تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

تكفير التكفير .. العنف التكفيري كوظيفة للاستعمار الجديد

إدريس هاني

تكفير التكفير..

العنف التكفيري كوظيفة للاستعمار  الجديد

إدريس هاني

إذا كان العنف ظاهرة تسم سلوك البشر تحت ظروف وشروط تاريخية واجتماعية ونفسية خاصّة، فما هي هذه الظروف والشروط التي تؤدّي إلى اختيار فئة من التّيار الإسلامي العنف وسيلة والإرهاب طريقاً لتحقيق مآربها؟ ما هو علم نفس الأعماق لهذه الجماعات حينما تجعل التنكيل والفتك طريقها الأوحد لتحقيق مشروعها؟ وإذا كانت هذه العيّنة المحدودة من التّيار الإسلامي التي تبنت العنف كإستراتيجيا في نشاطها مقتنعة هي الأخرى بجاذبية الإسلام التي لا تحتاج إلى إعمال السّيف على رقاب المسلمين، فهل يا ترى يعتبراعتمادها العنف دليلاً على عدم اقتناعها بجاذبية مشروعها الخاص في محيط أغلبي من المسلمين تعتبرهم هذه الجماعات أهل ردّة وجاهلية؟

بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر كانت قيادات القاعدة تتحدّث عن أهمية البأس والتنكيل بمن سمتهم الكفار والمرتدين، وبأنّ منسوب الاهتمام بالإسلام ازداد وعدد الداخلين في الإسلام تكاثر أكثر من أي وقت مضى! لم تكن قيادة القاعدة المعزولة في شعاب وأودية «تورا بورا» تدرك أنّ منسوب الاهتمام بالإسلام إنما ازداد برسم الإسلاموفوبيا التي شكّلت جائزة الغرب كما كان ينظّر لها برنار لويس، حيث اختاروا أن يدعموا أكثر النماذج تطرفاً في الجغرافيا الإسلامية قصد تعزيز الكراهية للإسلام، وذلك للقضاء على ما سبق وتحدّث عنه غربيون آخرون عن: جاذبية الإسلام. لقد كانت جاذبية الإسلام هي واحدة من مشاكل كثيرة لدى الغرب، حيث أعداد المسلمين في أوروبا تتزايد بشكل سيثير الكثير من المخاوف لدى الأوربيين. وكان هنتنغتون قد نبّه بدوره إلى مخاطر الهجرة وتهديد الهوية الأمريكية ذات الجوهر الأنغلوساكسوني، وفي النهاية تصبح أمريكا هي أولى الدول الغربية التي لن تكون غربية[1]. وليس هناك من مخطط لإيقاف جاذبية الإسلام إلاّ بتعزيز الإسلاموفوبيا. وكانت جماعات العنف قد شكلت المثال الذي كان الغرب يحتاجه لمواجهة هذا التحدّي. فلقد قدّمت جماعات الإرهاب المتأسلم للغرب الكثير من الخدمات المباشرة وغير المباشرة لعلّ أهمّها أنّها أعطت دليلاً موثّقاً على دموية الإسلام من خلال نشاط هذه الجماعات. ولقد وجّه الإعلام الغربي لخدمة هذا الغرب مركّزاً ومختزلاً الإسلام في هذه الجماعات، وهو ما شكّل حاجزاً نفسيًّا بين الشعوب الغربية والإسلام. فالرأي العام الغربي هو في نهاية المطاف صناعة إعلامية بامتياز.

أما الخدمة الثانية التي قدّمتها هذه الجماعات فهي الفتنة والهلع والانقسام الذي أحدثته هذه الجماعات داخل النسيج الاجتماعي في العالم العربي والإسلامي، وهو عنصر أساسي فيما سيعرف بالفوضى الخلّاقة التي كشفت عنها «كوندوليزا رايس» أثناء تولّيها حقيبة الخارجية في إدارة جورج بوش الابن.

 وكانت الخدمة الثالثة التي قدمتها جماعات العنف للغرب هو منحها قدرة المناورة لانتزاع قرار أممي وأحياناً من دون الحاجة إليه لغزو مناطق عديدة من العالمين العربي والإسلامي.

لقد تكاملت الأدوار ضمن اتفاق معلن أو غير معلن بين الغرب وهذه الجماعات التي أصبحت أقرب إلى جماعات وظيفية ترفد الغرب بكلّ مبررات الهيمنة والتدخل في البلاد العربية والإسلامية. وكان الغرب الإمبريالي دائماً يجتهد في توفير جماعات وظيفية لتمرير مخطّطاته إلى منطقة الشّرق الأوسط. وكانت الجماعات الدّينية المتطرّفة والتكفيرية هي أهمّ تلك الأدوات التي سهّلت المأمورية أمام سياسات التّدخّل.

تستند الولايات المتحدة الأمريكية إلى حقائق علمية في فهم الظاهرة المتطرّفة داخل الإسلام. وعلى أساسها تدير مخطّطاتها حول الشّرق الأوسط. ورثت الإدارة الأمريكية مخزوناً من تلك الأفكار التي يرفدها بها كبير المستشرقين الذين يمثّلون جيل الثورة على الاستشراق الكلاسيكي المرتبط بالاستعمار التقليدي، وأعني به برنار لويس. الأهمية الأساسية لبرنار لويس هنا تكمن في أنّه ينتمي معرفيًّا إلى جيل الاستشراق الجديد الذي يبني أحكامه خارج أنماط الأرتذكسيات الكبرى في الإسلام نزولاً إلى دراسة الأقليات المنبوذة، كما هو كتابه العمدة: «الحشاشون».

الفارق بين الاستشراق القديم والجديد يتحدّد بالتحوّل في أنماط الاستعمار ما بين قديمه وحديثه. وهكذا فإنّ الاستشراق الجديد الذي يمثّله برنار لويس يتكامل مع المنعطف التاريخي في تطور أساليب الاستعمار، والذي يقوم على جملة من الثوابت الجديدة مثل الموقف الإيجابي للمستشرق، وعلاقة المعرفة بالسلطة، وتركيز البحث حول الأقليات المنبوذة وهلم جرَّا. يتمثّل الموقف الإيجابي للمستشرق هنا في أنّه ليس دوراً سلبيًّا كما كانت تفرضه المؤسسة الاستعمارية التقليدية على المستشرق الذي يدرس التاريخ والخرائط والذهنيات والبنيات الاجتماعية للكيانات الشرقية، بل دوره يتجلى في تأطير القرار السياسي بمعطيات معرفية دقيقة عن الشّرق ووضع معالم طريق أمام السياسات. فبرنار لويس مثلاً سيتحوّل من مؤرّخ وعالم استشراق إلى مستشار في البيت الأبيض، وهو واضع الخريطة الجديدة للشرق الأوسط التي تستهدف تغيير معالم خريطة الشرق الأوسط القديم على أسس دينية وطائفية، لمنح الاستعمار الجديد مساحة لتدبير مختلف، حيث مكتسبات الاستعمار القديم التي فقدت قدرتها على الاستجابة لتحديات المنطقة أصبحت عائقاً أمام وظائف الاستعمار الجديد.

أما علاقة المعرفة بالسلطة فلا شكّ أنّ منحى استشراق إدوارد سعيد هو الانتصار لفكرة أن المعرفة سلطة، وبالتّالي فإنّ تغيير ملامح الشرق الأوسط أمر ممكن انطلاقاً من جملة الأفكار التي تضعنا أمام حقيقة ما حدث وما يحدث داخل هذه المجتمعات.

إن مشكلات العالم الإسلامي في نظر برنار لويس تتعلق بالاستبداد واضطهاد المرأة والإدارة الاقتصادية الفاشلة. ويبقى الحلّ في نظر برنار لويس كالتّالي: «إذا واصلت شعوب الشرق الأوسط دربها الحالي، فيمكن أن يصبح الانتحاريون رمزاً في المنطقة بأكملها، ولن يكون هناك مفر من دوامة الكراهية والضغائن، الحقد ورثاء الذات، الفقر والقمع، تصل ذروتها عاجلاً أو آجلاً، بل وحتى من هيمنة أجنبية لاحقاً؛ ربما من أوروبا جديدة ترتد إلى طرقها القديمة، وربما من روسيا منبعثة من جديد، أو ربما من قوة عظمى جديدة في الشرق.

وإذا استطاعت هذه الشعوب التخلي عن التشكي وعقدة الضحية وتسوية خلافاتها ودمج مواهبها وطاقاتها ومواردها في مسعى خلّاق مشترك، فسوف تتمكن ثانية من أن تجعل من الشرق الأوسط في العصور الحديثة كما كان في العصور القديمة والوسطى، مركزاً أساسيًّا للحضارة. وفي الوقت الراهن، فالخيار خيارها»[2].

هذا النّص يضعنا أمام خبير حقيقي بتاريخ العالم الإسلامي. وكلامه صحيح إلَّا عبارته الأخيرة: «في الوقت الراهن، فالخيار خيارها». ذلك لأنّ خيارات شعوب الشرق الأوسط في تحقيق هذا الخيار يتطلّب قراراً سياسيًّا. والقرار السياسي هنا يمثّل تحدّياً جيوسياسيًّا ممتنعاً يتوقّف على موقف ممانع. ومن هنا بات واضحاً كما سيظهر من خريطة برنار لويس التقسيمية أنّ المطلوب جيوستراتيجيا هو الإبقاء على هذه الشعوب بعيداً عن أي فرصة لتسوية خلافاتها والتحكم بمواردها. وهنا ستصرّف حقائق برنار لويس تصريفاً يراعي الأبعاد الجيوستراتيجية للاقتصاد السياسي للاستعمار الجديد، القائم على تعزيز الخلافات، وتشجيع الأنماط التي تكرّس الإسلاموفوبيا بوصفها العنوان الوظيفي الذي يمنح شرعية لسياسات التّدخّل.

لقد توضّح من خلال الدّعم اللامحدود وتجاهل الإسناد اللوجيستيكي لجماعات التكفير والتطرف على خلفية الحرب في سوريا، أنّنا كنّا أمام سيناريوهات واضحة الملامح. فتغضّ أمريكا الطرف عمَّا يجري هناك مع الإبقاء على تصريحات لفظية بوجود القاعدة في سوريا. وكان بإمكانها أن توقف عمليات الإسناد لهذه الجماعات قبل ثلاث سنوات. مما يعني أنّ التصريحات وإظهار الحياد تكتيك لتمكين الجماعات التكفيرية والإرهابية بالتمكّن. وهو ما يحقق الحاجة إلى التدخّل. ثم يبدأ التحالف الدولي لمواجهة الإرهاب يستثني قوى الممانعة المعني الأوّل بهذا الشّل من الإرهاب التكفيري. ويبرر أوباما سبب هذا الحراك المتأخّر بأنّ أمريكا لم تقدّر جيّداً قوة هذه الجماعات، ثم يطرح أنّ القضاء عليها يستوجب قرناً من الزمان، فيعود ويربطه بعبارة مغرية لكنها غاية في المفارقة ألا وهي محاولة حلّ الخلاف بين الشيعة والسّنة.

إنّ جماع هذه المخطّطات وربطه بمفارقات الخطاب السياسي الأمريكي عن الشّرق الأوسط يؤكّد أنّ هذه الجماعات المتطرفة هي حصيلة جهد من العمل والتحكّم بالمزاج. فمادام التدخل قدر الدّولة العظمى لأسباب تتعلّق بحتمية مواجهة الاختلالات التي تفرضها الأزمة الرأسمالية على الاقتصاد الأمريكي فلا بدّ من التفكير دائماً في بدائل تشرعن هذا التّدخّل حتى من دون اللّجوء إلى الأمم المتحدة، وحتى الآن لا زال الإرهاب، والجماعات التكفيرية هي العنوان الأكثر حيوية لتأمين هذا التدخّل.

مقابل هذا الوضع كانت الجماعات القتالية تؤمن بعدد من الأفكار التي ليس لها من مخرج سوى أن تتحوّل في النهاية وعند أي منعطف من المنعطفات إلى رافد معنوي للعنف. فالأفكار المتبنّاة من قبل السلفية العلمية أو التقليدية هي نفسها الأفكار المتبناة من قبل السلفية الجهادية. إن المرجعية الدينية هي نفسها، والجميع يستند في نهاية المطاف إلى آراء ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وشروح محمد بن عبد الوهاب وشرح العقيدة الوسيطية وهلمّ جرَّا. لكن ما الذي يجعل السلفي التقليدي مرشّحاً لكي يصبح سلفيًّا جهاديًّا؟ هناك إذن ثلاث أمور يثيرها هذا السؤال:

الأمر الأول: أنّ هناك واقعاً يعزز شكلاً من التحوّل شبه الحتمي من السلفيات التقليدية إلى السلفية الجهادية.

الأمر الثاني: ما هي الأسباب التي تفسر هذا التحول وتجعله شبه حتميّ؟

الأمر الثالث: ما هي أدوات السلفية العلمية أو التقليدية لتأمين نفسها من اختراق السلفية الجهادية التي تتربّص بها وتمارس أشكالاً من الاستقطاب من داخلها؟

لعلّه من المفارقة أنّ جماعة السلفية الجهادية التي تتبنّى اليوم مشروع الخلافة الإسلامية وتتباكى على سقوط الخلافة العثمانية تتناسى أنّ واحدة من عوامل تخريب هذه الخلافة هي الحركة الوهابية التي شكلت غطاء دينيًّا في مشروع مواجهة الأتراك. حتى الشيخ محمد رشيد رضا الذي كان أكثر مديحاً للحركة الوهابية تراجع عن فكرة الجامعة الإسلامية لصالح قضايا خلافية جزئية فجرتها الحركة الوهابية حينها. وبالفعل لقد تزامن صعود الموجة التكفيرية الوهابية مع تراجع خطاب الجامعة الإسلامية. والذي تزعّم هذه الحركة الارتدادية هو آخر عنقود فكر النهضة والإصلاح: الشيخ محمد رشيد رضا. وفي زمن مبكّر وحتى قبل ظهور النّفط كان هذا الأخير قد أعجب بدعوى محمد بن عبد الوهّاب وكتب عنها، ولا زالت الوهابية تستند في شرعيتها على شهادة الشيخ محمد رشيد رضا. ولم أجد رجلاً شجاعاً يعبّر بوضوح عن هذه الحقيقة الجلية أكثر من سمير أمين حين قال: «وهو (يعني الشيح محمد رشيد رضا) الذي أدخل الوهابية مصر قبل حتى ما يمتلك الخليج الأموال الطائلة لينفقها على الترويج لهذا الفكر»[3]. وتكمن المفارقة هنا في أنّ محمد رشيد رضا الذي دافع عن الخلافة العثمانية يدافع عن دعوة وجّهت في البداية لمواجهة العثمانيين وتعزيز نفوذ البريطانيين، كما حاربت عقائد المسلمين وفي مقدّمتهم المصريين. لقد كانت الحركة الوهّابية في نشأتها الأولى شكلاً من الحرب، أو لنقل كما تسميه هذه الجماعات الإرهابية بإدارة التّوحش في المناطق التي خرجت من سيطرة العثمانيين. كانت الحركة الوهّابية في أصلها سلفية جهادية (= وليست إلَّا جهادية)، ولكنها منضبطة وموّجهة لتفجير عنفها في الخارج، وذلك حينما انخرط ابن عبد الوهاب نفسه في تعزيز الحرب على من اعتبروا بالمرتدين والبدعيين برسم التعاقد التاريخي مع الدّولة النّاشئة يومها. وحين توقفت حركة توحيد الجزيرة العربية وتراجعت غزوات السلفية الجهادية في مراحلها الأولى، تحوّلت إلى نشاط الحسبة وإلى هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كان هذا الاستقرار موهوماً لأنّ عملية مأسسة نشاط الوهّابية والتمكين له لم يكن نهائيًّا، فبين الفينة والأخرى كانت تقوم انشقاقات من داخل المؤسسة نفسها لتعلن الحرب على الدّولة نفسها. وقد اتضح ذلك في أمثلة كثيرة كحركة الإخوان (الإخوان السلفيين وليس إخوان حسن البنا)، وأيضاً حركة جهيمان العتيبي. كانت هذه الحركة التي لا زال يحوم حولها الالتباس والذي استطاع الإعلام العربي يومها وحتى الغربي يومها أن يجعل منها حدثاً له علاقة بإيران قبل أن يتّهم الإعلام الإيراني بأنّ أمريكا وراء أحداث مكّة، كان الأمر يتعلّق بمجموعة من الجماعة السلفية المحتسبة كما اقترح عليهم ذلك ابن باز الذي باركها، قبل أن تتطوّر في مشروع انشقاق وسلفية جهادية. أفكار جهيمان هي أفكار السلفية التقليدية حينما تصبح جهادية. ولذا كان الكثير من السلفيين متأثرين بها. المقدسي نفسه يمتدح حركة جهيمان، وكثيرون لهم الملاحظات ذاتها. والقاعدة وصولاً إلى داعش تتبنّى فكر جهيمان ولكنها تختلف معه في الأسلوب. أي إنّ جهيمان في نظر هذه الجماعات مجرد رجل درويش مغلوب على أمره يجهل وسائل ممارسة الغلب والتنكيل.

إنّ السلفية التقليدية محكومة اليوم بالولاءات والانتهازية والمال. ولكن حينما تتوقّف كلّ هذه الوسائل من الاستمالة فإنّ نهاية السلفية التقليدية أن تكون سلفيات جهادية. وسيكون الوضع في تزايد بعد أن أصبح المنشقون خارج البلاد التي انطلقوا منها وشكّلوا لهم دولة وأصبحت لهم موارد مالية وبشرية من مصادر عديدة. وإذا ما اعتبرنا أن السعودية في نظر هذه الجماعات هي العدو الأوّل لمن يسمون أنفسهم بالمجاهدين، وأيضاً إذا اعتبرنا أكبر بيئة حاضنة تاريخية لهذا الفكر توجد هناك، وإذا أدركنا ثالثة بأنّ التقسيم لهذا البلد وارد في مخططات الغرب نفسه، اعتبرنا حينئذٍ بأنّ استهداف السعودية سيكون هو الهدف الأسمى لهذه الجماعات نفسها.

هل من الممكن أن تهدم داعش الكعبة؟

تظهر داعش ما تخفيه القاعدة. بل إنّ الخلاف الذي تفجر بين الاثنين أدّى إلى فضح ما هو مؤجّل في أجندة القاعدة. وكان الإعلام عشية بروز داعش كرقم في معادلة الإرهاب الممنهج في المنطقة قد سرّب عدداً من الإشاعات للفت الرأي العام وجس نبضه، مثل قولهم: إنّ داعش تخطط لهدم الكعبة. هذا يذكّرنا تماماً بإشاعة من المصدر نفسه أيّام الحرب العراقية - الإيرانية يقول: إنّ الخميني يسعى لتحويل الكعبة إلى إيران. وهذه الإشاعات على ما يحيط بها من التبسيط هي محاولة لجسّ نبض الجمهور وتهيئته لمواجهة أي خطر يستهدف منطقة الخليج. هنا امتزج النفط بالمقدّس. والحقيقة هي أنّ داعش لا تفكّر في هدم الكعبة، ولكن هذه الإشاعة هي تلويح استباقي لما يمكن أن ينتج في حال ما إذا اقتحمت داعش منطقة الحرمين الشريفين. لا شيء يحول دون العصبية الأيديولوجية التي قد تعاقر أشكالاً من تجاوز المقدّس نفسه. هذا التّجاوز يقوم باسمر على إعادة بناء المتشظّي. لا شيء يمكن أن يصلح عنصر اختباء من اللّعنة حينما تحلّ. والمقدّس هنا يستمد معناه من سلطة الله. وليس ممثلاً عن الله غير هذه الجماعة. فيجوز لها التترس بالبريء، فلم لا يا ترى لا يجوز لها هدم المقدّسات؟

حقيق بنا التّذكير بأنّ العدوان على الكعبة له سابقة في التاريخ الإسلامي. فحروب التّطرف ذات الجوهر السياسي استباحت الإنسان والمقدّس بشكل يعيدنا حادثة قصف ابن الزبير للكعبة بالمنجنيق، واستباحة جيش يزيد للمدينة والمسجد النبوي، ناهيك عن صنوف قطع الرؤوس التي طالت حتى أحفاد نبيّ الإسلام وعائلته. وإذا عدنا إلى حادثة مكّة، ولكن هذه المرّة تسليح الحرم المكّي مع جماعة لا تؤمن بالمحرّمات إذا ما ارتبط الأمر بتحقيق هدفها الأسمى ألا وهو التمكن من الخصم بوصفه عدوّ الله. ولا حرمة بعد ذلك لمن تنزّل لدى الجماعة منزلة عدوّ الله. حينئذٍ أي مواجهة مع داعش من داخل الحرم -الذي سبق لعائلة ابن لادن أن رمّمته كما رممت القدس بما يستتبع ذلك من إجراءات وضع أجهزت التصوير والتّنصّت- ستكون مدمّرة، فلا نستغرب تهديم الكعبة أثناء تبادل إطلاق النّار داخل الحرم المكّي. إنّ معركة بين داعش والسلطات السعودية حتماً ستكون حول الحرم، إذا ما اتخذت داعش قرار الحرب على السعودية من الدّاخل. فداعش تدرك أي قيمة للحرمين الشريفين إذا ما استطاعت أن تسيطر عليهما عسكريًّا. هنا نستحضر تجربة جهيمان العتيبي، الذي يبدو في نظر داعش مجرد درويش سلفي لا يحسن ممارسة الإرهاب المقدّس. هذا مع أنّ كثيراً ممن هجا طريقة داعش من أبناء ملّتها ربطوا بين مشروع البغدادي وبين حركة جهيمان العتيبي، مثلما فعل أبو قتيبة في رسالته الموسومة بـ«ثياب الخليفة». من الممكن أنّ نهاية المسار الذي تسلكه داعش سيؤدّي بها حتماً إلى الثأر لجهيمان العتيبي. لقد أخذت داعش فكرة مسبقة عن قدرات الجيش السعودي للصمود في مواجهة أي حركة مسلّحة غير نظامية، انطلاقاً من تجربة الحرب على الحوثيين. ويبقى احتمال نقل داعش، أو أي جسم سيتولّد من رحمها، للمعركة إلى السعودية أمراً وارداً جدًّا لأسباب كثيرة، منها: أنّ الحاجة إلى الرأسمال الرمزي سيجعل حالة الهذيان الداعشي تدفع باتجاه التفكير في احتلال مكّة اليوم أو غداً. فداخل المملكة العربية السعودية توجد أكبر حاضنة شعبية لفكر القاعدة عموماً. ولا تتطلب عملية الاستقطاب سوى الإقناع بعدم شرعية الولاء للسلطة. وهذا ما حدث في حركة جهيمان. فبعد أنّ عملت في إطار الجماعة السلفية المحتسبة تحت رعاية ابن باز منذ بداية الستينات سرعان ما حصلت انشقاقات وتغيّر الموقف، ليس في طبيعة التفكير بل في طبيعة الموقف من شرعية السّلطة. ومهما حصل من تطور في النسيج الاجتماعي فهو لا يزال ضعيفاً أمام أمواج الثقافة الدينية الوهّابية التي تعيد إنتاج نفسها بأشكال متعدّدة.

تصدير السلفية الجهادية ليس حلًّا

لقد كان هناك سبب رئيسي أجّل الثورة السلفية من داخل السعودية هو الجهاد الأفغاني. كان المطلوب أنّ يتم احتواء هذا الجهاد أمريكيًّا ووهّابيًّا خوفاً من أن يتكامل مع الثورة الإيرانية. منحت الوهّابية هويّة السلفية الجهادية للجهاد الأفغاني غير أنّ هذا الأمر لم يتحقق بشكل كبير، وظهرت ملامحه إبّان حكومة المجاهدين المتعددة المشارب، مما أدّى إلى خطّة اجتياح طالبان لحكومة المجاهدين لتعزيز الهوّية الوهابية لأفغانستان منعاً لأيّ تقارب مع إيران تفرضه استحقاقات الجوار الجغرافي. وهناك بدأت حركة تصفية رموز الجهاد الأفغاني المعتدلين وغير الوهّابيين. وهناك أيضاً كان لحادث قتل الديبلوماسيين الإيرانيين التسعة الأثر البالغ لإحداث شرخ بين أفغانستان وإيران. كانت القاعدة هي حكومة الظّل في دولة طالبان. لكن تعين القول بأنّ سنوات من الجهاد الأفغاني التي شكلت قبلة لكل الجهاديين من داخل السعودية والذين كانوا خلايا سلفية جهادية نائمة خفّف الوطأ عن السعودية. ونستطيع معاينة ذلك من خلال أنّ سنوات الجهاد الأفغاني لم يشهد أي تمرد سلفي من داخل المملكة. في حين بداية التمرد بدأت عمليًّا بعد نهاية الجهاد الأفغاني وبداية الحديث عن القاعدة، ومع تفجيرات الخبر التي سعى الإعلام إلى تحويل الأنظار عن مسؤوليها الحقيقيين واتهام إيران بذلك، قبل أن يظهر للرأي العام أنّ القاعدة هي من كان وراء هذه العملية. ولأجل تحقيق هذا الغرض أصبحنا أمام حاجة لخلق أفغانستان أخرى لامتصاص السلفيات الجهادية وتشكيل محاجّ أخرى للجهاديين، فكانت الشيشان ثم العراق ثم سوريا وهكذا. ودائماً كانت ارتدادات الفشل في هذه الدول تشكل بداية تهديد للسعودية والبلاد العربية الأخرى. لم يكن الحلّ جذريًّا بل كان مجرد عملية ربح الوقت حتى إشعار آخر. وكان الحلّ السهل هو البحث عن بؤر صراع جديدة لتصدير أزمة إرهاب السلفية الجهادية إليها. وهذا يعني أنّنا لن ننعم باستقرار حقيقي في المنطقة، وبأنّ الإرهاب أصبح عنصراً وظيفيًّا تتوقّف عليه الحاجة لاستقرار الجبهة الداخلية للسلفية التقليدية نفسها. إنّ تصدير السلفية الجهادية إلى مناطق الهند الصينية والبلقان وغيرها من شأنه تفجير التخوم الإسلامية نفسها. وإذا كان البعض يعتبر أنّ سبب جاذبية واستقرار الإسلام في هذه المناطق ناتج عن حركة التجار والدعوة فإنّ ما لم تلتفت إليه هذه المقاربات هو أنّه تمّ ولأسباب جيوستراتيجية وعاها المسلمون في تلك الأثناء أنّ أطلقوا على تخوم الهند حركة صوفية كبرى كادت تتماهى مع التيارات الروحية في هذه الأقاليم، وهو ما شكل عنصر تسامح باعتبار أنّ الأمر كان يدور بين أمرين: إما وضع حركات تكفيرية متشدّدة تنتهي بتصفية الأقليات مما يؤدي إلى حرب ساخنة مع الهند، وإمّا وضع حركة متسامحة ذات زخم روحي ومعنوي يوقف عملية الاستقطاب المعنوي من جهة ومن جهة أخرى يرسي ثقافة للتسامح مع التنوع. هذا يفسّر سبب جلب تيارات فكرية صوفية من أقصى الغرب الإسلامي إلى أقصى الشرق الإسلامي(= ابن عربي مثالاً). غير أنّ خريطة داعش اليوم تسعى لتغيير هذا الوضع الجيوستراتيجي التقليدي للعالم الإسلامي لتضع على تلك التخوم حركات استئصالية، وهو ما سيثير حروباً عظمى على العالم الإسلامي، هذه المرة من جهة الهند والصين. وهذا الوضع هو نفسه ما يقتضيه الموقف الجيوستراتيجي الغربي. حيث أصبحت هذه الجماعات الإرهابية تشكل جماعات وظيفية للغرب أكثر مما فعلت الأقليات المسيحية التي أصبحت مستهدفة بهذا العنف المزكّى غربيًّا، كما حصل في العراق وسوريا ولبنان اليوم.

يسعى الغرب في مخطّطه الجديد لاستنزاف منطقة أوراسيا عن طريق هؤلاء الجهاديين. ولكن الأمر الأهم هو لبناء حاجز نفسي بين المسلمين وكلّ من الصين وروسيا تحديداً. ومثل هذا حصل إبان الجهاد الأفغاني ضدّ الاتحاد السوفياتي وأيضاً ضدّ الصين وعلى تخوم الهند. هذا الحاجز النفسي هو حاجة جيوستراتيجية للغرب لمزيد من الهيمنة على الشرق الأوسط والحؤول دون وصول الصين وروسيا إلى المنطقة. المواجهة القادمة ضدّ دول «بريكس» سيلعب فيها التطرّف التكفيري دوراً كبيراً من شأنه إذكاء الكراهية العربية ضدّ الصين وروسيا والهند تماماً كما نجحوا في إذكائها ضدّ إيران. وستتجلّى آثار هذه الكراهية في جملة المذابح التي سنشهدها على خلفية الصدام بين الأقليات المسلمة هناك وتلك الدّول، ستستتبعه قطيعة بين العرب وتلك الشعوب بما يؤدّي إلى طرد الهنود من الخليج، ومنع الاستثمارات والتعاون مع الصّين. في أفريقيا ستتكفّل جماعات الإرهاب التكفيري مثل بوكو حرام والقاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وباقي التشكيلات المتعاونة معها على طرد اليد العاملة أو الاستثمارات الآتية من بلدان الممانعة أو «بريكس». وسيكون المتضرّر الأوّل -كما لمّحنا مراراً- هو الجالية اللبنانية في أفريقيا المعرّضة لمخاطر العنف في هذه البيئات التي تتصاعد فيها موجات التطرف التكفيري، وأيضاً بالدرجة الثانية سيواجه المستثمرون والجالية الصينية الآخذة في التكاثر هناك المصير نفسه على المدى المتوسط والبعيد.

لقد بات العنف الإسلامي إذن حاجة للغرب أكثر من كونه حاجة إسلامية. لا سيما حينما نجد أنّ هذا الفائض من العنف لا يتّجه نحو إسرائيل، بقدر ما يتّجه نحو إضعاف المقاومة وبؤر المقاومة للاحتلال الإسرائيلي. ومن هنا بات من الصعوبة بمكان الحديث عن تحصين السلفية التقليدية من اجتياح السلفية الجهادية. فأكثر السلفيات التقليدية التي تهاجم السلفية الجهادية هي سلفيات متملّقة وفاقدة لمصداقيتها ومستهلة.

يتذكّر المهتمون بقضية جهيمان العتيبي حين بدأ حركته منشقاً عن ابن باز نفسه أنه نعته بأعمى البصر والبصيرة. وأما شيوخ السلفية التقليدية اليوم في نظر أمراء القاعدة فهم شيوخ سوء منحرفين ووعاظ سلاطين. ونلاحظ أن وتيرة السلفية الجهادية في تزايد ومواردها في تكاثر وقدرتها على الاستقطاب لا تتوقّف، وأنّ خطاب السلفية التقليدية بات غير قادر على تأمين نفسه من السلفية الجهادية. وكلّما زاد التهميش وعمّ الفقر إلَّا وتكاثرت حظوظ السلفية الجهادية في المنطقة العربية. فلقد كانت تلك المنشورات والكتب السلفية التي وزعت خلال الثمانينات في كل المنطقة العربية هي مصدر انبثاق جيل كامل من السلفية الجهادية التي أصبحت تهدد حتى البلدان العربية الأخرى التي تعتبر الوهابية دخيلة عليها. ولكنه وبسبب التغلغل الوهابي لجسم المؤسسات والحركات الإسلامية في هذه البلدان، أصبحت السلفيات الجهادية قضية داخلية لكل هذه البلدان ولم يعد يجدي بعد ذلك أن يقال: إنّ مصدر هذا البلاء هو دول مشرقية.

السلفية الجهادية على هامش أحداث 11 سبتمبر

ثمة خطأ شاع يومئذٍ يرى في أحداث الحادي عشر من سبتمبر أو ما حدث تباعاً، هو تحقق للنبوءة الهنتنغتونية، بينما الواقع يثبت أن هنتنغتون لم يفعل أكثر من وصف حالات ظاهرة بمفاهيم ملتبسة. فهي أشبه ما تكون بقراءات وأحكام بأثر رجعي حول ما حصل خلال نصف قرن، أي تحديداً منذ أن أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية لاعباً أساسيًّا ووارثاً «شرعيًّا» لملف الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية، وما أنتجه هذا الوضع الجديد من إفرازات وتداعيات شملت معظم العالم العربي والإسلامي. وقد بنا هنتنغتون على هذه الحقائق رؤية تتسم بالعمومية من جهة، ومن جهة أخرى بالتشاؤمية. على أن التشاؤمية هي ما يسم، حقًّا، جزءاً من الإرث الشعوري التقليدي للأمريكي الذي جرب في مرحلة من المراحل العزلة السياسية. وقد جاء هنتنغتون أخيراً -وربما اختار التوقيت المناسب- لإعادة هذا الإحساس التقليدي إلى الذهن الأمريكي.

هذا علاوة على أنها رؤية مسكونة بذهان الرهاب من الآخر، والاستهتار بثقافته. وهذه موضوعة متشعبة في حد ذاتها. إنما الحديث عن الوجه الثاني الذي يتعلق بهذه الرؤية من حيث نعتناها بالعمومية. لا سيما حينما نعتبر ما سيقع غداً، صراعاً من جنس حضاري.

في الواقع لا نحمل هنتنغتون القول بأن حرب الإرهاب أو محاربة الإرهاب هما مظهران للصراع الحضاري؛ لأن هنتنغتون اعتبر كل أشكال النزاع والصراع المستقبلي بين الحضارات سوف تكون فيه الدول بمثابة اللاّعب الأساسي والرئيسي. في حين ما يحدث الآن لا علاقة له بما قرره هنتنغتون، بل إننا نجد خلافاً لذلك رأياً يتبناه توفلر حين كتب عن تحوّل السلط قبل أن يتحدث هنتنغتون عن صدام الحضارات. إن الدول لن تكون هي اللّاعب الأساسي والوحيد في المسرح الدولي ولا هي من سيحتكر العنف. بل قد نجد قوى جديدة قد تمثلها حركات «فوق وطنية» كالخضر أو المافيا أو المنظمات الإرهابية الدولية.

إذن، وإن كان ولا بد أن نتحدث عن نبوءة في هذا المجال فهي في صالح ما طرحه توفلر وليس هنتنغتون. لعل نقطة القوة ونقطة الضعف في الوقت نفسه في مقولة هنتنغتون هي ردّ الصدام الحضاري إلى الدين والثقافة. ذلك لأنه من جهة كونها نقطة الضعف، نلاحظ حصول نوع من الالتباس في منشأ الصراع بين الدول والجماعات. فهو يختزلها في المنشأ الحضاري والثقافي، مع أن حروباً خطيرة كانت ولا زالت تقوم بين إخوة أعداء ينتمون للمنطقة نفسها أو الحضارة نفسها أو الثقافة نفسها، بل ربما بين الحزب الواحد نفسه. في حين أن تعايشاً سلميًّا واضحاً بين المختلفين على اختلاف ثقافتهم أمر له أمثلة ونماذج حتى في راهننا الموسوم بالصراع الثقافي. إن أطروحة هنتنغتون تخفي مناشئ الصراع الحقيقي، التي كانت ولا زالت وستبقى، تتمثل في العامل الاقتصادي والنزعات السياسية على الحدود والحروب التحريرية من أجل تقرير المصير ومن أجل سيادة الأمم وكرامتها.

أما من جهة كونها نقطة قوة، فذلك لأننا من جهة نقول: نعم، إن الحروب التي تحصل الآن قد تحصل غداً وإن كانت مناشئها (اقتصاد-سياسية)، تتصل بالمصالح القومية والسيادية فهي تأخذ لوناً ثقافيًّا. فالثقافة هنا ليست هي المنشأ بل هي الوظيفة. ولذا لا عجب أن يرفع صدام حسين شعار الإسلام والعروبة في مواجهة الأمريكان كما حمل الأمريكيون يافطة النسر النبيل، محرر الشعوب، وغيرها من العناوين، إما ذات منشأ ديني إنجيلي أو ذات صفة تتعلق بالقيم الديمقراطية. ولكن المستبعد ما بين اليافطتين هو أن ثمة قوة غاشمة تسعى لوضع يديها على النفط، في حين تترك للشعوب والدهماء أن ترعى وتقتات على شعارات الحداثة والبولميك السياسي، وكأنه حطام من العلف الذهني اليومي. إذن سوف تكون فكرة هنتنغتون صحيحة في حالة واحدة فقط، هي حينما نعتبر الثقافة عاملاً وظيفيًّا وليس منشأ موضوعيًّا للحروب. إذا كان فوكوياما يؤكد بأن لا وجود للوحوش على الأبواب، فالأولى أن نقول بأن لا وجود لحروب حضارية أو تهديد حضاري وراء الحدود. فالصراع هو موضوع الحضارة نفسها ويتحدد بأنماطها ويتغدى على تداعياتها. ليس ثمة حروب حضارية، بل ثمة فقط حروب الإنسان داخل حضارته وتمأزقه داخلها. ولهذا السبب تحديداً يقدم هينتنغتون نصيحة إلى الولايات المتحدة الأمريكية، بأن تكفّ عن حشر أنفها في واقع هو آيل إلى الصراع لحتمية هذا الواقع الثقافي المختلف. نعم، كل دولة بهذا المعنى لها حدود دموية مع النّاشزين عنها ثقافيًّا. هذه من جهة فيها خطورة على التعايش السلمي. لكنها من جهة أخرى تطرح نقطة استفهام حول وجود كيان صهيوني يحمل ثقافة عنصرية في قلب عالم يختلف معه ثقافيًّا وحضاريًّا. ألا يعني هذا أن الذين يساندون إسرائيل اليوم هم بشكل أو بآخر يرسمون حولها حدوداً دموية؟

الخوف على الهوية والعنف المسلح

قيل: إنّ السؤال الذي كان يطرح خلال الحرب الباردة هو: مع من نحن. ولكن بعد سقوط الاتحاد السوفياتي أصبح السؤال: من نحن. أي تفجّر سؤال الهوّيات. ولا شيء نهائيّ هنا. لقد كان هينتنغتون كما وضّحنا مراراً بصدد إرساء نموذج لتفسير الأحداث الدّولية عشية سقوط الاتحاد السوفياتي، أي بعد أن استنفذ نموذج الحرب الباردة أي قدرة على تفسير الأحداث. ولكنه لم يمنح الصّفة الأبدية للنموذج الحضاراتي. غير أنّنا ندرك أنّ الحرب الباردة رجعت بقوّة بعد أن استعادت الأطراف المتضرّرة قدراتها على استئناف هذه الحرب بعيدة المدى. وبالتالي نحن اليوم في سياق عودة السؤال: مع من نحن. ففي الظروف التي كان العالم فيها يعيش في ظل توازن دولي سياسي وأيديولوجي، كان الأمر أخف نوعاً ما على الهويات. لا سيما الهويات المهددة في وجودها. وهذا ما يفسر أن الانتماء حتى هذه الفترة كان أحياناً يأخذ معنى الابتزاز. هذا لا يعني أن الهويات لم تكن تواجه تحديات في هذه الفترة، ولكن التوازن الدولي كان يتيح -على الأقل- لهذه الدول ولهذه الهويات هامشاً للمناورة. ومن هنا نفهم كيف استطاعت أن تثبت نفسها إلى حد ما منظمات وهيئات شتى، كمنظمة دول عدم الانحياز في صلب هذا التوازن مثلاً. وبالفعل، كان السؤال المطروح هو: إلى أين تنتمي؟ وهو سؤال عام. إذ لا يعني الانتماء إلى المعسكر الشرقي مثلاً، انتماءً مطلقاً لمنظومته الأيديولوجية السياسية والاقتصادية بالضرورة. أما بعد نهاية الحرب الباردة وبعد افتقاد العالم للتوازن، أصبح سؤال الهوية يواجه تحدياً خطيراً، لا سيما في ظل العولمة التي لم تجد أمامها سوى قطباً واحداً يمتلك كل أسباب احتكارها. أصبح سؤال من نحن مؤشراً حقيقيًّا لوجود هذه الكيانات في دائرة الخطر. فقد يكون هذا التساؤل هو بداية لنشوء وعي جديد بمسؤولية النهضة، وبداية الرجوع إلى الذات. ليس للتقوقع حول سؤال الهوية، بل لتأهيل الذات كي تكون في مستوى التحديات التي تواجهها اليوم. لكن حينما يتراجع هذا الوعي ويصبح سؤال الهوية يعالج بصورته النكوصية المبسطة، هنا تحصل الكارثة.

يبقى السؤال الأساسي هنا: هل إنّ الهويات الضعيفة التي تعاني الهشاشة مرشّحة دائماً لتبنّي خيار العنف إثباتاً لوجودها أم أنّ اللجوء إلى العنف هو ردّ فعل على الإقصاء؟ والحقيقة هي أنّ كليهما متغير في معادلة صعبة. فإحساس الهويات بالهشاشة والضعف بالتحديات التي تفرضها القوى الكبرى كما يحصل اليوم في العالم، يؤدي إلى محاصرة هذه الهويات في الزاوية الضيقة بحيث لا تجد مجالاً آخر للتفاوض حول حقها إلَّا باللجوء إلى خيار العنف.

فالقوى الكبرى تتحمل النسبة الأكبر في السلوك العنفي الذي يصدر عن بعض هذه الهويات. سواء أكانت كيانات سياسية قائمة أو حركات أو منظمات داخل هذه الكيانات. فالعنف صناعة مشتركة تنمو بشكل طبيعي في مناخ التوتر بين كيانات ضعيفة أو جماعات مضطهدة وقوى عظمى لا تعترف لهذه الأخيرة بحقوقها. هذا ناهيك عن أن العنف في ظل هذا الانزياح في التلبرل والتّوحش الرأسمالي ومجتمع الاستهلاك ليست ظاهرة خارج نطاق الاستثمار. فكل شيء هنا قابل للاستثمار في هذا المجتمع، حتى ولو كان الأمر يتعلق بالعنف فعلى الأقل إنّ المجتمع الرأسمالي يحتوي على منشآت لصناعة السلاح؛ لا أعني التقليدي الذي يصلح للحروب بل ذلك الجيل من الأسلحة التي تصلح للإرهاب. كما أن ثمة هوليود التي تجد نفسها تستثمر في العنف. فحينما نقول الاستثمار،فإننا نقول التسويق. وبلا شك في زمن العولمة سنجد اجتياحاً لهذه السلعة ذات النكهة الهوليودية المتاحة في يد الجميع. إذن الإرهاب تصنع مبرراته وفلسفته وأدواته وتقنياته في هذه الدول العظمى، وهي التي تقدم دروساً لهؤلاء المحبطين إن أرادوا أن يمارسوا العنف بأن يمارسوه على هذه الطريقة. أي على الطريقة الأمريكية. وهذا الذي حصل في أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، حيث ظهر للعالم وكأنها بالفعل أمام مقطع من مشهد هوليودي.

وتظلّ هذه العلاقة التي كادت أن تصبح علاقة نمطية بين التنظيمات الإسلامية والعنف، فيها ما هو حقيقي وفيها ما هو مغالط. إذا أردنا أن نتحدث عن الوجه المغالط لهذه العلاقة، قلنا: لا يخفى أن ثمة أكثر من مبرر لحشر الحركات الإسلامية في هذه الصورة النمطية التي تجاوزت كونها تهمة موجهة للحركات الإسلامية ذات برنامج سياسي واجتماعي إلى أن تصبح تهمة للإسلام نفسه، كما لاحظنا ذلك في تقارير استشراقية في فترات ما. لا ننسى أننا في عالم يوجد فيه من يحمل كراهية للإسلام من منطلق عقائدي أو أيديولوجي أو ثقافي سياسي. والذي بلغ أوجه مع الإسلاموفوبيا التي أصبحت لعنة تتربص بجميع المسلمين سواء أكانوا ينتمون إلى الحركات الإسلامية أو لا ينتمون. ولقد غذّت الحركات العنفية -كما تمثّلها القاعدة وبلغت أوجها مع داعش- الإسلاموفوبيا مما يطرح سؤال التبادل الوظيفي بين سلوك هذه الجماعات وتعزيز خطاب الاسلاموفوبيا في الغرب. أصبحت للمسألة علاقة مباشرة بالهوية.

وبالإمكان تقويض هذه المغالطة، وذلك بمزيد من العمل والاشتغال في سبيل تقديم رؤية أكثر نضوجاً عن حقيقة الإسلام بوصفه دين تسامح وحوار وإنماء للمهارات الإنسانية.

مثل هذه المهمة هي مسؤولية ملقاة على العلماء والمثقفين والمفكرين ومراكز البحوث والدراسات والإعلام، دون أن نستثني دور الدولة في مجال تمكين أهل الرأي والخبرة والاختصاص من النهوض بهذا المشروع.

أما الجانب الحقيقي لهذه العلاقة بين الحركات الإسلامية والعنف، فيتداخل فيها الموضوعي بالذاتي. فلا يخفى كذلك أن هذه الحركات في نشأتها الأولى داخل دول موصوفة بالشمولية والاستبداد كانت قد تلقت ضربات قاتلة، ساهمت بشكل من الأشكال في انشداد هذه الحركات في خيارات العنف المضاد. مما أهل المناخ لتبلور خطاب محنوي تكفيري انعزالي بلغ مداه مع التيارات التي جعلت من العنف وسيلتها الوحيدة في تصفية حساباتها. فهذه الخطابات كانت تقتات على هذه الأدبيات المحنوية التي يمكن تكوين صورة عنها من خلال عناوين مثل «الإخوان المسلمين في السجن الحربي وليمان طرى» أو كتاب: «لماذا أعدموني» وغيرها من هذه المنشورات التي حولت المشروع الإسلامي من دعوة إلى التربية والتخليق والإصلاح إلى دعوة للانتقام والتكفير.

يمكننا أن نتحدث عن ظاهرة نكوص هذه الحركات في هذا المفصل التاريخي المحنوي، حيث تراجع خطاب حركات الإصلاح الإسلامي التي كان قد دشنها جيل من الإصلاحيين أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدو والكواكبي... إلخ، إلى خطاب نقيض، انتقل من فكرة الجامعة الإسلامية كما نادى بها الأفغاني وتلامذته إلى فكرة الجماعة الإسلامية.

لقد شكلت أفكار سيد قطب ثورة ضدّ كلّ الأفكار التي بدت له ملتبسة ولا تقف على جوهر مشكلات العالم الإسلامي، منذ محمد عبدو حتى مالك بن نبيّ. لقد حاول محمد قطب أن يقدم رؤية غير تاريخية عن التّاريخ. لقد نقل عن غيره ومن دون إحالة عن ازدواجية المعايير لدى المسلمين القدامى في أخذهم عن البزنطيين والفرس. واعتبر أنّهم أخذوا العلوم ولم يأخذوا الأفكار وأنماط السلوك والاعتقادات باعتبارها في نظرهم من أنماط الجاهلية. والحقيقة أنّها قراءة سطحية جدًّا؛ لأنّ الذي تجنبته حركة النقل والترجمة هو الديمقراطية اليونانية الأولى، وذلك لأنها لم تكن ناضجة بالقدر الذي كانت عليه الآداب السلطانية وأخلاق الملك عند أهل فارس. ثم إنّ اليونان لم يكن لهم من يدافع عن ثقافتهم من داخل العالم الإسلامي كما هو الأمر بالنسبة للثقافة الفارسية.

نشطت حركة الترجمة في زمن التأسيس للاستبداد العربي والاسلامي. وقد دعا محمد قطب إلى إعادة النظر في تلك الأسماء اللامعة التي اعتبرها من الأسماء التي لمّعها الاستعمار.

ومن يا ترى يكون هؤلاء العملاء الذين أدوا خدمة للاستعمار الصليبي الصهيوني في نظر محمد قطب؟ يجيب بالقول: «بهذا الميزان نزن رفاعة الطهطاوي، ومحمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، وسعد زغلول، وقاسم أمين، ولطفي السيد، وطه حسين، وعشرات غيرهم وعشرات.. فنجد فيهم عاملاً مشتركاً على اختلاف مواقفهم ما بين الغفلة والعمالة المأجورة، أنّ شخصياتهم ضئيلة. أضأل بكثير مما صورت لنا بواسطة أجهزة التكبير -أو أجهزة التضليل-»[4].

هذه العبارة تؤكّد أنّ سؤال محمد قطب كما هو سؤال سيد قطب -كما يتّضح في نقده لموقف مالك بن نبيّ بخصوص أهمية قيد المتحضّر بالنسبة للمجتمع الإسلامي- لم يكن يعنى بالسؤال النهضوي أو الحضاري. وهذا هو المظهر البارز للنكوض الذي يؤدّي إلى حالة التّوحّد والعزلة الشعورية التي مآلها الحتمي العزلة المادية التي تمنح العنف شرعيته وتبريراته.

لقد انتقل الفكر القطبي من فكرة الحوار ومحاربة الجهل إلى فكرة تدعو إلى ممارسة العزلة الشعورية في المجتمع المسلم بوصفه مجتمعاً جاهليًّا، لا لشيء إلَّا لأن الشريعة لا تحكمه. ما هو شكل هذه الحكومة وما هي تفاصيلها؟ هذا أمر لا وجود له. بل لا جدوى من طرحه الآن!؟ وإذن كل هذه المعركة قامت للمطالبة بشيء لا نملك حوله تصوراً حقيقيًّا. بل إن سيد قطب الذي أطنب كثيراً في حديثه عن الحاكمية، لم يكن يحمل تصوراً عن الحاكم الشرعي ومشروعية السلطة. ولهذا السبب تحديداً نجد في نصوص داعش والقاعدة التي دارت حول مفهوم الحكم والإمارة والدولة جنوحاً خارج سيد قطب، حيث لا نكاد نجد سيد قطب في مجال أجرأة بناء الدولة أو من يحكم أو تنصيب الأمير. إنهم لن يجدوا عند سيد قطب سوى أفكاراً عامّة حول الحاكمية لا تنفع في مجال التأسيس والتأصيل الإجرائي لقيامها. فيكون الرجوع إلى نصوص ما قبل سيد قطب في قلب التراث حول فقه البيعة والسياسة الشرعية.

وقد جاءت بعد ذلك الطامة الكبرى التي زادت الطينة بلة حيث حصل الزواج التاريخي بين الخطاب الإسلامي العنفي وبين الفكر الوهابي، خاصة ما يتعلق بذلك التراث التكفيري لابن تيمية. أفرز بعد ذلك أشكالاً من الحركات أكثر تشدداً واستعداداً لممارسة العنف. فبتنا نسمع بالهجرة والتكفير أو بالسلفيات المقاتلة.

ومع ذلك نقول: إن تقويض هذا الوجه من العلاقة بين الحركات الإسلامية والعنف هو أيضاً مهمة ملقاة على أهل الفكر والعلم، لممارسة التنوير وفك العزلة الشعورية عن هذا الجيل من الشباب الذي يقع فريسة لخطاب متمأزق يحمل مركّب مرض الأمة العضال، وضحية للجهل والاستبداد والتهميش وانسداد باب الاجتهاد.

ليس بالضرورة أن يكون التصحيح بالعنف الذي كان سبباً في نشوء هذه الأصناف من الحركات المتشددة، فهذا من شأنه أن يشكل المناخ الذي يتيح لهؤلاء مزيداً من النمو والإصرار. بل المطلوب مزيد من الانفتاح والتعليم والتسامح، لاجتثاث جذور مناشئ هذا الفكر الانعزالي.

هناك اختلاف في المرجعيات وفي طبيعة الخطاب وفي الأهداف والوسائل، فهناك من الحركات الإسلامية من تجد نفسها في حرج شديد مما يحدث هنا أو هناك من أعمال عنف تصدر عن بعض الحركات العنيفة المتطرفة. ليس بالضرورة أن يرجع ذلك إلى المنابع الفكرية لهذه الحركات، فقد تجد وحدة في المرجعية بين حركة عنيفة هنا وحركة مسالمة هناك. ففي مثل هذه الحالة يعود السبب إلى المناخ السياسي الذي تعيش فيه هذه الحركات. في البلدان القمعية، أو في الظروف الاجتماعية الصعبة، أو في مناخات الجهل والانسداد العلمي تنمو ظاهرة الحركات العنيفة. في حين نجد مثل هذه الحركات تنحو أكثر إلى التهدئة في مجتمعات أكثر تسامحاً وديمقراطية. وتبقى مناهج التعليم الديني معنية بالأنسنة والتكيف مع مقتضى التعايش والتسامح واحترام الآخر. ولا زالت هذه البرامج في كثير من البلدان تكرّس ثقافة العنف الرمزي الذي يتجه في الغالب إلى العنف المادي. هنا يكون التكفير اكتسب صفة قانونية ورسمية. وهنا منبع الخطر.

ثمة تحدٍّ أمام الحركات الإسلامية التي تدعي التسامح والانفتاح في حين تراها عاجزة عن تحديد منطلقات فكرية مؤصلة تحدد هويتها الفكرية وخطابها. إن ما يميز الخطاب الفكري لبعض الحركات الإسلامية في العالم العربي التي تدعي التسامح والانفتاح وغيرها عن الحركات العنيفة، لا يتجاوز مسألة الشعار، في حين تظل البنية قائمة كأنها بنية عنف نائمة ومحتملة.

إذن نحن بصدد بنية فكرية مشتركة يلعب فيها الشرط الموضوعي دوراً أساسيًّا في ظهور أو غياب ظاهرة العنف لدى الحركات الإسلامية. وهذه البنية للأسف التي أصبحت كالسرطان داخل الجسم العقائدي لهذه الحركات لم تستطع القطع مع الخطاب الخوارجي الذي عاد إلى الواجهة في خطاب بعض الحركات الإسلامية الذي يصرف بأشكال مختلفة، تارة دفعة واحدة وبالجملة، وتارة بصورة مخاتلة وبالتقسيط.

لا نتحدّث هنا عن الخوارج كفرقة كلامية أو طائفة دينية، وإنما نتحدّث عن بنية خطاب يمكن أن تجده في صلب مختلف أدبيات بعض الحركات الإسلامية التي لم تقم حتى الآن بنقد ذاتي جذري لخطابها الحركي. هذا الفكر في أولى تمظهراته التاريخية والراهنة يقوم على أساس الاستهانة بمشروعية السلطة. إذ لا يخفى أن الفكر الخوارجي هو الفكر الوحيد الذي لا يرى ضرورة لقيام الدولة، وذلك بناء على الشعار التاريخي المغلوط «إن الحكم إلَّا لله»، وهو للأسف الموقف الذي ترجم بشكل صريح في فكر المودودي، وبلغ مداه مع الفكر القطبي، مما جعل فكرة الخوارج اللاّدولتية تستعيد الحنين إلى شكل آخر من الدّولة. وهنا أصبحنا مع دولة اللاّدولة في مفارقة يصعب هضمها في علم السياسة. هذا رغم أن الجواب التاريخي -كما صدر عن الإمام علي تقويضاً لهذه المغالطة الخوارجية- «كلمة حق يراد بها باطل، وقد علموا أنه لا بد من أمير بر أو فاجر». وكانت هذه بمثابة المسوغ الشرعي المغلوط الذي برر به الخوارج كل الأعمال التخريبية عبر التاريخ.

يصعب الحديث عن خوارج العصر بعد أن عرف هذا المفهوم تمييعاً ممنهجاً نتيجة تداوله المفرط التّدليس. فالخوارج الجدد يتبادلون هذه الصفة بينما تنطبق شروطها عليهم. هذا ما ستكشف عنه حروب الخوارج - الخوارج (الجدد)، كما ظهر في حرب داعش على تنظيم القاعدة الأم. يا لها من مفارقة حينما يأتي أبو قتادة الذي سبق وأفتى الجماعات المقاتلة بجواز قتل الأطفال في الجزائر، يتّهم داعش بأنّها من الخوارج. نلاحظ أن فكرة الجهاد حينما تبناها الخوارج حولوها إلى فوضى تهدد الكيان الداخلي أكثر مما توجه نحو الدفاع عن حمى الأوطان. إنه جهاد أعمى لا فقه يحدده ولا أخلاق تهذبه ولا فكر ينوره. وإذا أردت أن تعرف كيف يسري هذا الفكر في صميم الخطاب الخوارجي عبر التاريخ، يمكننا الحديث عن مثال واحد فقط؛ لقد مرت علينا إحدى الواقعات مرور الكرام. أذكر يوم بثت قناة الجزيرة تسجيلاً عن بن لادن حيث كان في زيارة بقندهار لأحد الشيوخ الوافدين من دولة خليجية. وكانوا بصدد الحديث عن أحداث الحادي عشر ويتبادلون الأشعار والقصائد. حينما أراد الشيخ الزائر أن يصف الضربة الموجهة للبرجين أنشد يقول:

يا ضربة من تقي ما أراد بها

إلَّا ليبلغ عند ذي العرش رضوانا

ويتّضح أنّ هذين البيتين هما لعمران بن حطان رأس الخوارج. إن هذين البيتين كان قد مدح بهما هذا الأخير ابن ملجم قاتل علي بن أبي طالب. إذن الخوارجي المعاصر يشبّه الاعتداءات على برجي التجارة بطعنة الإمام علي!؟ انظر كيف أنهم يحفظون قصائد الخوارج عن ظهر قلب. هذا ما أسميه بسريان الفكر الخوارجي في خطاب الجماعات المتشدد.

لكن إلى أيّ حدّ كانت هذه الجماعات ردّ فعل عن فشل تطبيق برامج في الإنماء والإصلاح السياسي والاقتصادي كما يقولون، أو ردّ رفعل على سياسات التّحديث؟

مرة أخرى نقول: إن هذه الأحكام لم تتحرّر من آفة الاختزال. وهي تكشف عن تصور مغلوط للحداثة نفسها؛ هذه الأخيرة التي لا تزال محور جدل لا من حيث كيفية تعريف دلالاتها وتطبيق مضامينها في مجتمعات، وإن كان ثمة مشترك بين تاريخها الخاص والتاريخ الغربي الخاص الذي يتلخص في وحدة المسار التاريخي العام؛لأن التاريخ العام في تصورنا هو ذلك الحيز المشترك بين كل أشكال التواريخ الخاصة.فلا تاريخنا هو العام ولا التاريخ الغربي هو العام، بل التاريخ العام هو حصيلة ما هو مشترك وما يشكل جملة القوانين التاريخية التي تجري على كل أشكال التاريخ الخاص. فالجدل الجاري الآن حول الحداثة هل سنقبلها كما هي، ما دامت هناك شريحة ترفض التعاطي مع الإسلام كما هو، فهناك من يرى أن المجتمع الحديث والديمقراطي يخلو من وجود مثل أعلى، لأن في النهاية لا بد من أن يطرح كل شيء للنقاش والاستشكال، وهذه نقطة هي قابلة للنقاش. لنقول، عوداً إلى بدء، بأن الحداثة التي طرحت منذ البداية على أساس هذا النفي لحضور الإسلام ضمن مناخ التوتر بين التيارين الإسلامي والعلماني في العالم العربي من شأنه أن يعزز من صعود نجم التيار الإسلامي في أفق هذا الفشل الذي منيت به التيارات الحداثية التي أنتجت -ولأول مرة في التاريخ العربي- نظماً شمولية، وقمعية لا تنموية، ولكن لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نعتبر أن هذا هو العامل الوحيد الذي يفسر صعود نجم ما يسمى حركات العنف الأصولية. فلا ننسى أن الرجوع إلى الإسلام هو مطلب روحي وربما أيضاً براغماتي. فالشعوب بطبعها ترفض الفراغ وترفض أن تتخلى عن إرثها الثقافي والديني لصالح شعارات أثبتت بأنها أعجز من أن تضعنا في مسارات الدول المتقدمة صناعيًّا وتنمويًّا وديمقراطيًّا، لا سيما أن الذين أجهزوا على الحداثة والحريات المدنية والديمقراطية والتنمية هي الدول القمعية التي جاءت إلى السلطة تحت شعارات الدول الحديثة والتقدمية.

إذن علينا أن نكون موضوعيين أكثر، فالكرة هي في مرمى الفشل الذريع لهذه الخيارات. ثم لا ننسى أنه ليس من الموضوعية أن نتحدث عن ظاهرة تنامي الحركات الإسلامية؛ لأن هذه الظاهرة -إن صح هذا الوصف- هي في مجال إسلامي، فالإسلام ليس حدث طارئاً في هذا المجال حتى نتحدث عن ظاهرة بل هو راسخ متجذر في بنية المجتمع العربي.

نعم، يمكننا أن نتحدث عن ظواهر لا تتمتع بالرسوخ في هذا المجال كالحركات المتطرفة التي لا تحمل مشروعاً ولا بديلاً حضاريًّا سوى العنف. وقد تندرج في هذا الإطار حتى الحركات الإسلامية المسالمة التي تدخل المعترك السياسي من دون برنامج تنموي وحضاري. إنّ مفهوم الخصوصية أصبح من أكثر المفاهيم التي تسلط عليها الجهل، وخضعت لضروب من الاستثمار المغلوط.

ومع ذلك نقول: إنه ليس مفهوم الخصوصية وحده الذي تعرض لهذا النوع من التمييع، بل حتى مفهوم الكونية تعرض للتعسف نفسه. لا أنكر بأنني قد تورطت في مقاربات أنثربولوجية لمفهوم الخصوصية العربية والإسلامية في فترة سابقة، وذلك نتيجة استفحال مفهوم الكونية نفسه، الجارف لكل ما هو خاص. ولكن هذه المقاربة الأنثربولوجية التي غلب عليها المنظور البنيوي للثقافة، كانت هي الأخرى رد فعل على المقاربة الأنثربولوجية الكلاسيكية، التي مالت كل الميل إلى المنظور التاريخي بكثير من التمامية.

إذن كان الأمر يتعلق بمنظورين، أو بالأحرى بين ليفي بروهل من جهة وليفي ستراوس من جهة ثانية. لكن الدعوة في تقديري قائمة من أجل إنشاء أنثربولوجية جديدة، كما دعا إلى ذلك إمبرتو إيكو، وهي التي من شأنها إخراجنا من هذا المنغلق الباراديغمي، لمدرستين أنثربولوجيتين على تمام التناقض. إذن كان الهدف من الإصرار على الخصوصية، ليس انتصاراً لسكونية الجهل، بل محاولة لفتح البنيتين على الخلاف. ففي تقديري، أنه إن كان ولا بد من قيام هذه الأنثروبولوجيا الجديدة، فلا بد من قيامها على أساس تجادل الخصوصي والكوني. فتقدم الخصوصي لا يتم إلَّا بالانفتاح على الكوني، لأنه هو من يملك قوانين التطور. إن اختراق الكوني للخصوصي هو الطريق الأوحد للتطور.

من هنا الدعوة إلى أن نتعاطف مع الإسلام بوصفه تعاليم مجردة قابلة للتشخيص في كافة البيئات. ليس الإسلام ثقافة، بل هو تعاليم قد تتفاعل مع مختلف الثقافات. ومن هنا فالمطلوب هو التعاطي مع هذه التعاليم وليس مع خبرات جماعية أو نماذج سوسيوثقافية. ففي تقديري أن الكوني هو الجامع بين كافة التقاطعات الثقافية. ففي كل ثقافة هناك هامش لما هو كوني، وما به تستطيع أي ثقافة أن تتواصل مع غيرها وأن تتجاوز سكونيتها.

إذا أحسنَّا فهم هذا التجادل استطعنا الخروج من دائرة السوء لكل أشكال التمامية، سواء أكانت كونية تاريخية أو بنيوية. فالعرب عرب والغرب غرب، ويمكن أن يلتقيا في نقطة التقاطع الكوني ويمكن أن يختلفا في طبيعة التفاعل مع هذا الكوني نفسه. إن جوهر التقدم واحد وإن تعددت مساراته. قد تكون البومة طائراً عند جميع الثقافات، لكن ما ترمز إليه قد يختلف من ثقافة إلى أخرى. فهي نذير شؤم عند البعض ورمز للحكمة عند البعض الآخر، وربما طائر عادي عند الجميع.

هذا ما أعني به جدل الكوني والخصوصي! ومع ذلك لا بدّ من القول بأنّ المواقف الرفضوية للقيم الكونية العقلانية تصدر عن فئات محدودة جدًّا ولا تمثل عموم الفعاليات الإسلامية. ثمة شرائح واسعة من داخل الحركات الإسلامية لا يرون هذا التناقض بالشكل الذي يطرح الآن وإن كان لديهم بعض التحفظات على بعض المفاهيم أو المبادئ أو المواثيق الدولية. وهذه الشرائح تقبل بالحوار وبالنقاش. مع ذكر التفاوتات على مستوى الانفتاح من جهة لأخرى، لا أدل على ذلك من أن كثيراً من هذه الحركات قبلت بالعمل ضمن مؤسسات الدولة وضمن سيستيم système الدولة الحديثة. ولا أهمية بعد اليوم لتلك الدعوات المتطرفة التي تكفر بالدستور، ولا تستحقّ أن تعار أي اهتمام؛ إذ لا مستقبل لها، لأنها تعيد المجال إلى الموقف الخوارجي الأعمى «لا حكم إلَّا لله». والجواب القديم المتجدد لهذه المقولة الخوارجية هو من الإمام علي ابن أبي طالب: «إنها كلمة حق يراد بها باطل، وقد علموا أنه لا بد من أمير بر أو فاجر».

إذن القول هنا بأنه لا شرعية للدستور، أو القول بأن القرآن هو دستورنا، هو ضرب من المجاز الذي قد يتحول إلى مغالطة. لأن القرآن حمّال وجوه، وأن الدساتير هي التصريف الزمني للتعاليم، وهي قابلة للنظر بحسب تجدد الأحوال وتطور الأزمان. هؤلاء لا يحملون تصوراً سياسيًّا ولا رؤية حقيقية للنظام السياسي في الإسلام، ولا يحملون في جعبتهم أي بديل سوى هذا الحطام من التعاليم التي قصاراها أن تجعل المسلم مسلماً، ولكن هي أعجز عن أن تبني كياناً سياسيًّا متقدماً للجماعة المسلمة. وهذا يعود بنا إلى الموقف القطبي من البديل السياسي، حيث رأى عدم جدوى تفصيل الحديث عن شكل الدولة وعن فقهها، معللاً ذلك بأن إقامة الدولة الإسلامية أمر سابق لبحث تفاصيلها. وبذلك يكون قد وضع العربة أمام الحصان. لقد أجّل سيد قطب التفصيل في إجراءات تحقق الحاكمية إلى الجيل الذي يتمكّن من إقامة حكم الله في الأرض بالغلب. وهو بذلك منح داعش بعد عقود حقّ التصرف في تفاصيل إقامة هذا المشروع. لقد غاب عنه أنّ الشيطان يكمن في التفاصيل.

ويظلّ نموذج الخلافة يشدّ حنين هذه الجماعات إلى القديم في ضرب من المغالطة التاريخية إلى نموذج حكومة طالبان. هو النموذج المثال بالنسبة للفئة التي ترى هذا الرأي، لكن هذه الإمارة لم تحضَ برضا الأغلبية الساحقة من المسلمين. بل كان أحرى بها ألَّا تكون. لأنها وضعت سمعة الإسلام والمسلمين في حرج شديد.

إن النظام السياسي الذي سعى صاحب الدعوة لتثبيته هو أكبر من مشروع دولة يكون همّها الأكبر أن تضع مقاييس لقياس اللّحي، واستحضار تفاصيل قيم البداوة وفرضها على النسيج الاجتماعي للشعب الأفغاني -الذي كان مسلماً قبل طالبان وبعدها، بل والذي كان له الفضل في دعم الطالبان في أن يتفرغوا للدرس والتبليغ من مساعداته ومن دعمه ومن محنته أيضاً- بوصفها قيماً إسلامية فيما اقتصادها قائم على ريع المخدرات وصناعة الموت.

وفيما يتعلق بالدولة السياسية في الإسلام حتى لا أقول: «الدولة الإسلامية»؛ لا وجود لتصميم جاهز ونهائي. فحتى صاحب الدعوة -في تصوري- لم يحكم القوم بالمستوى القيمي الذي كان يطمح إليه، بل حكمهم بالمستوى الذي فرضه النسق الاجتماعي لذلك العصر مع الحدّ الأدنى من القيم الممكنة من حيث التنفيذ الواقعي. ومن هنا فالرهان ليس على تصميم ما جرى، بل الرهان على تصميم مستقبلي انطلاقاً من هذه التعاليم الخالدة للإسلام. ولذلك نجد مثل هذه الدعوات -وإن اختلفت في أسلوبها- فهي تؤكد هذه النزعة الاستحضارية الماضوية. فالإخوان المسلمون على لسان زينب الغزالي يؤكدون أنه لا بد من مراعاة 13 سنة من الدعوة قبل إقامة الدولة، آخرون يتحدثون عن إقامة الدولة على غرار نموذج الخلافة. في حين أن تاريخنا السياسي ليس نظيفاً بالقدر الذي يعطينا الحق في أن نعيد استنباته بلا شرط، في عصرنا الذي شهد تطوراً كبيراً في النظم السياسية وفي علم الاجتماع السياسي.

من هنا أرى أنه إن كان ولا بد من الحديث عن دولة إسلامية حديثة، فهي دولة يتعين عليها أن تأخذ بإكراهات عصرها وتنطلق من تعاليم الإسلام المجردة لإبداع شكل حديث لهذه الدولة، الذي ربما هو الشكل الذي فشل في تحقيقه أسلافنا. ولا يمكن إنجاز تصور معقول وواقعي للدولة في مخيال تتحكم به الطوبا أو في ذهن مبتلى بالوعي الشقي. لا بد من مراعاة الواقع في كل رؤية أو موقف.

الدولة كمؤسسة هي معطى تاريخي، وبالتالي فهي خاضعة لقانون التطور. إن مفهوم الدولة في الأزمنة القديمة ليس هو نفسه مفهومها الآن، ثمة تحول كبير في شكلها ووظيفتها. وهذا يسري على مفهوم السلطة ذاتها، هل السلطة بالمعنى التقليدي هي السلطة نفسها بمعناها المعاصر. إذن، لا بد من مراعاة الواقع الموضوعي، لأن الدولة وشكلها ووظيفتها ليس نحن من يصنعه، بل إن ذلك خاضع لمعطيات تطور الاجتماع السياسي. فملامح الدولة كما أتصورها، هي الدولة التي يمكن أن يتحقق فيها المقصد الإسلامي الكبير، ألا وهو ما ينفع الناس؛ أي، عدالة اجتماعية، تنمية، حريات عامة وكل ما يحقق هذا الغرض في إطار قيم العدالة المعنوية والمادية.

ليس هناك ما يميز الدولة الإسلامية سوى أنها مشروع لتحقيق دولة مجتمع الإنسان الكريم والحر والمسؤول والمستمتع بكافة حقوقه في إطار قيمه الدينية والأخلاقية الجماعية. إذ ما قيمة الدعوة الإسلامية السمحة إذا وجدت في مجتمع لا يتحمل مسؤوليته أمام الله؟! وهذه المسؤولية هي مشروطة بحرية الإنسان. فإذا كانت هناك في هذا العالم دول يستمتع مواطنوها بحقوق أكثر مما عليه في الدولة الإسلامية، فعلينا إذّاك طرح سؤال على مدى حقيقة ما ندعو إليه.

هذه هي ملامح الدولة الإسلامية؛ أن تنظر في كل المكتسبات السياسية والاجتماعية لتكون مثلها أو أفضل منها. هذا منطق كوني وإلهي. الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا}. فالذين يريدون تجاوز الدولة الحديثة وعدم الإفادة من التراث الإنساني عليهم أولاً أن يضمنوا تفوق بديلهم على مستوى الحقوق والعدالة الاجتماعية، أي بتعبير أوضح أن يكونوا قدوة نموذجية تقدم ما هو مدهش للآخر وليس قدوة سوء تنفر العالم. فالقرآن الكريم يقول: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}.

ليس صحيحاً أنك على حق لمجرد أنك تتحدث باسم الإسلام وتعاليمه. هذه هي ملامح الدولة الإسلامية، لا بوصفها تتميز بشعارات وفظاعات، بل بوصفها دولة الإنسان ودولة الحقوق قبل الواجبات التي تستطيع أن تلفت انتباه العالم إليها، بمقدار ما تحققه من عدالة اجتماعية وكرامة لمواطنيها وتنمية لمجتمعها.

هذه هي المعايير، أما ما السبيل إلى ذلك ففي اعتقادي أن الاجتهاد في هذا الموضوع أمر لا غنى عنه. هذا الاجتهاد في اعتقادي له آلية واضحة وليس مجرد تلفيق والتفاف على الواقع. أعني أننا مطالبون بأن نستفيد من كل منجزات نضالات الشعوب الحرة وما حصل من تطور في الاجتماع السياسي المعاصر، ثم إن كان ولا بد من الاطمئنان، بأن نعرضه على قيمنا وتعاليمنا، لنرى ما يوافق مقاصدها فنتبناه بلا شرط. لأن ما تم إقراره بهذا العرض هو من الإسلام وإليه. وهذا منظور ينهض على فعالية التأويل. أمام المسلمين مهمة طويلة لكنها ممكنة التحقيق. ليس المطلوب منهم أن يجترحوا المعجزات، بل أمامهم فرصة لكي يعرضوا تراث البشرية ومكتسباتها على تعاليمهم، ليحكموها، وتصبح جزءاً من تعاليمهم أيضاً. وهنا، الدعوة الملحة للتأويل، المخرج الوحيد لهذه الأمة.

في النصوص المؤسسة لدولة الخلافة الحديثة القائمة على فكرة التمكين بممارسة العنف نقف على ما يوحي بمفارقاتها التاريخية. تعتمد القاعدة ومشتقاتها على كتب السياسة الشرعية وتأصيلات أخرى لابن تيمية ونظرائه تتناقض في تحقيق أمر الدّولة. فبينما تعتبرها من الفروع المتروكة للشورى تجدها ترقى بها في التطبيق إلى أصول الدّين. هذا النوع من الخطاب المتهافت يسعى للإقناع بأن تاريخنا السياسي هو تاريخ نظيف ونموذجي وعنده انتهى التاريخ. لكن هذا للأسف قراءة أيديولوجية طوباوية للتاريخ، لأن تاريخنا السياسي هو تاريخ له منسوب عالٍ من المظالم والمقاتل. وأرى أننا فشلنا في أن نحقق خروجنا التاريخي المعافى من زمن التنزيل إلى زمن التأويل. هذا الفشل في التأويل هو سبب مأزقنا السياسي منذ غياب صاحب الدعوة.لا زلت أتساءل: إذا كان التأويل جارياً حتى في زمن الوحي فكيف نقصيه من وعينا وفكرنا في زمن الانسداد الكبير. فحينما قلت قبل قليل: إنه بإمكاننا النجاح فيما فشل فيه أسلافنا على صعيد النظام السياسي، فأنا أعني التجارب السياسية التاريخية غير تلك التي قامت على يد صاحب الدعوة (صلى الله عليه وآله وسلم). فالخلط الذي يقع فيه هؤلاء جميعاً، هو اعتبارهم كل ما مضى هو مشرق. في حين أن تاريخنا السياسي فيه الكثير من الإحراج.

إن «المنهج النبوي» يحتاج إلى ضامن سياسي، بمعنى آخر، المنهاج النبوي يطبقه النبي أو من قيل في حقه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}، وفي تقديري أن غير من عصمه الله لا يمكن أن يتحدث عن بديل تام ومطلق، أو بأنه يمثل الوحي على النحو التام. وهذا ما يؤسّس للمافيا الروحية لجماعات القتال الأصولية.

إذن، لنتحدث عن نوع من التجريب السياسي وبأن تكون الحركات الإسلامية أكثر تواضعاً وحياءً في حديثها عن النموذج السياسي التاريخي، لأنها لا تملك كامل الوصفة.

ولا بدّ من الإشارة هنا إلى أنه ليس صحيحاً أن الدولة من المسائل العقائدية، بل هي مسألة مرتبطة بالاجتماع السياسي. وبما أن الاجتماع السياسي متطور ومتجدد فالدولة كذلك. من هنا وبما أن الدولة منتج من منتجات الأمة فلا حديث عن صفة عقائدية للدولة. الخلط الكلامي بين مفهوم الإمامة ومفهوم الدّولة أدّى إلى إقحام فنّ التدبير والإدارة لجهاز الدّولة ككيان تعيش عليه جماعة ضمن تعاقد طبيعي واجتماعي في صميم أصول الدّين. حتّى بالمعنى الذي يذهب إليه الشّيعة في علم كلام الإمامة يمكن القول: إنّ الإمام بالمعنى العقدي هو إمام على المعتقدين داخل دولة متنوّعة في الوقت الذي هو حاكم أو إمام بالمعنى السياسي على غير المعتقدين. فالإمامة هنا تتعدّى الحدود السياسية لجغرافيا الدّولة عقديًّا لكنها قد لا تستوعب عقديًّا دولتها إلَّا بالبيعة السياسية، حيث توجد أقلّيات تتعاقد اجتماعيًّا لا عقديًّا على أساس المواطنة.

إنّ اختزال الدولة ككيان متطور في مفهوم عقائدي هو واحدة من مناشئ العنف نفسه. يمكننا أن نتحدث عن تكييف الدولة مع المقاصد العليا للعقيدة باعتبار أن العقيدة نفسها هي عنصر داخل في متكون الاجتماع السياسي. أما إذا أردنا الحديث عن مفهوم الحاكمية فإن لها أكثر من مفهوم ودلالة. فهي تارة تعني قضاء الله بما نعنيه بالحتمية التاريخية والاجتماعية، وهذا النوع من الحاكمية أو حكم الله لا يحتاج إلى ممثل أو من ينهض به؛ لأن الحتمية تفرض نفسها بنفسها. أما لو كان الأمر يتعلق بالحاكمية من حيث أنها هي السلطة، فثمة مغالطة سبق وأن أشرنا إليها، أي القول السابق: «وقد علموا أنه لا بد من إمرة»، أي لا بد من دولة ومن مؤسسات لتصريف حكم الله باعتباره يتلخص في العدالة والكرامة والحقوق… وكذلك هو الأمر بالنسبة للشورى فهي من حيث ماهيتها الملزمة والمعلمة بطبيعة الحال تتصل بمبنى العقلاء. ولذا، فالحكم الشرعي فيها هو من باب الإرشاد إلى ما حسّنه العقل وليس أن اعتبارها قائم على مرتكز الجعلية. وهي أيضاً في شكلها وميكانيزماتها خاضعة للاجتهاد. إذا كانت الشورى ثابتة مضموناً بحسب مبنى العقلاء فهي متطورة شكلاً بحسب منطق الاجتماع السياسي وبحسب العرف الذي يعتبر جزءاً داخلاً في التشريع الإسلامي حسب قوله تعالى: {وَأْمُرْ بِالمَعْرُوفِ}.. على أن العرف هنا ليس مسألة جعلية ثابتة بل هو معطى متطور. بمعنى أوضح: العرف هو المتكون السوسيوثقافي والسوسيوسياسي لأمة من الأمم.

مفهوم الجهاد

قد يكون من مآسي المسلمين اليوم أن أنبل فريضة في الإسلام تتحول بفعل الاختزال والجهل إلى وبال على الأمة وحرج شديد على سمعة الإسلام. في تقديري أن الجهاد هو ضلع في ثالوث يقوم على الجذر الاشتقاقي للجهاد نفسه والذي يتلخص في ثلاثة أحرف «جهد». هذه الأضلاع المتفرعة عن الحروف الثلاثة المذكورة لها مجالات ثلاثة: المعرفة والنفس والجسد. باعتبار الجهاد المادي هو جهاد جسدي وإن تطلب قدراً من الجهاد المعرفي والنفسي أيضاً. فحضور الجهاد في المعرفة هو اجتهاد، وفي النفس هو مجاهدة، وفي الحرب هو جهاد.

إذن لا يمكننا أن نتحدث عن واحدة من هذه الثلاث إلا في إطار التفاعل بين أضلاع هذا الثالوث الذي هو بمثابة معيار للمصداقية والشرعية. فحيثما رأينا جهاداً لا يحضر فيه اجتهاد ومجاهدة كان ذلك كافياً للخدش في مصداقيته. والحال أن ما يحدث اليوم من فظاعات باسم الجهاد يغلب عليه التوتر النفسي والجهل. وهو بخلاف فريضة المجاهدة والاجتهاد وهما أهم ضلعين في الثالوث إذ لا يشغل الضلع الأول «الجهاد» إلَّا ذلك الجانب الاستثنائي، من هنا سمي بالجهاد الأصغر، نظراً لاستثنائيته، باعتباره حماية للأمة ودفاعاً عن حدودها. فهو جهاد دفاعي يرتفع بارتفاع مبرراته. وبطبيعة الحال هذا النوع من الجهاد هو قرار الأمة بكاملها وبإمضاء من أولي الأمر، وليس مسألة أهواء فردية أو فتاوى تصدر عن وعاظ وخطباء وتفتقد إلى المسوغات الاجتهادية.

أما الفريضة الغائبة -في نظري- فهي جهاد النفس وجهاد المعرفة، وهو جهاد اكتساحي وهجومي على النفس بالتدبيروالتهذيب، وعلى المعرفة بالتنوير والاجتهاد والنقد.إنه الجهاد الوحيد الذي لا حدود له: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ}.

قد يكون الذين نفذوا تلك العمليات العنيفة واقعين في شبهة كونهم ينفذون حكم الله. ولذلك تراهم يقتلون أنفسهم تعبيراً عن قناعتهم بما يقومون به. أنا لا أتحدث عن شباب لا يتجاوز العشرين من العمر وقعوا في فخ خطابات يصنعها الكبار. فالنقد هو موجه لهذا الخطاب الذي يصنعه رجال قد يكونون فوق الأربعين، وقد خبروا الحياة ومنحت لهم فرصة ليتعرفوا على أشياء كثيرة، ثم يتعامون فينتجون خطاباً لصناعة الموت والدمار، ويذهب ضحيته شباب متوثب مستهين بالحياة، أو ربما يستغلون طراوة وعي الشباب وظروفهم الاجتماعية، ليحولوهم إلى فرسان يجسدون الأحلام الجهنمية لمشايخ، قطعاً هم ليسوا فقهاء، بل هم محترفوا خطابة ووعظ. إن الأصل في الإسلام هو حفظ الحياة، وإذا كان الموت في سبيل الله مشروعاً في الجهاد الشرعي، فذلك لجهة خروجه بالدليل. ثمة فرق إذن بين أن أموت دفاعاً عن الوطن مثلاً وأن أموت في سبيل فكرة جهنمية ليس لها من الفقه إلَّا الديكور المشيخي والثرثرة باسم الإسلام. والغريب أن هذه الفتاوى الجهنمية الصادرة عن هؤلاء الكهول، يتبناها شباب دون العشرينات، ويزيدونها حماسة، فتحصل الكارثة.

ما مغزى شعار العدو الصليبي - الصهيوني؟

رفعت القاعدة شعار مواجهة العدو الصليبي الصهيوني، وهي العبارة التي تكرّرت كثيراً في كتب محمد قطب، لكن في الواقع رأينا كيف تحالف هؤلاء الجهاديون في بداية الأمر مع الصليبيين في مواجهة الاتحاد السوفياتي، كما رأينا كيف تعاونوا مع الصهيونية في مواجهتهم للنظام السوري. فلقد أصدرت داعش بياناً في ذروة الحرب على غزّة تؤكّد فيه بأنّ المعركة ضدّ إسرائيل ليست أهم من محاربة المرتدّين، وهذا يعني أنّ القاسم المشترك في سياسات التمكين هو استثناء فلسطين من معارك السلطة أو معارك الجهاد. فلقد صرّح الغنوشي نفسه كسائر الجماعات التي انصهرت في لعبة التمكين في إطار ما عرف بحكومات الربيع العربي، بأنّ فلسطين ليست أولوية. إنّ المواجهة ضد العدو الصليبي الصهيوني جاءت في الوقت بدل الضائع، وفي الغالب تأتي بمزيد من إضعاف الموقف الإسلامي أو لنقل: هي شكل من النضالية الممسرحة، لسبب بسيط وهو أن الجهد المالي والرمزي الذي قدمه هؤلاء لأفغانستان لم يقدموا أقل منه بكثير للقضية الفلسطينية مثلاً. فحينما كان أحرار العالم مجندين لمواجهة الإمبريالية الأمريكية كان هؤلاء جزءاً من معادلة الحرب الباردة التي ساهمت في إضعاف الاتحاد السوفياتي، أي ساهموا في تغوّل القطب الأمريكي. بل ساهموا حتى في الإطاحة بحكومة المجاهدين لمّا أصبحت هذه الحكومة تهتم بالدّولة وتحيد عن شروط أن تصبح دولة محورية وظيفية لصناعة الإرهاب. فهل يا ترى أمريكا أصبحت صليبية فقط بعد أن تخلى عملاء C.I.A عن ملف الجهاد في أفغانستان، وبدأ التفكير في بناء الدّولة؟. وإذا كان في نظرهم التحالف مع الولايات الأمريكية كفر، فهل نحكم بأثر رجعي على تحالفهم مع الأمريكان سابقاً؟ إن للجهاد فقه يحدده ومقاصد تبرره. وما نراه اليوم من جنون لا نشتم منه رائحة فقه. أما من ناحية المقاصد، فلنا أن تتساءل: ما الذي تحقق حتى الآن من هذا الانتحار الذي استعدى القوى الكبرى.ومنحها مسوغات لبناء أحلاف دوليين ضدّ العرب والمسلمين؟ فمنذ بدء هذه العمليات -أعني منذ أحداث 11 سبتمبر- ماذا ربحنا وماذا خسرنا؟ أجل لقد كان ثمن انهيار البرجين احتلال أفغانستان، واحتلال العراق، وإرباك لمنطقة الشرق الأوسط، وخرائط الطريق، وصولاً إلى الفوضى الخلاّقة.

عرس دّم داعشي

يبدو أن العنصر الدّموي طاغي على نهج داعش بشكل يؤكّد أنّ الأمر له علاقة بفكرة قتالية خاصّة. إنّ طلب التمكين بالمتاح من أدوات العنف لا يعوّض نقائصه سوى الاستعداد الكامل لتجاوز كلّ الحدود الممكنة في التنكيل. وفي مثل هذه الحالة ليس في مصلحة الجماعات الضعيفة أن تتبنّى الموقف الأخلاقي في الحرب. والحقيقة هنا بل المفارقة التي لا زالت ترخي بظلالها على هذه المسألة هو النزاع حول الأصل الأخلاقي أو اللّاأخلاقي للحرب. يميّز بناء على ذلك ديفيد فيشر في «الأخلاقيات والحرب» بين الواقعية المطلقة من خلال مثال الحرب البلوبونيزية كما قدّمها ثيوسيديس في كتابه حول هذه الحرب، وبين الواقعية الجزئية في جواب الجنرال شيرمان قائد أنصار الوحدة خلال الحرب الأهلية الأمريكية. يكمن الفرق بين الواقعيتين في أنّ الواقعية المطلقة كما يصفها ديفيد فيشر لا تدخل الاعتبارات الأخلاقية بالحرب قبل اندلاعها وأثناء خوضها وبعد أن تضع الحرب أوزارها[5]. هذا في الوقت الذي يرى فيشر في جواب شيرمان مثالاً عن الواقعية الجزئية من خلال قول هذا الأخير بأنّ «الحرب هي الوحشية ولا يمكن تنقيتها»[6]. فشيرمان يجيب على من استشكل على الفظاعات الحربية التي ارتكبها بهذا القول الذي يفهم منه فيشر أنها تعكس الواقعية الجزئية لأنها تجعل الموقف الأخلاقي ليس أثناء الحرب بل في اتخاذ قرار الحرب ابتداء.

وهذا يفيدنا في معرفة الفكرة المهيمنة على سلوك داعش الحربي. إنّهم يؤمنون بالواقعية المطلقة، أي عدم إدخال الاعتبارات الأخلاقية بدء من قرار الحرب وأثناء الحرب وبعدها. جزء من النزاع بين داعش وتنظيم القاعدة الأم هو في اعتقادي نزاع حول الواقعية المطلقة (=داعش) والواقعية الجزئية (= القاعدة). وكلاهما يعبّران عن الواقعية في الحرب التي تستبيح كلّ شيء، ومن هناك مسألة التّترّس في الحرب بالمدنيين ومن لا عهد لهم ولا دخل لهم بالحرب.

ولقد وجدت هذه الواقعية طريقها إلى العقيدة الحربية لهذه الجماعات فيما أعتبره يمثّل نموذج فنّ الحرب لسان تزو عند الجماعة. أقصد بذلك كتاب «إدارة التّوحّش» الذي ألفه المدعو «أبا بكر النّاجي»، الذي يعتبر الثمرة الخالصة لتجارب القتال، وجاء لكي يملأ هذا النقص في التنظير الحربي للجماعات المذكورة. «إدارة التّوحّش» هو إذن بمنزلة «فنّ الحرب» عند داعش ونظيراتها.

هذا الكتاب يضع مراحل إدارة التوّحش كما يسمّيها، وهي الإدارة التي ستمكّن وتسبق قيام الخلافة المنشودة. وهو يرى أنّ الفشل في إدارة التوحش لا يعني نهاية الأمر، بل إنه سيؤدي إلى مزيد من التّوحش. على أنّ هذا التوّحش مهما بلغ أمره هو في نظر صاحب «إدارة التوحش» أهون وأخف من الاستقرار تحت نظام الكفر[7].

إدارة التوحش لها أمثلة حتى عند من تعتبرهم الجماعة كفّاراً. ولذا أعطى صاحبه أمثلة من طرق المسلمين حسب رأيه في هذا النوع من الإدارة وأيضاً أمثلة ممن سماهم الكفّار. لذا يقول: «هذا بالنسبة للمسلمين أما الكفار فهناك عشرات بل مئات الأمثلة لإدارات توحش أقامها الكفار في أوروبا وأفريقيا وباقي القارات في العصور السابقة»[8]. نفهم من هذا أنّ دخول الجماعات القتالية إلى هذه البؤر يقع في إطار تطبيق بنود ومراحل إدارة التوحش.

إدارة التوحش هي مرحلة في مسلسل بحث في باب «طريق التمكين»، وهي مراحل أربعة:

المرحلة الأولى: شوكة النكاية والإنهاك.

المرحة الثانية: إدارة التوحشّ.

المرحلة الثالثة: شوكة التمكين.

المرحلة الرابعة: قيام الدّولة.

وأمّا الجانب الغائب من معالجة سبب نقمة إخوان داعش من السلفية الجهادية على بيان البغدادي بإنشاء الدّولة وإعلان الخلافة، فهو ليس خلافاً جوهريًّا، بل هو خلاف في أصله حول التّوقيت. وهذا التوقيت يراعي المراحل الأربعة التي تقررت في «إدارة التّوحش» لـ«سن تزو» السلفية الجهادية. وأمّا المناطق المرشّحة لخطّة إدارة التّوحّش فهي تشمل دولاً مثل السعودية ونيجيريا. وكانت قيادة القاعدة تعتبر الضرب داخل السعودية أمراً مؤجّلاً لاعتبارات كثيرة، لكنّها غيرت خطّتها للقبول بهذه الضربات باعتبارها السعودية هي أكثر عدو للمجاهدين ضعفاً. وهذا ما يعني أنّ جماعة بوكوحرام والقاعدة في المغرب الإسلامي هي جزء من مخطّط التمكين في إطار إدارة التّوحّش.

وحسب الكتاب نفسه فإنّ بعض الدّول من بعد أحداث 11 سبتمبر قد رشّحت مبدئيًّا ضمن مخطط إدارة التوحش، وهي كالتالي: الأردن وبلاد المغرب ونيجيريا وباكستان وبلاد الحرمين واليمن[9]. إنّ مرحلة ما يسمى الإنهاك تقضي بتسديد ضربات موجعة إلى الجيوش النظامية وتشتيتها وعدم السماح لها بالتقاط الأنفاس. والكتاب هنا يميّز بين الضربات الصغرى مثل ما كان يحصل في العراق أو أحداث جربة بتونس والضربات الكبرى كما هي حادثة 11 سبتمبر. فهذه الأخيرة تحتاج إلى قرار من القيادة العليا للقاعدة لتوفير الغطاء لها وكذا إمكانيات استيعاب تداعياتها. فالضربات الصغرى مسموح بها لفروع القاعدة من دون الرجوع إلى القيادة. وهذه العمليات الغرض منها بين الفينة والأخرى هو لفت أنظار الناس. وهذا أيضاً ما يفيد في جلب شباب جدد للانخراط في هذا العمل. في مثل هذه الحالة يبلغ المخطط مرحلة انتزاع مناطق من سيطرة النظام ومن ثمّ إخضاعها لإدارة التوحش.

ولا شكّ أنّ إدارة التوحّش غير معنية بالنسيج الاجتماعي ولا بمفاهيم الأوطان التي تعتبر من المفاهيم الكافرة في التنظيم. يستشهد المدعو أبي بكر الناجي بما قاله عمر محمود لتثبيت شرعية اقتطاع المناطق لصالح إدارة التوحش: «هنا لا بد التنبيه على شبهة هامة يقول الشيخ العلامة عمر محمود أبو عمر فك الله أسره: «وهنا لا بد من التنبيه على ضلال دعوة بعض قادة الحركات المهترئة بوجوب الحفاظ على النسيج الوطني أو اللحمة الوطنية أو الوحدة الوطنية، فعلاوة على أن هذا القول فيه شبهة الوطنية الكافرة، إلَّا أنه يدل على أنهم لم يفهموا قط الطريقة السننية لسقوط الحضارات وبنائها»[10]. إنّ مسألة الوطنية والدولة الوطنية من الأمور المتّفق عليها بين هذه الجماعات. يقول في هذا منشور للجماعة تحت عنوان: ( واقع الجهاد في العراق): «إن المواطنة والوطن والوطنية وما يلحق بها من حدود قطرية ليست أواصر معتبرة شرعيًّا»[11].

وتتطلّب هذه الخطّة إعداد عناصر قادرة للاضطلاع بمهمة شوكة النكاية والإنهاك وإدارة مرحلة التوحش. إحدى أهم القواعد المستعملة في مرحلة الإنهاك هي قاعدة «اضرب بقوتك الضاربة وأقصى قوة لديك في أكثر نقاط العدو ضعفاً». اعتماد الشّدة والبأس هو عنوان الفصل الرابع من إدارة التوحش. وفيه يؤكّد أبو بكر الناجي أنّ هذا الأمر يتطلب الخروج من حال الرخاوة إلى حال البأس، ويقول: «الذين يتعلمون الجهاد النظري، أي يتعلمون الجهاد على الورق فقط، لن يستوعبوا هذه النقطة جيدًا».

فالمراهنة على البطش والشدّة هي سبب النجاح في نظر مقاتلي السلفية الجهادية؛ ولهذا سنجد هناك رؤية تاريخية لتاريخ القتال في التاريخ الإسلامي حيث اختار أصحاب نظرية التوحّش الموقف غير المتسامح في الحرب. يضرب منظر إدارة التّوحّش مثالاً بتلك الحركات التي فشلت أن تحقق النصر. ويختزلون هذا الفشل في غياب القسوة والشّدّة. مثالهم على ذلك هو أنّ الحركات الجهادية الإصلاحية التي قادها الطالبيون كالنّفس الزكية فشلت أمام العباسيين، نظراً لشدّة العباسيين ورخاوة الطالبيين واتقائهم الدّماء، «حتى إن النفس الزكية كان يطلب من قادة جيشه -وقد كان يمكن أن ينتصر- أن يتقوا الدماء ما أمكن». ويرى منظروا إدارة التوحش أنّ هذا الموقف غير ملزمين به لأنهم يقاتلون صليبيين ومرتدين فلا مجال لاتقاء الدّم. فلا شيء يمنعهم من ذلك، بل هو من أوجب الواجبات. ويبدو أن منظري إدارة التوحش لم يقفوا على تفسير تاريخي كالذي ذكره ابن خلدون تعليلاً لفشل الطالبيين، وهو تراجع الشوكة وصعود عصبيات أخرى، بما يرمز إليه اليوم بالنفوذ العشائري والبيئة الحاضنة. الشوكة أيضاً في نظرهم هي قوة البطش. إنّ تضافر الشوكات في مراحل النكاية داخل مناطق التوحش وتوفّر موالاة إيمانية بمشروع الجماعة في نوع من العقد بأهم بنوده التي يسميها منظر إدارة التوحش بـ: «الدّم الدّم، الهدم الهدم»، كل هذا من شأنه في نظر الجماعة القتالية يحقق الشوكة الكبرى.

إنّ إدارة التوحش ليس عسكريّة خالصة، بل يهمّها أن تكون ملمّة بخريطة المصالح للعدوّ مثل إلمامها بالخريطة العسكرية. ومن هنا كان واضحاً في ضوء فكرة إدارة التوحش ألَّا نتعاطى ببساطة مع خريطة البغدادي للخلافة، فهي تعكس فهماً لخريطة المصالح وأيضاً شكلاً من القراءة السياسية للعدوّ. وهناك جانب آخر من إدارة التوحش هو استعمال المال لشراء المواقف. فإدارة التوحش تجلب للجماعة مزيداً من المال، ويجب أن يصرف بعض منه في تأليف القلوب لصالح جماعتهم.

ومن التحديات التي تواجهها إدارة التوحش هي الجانب الأمني في صراعها مع العدوّ، ويبدو هذا من أخطر ما في إدارة التّوحّش. وهو يؤكّد على فكرة سبق، وتحدّثنا عنها مراراً واعتبرت من المبالغة.

إنّ الفصل التاسع من إدارة التّوحّش تعطينا فكرة واضحة عن هذه الحقيقة حيث جاء فيه: «إتقان الجانب الأمني وبث العيون واختراق الخصوم والمخالفين بجميع أصنافهم». والخطورة هنا لا تكمن فقط في ذكرهم أنّ تجاربهم الطويلة أتاحت لهم قدرة اختراق خصومهم من جهة الأجهزة الأمنية والجيش والأحزاب السياسية والصّحف والدول وشركات البترول كعامل أو مهندس، وشركات الحراسة الخاصة والعامة، والمؤسسات المدنية الحسّاسة. بل يؤكد منظر إدارة التوحش أنّ هذا الأمر تمّ منذ عقود ولكنهم يريدون المزيد.

الخطورة هنا تكمن أيضاً في أنّ مقتضى إدارة التوحّش هو اختراق الجماعات الإسلامية الأخرى الموصوفة بالاعتدال والتدرج في سلك قيادتها. وفي عملية الاختراق تلك يتحدث منظر إدارة التوحش عن الحاجة إلى اختراق المكان الواحد بأكثر من عضو كلّ منهم لا يعرف الآخر. على أن يكون هذا العضو غير معروف وليس ورقة محروقة. ولمواجهة مشكلة الاختراق العكسي فهم يتبنّون القسوة في التنكيل، وأيضاً إغراق مجال إدارة التوحش بالمال وتأليف القلوب، بحيث لا يخرج منه جاسوس مفترض ضدّ القتاليين، ناهيك عن تشخيص القيادة، لا سيما أمام تدفق الشباب الذي يأتي لأجل الاستشهاد، فيمكن توجيههم للاختراق بدعوى أنّ هذا شبيه بعملية استشهادية.

إنّ اختراق الجماعات الإسلامية الأخرى والتدرج في سلم قيادتها أمر مقرر في إدارة التّوحّش. وهم يفرقون بين قسمين منها: الجماعات التي تتعامل مع الطواغيت، فذلك لأجل جمع المعلومات عنهم، وأما التي لا تتعامل مع الطواغيت فبقصد استمالتهم إلى موقف الجماعة وتحويلهم إلى مجاهدين. من هنا كان من أهم مقتضيات إدارة التوحش إنشاء جهاز استخبارات للجماعة ينتشر في مواقع كثيرة، ويتغلغل في صفوف الجماعات الإسلامية، وفي الصحف قصد الدّعاية وفي هيئات المجتمع المدني. وهذا ما جعل الكثير من أعمال القاعدة وداعش تنجح بشكل ملحوظ. فاختراق المؤسسات هو من صميم اهتمامهم.

الإرهاب المدنّس والإرهاب المقدّس

تدرج الجماعة هذا العنف المفرط والذي يحمل سمات الذّهان في إطار مفهوم الإرهاب الشرعي. بينما الإرهاب الشرعي كما تدلّ عليه الآية الكريمة {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}، هو الإعداد العسكري لجيش نظامي لمنع العدوان. فالإرهاب في الآية هنا لا يعني الإرهاب بمعناه السياسي اليوم، بل هو يقابل معنى الرّدع. والرّدع هنا مهمّ لأنّه يجعل الحرب مستحيلة في نهاية المطاف. بينما الإرهاب بمعناه الجرمي يتوقّف على أن يقع، وهو إرهاب يقوم على التخريب أولاً وليس الردع من بعد. وهذا ما فهم يومها حيث الأخبار دالّة على تحريم قتل المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ وغير المحاربين في المعارك، تكريساً لأخلاقيات الحرب. وحينما تضفي داعش على سلوكها العنفي غطاء دينيًّا نصبح أمام العنف كطقس يمارس ببرودة واطمئنان. هنا وكما يؤكّد روجيه كايو في «الإنسان المقدّس» أنّ «فرحة التدمير المكبوت طويلاً تتفجّر في كلّ مكان، وكذا لذة ترك الأشياء فاقدة الأشكال ومشوّشة المعالم بل لذة الانقضاض التي يعرفها الأطباء على شيء مسكين وتعاوره حتى لا يبقى منه إلَّا حطام لا صفة له ولا اسم».

لا يشكّل الموت في حدّ ذاته رادعاً أمام الجماعات الإرهابية التي تستمتع بحزّ الرؤوس في مشهد فرجوي لا يستثني مختلف الأعمار. تتراجع مشاعر المهابة، وتصبح الألفة مع الجثث من شأنها رفع كل أنواع الاحترام. بل «يجعل المارة لا يتورعون عن ممازحتها وتوجيه الكلام إليها ومداعبتها باليد (...) يرفسونها بأقدامهم.. ويهينونها بالإشارة أو الكلام».

باختصار لقد «ولّى زمن الانحناء أمام الموت وتقديم الإجلال له بحجب حقيقته المنكرة عن الفكر والأنظار»[12]. لقد ساهمت القاعدة وداعش من خلال حمام الدّم العراقي في إرساء معالم جديدة للتطبيع مع القتل. هناك تحوّلات لم تدرس بعد في مشاعر الإنسان العربي والمسلم حتى اليوم إزاء جلال الموت وحرمة الحياة.

إنّ التمكين هو الشرط الأساسي في نشاط القاعدة. وخلافاً للإخوان فإنّ هذا التمكين لا يتحقّق بالتدرّج السلمي بل يتحقق بالقتال بأقل ما يتاح.

في العراق تضخّم تنظيم داعش لأسباب كثيرة أهمّها الاحتضان الإقليمي لتيارات العنف في العراق. فمصادر تمويل داعش هي الأموال المسروقة من الأبناك وريع مصافي النفط التي استولوا عليها.

عمليات انتقال الأرتال إلى داعش أمر لا يمكن أن يتم في وضح النهار، هناك إذن من يساهم في نقل المعدّات من داخل العراق لهذا التنظيم. وكما سنرى في منشورات التنظيم نفسه حديثاً عن الدعم الذي يلقونه من البيئة الحاضنة لهم والتسهيلات الكبيرة. نتساءل كيف ستسوّق داعش نفطاً غير جاهز للاستعمال بالتهريب؟ يفترض إذن أن من يستقبل منها هذه البضاعة وبشكل منظّم هي دوّل قادرة على تكريره وجعله صالحاً للاستعمال.

تناقضات المشهد العراقي كان لها دور كبير في تمكين هذا التنظيم الذي عرف كيف يستغلّ الخلافات السياسية الداخلية في العراق. لا يخفى أنّ جماعة عزة الدوري كانت بعد سقوط النظام العراقي قد تقاسمت اللّوجستيك العراقي مع تنظيم الزرقاوي. ولكن وجب وفي ضوء إدارة التّوحّش أن ندرك بأنّ القاعدة وداعش تنطلق من حسابات سياسية لا تقلّ عن حساباتها العسكرية. وهي تدرك تماماً نقاط ضعف الخصم وتستغلها بضربات فوريّة.

البيت الداخلي للسلفية الجهادية

كما هو وضع السلفية عموماً في الداخل موسوم بالتناقضات والهشاشات فإنّ السلفية الجهادية هي الأخرى تعاني من ذلك. وما صراع داعش والنصرة سوى فصل من فصول النزاع الذي تفجّر بالتطور الطبيعي لتنامي فائض القوّة لدى داعش مقارنة بنظيراتها من فروع القاعدة. كان للجبهة السورية فضل في البلوغ بهذا النزاع إلى نهايته. ففي محاولة النصرة أن تستقل بعملها في سوريا بعيداً عن تنظيم داعش كان السبب خطّة خاصة لا يستبعد أنها من فكر الظواهري وهو التدليس. أي تبنّي لغة مختلفة توحي بالثورة ولا تستعمل عنوان الجهاد. وكانت النصرة على وشك النجاح في هذا التدليس. فلقد كان يراد من مؤتمر أصدقاء سوريا نزع اعتراف بشرعية النصرة في سوريا. وبعد سنتين تقريباً ستتداول وسائل الإعلام كلاماً منسوباً لهيلاري كلينتون التي تجنّبت حضور مؤتمر أصدقاء سوريا تعترف فيه بدور أمريكا في صناعة داعش وتهيئ دول كثيرة للاعتراف بها، كان المشروع سيبدأ من سيناء مصر لولا اكتشاف الجيش المصري لتحركات الأمريكيين في البحر الأبيض المتوسط، وكانت ثورة 30 يونيو قد غيرت مجرى المخطط بل أفشلته، حيث كان من المنتظر أن يساهم الإخوان في مساعدة واشنطن للسيطرة على المنافذ المائية وعلى الطاقة في المنطقة. تبدو حسابات الدّول وحسابات الجماعة على اختلاف وتفصيل.

بالمنظور الجيوستراتيجي فإنّ تجربة -إن صحّ البناء على فكرة إدارة التوحش- هي من تجارب الجماعات القتالية في المجال الهندي. يتزامن الحديث عن حرب داعش بإعلان الظواهري تأسيس فرع القاعدة في الهند. هنا يبدو الأمر بمثابة بضاعتنا ردّت إلينا. ولكن هنا الهند هي البداية لأنّ الأمر سيتوزّع عبر الأقاليم التي تتواجد فيها أقليات إسلامية في الهند والصين وروسيا -أي الـ(بريكس)- سنشهد موجة أخرى من الإرهاب في المجال الحيوي الأوراسي. فيما تستمرّ حركات بنفس الوتيرة والنّمط في شمال أفريقيا ومنطقة الساحل حيث القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي وبوكو حرام في نيجيريا وحركة الشباب بالصومال وغيرها. ومن هنا فإنّ داعش عجزت عن تغيير الخريطة البشرية والدينية في هذه المناطق.

فالحلم الذي كان يعتمل لدى أولئك الذين منحوا فرصة لهذه الجماعات أن تعمل في المنطقة هو حلم غير قابل للتحقق. لم يكن مستبعداً فيما لو سقط النظام في سوريا وتحولت هذه الأخرى إلى مسرح لحرب أهلية طويلة الأمد، أنّ تكون هجمة داعش على الموصل هدفها طرد مسيحيي العراق إلى لبنان لأسباب سيكشف عنها التّاريخ. وبالمقابل من المنتظر أن تقوم هناك محاولة قاسية لفرض الهجرة على شيعة لبنان باتجاه العراق تحت أي هجمة إسرائيلية موازية أصبحت اليوم صعبة التحقق. وبالموازاة اكتساح البقاع عبر عرسان وتوطين سنة سوريا فيها قبل ضمها. فيكون التوزيع المذهبي الذي هو في قاعدة إعادة تقسيم سايكس بيكو، هو إفراغ الجنوب من الشيعة وإحلال مسيحيي لبنان وسوريا والعراق على شمال الكيان الإسرائيلي، وإلحاق البقاع بسوريا. من جهة أخرى إنّ السعودية عملت ضمن الهامش المتاح لها في لعبة المحاور الإقليمية إلى انتزاع المبادرة من قطر وتركيا. فأفشلت مخططاً أمريكيًّا يقوم على تحالف بديل بين واشنطن والإخوان على حساب التحالف التقليدي مع السعودية. حاولت السعودية في حركتها الأخير أن تؤكد قدرتها على التأثير في المنطقة، وأن تبلغ رسالة لواشنطن بأن لا بديل لهذه الأخيرة عن السعودية في رسم مصير المنطقة. أكبر قدر من المال صرفته الرياض للحفاظ على موقعها كحليف عربي أول لواشنطن في المنطقة. بينما ثمة الكثير من الاعتراضات في الداخل الأمريكي على هذا الحليف وهو موضوع فقط كبديل في مرحلة غياب حليف جيوستراتيجي حقيقي في المنطقة.

كان من الممكن أن تقوم دولة داعش بمباركة أمريكية ويضمنون لها اعترافاً دوليًّا. وهذا ليس مستبعداً إذا أدركنا أن هذا الاعتراف الدولي كانت قد حظيت به دولة الملا عمر (طالبان) من قبل، والملا عمر هو الملهم والقدوة الأولى لعمر البغدادي.

لا نستبعد أنّ أمريكا أوعزت لداعش عبر وسائل تأثيرها على هذا التنظيم إلى عدم التحرش بإسرائيل بل بتوقيت نشاطاته مع محاولة إسرائيل الفتك بغزة أو لبنان. كما لا نستبعد أن تكون أوعزت لتنظيم البغدادي بألَّا يتحرش بإيران في هذه المرحلة حتى لا يكرر خطأ في موضوع الديبلوماسيين؛ لأن من شأن ذلك تبرير تدخل إيراني كاسح في الموصل بخلاف الوضع يومئذٍ في مزار الشريف.

داعش ليست لاعباً مارقاً خارج لعبة الأمم في المنطقة، بل هو إحدى أبرز أدواتها اليوم. الخلاف مع داعش دوليًّا وإقليميًّا يكمن في كونها تجاوزت لحدودها. فحينما دخلت داعش إلى الموصل مستعملة كل تقنيات الإنهاك في إدارة التوحش بضم الشوكات المختلفة كجماعة عزة الدوري والنقشبندية، وممارسة القتل والفتك الذي ذهب ضحيته آلاف الضحايا العراقيين في جوّ من الاختلاف والاضطراب والتناقض داخل الحكومة العراقية، لم تواجه موقفاً حاسماً دوليًّا وإقليميًّا. بينما بدأت الماكنة الإعلامية للجزيرة وغيرها تتحدّث عن ثورة شعبية وعودة البعثيين. وسيحصل هذا التحول في الموقف حين بدأت دولة البغدادي تفكّر في غزو أربيل. تريد داعش أن تستقلّ بأهدافها فيما يراد لها أن تكون جماعة لعبيّة بالمعنى الجيوستراتيجي للعبارة.



[1] إدريس هاني، المفارقة والمعانقة (رؤية نقدية في مسارات العولمة وحوار الحضارات)، بيروت: المركز الثقافي العربي، ط 1، 2001، ص 181.

[2] برنار لويس: أين يكمن الخطأ؟، تـ: عماد شيحة، دمشق: دار الرأي للنشر، ط1، 2006، ص 140 - 141.

[3] سمير أمين، ثورة مصر، القاهرة: دار العين للنشر، ط 2، 2012، ص 28،

[4] محمد قطب، كيف نكتب التاريخ الإسلامي، القاهرة: دار الشروق، ط 1995، ص 230.

[5] ديفيد فيشر، الأخلاقيات والحرب، تـ: د. عماد عواد، الكويت: عالم المعرفة يوليو 2014، ص 30.

[6] م، ن، 50.

[7] أبو بكر الناجي، إدارة التوحش، مركز الدراسات والبحوث الإسلامية، من منشورات الجماعة (لا تاريخ ولا مكان الطبع)، ص 4.

[8] م، ن، ص 13.

[9] م، ن، ص 15.

[10] م، ن، 17.

[11] واقع الجهاد في العراق، لجنة الإعلام في جماعة أنصار الإسلام، لا تاريخ ولا مؤلف، ص 51.

[12] روجيه كايو، الإنسان والمقدّس، تـ: سميرة ريشا، ، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، ط 1، 2010، ص 240.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة