المؤرِّخ مخترع أكثر مما هو مكتشف التاريخ الآن ذو طابع فني..»[11]

التاريخ عند شريعتي وحدة، وبنية، وجزء من كلّ، فالرؤية الكونية الموضوعية للمسار التاريخي، تقرّ بالوحدة العضوية التي تجمع الحيثية الاجتماعية للتاريخ، فالمرجع الأول واحد، والغاية واحدة، فالواقع يصبح حيًّا، بتمثُّله، داخل الإطار الكلي للتاريخ العام.

فالتاريخ كما يقول شريعتي: «مسيرة وحدة متصلة له مبدأ حركة متميِّزة على أساس قوانين حتمية أو بتعبير القرآن سنن لن تجد لها تحويلاً، وفي مسيره الطبيعي يمرّ بمنزل معين، وذو خط سير علمي، ومرتفعات، ومنخفضات، وزوايا، وحنايا، وبطء وإسراع نحو هدفه الغائي أو على الأقل كما هو مسلّم به سائر نحو هدف.. فالتاريخ عبارة عن عمر نوع الإنسان، ومسيرة المجتمع البشري الذاتية، أو بتعبير آخر الزمان العام الاجتماعي ذو قوانين علمية محددة يمكن اكتشافها بتدوين علم التاريخ..»[12].

التاريخ عند شريعتي، سير أفقي لبني البشر، يتأثر بجملة من المؤشرات، تجعله متّصفاً بحيثيات اجتماعية، تعكس ذهنية الجماعة التي ينزل الحدث التاريخي ضيفاً عليها، فالحوادث الماضية التي يُسجِّلها التاريخ، في روحها، وجوهرها كلية ووحدة، تتقاطع فيها آمال وآلام البشر، وعرضيًّا تبدو مختلفة تبعاً لأطرها الزمانية والمكانية، فهو سير نحو أفق محدّد رسمته الطبيعة الإنسانية، وليس الإنسان، فالأصل في الطبيعة هو السير نحو الله في خط عمودي، عبر التعالي، والتجاوز لكل ما يربط الطبيعة بعنصرها المادي، والحيوي، وكما يصطلح عليه المفكِّر المغربي محمد لعزيز لحبابي بالتشخصن، فالتاريخ يطلب النموذج الكامل للجنس البشري، وشخصية النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) المثال الأعلى، في التاريخ الإسلامي ترسم الهدفية المقصودة من الطبيعة البشرية.

أما إذا انتقلنا إلى مستوى الحادثة التاريخية، فإننا نجد أن الحوادث التاريخية عند شريعتي تختلف حسب نوعية العلّة، فمؤشِّرات الوجود في الحدث التاريخي هي المتحكِّمة في بيان نوعيته، وفي حركته، وفي دلالاته، وهي عنده لا تخرج أن تكون على نموذجين، فهناك حوادث ناتجة عن علل مادية، ومنها ما يكون مخاض تحولات فكرية وأيديولوجية، يقول: «الأحداث التاريخية على قسمين: الأول منها ناجم عن وقائع، ومبررات سياسية، واقتصادية وكبرى.. والقسم الثاني ينبثق من دواعٍ فكرية أيديولوجية تستند على مبدأ ديني أو عقائدي أو فكري»[13].

العلمية مطلب في البحث التاريخي، كما يقرّر علي شريعتي، ولكنّ العوائق التي تقف أمام الموضوعية، وأمام البناء التاريخي كثيرة، وأهمُّها -في اعتقاد شريعتي- معرفة الإنسان، والمسألة تتعلّق بالعلم بخصوصيات هذا المخلوق، والتي تتّصف بالتباين تارة، وبالتقارب تارة أخرى، فهو الجرم الصغير الذي انضوى فيه العالم الأكبر، فهو الوحدة التي تنصهر فيها الأضداد، فهو فرد متفرِّد، ونتاج اجتماعي وثقافي، لغيره، ابن لبيئته، وجزء من هذا الكون خاضع لمنظومة سببية، وغائية، لا يملك فيها قيد أنملة من إرادة، وقراءة النتائج في العلوم الإنسانية، تنبئ بالعجز الذي يحيط بالبحث فيها من كل جانب، من حيث الموضوع، ومن حيث المناهج، فهي كثيرة المناهج، قليلة النتائج كما ينعتها الكثير، فالإنسان من الزاوية الموضوعية التي يفترضها الغرب، لازال مجهولاً، وحقلاً ملغماً بنتائج لا يمكن التنبؤ بها مطلقاً.

أمّا قراءة الإنسان بعين إسلامية فعالم فسيح يحتاج إلى سير من قبل الفرد في آفاق الطبيعة (السير الآفاقي)، وفي آفاق الأنفس (السير الأنفسي)، وإدراك الآفاق التي تحيط به، مسألة تفترض تضافر جميع بني البشر، بعضهم مع بعض للتفكير في آليات الإدراك، ويبدو أن هذه المسألة شبه مستحيلة عن البشرية، إذ يلاحظ في الواقع التقسيم الأيديولوجي والعقيدي، والاقتصادي لبني البشر، فالأفكار هي المرجع في الاختلاف، والخلاف، وهي أيضاً أصل الوحدة والاتفاق.

أما عائق الموضوعية الثاني في الحقل التاريخي فيعود إلى المعرفة بالزمن، فهو ظاهرة فيزيائية بالطبيعة، واجتماعية بالعرض، وتفسيرات الزمن متعدِّدة، فالطابع الحركي الذي يحايث الزمن يجعل من التفسير الدقيق للحدث التاريخي أمرا ليس باليسير، فالظاهرة التاريخية فريدة بطبيعتها، فالإطار الزماني الخاص بالحدث التاريخي لا يمكن إعادته، وتكراره، وهذا يفقد القراءة التاريخية الدقة، لأن الموضوعية العلمية تفترض القابلية للتكرار، وهو أمر مستبعد في الحقل التاريخي.

والعائق الثالث الذي يطرحه علي شريعتي، فهو معرفة المجتمع، ككائن موضوعي، ومستقل، من الناحية الأنطولوجية، ومتنوع من حيث بنيته التركيبية، فهو إنسان فوق الأفراد الذين ينتمون إليه.

يقدم شريعتي للباحث عن الموضوعية في التاريخ جملة من الشروط، والتي توجب بلوغ الهدف العلمي، والحقيقة، إذا التزم بها الباحث، وهي: «.. على المؤرِّخين وعلماء الاجتماع كلما أرادوا معرفة التاريخ والمجتمع أكثر أن يلقوا بعيداً بحدسياتهم، وفرضياتهم، وأذواقهم وميولهم الشخصية، والعرقية، والطبقية، والسياسية، وتعصباتهم الدينية أو الدينية، وعقائدهم المصنوعة سلفاً، وآرائهم المسبقة، وعليهم أن يقوموا بمحوها، ثم يقيموها على أسس منطقية، وعلمية، وعينية، وأن يتنحوا عن الإيمان بمدرسة معينة فكرية أو فلسفية أو أدبية أو فنية أو شعرية، وعليهم أن يجاوروا العلوم البحتة[14].

الجانب الذاتي عند شريعتي عائق أولي، في البحث العلمي، وعليه ينبغي العمل على تجاوز المعطيات الحدسية، أي المعارف التي يكونها الباحث عند الملاحظات الأولى، وهو ما يعبّر عنه علماء الإبستيمولوجيا بالإيحاء الأول، كما ينبهنا شريعتي إلى موقع الفرضيات المبنية في توجيه البحث إلى مسار يجانب الحقيقة، فالفرض يوجِّه الباحث نحو اكتشاف المجهول تارة، ويسير به نحو أفق مجانب للحقيقة تارة أخرى، فالموروث الثقافي، يؤثر على البحث الموضوعي، إلَّا إذا عمل الباحث على تأسيسه منطقيًّا، وعلميًّا، لأن التقارب من العلوم الدقيقة يقتضي توفِّر هذه الشروط، والعمل على تجاوز الانتماءات الأيديولوجية.

التاريخ الإسلامي وفكرة الكلية

التعاطي مع بني البشر بعين إنسانية، يكشف عن وحدة الجنس البشري، من حيث الأصل، والمسار، والهدف، فنحن أبناء أب واحد، فرقت اللغة بيننا في التعبير عنه، فمن حيث المعنى والدلالة، والبنية التكوينية يكون آدم الأب، وليس آدم النبي (عليه السلام)، فالآدمية طبيعة، وتركيبة مميِّزة، تحمل إمكانات خَلقية، وخُلقية متباينة، تؤهِّل المرء للحصول على مرتبة سامية، يسمو بها على الملائكة، وفي اللحظة نفسها، قد يتهاوى بطبيعته إلى أسفل سافلين، فالوحدة الإنسانية حقيقة، والعقيدة الإسلامية تستبطن أصول الوحدة، والتقارب بين البشر، وجميع معطيات اللقاء، بين الثقافات، والحضارات، والتي يلخِّصها الأستاذ شريعتي، في لحاظ أهمها:

أولاً: العلاقة المباشرة بين الله والإنسان

عند قراءة النصوص التي كتبها شريعتي نجد أنفسنا أمام إمكانات دلالية جديدة، فالتصور الأولي للعلاقة بين الله والإنسان تضعنا أمام طقوس العبادة، وأحكامها الفقهية، وما شابه ذلك من دلالات سطحية، لا تمتُّ إلى روح العقيدة بصلة فمن خلال هذا المبدأ يبدأ شريعتي في تحطيم جملة من التابوهات أقامتها تراكمات، بفعل المألوف، والعادات، وقد تحمّل شريعتي بجرأته، في هذه الممارسة النقدية كثيراً من المضايقات، خصوصاً من طرف بعض رجال المؤسسة الدينية.

مسألة تفسير الصراع الطبقي قضية شغلت علماء الاجتماع منذ بدء الدراسات الاجتماعية، وقد نالت العلّة الاقتصادية الحظ الأوفر في نشوء الطبقية، والتأسيس الفلسفي الذي قدمته النظرية الماركسية، وكثيراً من النظريات الغربية تؤكد الحكم.

ولكن الأستاذ شريعتي يقرّ بوجود عاملين في نشوء الطبقية، يقول: «هناك صنفان رئيسيان من الأسباب والعلل الكامنة وراء ظاهرة التعدد الطبقي في المجتمع، الصنف الأول هو الظروف السياسية والاقتصادية وطبيعة العمل، وبعبارة أشمل، جميع العوامل المادية في الحياة الاجتماعية، أما الصنف الآخر من علل الظاهرة الطبقية وأسبابها، فهو طبيعة العقائد الدينية والمتبنيات القومية لمجتمع معين»[15].

ارتباط الطبقية بمرجعية دينية أخطر من الطبقية القائمة على مرجعية مادية، حيث أن الأخيرة تُمكِّن مريديها من التمرُّد عليها بتمكينهم من ملكية وسائل الإنتاج، والرجوع إلى تاريخ الرأسمالية يكشف لنا أن الطبقة البورجوازية التي هي طبقة تأسّست من خلال ملكيتها لبعض الحقوق في النظام الإقطاعي، وأهمها الريع العيني، والنقدي، ويؤكد لنا التاريخ أن هذه الطبقة هي الرحم الأول للنظام الرأسمالي، وقد كانت الثورة الصناعية من أبرز العوامل التي مكّنت هذه الطبقة من امتلاك زمام السلطة.

يقول شريعتي: «إن غاية الإسلام رفع الحواجز، والحجب بين الإنسان وربِّه، وبغية تحصيل هذه الغاية يضع الإسلام في أولوياته مهمّة إيجاد حلقة اتصال مباشر بين الطرفين، وفي ضوء ذلك لا نرى مكاناً في الإسلام لكيان رسمي متشكِّل من رجال الدين، ولا مجال في هذا الدين لظهور سلسلة مراتب، ومواقع يشغلها رجال الدين بحيث يكون قبول الأعمال العبادية، والعقائدية للفرد المسلم منوطاً بإذن من هؤلاء، ووساطتهم لدى الرب لمصلحة العبد[16].

شرعية المؤسّسة الدينية في نظر شريعتي، تحتاج إلى دراسة، وإعادة نظر، فأزمة الأمّة الإسلامية في الوقت الراهن عائدة بالأساس إلى رجال الدين الذين فرقوا دينهم، وكانوا شيعاً. والأستاذ شريعتي يضع مؤسّسة رجال الدين أمام هزّة، وإن كانت في الحقيقة هزة نظرية فقط، لأنّ مجرد المساس بعباءة رجل الدين، يعرض صاحبه لحز الرأس، وهذا ما نشاهده في الذي يضفي مبدأ المشروعية على قتل المسلم، ويحرّم جهاد المحتل للأرض.

ثانياً: المساواة العامة

المساواة أصل مدني، وثقافي في التشريع الإسلامي، والإسلام الأصيل يشهد بذلك، فقد اهتم الإسلام -كما يقول شريعتي- بقضية المساواة العامة بين الأفراد والشعوب، والقبائل وإلغاء الفوارق الطبقية، والعرقية، والنسبية، والحسبية وغيرها. يقول شريعتي: «إن التساوي والتكافؤ بين البشر أفراداً أو مجتمعات لم يكن مجرّد فكرة يقترحها الإسلام، أو توصية أخلاقية يدعو الناس إلى الالتزام بها، ولا حتى أمنية إنسانية يطمح إليها بغية تأمين مصالح بشرية مستقبلية أو أقرار السلم، والأمان في المعمورة، بل هي حلقة في إطار رؤية كونية علمية يحملها الإسلام، يكون جميع الناس في ضوئها متكافئين في واقع الحال، لا أنهم ينبغي أن يصبحوا كذلك»[17].

ويردّ شريعتي العدالة الاجتماعية في الإسلام إلى جملة من الأسس الطبيعية، والتي نجدها في التصور نفسه الذي يقدِّمه الأب جورج شحاته قنواتي، الأب الدومينيكاني، الذي كان يعمل على تأسيس وحدة ثقافية بين المسيحية والإسلام، وهي: الله واحد وقيوم، الله محبّ للبشر، الله خالق السماوات والأرض، والقصد من وراء ذلك بيان الأسس المشتركة التي تجمع البشر.

وتتجلّى القواعد الطبيعية عند الأستاذ شريعتي في: فلسفة خلق الإنسان التي تقيم أرضية المساواة، الركن الرئيس في بناء المجتمعات المدنية والسياسية، فالبشر على حدّ قول شريعتي: «ينحدرون جميعاً من أبوين مشتركين، وهم جميعاً أعضاء أسرة واحدة، وفي ضوء ذلك فإن البشر على اختلاف ألوانهم، وطبقاتهم، وصنوفهم هم جميعاً أفراداً، وجماعات متساوون من حيث الشرف النسبي، والعائلي، ولا فضل لأحد على آخر، فالغاية من الخلق تقوم على وحدة الأصل بين البشر جميعاً، وبين الرجل والمرأة، فالاتّحاد في الأصل، والجنس يؤسِّس لمساواة عادلة بين الأفراد، وبين الجماعات، وتصبح المساواة في التشريع الإسلامي نتيجة طبيعية للتساوي في الخلقة والطبيعة، ويصبح حق الجميع في الملكية واحداً، وفي الحماية مشتركاً، ولا تقف العقيدة أو الانتماء الديني عائقاً أمام حق الانتفاع بالتملك.

وهي ما يعبّر عنه شريعتي بالمساواة الاقتصادية، والمساواة في الاستهلاك، وتأكيد الإسلام أيضاً على الحرية السياسية: «لا تكن عبد غيرك، وقد جعلكم الله حرًّا»، وعلى الحرية المذهبية: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنْ الغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[18].

وقراءة التاريخ الإسلامي من زوايا متعدِّدة، أي من وجهة نظر النظام السياسي الحاكم، ومن خلال المعارضة في التاريخ الإسلامي -لأنّ فهم التاريخ الإسلامي من وجهة أحادية يفقد الفهم الشرعية العلمية- نلمس الأسس الإنسانية التي بني عليها هذا التاريخ.

ثالثاً: الشورى في الحكومة

أحد المبادئ، والأركان السياسية والاجتماعية في الإسلام هو الاجتماع أي اتفاق أكثر الآراء على أمر، ويعمل مبدأ الشورى على تحقيق التوافق المدني، وفسح المجال لتفتُّق القدرات، والملكات الفردية، فهو لا يضع الانتماءات الإثنية قاعدة، وشرطاً لممارسة الحق الانتخابي، فلا فرق بين العربي والعجمي إلَّا بالتقوى، فالطبقية ظاهرة عرضية، والتفاوت بين الأفراد والجماعات، يتأسس على مبدأ الاستحقاق، القائم على مبدأ الكفاءات، وليس على الروابط العرقية أو العائلية.

انطلاقاً من هذه المقدِّمات يضعنا شريعتي أمام تحفُّظات ينبغي اعتمادها في قراءة التاريخ العام، والإسلامي بشكل أخصّ، فالعمل على تعتيم الأصالة الإسلامية لا يصل بعيداً بالمغرضين، فالشمس تبقى متعالية، وصاحبة الحضور الفعّال على الطبيعة، وعلى الإنسان، وقد اعتدنا أن يكون التعاطي مع هذا التاريخ بأسلوب عاطفي، انفعالي، قد ينحرف بالغرض من التوصيف الذي يقوم به الباحثون، بل سنقرأ مع الأستاذ علي شريعتي التاريخ الإسلامي بتلك العين التي اتّسمت بروح النقد، والموضوعية، التي تجتمع فيها الروح الإسلامية الأصيلة، والمكتسب الفكري، والثقافي المتنوِّع، الذي ميزّ شخصية المفكِّر علي شريعتي.

يُحدِّد شريعتي الموقع الحضاري، والريادي الذي ميّز التاريخ الإسلامي، إذ لم يكن حدثاً مستقلاً تفرّدت به جماعة إثنية معيّنة، وعالميته لم تكن تعبيراً عن ثقافة، وحقبة خاصة بالجماعة العربية، لأن ارتباطها بهذه المؤشِّرات، يحرمها من الاستمرار، والتواصل مع الثقافات الأخرى.

وهذا ما نلحظه في الفترة الراهنة، فرهانات السلطة الأبوسية التي مارسها الإكليروس على الميراث العلمي، بدأت تتهاوى أمام المستحدث من المطالب الإنسانية، والتي لا تجد جواباً شافياً إلَّا في العقيدة الإسلامية، «يمثّل تاريخ الإسلام حلقة الوصل في المجرى الحضاري، والتاريخ الإنساني العام، فقد ورث الحضارات البشرية القديمة من وادي الرافدين، ووادي النيل والهند والصين وإيران، واليونان والرومان، وصبها في قالبه الحضاري الخاص، ومن ثم عاد وأعاد الأمانة إلى الحضارة الغربية الجديدة بعد أن أفل نجمه وتدهورت مكانته التاريخية والحضارية»[19].

خاتمة الرسالة المحمدية لا تظهر فقط في تكملة الدين، وإتمام النعمة، بل في كثير من الحكم الربانية، ومنها قدرة الإسلام العجيبة على استيعاب الثقافات البشرية، وعلى تمثُّل التراث الفكري والأخلاقي للشعوب السالفة، كما ينبغي التنبيه إلى أن تراث الشعوب ليس فقط التراث المكتوب، والذي يطرح تساؤلات نقدية حول مبررات بقاءه تحت مرآة السلطة، فالتاريخ الحقيقي كما هو معروف في البحث التاريخي هو الذي ورثناه من عند مؤرخ سيئ.

كما أن المسار البشري الأفقي، يضع الحلقات الحضاريات بمثابة بنيات أولية في بناء التكامل الحضاري للمجتمع البشري، فالحضارات الشرقية بأبعادها الروحية، والأخلاقية، تسجِّل طفرة نوعية للحضارة الإنسانية، حيث اعتقد الكثير من الدارسين أن اهتمام المفكر الشرقي بالفكر الأخلاقي، والآداب العامة كان وراء تخلفه في مجال العلوم والتقنية.

وهذا طرح ضعيف، حيث نرى أن المسائل الأخلاقية مهما كانت المستويات التي طرحت بها في الحضارات القديمة هي قضايا رئيسة ومصيرية في الثقافة الإنسانية، والدليل على ذلك تحوُّل الدراسات الفلسفية المعاصرة في الفلسفة الغربية إلى الاهتمام بالقضايا الأخلاقية، وظهر منحى جديد في الأخلاق عُرف بالأخلاق التطبيقية، والذي يظهر أهمية المسألة، فالشرقي طرح قضايا في القرون الأولى قبل الميلاد أصبحت قضايا العصر للإنسان الغربي، فكعبة الحقيقة موجودة في الشرق، وما على المفكِّر الغربي إلَّا العمل على تحضير نفسه لتقبل الحقيقة التي كان يبحث عنها.

يرتبط التاريخ الإسلامي بالأمة الوسط، والآية التالية تقرِّر التوصيف، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ، وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[20].

الوسط مفهوم مرن، حمال وجوه متعدّدة، فالوسط الذهبي كما ورثناه من أرسطو يتضمن التعادلية، فلا إفراط، ولا تفريط، واعتقد أفراد الأمة الإسلامية أن الوسطية المطلوبة تكون فقط في الممارسة السلوكية، وإن كانت الدلالة على مستوى الوسطية الأخلاقية مهمة.

ولكن الوسطية التي يقدِّمها الشهيد علي شريعتي هي الدلالة التي نجدها في التصور الموضوعي للعصر الوسيط، وهي التي تقرر بأن الوسيط هو لحظة الانتقال النوعي، من مرحلة إلى أخرى، وليس ما نلمسه عند دهماء الناس التصور الذي يقرن الوسيط بالعتمة الفكرية، والاستبداد الذي مارسه الإكليروس على حرية الفكر في تاريخ المجتمع الغربي، والذي حاول أشباه المثقّفين في بلداننا إسقاطه على العقيدة الإسلامية، فقد ورث التاريخ الإسلامي الحضارات البشرية القديمة من وادي الرافدين، ووادي النيل والهند والصين وإيران، واليونان والرومان، وصبها في قالبه الحضاري الخاص، ومن ثم عاد وأعاد الأمانة إلى الحضارة الغربية الجديدة، فالأمة الإسلامية لم تعمل على نقل، وترجمة التراث البشري الذي سبقها، كما يدّعي البعض من المستشرقين: «الفلسفة الإسلامية فلسفة يونانية كتبت بأحرف عربية».

التاريخ الإسلامي ونظريات فلسفة التاريخ

التاريخ الإسلامي نموذج حي، لقراءة بعض النظريات في فلسفة التاريخ، والتي لم يجد أصحابها عيّنة كافية، وأدلة شافية في طرحها رغم الصحة التي تمتلكها، وهي نظرية وحدة التاريخ الإنساني، وهي النظرية القائلة بأن المجتمعات رغم تمثلها عبر التاريخ بصور وحالات متنوعة إلَّا أنها -كما يقول شليغل- تشترك في الأمور العامة والكلية، وأن وراء هذا التنوُّع والتشكُّل التاريخي اتحاد خفي ومسار متصل عام.

وإقصاء الحقبة التاريخية الإسلامية عند مفكِّري الغرب خلال كتابته التاريخ العام للبشرية، يفقدهم الكثير من الحقائق، والتي مهما تعاموا عنها، فإنها تطرح نفسها على واقع الإنسان المعاصر، خصوصاً الغربي، الذي عرف تقدُّما ورقيًّا تقنيًّا مكَّنه من إشباع طبيعته الحيوية بشكل تام، وبدأ التطلُّع إلى قيم، وحاجات جديدة فرضت أخلاقاً جديدة، وأزمة ايتيقية في الساحة الاجتماعية للإنسان، يقول شريعتي: «وبدون الإسلام، نفرِّط بحلقة مهمّة في سلسلة الحضارات، وسينعكس ذلك سلبيًّا على طبيعة رؤيتنا التاريخية العامة الأمر الذي نلاحظه في الكثير من كتب التاريخ العام التي يؤلِّفها مؤرخون غربيون، ولا يولون فيها اهتماماً مناسباً بدراسة المرحلة التاريخية للحضارية الإسلامية»[21].

غريب أن تجد داخل الحقل العلمي محاولات من هذا القبيل، تعمل على تهميش بعض الثقافات، فمهما كان مستوى الصراع والخلاف بين الحضارات، وبين الثقافات الأخرى، فلا ينبغي إقصاء الآخر، مهما كانت ملته.

وعليه يمكنني توصيف هذا الاتجاه في الفكر الغربي بالسلفية الغربية، لأن التاريخ الإسلامي الحديث والمعاصر يشهد نموذجاً مماثلاً لهذا النوع من الباحثين، الذين يحتاجون إلى علاج نفسي واجتماعي، كما يظهر هذا النوع من التجني على التاريخ الإسلامي الخوف من المزاحمة، حيث تفرض معرفة التاريخ الإسلامي تقزيم حتمي لثقافات الغرب المادية، وحضارتها القائمة على أسس طبيعية، وينبغي التنبيه إلى المغالطة اللفظية التي توظف بها كلمة الطبيعة، فهي بدلالتها المادية البحتة، التي تبعد المعلم الروحي في التوجه الإنساني، وليست الطبيعة المشتركة بين بني البشر.

ويبيّن أيضا شريعتي أهمية الإسلام في تفسير النظريات المتعددة في تفسير التاريخ، يقول: «إن المعرفة الحقّة والشمولية لدين الإسلام وتاريخه ودوره الحضاري، يعين أيضاً في فهم وتحليل جميع النظريات العامة المطروحة بشأن التاريخ، وتقييم الكثير من المذاهب المتنوِّعة في تفسير فلسفة التاريخ وعلومه ونصوصه[22].

قراءة التاريخ الإسلامي بتمعن تكشف عن الأسس المرجعية، والواقعية لكثير من النظريات التي عرفتها فلسفة التاريخ، فنظرية التعاقب الدوري، التي قدمها ابن خلدون في مقدمته، واستساغها فلاسفة الغرب، وأعادوا صياغتها في أساليب جديدة، تجد في تاريخ المجتمع العربي قبل الإسلام، وبعده، أرضية تقعيدية في التفسير لنظرية التعاقب، فالفترة المحمدية، أي الحقبة التاريخية التي عرفتها الدولة الإسلامية، أو الحكومة في عهد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) مثّلت البداية، وكانت الذهنية العربية من أهم العوائق التي اصطدم بها النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في مرحلة التأسيس المدني والعسكري للمجتمع المدني في الإسلام.

والبداوة، أو الميل إلى السعادة الطبيعية كما يعبر عنه البعض، وعلامة الفتوة الحضارية في الحقبة الإسلامية، كلحظة، وكمؤشِّرات تصلح أن تكون قاعدة لتفسير نظرية التعاقب في فلسفة التاريخ، إلى أن نصل لمرحلة الانحطاط التي بقراءة عللها السياسية، والاقتصادية الكامنة وراء الحدث قادرة على بيان تصور أزوالد شبنغلر في رؤيته للتدهور الحضاري الذي تنبأ به للحضارة الغربية.

أما فكرة استقطاب الكلي، وتوجيهه للتاريخ عند الفلاسفة، ففي التاريخ الإسلامي الكثير من التصورات التي تتقاطع مع التوجه، ففكرة القدر، والجبرية ككلِّي، وكتصور توتاليتاري أسست له الإمبراطورية الأموية، من أجل تبرير انتهاكاتها، وتجاوزاتها للنصوص الشرعية، فكان لله جنود من عسل، وأشياء كثيرة من هذه السنخية، وأعتقد أن مأساة العرب والمسلمين اليوم تكمن في الاستثمارات السياسية لخلفاء المسلمين لهذا الكلي، الذي سلب العنصر الجوهري في حيوية المجتمع الإسلامي، والذي أعتبره بيت القصيد في التخلف الذي عرفه المجتمع الإسلامي، فقد كان علة خفية فكّكت تدريجيًّا أواصر الروح الحضارية في الدولة الإسلامية.

وإذا افترضنا البحث أيضاً عن التصور المادي للتاريخ، حيث تلعب العوامل الاقتصادية دورها في حركة التاريخ، فسنجد نماذج حضارية، داخل التاريخ الإسلامي تصلح للقراءة، وللإسقاط أيضاً.. فاتساع الموارد، والمداخيل الاقتصادية للإمبراطورية الإسلامية، لأن المدينة الإسلامية تحولت بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ملك على يد خلفاء بني أمية، وبني العباس، فكان لهذا التملك الاقتصادي دور في بناء مستوى فكري، وعلمي بنسبة معينة، الفكر الاعتزالي تعبير عن مستوى من الرقي الفكري، ولكن ارتباطه بالسلطة مسألة تستوجب التوقف.

والقصد من هذه الإشارات أن التاريخ الإسلامي غني باللطائف والدلالات التي تساعد الباحث -حسب شريعتي- على اكتشاف السنن المشتركة بين الحضارات.

أما البعد الثالث الذي يستشفه علي شريعتي من التاريخ الإسلامي، فهو المطلب الذي يسعى إليه عالم الاجتماع، والذي يتجلى في فهم وتفسير الحركة الاجتماعية، وآليات الانصهار الثقافي داخل الجماعة، يقول: «في الإسلام يعثر عالم الاجتماع، وبالذات عالم الاجتماع التاريخي، على أكثر المجتمعات التاريخية غناء وسعة، ذلك أن المجتمع الإسلامي وعلى مدى ما ينيف عن ألف عام كان مركزاً لتلاقي شتى الاتجاهات القومية والعرقية، وفيه امتزجت التجارب والحضارات المختلفة في مساحة واسعة النطاق، وشهد ميدانه الاجتماعي الواسع شتى صفوف الحركات، والثورات، والنهضات الفكرية، والتحالفات، والانقسامات ومظاهر الرقي والانحطاط»[23].

ومراجعة التاريخ الإسلامي تظهر للباحث معالم التزاوج الاجتماعي بين القوميات المتعدِّدة، والمتغايرة، وإمكانية الآخر من امتلاك زمام السلطة، سياسية كانت أو فكرية، وبلوغ علماء فارس الريّادة في شتّى حقول العلم دليل على قدرة العقيدة الإسلامية على استيعاب الثقافات الأخرى.

كما تكشف الحركة الشعوبية في التاريخ الإسلامي عن وجود الشرائح المتمردة داخل المجتمع الجديد، والتي تحمل جذوة الثورة على الآخر، سواء كان متمثلاً في السلطة الجديدة (المنتصر) الغريبة على طبيعة المجتمع، وفي رفض القيادة مهما كانت، والذي نلمسه في تمرُّد بعض الفئات على الحاكم، حتى ولو كان عادلاً، فالتمرّد على الحاكم لا يكون بالضرورة مشروعاً حسب اعتقاد البعض من منظِّري الثورات، ولا فاقداً للشرعية كما تنظر إليه الموالاة.. وهذا التعارض في الفهم أسّس لخلافات مذهبية، وسياسية خطيرة.

ويتميز التاريخ الإسلامي أيضا حسب الأستاذ علي شريعتي، على ما عداه من التواريخ بوضوح العلاقة بين الدين والحضارة الأمر الذي يعدّ اليوم من القضايا الجادة والهامة في العلوم الإنسانية بالذات علم الاجتماع وعلم الإنسان، فالدين كأفيون للشعوب في الفكر الغربي عبارة تضفي مبدأ المشروعية على الفكرة التالية: «الدين عائق حضاري أمام تقدُّم الشعوب»، يقول شريعتي: «إن الحكم الذي أصدرته القرون الحديثة في أوروبا تجاه الدين تحول اليوم إلى قانون عام متوافق عليه في أوساط النخبة والمثقفين.. والحضارة الجديدة مدينة في تطورها لجهود المفكرين المستنيرين الذين أزاحوا عقبة الدين من طريق الحضارة والتطور العلمي.. وتعميم الحكم بأن الدين عقبة بوجه العلم والمدنية، غير صحيح لأنه يستند إلى مورد جزئي واحد (الدين المسيحي)»[24].

ينبهنا شريعتي إلى أهمية مراجعة الأصول النظرية والثقافية للأفكار التي نستقبلها، وأعتقد أن الآية الكريمة {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}[25] تحثُّنا، وتوجب على الإنسان النظر إلى طعامه، تطلب منا مراجعة الأطعمة والأشربة الفكرية التي يتغذّى منها العقل البشري، لأن خطر الأفكار على الفرد، وعلى الجماعة، أبلغ، وأمضى من أمراض الجسد.

فالتشدق بغرابة الدين على الحضارة مسألة لا تعنينا إطلاقاً، بل هي مرتبطة بظرف معين، وحدث تاريخي معين، أما الرابط الذي يربط الحضارة بالدين في التاريخ الإسلامي فيمكن التعرُّف إليه من خلال الحضور الحضاري للمجتمع الإيراني في التاريخ الحديث، والمعاصر، يرجع شريعتي علل التقدم الحضاري للأمة الإيرانية إلى الدور الحضاري الذي لعبه التاريخ الإسلامي في بناء إيران، يقول: «.. إن العنصر الإيراني لم يجد طوال التاريخ حقبة تاريخية يفجِّر فيها طاقاته وقدراته الكامنة بقدر ما أتيح له ذلك في غضون القرون التي ازدهرت فيها الحضارة الإسلامية»[26].

والمكانة التي تعرفها الجمهورية الإسلامية الإيرانية حاليًّا، دليل على قوة العامل الإسلامي في رفعة هذه الأمّة، ويشير شريعتي إلى هذا الأمر في قوله: «.. فبين إسلامنا الحالي وإسلام القرن السابع الميلادي، والذي تغلّب على الإمبراطورية الساسانية، بون شاسع يمتدُّ على مسافة طولها أربعة عشر قرناً من الزمن، وخلال هذه الفترة طرأت على وجهة الإسلام تحوُّلات كثيرة على الأصعدة الفكرية والعاطفية، واكتسبت هويّته ملامح جديدة..»[27].

 

 

 



[1] مارو هنري، من المعرفة التاريخية، ترجمة جمال بدران، مصر: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1971، ص: 9.

[2] هيجل، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، بيروت: دار التنوير، الطبعة الثالثة 2007، ص ص: 31 - 32.

[3] مارو هنري، المرجع نفسه، ص: 9.

[4] مارو هنري، مرجع سابق .ص: 26.

[5] R. Aron _ Qu est –que l’histoire In Leçons sur l histoire Ed falois Paris 1989 P119.

[6] R.Aron Introduction a la philosophie de l histoire Ed Gallimard Paris 1984 P14.

[7] غنيمي الشيخ، فلسفة التاريخ، القاهرة - مصر: دار الثقافة للطباعة و النشر و التوزيع، (د، ط) 1988، ص ص 10 - 11.

[8] ولد آية الله السيد محمود طالقاني في إيران عام 1911، في أسرة علمية حيث كان والده أبو الحسن الطالقاني عالم دين، ومن المجاهدين ضدّ سلطة رضا خان، يُعتبر سماحته ذا عقلية توفيقية تقوم توفيقيتها على المصالحة بين العلم والإيمان وليس على قاعدة التوفيقية الفلسفية، ويستجيب لمتطلبات الإسلام السياسي، ويتجاوب مع متطلبات مرحلته الحياتية.ومن آثاره: الإسلام والملكية، ذاهبون… نحو الله [مذكرات رحلة إلى الحج]، تقديم وتحقيق توضيح كتاب تنبيه الأمة، وتنزيه الملا للنائيني وكتب أخرى.

[9] علي شريعتي، الشهادة، بيروت: دار الأمير، الطبعة الأولى 2002 ص: 27.

[10] علي شريعتي، العودة إلى الذات، ترجمة إبراهيم دسوقي شتا، بيروت: دار الأمير، الطبعة الأولى 2006، ص: 80.

[11] علي شريعتي، الأمة والإمامة، مراجعة حسين علي شعيب بيروت: دار الأمير، الطبعة الأولى 2006، ص: 66.

[12] علي شريعتي، العودة إلى الذات، ترجمة إبراهيم دسوقي شتا، بيروت: دار الأمير، الطبعة الأولى 2006، ص: 478.

[13] علي شريعتي، معرفة الإسلام، ترجمة حيدر مجيد، بيروت: دار الأمير، الطبعة الأولى 2004م، ص: 49.

[14] علي شريعتي، العودة إلى الذات، مرجع سابق، ص: 479.

[15] علي شريعتي، معرفة الإسلام، مرجع سابق، ص ص: 56 - 57.

[16] علي شريعتي، معرفة الإسلام، مرجع سابق، ص: 62.

[17] المصدر نفسه، ص: 67.

[18] البقرة: 256.

[19] علي شريعتي، معرفة الإسلام، مرجع سابق ص: 33.

[20] البقرة، الآية: 143.

[21] علي شريعتي، معرفة الإسلام، مرجع سابق ص: 34.

[22] المرجع نفسه، ص 34.

[23] علي شريعتي، معرفة الإسلام، مرجع سابق ص: 34.

[24] المصدر نفسه، ص: 40.

[25] سورة عبس، الآية: 24.

[26] علي شريعتي، معرفة الإسلام، مرجع سابق، ص: 40.

[27] المصدر نفسه، ص: 54.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة