تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

تقريب المنطق الأرسطي في التراث العربي الإسلامي

علي صديقي

تقريب المنطق الأرسطي في التراث العربي الإسلامي

ابن حزم الأندلسي أنموذجًا

الدكتور علـي صديقـي*

*         أستاذ باحث، جامعة محمد الأول، الكلية المتعددة التخصصات، الناظور، المغرب. البريد الإلكتروني: saddiki-1@hotmail.fr

 

 

 

ﷺ تمهيـــد

شاع لدى بعض الباحثين المعاصرين أن ابن حزم الأندلسي (توفي456ﻫ) ألف كتابه (التقريب لحد المنطق)[1]، بغرض تيسير المنطق الأرسطي وتسهيله واختصاره. بل إن منهم من ذهب إلى حد اعتبار ابن حزم نموذجًا للتقريب اللغوي لهذا المنطق[2].

وهذا يعني أن محاولة ابن حزم التقريبية للمنطق الأرسطي لا تختلف كثيرًا عن محاولات من سبقه إلى تقريب هذا المنطق؛ ذلك بأن محاولة تبسيط المنطق وتسهيله قد بدأت مباشرة بعد دخول هذا المنطق إلى العالم العربي الإسلامي؛ إذ يمكن العودة بها إلى النقلة الأوائل الذين اعتنوا بترجمة الكتب المنطقية، وعبروا عما ترجموا بعبارات سهلة واضحة[3].

يضاف إليهم المشاؤون الأوائل الذين احتفوا بهذا المنطق، وتولوا شرح المستغلق من ألفاظه، أمثال يعقوب بن إسحاق الكندي (توفي 259ﻫ)، وأحمد بن الطيب السرخسي (توفي 286ﻫ)، وأبو نصر الفارابي (توفي 339ﻫ) وغيرهم.

غير أن من يقرأ كتاب التقريب لابن حزم يلاحظ خلاف ذلك؛ إذ سرعان ما يدرك أن هدف ابن حزم في كتابه هذا، ليس هو مجرد تبسيط المنطق وتيسيره؛ أي تيسيره تيسيرًا لغويًّا، وإنما هدفه هو تقريب هذا المنطق تقريبًا معرفيًّا، وذلك بتصحيح هذا المنطق وتوسيعه، بغرض التأسيس لمنهجية أصولية جدلية (برهانية) صارمة تقوم على القطع واليقين، استنادًا إلى المنطق الأرسطي.

وهذه المنهجية هي التي سيقرأ بها أصول الفقه في كتابه (الإحكام)، وهي التي سيقرأ بها العقيدة في كتابه (الفصل)، فهو يقول: «فكتبنا كتابنا الموسوم بكتاب التقريب، وتكلمنا فيه على كيفية الاستدلال جملة، وأنواع البرهان الذي به يستبين الحق من الباطل في كل مطلوب، وخلصناها مما يظن أنه برهان وليس ببرهان، وبيّنا كل ذلك بياناً سهلًا لا إشكال فيه، ورجونا بذلك الأجر من الله عز وجل فكان ذلك الكتاب أصلًا لمعرفة علامات الحق من الباطل، وكتبنا أيضًا كتابنا الموسوم بالفصل؛ فبيّنا فيه صواب ما اختلف الناس فيه من الملل والنحل بالبراهين التي أثبتنا جملها في كتاب التقريب. ولم ندع -بتوفيق الله عز وجل لنا- للشك في شيء من ذلك مساغًا، والحمد لله كثيرًا، ثم جمعنا كتابنا هذا وقصدنا فيه بيان الجمل في مراد الله عز وجل منا فيما كلفناه من العبادات والحكم بين الناس بالبراهين التي أحكمناها في الكتاب المذكور آنفا»[4].

من هنا، نعد هذا الكتاب أهم كتب ابن حزم، نظرًا لقيمته المنهجية؛ إذ هو أصل لكتبه الأخرى التي هي تبع له، كما أننا لا نعد ابن حزم نموذجًا للتقريب اللغوي للمنطق الأرسطي، وإنما نعتبره نموذجًا للتقريب المعرفي لهذا المنطق، وذلك بخلاف ما ذهب إليه طه عبد الرحمن[5].

صحيح أن ابن حزم قام بمحاولة جادة في تقريب هذا المنطق لغويًّا، لكنه ليس صحيحًا أنه توقف عند حدود هذا التقريب، وإنما تجاوزه إلى تقريبه معرفيًّا أيضًا، وذلك من خلال تصحيحه كثيرًا من مفاهيم هذا المنطق، وفي مقدمتها مفهوم الحد الذي يشكل موضوع هذه الدراسة.

ويهدف هذا البحث إلى تحديد مفهوم التقريب عند ابن حزم، وإلى الوقوف على حقيقة تقريبه للمنطق الأرسطي، وإبراز جهوده في تقريب هذا المنطق تقريبًا معرفيًّا. وسيتبعه –إن شاء الله تعالى- بحث آخر نقف فيه عند مفهوم البرهان عند ابن حزم، وهو البرهان الذي قلنا بأنه سيقوم بتوسيعه بغرض تأسيس الجدل الأصولي الموسع.

ﷺ أولًا: مفهوم التقريب عند ابن حزم الأندلسي

1. مفهوم التقريب في التراث العربي الإسلامي

1.1. التقريب لغة

قال ابن فارس: «القاف والراء والباء أصل صحيح يدل على خلاف البعد. يقال: قرب يقرب قربًا... والقربان: ما قرِّب إلى الله تعالى من نسيكة أو غيرها»[6]. وقال ابن منظور: «القرب نقيض البعد. قرُبَ الشيءُ، بالضم، يقرب قربًا وقُربانًا وقِربانًا، أي دنا، فهو قريب... وقالوا: هو قُرابَتُك، أي قريب منك في المكان، وكذلك: هو قُرابَتُك في العلم... يتقارب الزمان حتى تكونَ السنةُ كالشهر؛ أراد: يَطيبُ الزمان حتى لا يُستطال... والقَرابة والقُربى: الدُّنوُّ في النسب... شيء مُقارِبٌ، بكسر الراء، أي وسط بين الجيد والرديء... والقرَب: البئرُ القريبةُ الماء... وقوله في الحديث: سدِّدوا وقارِبوا، أي اقتصِدوا في الأمور كلِّها، واتركوا الغلوَّ فيها والتَّقصيرَ...»[7].

يتضح من هذيْن النصين اللغويين، ومن غيرهما، أن مادة لفظة التقريب تدل في المعاجم اللغوية العربية على جملة معانٍ، أهمها:

- خلاف البعد في الماديات (المكان)، وفي المعنويات (العلم والزمان والنسب).

- التقرب إلى الله سبحانه بالذكر والعمل الصالح، ابتغاء مرضاته.

- الدنو والوسطية والاقتصاد في جميع الأمور، وترك الغلو والتقصير فيها.

2.1. التقريب اصطلاحًا

وردت لفظة التقريب في كتب الحدود والاصطلاحات بمعنى «سَوق الدليل على وجه يستلزم المطلوب، فإذا كان المطلوب غير لازم واللازم غير مطلوب، لا يتم التقريب»[8].

أما التهانوي فعرفه بقوله: «التقريب عند أهل النظر سوق الدليل على وجه يستلزم المطلوب. فإن كان الدليل يقينيًّا يستلزم اليقين به وإن كان ظنيًّا يستلزم الظن به وهو مرادف التطبيق»[9].

ونلحق بهذه الدلالة الاصطلاحية للتقريب دلالته في كتب التراث العربي الإسلامي؛ إذ يلاحظ قارئ هذا التراث كثرة ورود التقريب -لفظًا ومعنًى- في عناوين عدد من الكتب التراثية، كما وردت في عدد من مقدمات هذه الكتب مما يتعذر حصره. وفي الحالتين معًا تدل اللفظة على جملة من المعاني التي يمكن عدها اصطلاحية، وهي معانٍ موصولة بالمعاني اللغوية، مثل الدلالة على البيان والتسهيل والاختصار والتنقيح وتجنب التعقيد والغموض والإطالة؛ وذلك بغرض التقرب إلى الله تعالى ونيل الأجر والثواب.

ومن الأمثلة على ذلك قول أبي بكر محمد بن فورك الإصبهاني (توفي 406ﻫ): «سألتم –أدام الله توفيقكم- أن أملي عليكم حدودًا ومواضعات ومعاني وعبارات دائرة بين العلماء بأصول الدين وفروعه مما ارتضاها شيوخنا رحمهم الله، وقام الدليل عندي بصحتها، وأوجزها ليقرب تناولها ويسهل حفظها، فأجبتكم إلى ذلك رغبة في الثواب، وجزيل الأجر عند المآب»[10].

وقول أبي حيان الأندلسي (توفي745ﻫ): «فإني عنيت بالتنقيح للعبارة، وغنيت عن التصريح بالإشارة، وربما قدمت بعضه على بعض لاشتراك في حكم، أو ملاءمة ترصيف أو نظم. ولما قربت فيه النازح إلى أهله، وقرنت الشكل بشكله، وجاء في نحو من ربع أصله، سميته «تقريب المقرب». وإلى الله أضرع وأرغب في أن يجعله خالصًا لوجهه الكريم، ومعينًا على فهم كتابه الحكيم بمنه ويمنه»[11].

إن دلالة التقريب على التيسير التي شاع استخدامها في الدراسات العربية الحديثة، وعلى معاني أخرى تفتقر إليها لفظة التيسير، ثم ارتباطها بمعنى التقرب إلى الله تعالى، يجعلنا نعد التقريب مصطلحًا تراثيًّا نفضل استعماله على لفظة التيسير، خاصة ونحن نعلم أن المسلم لا يقوم بأي عمل إلَّا بغرض التقرب به إلى الله تعالى ونيل رضاه وأجره.

2. مفهوم التقريب عند ابن حزم

1.2. مفهوم التقريب في غير كتاب التقريب

كان ابن حزم، كغيره من النظار المسلمين، محبا للبيان والتيسير، ميالًا إلى الإيجاز والتوسط، متجنبًا الإطالة والتعقيد والغموض، راجيًا من وراء ذلك كله التقرب إلى الله عز وجل، والظفر بثوابه وأجره.

ولذلك تجده يكثر من استعمال التقريب -لفظًا ومعنًى- في مقدمات كتبه، جاعلًا ذلك هدفه الأسمى. فهو يقول في مقدمة كتابه الفصل، متحدثًا عمَّن سبقه إلى التأليف في ديانات الناس ومقالاتهم: «إن كثيرًا من الناس كتبوا في افتراق الناس في دياناتهم ومقالاتهم كتبًا كثيرة جدًّا، فبعض أطال وأسهب، وأكثر وهجَّر، واستعمل الأغاليط والشغب، فكان لذلك شاغلًا عن الفهم، وقاطعًا دون العلم، وبعض حذف وقصر، وقلل واختصر، وأضرب عن كثير من قوى معارضات أصحاب المقالات فكان في ذلك غير منصف لنفسه في آن لا يرضى لها بالغبن في الإبانة وظالمًا لخصمه في آن، لم يوفه حق اعتراضه، وباخسًا حق من قرأ كتابه؛ إذ لم يفند به غيره. وكلهم –إلَّا تحلة القسم- عقد كلامه تعقيدًا يتعذر فهمه على كثير من أهل الفهم، وحلق على المعاني من بعد حتى صار ينسي آخرُ كلامه أولَه، وأكثر هذا منهم ستائر دون فساد معانيهم، فكان هذا عملًا منهم غير محمود في عاجله وآجله»[12].

وهكذا، فهو يعيب على من سبقه سوء الإطالة والإسهاب، وتعمّد التعقيد والغموض سترًا لمعانيهم الفاسدة، معتبرًا ذلك عملًا غير محمود في العاجلة والآجلة، وهذا ما دفعه إلى تأليف كتابه، حيث يقول: «فجمعنا كتابنا هذا مع استخارتنا الله عز وجل في جمعه، وقصدنا به إيراد البراهين المنتجة عن المقدمات الحسية أو الراجعة إلى الحس من قرب أو من بعد على حسب قيام البراهين التي لا تخون أصلًا مخرجة إلى ما أخرجت له، وألَّا يصح منه إلَّا ما صححت البراهين المذكورة فقط، إذ ليس الحق إلَّا ذلك، وبالغنا في بيان اللفظ وترك التعقيد، راجين من الله عز وجل على ذلك الأجر الجزيل»[13].

وبهذا المعنى أيضًا استعمل لفظة التقريب في بعض كتبه الأخرى، كقوله في كتاب الإحكام: «وجعلنا كتابنا هذا أبوابًا لنقرب على من أراد النظر فيه. ويسهل عليه البحث عمَّا أراد الوقوف عليه منه. رغبة منا في إيصال العلم إلى من طلبه ورجاء ثواب الله عز وجل في ذلك»[14].

وقوله في كتاب الدرة: «ثم رأينا أن نجمع هاهنا جملًا كافية، مختصرة اللفظ والبراهين، يسهل فهمها، ويقرب حفظها»[15].

2.2. مفهوم التقريب في كتاب التقريب

يبدو أن لفظة التقريب التي اختارها ابن حزم لتكون فاتحة عنوان كتابه قد أثارت بعض الجدل بين الباحثين الذين استأثرت هذه اللفظة باهتمامهم، وحاولوا تأويلها وتحديد دلالتها. فما التقريب عند ابن حزم في هذا الكتاب؟ وما الدلالة التي أعطيت لها من قبل المستشرقين والباحثين العرب؟

حصر ابن حزم الأندلسي مراتب التأليف المحمودة -التي لا يؤلف أهل العلم إلَّا فيها- في سبع لا ثامن لها، هي: الابتكار، والتتميم، والتصحيح، والشرح، والاختصار، والتجميع، والترتيب. يقول ابن حزم: «والأنواع التي ذكرنا سبعة لا ثامن لها: وهي إما شيء لم يسبق إلى استخراجه فيستخرجه؛ وإما شيء ناقص فيتممه؛ وإما شيء مخطأ فيصححه؛ وإما شيء مستغلق فيشرحه؛ وإما شيء طويل فيختصره؛ دون أن يحذف منه شيئًا يخل حذفه إياه بغرضه؛ وإما شيء مفترق فيجمعه؛ وإما شيء منثور فيرتبه»[16].

غير أن المؤلفين في هذه الأصناف السبعة التي ذكرها، يتفاضلون فيما بينهم بحسب حِذق كل واحد منهم وتفاوتهم استيعابًا وتقصيرًا، مع أنهم –جميعًا- مستحقو الأجر والثواب، شرط عدم خروجهم عن هذه الأنواع.

ثم إن ابن حزم بعد ذكره هذه الأصناف السبعة، أخذ في تعداد أصناف أخرى من التواليف مذمومة، لا تختلف في شيء عن أفعال أهل الجهل والسخف؛ وهذه الأنواع هي: التقليد، والتحريف، والفضول والحماقة. يقول ابن حزم: «وأما من أخذ تأليف غيره فأعاده على وجهه أو قدَّم وأخَّر، دون تحسين رتبة، أو بدّل ألفاظه دون أن يأتي بأبسط منها وأبين، أو حذف مما يحتاج إليه، أو أتى بما لا يحتاج إليه، أو نقض صوابًا بخطأ، أو أتى بما لا فائدة فيه، فإنما هذه أفعال أهل الجهل والغفلة، أو أهل القِحَة والسخف، نعوذ بالله من ذلك»[17].

وبناء على هذا التصنيف، يضع كتاب التقريب تحت المرتبة الرابعة التي هي «شرح المستغلق»[18]. غير أن ابن حزم يستطرد بعد ذلك، فيما يشبه نوعًا من التوسيع لمفهوم شرح المستغلق، أو التحديد لمفهوم التقريب وإن لم يرد ذكره هنا، قائلًا: «ولن نعدم، إن شاء الله، أن يكون فيه[19] بيان تصحيح رأي فاسد يوشك أن يغلط فيه كثير من الناس وتنبيه على أمر غامض، واختصار لما ليست بطالب الحقائق إليه ضرورة، وجمع أشياء مفترقة مع الاستيعاب لكل ما بطالب البرهان إليه أقل حاجة، وترك حذف شيء من ذلك البتة»[20].

إن هذا النص يختصر دلالات التقريب عند ابن حزم؛ فالتقريب أعم من شرح المستغلق وأوسع منه؛ إنه شرح، وتصحيح، واختصار، وتجميع؛ أي إن شرح المستغلق مجرد نوع من أنواع التقريب، أو هو مرحلة أولى تليها مراحل أخرى.

غير أن أغلب من درس ابن حزم وكتابه التقريب، ذهب إلى أن ابن حزم استهدف في هذا الكتاب شرح المستغلق من منطق أرسطو. وفي مقدمة هؤلاء المستشرق الإسباني آسين بلاثيوس M. Asin Palacios الذي رأى، في كتابه عن ابن حزم الذي أصدره عام 1927؛ أي قبل اكتشاف مخطوط كتاب التقريب، أن اللفظة تعني «المدخل، أي ما يقربنا من شيء من الأشياء. أو الشرح والتسهيل»[21].

وبعد سنوات من اكتشاف مخطوط كتاب ابن حزم، ونشره محققًا من لدن إحسان عباس، جاء مستشرق إسباني آخر، وهو كروث هرناندث M. Cruz Hernandez، فأكد ما ذهب إليه سلفه بلاثيوس، ورأى أن الكتاب مجرد «مدخل مختصر للألفاظ المستعملة في المنطق»[22].

وتبع هذين المستشرقين عدد من الباحثين العرب الذين تبنّوا هذا التفسير؛ فقد ذكر وديع واصف مصطفى أن من أهداف ابن حزم في كتابه التقريب «رفع الالتباس والغموض الذي أحاط بهذه الكتب وعرضها بألفاظ قريبة للأفهام؛ إذ يجب على كل من لديه أثر علم أن يقدمه في صورة ميسورة للغير حتى تتحقق الفائدة منه»[23].

كما خلص إلى أن من دوافع ابن حزم لتقريب المنطق الأرسطي «الدوافع التعليمية»، التي «تهدف إلى تقريب المنطق للأفهام، وتيسيره للغير حتى تتحقق الفائدة منه، فكانت توجهات ابن حزم لإعادة طرح المنطق بأسلوب واضح ومختصر في عبارات لا يتعثر في فهمها المتخصص أو العامي»[24].

أما ناصر محمد يحيى ضميرية فذهب إلى أن محاولة ابن حزم تقريب المنطق الأرسطي تعد «أول محاولة منهجية في تقريب المنطق»[25]، وأن «إيمان ابن حزم بفائدة المنطق وأهميته جعله يسعى لتبسيطه وتسهيله وتقريبه إلى الأذهان ليسهل درسه وفهمه ونشره».

كما رأى أن ابن حزم قد وجد مشكلتين في المنطق؛ المشكلة الأولى هي «تعقيد الترجمة وصعوبتها وإيرادها بألفاظ خاصة غير مفهومة ومتداولة بين الناس، والمشكلة الثانية تتمثل في كون الأمثلة المنطقية صعبة الفهم وذلك لكونها مستمدة من الحياة والثقافة اليونانية، أو أن المناطقة درجوا على استخدام الرموز والأحرف في ضرب الأمثلة»[26].

ولعل الذي دفع هؤلاء وأولئك إلى الظن بأن التقريب عنده يفيد مجرد البيان والتسهيل، هو بعض النصوص التي وردت فيها هذه اللفظة بهذا المعنى، كقوله: «واعلم أن هذا الكلام الذي نتأهب لإيراده دأبًا وننبهك على الإصاخة إليه هو الغرض المقصود من هذا الديوان وهو الذي به نقيس جميع ما اختلف فيه من أي علم كان، فتذوقه ذوقًا لا يخونك أبدًا، وتدبره نعمّا وتحفظه جيدًا فهو الذي وعرته الأوائل وعبرت عنه بحروف الهجاء ضنانة به، واحتسبنا الأجر في إبدائه وتسهيله وتقريبه»[27].

وقوله أيضًا: «فقربنا من ذلك بعيدًا، وبيّنا مشكلًا، وأوضحنا عويصًا، وسهلنا وعرًا، وذللنا صعبًا»[28].

غير أن الملاحظة التي نبديها هنا هي أن التقريب لو كان مجرد شرح للمستغلق من المنطق الأرسطي، لاكتفى ابن حزم في كتابه بشرح ما غمض من هذا المنطق وتبسيطه، ولكان أولى أن يسمه بـ«الشرح لمستغلق المنطق» بدل «التقريب لحد المنطق».

ثم لو كان التقريب مرادفًا لشرح المستغلق لما ذهب أبو عبد الله الحُميدي (توفي488ﻫ) إلى أن ابن حزم سلك في تقريبه للمنطق، و «بيانه وإزالة سوء الظن عنه وتكذيب الممخرقين به طريقة لم يسلكها أحد قبله»[29].

أضف إلى ذلك، أن ابن حزم لو اكتفى بتبسيط المنطق الأرسطي وتسهيله لما ذهب كثير من القدماء إلى اتهامه بالغلط وسوء فهم غرض أرسطو. يقول صاعد الأندلسي (توفي462ﻫ): «فعني بعلم المنطق وألف فيه كتابًا سماه «التقريب لحدود المنطق»، بسط فيه القول على تبيين طرق المعارف واستعمل فيه مثلًا فقهية وجوامع شرعية، وخالف أرسطاطاليس واضع هذا العلم في بعض أصوله، مخالفة من لم يفهم غرضه، ولا ارتاض في كتابه، فكتابه من أجل هذا كثير الغلط، بيّن السقط»[30].

وتابع صاعدًا ابنُ حيان، فردّد التهمة نفسها، حيث يقول: «كان أبو محمد حامل فنون من حديث وفقه وجدل ونسب، وما يتعلق بأذيال الأدب، مع المشاركة في كثير من أنواع التعاليم القديمة من المنطق والفلسفة. وله في بعض تلك الفنون كتب كثيرة، غير أنه لم يخل فيها من الغلط والسقط، لجرأته في التسوُّر على الفنون لا سيما المنطق، فإنهم زعموا أنه زلّ هنالك، وضلّ في سلوك تلك المسالك، وخالف أرسطاطاليس واضعه مخالفة من لم يفهم غرضه، ولا ارتاض في كتبه»[31].

من هنا، رفض عدد من الباحثين العرب قصر دلالة التقريب على «المدخل»، وعلى «الشرح والتسهيل»، وعدّوا هذا الحكم بسيطًا ومجانبًا للصواب. ورأوا أنه من الجناية على الكتاب فهم التقريب على أنه يعني مجرد المدخل أو التبسيط، وإنما هو أكثر من ذلك؛ إنه «شرح للمستغلق» من المنطق الأرسطي، وشرح المستغلق –بحسب سالم يفوت– «ليس تبسيطًا وحسب، لأن ذلك لا يشكل سوى غرض من أغراضه، بل هو أيضًا رفع لالتباسات الموقف الأرسطي وكشف لغوامضه، وإعادة لكتابته من جديد. فلشرح المستغلق مستويات، الشرح والتبسيط أحدها. وتتمثل هذه المستويات في محاولة تعريب لا النص، بل المفاهيم أيضًا، ورؤيتها انطلاقًا من بنية لغة المخاطِب والمخاطَب في فهم الأصل على حقيقته [...]. وفي محاولة اجتناب استعمال اللغة الرمزية في التعبير عن أشكال البرهان، واعتماد اللغة الطبيعية التي هي المرجع في استعمال جهاز المفاهيم النحوية العربية»[32]. وهذا يعني أن ابن حزم ألف كتابه هذا بغرض «تعريب المنطق وتكييفه بالثقافة العربية الإسلامية»[33].

ويعبر محمد مهران رشوان عن الرأي نفسه، فبعد أن انتقد بدوره رأي المستشرقيْن الإسبانيين، أكد أن «فقيه قرطبة المنطقي أراد أن يقدم صياغة جديدة للعمليات المنطقية والألفاظ المنطقية يتخطى بها عمل خاصة المناطقة والمشتغلين به إلى نص منطقي «بألفاظ سهلة بسيطة»[34].

وهذه المهمة –في نظره– لا تتطلب مجرد الشرح والتوضيح، وإنما «تقتضي الحذف (غير المخل) والإضافة، واستبدال ألفاظ بألفاظ، وضم أجزاء إلى أجزاء وغير ذلك من إجراءات من شأنها تحقيق هذه الغاية»[35]. وخلص في الأخير إلى أن لفظة التقريب «تعني صياغة جديدة بنظرة جديدة وتحت ظروف مختلفة أوهمت الباحثين بالغلط والسقط الذي زعموا أنه قد وقع فيه»[36].

أما أغراض ابن حزم في الكتاب فيحصرها الباحث فيما يأتي:

1- بيان حقيقة الكتب المنطقية والرد على المشغبة[37].

2- الشرح والتوضيح والتبسيط والتخفيف، وهو يعد الغرض الرئيس[38].

3- تطويع المادة المنطقية وتكييفها لتدخل في العلوم الشرعية والدراسات الدينية[39].

أما ثالث الباحثين العرب الذين رفضوا جعل التقريب مرادفًا للشرح والتبسيط فهو أنور الزعبي. فقد رأى الزعبي أن التقريب يتجاوز الهدف المباشر والظاهر الذي توحي به اللفظة، والذي صرح به ابن حزم نفسه في أكثر من موضع من كتابه، والمتمثل في «شرح منطق أرسطو، وتقريبه إلى الأفهام»، إلى هدف آخر، هو «تكييف المنطق الأرسطي»، لكن ليس مع الثقافة العربية ككل كما ذهب إلى ذلك يفوت، وإنما مع «النظرة الظاهرية» فحسب، وذلك «بعد إضافة أصول جديدة مخالفة للأصول الأرسطية»[40]؛ أي إصلاح المنطق الأرسطي وتخليصه من الشغب قبل الدفاع عنه والترويج له في صفوف المتدينين من المسلمين[41].

هذه هي دلالات التقريب وأهدافه لدى ابن حزم في نظر هؤلاء الباحثين الثلاثة، وفي نظر صاحب هذه الدراسة، وهي دلالات وأهداف قد تضطرنا إلى إعادة تصنيف مراتب التأليف لدى ابن حزم، وحصرها في أربع، هي: الابتكار، والتتميم، والتقريب، والترتيب.

وبناء على هذا التحديد لمفهوم التقريب، سيشرع ابن حزم في شرح ما جاء عند الأوائل غامضًا، وتصحيح ما رآه عندهم فاسدًا، واختصار المطول مما لا يحتاج إليه طالب الحقائق، وتجميع ما جاء متفرقًا عندهم؛ أي أنه سيشرع في تقريب المنطق الأرسطي.

وسواء كان التقريب عند ابن حزم بمعنى التيسير والشرح، أي تقريبًا لغويًّا بسيطًا، أو كان بمعنى التصحيح والتوسيع، أي تقريبًا معرفيًّا مركبًا، فإن الهدف منه هو الدفاع عن المنطق، وإزالة الباطل من نفوس من حكم على كتبه باشتمالها الكفر والضلال.

ويؤكد ابن حزم أن منفعة المنطق لا تقتصر على علم واحد بعينه، وإنما تشمل العلوم كلها؛ إذ منفعتها «في كتاب الله عز وجل، وحديث نبيه (صلى الله عليه وسلم)، وفي الفتيا في الحلال والحرام، والواجب والمباح، من أعظم منفعة... وأما علم النظر في الآراء والديانات والأهواء والمقالات فلا غنى بصاحبه عن الوقوف على معاني هذه الكتب... وأما علم النحو واللغة والخبر وتمييز حقه من باطله والشعر والبلاغة والعروض فلها في جميع ذلك تصرف شديد وولوج لطيف وتكرر كثير ونفع ظاهر. وأما الطب والهندسة والنجوم فلا غنى لأهلها عنها...»[42].

من هنا، يدعو ابن حزم إلى الإقبال على هذا العلم، وإلى تعلمه كل بحسب طاقته ودرجة ذكائه. أما من لا علم له به فلا يوثق بعلمه؛ لأن من جهله «خفي عليه بناء كلام الله عز وجل مع كلام نبيه (صلى الله عليه وسلم)، وجاز عليه الشغب جوازًا لا يفرق بينه وبين الحق، ولم يعلم دينه إلا تقليدًا، والتقليد مذموم، وبالحري إن سلم من الحيرة، نعوذ بالله منها»[43].

أما «الجاهل» الذي يعترض على هذا العلم بدعوى أن السلف الصالح لم يتكلم فيه، فدعواه مردودة عليه بحسب ابن حزم، ووجه ردها أن هذا العلم فطري «مستقر في نفس كل ذي لب، فالذهن الذكي واصل بما مكنه الله تعالى فيه من سعة الفهم، إلى فوائد هذا العلم»[44]، كما أن هذا السلف لم يتكلم أيضًا في مسائل النحو حتى فشا اللحن، وكذلك يقال عن جميع العلوم كعلم اللغة والفقه[45].

3. تفنيد مزاعم عمار الطالبي حول تأثر ابن حزم بمنهج الفارابي في تقريب المنطق الأرسطي

أثار عمار الطالبي قضية السبق بين الفارابي وابن حزم إلى تقريب المنطق الأرسطي؛ فذهب إلى أن الفارابي هو «أول من يسّر المنطق، وقرّبه للأفهام، واستخدم فيه عبارات الفقهاء والنحاة، واصطلاحات المتكلمين، وقارن فيه بين منهج الأصوليين وبين منطق المشّائين، وضرب الأمثلة من القرآن، ومن عبارات الفقهاء في القياس وغيره من الاستقراء والتمثيل، وألف في ذلك كتابًا سماه «كتاب المختصر الصغير في المنطق على طريقة المتكلمين»[46]. وأضاف أن ابن حزم الذي جاء بعد الفارابي قد «سلك منهجه في تقريب المنطق إلى الأذهان بالأمثلة العامية».

ولم يستبعد الطالبي اطلاع ابن حزم على كتب الفارابي المنطقية التي نقلها إلى الأندلس الطلاب الذين رحلوا من الأندلس إلى المشرق أمثال ابن عبدون الجبلي (توفي361ﻫ)[47].

فهل يكون ابن حزم مسبوقًا حقًّا إلى تقريب المنطق الأرسطي من قبل الفارابي؟ وإذا كان ذلك صحيحًا، فهل سلك منهجه في هذا التقريب؟ هذا ما سنحاول تأكيده أو نفيه بعد الوقوف على حقيقة تقريب الفارابي لمنطق أرسطو.

حدد الفارابي الغرض من تأليف كتابه القياس الصغير في رد أدلة المتكلمين وقياسات الفقهاء إلى القياسات المنطقية الأرسطية، وإثبات أنها هي بأعيانها. يقول الفارابي: «فتبيّن أولًا كيف القياس وكيف الاستدلال، وبأي شيء «تستنبط» المجهولات المطلوب معرفتها، وكم أصناف القياس وكيف يلتئم ويجعل القوانين التي يثبتها هاهنا هي بأعيانها الأشياء التي أفادها أرسطو طاليس في صناعة المنطق»[48].

ولتحقيق هذه الغاية، وعد الفارابي أهل اللسان العربي بتسهيل المنطق الأرسطي، واستعمال المشهور عندهم من الألفاظ والمعتاد من الأمثلة، فقال: «ويتحرى أن «تكون» العبارة عنها في أكثر ذلك بألفاظ مشهورة عند أهل اللسان العربي، ويستعمل في إيضاح تلك القوانين أمثلة مشهورة عند أهل زماننا. فإن أرسطوطاليس لما أثبت تلك الأشياء في كتبه جعل العبارة عنها بالألفاظ المعتادة عند أهل لسانه، فاستعمل أمثلة كانت مشهورة متداولة عند أهل زمانه»[49].

وقال أيضًا: «فلذلك رأينا أن تطرح من أمثلته[50] التي أوردها ما لم تجربه عادة نظارى أهل زماننا ونستعمل المشهور عندهم ونقتصر في كتابنا هذا على الضروري من أمر القياس على الإطلاق، ونوجز القول فيه ونسهله بغاية ما نقدر عليه...»[51].

إن أول ما يجب ملاحظته هو أن الفارابي لم يستعمل لفظ التقريب، واستعمل بدلًا منه لفظا الإيجاز والتسهيل. ثم إنه لا يخالف أرسطو في قوانينه المنطقية، وإنما يخالفه فقط في مخاطبة أهل اللسان العربي بألفاظهم المعتادة، وأمثلتهم المشهورة عندهم، والمتداولة فيما بينهم فحسب، حتى يتبينوا قصد أرسطو ويفهموا غرضه ويقتفوا أثره في صناعته؛ إذ «الغبي»، عند الفارابي، ليس هو من يحذو حذو أرسطو بحسب مقصوده من شرح قوانينه المنطقية، وإنما الغبي هو من يلزم عبارته وأمثلته بأعيانها.

يقول الفارابي: «فلما كانت عادة أهل هذا اللسان في العبارة غير عادة أهل تلك البلدان، وأمثلة أهل هذا الزمان المشهورة غير الأمثلة المشهورة عند أولئك، صارت الأشياء التي قصد أرسطوطاليس بيانها بتلك الأمثلة غير بينة ولا مفهومة عند أهل زماننا. حتى ظن أناس كثير من أهل هذا الزمان بكتبه في المنطق أنها لا جدوى لها وكادت تطرح، ولما قصدنا نحن إلى إيضاح تلك القوانين استعملنا في بيانها الأمثلة المتداولة بين النظار من أهل زماننا. فإنه ليس اقتفاء أرسطوطاليس في شرح ما كتبه من القوانين أن تستعمل عبارته وأمثلته بأعيانها حتى يكون اقتفاؤنا إياه على حسب الظاهر من فعله. فإن ذلك من فعل من هو غبي، بل اقتفاؤه هو أن يحتذى حذوه على حسب مقصوده بذلك الفعل، وليس مقصوده بتلك الأمثلة والألفاظ أن يقتصر المتعلم على معرفتها فقط، ولا أن يتطرق إلى تفهم ما في كتابه بتلك الأمثلة والألفاظ»[52].

وبالجملة؛ إن غرض الفارابي في هذا الكتاب الصغير هو اختصار القياس المنطقي الأرسطي وتسهيله، باستعمال الألفاظ العربية المعتادة والأمثلة المشهورة عند أهل اللسان العربي، بغرض تمكين المتلقي العربي من فهم غرض أرسطو من جهة، وتأسيس الشرعية للمنطق الأرسطي عن طريق إثبات أن القياس المنطقي لا يختلف عن قياسات المتكلمين والفقهاء من جهة ثانية.

أما عمار الطالبي فقد ذهب إلى أن الفارابي خالف أرسطو، وأتى بأشياء جديدة؛ حيث نسب إلى ابن باجة (توفي 533ﻫ) القول بمخالفة الفارابي لأرسطو في رسم الكلي؛ فإن أرسطو قد عرّفه بقوله: «ما شأنه أن يحمل على أكثر من واحد»[53]. أما الفارابي فحدّه بأنه: «ما شأنه أن يتشابه به اثنان فأكثر»[54].

كما زعم الطالبي أن الفارابي أدخل «فكرة الشخص» ضمن الكليات. وأضاف بأنها «فكرة لا توجد لدى أرسطو، ولا عند فورفوريوس الصوري، ويبدو أنها رواقية، وقد أوردها إخوان الصفاء أيضًا وجعلوا الكليات ستة، فعقدوا في رسائلهم فصلًا في الألفاظ الستة [...]»[55]. إلى غير ذلك من المسائل التي زعم الطالبي أن الفارابي خالف فيها أرسطو وفورفوريوس، أو أضافها[56].

غير أن من يمحص كلام الطالبي، الذي أورده في سياق رده على إبراهيم مدكور الذي رأى أن الفارابي قد اتبع أرسطو في منطقه، ولم يكوّن مذهبًا خاصًّا به في المنطق[57]، سرعان ما يقف على عدم دقته، لأنه دعوى بلا دليل. بل إن الدليل الذي أورده عن فكرة الشخص لدى إخوان الصفا ينقض حكمه ولا يؤيده؛ إذ إن إخوان الصفا قد أضافوا فعلًا فكرة الشخص إلى كليات فورفوريوس الخمسة فأصبحت الكليات عندهم ستة.

فلنقرأ ما كتبوه تحت الفصل الذي عقدوه في رسائلهم لهذه الألفاظ الستة، حيث قالوا: «اعلم أن الألفاظ التي تستعملها الفلاسفة في أقاويلها وإشاراتها إلى المعاني التي في أفكار الناس ستة أنواع، ثلاثة منها دالات على الأعيان التي هي موصوفات، وثلاثة منها دالات على المعاني التي هي الصفات، فالألفاظ الثلاثة الدالة على الموصوفات قولهم: الشخص، والنوع، والجنس، والثلاثة الدالة على الصفات هي قولهم: الفصل والخاصة والعرض»[58].

أما الفارابي فالكليات عنده خمسة كما هي عند فرفوريوس، وليست ستة كما هي عند إخوان الصفا. يقول الفارابي متحدثًا عنها: «[...] والمعاني الكلية المفردة على ما أحصاها كثير من القدماء خمسة: جنس ونوع وفصل وخاصة وعرض»[59].

أما فكرة الشخص لدى الفارابي فهي تأتي مقابلة لفكرة الكلي، وذلك بالشكل الذي تحضر به عند فورفوريوس. يقول الفارابي: «وكل معنى يدل عليه لفظ فهو إما كلي وإما شخصي، والكلي ما شأنه أن يتشابه به اثنان أو أكثر؛ والشخص ما لا يمكن أن يكون به تشابه بين اثنين أصلًا. وأيضًا فإن الكلي هو ما شأنه أن يحمل على أكثر من واحد»[60].

أما ما نسبه الطالبي إلى ابن باجة من أن رسم الفارابي للكلي مخالف لرسم أرسطو له فمردود عليه، فهذا الكلام لم يرد أولًا في تعليق ابن باجة على «الفصول» كما ذكر الطالبي، وإنما ورد في تعليقه على «كتاب إيساغوجي»، ثم إن ابن باجة حين ذكر تعريف أرسطو للكلي، لم يذكره لـ«يبين أن الفارابي أتى بأشياء جديدة خالف فيها أرسطو»[61]، كما زعم الطالبي، وإنما أورده في سياق تفسيره لتعريف الفارابي والتعليق عليه، لا في سياق بيانه وجه مخالفة الفارابي لأرسطو في رسم الكلي، حيث قال: «وأما أرسطو فإنه رسم الكلي فقال: «ما شأنه أن يحمل على أكثر من واحد». وأما أبو نصر فإنه يرسمه بهذا الرسم مردفًا برسم يقدمه»[62].

والرسم الأول المقدم المقصود هو قول الفارابي: «والكلي ما شأنه أن يتشابه به اثنان أو أكثر»[63]، وما يؤكد أن رسم الفارابي للكلي موافق لرسم أرسطو له، هو أنه بعد أن أورد التعريف السابق للكلي، أردف قائلًا: «وأيضًا فإن الكلي هو ما شأنه أن يحمل على أكثر من واحد»[64].

خلاصة القول؛ إن الفارابي لم يخالف أرسطو في قوانينه المنطقية، ولم يضف إليها شيئًا جديدًا، بل اقتفى أثره وحذا حذوه. صحيح أنه افتتح الطريق للتقريب اللغوي للمنطق الأرسطي، وتولى الاشتغال ببعض القضايا التي أثيرت في المناظرة الشهيرة التي جرت بين معلمه متى بن يونس القُنَّائي (توفي 328ﻫ)، وأبي سعيد السيرافي (توفي 368ﻫ)، غير أنه «وإن وعى بضرورة التقريب، فإنه لم يع الكيفية التي ينبغي أن يجري عليها ولا الاتجاه الذي يجب أن يتخذه؛ أما عن كيفية التقريب، فلم يحاول وصل المعاني اللغوية بالمعاني الاصطلاحية للحروف، بل كان يكتفي بسردها واحدًا واحدًا، ثم يصرح بأن المعاني الاصطلاحية تخالفها كما لو كان للحروف استعمالان: أحدهما منطقي مقبول، والثاني لغوي مردود؛ وأما اتجاه التقريب، فقد كان يستخدم الآليات اللغوية المنقولة بدل أن يستخدم الآليات الأصلية التي استخرجها نحاة العرب وبلاغيوهم، فكان تقريبه من الضرب الذي أسميناه بالتقريب المعكوس»[65].

ﷺ ثانيًا: مظاهر تقريب المنطق الأرسطي عند ابن حزم: تقريب مبحث الحد أنموذجًا[66]

1. مفهوم الحد عند أرسطو وأتباعه من المشائين المسلمين

نشير في البداية إلى أن غرضنا هاهنا ليس هو بسط القول في نظرية التعريف عند أرسطو وأتباعه، وإنما الاقتصار على إيراد ما سيفيدنا في تمييز الحد عند أرسطو وأتباعه من الحد عند الأصوليين عامة، وعند ابن حزم –موضوع هذه الدراسة- خاصة.

من المعلوم أن الحد عند أرسطو هو «القول الدال على ماهية الشيء»[67] و«جوهره»[68].

وهذا يعني أنه لمعرفة ماهية الشيء يجب أولًا معرفة أنه موجود. أما ما هو غير موجود فلا يمكن معرفة ماهيته، لأن الحد يكون لماهية الشيء وليس للاسم الذي سمي به الشيء.

يقول أرسطو: «إلَّا أنه لا يمكن أن نتعرَّف أولًا لم هو، قبل أن نتعرف أنه موجود؛ وكذلك لا سبيل إلى أن نتعرف ما هو الشيء والوجود له في نفسه من غير أن نعلم أنه موجود. وذلك أنه غير ممكن أن نعلم ما هو إذا لم نكن عارفين بأنه موجود»[69].

ويقول أيضًا: «فإنه قد يلزم الذي يعلم ما هو الإنسان أو شيئًا آخر –أي شيء كان- أن يعلم أيضًا أنه موجود. وذلك أن ما ليس هو موجودًا فليس إنسان من الناس يعلم ما هو. لكن إذا قلت: عنزائيل- قد يعلم على ماذا تدل الكلمة والاسم. فأما ما هو عنزائيل فلا يمكن أن يعلم»[70].

ولما كان الحد قولًا دالًّا على ماهية الشيء، وكانت الأجناس والفصول هي التي تحمل من طريق ما هو، كان الحد مأخوذًا من الجنس والفصل. يقول أرسطو: «وذلك أنه إن كان التحديد هو القول الدال على ماهية الأمر، وكانت الأشياء التي تحمل في الحد ينبغي أن تحمل وحدها على الأمر من طريق ما هو، وكانت الأجناس والفصول هي التي تحمل من طريق ما هو- فظاهر أن إنسانًا إن أخذ هذه فقط التي تحمل على الأمر من طريق ما هو فإن القول –الذي تكون هذه فيه- حد لا محالة، إذ كان ليس يمكن أن يكون حد الأمر غير هذا، لأنه ليس شيء آخر غير هذا يحمل على الأمر من طريق ما هو»[71].

والحد له تعلق كبير بالكليات، إذ إنه يتركب من الجنس والفصل، وهما أمران كليان، كما أن موضوع الحد عند أرسطو –بل وموضوع العلم عامة- هو الأمور الكلية لا الجزئية[72]، وهو لا يهتم بأفراد الماهية الجزئية لأنها لا تتصف بالثبات، ولأن فساد المحدود حينئذٍ سيؤدي إلى فساد الحد، وإنما هدفه بيان الماهية الكلية المطلقة، وهذه الماهية الكلية المطلقة معقولة لا محسوسة، لأن وجودها هو في الذهن لا في الخارج، ويمتنع وقوعها بالحس.

ويميز أرسطو تمييزًا واضحًا بين الحد الحقيقي[73] والحد الاسمي أو اللفظي؛ فإذا كان الأول يدل على ماهية الشيء وجوهره، فإن الثاني يبين فقط معنى الاسم أو اللفظ دون أن يدل على ماهية الشيء. وهذا النوع -في نظره- «شنع»، لأنه قد يكون لغير الجواهر، ولأشياء غير موجودة أصلًا، ثم إنه قد يكون الكلام كله حدودًا، ما دام يمكن وضع اسم لأي كلمة كانت، كما أنه لا يستطيع أحد أن يبرهن على أن اسمًا ما يدل على شيء ما دون غيره.

يقول أرسطو: «وظاهر أيضًا في ضروب الحدود التي لا يبين بها من يحد أنه موجود. وذلك أنه إن كانت شيئًا متساويًا من وسطه، إلَّا أنه ليس يخبر لم هو كذلك هذا المحدود، ولم صارت الدائرة هذا المعنى. وذلك أنه لقائل أن يقول: إن هذا المعنى هو لجبل من نحاس أيضًا؛ فإنه ليس تُعرِّف الحدود أنه قد يمكن أن يوجد ما خبر به. ولا أيضًا أن الحدود هي لذلك الشيء الذي عبروا عنه، لكنه مطلق دائمًا أن يقال: لم هو. فإن كان إذا الذي يحد يبين بيانًا إما ما هو، وإما على ماذا يدل اسمه إن لم يكن أصلًا لما هو[74]، قد يكون الحد قولًا دلالته دلالة الاسم بعينها. لكن هذا شنع: أما أولًا فمن قِبَل أنه قد يكون لأشياء ليست جواهر ولأشياء ليست موجودة أيضًا. وذلك أنه لنا أن تدل على أشياء ليست موجودة. وأيضًا يكون جميع الكلام حدودًا، إذ كان قد يوضع اسم لأي كلمة كانت، فيؤخذ إذن أباجغيًّا أنا نلفظ ونتكلم بالحدود، ويكون الياس حدًّا. وأيضًا ولا برهان واحدًا يبرهن على أن هذا الاسم يدل على هذا الشيء»[75].

هذا هو الحد عند أرسطو، وهو الحد الذي انتقل إلى المناطقة والفلاسفة المسلمين، حيث نجده لدى جابر بن حيان، ولدى الكندي[76]، والفارابي، وابن سينا (توفي 428ﻫ)، وأبي حامد الغزالي (توفي 505ﻫ)، وابن رشد (توفي 559ﻫ)، وسيف الدين الآمدي (توفي 631ﻫ)، وغيرهم ممَّن لا يتسع المجال لذكرهم.

يقول ابن سينا –على سبيل المثال- معرفًا الحد: «الحد قول دال على ماهية الشيء. ولا شك في أنه يكون مشتملًا على مقوماته أجمع. ويكون لا محالة مركبًا من جنسه وفصله؛ لأن مقوماته المشتركة هي جنسه، والمقوم الخاص فصله. وما لم يجتمع للمركب ما هو مشترك، وما هو خاص، لم يتم للشيء حقيقته المركبة»[77].

وهذا يعني أن ما لا جنس له ولا فصل لا حد له، وإنما له رسم فقط. يقول الفارابي: «ولما كانت الحدود من أجناس وفصول ذاتية فقط، لزم فيما لا جنس له ألَّا يكون له حد، وكذلك ما لا فصول له ذاتية يلزم ألَّا يكون له حد. ولما كانت الأجناس العالية ليست لها أجناس فوقها، لزم فيها ألَّا يكون لها حدود. ولما كانت الأشياء التي ليست لها أجناس أو التي ليست لها فصول ذاتية لم يمتنع أن يكون لها أعراض، صارت بسبب ذلك لا يمتنع أن يكون لها رسوم. فلذلك لم يمتنع في الأجناس العالية أن يكون لها رسوم، وكذلك في المتوسطة»[78].

وينفي المشاؤون أن يكون الغرض من التحديد هو مجرد التمييز، وإنما الغرض منه بالقصد الأول هو بيان ماهية الشيء والإحاطة بجوهره، ثم يعرض له التمييز بعد ذلك. يقول ابن سينا: «ويجب أن يعلم أن الغرض في التحديد ليس هو التمييز كيف اتفق، ولا أيضًا بشرط أن يكون من الذاتيات من غير زيادة اعتبار آخر، بل أن يتصور به المعنى كما هو»[79].

وما يميز الحد عند الحكماء من الحد عند غيرهم من المحدثين والطبيعيين والجدليين، هو أن هؤلاء يريدون بالتحديد التمييز فقط، بخلاف أولئك الذين يطلبون به تحقق ماهية الشيء وجوهره.

وفي هذا المعنى يقول ابن سينا: «والحكماء لا يطلبون في الحدود التمييز، وإن لحقها التمييز، بل يطلبون تحقق ذات الشيء وماهيته... ولذلك ما حد الفيلسوف الحد بأنه قول دال على الماهية، ولم يقل: قول وجيز مميز، كما هو من عادة المحدثين أن يقولوه. ولهذا ما ذم تحديد من أخذ في تحديد الشيء العنصر وحده فقط، كالطبيعيين في تحديدهم الغضب أنه غليان دم القلب أو الصورة فقط، والجدليين في تحديدهم الغضب بأنه شهوة الانتقام، لا لأنهما لم يميزا بل لأنهما لم يوفيا كمال الماهية»[80].

من هنا يؤكد هؤلاء أنهم لا يريدون بالتحديد التمييز الذي يمكن الحصول عليه من الجنس العالي والفصل السافل، كقولنا في حد الإنسان بأنه «جوهر ناطق مائت»[81]، لأن طالب التحديد للتمييز فقط «كطالب معرفة شيء لأجل شيء آخر»[82].

بل إن الغرض من التحديد هو «أن ترتسم في النفس صورة معقولة مساوية للصورة الموجودة، فكما أن الصورة الموجودة هي ما هي بكمال أوصافها الذاتية، فكذلك الحد إنما يكون حدا للشيء إذا تضمن جميع الأوصاف الذاتية بالقوة أو الفعل»[83].

وقد وضع المشاؤون للحد الحقيقي، كما هو معلوم، جملة من الشروط، وميزوا بينه وبين الرسم؛ لأن الحدود الحقيقية –في نظرهم- «تكون دالة على ماهية الشيء، وهو كمال وجوده الذاتي، حتى لا يشذ من المحمولات الذاتية شيء إلَّا وهو متضمن فيه، إما بالفعل، وإما بالقوة»[84]. أما الرسم فهو «قول يعرف الشيء تعريفًا غير ذاتي ولكنه خاص أو قول مميز للشيء عمَّا سواه لا بالذات»[85].

كما تحدث هؤلاء المشاؤون عن جملة من الصعوبات التي تعترض سبيل الحادِّ لإيفاء الحد الحقيقي حقه، وهذه الصعوبات هي التي دفعت الأصوليين -بحسب الغزالي- إلى الاكتفاء بالقول الجامع المانع. يقول الغزلي: «فرعاية الترتيب في هذه الأمور شرط للوفاء بصناعة الحدود، وهو في غاية العسر؛ ولذلك لما عسر ذلك اكتفى المتكلمون بالمميز فقالوا: الحد: هو القول الجامع المانع. ولم يشترطوا فيه إلَّا التمييز، فيلزم عليه الاكتفاء بذكر الخواص، فيقال في حد الفرس: إنه الصهال. وفي الإنسان إنه الضحاك. وفي الكلب إنه: النباح. وذلك في غاية البعد عن غرض التعرف لذات المحدود»[86].

2. مفهوم الحد عند الأصوليين[87] على طريقة المتقدمين والمتأخرين

1.2. مفهوما «التقدم» و«التأخر»

يميز ابن خلدون بين طريقتين من طرائق المتكلمين؛ أولاهما: طريقة المتقدمين، وتضم أبا الحسن الأشعري (توفي324ﻫ)، وتلميذه ابن مجاهد الطائي، وأبا بكر الباقلاني (توفي 403ﻫ)، وإمام الحرمين أبا المعالي الجويني (توفي 478ﻫ). وقد «جملت هذه الطريقة، وجاءت من أحسن الفنون النظرية والعلوم الدينية. إلا أن صور الأدلة فيها جاءت بعض الأحيان على غير الوجه القناعي لسذاجة القوم ولأن صناعة المنطق التي تسير[88] بها الأدلة وتعتبر بها الأقيسة لم تكن حينئذٍ ظاهرة في الملة، ولو ظهر منها بعض الشيء لم يأخذ به المتكلمون لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة لعقائد الشرع بالجملة، فكانت مهجورة عندهم لذلك»[89].

وثانيهما: طريقة المتأخرين، وتبدأ مع أبي حامد الغزالي الذي يعد أول من كتب في الكلام على هذه الطريقة، وتبعه فيها جماعة من المتكلمين؛ منهم الإمام فخر الدين الرازي (توفي 606ﻫ). وهذه الطريقة مباينة للطريقة الأولى في المصطلح وفي البراهين، كما أن أصحابها «أدخلوا فيها الرد على الفلاسفة فيما خالفوا فيه من العقائد الإيمانية وجعلوهم من خصوم العقائد لتناسب الكثير من مذاهب المبتدعة ومذاهبهم... ثم توغل المتأخرون من بعدهم في مخالطة كتب الفلسفة والتبس عليهم شأن الموضوع في العلمين فحسبوه فيهما واحدا من اشتباه المسائل فيهما»[90].

ونستخلص من كلام ابن خلدون عن الطريقتين جملة أمور، أهمها:

أ. أن طريقة المتقدمين كانت حسنة، إلَّا أن أدلتها اتَّسمت في بعض الأحيان بالبساطة، ولم تكن برهانية مقنعة بالقدر الكافي، لأنهم لم يتأثروا بصناعة المنطق التي لم تكن حينها ظاهرة منتشرة، كما أن متكلمي هذه المرحلة لم يأخذوا بما ظهر منها لملابستها للعلوم الفلسفية المباينة لعقيدة الإسلام واختلاطها بها، مما يؤكد أنهم لم يكونوا يعتبرون المنطق مجرد آلة.

ب. أن أهم عامل كان وراء ظهور طريقة المتأخرين في علم الكلام، وتأسيس الغزالي لها، هو انتشار المنطق في الملة، وإقبال الناس على قراءته، ثم عملهم على تحييده والتفريق بينه وبين الفلسفة، ووصفه بأنه قانون ومعيار وآلة تعصم الذهن من الوقوع في الخطأ. وهذا أهم عمل قام به الغزالي.

ج. أن كل ما قلناه سابقا يؤكد أن معيار التفريق بين الطريقتين ليس هو المعيار الزمني فحسب، وإنما هو معيار معرفي يتعلق بدخول المنطق إلى علم الكلام من عدمه. بل يمكن القول: إن هذا المعيار هو المعيار الأهم، ولولا أن الذين ذكرهم في طريقة المتقدمين أسبق زمانًا من الذين ذكرهم في الطريقة الثانية لقلنا: إنه المعيار الوحيد.

من هنا، نستعير هذين المفهومين من ابن خلدون ونعطيهما دلالة معرفية محضة، وهذا يعني أنه لا تعلق لهما بالزمان، والمعيار الوحيد للتمييز بين الطريقتين هو معيار التأثر بالمنطق الأرسطي في الحد أو عدمه؛ فقد يكون الأصولي متقدمًا زمانًا لكنه متأخر معرفيًّا، أو يكون متأخرًا زمانًا لكنه متقدم زمانًا.

2.2. الحد عند الأصوليين على طريقة المتقدمين

ذكر أحمد بن تيمية (توفي 728ﻫ) في كتابه الرد على المنطقيين أن المحققين من النظار المسلمين يرون أن فائدة الحد التمييز لا تصوير حقيقة المحدود. يقول ابن تيمية: «المحققون من النظار يعلمون أن الحد فائدته «التمييز بين المحدود وغيره» كالاسم. ليس فائدته «تصوير المحدود وتعريف حقيقته»؛ وإنما يدعي هذا أهل المنطق اليوناني، أتباع أرسطو، ومن سلك سبيلهم وحذا حذوهم تقليدًا لهم من الإسلاميين وغيرهم، فأما جماهير أهل النظر والكلام من المسلمين وغيرهم فعلى خلاف هذا»[91].

إن الحد عند الأصوليين المسلمين فائدته التمييز، لا تصوير ماهية الشيء وحقيقته. يقول أبو بكر الباقلاني في الباب الذي خصصه لتعريف الحد من كتابه التقريب: «إن قال قائل: ما حد الحد؟

قيل له: «هو القول الجامع المانع المفسر لاسم المحدود وصفته على وجه يحصره على معناه، فلا يدخل فيه ما ليس منه، ويمنع أن يخرج منه ما هو منه». فهذا هو الحد الفلسفي الكلمي الفقهي الذي يضرب للفصل بين المحدود وبين ما ليس منه»[92].

ويقول ابن فورك معرفًا الحد: «حد الحد: هو القول المميِّز بين المحدود وبين ما ليس منه سبيل»[93]. أما أبو الوليد الباجي (توفي 474ﻫ) فيقول في تعريفه: «الحد: هو اللفظ الجامع المانع.

معنى الحد ما يتميز به المحدود ويشتمل على جميعه، وذلك يقتضي أنه يمنع مشاركته لغيره في الخروج عن الحد، ومشاركة غيره له في تناول الحد له»[94].

وبالجملة، إن الحد عند ابن تيمية، وغيره من نظار المسلمين، لا يوصل إلى إدراك ماهية الشيء كما يدعي ذلك أرسطو وأتباعه، وإنما يوصل فقط إلى تمييز الشيء من غيره.

3.2. الحد عند الأصوليين على طريقة المتأخرين:

ذكرنا سابقًا أن التقدم والتأخر عندنا لا علاقة له بالزمان، وإنما هو معرفي صرف. من هذا المنطق، نستهل حديثنا عن الحد عند الأصوليين على طريقة المتأخرين بأحد المتقدمين زمانًا المتأخرين طريقة، وهو إمام الحرمين الجويني، الذي ربما يكون هو المتقدم الوحيد الذي خالف اتجاه الأصوليين المتقدمين في الحد، «وأخرج حدوده على طريقة المنطق الأرسططاليسي»[95].

عرّف الجويني الحد بقوله: «وأصح العبارات في بيان معنى الحد والحقيقة هو هاهنا: اختصاص المحدود بوصف يخلص له. وقد قيل فيه: إنه الجامع المانع. وقيل هو اللفظ الوجيز المحيط بالمعنى... وإنما اخترنا العبارة الأولى؛ لأن الحد يرجع به إلى عين المحدود وصفته الذاتية في العقليات وفي كثير من الشرعيات»[96].

وقد علقت فوقية حسين محمود –محققة الكتاب- على هذا التعريف بقولها: «وهنا تتضح أول سمة من سمات مذهبه في الحد أو مذهبه في الجدل؛ لأن من مقومات الجدل «الحدود» هذه السمة هي: «الواقعية» أو الارتباط بالواقع، لأنه في هذه العبارة التي اختارها يهتم ببيان أن الحد يرجع به إلى «عين المحدود» و«صفته الذاتية» وعين المحدود هي حقيقته أو عينه أي واقعه»[97].

فهل صحيح أن «عين المحدود» هذه تعني «واقعه»؟ أم أنها تعني جوهره؟

لقد استعمل النظار المسلمون لفظ العين بمعنيين؛ الأول بمعنى الشخص؛ حيث يجعله الخوارزمي الكاتب (توفي 380ﻫ) مرادفًا له في قوله: «الشخص عند أصحاب المنطق مثل زيد وعمرو وهذا الرجل وذاك الحمار والفرس وربما سموه العين»[98]. وهو بهذا المعنى جزئي، له وجود في الخارج. وبهذا المعنى ورد في كثير من كتب الأصول.

والثاني هو «الجوهر»، وهو استعمال ينسبه الخوارزمي إلى ابن المقفع. يقول: «ويسمي عبدالله بن المقفع الجوهر عينا وكذلك سمى عامة المقولات وسائر ما يذكر في فصول هذا الباب بأسماء اطّرحها أهل الصناعة فتركت ذكرها وبينت ما هو مشهور فيما بينهم»[99].

غير أن استعمال لفظة العين للدلالة على الجوهر يبدو أنها لم تطرح اطّراحًا كليًّا من قبل أهل صناعة المنطق كما زعم الخوارزمي، ولم يكن هذا الاستعمال خاصًّا بابن المقفع، وإنما استعملها غيره وإن لم تبلغ من الشهرة ما بلغته لفظة الجوهر؛ حيث نجدها عند الكندي الذي استعملها في سياق تحديده للفلسفة قائلًا: «فأما ما يحد به عين الفلسفة فهو أن الفلسفة علم الأشياء الأبدية الكلية، إنياتها ومائيتها وعللها، بقدر طاقة الإنسان»[100].

وقد علق عبدالهادي أبو ريدة على لفظه العين بقوله: «ولعله يقصد بعين الفلسفة ذاتها وماهيتها أو موضوعها»[101].

وهذا الترجيح أكده عبدالأمير الأعسم بقوله: «ولا أراه يقصد غير هذا أولًا وبالذات».[102]

ولا أراه إلًّا محقًّا في ذلك. بل إن لفظة العين استمر استعمالها إلى حدود العصر الحديث، حيث نعثر عليها لدى حسين المرصفي –وإن كان من غير أهل الاختصاص- في وسيلته الأدبية. فهو يقول: «أعيان الكائنات وتسمى ذوات الكائنات وجواهرها ويقابلون العين بالحال والذات بالصفة والجوهر بالعرض ومعنى الحال والصفة والعرض واحد ومعنى العين والذات والجوهر واحد وهو الأمر الثابت الذي تتعاقب عليه الأحوال»[103].

كما أن رفيق العجم ذهب إلى تفضيل استعمال لفظة «العين» للدلالة على الجواهر الأول لدى أرسطو وغيره من المشائين[104].

إن لفظة العين عند الجويني لا تعني واقع المحدود، وإنما تعني جوهره، وما يرجح هذا ما يأتي:

- أن مصطلح العين كان يستعمل مقابلًا للجوهر كما ذكرنا.

- أن الجويني في كتابه البرهان يبدو متأثرًا بالحدود المنطقية المشائية التي الغرض منها الإشعار بحقيقة الشيء المحدود، ويدل على ذلك قوله معلقًا على تعريف القاضي أبي بكر الباقلاني للعلم: «ولست أرى ما قاله القاضي سديدًا، فإن الغرض من الحد الإشعار بالحقيقة التي بها قيام المسؤول عن حده، وبه تميزه الذاتي عمَّا عداه، وهذا لا يرشد إليه تغاير العبارات»[105].

وهذا ما لاحظه عدد من الدارسين، وفي مقدمتهم علي سامي النشار الذي يقول: «ولكن ما لبث علم الأصول أن اتجه وجهة أخرى على يد إمام الحرمين، وقد كان المظنون أن إمام الحرمين سار على منهج المدرسة الكلامية الأصولية الأولى، إلا أنه تسنى لي بحث مخطوطة نادرة لكتاب البرهان فتبين لي أنه، وإن كان إمام الحرمين خالف المنطق الأرسططاليسي في نقاط كثيرة، إلَّا أنه تأثر به إلى حد كبير. بل قد نجد عنده أول محاولة لمزج منطق أرسطو بأصول الفقه»[106].

والأمر نفسه لاحظه أحمد بن عبداللطيف الذي استخلص من حديث الجويني عن الحد في البرهان «ميله إلى رأي المنطقيين في الحد والغرض منه وتركيبه»[107].

وجاء بعد الجويني عدد من الأصوليين الذين تبنوا الحد الأرسطي؛ منهم الغزالي الذي يعد إمام المتأخرين، والذي تبنى الحد الأرسطي في عدد من كتبه، منها كتابه الأصولي الهام المستصفى، فقد تحدث في المقدمة المنطقية التي افتتح بها هذا الكتاب عن الحد، وميز فيه بين الحد اللفظي الذي لا يطلب به السائل إلَّا شرح اللفظ، والحد الرسمي الذي الغاية منه التمييز، والحد الحقيقي الذي يهدف إلى «درك حقيقة الشيء»[108].

ثم ابن الحاجب (توفي 646ﻫ) الذي يتابع الغزالي والمشائين في رسمه للحد؛ حيث يميز فيه بين الحقيقي والرسمي واللفظي، والحد الحقيقي عنده هو الذي ينبئ عن ذاتيات الشيء المحدود. يقول ابن الحاجب: «والحد حقيقي، ورسمي، ولفظي. فالحقيقي: ما أنبأ عن ذاتياته الكلية المركبة. والرسمي: ما أنبأ عن الشيء بلازم له... واللفظي: ما أنبأ بلفظٍ أظهر مرادفٍ... وصورة الحد: الجنس الأقرب، ثم الفصل»[109].

3. مفهوم الحد عند ابن حزم

يلاحظ الناظر في كتب الأصول إدراك الأصوليين أهمية الحدود، ولذلك تجدهم يعنون عناية فائقة ببيان ألفاظهم قبل الخوض في الموضوع، وهذا ما يؤكده تخصيصهم رسائل خاصة بالحدود، كما تؤكده أقوالهم التي تنص على أهمية بيان هذه الحدود قبل الخوض في الموضوع والبداية بها، واعتبار استيفاء معاني الألفاظ المتداولة بين أهل النظر شرطًا ضروريًّا لتحقيق النظر ودرء الخلاف.

يقول الجويني: «اعلم أنه لا يتم تحقيق النظر لمن لا يكون مستوفيًا لمعاني ما يجري من أهل النظر في معاني العبارات وحقائقها على التفصيل والتخصيص معرفة على التحقيق؛ فتكون البداية إذا بذكرها أحق وأصوب»[110].

ولم يكن ابن حزم بدعًا من هؤلاء، فقد أولى، شأنه في ذلك شأن غيره من الأصوليين المتقدمين والمتأخرين، الحدود عناية خاصة، تتجلى في كونه خص حدود الألفاظ الدائرة بين المتكلمين في الأصول برسالة خاصة[111]، كما أنه افتتح الباب الذي خصصه للحديث عن الحد والرسم في التقريب بقوله: «هذا باب ينبغي ضبطه جدا، فهو كالمفتاح لما يأتي بعد هذا إن شاء الله عز وجل»[112].

يقسم ابن حزم الموجود قسمين لا ثالث لهما: الخالق عز وجل، والخلق؛ الأول «واحد أول لم يزل»، والثاني «كثير». وهذا الخلق ينقسم بدوره قسمين: الجوهر والعرض؛ الأول يضم كل «شيء يقوم بنفسه ويحمل غيره». والثاني يشتمل على كل ما «لا يقوم بنفسه ولابد من أن يحمله غيره»[113].

وهذان القسمان مفتقران إلى صفات أو معانٍ تميز أشياءها بعضها من بعض، وتوجِد الفرق بين أسمائها. وهذه الصفات والمعاني إما تكون «دالة على طبيعة ما هي فيه مميزة له مما سواه»، فتسمى حدًّا، وإما «مميزة له مما سواه وهي غير دالة على طبيعة»، فتسمى رسمًا[114].

ويتابع حديثه عن الحد والرسم قائلًا: «نقول: إن المحارجة في الأسماء لا معنى لها، وإنما يشتغل بذلك أهل الهذر والنوك والجهل، وإنما غرضنا منها الفرق بين المسميات، وما يقع به إفهام بعضنا بعضًا فقط. فقد أرسل الله تعالى رسلًا بلغات شتى، والمراد بها معنى واحد، فصح أن الغرض إنما هو التفاهم فقط، ولا بد لكل ما دون الخالق تعالى من أن يكون مرسومًا ومحدودًا ضرورة، لأنه لا بد أن يوجد له معنى يميز به طبعه مما سواه، عرضًا كان أو جوهرًا»[115].

ثم يستعرض بعد ذلك رأي «الأوائل» في الحد والرسم، ويورد تعريفهم للحد بأنه «قول وجيز دال على طبيعة الموضوع مميزة له من غيره». وتعريفهم للرسم بأنه «قول وجيز مميز للموضوع من غيره»[116]. وقولهم: إن «الحد محمول في المحدود والرسم محمول في المرسوم، لأن كل واحد منهما صفات ما هو فيه. فإذا كان التمييز مأخوذًا من جنس الشيء المراد تمييزه ومن فصوله كان حدًّا ورسمًا، وإذا كان مأخوذًا من خواصه وأعراضه كان رسمًا لا حدًّا»[117].

ويرد عليهم قائلًا: «هذه عبارة المترجمين وفيها تخليط؛ لأنهم قطعوا على أن الرسم ليس مأخوذًا من الأجناس والفصول، وأنه إنما هو مأخوذ من الأعراض والخواص. ثم لم يلبثوا أن تناقضوا فقالوا: عن كل حد رسم، فأوجبوا أن الحد مأخوذ من الأعراض وأن بعض الرسم مأخوذ من الفصول، وهذا ضد ما قالوه قبل... لكن الصواب أن نقول: إن كل مميِّز شيئًا عن شيء فهو إما أن يميزه بتمييز يؤخذ من فصول ومن أجناس، فيكون حدًّا منبئًا عن طبيعة الشيء، مميزًا له مما سواه أو يميزه بتمييز يؤخذ من أعراض وخواص، فيكون مميزًا للشيء مما سواه فقط، غير منبئ عن طبيعته، فيكون التمييز رأسًا جامعًا، ينقسم إلى نوعين: إما حد وإما رسم»[118].

قد يقول قائل، بناء على ما سبق من كلام ابن حزم عن الحد والرسم، إن ابن حزم يتبنى الحد الأرسطي، ويأخذ بتمييز المشائين بين الحد والرسم. فالحد عنده -كما هو عند المشائين- دال على طبيعة الشيء وماهيته[119]، وهو يتكون من الجنس والفصل، بخلاف الرسم الذي الغرض منه هو تمييز المحدود من غيره لا غير.

غير أننا نرد على هذا القائل بطرح سؤالين؛ أولهما: إذا كان الحد يدل على طبيعة الشيء، فما الطبيعة عند ابن حزم؟ وثانيهما: إذا كان الجنس والفصل عند المشائين كلييْن، فما الجنس والفصل عند ابن حزم؟ أو بعبارة أعم: ما الكلي عنده؟

يقول ابن حزم في حد الطبيعة: «ومعنى الطبيعة وحدّها: هو أن تقول: الطبيعة هي القوة التي تكون في الشيء، فتجري بها كيفيات ذلك الشيء على ما هي عليه. وإن أوجزت قلت: هي قوة في الشيء يوجد بها على ما هو عليه»[120].

إن الطبيعة عند ابن حزم ليست هي الجوهر بالمفهوم الأرسطي، وإنما هي تلك الصفات أو الكيفيات التي جعل الله عليها الجسم الموصوف، والتي لا تستحيل ولا تتبدل، «كطبيعة الإنسان بأن يكون له التصرف في العلوم والصناعات إن لم تعترضه آفة، وطبيعة الحمر والبغال، بأن ذلك غير ممكن منها»[121]. وهي بهذا ترادف عنده «الخليقة والسليقة، والنحيزة، والغريزة والسجية والشيمة، والجبلة»، التي كانت تستعمل في الجاهلية، والتي لم ينكرها الرسول (صلى الله عليه وسلم) حين سمعها[122].

ثم إذا كان الحد عند المشائين يدل على جوهر الشيء الكامن خلف أعراضه وكيفياته، فإن ابن حزم لا يرى «جوهرية ما خلف الأعراض أو الكيفيات الموجودة في الأجسام، لتكون موضوعًا للعلم أو المعرفة. وهو يعد الفصل بين الجوهر وكيفياته، ثمرة الإغراق في التجريد»[123]، بل يعده هذيانًا وتخليطًا، لأنه بحسبه «لا سبيل إلى انفراد الجواهر عن الأعراض، ولا انفراد الأعراض عن الجواهر»[124].

ويؤكد ابن حزم ترادف الجوهر والجسم واستحالة الفصل بينهما. يقول: «وذهب قوم من المتكلمين إلى إثبات شيء سموه جوهرًا ليس جسمًا ولا عرضًا، وقد ينسب هذا القول إلى بعض الأوائل[125]... أما نحن فنقول: إنه ليس في الوجود إلَّا الخالق وخلقه، وإنه ليس الخلق إلَّا جوهرًا حاملًا لأعراضه، وأعراضًا محمولة في الجوهر لا سبيل إلى تعري أحدهما عن الآخر، فكل جوهر جسم وكل جسم جوهر وهما اسمان معناهما واحد»[126].

وننتقل إلى الحديث عن الكلي عند ابن حزم، لكن قبل ذلك يجدر بنا التوقف عند الكلي عند أرسطو وأتباعه. إن الكلي عند أرسطو معنى ذهني معقول لا وجود له إلَّا في الذهن، ولا وجود له في عالم الأعيان، وممتنع الوقوع بالحس، كما أنه متعال على الزمان والمكان، وثابت ومطلق.

يقول أرسطو مؤكدًا امتناع البرهان بطريق الحس: «وأيضًا لا سبيل إلى قبول العلم بالحس. وذلك أنه إن كان الحس لشيء هو مثل هذا وليس هو بهذا، لكن قد يلزم أن يكون الإحساس بهذا الشيء وأين والآن. وأما الكلي والذي هو في كل شيء، فليس يمكن أن يقع بالإحساس، إذ كان ليس هو لهذا، ولا هو الآن أيضًا؛ وإلَّا ما كان يكون كليًّا. وذلك أنا إنما نقول إنه (أي الكلي) كل الأمر الذي هو دائم وفي كل موضع. فلما كانت البراهين من الأشياء الكلية، وكان لا سبيل إلى أن يقع الإحساس بهذه، فمن البين أنه لا سبيل إلى قبول العلم بالحس»[127].

أما الكلي عند ابن حزم فهو اسمي[128] محسوس يختلف عن الكلي عند المشائين، فهو لا يدل إلَّا على أشخاصه الذين يندرجون تحته. وهذا ما يتضح من خلال كلامه على الجنس؛ إذ يعرفه بقوله: «لفظ يسمى به أشخاص كثيرة مختلفة بأشخاصها وبأنواعها، ويجاب بذلك من سأل فقال: «ما هذا الشيء؟»[129].

ثم إنه حين يعرف النوع والجنس يقول: «واعلم أنه ليس النوع والجنس شيئًا غير الأشخاص، وإنما هي أسماء تعم جماعة أشخاص اجتمعت واشتركت في بعض صفاتها، وفارقتها سائر الأشخاص فيها، فلا تظن غير هذا، كما يظن كثير من الجهال الذين لا يعلمون»[130].

ثم يقول في موضع آخر: «وكل ما نعت نوعًا فهو ناعت لأشخاص ذلك النوع، أي كل اسم سمي به نوعًا فإنه يسمى به كل شخص من أشخاص ذلك النوع، جوهرًا كان أو غير جوهر. إذ ليس الجنس شيئًا غير أنواعه، وليس الجنس وأنواعه شيئًا غير الأشخاص الواقعة تحتها»[131].

ويؤكد ابن حزم هذا المعنى في الفصل بقوله: «إن الإنسان الكلي وجميع الأجناس والأنواع ليس شيء منها غير أشخاصه فقط، فهي الأجسام بأعيانها إن كان النوع نوعَ أجسام وهي أشخاص الأعراض إن كان النوع نوع أعراض ولا مزيد. لأن قولنا الإنسان الكلي يزيد النوع إنما معناه أشخاص الناس فقط لا أشياء أخر وقولنا الحمرة الكلية إنما معناه أشخاص الحمرة حيث وجدت فقط فبطل بهذا التقدير من ظن من أهل الجهل أن الجنس والنوع والفصل جواهر لا أجسام»[132].

ونعود إلى السؤال الذي يُجاب به عن الجنس عند ابن حزم، وهو «ما هذا الشيء؟»، ونقارنه بهذا السؤال عند فورفوريس الصوري، وغيره من أتباع أرسطو، وهو «ما هو الشيء؟»، لندرك الفرق الشاسع بين الجنس عند ابن حزم وعند غيره من المشائين؛ إذ هو عند ابن حزم محسوس مشخص، وذلك بأن السؤال «ما هذا؟» سؤال عن الشخصي وعن المحسوس والجزئي، وليس سؤالًا عن المعقول والكلي الذهني، والجواب عنه يكون بالشخصي والجزئي، لا بالكلي.

يقول نصير الدين الطوسي (توفي 672ﻫ) معرفًا الجزئي: «اللفظ إذا دل على معنى فإما أن يقتضي مفهومه امتناع الاشتراك فيه فيسمى جزئيًّا، كزيد فإنه علم شخص، وكهذا الرجل فإنه بسبب الإشارة يمتنع أن يوجد فيه اشتراك الغير»[133].

ويميز الطوسي بين الكل والكلي، والجزء والجزئي، حيث يقول: «كل ما يحصل من اجتماع أشياء متكثرة يسمى من تلك الجهة كلًّا، وكل واحد من تلك الأشياء جزءًا. والفرق بين الكل والكلي من وجوه كثيرة، ولنورد هاهنا بعضًا ظاهرًا منها وهو سبعة:

1- الأول أن الكل يكون من اجتماع الأجزاء، والكلي ليس بمجموع الجزئيات.

2- الثاني أن الكل لا يحمل بالمواطأة على الأجزاء بالاسم والحد، والكلي يحمل بالمواطأة على الجزئيات بالاسم والحد.

3- الثالث أن وجود الكل بلا وجود الجزء محال ويلزم منه عدم الكل، والكلي مع الجزئي ليس كذلك.

4- أن الكل يوجد في الخارج والكلي لا يوجد فيه، فإن الشخص الواحد لا يكون كليًّا.

5- الخامس أن أجزاء الكل محصورة وجزئيات الكلي غير محصورة...»[134].

وهكذا يتضح أن إضافة ابن حزم اسم الإشارة هذا إلى الكلي يجعله مجرد «كلٍّ» لا «كليًّا» بمعناه المشائي، لأن الإشارة لا تكون إلَّا إلى جزء محسوس حاضر[135]، ولهذا عد الكوفيون اسم الإشارة أعرف من اسم العلم[136].

ونتحول الآن إلى حدود ابن حزم، ونكتفي –للتمثيل- بحده للعقل. لقد ذهب الفلاسفة المشاؤون إلى أن العقل جوهر مجرد قائم بنفسه. يقول الكندي: «العقل: جوهر بسيط مدرك للأشياء بحقائقها»[137].

أما ابن حزم فقد رفض أن يكون العقل جوهرًا، بل هو عنده مجرد كيفية من الكيفيات، وعرض من الأعراض، لأنه يحتمل الأشد والأضعف، بخلاف الجوهر الذي لا يحتمل ذلك. يقول: «وأما العقل فلا خلاف بين أحد له حس سليم في أنه عرض محمول في النفس... والعقل عند جميعهم (أي عند من له أدنى فهم من الأوائل) هو تمييز الفضائل من الرذائل واستعمال الفضائل واجتناب الرذائل والتزام ما تحن به المغبَّة في دار البقاء وعالم الجزاء وحسن السياسة فيما يلزم المرء في دار الدنيا... فصح أن العقل هو الإيمان وجميع الطاعات... فصح أن العقل فعل النفس وهو عرض محمول فيها وقوة من قواها فهو عرض كيفية بلا شك وإنما غلط في هذا لأنه رأى لبعض الجهال المخلطين من الأوائل أن العقل جوهر وأن له فلكًا فعول على ذلك من لا علم له وهذا خطأ كما أوردنا»[138].

وبالجملة، إن مفهوم الحد عند ابن حزم يختلف، من وجوه كثيرة، عن مفهوم الحد عند المشائين؛ إذ فائدة الحد عنده -في المقام الأول- هي التمييز بين المحدود وغيره، فالتمييز –بعبارة ابن حزم- هو «الرأس الجامع» بينهما، وهو الغاية النهائية من كل تحديد ورسم.

أما عند المشائين فالتمييز مجرد أمر عارض. ولذلك، تجده يستعمل الرسم مرادفا للحد في مواضع كثيرة، مثل قوله: «وكذلك رسم غيرنا أيضا في حد الإنسان أنه حي ناطق ميت»[139]. وقد يكون هذا هو السبب الذي دفع روبير برونشفيك Robert Brunschvig إلى القول بأن ابن حزم كان في حديثه عن الحد والرسم متأثرًا بالرواقيين[140].

 

 



[1] العنوان الكامل للكتاب هو: التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية، وقد ظهرت الطبعة الأولى منه بتحقيق إحسان عباس عام 1959، غير أن إحسان عباس دعا الباحثين، في تقديمه للكتاب في طبعته الثانية، إلى إلغاء هذه الطبعة، بسبب ما شابها من نقائص. وقد اعتمدنا في هذا البحث الطبعة الثانية للكتاب التي صدرت ضمن رسائل ابن حزم الأندلسي عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت عام 2007. كما رجعنا إلى نشرة ثانية للكتاب بتحقيق عبد الحق التركماني –المتخصص في التراث الحزمي- التي صدرت عن دار ابن حزم ببيروت عام 2007، والتي خصها ابن عقيل الظاهري بمقدمة ضافية.

[2] طه عبد الرحمن. تجديد المنهج في تقويم التراث، الدار البيضاء/ بيروت: المركز الثقافي العربي، ط2، (د. ت).

[3] انظر أسماء عدد من هؤلاء النقلة الأوائل في: ابن النديم، أبو يعقوب إسحاق. كتاب الفهرست. تحقيق: رضا تجدد، بيروت: دار المسيرة، ط3، 1988، ص304-305.

[4] ابن حزم الأندلسي. الإحكام في أصول الأحكام. تقديم: إحسان عباس، بيروت: دار الآفاق الجديدة، مج1، ص8.

[5] وستكون لنا عودة لمناقشة مفهوم التقريب عند طه عبد الرحمن في بحث آخر ينشر قريبًا إن شاء الله.

[6] أحمد بن زكريا ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، تحقيق وضبط: عبد السلام محمد هارون، دمشق: دار الفكر، 1399ﻫ/ 1979م، مادة (قرب).

[7] ابن منظور. لسان العرب، بيروت: دار صادر، (د.ت)، مادة (قرب).

[8] انظر:

-         الشريف الجرجاني، التعريفات، تحقيق وزيادة: محمد عبد الرحمن المرعشلي، بيروت: دار النفائس، ط2، 1428ﻫ/ 2007م، ص129.

-         أبو البقاء الكفوي، الكليات، تحقيق: عدنان درويش، ومحمد المصري، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط2، 1432ﻫ/ 2011م، ص262.

[9] محمد علي التهانوي، كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، تحقيق: علي دحروج، تقديم وإشراف ومراجعة وترجمة: رفيق العجم، عبد الله الخالدي، جورج زيناتي، لبنان: مكتبة لبنان ناشرون، ط1، 1996، ج1، ص497.

[10] أبو بكر ابن فورك الإصبهاني، كتاب الحدود في الأصول (الحدود والمواضعات)، قرأه وقدم له وعلق عليه: محمد السليماني، بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط1، 1999، ص75.

[11] أبو حيان الأندلسي، تقريب المقرب، تحقيق: عفيف عبد الرحمن، بيروت: دار المسيرة، ط1، 1402ﻫ/ 1982م، ص40.

[12] ابن حزم الأندلسي، الفصل في الملل والأهواء والنحل، تحقيق: محمد إبراهيم نصر، وعبد الرحمن عميرة، بيروت: دار الجيل، 1405ﻫ/ 1985م، ج1، ص35-36.

[13] المرجع السابق، ج1، ص36.

[14] ابن حزم الأندلسي، الإحكام في أصول الأحكام، مرجع سابق، ج1، ص10.

[15] ابن حزم الأندلسي، الدرة فيما يجب اعتقاده، دراسة وتحقيق: عبد الحق التركماني، بيروت: دار ابن حزم، ط1، 1430ﻫ/ 2009م، ص274.

[16] ابن حزم الأندلسي، التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية، في: رسائل ابن حزم الأندلسي، تحقيق: إحسان عباس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 2007، مج2، ج4، ص 103. وانظر هذه المراتب كذلك في:

-         عبد الرحمن ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، تحقيق: علي عبد الواحد وافي، مصر: شركة نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، 2004، ج3، ص1105-1107. وذكر محمود فجال أن أول من تحدث عن مراتب التأليف هذه هو ابن حزم، لكنه ذهب إلى أن ابن حزم حصرها في ثمان، وهذا مجانب للصواب كما هو جلي. انظر تعليق الباحث في كتاب أبي عبد الله محمد بن الطيب الفاسي: فيض نشر الانشراح من روض طي الاقتراح، تحقيق وشرح: محمود فجال، الإمارات العربية المتحدة – دبي: دار البحوث للدراسات الإسلامية وإحياء التراث، ط2، 1423ﻫ/ 2002م، ج1، ص187.

[17] ابن حزم الأندلسي، التقريب لحد المنطق، مرجع سابق، ص104. وتسمية النوع الثالث من هذه الأنواع فضولًا وحماقة هي تسمية ابن حزم نفسه. انظر رسالته: مراتب العلوم، تحقيق: إحسان عباس، في: رسائل ابن حزم الأندلسي، مرجع سابق، مج2، ج4، ص75.

[18] ابن حزم الأندلسي، التقريب لحد المنطق، مرجع سابق، ص103.

[19] الضمير هنا عائد على الكتاب، والمحقق يشير إلى أنه في نسخة أخرى: «فيها». وفي هذه الحالة يكون الضمير عائدًا على المرتبة الرابعة، حيث يمكن أن نفترض ترادف مفهوم شرح المستغلق والتقريب. انظر المرجع السابق، ص103.

[20] المرجع السابق، ص103.

[21] نقلًا عن: سالم يفوت، ابن حزم والفكر الفلسفي بالمغرب والأندلس، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط1، 1986، ص201.

[22] المرجع السابق، ص201.

[23] مصطفى وديع واصف، ابن حزم وموقفه من الفلسفة والمنطق والأخلاق، الإمارات العربية المتحدة- أبو ظبي: المجمع الثقافي، 1421ﻫ/ 2000م، ص208.

[24] المرجع السابق، ص209.

[25] ناصر محمد يحيى ضميرية، نقد المنطق الأرسطي بين السهروردي وابن تيمية، دمشق: وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب، 2010، ص68.

[26] المرجع السابق، ص68.

[27] ابن حزم الأندلسي، التقريب لحد المنطق، مرجع سابق، ص232.

[28] المرجع السابق، ص232.

[29] أبو عبد الله الحميدي، جذوة المقتبس في ذكر ولاة الأندلس، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2008، ص308-309.

[30] أبو القاسم صاعد الأندلسي، طبقات الأمم، تحقيق وتعليق: حسين مؤنس، القاهرة: دار المعارف، (د. ت)، ص98. وقد نقل عنه هذا النص جمال الدين القفطي في: إخبار العلماء بأخبار الحكماء، تحقيق: يوليوس ليبرت، القاهرة: مكتبة الآداب، ط1، 2008، ص232-233. كما أن هذه التهمة وردت في عدد من المصادر العربية. ويبدو أن صاعدًا كان يعتقد الكمال في أرسطو، فكان ينتقد كل من يخالفه. فقد علق على أبي بكر محمد بن زكريا الرازي، الذي خالف بحسبه أرسطو، وانتصر للفلسفة الطبيعية القديمة، قائلًا (ص46): «ولو أن الرازي وفّقه الله تعالى للرشد وحبب إليه نصر الحق لوصف أرسطاطاليس بأنه تحصّى آراء الفلسفة ونحل مذاهب الحكماء، فنفى خبثها وأسقطه عنها، وانتقى لبابها، واصطفى خيارها، فاعتقد منها ما توجبه العقول السليمة، وتراه البصائر الناقدة، وتدين به النفوس الطيبة، وأصبح إمام الحكماء وجامع فضائل العلماء:

وليس على الله بمستنكر

أن يجمع العالم في واحد».

[31] أبو الحسن علي بن بسام الشنتريني، الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، تحقيق: إحسان عباس، بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط1، 2000، ج1، ص136-137.

[32] سالم يفوت، ابن حزم والفكر الفلسفي بالمغرب والأندلس، مرجع سابق، ص203.

[33] المرجع السابق، ص200.

[34] محمد مهران رشوان، دراسات في المنطق عند العرب، القاهرة: دار قباء، 2004، ص14.

[35] المرجع السابق، ص14.

[36] المرجع السابق، ص14.

[37] المرجع السابق، ص15.

[38] المرجع السابق، ص17-19.

[39] المرجع السابق، ص19.

[40] أنور الزعبي، ظاهرية ابن حزم الأندلسي، نظرية المعرفة ومناهج البحث، الولايات المتحدة الأمريكية: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط2، 1429ﻫ/ 2009م، ص79.

[41] المرجع السابق، ص80.

[42] ابن حزم الأندلسي، التقريب لحد المنطق، مرجع سابق، ص102-103.

[43] المرجع السابق، ص95.

[44] المرجع السابق، ص94.

[45] المرجع السابق، ص94-95.

[46] عمار الطالبي، مقدمة تحقيقه «كلام أبي نصر الفارابي في تفسير كتاب المدخل»، في: نصوص فلسفية مهداة إلى الدكتور إبراهيم مدكور، إشراف وتصدير: عثمان أمين، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1976، ص87.

[47] المرجع السابق، ص89.

[48] أبو نصر الفارابي، كتاب القياس الصغير على طريقة المتكلمين، في: المنطق عند الفارابي، تحقيق: رفيق العجم، بيروت: دار المشرق، 1986، ص68.

[49] المرجع السابق، ص68-69.

[50] أي من أمثلة أرسطو.

[51] المرجع السابق، ص70.

[52] المرجع السابق، ص69.

[53] عمار الطالبي، مقدمة تحقيقه «كلام أبي نصر الفارابي في تفسير كتاب المدخل»، مرجع سابق، ص86.

[54] المرجع السابق، ص86.

[55] المرجع السابق، ص87.

[56] المرجع السابق، ص86-87.

[57] المرجع السابق، ص85. وانظر:

-         Ibrahim Madkour: L’Organon D’Aristote Dans Le Monde Arabe, Ses Traductions, Son Étude et Ses Applications, Paris: Librairie Philosophique J. Vrin, Seconde édition, 1969, p9.

[58] إخوان الصفا. رسائل إخوان الصفا، تقديم وتعليق: بطرس البستاني، بيروت: دار صادر، (د. ت)، ج1 ص395. ويبدو أن إخوان الصفا أخذوا هذه المقولات عن الكندي. انظر:

-         يعقوب بن إسحاق الكندي، كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى، في: رسائل الكندي الفلسفية، تحقيق وتقديم وتعليق: محمد عبد الهادي أبو ريدة، القاهرة: دار الفكر العربي، ط2، 1978، القسم الأول، ص62.

[59] أبو نصر الفارابي، كتاب إيساغوجي أي المدخل، في: المنطق عند الفارابي، مرجع سابق، ج1، ص76.

[60] المرجع السابق، ص75.

[61] عمار الطالبي، مقدمة تحقيقه «كلام أبي نصر الفارابي في تفسير كتاب المدخل»، مرجع سابق، ص86.

[62] أبو بكر بن الصائغ ابن باجة، تعاليق على كتابي إيساغوجي و«الفصول الخمسة» للفارابي، في: تعاليق ابن باجة على منطق الفارابي. تحقيق وتقديم: ماجد فخري، بيروت: دار المشرق، ط1، 1994، ص44-45.

[63] أبو نصر الفارابي، كتاب إيساغوجي أي المدخل، في: المنطق عند الفارابي، مرجع سابق، ج1، ص75. والطالبي حين أورد هذا التعريف أحال إلى نسخة من مخطوطة كتاب ابن باجة السابق ذكره، الأمر الذي يوحي بأن ابن باجة قد أورده فعلًا في سياق المقارنة بين التعريفين؛ تعريف أرسطو وتعريف الفارابي، وهذا غير دقيق، ويكفي أن ننبه إلى أن هذا التعريف غير موجود في النسخة المحققة من التعليقات، وهذا يجعلني أرجح أن الطالبي إنما أخذه من كتاب إيساغوجي للفارابي وليس من كتاب التعليقات. والله أعلم.

[64] المرجع السابق، ص75.

[65] طه عبد الرحمن. مرجع سابق، ص331. ولمزيد من التفصيل حول مفهوم «التقريب المعكوس»، انظر ص300 وما بعدها.

[66] نظرا لتعدد مظاهر تقريب المنطق الأرسطي عند ابن حزم، فإننا سنقتصر في هذا البحث على مبحث الحد، على أن نتناول في بحث لاحق مبحث البرهان.

[67] أرسطو طاليس، كتاب الطوپيقا، نقل: أبو عثمان الدمشقي، في: منطق أرسطو. تحقيق وتقديم: عبدالرحمن بدوي، الكويت: وكالة المطبوعات/ بيروت: دار القلم، ط1، 1980، ج2، ص494.

[68] أرسطو طاليس، كتاب البرهان، نقل: أبو بشر متى بن يونس القنائي. في: منطق أرسطو، مرجع سابق، ج2، ص432، 433.

[69] المرجع السابق، ص446.

[70] المرجع السابق، ص442-443.

[71] أرسطو طاليس، كتاب الطوپيقا، في: منطق أرسطو، مرجع سابق، ج3، ص716. ويقول في موضع آخر: «الحد مأخوذ من جنس وفصول». منطق أرسطو، ج2، ص501.

[72] يقول أرسطو: «وكل حد هو أبدًا كلي؛ وذلك أن الطبيب ليس يخبر بشفاء هذه العين، لكن للكل». منطق أرسطو، ج2، ص470.

[73] ويسمى حدًّا حقيقيًّا لأنه يدل على حقيقة المحدود. ومن أسمائه كذلك الحد الشيئي، لأنه يحد الشيء نفسه لا اسمه فقط، وهو يقابل الحد الاسمي الذي يكون للاسم الذي سمي به الشيء.

[74] الفاصلة ليست في الأصل، وإنما أضفناها لأن المعنى يقتضيها. ولهذا فهي موجودة في النص الفرنسي. انظر:

-         Aristote: les seconds analytiques, Traduction et notes Par: J. Tricot, Paris: Librairie Philosophique J. Vrin, 2000,  p186.

[75] أرسطو طاليس، كتاب البرهان، في: منطق أرسطو، مرجع سابق، ج2، ص443-444. وانظر: شرح أبي الوليد بن رشد لهذا النص في: كتاب أنالوطيقى الثاني أو كتاب البرهان، في: ابن رشد، نص تلخيص منطق أرسطو. دراسة وتحقيق: جيرار جيهامي، بيروت: دار الفكر اللبناني، ط1، 1992،  مج5، ص466.

[76] رغم أن الكندي لم يتطرق إلى تعريف الحد في رسالته في حدود الأشياء ورسومها كما سيفعل من أتى بعده، فإنه من الواضح من خلال الحدود التي وضعها لهذه الأشياء أنه يتابع أرسطو.

[77] أبو علي بن سينا، الإشارات والتنبيهات، تحقيق: سليمان دنيا، القاهرة: دار المعارف، ط3 (د. ت)، ج1، ص204-206.

[78] أبو نصر الفارابي، كتاب الألفاظ المستعملة في المنطق، تحقيق وتقديم وتعليق: محسن مهدي، بيروت: دار المشرق، ط2، (د. ت)، ص79.

[79] أبو علي ابن سينا، الإشارات والتنبيهات، مرجع سابق، ج1، ص206-207. وانظر أيضًا ص208. ويقول الفارابي: «إن كل موجود فإن ماهيته ليس هو إنما تحصل له متى كان هناك غيره بل تحصل له وإن لم يكن موجود آخر غيره. وإنما يُحتاج إلى تمييزه عن غيره متى وافق أن كان هناك غيره. فإذن تميزه عن غيره هو عارض يعرض له». انظر:

-         الفارابي، أبو نصر. كتاب الحروف. تحقيق وتقديم وتعليق: محسن مهدي، بيروت: دار المشرق، ط2، 1990، ص183.

[80] أبو علي ابن سينا، كتاب النجاة في الحكمة المنطقية والطبيعية والإلهية، نقحه وقدم له: ماجد فخري، بيروت: دار الآفاق الجديدة، ط1، 1985، ص115.

[81] أبو علي بن سينا، رسالة الحدود، في: المصطلح الفلسفي عند العرب. تحقيق: عبد الأمير الأعسم، بيروت: التنوير للطباعة والنشر/ دمشق: كيوان للطباعة والنشر والتوزيع، ط3، 2009، ص233.

[82] المرجع السابق، ص234.

[83] المرجع السابق، ص 233-234.

[84] المرجع السابق، ص233.

[85] المرجع السابق، ص239.

[86] أبو حامد الغزالي، معيار العلم، تحقيق: سليمان دنيا، مصر: دار المعارف، 1961، ص282-283.

[87] الأصوليون، هنا، هم المتكلمون في أصول الفقه وأصول الدين.

[88] كذا، والصواب تسبر.

[89] عبد الرحمن ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، مرجع سابق، ج3، ص975-976.

[90] المرجع السابق، ص976.

[91] تقي الدين أحمد ابن تيمية، الرد على المنطقيين، تحقيق: عبد الصمد شرف الدين الكتبي، بيروت: مؤسسة الريان، ط1، 2005، ص56.

[92] أبو بكر الباقلاني، التقريب والإرشاد «الصغير»، تحقيق وتقديم: عبد الحميد بن علي أبو زنيد، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط2، 1998، ص199.

[93]أبو بكر بن فورك، الحدود في الأصول، مرجع سابق، ص78.

[94] أبو الوليد الباجي، كتاب الحدود في الأصول، تحقيق: نزيه حماد، القاهرة: دار الآفاق العربية، ط1، 2001، ص23. وانظر أيضًا:

-         أبو الوليد الباجي، كتاب المنهاج في ترتيب الحجاج، تحقيق: عبد المجيد تركي، بيروت: دار الغرب الإسلامي، ط3، 2001، ص10.

-         أبو الوليد الباجي، إحكام الفصول في أحكام الأصول، تحقيق: عبد المجيد تركي، تونس: دار الغرب الإسلامي، ط3، 2008، مج1، ص174.

[95] علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام واكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي، بيروت: دار النهضة العربية، 1984، ص103.

[96] إمام الحرمين الجويني، الكافية في الجدل، تقديم وتحقيق وتعليق: فوقية حسين محمود، القاهرة: مكتبة الكليات الأزهرية، 1979، ص2.

[97] فوقية حسين محمود، مقدمة تحقيق الكافية، مرجع سابق، ص32.

[98] محمد بن يوسف الخوارزمي الكاتب، مفاتيح العلوم، دراسة وتصدير: عبد الأمير الأعسم، بيروت: دار المناهل، ط1، 2008، ص137.

[99] المرجع السابق، ص138.

[100] يعقوب بن إسحاق الكندي، رسالة الكندي في حدود الأشياء ورسومها، في: رسائل الكندي الفلسفية. مرجع سابق، ص123.

[101] المرجع السابق، ص123، الهامش رقم3.

[102] عبد الأمير الأعسم، المصطلح الفلسفي عند العرب، مرجع سابق، ص198، الهامش رقم78.

[103] حسين المرصفي، الوسيلة الأدبية إلى العلوم العربية، مصر: طبعة المدارس الملكية، ط1، 1292ﻫ، ص12.

[104] رفيق العجم، «شرح على المقولات والتعليق عليها»، في: المنطق عند الفارابي، مرجع سابق، ج3، ص154. ذكر وديع واصف مصطفى أن الإمام الشافعي يعبر عن مقولة الجوهر بلفظة عين، وذلك بعد أن أشار إلى أن لفظة الجوهر لفظة فارسية أطلق عليها ابن المقفع لفظة «العين»؛ إذ يقول: «الجوهر من الناحية اللغوية هو «بأصله لفظ فارسي ويسميه عربيًّا عبد الله بن المقفع «العين»، ويعبر عنه الإمام الشافعي بلفظة عين: «الأفضل أن نستعمل للجوهر الأول عربيًّا لفظ العين، أي ذات الشيء». محيلًا القول الأول إلى كتاب مفاتيح العلوم للخوارزمي، والقول الثاني إلى الرسالة للشافعي، الأمر الذي يعني أن القول الأول للخوارزمي، وأن الثاني للشافعي، مع أن الرجل لم يعد لا إلى مفاتيح الخوارزمي ولا إلى رسالة الشافعي! وإنما أخذ هذا الكلام من رفيق العجم محقق المنطق عند الفارابي. وقد أخذ عنه حتى الهامشين وأرقام الصفحات، دون أن يحيل إليه. انظر:

- وديع واصف مصطفى. ابن حزم وموقفه من الفلسفة والمنطق والأخلاق، مرجع سابق، ص216.

[105] إمام الحرمين الجويني، البرهان في أصول الفقه، تحقيق: عبد العظيم الديب، القاهرة: دار الأنصار، ط2، 1400ﻫ، ج1، ص119.

[106] علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكري الإسلام، مرجع سابق، ص89.

[107] أحمد بن عبد اللطيف، منهج إمام الحرمين في دراسة العقيدة، عرض ونقد، الرياض: مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، ط1، 1993، ص105.

[108] أبو حامد الغزالي، المستصفى من علم الأصول، دراسة وتحقيق: حمزة بن زهير حافظ، مصر: دار الهدي النبوي/ الرياض: دار الفضيلة، ط1، 2013، ج1، ص77-78.

[109] جمال الدين ابن الحاجب، مختصر منتهى السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل، دراسة وتحقيق وتعليق: نذير حمادو، بيروت: دار ابن حزم، ط1، 2006، ص208-209.

[110] إمام الحرمين الجويني، الكافية في الجدل، مرجع سابق، ص1.

[111] ألحقها إحسان عباس بكتاب التقريب لما رأى أن ابن حزم نفسه لم يعترض على هذا العمل حين عرضت عليه نسخة من التقريب ضمت هذه الرسالة. كما أنها نشرت في كتابه الإحكام.

[112] ابن حزم الأندلسي، التقريب لحد المنطق، مرجع سابق، ص110.

[113] المرجع السابق، ص111.

[114] المرجع السابق، ص111.

[115] المرجع السابق، ص111-112.

[116] المرجع السابق، ص112.

[117] المرجع السابق، ص112.

[118] المرجع السابق، ص112-113.

[119] ومما يدل على ترادفهما قول ابن حزم: «إن للأشياء طبائع وماهية تقف عندها ولا تتجاوزها». انظر كتابه: الفصل في الملل والأهواء والنحل. مرجع سابق، ج1، ص40.

[120] المرجع السابق، ج1، ص58.

[121] المرجع السابق، ج5، ص117.

[122] المرجع السابق، ج5، ص115-116.

[123]أنور الزعبي، ظاهرية ابن حزم الأندلسي، مرجع سابق، ص89.

[124] ابن حزم الأندلسي، الفصل في الملل والأهواء والنحل، مرجع سابق، ج2، ص306.

[125] وهذا القول نسبه ابن حزم، في موضع آخر، صراحة إلى «أرسطاليس وأكثر الفلاسفة». انظر:

-         ابن حزم الأندلسي، الأصول والفروع، دراسة وتحقيق: عبد الحق التركماني، بيروت: دار ابن حزم، ط1، 2001، ص85.

[126] ابن حزم الأندلسي، الفصل في الملل والأهواء والنحل، مرجع سابق، ج5، ص196. وانظر أيضا: الأصول والفروع، مرجع سابق، ص85.

[127] أرسطو طاليس. كتاب البرهان، في: منطق أرسطو، مرجع سابق، ج2، ص417-418.

[128] أنور الزعبي، ظاهرية ابن حزم الأندلسي، مرجع سابق، ص88.

[129] ابن حزم الأندلسي، التقريب لحد المنطق، مرجع سابق، ص108.

[130] المرجع السابق، ص131.

[131] المرجع السابق، ص143. وانظر أيضا: ص182.

[132] ابن حزم الأندلسي، الفصل في الملل والأهواء والنحل، مرجع سابق، ص200. ويقول عن النوع: «سمى الأوائل النوع في بعض المواضع اسمًا آخر وهو «الصورة» وأرى هذا اتباعًا للغة يونان، فربما كان هذا الاسم عندهم، أعني الذي يترجم عنه في اللغة العربية بالصورة، واقعًا على النوع المطلق، ولا معنى لأن نشتغل بهذا إذ لا فائدة فيه. وإنما نقصد بالنوع إلى أن نسمي به كل جماعة متفقة في حدها أو رسمها مختلفة بأشخاصها فقط». التقريب لحد المنطق، مرجع سابق، ص115.

[133] نصير الدين الطوسي، أساس الاقتباس في المنطق، ترجمة: منلا خسرو، تحقيق: حسن الشافعي، ومحمد السعيد جمال الدين، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، (د. ت)، ج1، ص43. وفي المعنى نفسه يقول الآمدي معرفًا الجزئي: «عبارة عن لفظ ما، مفهومه غير صالح لأن يشترك فيه كثيرون، كزيد وعمرو، وكذلك كل ما وقع في امتداد الإشارة إليه». انظر:

-         سيف الدين الآمدي، كتاب المبين في شرح ألفاظ الحكماء والمتكلمين، في: المصطلح الفلسفي، مرجع سابق، ص318-319.

[134] نصير الدين الطوسي، أساس الاقتباس في المنطق، مرجع سابق، ص45. وانظر أيضًا:

-         أبو حيان لتوحيدي، المقابسات، تحقيق وتقديم: محمد توفيق حسين، بيروت: دار الآداب، ط2، 1989، ص258-259.

[135] أبو بشر سيبويه، الكتاب، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون، القاهرة: مكتبة الخانجي، ط3، 1988، ج4، ص228.

[136] أبو البركات الأنباري، الإنصاف في مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين، تحقيق ودراسة: جودة مبروك محمد مبروك، مراجعة: رمضان عبد التواب، القاهرة: مكتبة الخانجي، ط1، (د. ت)، ص569.

[137] يعقوب بن إسحاق الكندي، رسالة الكندي في حدود الأشياء ورسومها، مرجع سابق، ص113.

[138] ابن حزم الأندلسي، الفصل في الملل والأهواء والنحل، مرجع سابق، ج1، ص198-200. وانظر حده لـ«العقل» في: تفسير ألفاظ تجري بين المتكلمين في الأصول. في: رسائل ابن حزم الأندلسي. مرجع سابق، مج2، ج4، ص412. وفي: الإحكام في أصول الأحكام. مرجع سابق، ج1، ص50. وفي: الأصول والفروع، مرجع سابق، ص88.

[139] ابن حزم الأندلسي، التقريب لحد المنطق، مرجع سابق، ص123.

[140] Robert Brunschvig: Études D’islamologie, avant- propos et bibliographie de l’auteur par: Abdel Majid Turki, paris: éditions g.-p. maisonneuve et larose, 1976, tome 1, p309.

وقد علق ابن عقيل الظاهري على هذا القول، بعدما نقله عن إحسان عباس الذي نقله بدوره عن سالم يفوت، بقوله: «لا معنى لقفو دلائل التأثير في قول أستاذنا الدكتور إحسان عباس...؛ لأن الحد والرسم في كتب أرسطو، وتلك الكتب هي مادة اختصاره واختياره» انظر:

-         أبو عبد الرحمن ابن عقيل الظاهري، تقديمه لكتاب التقريب لابن حزم، نشرة: عبد الحق التركماني، مرجع سابق، ص101-102. وهذا الكلام ينبئ عن أن الظاهري لم يدرك ما أدركه برونشفيك من فرق بين حديث ابن حزم عن الحد والرسم وحديث أرسطو عنهما.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة