تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

المسلمون الشيعة .. ومكابدة تصحيح الصورة

زكي الميلاد

المسلمون الشيعة..

ومكابدة تصحيح الصورة

زكي الميلاد

 

-1-
المسلمون الشيعة.. وتشوه الصورة

تكونت عن المسلمين الشيعة في الأزمنة الحديثة والمعاصرة، انطباعات يمكن وصفها بالخاطئة والمشوهة، بل يمكن وصفها أيضًا بالجائرة والظالمة، وكشفت هذه الانطباعات عن حالة من الجهل المؤسف، وعدت واحدة من أبرز الظواهر الكاشفة عن أزمة المعرفة من جهة، وعن أزمة المنهج من جهة أخرى في ساحة الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر.

وما يثير الدهشة في هذه الانطباعات الموصوفة بالخاطئة والجائرة، أنها تكونت عن شريحة من الناس لا يقال عنها: إنها من الشرائح المنقرضة، التي ظهرت وعرفت في التاريخ وانقرضت وتلاشت، ولم يعد لها بقايا أثر في الحاضر.

كما أن هذه الشريحة من الناس، لا يقال عنها أيضًا: إنها تنتمي إلى كوكب آخر غير كوكب الأرض، فلا يمكن الوصول إليها، أو الاحتكاك بها، أو التواصل معها، أو الاقتراب منها.

وهذه الشريحة كذلك، لا تعيش في مكان معزول أو مقطوع، لا في جزيرة نائية، ولا في صحراء بعيدة، ولا على قمة جبل شاهق. ولا تمثل هذه الشريحة لغزًا يصعب فهمه، أو طلسمًا لا يمكن تفكيكه.

فهذه الشريحة من الناس، تعيش في مجتمعات عربية وإسلامية متعددة، وليس في مجتمعات خاصة بها، ومنغلقة عليها، وهي تعلن عن وجودها، وتفصح عن نفسها، وتزاول حياتها الطبيعية، ولها مصنفاتها ومؤلفاتها في ميادين المعرفة كافة، ولها أعلامها وعلماؤها الذين لا يقلّون شهرة عن غيرهم، وهم مواطنون في أوطانهم، ويسافرون ويتنقلون في بلاد العرب والمسلمين وفي مختلف أرجاء العالم.

أردت القول: إن هذه الشريحة من الناس يمكن الوصول إليها في كل آن، ويمكن الاحتكاك بها، والتواصل معها، وليس هناك ما يمنع من الانخراط في الجدل والنقاش والاحتجاج معها، ومن كافة أشكال وأنماط التعايش والتفاعل. فطريق المعرفة بهذه الشريحة وما يؤمنون به من مفاهيم وأفكار، هذا الطريق ليس مغلقًا أو مسدودًا، فلا مبرر على الإطلاق لهذا الجهل، وما يترتب عليه من أحكام وتفسيرات خاطئة وجائرة.

ومتى ما كان طريق العلم مفتوحًا وليس مغلقًا أو مسدودًا، فلا بد من تحري العلم بالتثبُّت والتبيُّن من أي طريق، وعبر الطرق كافة، فلا علم من دون تثبُّت، ولا علم من دون تبيُّن، والعالم يعرف بتثبُّته وتبيُّنه، ولا يعرف بتسرُّعه وتعجُّله، وكلما ازداد الإنسان علمًا ازداد ميلًا إلى التثبُّت، وتمسكًا بالتثبُّت باعتباره من موازين العلم.

وفي التثبُّت والتبيُّن ورع واحتياط من ناحية العلم، وسكينة وراحة ضمير من ناحية النفس، سواء أحرز الإنسان الصواب أم لا، فهذا الطريق يجنب الإنسان عادة إصابة الجهل من ناحية العلم والواقع، ويجنبه أيضًا الشعور بالندم من ناحية النفس والضمير.

هذا الربط بين العلم والتثبُّت، يمثل اختبارًا جادًّا وحقيقيًّا لعلاقة الإنسان بالعلم، وعن كشف هذه العلاقة نوعيتها وطبيعتها، قوةً وضعفًّا، تقدُّمًا وتراجعًا، فالإنسان الذي يتثبَّت ويعرف بالتثبُّت يكشف عن علمه قوةً وتقدُّمًا، والإنسان الذي لا يتثبَّت ولا يعرف بالتثبُّت يكشف أيضًا عن علمه ضعفًا وتراجعًا.

والحكمة من هذا التأكيد على ربط العلم بالتثبُّت، لكون أن الكثيرين الذين كتبوا عن المسلمين الشيعة، كتبوا عنهم من دون تثبُّت، علمًا أن طريق التثبُّت لم يكن مغلقًا أو مسدودًا، مع ذلك لم يسلكوا هذا الطريق، وأغلقوه على أنفسهم بقصد أو من دون قصد، خلافًا للعلم والموازين العلمية التي تتخذ من التثبُّت والتبيُّن والورع والاحتياط طريقًا ومذهبًا.

فهؤلاء الذين كتبوا عن المسلمين الشيعة، وأصدروا بحقهم تلك الأحكام الخاطئة والظالمة التي لا تغتفر لهم ما لم يصححوها آجلًا أم عاجلًا، كان بإمكان هؤلاء التثبُّت من هذه الكتابات عن طريق المسلمين الشيعة، بالعودة إليهم، والتواصل والتحاور معهم، ومناقشتهم ومحاججتهم، وتبيُّن الرأي منهم، وهؤلاء الناس موجودون ومعروفون، والاتصال بهم ممكن في جميع أوطانهم، ومناطق تواجدهم، وفي مراكزهم العلمية، من دون عقبات أو صعوبات، وبلا خشية أو رهبة، وهذا ما لم يحدث بالنسبة لهؤلاء.

وطالما تعجَّب المسلمون الشيعة، علماء وباحثين ومثقفين، من هؤلاء الذين كتبوا عنهم بتلك الطريقة المسيئة والظالمة، وكأنهم لا يعرفون أحدًا من المسلمين الشيعة، ولا تربطهم بأحد منهم أية صلة، لا صداقة ولا زمالة ولا غير ذلك، وكأن المسلمين الشيعة غير موجودين في عالم هؤلاء، أو حسب قول البعض وكأن الشيعة في تقدير هؤلاء ينتمون إلى كوكب آخر، في دلالة على مدى شدة البعد عند هؤلاء الكتّاب، ومدى شدة الشعور بالامتعاض عند المسلمين الشيعة.

-2-
الظاهرة.. وأزمة المعرفة

في الانطباع السائد عند المسلمين الشيعة أنهم لا تنقصهم المعرفة بالمسلمين السنة فكرًا وفقهًا وتاريخًا وعقيدة، واللافت في الأمر أن هذا الانطباع موجود حتى عند المسلمين السنة، ودائمًا ما يصرح الشيعة بهذا الانطباع جازمين به، وما يعد تطورًا في هذا الشأن أن بعض المسلمين السنة المعاصرين أخذوا يصرحون بهذا الأمر، ويكاشفون به، بعدما تبيَّن لهم، وتثبَّتوا منه.

وعن هذه المفارقة المزدوجة، الكاشفة عن معرفة من جهة المسلمين الشيعة، وأزمة معرفة من جهة المسلمين السنة، يمكن الإشارة إلى خمسة أقوال لكتاب وباحثين معروفين ومعاصرين، وهذه الأقوال بحسب تعاقبها هي:

القول الأول: أشار إليه الكاتب المصري أحمد زكي (1284-1353هـ/1867-1934م) الملقب بشيخ العروبة، وذلك بعد أن تعرَّف إلى كتاب (أصل الشيعة وأصولها) للشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء، ممتدحًا المؤلف بقوله: «فقد أجاد في ترصيفه، وأفاد في تبويبه، وكشف الغطاء عن أمور كنا نجهلها عن إخواننا الشيعة الذين كانوا لا يتكلموا عن أنفسهم، ولا يعرفوننا بمذهبهم»[1].

القول الثاني: أشار إليه الدكتور أحمد كمال أبو المجد، وجاء في سياق مطالبته بالحاجة إلى حوار جديد بين السنة والشيعة، داعيًا القارئ غير المتخصص إلى ملاحظة عدد من الحقائق التي تتصل بالشيعة والتشيع، وأدل هذه الحقائق حسب قوله: «إن الشيعة يعرفون عن عقائد أهل السنة والجماعة ما لا يعرفه أكثر أهل السنة عن عقائد الشيعة وآراء علمائهم وعامتهم، وهذه المعرفة ليست قاصرة على علماء الشيعة وخاصتهم، إنما يشترك فيها بأقدار متفاوتة عامتهم وغير المشتغلين بالعلم الديني منهم، بينما لا يكاد أكثر المثقفين غير المتخصصين من أهل السنة يعرفون عن الشيعة إلا أنهم طائفة أسرفت في التشيع لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، وترى أنه كان أولى بالخلافة من أبي بكر وعمر، وأنهم فوق ذلك أصحاب بدع يخالفون بها مذهب أهل السنة، ويخرج بها المتطرفون منهم عن دائرة الإسلام الصحيح»[2].

ولهذا دعا الدكتور أبو المجد علماء السنة والمثقفين منهم بصفة عامة، أن يعرفوا عن التشييع أكثر مما يعرفون، وأن يتقبلوا الفقه الشيعي في الفروع تقبُّلهم آراء المدارس الفقهية الأربعة[3].

القول الثالث: أشار إليه الكاتب فهمي هويدي بقوله: إن «كل من قدر له أن يطوف بأرجاء العالم العربي، لا بد أنه صادف بعضًا من آثار موقف اللامعرفة والتوجس من جانب أهل السنة تجاه الشيعة، حتى أنني سمعت من ينتسب إلى العلم والسلف في دولة عربية شقيقة، يصنف عقائد الشيعة ليس فقط باعتبارها خروجًا عن الإسلام، ولكن بحسبانها شيء أدنى من عقائد أهل الكتاب والصابئة والمجوس والوثنيين»[4].

ويرى هويدي أن ما يسميه موقف اللامعرفة والتوجس «يفتح الباب لاحتمالات التشويه والتجريح، وما ينشأ عنها من مفاصلة ومقاطعة، الأمر الذي يؤدي في النهاية إلى الطعن في معتقدات مائة مليون مسلم، ومحاولة إخراجهم من ملة الإسلام، وإلغائهم من خرائط المسلمين، هكذا ببساطة مذهلة»[5].

القول الرابع: أشار إليه الشيخ الأزهري محمد فكري عثمان أبو النصر بقوله: «والحق يقال إن حقيقة ومبادئ وفلسفة المذهب الشيعي تكاد تكون مجهولة جهلًا تامًّا في مصر، حتى في أوساط فقهائنا وعلمائنا السنيين، مما حدا بأزهرنا الشريف إلى تقرير تدريس المذهب الشيعي وفلسفته في الكليات الأزهرية، وهو ما ننتظره ونرجوه، لتتوحد الآراء، وتستقيم الموازين، وتتحقق الآمال... وما يهزني حقًّا أن المكتبة العربية في مصر والأزهرية، للأسف الشديد تكاد تكون خلوًا من كتب الشيعة الإمامية بالذات»[6].

القول الخامس: أشار إليه الكاتب المصري رجب البنا، وجاء في سياق بحثه عن العلاقات بين السنة والشيعة، وحسب قوله: إن «معظم أهل السنة لا يعرفون شيئًا عن مذاهب وأفكار الشيعة، وبعضهم عرف قليلًا عنها من أقوال أو عبارات أو أحكام إدانة أو هجوم من هنا وهناك، وبعضهم أخذ معلوماته من كتب قديمة كان لأصحابها عداء شديد للشيعة، وكان هذا العداء في الأصل لأسباب سياسية حول الخلافة والحكم وليس خلافًا حول أصول الدين. والنتيجة أن فكرة أهل السنة عن الشيعة مختلطة بكثير من الأكاذيب والشائعات، وهذا هو السبب في أن معظم أهل السنة ينظرون إلى الشيعة جميعًا على أنهم فرقة واحدة، مع أنهم فرق كثيرة، منها فرق معتدلة لا تختلف كثيرًا عن أهل السنة، وفرق أخرى لها أفكار غريبة وبعيدة هي التي يسمونها غلاة الشيعة، ولا بد أن نفرق بين هؤلاء وهؤلاء، لأن الخلط بينهما واعتبارهما شيئًا واحدًا هو الذي أدى إلى استمرار الجفوة، بدون مبرر»[7].

هذه بعض الأقوال الواضحة والصريحة في الكشف عن أزمة المعرفة عند المسلمين السنة تجاه المسلمين الشيعة، وهناك الكثير من هذه الأقوال التي يمكن الوصول إليها، والتعرف إليها، عند الفحص والتحقيق.

 

 

-3-
الظاهرة.. وأزمة المنهج

هذا من جهة أزمة المعرفة، أما من جهة أزمة المنهج فالصورة هي أكثر وضوحًا، وأشد وطأة، وأعظم فداحة، ولا جدال ولا نزاع على حقيقة هذه الأزمة، والتي تظهر في هذا الموضوع بأعلى درجاتها، وهي أزمة ممتدة من الأزمنة القديمة، ظلت وبقت مع هذه الأزمنة المتوالية، وتصلح أن تكون شاهدًا على إثبات أزمة المنهج في ساحة الفكر الإسلامي القديم والحديث والمعاصر.

وأزمة المنهج في هذا النطاق لها صور وأشكال عديدة، ومن أشدها وضوحًا وأكثرها حدوثًا صورتان، الصورة الأولى وتحدّدت في تقصُّد تكوين المعرفة بالمسلمين الشيعة ليس عن طريق العودة إلى مصادرهم ومراجعهم، وإنما عن طريق العودة إلى مصادر ومراجع خصومهم. الصورة الثانية وتحدّدت في طريقة الخلط بين الشيعة الإمامية والفرق الشيعية الأخرى، ومنهم ما يعرفون بالغلاة، وبعض الفرق التي هي بحكم المنقرضة.

وتقصَّدت الإشارة إلى هاتين الصورتين بوجه خاص، لكونهما من الصور التي جرى التنبه لهما، والإقرار بهما، والإبانة عنهما، وبات من الممكن الاستناد إليهما في إثبات وجودهما، بوصفهما من الصور التي تتعارض وقواعد المنهج العلمي.

بشأن الصورة الأولى، إن من أوضح أساسيات المنهج العلمي أنه لا يمكن الاعتماد على مراجع الخصوم في تكوين المعرفة الموصوفة بالعلمية والموضوعية، مهما بلغت هذه المراجع ما بلغت، وليست هناك فئة من الناس تقبل تكوين المعرفة عنها بالاستناد إلى مراجع خصومها، ويكفي إعطاء هذه المراجع صفة الانتساب إلى الخصم لتضعيفها وتجريحها والتشكيك فيها، وسلب صفتي العلمية والموضوعية عنها.

هذه الإشكالية التي لا يكاد أحد يختلف عليها قديمًا وحديثًا، قد جرى العمل بها وبإسراف شديد في تكوين المعرفة عن المسلمين الشيعة، فالمعرفة التي تشكَّلت عنهم كانت في الغالب تستند إلى مراجع ومصادر الخصوم، وهذا ليس مقبولًا من الناحية العلمية على الإطلاق ليس عند الشيعة فحسب، وإنما عند أي فئة من الناس، باعتبار أن هذا الطريق لا يكوّن معرفة، ولا يعد طريقًا علميًّا، لأنه لا يتخذ من المعرفة مرتكزًا أو أساسًا، وإنما هو طريق لا يخلو من التحيّز بدرجة أو بأخرى.

وهناك من المعاصرين من تنبَّه إلى هذه الإشكالية ونقدها، وفي هذا النطاق يمكن الإشارة إلى ثلاثة أقوال صريحة وواضحة، وهي:

القول الأول: أشار إلى هذا القول الدكتور حامد حفني داود الذي قدَّم مكاشفة واضحة استند فيها إلى أسس المنهج العلمي فهمًا وتنزيلًا، شارحًا قوله ومبرهنًا عليه بطريقة تطبيقية، ونص كلامه: «يخطئ كثيرًا من يدَّعي أنه يستطيع أن يقف على عقائد الشيعة الإمامية وعلومهم وآدابهم مما كتبه عنهم الخصوم، مهما بلغ هؤلاء الخصوم من العلم والإحاطة، ومهما أحرزوا من الأمانة العلمية في نقل النصوص، والتعليق عليها بأسلوب نزيه بعيد عن التعصب الأعمى. أقول ذلك جازمًا بصحة ما أدَّعي، بعد أن قضيت ردحًا طويلًا من الزمن أدرس فيها عقائد الأئمة الاثني عشر بخاصة، وعقائد الشيعة بعامة، فما خرجت من هذه الدراسة الطويلة التي قضيتها متصفحًا في كتب المؤرخين والنقاد من علماء أهل السنة بشيء ذي بال.

ومن ثم اضطررت، بحكم ميلي الشديد إلى طلب الحقيقة حيث كانت، والحكمة حيث وجدت، والحكمة ضالة المؤمن، أن أدير دفة دراستي العلمية لمذهب الاثني عشرية إلى الناحية الأخرى. تلك هي دراسة هذا المذهب في كتب أربابه، وأن أتعرف عقائد القوم مما كتبه شيوخهم والباحثون والمحققون من علمائهم وجهابذتهم.

من البديهي أن رجال المذهب أشد معرفة لمذهبهم من معرفة الخصوم به، مهما بلغ أولئك الخصوم من الفصاحة والبلاغة، وفضلًا عن ذلك فإن الأمانة العلمية التي هي من أوائل أسس المنهج العلمي الحديث، وهو المنهج الذي اخترته وجعلته دستوري في أبحاثي ومؤلفاتي، حين أحاول الكشف عن الحقائق المادية والروحية، هذه الأمانة تقتضي التثبُّت التام في نقل النصوص، والدراسة الفاحصة لها»[8].

والدكتور حامد داود كان رئيسًا لقسم الأدب بجامعة عين شمس، ويعرف نفسه بوصفه واضع أسس المنهج العلمي الحديث.

القول الثاني: أشار إلى هذا القول الدكتور أبو الوفا الغنيمي التفتازاني (1350 - 1414هـ، 1930-1994م)، أستاذ الفلسفة الإسلامية المعروف، الذي قدَّم مكاشفة واضحة تجاري وتطابق ما أشار إليه الدكتور حامد حفني داود، ونص كلامه: «وقع كثير من الباحثين، سواء في الشرق أو في الغرب، قديمًا وحديثًا، في أحكام كثيرة خاطئة عن الشيعة، لا تستند إلى أدلة أو شواهد نقلية جديرة بالثقة، وتداول بعض الناس هذه الأحكام فيما بينهم دون أن يسألوا أنفسهم عن صحتها أو خطئها، وكان من بين العوامل التي أدت إلى عدم إنصاف الشيعة من جانب أولئك الباحثين الجهل الناشئ عن عدم الاطلاع على المصادر الشيعية، والاكتفاء بالاطلاع على مصادر خصومهم.

ومما لا شك فيه أن أي باحث يتصدى للبحث عن تاريخ الشيعة أو عقائدهم أو فقههم، لا بد له من الاعتماد أولًا قبل كل شيء على تراث الشيعة أنفسهم في هذه المجالات، هذا بالإضافة إلى ما ينبغي عليه من تحرّي الصدق في الروايات التاريخية التي يجدها في كتب خصوم الشيعة تحرِّيًا دقيقًا، وذلك للوصول إلى الحقيقة ذاتها، وإلى كل ما ينبغي عليه من التجرُّد عن كل هوى مذهبي سابق يؤثر عليه في إصدار أحكامه»[9].

القول الثالث: أشار إلى هذا القول أستاذ الفلسفة الإسلامية في جامعة الإسكندرية الدكتور أحمد محمود صبحي، وحسب قوله: «لا يجور لبحث علمي أو رسالة جامعية أن تستند إلى مصادر من كتب الخصوم.. إن قوله تعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} إن كان المسلم مطالبًا بالعمل بها، فأولى بالباحث ثم أولى اتِّباعها، وإنما يؤخذ العلم من مظانه، كما يعرف المذهب من أهله لا من خصمه... وأنه ينبغي أن تدرس الفرق الإسلامية جميعًا، وبخاصة الشيعة في نزاهة وموضوعية... ولا يجوز لباحث أن يكتب عن مذهب أو فرقة دون الرجوع إلى كتبها المحررة بأيدي علمائها، والمعبرين عنها من مفكريها، معرضًا عن روايات الخصوم»[10].

أما بشأن الصورة الثانية، هذه الصورة تحدّدت في طريقة الخلط بين الشيعة الإمامية الاثني عشرية، والفرق الأخرى المصنفة على الجماعات الشيعية، وحصل هذا الخلط حتى مع بعض الفرق التي انقرضت وتلاشت ولم يعد لها وجود ولا بقايا أثر، كما أن هذا الخلط حصل حتى مع بعض الفرق التي ابتعدت كثيرًا عن نهج الشيعة الإمامية وانحرفت في مسلكياتها العقدية، وحُسبت على ما عرف بالغلاة الذين تبرَّأ منهم الشيعة الإمامية.

ومن تحرى البحث عن الحقيقة، وتقصَّد التثبُّت والتبيُّن، وتوخي الالتزام بقواعد المنهج العلمي، فإن من السهولة عليه التنبُّه لمثل هذه الإشكالية، والتي لا ينبغي الوقوع فيها، والتورط بها، لكونها تسيء إلى الباحث، وتسلب منه صفة الموضوعية من ناحية النظر إلى الموضوع، أو صفة العلمية من ناحية امتلاك القدرة على البحث والنظر العلمي.

وهناك من تنبَّه إلى هذه الإشكالية وقام بنقدها، وفي هذا النطاق يمكن الإشارة إلى ثلاثة أقوال، هي:

القول الأول: أشار إليه رئيس قسم الاجتماع بجامعة القاهرة سابقًا الدكتور علي عبدالواحد وافي (1319-1412هـ/1901-1991م)، الذي نشر كتابًا حول العلاقة بين السنة والشيعة، أعلن فيه أنه لم يدَّخر وسعًا في تحرِّي الحقيقة دون تعصب ولا تحيُّز، وحين تطرق إلى التفريق بين الشيعة الجعفرية وغيرها من فرق الشيعة الأخرى، وجد من الأهمية التنبيه على هذا الأمر، وحسب قوله: «ويزيد من أهمية هذه الفقرة، أن كثيرًا من مؤلفينا بل من كبارهم أنفسهم، قد خلط بين الشيعة الجعفرية وغيرها من فرق الشيعة، فنسب إلى الجعفرية عقائد وآراء ليست من عقائدهم، ولا من آرائهم في شيء، وإنما ذهبت إليها فرق أخرى من فرق الشيعة»[11].

القول الثاني: أشار إليه فهمي هويدي بقوله: «بدا واضحًا في الكتابات المنشورة، أن ثمة قدرًا معيبًا من الخلط بين الإمامية وغيرهم من فرق الشيعة التي عرف عنها الغلو وفساد العقيدة.. ومختلف المصادر العلمية المعتبرة عند السنة والشيعة، تفرق بين الاثني عشرية وبين الفرق المغالية والمنحرفة»[12].

القول الثالث: أشار إليه رجب البنا، وظل يلفت الانتباه إليه مرات عدة في كتابه الذي خصّصه للحديث عن العلاقات بين السنة والشيعة، وفي جميع هذه المرات كان ينتقد طريقة الخلط بين الشيعة الإمامية وغيرها من الفرق الأخرى، ويدعو لتجاوز هذه الطريقة، والتخلص منها.

فحين تحدث عن قصة الشيعة، ختم هذا الفصل بالقول: من يريد أن يفهم الشيعة عليه أن يكون قادرًا على التمييز بين ما هو من مذهب الشيعة، وما هو دخيل ومدسوس عليهم، وأن يفرق بين فكر المذهب الآن، وأفكار فرق قديمة ضالة كانت تدَّعي أنها من الشيعة وقد اندثرت، وبقي ذكرها في الكتب القديمة، يرجع إليها من يريد أن يسيء إلى الشيعة جميعًا[13].

وحين تطرَّق إلى ضرورة الفصل بين الشيعة والغلاة، انتقد البنا أولئك الذين يتقصدون ربط الشيعة بالغلاة، وحسب قوله: «يحلو لكثير ممن يتناولون أمور الشيعة، أن يستعرض الآراء الغريبة لهؤلاء الغلاة، ويظن أو يعمل ماكرًا على الادِّعاء بأن هؤلاء هم الشيعة، والحقيقة أن هؤلاء أساؤوا إلى الشيعة وإلى الإسلام»[14].

واعتبر البنا أن من أهم أسباب ما أسماه بالجفوة بين أهل السنة والشيعة «أن هناك كتبًا قديمة تحدَّثت عن الشيعة بكراهية وعداء، وشرحت أفكار جماعات منها من الغلاة المتطرفين، وقد انتهت هذه الجماعات ولم يعد لها وجود، وما زال كثيرون من أهل السنة يرجعون إلى كتاب الملل والنحل للشهرستاني، وما يذكره من أفكار غريبة تصل إلى حد الكفر، ردّدتها جماعات ادَّعت أنها من الشيعة، ويحسبون أن هذه أفكار مذاهب الشيعة جميعًا، وأنها ما زالت أفكارا حية إلى اليوم، وهذا غير صحيح»[15].

هذه لمحة مقتضبة جدًّا عن صورة أزمة المعرفة من جهة، وأزمة المنهج من جهة أخرى، الحاصلة مع ظاهرة المسلمين الشيعة في العصر الحديث.

-4-
الأزمة.. والجانب التطبيقي

هناك جانب تطبيقي في الكشف عن طبيعة هذه الأزمة المزدوجة معرفةً ومنهجًا، وفي تأكيد الانطباع السائد عند الفريقين حول فارق المعرفة المتبادلة بين السنة والشيعة، من جهة انخفاضها عند المسلمين السنة، وارتفاعها عند المسلمين الشيعة.

وتحدد هذا الجانب التطبيقي في تجربة الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء (1294 - 1373هـ/ 1876-1954م)، وكتابه (أصل الشيعة وأصولها) الصادر مطلع ثلاثينات القرن العشرين، مع الكاتب المصري أحمد أمين (1295-1373هـ/1887-1954م)، وكتابه (فجر الإسلام) الصادر سنة 1929م.

تحدث أحمد أمين في كتابه (فجر الإسلام) عن المسلمين الشيعة، وقال عنهم كلامًا هو من أسوأ ما قيل بحقهم في العصر الحديث، فقد تحدَّث عن هؤلاء المسلمين وكأنه يتحدث وبكل سهولة وبساطة عن طائفة من طوائف اليهود، أو عن طائفة من طوائف المسيحيين، أو عن طائفة أخرى من غير طوائف المسلمين، وليس عن طائفة من المسلمين.

وقد تأسفت كثيرًا في أن يصدر مثل هذا الكلام، من كاتب وباحث حاول كتابة التاريخ الإسلامية برؤية حديثة، وظل يدَّعي أنه يلتزم منهج البحث العلمي التاريخي، وطالما تساءلت مع نفسي كيف سمح هذا الرجل لنفسه في أن يطلق كل هذا الكلام الجائر والظالم، وكيف قبل أن يدونه في كتابه، ويشهره بين الناس، وكأن لا يوجد أحد من المسلمين الشيعة في عصره.

ما كتبه أحمد أمين كان صادمًا جدًّا، وأثار غضبًا شديدًا عند عموم المسلمين الشيعة علماء ومثقفين، وحتى على مستوى الجمهور العام، وهذا ما شعر به الكاتب في عصره، وأشار إلى ذلك في كتابه الذي خصصه لسيرته الذاتية بقوله: ولما أخرجت كتاب (فجر الإسلام) كان له أثر سيئ في نفوس كثير من رجال الشيعة، وما كان له أن يقدر ذلك، لأنه كان يظن أن البحث العلمي التاريخي شيء، والحياة العملية الحاضرة شيء آخر، لكن شيعة العراق والشام غضبوا منه، وألفوا في الرد عليه كتبًا ومقالات شديدة اللهجة، لكنه لم يغضب منها حسب قوله[16].

وقد أثار هذا الكتاب دهشة واستغراب الشيخ كاشف الغطاء، وتأكدت عنده صحة الانطباعات المنقولة له عن حالات الجهل وسوء الفهم تجاه المسلمين الشيعة، ووجد في كتاب (فجر الإسلام)، أن مؤلفه كتب عن الشيعة كخابط عشواء، أو حاطب ليل، واعتبر لو أن رجلًا في أقاصي الصين كتب عن الشيعة في ذلك الوقت، تلك الكتابة لم ينفسح له العذر، ولم ترتفع عنه اللائمة، فتأكدت عنده صحة ما كتبه له أحد الشباب العراقيين المبتعثين إلى مصر للدراسة في كلية دار العلوم بالقاهرة، الذي سمع من بعض الأزهريين المصريين وغيرهم، انطباعات تخرج المسلمين الشيعة عن دائرة الإسلام.

الانطباعات التي أثارت استغراب الشيخ كاشف الغطاء، إلى درجة كان من الصعب عليه التصديق بها، وتعامل معها بشك وارتياب، متعجبًا ومتسائلًا كيف يمكن أن يبلغ الجهل والعناد بعلماء بلاد هي في طليعة المدن العلمية الإسلامية، ومطمح أنظار العرب، بل كافة المسلمين في تمحيص الحقائق، وتمزيق جلابيب الأكاذيب، وما كاد يركن إلى تصديق ذلك، حتى وقع في يده كتاب (فجر الإسلام)، فتأكدت عنده صحة تلك الأقاويل الموسومة بالجهل والافتراء.

وفي سنة 1930م، كان أحمد أمين مع وفد مصري في زيارة إلى العراق، فذهب إلى مدينة النجف مع الوفد المصري، والتقى هناك بالشيخ كاشف الغطاء الذي تحدث عن هذا اللقاء بقوله: «من غريب الاتفاق أن أحمد أمين في العام 1349هـ بعد انتشار كتابه، ووقوف عدة من علماء النجف عليه، زار مدينة العلم، وحظي بالتشرف بأعتاب باب تلك المدينة مع الوفد المصري المؤلف من زهاء ثلاثين بين مدرس وتلميذ، وزارنا بجماعته ومكثوا هزيعًا من ليلة من ليالي شهر رمضان في نادينا في محفل حاشد، فعاتبناه على تلك الهفوات عتابًا خفيفًا، وصفحنا عنه صفحًا جميلًا، وأردنا أن نمر عليه كرامًا، ونقول له: سلامًا، وكان أقصى ما عنده من الاعتذار عدم الاطلاع، وقلة المصادر، فقلنا وهذا أيضًا غير سديد، فإن من يريد أن يكتب عن موضوع يلزم عليه أولًا أن يستحضر العدة الكافية، ويستقصي الاستقصاء التام، وإلَّا فلا يجوز له الخوض فيه والتعرض له»[17].

ومن المفارقات المهمة التي لفتت انتباه الشيخ كاشف الغطاء، وأشار إليها بتعجب، مفارقة تؤكد فارق المعرفة بين الفريقين، وحسب قوله متسائلًا ومتعجبًا «كيف أصبحت مكتبات الشيعة، ومنها مكتبتنا المشتملة على ما يناهز خمسة آلاف مجلد أكثرها من كتب علماء السنة، وهي في بلد كالنجف فقيرة من كل شي إلَّا من العلم والصلاح، ومكتبات القاهرة ذات العظمة والشأن خالية من كتب الشيعة إلَّا شيئًا لا يذكر، نعم القوم لا علم لهم من الشيعة بشيء وهم يكتبون عنهم كل شيء»[18].

وبدوره أشار أحمد أمين إلى هذا اللقاء، وتطرق له باقتضاب شديد في سيرته الذاتية، قائلًا: «ولما لقيت شيخ الشيعة في العراق الأستاذ آل كاشف الغطاء، عاتبني على ما كتبت عن الشيعة في فجر الإسلام، وقال: إني استندت فيما كتبت على الخصوم، وكان الواجب أن استند إلى كتب القوم أنفسهم، وقد يكون ذلك صحيحًا في بعض المواقف»[19].

مع ذلك استدرك أحمد أمين، وأظهر دفاعًا عن موقفه بقوله: «ولكني لما استندت على كتبهم في ضحى الإسلام، ونقدت بعض آرائهم نقدًا عقليًّا نزيهًا مستندًا على كتبهم غضبوا أيضًا، والحق أني لا أحمل تعصبًا لسنة ولا شيعة، ولقد نقدت من مذاهب أهل السنة ما لا يقل عن نقدي لمذهب الشيعة، وأعليت من شأن المعتزلة بعد أن وضعهم السنيون في الدرك الأسفل، إحقاقًا لما اعتقدت أنه الحق»[20].

لكنه في مطلع خمسينات القرن العشرين، عاد وذكر بالملاحظة التي سجلها عليه من قبل المسلمون الشيعة، مظهرًا هذه المرة أسفه من جهة، وداعيًا للتقارب بين الفريقين من جهة أخرى، وحسب قوله: «قد يكون هناك لوم عليَّ في أني اعتمدت في أكثر ما اعتمدت على الكتب السنية التي وصفت عقائد الشيعة... لهذا آسف كل الأسف إذا كان في كلامي في هذه الرسالة، أو في فجر الإسلام وضحاه وظهره ما يغضب إخواننا الشيعيين... وليس أحب إلى نفسي مع هذا، من القضاء على العداوة بين السنيين والشيعيين، فما أحوجنا إلى الصداقة خصوصًا في هذا الزمن، ومن أجل ذلك رحبت بالانضمام إلى جماعة التقريب، لأنه غاية ما أتمنى، ولست أريد إثارة فتن جديدة إلى الفتن القديمة»[21].

-5-
أحمد أمين.. مغالطات ونقد

الاقتران بين أحمد أمين وكاشف الغطاء، يمثل أحد صور فارق الموقف المتصل بالعلم والمنهج في التعامل مع ظاهرة المسلمين الشيعة، أحمد أمين الذي رجع إلى مصادر الخصوم، وركن إلى كتابات المستشرقين، وسجل كلامًا لا يتسم بالعلمية والمنهجية، كلامًا لا يقدم معرفة، ولا يعزز تقاربًا وتفاهمًا، بل يكرس جهلًا وتباعدًا وقطيعة، لأنه يظهر المسلمين الشيعة على غير حقيقتهم.

أما كاشف الغطاء فقد أظهر صفحًا وتسامحًا، وعبر عن هذا الموقف تجاه أحمد أمين حين التقيا في النجف، وقدم معرفة موثوقة عن المسلمين الشيعة في كتابه (أصل الشيعة وأصولها)، ودعا للتفاهم والتقارب، والتخلص من صور الجهل كافة، ونبذ التباعد والتشاحن بين المسلمين ومذاهبهم.

ونتيجة لهذا الفارق في الموقف، قوبل موقف أحمد أمين بالذم، وقوبل موقف كاشف الغطاء بالثناء، فقد ظهر أحمد أمين في الموقف الذي يبتعد فيه عن العلم والمعرفة بالمغالطات والافتراءات التي قدمها ودونها، وظهر كاشف الغطاء في الموقف الذي يقترب فيه من العلم والمعرفة بالحقائق والتصحيحات التي قدمها ودونها.

وبسبب هذا الموقف تعرض أحمد أمين إلى نقد ونقد متلاحق ومستمر، جاء من أولئك الذين وقفوا على الحقيقة، وانكشفت لهم الصورة، وأعلنوا انحيازهم إلى موقف العلم والمعرفة، فحين أطلع أحمد زكي على كتاب (أصل الشيعة وأصولها)، انكشفت له صورة عن المسلمين الشيعة مغايرة تمامًا عن الصورة التي نقلها أحمد أمين، وتحدث عن انقلاب هذه الصورة عنده، ممتدحًا كاشف الغطاء ومنتقدًا أحمد أمين، قائلًا عن صاحب كتاب أصل الشيعة: «فقد أجاد في ترصيفه، وأفاد في تبويبه، وكشف الغطاء عن أمور كنا نجهلها عن إخواننا الشيعة الذين كانوا لا يتكلمون عن أنفسهم، ولا يعرفوننا بمذهبهم، والفضل كل الفضل يعود للخرافة التي دونها الأستاذ أحمد أمين من غير تحقيق ولا مراجعة»[22].

وفي سنة 1966م نشر الدكتور حامد حفني داود مقالة في مجلة (رسالة الإسلام) العراقية، انتقد فيها طريقة التعامل غير العلمي مع المسلمين الشيعة، خاصًّا بالذكر أحمد أمين، وحسب قوله: «ولقد كانت الطامة أعظم حين خرج على الناس بعض المحدثين الذين ينتحلون لأنفسهم سعة العلم، ويأتزرون بإزار المعرفة، وليتهم تواضعوا وتنزهوا عن رفع أنفسهم فوق قدرها، لما أعلنوا الثورة على الفرق الإسلامية، وأفردوا الشيعة بأعظم جانب منها، فأفسدوا فيما كتبوا مناهج البحث العلمي، وأوصدوا دونهم أبواب العلم.

وكان للأسف الشديد أستاذنا أحمد أمين، واحدًا من هؤلاء النفر الذين حجبوا عن أنفسهم نور المعرفة في ركن عظيم من أركان الحضارة الإسلامية، ذلك الركن الذي سبق فيه الشيعة غيرهم من بناة الحضارة الإسلامية والتراث الإسلامي، فكان هذا المسلك هنَّة سجلها التاريخ الإسلامي عليه، كما سجلها على غيره ممن حذا حذوه من أساتذة الجامعات، الذين آثروا التعصب الأعمى على حرية الرأي، وجمدوا بآرائهم عند مذهب بعينه، وليس ذلك بالطريق السوي الذي يسلكه المحققون من الباحثين»[23].

وحينما اقترب رجب البنا من هذا الموضوع، وجد أن من الواضح في نظره أن أحمد أمين قد تحامل على الشيعة، وبالغ في أمرهم[24].

وهناك من انتقد أحمد أمين من جهة اتِّباعه لآراء المستشرقين الأوروبيين، وركونه لهم، فقد اعتبره الدكتور علي عبدالواحد وافي أنه ممن سار في ركبهم في كتابيه (فجر الإسلام) و(ضحى الإسلام)[25].

ومن جهته اعتبره الباحث الإيراني حميد عنايت «أنه قَبِلَ أحيانًا وهو مغمض العين آراء مستشرقين من أمثال دوزي وفلهاوزن»[26].

هذه إحدى الصور التي قلبت الموازين العلمية في طريقة التعامل مع ظاهرة المسلمين الشيعة، وأساءت إلى العلم والمعرفة بهذه الطريقة التي جلبت معها افتراءات ومغالطات جائرة وظالمة.

-6-
كاشف الغطاء.. وتصحيح الصورة

يعد كتاب (أصل الشيعة وأصولها) أحد أهم المؤلفات التي جاءت في سياق تصحيح الصورة عن المسلمين الشيعة في العصر الحديث، وأحد أهم النصوص التي تنتمي إلى أدب التقارب والتصالح بين المسلمين، وأحد أهم المصنفات التي أصدرها الشيخ كاشف الغطاء وأكثرها شهرة وتداولًا في ساحة المسلمين المعاصرين.

هذه الأهمية للكتاب تعلَّقت بالمؤلف من جهة، وتعلَّقت من جهة ثانية بطبيعة الروح العامة التي سرت في الكتاب. فالمؤلف الشيخ كاشف الغطاء يعد من رجالات الإصلاح الإسلامي في العصر الحديث، ومن دعاة الوحدة الإسلامية والتقريب بين مذاهب المسلمين، ومن العاملين بدأب وثبات في هذا الدرب الذي أمضى فيه أكثر من نصف قرن، وبقي مدافعًا عن هذا المنهج قولًا وعملًا، عرفه وشهد له كل من سلك هذا السبيل في عصره وما بعد عصره.

ومن جهة الروح العامة التي سرت في الكتاب، فهي روح إصلاحية وتصالحية، ومن الإصلاحية نبعت التصالحية، وظهرت وتجلَّت وأثمرت هذا العمل الذي كتب بأسلوب هادئ، وبطريقة تتسم بالاعتدال والاتزان، وبمنهجية تنزع نحو التقارب والتصالح بين المسلمين.

وتأكيدًا لهذا المنحى الإصلاحي، اعتبر الدكتور حسن حنفي أن الشيخ كاشف الغطاء في هذا الكتاب، مثَّل استمرارًا الجهود جمال الدين الأفغاني في الإصلاح، وفي توحيد الأمة والتقريب بين السنة والشيعة[27].

وبتأثير هذه الروح الإصلاحية والتصالحية، احتفظ هذا الكتاب بحضوره وحيويته في المجال التداولي، وحظي بقبول واستقبال حسن في أوساط المسلمين السنة علماء وباحثين ومثقفين، ووجدوا فيه كتابًا يُعرِّف بالمسلمين الشيعة، ويُقدِّم لهم معرفة موثوقة، صحَّحت لهم الصورة، وأبانت لهم الحقيقة، وأكدت على إمكانية التقارب والتصالح بين المسلمين.

والذين تعرفوا إلى هذا الكتاب امتدحوه من هذه الجهة، وخاصة المصريين الذين هم أسبق من تعرفوا إليه، ومن تواصلوا معه، حتى إنهم قرضوا له، وكتبوا عنه، ورجعوا إليه، وقاموا بطباعته ونشره في القاهرة، وشجع على ذلك كون أن الكتاب استند إلى وقائع مصرية شفهية وكتابية، أشار إليها المؤلف في مقدمة الكتاب، وعدها من الدواعي التي جعلته يقدم على هذا التأليف.

وذكَّر ببعض هذه الوقائع المصرية وما تميز به هذا الكتاب، الدكتور محمد كمال الدين إمام بقوله: «أرسلت الحكومة العراقية عددًا من أبنائها إلى دار العلوم العليا، ورأوا من أساتذتهم ثناء على علماء النجف، وإعجابًا باجتهاداتهم، ولم يأخذوا عليهم إلَّا انتمائهم الشيعي، وكان ذلك دافعًا للشيخ كاشف الغطاء أن يكتب محاولته التقريبية الأولى في كتابه التصحيحي أصل الشيعة وأصولها، ليرد ما صدر شفهة وكتابة من شبهات حول الفقه الشيعي، والكتاب لقي من الأصداء ما يستحقه»[28].

وعن الاستقبال الحسن للكتاب، أشار إلى ذلك الدكتور محمد إبراهيم الفيومي بقوله: «استقبل العلماء كتاب أصل الشيعة وأصولها للإمام المغفور له الشيخ محمد الحسين آل كاشف الغطاء النجفي، استقبالًا حسنًا، فأوقفهم على حقيقة التشيع ومعتقد الشيعة»[29].

ومعظم الكتَّاب المصريين الذين كتبوا عن العلاقات التصالحية بين السنة والشيعة، ودعوا إلى تجاوز ذهنية القطعية والانغلاق، معظم هؤلاء الكتَّاب استندوا إلى كتاب الشيخ كاشف الغطاء، وتعاملوا معه بوصفه نصًّا مرجعيًّا مهمًّا في هذا الشأن.

ومن هؤلاء الكتاب الدكتور سليمان دنيا (1910-1988م)، في كتابه الوجيز (بين الشيعة وأهل السنة)، الذي طبعته ونشرته في وقته وزارة الأوقاف المصرية، وفيه وصف الدكتور دنيا كاشف الغطاء بالعالم الكبير.

ومن هؤلاء أيضًا، الدكتور علي عبدالواحد وافي في كتابه (بين الشيعة والسنة)، والدكتور أحمد كمال أبو المجد في كتابه (حوار لا مواجهة) الذي دعا فيه إلى حوار جديد بين السنة والشيعة، والكاتب فهمي هويدي في كتابه (أزمة الوعي الديني)، والكاتب رجب البنا في كتابه (الشيعة والسنة واختلافات الفقه والفكر والتاريخ) إلى جانب آخرين.

والغريب في الأمر أن الحاجة إلى هذا الكتاب، تتأكد اليوم أكثر من أي وقت مضى، فحالة الجهل بحقيقة المسلمين الشيعة ما زالت سائدة، ليس على مستوى عوام الناس فحسب، وإنما على مستوى الخواص أيضًا من مثقفين وعلماء وباحثين، وبعضهم يصارحون بهذا الأمر ولا يتكتمون عليه.

وتتأكد الحاجة اليوم إلى هذا الكتاب أيضًا، في ظل حرب التضليل والافتراء التي تشن على المسلمين الشيعة، ومن المؤسف جدًّا محاولة البعض العمل على طباعة أسوء الكتب، وأكثرها ظلمًا وظلامًا لخلق حالة من الكراهية تجاه المسلمين الشيعة، وتقبيح صورتهم، وتكريس ثقافة التباعد والقطيعة والانغلاق، والإطاحة بثقافة التقارب والتواصل والانفتاح.

مع كل ذلك على المسلمين الشيعة أن يلتزموا بمبدأ الأخوة الإسلامية، ويتمسكوا بنهج التقارب والتصالح بين المسلمين كافة، فالطريق ما زال شاقًّا وطويلًّا لتصحيح الصورة.

 

 

 



[1] محمد الحسين كاشف الغطاء، أصل الشيعة وأصولها، القاهرة: مطبعة النجاح، ص32.

[2] أحمد كمال أبو المجد، حوار لا مواجهة، القاهرة: دار الشروق، 1988م، ص269.

[3] أحمد كمال أبو المجد، المصدر نفسه، ص285.

[4] فهمي هويدي، أزمة الوعي الديني، صنعاء: دار الحكمة اليمانية، 1988م، ص281.

[5] فهمي هويدي، المصدر نفسه، ص280.

[6] محمد الساعدي، في سبيل الأمة الإسلامية، طهران: المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، ج2، 2015م، ص400. نقلاً عن: مرتضى الرضوي، في سبيل الوحدة الإسلامية، القاهرة: مطبعة النجاح، 1980م، ص85.

[7] رجب البنا، الشيعة والسنة واختلافات الفقه والفكر والتاريخ، القاهرة: دار المعرفة، 2005م، ص45.

[8] مرتضى الرضوي، في سبيل الوحدة الإسلامية، مصدر سابق، ص77.

[9] مرتضى الرضوي، المصدر نفسه، ص109.

[10] مجموعة كتاب، الفلسفة في الوطن العربي المعاصر، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1987م، ص104-110.

[11] علي عبدالواحد وافي، بين الشيعة والسنة، القاهرة: نهضة مصر، 2008م، ص10.

[12] فهمي هويدي، أزمة الوعي الديني، مصدر سابق، ص284-285.

[13] رجب البنا، الشيعة والسنة واختلافات الفقه والفكر والتاريخ، مصدر سابق، ص29.

[14] رجب البنا، المصدر نفسه، ص115.

[15] رجب البنا، المصدر نفسه، ص310.

[16] أحمد أمين، حياتي، بيروت: دار الكتاب العربي، بدون تاريخ، ص229.

[17] محمد الحسين كاشف الغطاء، أصل الشيعة وأصولها، القاهرة: مكتبة النافذة، 2006م، ص45.

[18] محمد الحسين كاشف الغطاء، المصدر نفسه، ص46.

[19] أحمد أمين، حياتي، مصدر سابق، ص229.

[20] أحمد أمين، المصدر نفسه، ص230.

[21] أحمد أمين، المهدي والمهدوية، القاهرة: شركة نوابغ الفكر، 2009م، ص106.

[22] محمد الحسين كاشف الغطاء، أصل الشيعة وأصولها، القاهرة: مطبعة النجاح، ص32.

[23] محمد علي آذرشب، مسيرة التقريب، طهران: المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، ج1، 2010م، ص494.

[24] رجب البنا، الشيعة والسنة واختلافات الفقه والفكر والتاريخ، ص19.

[25] علي عبدالواحد وافي، بين الشيعة والسنة، مصدر سابق، ص43.

[26] حميد عنايت، الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، ترجمة: إبراهيم الدسوقي شتا، القاهرة: مكتبة مدبولي، ص87.

[27] محمد الحسين كاشف الغطاء، أصل الشيعة وأصولها، مكتبة النافذة، ص3.

[28] مجموعة كتاب، الإمامان البروجردي وشلتوت رائدا التقريب، طهران: المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، 2004م، ص230.

[29] محمد إبراهيم الفيومي، في مناهج تجديد الفكر الإسلامي.. التقريب بين المذاهب، القاهرة: دار الفكر، 2001م، ص24.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة