تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

رؤية الدكتور الفضلي إلى موقعية الفقه في الشريعة الإسلامية

حسين منصور الشيخ

رؤية الدكتور الفضلي إلى موقعية الفقه في الشريعة الإسلامية

انطلاقًا من بحوثه التمهيدية في كتابه «دروس في فقه الإمامية»

حسين منصور الشيخ*

* كاتب من السعودية.

 

 

 

الكتاب: دروس في فقه الإمامية .. البحوث التمهيدية

تأليف: الدكتور عبد الهادي الفضلي

نشر: مركز الغدير للدراسات والنشر والتوزيع – بيروت

الطبعة: الثانية 1435ﻫ - 2014م.

الصفحات: 322 من القطع الوزيري.

 

خلق الله الإنسان وأنزله على هذه البسيطة ليكون خليفته عليها ليعمرها فيما سخّره تحت يده من طبيعة متنوّعة وخيرات مودعة فيها، وليعيش مع أخيه الإنسان بكل وداعة وتراحم وانسجام.

ولكنّ الإنسان -الذي وهبه الله نعمة العقل- استغلّ البعضُ من أبنائه تلكم النعمة العقلية العظيمة فيما يكون لصالحه الشخصي على حساب البقية من المجموع الإنساني العامّ، فبغى بعضهم على بعض، ما تطلّب إنزال الرسالة تلو الأخرى التي تدعو الإنسان إلى إحياء ضميره والرجوع إلى نداءات الفطرة السليمة.

ولذلك نجد في الآيات القرآنية أن الهدف من إرسال الأنبياء هو تخليص أولئكم الأقوام من بغي السلاطين والطغاة، ولعلّ من أهم القصص القرآني التي توضّح هذه الهدفية من إرسال الأنبياء ما نجده في قصّة نبي الله موسى (عليه السلام) الذي أرسله الله ليخلّص بني إسرائيل من بغي فرعون وملئه، يقول تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾[1].

والحال نفسها مع قصة النبيين إبراهيم وعيسى (عليه السلام)، إذ واجه هؤلاء الأنبياء سلطة حاكمة متسلّطة ظالمة متجبّرة، كانت تمثّل آنذاك قمّة تسلّط الإنسان على أخيه الإنسان، ما يمثّل جانبًا بارزًا في الانحراف عن الفطرة السليمة.

وهذا لا يعني بحال أن المجتمعات الإنسانية كانت على نمط معيّن في انحرافاتها عن الفطر السليمة، إذ لا يصوّر لنا القرآن -في عرضه لقصّة النبي نوح (عليه السلام)- أي نوعٍ من تلكم السلطات الضاغطة على المجتمع الذي أرسله الله إليه، وإنما تعرض لنا الآيات القرآنية صورة لتلك الحالة الجاهلية والضلالة التي كانت تسود ذلكم المجتمع، ورثها هؤلاء القوم عن أسلافهم الغارقين في الجهل والضلال، وبسببٍ من تلكم الجهالة الطاغية تسودهم الحالة العصبية لتاريخهم وأسلافهم ولو كانوا ﴿لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ﴾[2].

وقريبًا من هذه الحال، نجد أحداث الدعوة الإسلامية فيما واجهه النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مع قومه، حيث الحال العامّة لذلكم المجتمع هي ما يسوده من جهالة وضلالة تجعلهم يتعصّبون لعاداتهم وعقائدهم السابقة تقليدًا لأسلافهم ليس إلَّا، فها هم يعبدون أصنامًا لا تملك لهم ضَرًّا ولا نفعًا، وإنما يقومون بذلك ضمن طقوس خرافية ورثوها، يبرّرون قيامهم بها ضمن منطق غير عقلائي وقعوا فيه نتيجة ما يسودهم من جهل وفراغ فكري، يجعل من السهل لأي فكرة -ولو كانت ساذجة- أن تتمكّن منهم، إذ كانوا يعبدون تلكم الأصنام ليقربوهم إلى الله زلفى، وكان الأحرى بهم عبادة الله خالقهم دون واسطة ما داموا يعترفون له بالألوهية.

ممّا يؤسّس له الدين الإسلامي

كما تصوّر لنا الآيات القرآنية -فيما تحكيه من قصص وأحداث سِيَر الدعوات النبوية- كيف عملت تلكم الرسالات على إنقاذ بعض الشعوب من بطش وطغيان بعض الظلمة والسلاطين، كما هي الحال مع قصص الأنبياء: موسى وسليمان وداود ويوسف وغيرهم، تصوّر لنا أحداث الدعوة الإسلامية كيف أنقذ الله أولئكم العرب مما كانوا يعيشونه من جهالة وضلالة وتشرذم إلى حالة من التنظيم والنقلة الحضارية والمعرفية بما عاشوه في ظلّ قيادة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من تمثيل قويّ لأبرز مظاهر القوّة الاجتماعية مكّنت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) آنذاك من تكوين أسس الدولة الإسلامية التي جمعت شتاتهم وتفرّقهم وتمزّقهم وتناحرهم بما هداهم إليه من شريعة سمحاء وجدوا فيها روحية عالية تنسجم مع ما تنادي به  فِطَرُهم.

ولنقرأ ذلكم التصوير والمقارنة بين حال المجتمع العربي ما قبل وما بعد ظهور الإسلام على لسان جعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه) إلى ملك الحبشة النجاشي أثناء هجرة المسلمين إليها عندما لجؤوا إليه خوفًا من بطش وجبروت قريش، إذ يقول: «أيها الملك، كنّا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الرحم، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منّا الضعيف، فكنّا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منّا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفّته، فدعانا إلى الله لنوحّده ونعبده ونخلع ما كنّا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام..»[3].

وجعفر بن أبي طالب (رضي الله عنه) في خطبته هذه يتحدّث عن المرحلة المكّية من الدعوة الإسلامية، إذ تمثّل هذه المرحلة ما كان النبي أسسه من قاعدة اجتماعية متماسكة، استطاع (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يكوِّن منها النواة القوية لبناء دولته الإسلامية التي أرسى قواعدها في المدينة المنوّرة، عاصمة الدولة الإسلامية التي توحّدت فيها أطراف شبه الجزيرة العربية خلال 23 سنة من الدعوة.

إنّ الإسلام -في حقيقته- كما يمثّل رفضًا لتلكم القيم والمبادئ الجاهلية وهدمًا لها، يبشّر بنظام بديل ينهض بذلكم الإنسان في حياته الفردية والاجتماعية ليعيش حياةً ملؤها السعادة والإحساس بالكرامة، وذلك فيما بشر به من شرع من أحكام تكفل هذه الحياة للإنسان.

موقعية الفقه في تحقيق أهداف الرسالة

والإسلام -في ذلك- نظام منبثق من عقيدة فكرية يؤمن بها المسلم من خلال ما تعرضه النصوص الإسلامية قرآنًا وسنةً، حيث تمثّل هذه العقيدة الخلفية الفكرية التي ينطلق منها المسلم في تطبيق ما يشتمل عليه النظام الإسلامي من أحكام تفصيلية تمسّ الجانب الأكبر في حياته اليومية، متمثِّلاً في تطبيقها بما ترويه الوقائع التاريخية عن الكيفية التي مارس بها نبيّنا الكريم تلكم الأحكام، حيث يمثّل المثال والقدوة في تطبيقها.

ذلك أن الأداء الأمين والدقيق للأحكام الإسلامية الفقهية هو الضامن الوحيد لتحقيق تلكم المبادئ العامّة التي بشّرت بها الرسالات الإلهية، ولذلك فإن أي انحراف في تطبيقها سيترك أثره سلبًا على مسيرة الدين فيما ترجوه الأمة من تحقيق لأهدافه في واقعها الاجتماعي والفردي.

الدكتور الفضلي في رؤيته للتشريع الإسلامي

والنقطة الأخير أعلاه هي ما ينطلق منها الدكتور عبد الهادي الفضلي في دراساته الفقهية وغير الفقهية من نظرته العامّة للدين، ذلك أنه يعطيه (أي: الدين) دورًا أوسع في حياة الإنسان، إذ يقول في ذلك: «هناك تعريف غربي للدين، وهو: «الدين: علاقة فردية بين الإنسان وخالقه»، وهو تعريف لا يلتقي وواقع ديننا الإسلامي، ذلك أن الإسلام لم يقتصر على توجيه وتنظيم علاقة الإنسان بربّه فقط، بل شمل كل علاقات الإنسان: فردية واجتماعية، بين الإنسان وربّه، وبين الإنسان وجميع ما في الكون والحياة»[4].

ولذلك عندما يعرّف الفضلي الإسلام يعرّفه بالتالي: «الإسلام هو: الدين الذي بعث الله تعالى به نبيّنا محمدًا (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى البشريّة كافّة، ويتألف من ركنين أساسيين، هما: العقيدة والنظام.

العقيدة هي: الإيمان بالله  تعالى وبأنبيائه وما أنزله عليهم وبأوصيائهم وباليوم الآخر. وتسمّى أصول الدين. والنظام هو: التشريع الإلهي الذي وضع لتنظيم الحياة البشرية كافّة، ويسمّى: فروع الدين»[5].

وانطلاقًا من ذلك يؤكّد الدكتور الفضلي أن «الإسلام يعرض رؤيةً للإنسان بحيث يضعه فيها الموضع الوسط بين التهميش والتأليه، فالإنسان -في الرؤية القرآنية- خليفة الله في الأرض، بمعنى أنه موكَّل على هذه الطبيعة، فيتصرَّف فيها موكَّلاً وليس مستقلاًّ، وذلك وفق وثيقة ومعاهدة بينه وبين الله سبحانه لها بنودها وأحكامها الضابطة لها، وهي ما تعبِّر عنها الرسالات الإلهية ﺑ«الدين».

إن هذه الرؤية التي يقدّمها الإسلام تضعه نظامًا وفكرًا قادرين على قيادة الحياة على هذه الأرض، بمرونة وصلاحية عالية، تعطي للإنسان الأمل في أن يعيش بسعادة وكرامة وهبتها له السماء، ودون مِنّة من نظام أو قوّة مسيطرة، كما هي الحال مع بقية الأنظمة والحضارات الأخرى»[6].

وانطلاقًا من هذه الرؤية العامّة للشريعة الإسلامية، ينظر إلى أهم ركنٍ فيها -وهو الفقه- برؤية خاصّة، لعلّ كتابه «دروس في فقه الإمامية»، محورَ البحث، هو من أهم المصادر التي يُرجع إليها لتعرّف رؤيته تلك، وبخاصّة فيما تناوله في جزئه الأوّل الذي خصّصه للبحوث التمهيدية، وهي البحوث التي يمكن استجلاء مجموعة من محاور الرؤية من خلالها، وذلك ضمن العناوين أدناه:

أ) الفقه الإسلامي في ضرورته كلاميًّا وحضاريًّا

حينما يبحث الدكتور الفضلي في الدرس الفقهي، فإنه يدرك أهمية وموقعية هذا الدرس في منطلقاته الدينية البحتة، ذلك أنه يرى أن «الحاجة إلى الفقه تأتي من حاجة الإنسان إلى التمسّك بالدين، ذلك أن الفطرة العقلية السليمة تقضي بوجوب الأخذ بالدين؛ لأن الإنسان -كما هي طبيعته وكما أكدت التجارب التاريخية- قاصر عن أن يدرك المصالح والمفاسد في جميع جزئيات وأنماط سلوكه فكريًّا وعمليًّا، فرديًّا واجتماعيًّا، ... وليس إلّا الدين يقوى على ذلك؛ لأنّه من الله.

والفقه -لأنه هو الذي يبحث في الأحكام الشرعية ويلتمسها من أدلتها- هو الذي يعطينا ويعرفنا الأحكام الدينية التي تقوم بتنظيم حياتنا الدنيوية بما يحقق لنا المصلحة ويبعدنا عن المفسدة، والتي تقوم برسم الطريق الذي يوصلنا إلى الغاية من خلقنا وهي الجنة وحياتها السعيدة سعادة الأبد»[7].

هذا من الناحية العقائدية البحتة، إذ يدلل المؤلّف على أهمية الفقه وتطبيقه كلاميًّا، ولكنّه يبيّن في موضع آخر أهمية الفقه من الناحية الحضارية، فيقول: «إنَّ من أهم ما يصنع الحضارة ويعطي للأمة وجهها الحضاري، ويخصّها بحضورها المتميّز بين الأمم هو الفكر التشريعي (الفقهي أو القانوني).

فالأمة التي لديها نتاج فكري تشريعي فبركته في قواعد حوّلته إلى علم = (الفكر المنظم)، ثم قولبته في مواد قانونية نقلته بواسطتها إلى نظام = (الفكر المقنن)، هي أمة متحضرة، لها مركزها الخاص بين الأمم المتمدنة، ذلك أن تحويل الفكر الخام إلى فكر منظم ثم إلى فكر مقنّن، عمل يعرب عن سمو في التفكير ونضج في أدواته من ذهنيات وخلفيات ثقافية»[8].

ب) التجربة الفقهية الإسلامية.. دراسة في النشأة

صدرت العديد من المؤلفات التي تعالج التأريخ للتشريع الإسلامي، وكانت في معظمها تنطلق لتدوين ذلكم التاريخ من الرؤية السنية التي تنسجم والرؤية الرسمية لعموم التاريخ الإسلامي في طابعها العامّ.

ومن أهم النقاط التي تركّز عليها الدراسات التاريخية للحياة الإسلامية العامّة هو إبراز المرحلة التي تعرف ﺑ«عهد الراشدين» وكأنها مرحلة سادها جوّ من الانسجام التامّ في الرؤية والموقف بين عموم جمهور الصحابة من جميع التطوّرات المفصلية في حياة الأمة الإسلامية في ذلك الوقت. وتصوير الاتجاه الرسمي للدولة الإسلامية بأنه امتداد لهذه المرحلة التي هي بدورها امتداد للسلوك العامّ للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيما تُصَوَّر الاتجاهات الأخرى وكأنها اتجاهات غريبة عن الجوّ الإسلامي وطارئة، وما ظهرت إلَّا مع ظهور الدولة الأموية[9].

بل إننا نقرأ للدكتور عبد العظيم شرف الدين واصفًا حال الصحابة ما بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: «على الرغم من وجود أسباب الخلاف بين الصحابة، فقد كان الخلاف بينهم يسيرًا لم يتشعّب، وذلك نظرًا لوجود أسباب اجتماع كلمتهم، ونوجزها فيما يلي:

1. كان مبدأ الشورى ساريًا فيما بينهم.

2. كان الصحابة لا يزالون في المدينة لم يتفرّقوا في الأمصار.

3. كان الاستنباط في هذا الدور قاصرًا على فتاوى يفتيها من سئل عن حادثة»[10].

وهي رؤية تختلف عمّا يعرضه الدكتور الفضلي في دروسه الفقهية هذه -بالإضافة إلى كتابه القيّم تاريخ التشريع الإسلامي الذي يتناول فيه هذه المسألة بتفصيل أكثر-، إذ يرى أن مذهب الإمامية يعد أقدم المذاهب الإسلامية من حيث الظهور، ذلك أنه يعدّ امتدادًا للنهج الذي رسمه الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، حيث يشير هناك إلى أن المسلمين -بعد رحيل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)- اختلفوا على اتجاهين، مثّل أولهما: الإمام علي (عليه السلام)، وهو الاتجاه الذي حافظ على الاجتهاد في حدود النصّ، بينما مثّل الاتجاه الآخر الخليفة عمر بن الخطّاب وسار عليه مجموعة من الصحابة، حيث أضاف عنصر الرأي في الاجتهاد، ولو كان ذلك في مقابل النصّ.

وقد حافظ الأئمة من أهل البيت (عليهم السلام) على هذا الاتجاه، فحاربوا ما سمّي -حينها- ﺑ(القياس)، وورث عنهم علماء الإمامية المسار والمنهج نفسه، إذ يقول الدكتور الفضلي حول هذه الفكرة: «وعلى منوال أئمة  أهل البيت (عليهم السلام) وبسيرتهم سار شيعتهم، ففي (الاحتجاج 2/288): عن الحسين بن روح النوبختي النائب عن الإمام المهدي (عليه السلام) أنه قال لمحمد بن إبراهيم بن إسحاق: «لئن أخرّ من السماء فتخطفني الطير أو تهوي بي الريح في مكان سحيق أحب إليّ من أن أقول في دين الله برأيي ومن عند نفسي، بل ذلك عن الأصل ومسموع من الحجة صلوات الله عليه وسلامه»..»[11].

فيما يشير في موضع آخر إلى أن مدرسة الصحابة «بدأت بمدرسة الرأي، وكان رائدها ورئيسها الخليفة عمر بن الخطّاب، وبعد وفاته وتبريز ابنه عبد الله فقيهًا من فقهاء المسلمين المشار إليهم، تركّزت على يديه مدرسة الحديث، وسارت المدرستان جنبًا إلى جنب، واتخذت مدرسة الرأي الكوفة مركزًا لها عن طريق عبد الله بن مسعود الذي كان يعدّ أبرز تلامذة عمر بن الخطّاب، وأبرز من تبنّى منهج وفكر مدرسة الرأي، وأخذت طابعها الواضح على يد إمام المذهب أبي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي.

أما مدرسة الحديث فاتخذت من المدينة المنوّرة مركزًا لها، واشتهر من أعلامها الفقهاء السبعة: سعيد بن المسيّب، وعروة بن الزبير، وأبو بكر بن عبد الرحمن المخزومي، وعبيدالله بن عبد الله، وخارجة بن زيد بن ثابت، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وسليمان بن يسار، وانتهت رئاسة هذه المدرسة إلى إمام المذهب مالك بن أنس، وعن طريقه انتشرت في البلدان الإسلامية»[12].

وانطلاقًا من هذه الفكرة يشير إلى نقطة مهمّة في المقارنة بين المدرستين الأساس (أهل البيت والصحابة)، ففي الوقت الذي تمتدّ فيه أولاهما امتدادًا طوليًّا محافظة على الخطّ والمنهج نفسه، «ما يثبت لنا قدمها، وسلامتها من التغيير منهجًا ومادة.

نجد المذاهب السنية تسير خلافًا لذلك، فالمذهب الظاهري يرفض الرأي ومتطوراته من قياس واستحسان وما إليهما، ... والمذهب الحنفي يتمسك بالرأي إلى أبعد الحدود التي بعدت به كثيرًا عن الحديث (السنة).

والمذاهب السنية الأربعة الأخرى جمعت بين الرأي والحديث مع ميل إلى الحديث أكثر من قبل المذهب الحنبلي، وأكثر منه من قبل المذهب السلفي، ... ومعنى هذا أن مذهب الصحابة تشعّب إلى هذه المذاهب مع ما بينها من الاختلاف في المنهج. ومن الطبيعي أن الاختلاف في المنهج يبعّد أن تكون الفروع امتدادًا تامًّا للأصل»[13].

ﺟ) أثر العامل السياسي في نشأة الفقه الإسلامي

بعث الله أنبياءه بالعديد من الرسالات بهدف رفع ما يعانيه الناس من ظلم وطغيان من قبل أولئكم المتجبرين من السلاطين، ولكنّ هذه الحال من الظلم سرعان ما ترجع بسبب ما تقوم به السلطات السياسية من تفريغ لتلكم الرسالات بما يضمن لهم مصالحهم الشخصية دون أي معارضة تستند إلى تعاليم الدين في معارضتها لذلكم الظالم.

ولم يكن التاريخ الإسلامي بعيدًا عن هذا المنحى، ولكنه في كثير من الأحيان لا يكون بيّن المعالم في الدراسات التاريخية، ولذلك فإننا قد لا نجد ربطًا واضحًا بين مسيرة التشريع الإسلامي وبعض الملابسات ذات الطابع السياسي في التأثير على هذه المسيرة، وهي النقطة التي لم يغفل الإشارة إليها الدكتور الفضلي في دروسه الفقهية، حيث استطاع تحليل بعض الظواهر التي طبعت مسيرة التشريع الإسلامي وربطها بالجانب أو البعد السياسي، ومن ذلك:

(أ) إشارته -في بحث موسّع- إلى انقسام المسلمين بعد رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى فريقين، أخذ أحدهما بمبدأ استعمال الرأي في قبال كثير من النصوص الشرعية الصريحة، ليقوم -بعد جولة استقرائية طويلة لأمثلة من المسائل التي رجع فيها بعض الصحابة، وعلى رأسهم الخليفة عمر بن الخطّاب إلى الرأي- بتقويم تلكم الحالة ومناقشة ما ورد حولها من آراء تصحّح عمل الصحابة، ليخلص إلى النتيجة التالية: «ولعلّ من المفيد أن ألمح -قبل الانتهاء من الموضوع- إلى السبب الذي دعا إلى القول بالرأي:

فيما إخال أنه يرجع إلى عامل سياسي مهمّ، وهو الموقف من الخلافة (الإمامة)، وذلك:

1. أن أهل البيت وأتباعهم كانوا يرون أحقية الإمام علي بالخلافة لثبوتها له ﺑ (حديثي الغدير والدار) معتضدين ﺑ(حديث الثقلين: الكتاب والعترة) ومؤيدَينِ بنصوص أخرى.

2. بينما استبعد الآخرون هذه النصوص تبريرًا للموقف، وذلك أن خلافة أبي بكر كانت كسبًا للموقف بإحباط مبادرة الأنصار أن تكون فيهم الخلافة، ..

ولأنه لا نص في البين يُسْتَنَدُ إليه، لا بدَّ إذًا من التماس مبدأ يستند إليه من ناحية شرعية فيتم على ضوئه التبرير المطلوب، فقالوا بمبدأ (الرأي)، وأُدخل الاجتهاد خارج النص دليلاً شرعيًّا إلى جانب النص»[14].

(ب) موقف أبي بكر وعمر من تدوين السنة، حيث يذهب إلى أن ذلك كان بغرض عدم نشر الأحاديث الخاصة بأحقية أهل البيت في الخلافة[15].

(ﺟ) بعد دراسة مستوفية لتحديد مفهوم أهل البيت، يشير المؤلّف إلى أن من أهم الأسباب وراء التضبيب على هذا المفهوم: العامل السياسي الذي خطّط ورسم له معاوية بن أبي سفيان، إذ نجده يصرّح بذلك في قوله: «إن الذي يستخلص من هذه الوثائق السياسية في أجواء ما روته من أحداث:

1. أن هذا الذي فعله معاوية لتوطيد ملكه بالقضاء على المعارضة المتمثلة في أهل البيت (عليهم السلام)، حوّله بدهائه السياسي إلى ظاهرة سياسية من ظواهر أنظمة الحكم السنية في البلاد الإسلامية، ...

2. أن هذا الذي فعله معاوية كان من أهم أهدافه التضبيب على أحاديث مناقب أهل البيت المروية حقًّا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والتعتيم عليها بوضع ما يماثلها في غير أهل البيت ليثير الشك حول صحة صدورها عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وصحة الاحتجاج بها.

3. أن هذا الذي فعله معاوية غُطِّي على واقعه سياسيًّا حتى أُظهر مطليًّا غلافه بالشرعية؛ لأن رواته من المتظاهرين بالتدين»[16].

د) رفع الغموض حول بعض المفردات الرئيسة

شاب البحث في نشأة المذاهب الفقهية الإسلامية بعض الغموض والتشويش، وبخاصّة في ظروف النشأة والولادة، وهو ما فرضَ بيان تلكم المفاهيم المفتاحية التي قد تساهم في رفع أو إيضاح ما لفّها من غموض، وانطلاقًا من ذلك نجد الدكتور عبد الهادي الفضلي -في كتاب الدروس الفقهية- قد خصّص قسمًا كبيرًا من بحوث الكتاب لدراسة مفردتين تعدّ من أهم المفاهيم المفتاحية ذات الدوران في الدرس الفقهي الإسلامي بعامّة، وهما:

- مصطلح (الرأي).

- مصطلح (أهل البيت).

ذلك أنهما المصطلحان اللذان انتسب إليهما الفريقان الرئيسان إسلاميًّا وفقهيًّا، وبخاصّة أن أتباع مدرسة الصحابة لم يتفقوا على معنى واحد لمفهوم (الرأي) كمنهج التزمه الصحابة، ما اضطرّ الدكتور الفضلي إلى إجراء دراسة استقرائية تتبّع فيها بعض المسائل التي استعمل فيها الصحابة مبدأ الرأي في قبال النص، ليخرج بعدها بالنتيجة التي تنهيه إليها تلكم العملية الاستقرائية.

كما أجرى بحثًا موسّعًا حول مصطلح (أهل البيت) أزال فيه بعض الغموض المصطنع حوله بسبب العامل السياسي.

وبالإضافة إلى هذين المصطلحين الأساس (الرأي وأهل البيت)، نجده يركّز البحث حول بعض المفاهيم الأخرى التي تحتاج إلى مزيد بيان وتوضيح، ومن ذلك إشارته إلى معنى دليلية الإجماع والعقل أدلةً اجتهادية بجانب القرآن والسنة في المدرسة الإمامية، وبخاصّة بعدما أكّد أن المنهج الاجتهادي لدى الإمامية لا يكون إلّا داخل النص الشرعي قرآنًا وسنة[17].

ﻫ) المنهجية المقترحة لتطوير الدرس الفقهي الإمامي

المشروع الأساس الذي يعمل عليه العلاّمة الدكتور الفضلي هو تحديث نظام الدراسة الدينية في شقّها الإمامي، وانطلاقًا من إشاراته في مقرّره القيّم هذا، يمكن تعرّف بعض معالم الرؤية التي يقدّمها في مجال تطوير الدرس الفقهي الإمامي، وذلك وفق النقاط التالية:

1- ربط دراسة المسألة الفقهية بالواقع التشريعي عصرَ صدور النص، وذلك بهدف فهم ملابسات وأجواء وبيئة صدور ذلكم الحكم، ولتحقيق قدر كبير في هذا المجال، يقترح الدكتور الفضلي أن يكون من مقدّمات علم الفقه -إلى جانب علوم اللغة العربية وعلوم القرآن وأصول الفقه وغيرها من العلوم-: دراسة الحياة الاجتماعية بتفصيلاتها الكثيرة عصرَ صدور النصوص الشرعية، فيقول حول هذه الفكرة: «وأعني به أن يتعرف الفقيهُ الحضارةَ والمدنية للعصر الذي يعيش فيه ويقدم له نتائجه الفقهية من آراء وفتاوى.

ذلك لأن الفقه هو النظام الشامل والقانون العام لحياة الإنسان المسلم، فإذا لم يعرف الفقيه حياة المسلم الذي يريد أن يقدم له فقهه في جميع أبعادها وأنماطها وأطوارها الاجتماعية حضارية ومدنية، لم يعد فقهه قادرًا على تنظيم حياة المسلم المعاصر له»[18].

2- ربط الدرس الفقهي بالواقع المعاصر، وذلك بهدف الوصول إلى إعطاء الحكم الصحيح من خلال تحديد الموضوع في واقعه الخارجي بصورة أكثر دقّة وأقرب للواقع، إذ نجده يقترح أن تكون هذه -أيضًا- من مقدّمات الدرس الشرعي[19].

وتطبيقًا لهذه الفكرة، نجده يقترح تبويبًا جديدًا للفقه، وذلك «استمدادًا من الواقع التطبيقي الذي يعيشه الإنسان المسلم، ومما يقرره المنهج العلمي الحديث من وجوب مراعاة الحاجة إلى الفقه في عالم الحياة المعيشة للمسلم، وبغية أن تترابط موضوعاته ترابطًا عضويًّا وفق ما لها من أهداف، رأيت أن أقسمه إلى الأبواب التالية:

1. أحكام العبادات.

2. الأحكام الفردية.

3. أحكام الأسرة.

4. الأحكام الاجتماعية.

5. أحكام الدولة.

6. أحكام الحقوق المالية العامة.

7. أحكام المعاملات الاقتصادية»[20].

3- كما أنه بحث بعض الموضوعات وفق المنهجية العلمية الحديثة، كما نجده في بحثه حول تحديد المفهوم الدقيق لمصطلح (الرأي)، حيث استفاد من المنهجية الحديثة في الوصول إلى النتيجة، وذلك بدءًا من الاستقراء والتتبّع وانتهاءً بالنتيجة القائمة على الاستنتاج والتحليل.

وكذلك في تحديد مفهوم التقليد ظاهرةً شرعية يمارسها أبناء المجتمع المسلم في التوصل إلى معرفة الحكم الشرعي[21]، وكذلك في تحديده لموضوع علم الفقه، إذ لم يعتمد في ذلك على تحديدات الفقهاء القدماء التي تعتمد الطريقة المنطقية القديمة[22]، وغيرها من المسائل التي طرق فيها منهجية جديدة في معالجة الشأن الفقهي.

 

 

 

 



[1] سورة القصص، الآيات: ٤ – ٦.

[2] سورة البقرة، الآية: ١٧٠.

[3] السيرة النبوية، ابن هشام، تحقيق: مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي، القاهرة، بدون تاريخ نشر، ج1/ 336.

[4] التربية الدينية .. دراسة منهجية لأصول العقيدة الإسلامية، الدكتور عبد الهادي الفضلي، بيروت: مركز الغدير، ط5، 1428ﻫ - 2007م، ص 25، بتصرّف.

[5] م. س 26.

[6] تعدّد السُّبُل: الإسلام بين حفظ الهوية الحضارية للشعوب والتزام النظام الإسلامي، الدكتور الفضلي، مجلّة الكلمة، العدد 71، السنة 18، ربيع 1432ﻫ - 2011م، ص 17.

[7] دروس في فقه الإمامية، الدكتور عبد الهادي الفضلي، بيروت: مركز الغدير، ط2، 1435ﻫ - 2014م، ج1/ 55.

[8] رأي في السياسة، الدكتور الفضلي، بيروت: دار الرافدين، ط1، 1431ﻫ - 2010م، ص 46 - 47.

[9] انظر على سبيل المثال: تاريخ التشريع الإسلامي، الشيخ محمد الخضري، جدّة: دار العمير للثقافة، ط1، 1413ﻫ - 1993م، ص 124 - 129؛ المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية، الدكتور عبد الكريم زيدان، بدون ناشر، ط7، ص 136 - 140؛ تاريخ التشريع الإسلامي وأحكام الملكية والشفعة والعقد، الدكتور عبد العظيم شرف الدين، بنغازي: منشورات جامعة قاريونس، ط4، 1993م، ص 120 - 128؛ تاريخ التشريع الإسلامي، بوجينا غيانة ستشيجفسكا، بيروت: دار الآفاق الجديدة، ط1، 1400ﻫ - 1980م، ص 140 - 141؛ المدخل الوسيط لدراسة الشريعة الإسلامية، الدكتور نصر فريد محمد واصل، القاهرة: المكتبة التوفيقية، بدون تاريخ نشر، ص 88 - 92؛ المدخل في الفقه الإسلامي، الدكتور محمد مصطفى شلبي، بيروت: الدار الجامعية، ط10، 1405ﻫ - 1985م، ص 121 - 128.

[10] تاريخ التشريع الإسلامي، عبد العظيم شرف الدين، مصدر سابق 117 - 118، مختصرًا.

[11] دروس في فقه الإمامية، الدكتور الفضلي، مصدر سابق، ج1/ 123.

[12] الشيخ المفيد مؤسس المدرسة الأصولية الإمامية، الدكتور عبد الهادي الفضلي، أعمال مؤتمر ألفية الشيخ المفيد - قم، الدراسة رقم 117، 1413ﻫ - 1371ﻫ. ش، ص 5 - 6، بتصرّف واختصار.

[13] دروس في فقه الإمامية، الدكتور الفضلي، مصدر سابق، ج1/ 133، بتصرّف يسير.

[14] المصدر السابق، ج1/ 135.

[15] انظر: المصدر السابق، ج1/ 148 ـ 149.

[16] المصدر السابق، ج1/ 192.

[17] انظر: المصدر السابق، ج1/ 129 - 1132.

[18] المصدر السابق، ج1/ 71.

[19] انظر: المصدر السابق، ج1/ 82.

[20] المصدر السابق، ج1/ 241 ـ 252.

[21] المصدر السابق، ج1/ 283 ـ 286.

[22] انظر: المصدر السابق، ج1/ 51 ـ 54.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة