تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

المعنى الفينومينولوجي للتاريخ .. قراءة في التأسيس الفلسفي للتاريخ

قواسمي مراد

المعنى الفينومينولوجي للتاريخ..

قراءة في التأسيس الفلسفي للتاريخ عند هوسرل

الدكتور ڤواسمي مراد*

*         باحث وأستاذ محاضر بقسم الفلسفة، كلية العلوم الاجتماعية، جامعة عبد الحميد بن باديس، مستغانم، الجزائر.

 

 

 

قبل الخوض في أمور التّاريخ ومعناه، تجدر الإشارة إلى أن هوسرل فيلسوف العقل والعقلانية المحضة في الفكر الأوروبي، واهتمامه بالتّاريخ والتّكوين التّاريخي، سواء الإيغولوجي أو الكلّي، مثارة للاستغراب، ولكن الظروف التي مرّ بها العصر الحديث والأحداث التي عايشها هو نفسه تدفع إلى القبول بأهمية المنعطف الذي أجراه في الاشتغال على نصوصه الفلسفية، إذ يمثّل ظهور التاريخ في المرحلة الأخيرة من فكره إشكالية ذات أهمية كبرى، فالأزمة تشكّل تهديدًا لمصير أوروبا قاطبة ولا بدّ لها من خلاص.

وهنا يحوّل هوسرل فلسفته النظرية الخالصة لصالح إنقاذ التاريخ بحيث يرى في الإيبوخي الكلّي أو الشمولي بما هو الخلاص الأوحد، وفي الفلسفة الترانساندانتالية المعنى الأخير للإنسانية، وهو في ذلك يعتمد على ما يسميه بتحقيق «النهضة»[1] (Renouveau) بعد ما أحدثته الحرب العالمية[2] من خراب ودمار إنساني شامل.

ولهذا لا بدّ من تجديد النظام العام لمجمل الحقل الثقافي الأوروبي فـ«الحرب التي خرّبت أوروبا والثقافة الأوروبية منذ عام 1914، والتي اختارت منذ 1918، بدلًا من وسائل الإجبار العسكري، طرقًا أكثر تهذيبًا منها نفاق الروح والبؤس الاقتصادي»[3]، الأمر الذي أدّى إلى فقدان الإيمان بقدرات العقل على الوصول إلى الخير والجمال، أي إلى القيم الأصلية المتنامية المؤدّية إلى السعادة التي يتم استقاؤها من الأسلاف الأوروبيين من أجل نقلها إلى الأمم الأخرى، كاليابانيين[4] مثلًا[5].

يشعر الفينومينولوجي إذن بمسؤوليته في ضرورة الحديث عن التاريخ[6] من خلال التفكير في الذات إذ لا بد له من تدشين المهمة المفاجئة لتأسيس عصر جديد، على غرار سقراط، أفلاطون وديكارت، وهو بهذا يتناول الأنا الترانساندانتالي، في صورته الأوروبية، ومصيره المنحط، عن نهضته الضرورية التي تحقّق لا محال فلسفته في التاريخ بحثًا عن المعنى الذي هو المطلب الوحيد لاستقرار الأمر.

فقد كانت روح التاريخ أمرًا ينبني على أن هذه الروح مريضة، مصابة في جوهرها، ومن هنا كان ولوجه بناء على الرغبة العلمية والفلسفية في تحصيل الوعي بالأزمة ومن ثمة بالبحث عن حل الخروج منها من خلال فتوحات العقلانية الساكنة محايثَةً في التاريخ نفسه، بما هي المعنى التاريخي.

-1-
المعنى الفينومينولوجي للتاريخ

يدخل الأنا والتاريخ في العلاقة التبادلية بحيث يتقوّم الأنا التاريخ كلّه، ولكن بما هو الذي يشمله ويتجاوزه في مشروع لا نهائي، ما يؤدّي إلى إعادة وصف فكرة الإنسان، إذ لم يعد الإنسان هو تلك التسمية التي تطلق على أنا سيكولوجي وعالمي، وإنما هو ماهية العقل الغائي: وجود ثقافي وتاريخي، بحيث يتطلّب فهم الذاتية الترانساندانتالية، بما هي «تاريخية» (Historicité)، تجاوُز الإلحاد المنهجي لكتاب «الأفكار» باتجاه نحو تصوّر جديد للعلاقة ما بين الإنسان الحرّ[7] والإله[8]، بحيث يتعلّق ردّ الاعتبار لفكرة الإنسان بما هو كائن ثقافي وتاريخي.

وهنا يبقى هوسرل وفيًّا للتحديد الميتافيزيقي للإنسان في معناه كـ: كائن عقلاني، والسبب يرتبط، في هذه اللحظة، بصورة حميمية بالتاريخية، إذ لم يبقَ الإنسان تسميةً واقعية عالمية أو طبيعية، وإنما هو مضايف لمشروع غائي بمهمة لا نهائية، في الواقع، فالأمر يتعلق بإنسان فلسفي، لأن فكرة الفلسفة، أي مشروع العلم الكلّي، هو بالنسبة لهوسرل، غاية التاريخ.

فالتّاريخ، بالنسبة له، هو دائمًا تاريخ الفلسفة، كما لو أنه الحال نفسه بالنسبة لهيغل، ولكن بلا نهاية للتاريخ ومن دون باروزيا (Parousie) المطلق في علم مطلق، وهذا لأنّ المقاربة التي يتقدّم بها هوسرل، في الواقع، أكثر كانطية من كونها هيغيلية، بالرغم من وجود بعض التشابهات في المصطلح، مثلًا في الانتصار الذي يقوم به هوسرل للاكتفاء الذاتي للروح في «محاضرة فيينا»[9]، فالفكرة التي تحكم التاريخ، فكرة المعرفة المتطابقة مع العالم، هي في الأصل «فكرة بالمعنى الكانطي»، أي مثال ناظم ومؤشّر المهمة اللانهائية.

غير أن هوسرل، في الوقت نفسه، يقوم على غرار هيغل بـ«سحب» التاريخ إلى الطرف الذي يحتوي الطرف المعقول، بحيث ينبغي على التكوين التاريخي أن يكون منتوجًا للفكر، وهذا ما يفترض فيه أن يتوقّف التاريخ عن كونه مجرّد تساوق للـ«حدثيات» (Facticités) التاريخية التي يتمّ تقوّمها في الصيرورة التاريخية الحقيقية بتهيئة معنى الإنسان، من خلال البنية القبلية للمعنى بحيث «تتجلى إشكالية أصلية، تتعلّق بشمولية التاريخ وبالمعنى الكلّي، الذي، يمنحه وحدته»، وفقًا للتحديد الواضح الذي يعطيه أوجين فينك (E. Fink)، «الحياة التقوّمية للذاتية الترانساندانتالية هي نفسها تاريخية» وتوسيع جديد للذاتية يتم بلوغه من طرف الرّد: إنها تتحوّل إلى عقل فاعل[10].

ومن خلال تحصيل الوجود الإنساني المحض بما هو معنى متقوَّم، في الرّد الفينومينولوجي، فإنه لا يمكن للذات (Sujet) تحصيل التاريخ بصورة مختلفة عن حيوية التحفيز المحتجب، بخلاف حال هيغل، أين تسمح شمولية «اللحظات» للوعي بتحصيل امتلائه العيني وتبيح التعقل للتاريخ.

يأخذ التّاريخ دلالة ضرورةٍ ماهوية من حيث هي ضرورة ترسّب، تقوّم وأمثلة المعنى أي أمثَلَةُ التاريخ، يعني صورته الماهوية القائمة على الوصف الذي يهدف إلى بلوغ الشيء نفسه من حيث هو معنى عبر فعل الحدس الذّي تمارسه الذات، ذلك أنه في الحدس يعلن التاريخ نفسه عن ذاته بذاته: فالتاريخ نفسه هو الذي يفكّر أزمة التاريخ بما هي أزمة العقل وإمكانية حلّها الممكنة فينومينولوجيًّا[11].

يمكن تحصيل المحتوى الروحي للتاريخ بما هو المحتوى الروحي كطبقة مترسّبة في الكوجيتو وفي الوقت نفسه بما هو هيئة مثالية له [الكوجيتو] وإمكانية تفكير الطابع القسري لهذا التاريخ وفعاليته، ومن جهة أخرى الغلق الوجودي الذي يمكن تحصيله منه بما هو مضاعفة في ميدان الموضوعيات المحدودة بمبدأ غلقها، وعن طريق استئناف حقل البحث في السيكولوجيا الاستبطانية بما هي مكان استبطان التاريخ الثقافي، وفي الأخير، الغلق البنيوي الذي يمكن الاقتراب منه، أي التاريخ، بما هو مطالبة (إنجازات معنى الأنا (Ego) على تاريخه المثالي) لتصدق بما هي ضرورية وكليّة، بما هي انكشاف لأفق المهام الكليّة اللانهائية والمفتوحة دائمًا[12]، «على ذاتية العالم كموضوع، التي هي في الوقت نفسه ذاتية واعية بالعالم» لأجل حلّ مفارقة الذات الإنسانية من حيث هي ذات متأملة وموضوع تأمل في الآن معًا (... ) باسم قصدية ما بعد الإيبوخي، في إطار عالم الحياة الترانساندانتالية.

إن عالم الحياة[13] (Lebenswelt) هو العالم الذي يسلّم به كلّ علم أكان نظريًّا أم عمليًّا، بما هو تشكّل غائي، بحيث يوجد «من نفسه»، سلفًا على الدوام (toujours-déjà) وهو دائم البقاء، كما أن كلّ ما انبثق وينبثق عن الإنسانية على المستوى الفردي أو الجماعي جزء منه، إنه عالم يعيش فيه الكلّ بما فيهم العلماء الذين تنتمي «أعمالهم النّظرية» إليه بحيث يمكنهم استخدامه، وهو بالضبط «في الأساس»، إنه ليس بمحتوى وإنما ينعطي إليهم متقدّما في كلّ مرة ومع ذلك فهو ملك للأنا، كلي الوجود، دائما في حركة ارتباط مستمرّة كما يشكّل ميدان كل المشاريع، الأهداف، الآفاق الغائية وآفاق الأعمال ذات المستويات العليا[14].

يؤيّد التكوين الترانساندانتالي ردّ التاريخ، من حيث يبقى كلّ ما ينضوي تحت مقولة الرّوح الموضوعي وعالم الثقافة مكبوتًا في دائرة العالمية-الدنيا (Intra-monaneité) بحيث إنه لا بدّ من النزول إلى غاية طبقة قبل-ثقافية وقبل-تاريخية للمعيش لأجل كشف المعنى الأصلي في الذات، وهنا يتّجه هوسرل في كتاب «التّأملات» نحو وحدة التاريخ بين الموضوع والذات «فهناك تجارب مطابقة لما يحدث فيها [في عالم الثقافة والناس ومع أشكالهما الثقافية] تكون ممكنة بالنسبة لي (...) أي بإمكاني أن أحقّق هذه التجارب وأجعلها تجري فيَّ بأسلوب تأليفي ما»[15].

وبما أن ردّ تاريخ الأحداث يعمل على التخلّص مما كان حاضرًا منذ الأصل تحت صورة مثال العلم العقلاني الكلّي فإن البحث في التاريخ كفيل بأن يعمل على تنمية موهبة تأسيس علم عقلاني أصلي يؤخَذ على أنه «شرط أقصى لإمكانية التطوّر الثقافي للإنسانية وبلوغها لإنسانية عقلانية حقيقية»[16]، وذلك بموجب أنه لا يمكن للعلم الذي تنجزه القصدية العقلانية القصوى أن يتحقّق سوى بشرط اعتماده من طرف إرادة التبرير الذاتي المطلق والمسؤولية الذاتية، ومنه يسمح العلم الكلّي للفلسفة، الذي يكتسب دلالة حاسمة لأجل تاريخ الإنسانية، لهذه الذات بأن تتمكن من الوصول إلى التحكّم الكامل في ذاتها، إنّها رعاية «فكرة الفلسفة المطلقة» التي ترعى التاريخ الإنساني على سبيل الإطلاق.

وعلى هذا الأساس لم يعد من المفاجئ تصوّر لقاء الفلسفة مع التاريخ، ذلك أنهما يجتمعان من خلال ابتغاء الوحدة التي تتحقّق من خلال «تاريخ الفلسفة» (Histoire de la philosophie)، بحيث كانت هذه المهمة أكثر تركيزًا، في مرحلة «الفينومينولوجيا التكوينية» (Phénoménologie génétique).

وهذا مقارنة مع الوصفية منها، حيث تم التركيز على قراءة التاريخ الفلسفي، إذ اقتحم هوسرل فضاء أسئلة التاريخ من خلال اكتشاف البعد الزماني للذاتية المحضة بصورة أكثر انفتاحًا مقارنة مع ما تقدم به الكوجيتو الديكارتي المنغلق على نفسه، إذ تمّ الكشف عن نوع من التكوين الذاتي في الأنا أفكّر الهوسرلي.

وبهذا تمّ اقتحام التاريخ بصورة عنيفة، ما يجعل الذاتية الفردية المتقوَّمة في الزّمانية تظهر في صورة تاريخ الزمانية البينذاتية التي ستعمل «الفلسفة الأولى» على اكتشاف وظيفتها الحاسمة[17].

وبالتالي فإذا كانت البينذاتية هي أفق الذاتية الخالصة، فإنّ التاريخ يسجّل نفسه من حيث هو أفق المعقولية (Intelligibilité) التي ينبغي تحصيل الوعي فيها، ومن ثمة الاعتماد عليها بما هي مؤسّسة التاريخ البينذاتي في مشهد تحصيل الوعي بالذات، يعني أنه لا بدّ من تأسيس أرضية جديرة بحمل الحاضر ووعيه والسير به نحو المستقبل كما كان الأمر بالنسبة للماضي الإغريقي[18]، لإغريق القرن السابع والسادس قبل الميلاد.

بموجب أن التّاريخ لم يعد بعيد المنال تحصيله ووعيه والوعي بإجرائه على مستوى الذات والموضوع معًا، وهي المهمة التي يتفرّد بها هوسرل في تاريخ الفلسفة كلّها مقارنة مع غيره من الفلاسفة، وهذا باسم التاريخية (Historicité)، بحيث لا تهم الأحداث الموضوعية للتاريخ، الواقعية الساذجة بمعنى ما، مادام أنه تمّ التخلّص منها وردّها[19] ولم يعد تاريخ الفلسفة جملة المعارف الخارجية وإنما هو كفاح سلسلة من الأجيال[20] إلى الأبد وصار الاهتمام بالمعنى والغاية التي يتحرّك على يدها بحيث تحصّل نوع من العلاقة بينها وبين الذات، فالموضوعية التاريخية لا تقدّم المعنى إلَّا في حدثيته (Facticité)، بما هو حكم مسبق من جهة.

ومن جهة أخرى بما هو تقليد[21] في مقابل الفلسفة الترانساندانتالية التي تؤدّي مهمتها على وجه كامل، إنها تنقل الفكرة نفسها، والغاية عينها، وهي بهذا تعتبر تحصيلا للوعي بالذات عبر الطريق التاريخي بحثا عن البداهات الأصلية لأجل بلوغ الفهم الذاتي بصورة جذرية.

ولأجل تحقيق هذه المهمة فقد ركّز هوسرل على العودة إلى «الفلسفة الأولى» التي هي الوحيدة في تأمّل تاريخ الفلسفة، بحيث ركّز على النظر إلى الوظيفة العظمى التي تضطلع بها [الفلسفة الأولى] في تاريخ الإنسانية، والتي مهمتها الارتقاء إلى تحصيل الوعي بالذات كلّيًّا، وإلى عقلانية قصوى بفضلها تكون على برّ الإنسانية الحقيقية، وبهذا فالفلسفة الكلّية هي «الأساس العقلاني والمبدأ وشرط إمكانية جمع حقيقي»، إنها، أي الفلسفة، «تحتوي في ذاتها على دلالة ممتدة إلى كثافة محضة» ومن هنا بالتحديد، وبالتضايف مع ذلك، دلالة خاصة بالإنسانية كلية، وبكل إنسانية معقولة من دون أن يكون لهذه الدّلالة «معنى الحدث التاريخي البسيط وإنما معنى الماهية الضرورية المرتبطة ضرورة بالعلم والثقافة»[22].

يتحقّق التاريخ بما هو معنى (Sens) «مترسّب» (Sédimenté): يتجه نحو ماهية التّاريخ، لا مجرّد الفحص الإمبريقي لسيرورة أحداث لا تقدّم أي ضرب من المعقول، فلو كان التّاريخ ملتحمًا بفهمه فلأن التوجه إليه لا يتمّ سوى عبر المعنى الأبدي، إذ إن فهم التّاريخ هو تحصّل «حركة الالتحام الحية والتضمّن المشترك لتشكيل المعنى وترسبات المعاني الأصيلة»[23] وهو ما يتبيّن في «أصل الهندسة» بوضوح.

يقوم هوسرل في «أصل الهندسة» بتقديم نموذج عام للتاريخ بما هو صورة ماهوية نموذجية لكلّ تاريخ على العموم، كما أنه لا بدّ من تحصيل الوعي بعمومية هذا النمط منه [التّاريخ] حتى يكون المبتدئ على وعي بمهمة التاريخ الموكولة إلى الفينومينولوجيا[24]، إذ يفهم العقل من حيث هو وسم «الأفكار والمثل «المطلقة»، «الأبدية» «فوق الزمانية»، التي تكتسب صلاحية «لا مشروطة»، فعندما يصبح الإنسان مشكلًا «ميتافيزيقيًّا» وفلسفيًّا بصورة نوعية، يصير محلّ سؤال بما هو كائن عاقل، وحينما يكون تاريخه محلّ سؤال فالأمر يتعلّق بـ«المعنى»، بالعقل في التاريخ...»[25]، أو بصورة أخرى معنى العقل بما هو «صيرورة عقلانية» و«قدوم العقل إلى ذاته-نفسها»، ففي «الفلسفة بما هي تحصيل الوعي بالإنسانية، لأجل تحقيق ذاتها من خلال درجات التطوّر، تقتضي، بما هي وظيفتها الخاصة، أن يتطوّر تحصيل الوعي بالتدرّج.. « فالعقل نفسه يتحدّث عن «العقل (La ratio) في حركته المستمرّة لإيضاح ذاته-نفسها» ومن هنا يكون التاريخ ممكنا كتحقيق للعقل بما معرفة الغاية تأتي على تحريك قرار تحصيل الوعي عقلانيًّا، لتفعيل المعاني المغمورة، عبر تاريخية إجرائية.

تخضع تاريخية الموضوعات المثالية، أي أصولها وتقاليدها، لقواعد غريبة لا هي بقواعد التساوق الحدثي للتاريخ الإمبريقي ولا بقواعد التساوق المثالي واللاّتاريخي، كما يقول دريدا، بحيث يكون على ميلاد العلم وصيرورته أن يكونا موضوع بلوغ من قبل الحدس التاريخي الذي يكتسب طابعًا خاصًّا تكون فيه إعادة التفعيل القصدية للمعنى التاريخي إجراءً فينومينولوجيًّا، لا إمكان لحصول هذا المعنى من دونه، فتاريخية العلم عمومًا تعتبر شرطًا قبليًّا ينبغي عليها أن توجّهنا نحو إعادة تأصيل التاريخ الكلّي في بعدها الأوسع، وبصيغة أخرى فإن «إمكان شيء ما بما هو تاريخ للعلم يفترض إعادة قراءة وتنبها لـ«معنى» التاريخ عمومًا: معناه الفينومينولوجي يختلف في نهاية الأمر عن معناه الغائي»[26].

يستلهم صاحب الفينومينولوجيا مسألة البحث عن الإمكانيات القبلية للتاريخ والتكوين الأصلي لحقيقة فعل الميلاد من كانط، بحيث يقوم بعملية تحييد (Neutralisation) المحتوى التاريخي الحدثي، أي بالطابع الإمبريقي للتاريخ بما هو حياة خارجية، يعني أنها حياة عرضية، بالنسبة إلى معنى غائية العقل، واهية بالنسبة لمعنى الماهية.

ومن ثمة فإن الاهتمام باللاّماهية إعلان واضح عن استقالة العقل وتقاعده عن تأدية مهامه، الأمر الذي يعني أنّ اللّوغوس التّاريخي في جوهره لوغوس عقلي، ولهذا فقد لزم أن تكون الفينومينولوجيا بما هي فلسفة استحضارًا للكلية والعقلانية التي يشعر الفيلسوف فيها بأنه «خادم الإنسانية» (Fonctionnaire de l’humanité)، وهي المهمة التي تعمل [الفينومينولوجيا] باسمها على تجنيد نفسها للاحتفال بفكرة الفلسفة، لأنها هي الأصل والغاية، تنشيطًا لعملية التوضيح النابعة من العقل بكيفية دائمة الأمر الذي يسهّل من فهم معنى الإنسانية بعمق أكبر في اتجاه نحو الكمال مقارنة مع ما يمكن أن تحصله من راهنها المتأزّم.

إن رؤية التّاريخ، هذه، جديرة بعدم الاكتفاء بمجرّد الحدث التاريخي الجاهز، في العصر الحديث، الذي يسلّط نفوذه ويمارسه باسم العلم والتقنية على الإنسانية قاطبة، وهو الأمر الذي يجعل من هوسرل طموحًا في تقديم فهم عقلاني لهذه السيرورة بما «هي امتلاء غائي للمعنى التاريخي للإنسانية ذاتها، فهي مسيرة فلسفية حتمية إن كانت الإنسانية تريد الوصول والتحكم في مصيرها»[27].

يقترن مصير أوروبا بمصير الفلسفة أي بروح الفلسفة ذلك أنه توجد استمرارية حضارية روحية بين الحضارة اليونانية القديمة التي «ترسم بدايتها في مرحلة الشروق، أي صورة الإضاءة الأولى من خلال التصوّر العارف الأوّل «للكائن» كعالَم وكعالم للكائن، ثمّ بعد ذلك في اتجاه ذاتي للنظر، الاكتشاف المتضايف أي اكتشاف الإنسان[28] كذات للعالم، ولكنه كذات داخل الإنسانية يتعلّق في عقله بكلية الوجود وبذاته»[29]، وأوروبا المستقبلية التي يأمل هوسرل في الوصول إليها مع العلم بأن أوروبا الرّوحية في جوهرها هي الحياة الداخلية بما هي مهمة العقل اللانهائية، إذ يولد العلم الأوروبي من الأفكار التي أنتجتها روح الفلسفة، كما أن معنى الأزمة يتمّ تتبّعه من خلال درب التأمل الارتدادي عبر عودة الفلسفة إلى تاريخ الفلسفة إذ سيتمّ تحديد الفينومينولوجيا بما هي تطهير (Catharsis) للإنسان المريض[30].

يكمن الاختلاف ما بين النزعة الترانساندانتالية، ناشدة الحقيقة التاريخية الأصلية، والنزعة الموضوعية في الاختلاف ما بين توجهي فكرة الفلسفة والمعرفة العالمية الخاصة أو المشتركة التي تجعل من الإنسان سهلٌ خداعه بحيث تنتج دراما ضياع المهمة الغائية، وهذا الضياع مسؤول عنه بالتحديد «غاليليه، هذا الذي حجب الفكرة بكشفه عن تجسيد الطبيعة رياضيًّا، وهو في هذا لم يبقِ عليها بما هي طبيعة وإنما حوّلها إلى معادلات وصياغات نظرية[31]، لتتصدى له الفينومينولوجيا الترانساندانتالية بإعادة الاعتبار للرؤية التّاريخية التي تحصّل الوعي المكلّف بإعادة الاعتبار للتاريخ بحمله غاية الفلسفة، وبهذا تكون النزعة التاريخية، الترانساندانتالية، فلسفة قدوم المعنى.

-2-
البدء المطلق.. وأسئلة تاريخ[32] الفلسفة

يبدو من أن قراءة هوسرل لتاريخ الفلسفة لا تكتفي بمجرّد عرض تاريخ نقدي للأفكار يمثّل الوضع الفلسفي له [التاريخ]، وإنما تركّز هذه القراءة جهودها على تأسيس البدء المطلق في إطار إجراء استئناف تأمّل التاريخ الفلسفي بالتخلّص من مفترَضِ الأحكام السابقة، وكأنه يسعى في كلّ مرة إلى نسخ آثار تاريخ هذه الافتراضات لأجل تحديد بدء جديد من دون ضمانات ورواسب، إن كانت منطقية أو ميتافيزيقية أو حتى تاريخية[33]

وفي هذا إشارة إلى مدى إشكالية التأمّلات التاريخية التي ترتسم أصول تجربة الفلسفة بما هي مهمة الخلاص من الأحكام المسبقة، من حيث يعقد الفيلسوف العزم على التخلّص منها في إطار غائي يحكم التاريخية على أساس أنها البنية المثالية لتكوين المعنى الفلسفي، وهذا يعني أن آن تجلي لحظة البدء هو نفسه آن التفكير الفلسفي فينومينولوجيًّا وفق مهمة تاريخية أصلية وحقيقية، وليست مجرّد تكرار المواقف التاريخية الطبيعية واستذكارها الساذج.

وهنا يتجلى الفارق ما بين حدثية الحدث وتجلّي المعنى في التاريخ، أو بالأحرى ضرورة البدء بالمعنى من حيث هو أسبق ما يمكن استباقه من الوحدات التي تشكّل الحضارة ومنجزاتها التي تضطلع الغائية التاريخية بها، بحيث يكون فيها جوهر الفلسفة موقفًا لا تاريخيًّا، أثناء لحظة النظر، يحمل في ذروته صورة المعقولية اللامتناهية القصوى للعلم[34].

تستمَدّ صورة المعقولية من الجهد الذي يبذله هوسرل لتحصيل الوعي، بحيث يقوم هو نفسه، أي هوسرل، باستلهامه عبر الغوص المتعمّق في تاريخ الفلسفة، بما هي «فلسفة أولى» يقدّمها في جزأين ليس البحث فيها بحثًا يجعل المشتغل عليه مجرّد مؤّرخ لأفكار وآراء أصحاب النظريات، مثلما يصدق الأمر على مؤرّخ الفلسفة الذي يسبح في جملة النظريات والمعارف وتأريخها، عمّا هو في جوهرها أو خارجًا عنه، وإنما هدفها قول المحجوب من الأفكار المطموسة عبر تاريخ الإنسانية الأوروبية.

تتمثّل مهمة الفينومينولوجيا من ناحية قراءة تاريخ الفلسفة في وعي الموقف الرّاهن لمختلف المدارس الفلسفية باسم عامل «تحصيل الوعي الجذري»[35] وبالتالي فإن دلالة هذا الموقف تأتي بأقل الصراعات الإبستيمولوجية التي لا تلازم التطوّرات الداخلية لهذه المدارس الفلسفية إلَّا في انفصال ما بين النشاط النظري والعملي للعلم عبر تقدّمه ونجاحه ومعناه بالنسبة للحياة، وإمكان أن يكون مرتبطًا بشموليته للعالم.

هذا ما يسمح لهوسرل بأن يدّعي لنفسه مهمة الارتقاء بالفلسفة إلى مرتبة «الفلسفة الأولى» مثلما تقدّم بها «أرسطو»، الأمر الذي يعني بها أنه لا بد من إعادة الاعتبار لمباحث الميتافيزيقا بما هي بحث محض في المعنى وفي المعنى الإنساني بالتحديد، هذا المفهوم الذي يتضمّن تحديدًا التساؤل عن مكانة الإنسان، أي لإقامة الذاتية[36] بما هي علم جديد، عبر تاريخ الفلسفة وفكّ الصراع القائم في تاريخ الفلسفة عمومًا ما بين مختلف أنساقها[37].

من هنا يقوم هوسرل بتبرير تبنّيه لمفهوم «الفلسفة الأولى»، الذي خصّص له دروس 1923-1924، الموسومة بـ«الفلسفة الأولى» بما هي إبداع أرسطي، يتناوله من خلال نقطة الانطلاق في التأمّلات الأولى، وها هو ذا هوسرل يتساءل: الفلسفة الأولى، ما الذي ينبغي فهمه حرفيًّا من هذه العبارة؟

إنها فلسفة من بين الفلسفات عمومًا تؤسس في كليتها وشموليتها الفلسفة الوحيدة، هي بالتحديد الأولى فيما بين كل فلسفة، فالعلوم كلّها لا تتبنى أي نظام وفقًا لتركيبات مختارة بعشوائية واعتباطية، بل على العكس تحتوي في ذاتها على النظام ومبادئه، فما يمكن تسميته بـ«فلسفة أولى» هو تلك الفلسفة التي هي فلسفة أَوْلَى، من حيث المبدأ، على كلّ فلسفة أو علم أو ما شابه ذلك وهذا بفضل العقل الجوهري والأصلي، فهي الأولى في القيمة والمقام بما أنها تحتوي في ذاتها مقام الفلسفة ومحرابها، في حين أن غيرها من الفلسفات، التي تدعى بـ«الفلسفات الثانية»، لا تقوم سوى بتمثّل الأوّليات الضرورية لدهاليز المحراب[38].

رغم وجود العديد من الفلسفات التي يمكن القول فيها والخوض إلَّا أنه لا وجود إلَّا لفلسفة واحدة أصيلة وأصلية، هي هذه الفلسفة الأولى، بحيث يكون فيها نشاط العلوم متجهًا نحو غاية التوحّد فيها والاجتماع بها، أي بما هي غاية في ذاتها، إذ تتحقق بما هي الوحدة النهائية المؤسَّسَة في التساوق العقلاني لمختلف الفعاليات القصدية من حيث إنّها تربط الوحدة بالنظام، فكل علم يقوم على تقديم لا نهائيات متعدّدة من إنتاجات الروح تسمّى بالحقائق (Vérités)، بينما حقائق العلم الكلّي ليست مفككة، أو بالأحرى لا تريد الفلسفة الأولى تضاربًا في الآراء والأفكار وتناقضًا في المواقف، وإنما تريد إنتاجًا موحّدًا يبتغي الغاية الوحيدة نفسها[39].

تقع الإنتاجات الفردية كلّها في كنف الفكرة الغائية، لنظام أعلى، الأمر الذي يجعلها تحت حماية الفكرة الغائية العليا للعلم ذاته، فبقدر ما يبدو أنه تحقيق يفرض قاعدته، بقدر ما تأخذ كل الحقائق الفردية صورة نسقية تسير بصورة غائية فالحقائق الفردية تنتظم وفقًا لقرارات ثابتة تدخل في أنساق الحقيقة بصورة غائية دنيا وعليا: إنها تتوحد مثلًا لتشكّل استنباطات، براهين، نظريات، وفي نسق العلم، في أعلى مرتبه، تنتمي إلى كليّة ووحدة تصوّرية، تسم النظرية وتميّزها، إنها نظرية كلية تتسع كلية وترتقي إلى صور عليا في العلم الملتزم بتقدّم لانهائي[40].

ينبغي، في هذه الحال، أن يصدق على الفلسفة تحديد معيّن، وهذا على قدر ما يمكن أن تُفهَمَ بما هي علم كلّي، لا بدّ وأن يكون لديها بدء نظري (Commencement théorique)، في علاقتها بكل هذه الإنتاجات المرتبطة بالحقيقة وكل هذه الحقائق الناتجة.

وبهذا تحيل تسمية «الفلسفة الأولى» إلى مبحث علمي يمنح الصلاحية لهذه التسمية المرتبطة بفهم أن فكرة الفلسفة الغائية (Philosophie téléologique) العليا تطالب بعلم خاص بالبدء أو بميدان خاص بالبدايات، لا علاقة له إلَّا بها، متوقف على إشكالية البدء الخاصة، سواء من جهة تهيئة الروح، أو من جهة الصياغة الدقيقة للمشكلات وفي الأخير من جهة الحلول العلمية لهذه المشكلات[41].

تتقدّم، إذن، هذه الفلسفة، من حيث ضرورتها الجوهرية، سائر العلوم الفلسفية الأخرى وبحيث عليها أن تتحمّل تأسيسها الذاتي المتعلّق بما هو منهجي ونظري، الأمر الذي يسمح لبدئها بأن يكون، في الوقت نفسه، بدءًا لكل فلسفة عمومًا، طالما أن الأمر متعلّق بالذات المتفلسِفَة، أي مدشّن الفلسفة بالمعنى الأصلي، تلك التي تقوم على تنشيط الفلسفة الأولى بما هي بحث في الأوّل، في البداهات الأوّلية والتكوينات الأصلية، وبما هي اهتمام بالتاريخ الأصلي وانهمام به، يعني بما هي، بالدّرجة الأولى، فلسفة للبدء وفي البدء بحثًا عن البداهة.

وفي حال ما لم تبلغ هذه المهمة نهاية جيدة في بحثها الأصلي، فلن يكون هناك فيلسوفًا بادئًا بالمعنى الذي تمّ تحديده، مادام أنه لا يوجد فلسفة أولى-عينها على أهبة التحقق الفعلي، والعكس بالعكس، سيكون فلاسفة بادئين بمجرّد تحقق هذه المهمة، بمعنى مختلف عن كلمة «البادئ» (Commençant)، فالمبتدئون بالمعنى المشترك، هم المتمرّنون (Apprentis) الذين يعيدون إنتاج الحقائق المدرَكَة مسبقا (Préconçue) في فكرها البديهي المطلق[42].

ليس هذا النمط متوفّرًا في أي من الفلسفات السابقة، عبر تاريخ الفلسفة كما سيكون من العبث الاعتقاد في وجود مثل هذا النمط في الماضي حيث لم الباحث البادئ، نفسه، موجوداً، وإنما يتحقق ذلك من خلال تأسيس علم حقيقي بالحقيقة البدئية، البداهية لعقلانية لا بد منها، لا مفرّ من تحقيقها في الرّاهن لأجل تخطّي مرحلة الأزمة.

وبما أنّ الأمر كذلك فإنه لا يتعلّق بإحياء ميراث تاريخي قديم ولا حتى بمجرّد تسهيل تبليغ المعلومات إلى عقول مجموعة من الطلبة في المعاهد أو الجامعات، وباختصار فإنّه من المستحيل، يقول هوسرل، «عليَّ أن أقبل بفلسفة أيًّا كانت من الماضي مهما كانت فلسفة نهائية، أي مهما كانت تعبيرًا عن صورة العلم الأكثر صرامة مثلما هو مطلوب الآن بإطلاق من أجل الفلسفة»[43].

فبما أن مسألة الاستمرارية ترتبط، جوهريًّا، بالبدء، فإنه من دون بدء علمي صارم، لا وجود أبدًا لاستمرارية علمية صارمة، ووحدها الفلسفة الأولى جديرة بعطاء ميلاد الفلسفة الصارمة، بعامة، لفلسفة خالدة (Philosophie perennis)، من دون شك في صورة فلسفة ذات صيرورة بحيث إن هذه الصيرورة هي انتماء أوّلي ولا متناهي لماهية كل علم في صورة ماهوية للصلاحية، كما أنّ اختراق الفينومينولوجيا الترانساندانتالية الجديدة، بما هي فلسفة قدوم، يعتبر اختراقًا لـ«الفلسفة الأولى» الحقيقية والأصلية في صورة مقاربة أوّلية غير مكتملة[44]

وبهذا يمكن التوصّل إلى أنّ فكرة الفلسفة قد أخذت في الاتّساع بعض الشيء لأجل أن تحقق المعنى الجوهري والعلم الكلّي، أي لأجل أن تحتضن أفق كل نظرية في الحياة العقلانية بما هي نظرية كليّة للعقل النظري، القيمي والعملي.

ومن هنا فإن الأمر يتعلّق بإصلاح شامل وجذري لكّل العلوم، والخروج من لحظة البؤس العميق الذي تعيشه أوروبا الحالية، فـ«الوضع الثقافي عموما يملأ الروح بالإحساس المتمثّل في عدم الاكتفاء العميق»[45]، ولن يتمّ هذا الخروج إلَّا بتأمّل الحياة العقلية للدائرة القصدية، أي بالتأمّل المعمّق في منابع الدّفع والتحفيز، وفي البنية الرّوحانية في مجموع النشاطات الروحية الجامدة، ما يحيل إلى ضرورة تأمّل التّاريخ نفسه، بما هو مسرح انبساط هذه النشاطات، الذي يعمل على إنارة وتنوير هذه الظلمات الرّاهنة و«يجعل الزّمان الحاضر معقولا»[46].

يدعو هذا العمل، وعلى سبيل الاستذكار، تأمل آراء كبار الفلاسفة المحدثين، والمقصود بالذكر في هذا المقام ديكارت الذي تُعَدّ تأملاته الفلسفية الأولى بدء جديدًا مطلقًا في تاريخ الفلسفة بحيث إنها تتقوّم المسعى الموجّه حتى الآن بنوع من الجذرية تعمل على الكشف عن بدء للفلسفة، ضروري بصورة مطلقة، الذي عثرت عليه [تأمّلات ديكارت] في مجرّة الذات المطلقة والمحضة كلية[47].

لقد وجّهت تأمّلات ديكارت عصر الحداثة لإصلاح «كل فلسفة وتحويلها إلى فلسفة ترانساندانتالية»، الأمر الذي يسمح بوسمها بما هي الفلسفة الأعمّ، إذ يرى فيها هوسرل نقطة بدء تحديد عصر الحداثة، مع الديكارتية، بنقد الفلسفة الحديثة بناء على التنقيب في أسسها من حيث هي تجربة يخوضها الفيلسوف بحثًا عن المعنى من خلال القيام باستدراك أوّل يتكوّن من طرفين اثنين: طرف شرطه الأدنى ومعناه أن كيفية تعالي الذات بما هي العودة إلى العالم المعيش، العالم اليومي، لا تغني عن «ملكوت الذات»، وطرف شرطه الأقصى نمط الكلّي المشتق من الماهية، بوصفه قمّة المعنى بالنسبة لكل موجود ممكن[48].

هذا ما يؤدّي إلى ضرورة القول بأن تحديد الميتافيزيقا الحديثة في كليتها تحمل معنى التاريخ انطلاقًا من جمعها ما بين ديكارتية مهمتها تأسيس العلم على ذاتية خالصة[49]، ورسم تاريخية الحداثة كونها مبتغى نهائي تتحقّق فيه معقولية الفلسفة في أهميتها الروحية والميتافيزيقية فـ«أن تحمل الفلسفة العقل الباطن على فهم إمكاناته الخاصة وأن نبسط للنظر إمكان الميتافيزيقا فذلك إمكان حقيقي، وهذا هو الدرب الوحيد لإطلاق عمل عظيم يرتبط بتحقق الميتافيزيقا، يعني الفلسفة الكليّة»[50].

لا شكّ في أن الفلسفة الدّيكارتية تعتبر جزء من تاريخ الفلسفة الحقيقية ولا شكّ أنه لا بد من فهم الرّاهن الذي يتطلّب مطابقة الممارسة الفلسفية مع مطالب هذا الرّاهن، ففي الواقع وانطلاقًا من بداياتها الأصلية كان ديكارت هو الذي يقدّم ضرب الرّاهن الفلسفي المتّجه إلى «إحداث البدء عينه»، فما أمكن فهم التاريخ من دون الذاتية، أصلًا، التي هي إجراء استعادة شاملة لمنجزاتها.

ذلك أن استقصاء البنية الديكارتية، يسمح باستئناف السؤال التاريخي، لكونها ثرية بالإمكانات النظرية التي يقوم هوسرل بتجديدها وممارستها لدى قراءته لتاريخ الفلسفة عمومًا، وهذا رغم أن الديكارتية ذات امتدادين، اثنين، فمع أنها تقدّم مبادئ الذاتية للفينومينولوجيا ومبرراتها الترانساندانتالية من جهة، إلَّا أنها من جهة أخرى تفهم المنظومة الفلسفية فهمًا غاليليًّا، إذ قامت بترييض الفلسفة، وهو ما يدعو إلى اعتبارها [الديكارتية] منطلق الحداثة وبدئها، بل واعتبارها ظاهرة تاريخية، لا بد من قراءتها فينومينولوجيًّا، بما أنها تتميّز بحمل التعارضات: تأسيس الذاتية وجانب عقلنة الفلسفة رياضيًّا[51].

يفكّر «تاريخ الأفكار النقدي»، [أي الجزء الأوّل] من «الفلسفة الأولى»، وضعية الفيلسوف البادئ بما هي تاريخية كلية، يحاول من خلالها القول بأن فكرة الفلسفة الأولى تعمل على توجيه تاريخ الفلسفة بما هو فكرة غائية محايثة (Téléologie immanente)، رغم أن الأنساق الفلسفية السابقة لا تحقق هذه الغائية «في صورة علم حقيقي بالعقلانية اللاّزمة»[52] بل وقد فشلت في تحقيق هذه المهمّة ولكن، في الوقت نفسه فإن، المهمة المنوطة بالفينومينولوجي لم تنتهِ لأنه مرتبط بهذا التاريخ نفسه، وفي هذا تكمن مسؤوليته في البحث عن معنى هذا التاريخ الفلسفي بحيث يمكنه أن يقدّم للفلسفة أسسًا ويؤمّن مصداقيتها العلمية النهائية.

تعتبر هذه المهمة التاريخية دفعًا سلبيًّا بالنسبة للعلم وتاريخ الفلسفة، لأنها تهدم كلّ قيم المعرفة والعلم الساذجين ولكن بصورة أخرى تعتبر بدء جديدًا، على الإطلاق، وعلمًا من نوع جديد كلية، يبدوان ضروريان[53].

وبالتالي فالوعي بالموقف الجذري بعدم صلاحية كل قيم المعرفة والعلم التراثيين هو الذي يؤسس «الموقف المطلق»، إذ يكون فيه الفيلسوف ملزمًا على اتخاذ قرار جذري يجعل منه بالتحديد فيلسوفًا بادئًا، بالمعنى الأصلي ومن هنا ليس لهذا الفيلسوف حق القبول، لدى اكتشافه لنفسه في هذا الموقف المطلق، بأيٍّ كان، من باب تحصيله للوعي الذي لا يمكن تجنّبه من الحاجة الإبستيمولوجية[54].

ومن هذا الباب يمكن فهم «الفكرة الغائية» التي يكتسبها التاريخ بما هي مهمة تبيين وتوضيح إمكانية تحقيق هذا العلم نفسه، علم البدء، فلا يمكن الشكّ في مهمة البادئ (Commençant) مهما كان حَذَق العلم الوضعي في نبش الماضي وسبره بصدد موقف رجل العلم من خلال إحيائه للبداهة والصلاحية العقليين وهذا لأجل تأسيس معرفة تاريخية بداهية خالصة، فالتّجربة القطعية هي التي تمتلك القدرة على عطاء أساس الفلسفة من حيث هو أساس قطعي لأجل ألَّا يُسمَحَ لهذه التجربة من أن تنتج طبيعيًّا عن سذاجة خبرة المعارف الوضعية.

وعلى هذا فإنّ بدء «الفينومينولوجيا الترانساندانتالية» هو الذي لا يدرَكُ بما هو منتوج مباشر للتأمّل حول التّكوين الفعلي للموقف التّاريخي، ولكن سيكون بحث البدء القطعي لفيلسوف متأمّل في بدئه الخاص[55].

ينبغي على استدراك تاريخ الفلسفة في تأسيس الفينومينولوجيا نفسها أن يكون مختلفًا عن مجرّد تروّ (Préméditation)، وهو ما سيختاره هوسرل في كتاب «الأزمة» بما هو منفذ تأسيس بدء الفلسفة الأولى على صرح غائية تاريخ الفلسفة مادامت الفلسفة نفسها تتقوّم فضاء وأفق الإيضاح المتدرّج لفكرة العلم الكلّي بالتوضيح أنها هي التي تطالب وتبرّر في الآن معًا، الصرح الفينومينولوجي وطموحه في تشييد بدء العلم المطلق، ومن هنا سيكون على «الفينومينولوجيا الترانساندانتالية» تحقيق، بجهودها من أجل البدء القطعي، المهمة التي عُيّنت لها من قبل تاريخ الفكر الفلسفي والعقلاني منذ أن بدأت تعي ذاتها منذ الفكر الإغريقي[56].

وبهذا تعتبر كل فلسفة جديدة محاولة جديدة لتشييد الفلسفة، يكون مؤسّسها مقتنعًا بأن الفلسفات السابقة لم تكن سوى محاولات خافقة، جزئيًّا عل الأقل، مع وجود العديد من المكتسبات، التي ترافق هذه الإخفاقات، على الأقل فيما يتعلّق بفكرة الفلسفة المقصودة إن لم يكن بخصوص الإنجازات الناقصة التي نجحت فيها.

 وبهذا تبدو «الفلسفة الأولى» في جزئيها، التاريخي: الموسوم ببلاغة «التاريخ النقدي للأفكار» والماهوي: «نظرية الرّد الفينومينولوجي» لفكرة الفلسفة، تتجلى بما هي تاريخ اللحظات النموذجية للحظات النقدية لتطوّر الفكر الفلسفي منذ أفلاطون حتى كانط بالمرور على ديكارت، لوك، بركلي وهيوم، أي بحيث يتجلى كلّ شيء كـ«صور نموذجية» للوعي الفلسفي وأناه من خلال تكوين العقلانية النوعية التي تحدد هذا الوعي[57].

يعتبر الجمع ما بين تراثي الفلسفة؛ القديم الذي يحملها بما هي نظرية الماهية، والحديث الذي أولى اهتماماته بمسألة الذاتية[58]، هو أساس مهمة تاريخ الفلسفة التي تتعهّد بها «الفينومينولوجيا الترانساندانتالية»، بما أن هدف قراءة التاريخ الفلسفي جمع الشمل الذي تفرّق مع الزمان، أي لوحدة روح تاريخ الفلسفة بما يتضمّنه من غائية قائمة على موقف الحداثة ودعامتها «الديكارتية» الأصلية ذلك التراث المستعاد يعبّر عن ذاته من خلال توليد حركية العقل من داخل البنية التأمّلية للعقل الحديث، وبإنشاء معنى التاريخية انطلاقًا من «ماهية» الدافع الترانساندانتالي الذي يتحكم في مسار الميتافيزيقا الحديثة ويحدد شروط كل ميتافيزيقا ممكنة[59].

ينكشف المعنى التاريخي باستكشاف تاريخ الفلسفة من الداخل، بحيث تبلغ سيادة العقل النقدي على تاريخه الخاص في شكل إحداث المطابقة ما بين نقد الذاتية وبتحديد النقد الفلسفي شرحًا ذاتيًّا لصورة الوعي الترانساندانتالي الذي هو بيان لماهيته.

بهذا يسحب تاريخ الفلسفة نموذجيته من التاريخ الذي ليس تجميعًا وإنما هو البيان التقدّمي للعقل الكامن، وفي هذا العقل تتبيّن السمة المزدوجة للتاريخ التي هي الدّوام والتطوّر، كما يقدّمه هوسرل، فتاريخ الفلسفة لن يكون تاريخ أحداث وإنما يعبّر عن ماهية التاريخ عينه، أيضًا، وليس ذلك سوى تعارضًا ظاهريًّا، فردّ التاريخ إلى الفلسفات يمنع تاريخ الفلسفة من الاستقلال إذ هوسرل لا يحلم بأن يكون مجرّد مؤرّخ (Historien) لها [الفلسفة]، بل مشتغلًا بالمعنى الخفي للتاريخ الحديث.

غير أن القول بأن «العقل الكامن» (La raison latente) يبلغ مبلغ «العقل البديهي» عبر تحصيل الوعي بالذاتية المتقوِّمة، هو القول نفسه بوجود غاية (Finalité)، غائية (Téléologie) للعقل، ومن دون هذه الغائية لا يمكن فهم التاريخ، الذي ينقصه الاكتمال، الذي يجد معه حرية التفكير نفسها فيه محتواة من قبل ضرورة محايثة، تنكشف كقطعية (Apodicticité)[60].

-3-
تاريخ الإنسانية.. حياة في/ بـ الجمع

يترسب المعنى الأصلي في التاريخ، فضاء تحقيق المعنى وفقدانه في الآن معًا، فالمعنى حينما لا يتحقق ثانية في حاضر حي (Présent-vivant)، أو حينما لا يعيد التحقق إلَّا بصورة عفوية فإنه يُعادُ حجبه بترسبات ويختفي تحتها وبذلك تتشكّل الأحكام المسبقة، كما أن للحكم المسبق دائمًا دلالة تاريخية: «إنه متعلّق بالأجيال السابقة قبل أن يكون متعلّقًا بالأجيال الجديدة»[61]، وهو ما يجعل معنى التاريخ مُتَقَوَّمًا، لا فقط حينما يتأسس أصليًّا من قبل فينومينولوجي بدئي، وإنما أيضًا في كلّ مرة يتمّ قصده فيها بالتطابق مع هذا المعنى للأصل في العديد من أفعال وعي الذات.

يتحقّق التّاريخ بما هو حقل بينذاتي بالتعاون ما بين الأحياء والأموات، كيف ذلك؟

إن كل شيء يجري كما لو كان الأحياء شركاء للموتى ومشتركين معهم، وهذا باستحضار، الفيلسوف لجملة المفكرين المختصين الذين هم «أسلافه، أي آباؤه بالروح»[62]، وهذا الموقف الهوسرلي أقرب إلى موقف نيتشه في إعطائه، للموتى، حق المشاركة في التّاريخ «دعوا الموتى يقتحمون حياة الأحياء»[63]، وهو ما يمكن فهمه من خلال عملية بعث الأحياء للموتى وإحيائهم لهم.

الأمر الذي يتضمّن تنشيط معنى إنجازاتهم، إنه نبش للمقبورين، وعدم تركهم يموتون بسلام حتى يحيا الأحياء أنفسهم بسلام، بحيث يتجلى التاريخ بما هو حالة من الحميمية المبحوث عنها في حياة الموتى، أي وببساطة تأسيس كيفية البحث في حاضر حيّ ما كانوا يَحيَونَه في حياتهم وما فكّروا فيه عبر شكل من أشكال الاشتراك الترانساندانتالي[64]، الأمر الذي يتضمّن تحويل كلّ الموضوعات الفلسفية إلى موضوعات مثالية.

الموضوعات المثالية التي هي أصلًا منتوجات «عليا» للعقل تضمن وحدها إمكانية التّاريخية أو ما يمكن تسميته بـ«إمكانية الوعي بالتاريخ البينذاتي»، بحيث لا تنتمي هذه الموضوعات المثالية إلى إيدوس الأنا العيني[65]، إذ ومع نهاية التأمل الديكارتي الثالث تبدأ عملية رسم معالم الأبحاث المتعلّقة بنظرية الإنسان، الجمع الإنساني والثقافة[66].

يوجد في الإنسانية الأوروبية فساد يأتي على معارضة أصالة هذا الجمع (Communauté) الذي هو المقام الأسمى للعقلانية، أي صيرورة العقل نفسه بما هو فكرة لا نهائية، في الوقت نفسه الذي تبحث، فيه، الصيرورة الروحية، في مجملها، في توجهها إليها [إلى الفكرة اللانهائية] عن تجاوز ذاتها والتي هي مكان الانبثاق بما هي انكشاف لغائية العقل الذي يتمّ العثور عليه في معجزة اليونان، التي هي موطن ميلاد أوروبا، بما هي تجمّع ثقافي، بالإضافة إلى كون رجالها لا يشتغلون في انفراد الواحد عن الآخر، وإنّما بعضهم مع بعض، «في جمع مترابط باسم العمل المشترك ما بين الأشخاص، يهدفون إلى النظر (Theoria) ولا شيء غيره، ومع اتساع دائرة المشاركين فيه [النظر] وتوالي أجيال الباحثين، تتبنى الإرادة تنميته وتطويره بما هو مهمة لا متناهية ومشتركة للجميع»[67].

إن دوام وكلية غائية العقل هذه أو هذا العقل بمعناه الأصلي بواسطة الخصوصية الملحوظة للفلسفة، والعلوم المنتظمة فيها لأجل التطوّر، بالنظر إلى زمانية أخرى مختلفة عن الإنتاجات الثقافية الأخرى وبواسطة الأبدية الخاصة بمشروع كلّ نشاط مثالي بما أنه: «ما يولده النشاط العلمي ليس واقعيًّا وإنما مثاليًّا وبصورة أفضل، فإن ما يولد بهذه الطريقة بقيمته وحقيقته يصبح فجأة، مادة إبداع لأفكار ذات مستوى أعلى ومن وجهة نظرية، فإن كل درجة يتم الوصول إليها تصبح حدًّا محض نسبي، مجال عبوري باتجاه أهداف جديدة دائمًا، ودرجة أرفع، وفقًا لسيرورة تابعة للانهائي، هذه الأهداف تتقوّم مهمة لا نهائية تثير الجهد التأمّلي للوعي، إذ يختصّ العلم بفكرة لا نهائية المهام، يكون فيها جزء محدود مُنجَز في كل لحظة ويشكل في الآن معًا شيئًا من المقدّمات التي تسمح بتشخيص أفق لا نهائي من المهام، هذه الأخيرة مجملة، تشكّل وحدة مهمة لا نهائية»[68].

إنّ فكرة تحقيق المهّمة اللانهائية للعلم مدعاة إلى تحمّل مسؤولية كل حياة جمّعية ومن هنا لكل ثقافة على العموم، وهذه الوظيفة مماثلة لتلك التي يتحمّلها النُّوس (Noûs) في الروح الفردية في مواجهة أجزاء الروح الأخرى، إذ لا يكتمل تطوّر الإنسانية بما هي سيرورة من الحضارات بمجرّد وصفه تطوّرا للفرد وإنما بما هو أيضًا تطوّر ثقافي لـ«الإنسان بالمعنى الأعظم»[69].

ذلك ما أدّى إلى اعتبار معرفة الفرد الإنساني في حياته بما هو عضو في جمع فلسفي يؤدّي وظيفة في وحدته الجمعية وحياته المجتمعية، لا تكون فيها فكرة العقل فكرة فردية وإنما فكرة اجتماعية ينبغي بواسطتها الحكم على رأي معياري بقدر الإنسانية الحية في أمكنة اجتماعية كالصور التاريخية والتراثية للحياة الاجتماعية، كالدولة[70].

يسمّى ذلك بعملية نقل تجربة فرد إلى آخر في جمع مُمَأسَسِ (Communauté instituée)، إذ تشمل الثقافة والتاريخية الطبقة الكاملة للإنتاجات الثقافية، التي تمثّل الفلسفة نفسها[71]، وهذا النوع الجديد من الثقافة يتضمّن تقوّم نوعًا جديدًا من الجمع (Communauté): جمعًا فو-وطني (Supranationale)، مجتمع منفتح على كل الناس من دون تمييز، يتقوَّم إنسانية جديدة (Menschentum)[72] هي في الواقع الإنسانية الحقيقية، بما أن وحدتها تتجلى باسم الصورة اللَّانهائية للعلم.

من خلال تمييز هوسرل لمستويات عدّة من التاريخية (Historicité)، يمكن إدراجها في هذا التصوّر، تكون التاريخية بالمعنى الأعم للكلمة متقوّمة لماهية الوجود الإنساني بما هو وجود تراثي وثقافي، بحيث تتناول في، هذا، المستوى الأوّل الأنماط الإمبريقية للإنسانيات، المجتمعات الوطنية والنهائية.

بينما المستوى الثاني فإنها تتناول مستوى الإنسانية الأوروبية، أو مستوى الثقافة العلمية والفلسفية، التي ترتبط بإنسانية فو-وطنية موحّدة، في حين أن المستوى الثالث ينبغي أن يُتَقَوَّم من قبل تحوّل الفلسفة إلى فينومينولوجيا، ما يعني بأن الإنسانية تصبح في هذا المستوى واعية بتاريخيتها الخاصة وتكون جديرة بالارتقاء عن النزعة الطبيعية والنزعة الموضوعية[73].

يرتكز التأمّل الهوسرلي في تبليغ رسالة الإنسانية على جملة من الظواهر التي من بينها الجمع أو ما يمكن تسميته بالتجمّع، والدولة، علما أنها ليست ظاهرات إمبريقية، في فهمه لها، وإنما تخضع لتأمّلات فينومينولوجية وإيضاح ترانساندانتالي[74].

والأمر نفسه، ففكرة المجتمع الإنساني مؤسسة على تجربة مختلف الذوات ليست المعزولة بل هي في تواصل مستمر، ففي داخل الدائرة الأنوية، بما أنه في تجربة الاستذكار يمكن للذّات أن تحاور ذاتها وكأنها ذات أخرى، تبدأ بذور التشكل الجمعي منذ اللحظة الأنوية، تدخل الذّات في جمع مماثل للجمع الذي تشكّله مع آخرين، في إطار البينذاتية[75]، وهذا بوساطة اللّغة، من تجربة التطابق التي تسمح بتصعيد الأنوية بما هي ظاهرة اجتماعية أوّلية، فهناك تواصل أوّلي، بناء على تقوّم علاقة الأنا (Moi) بـ الأنت (Toi)، وتلك بينذاتية مؤسسة على نافذة الانفتاح على عالم خارجي، ذلك أنه، في موناد الآخر، يتم تقوّم ضرب وجود متبادل للذّوات أحدها مع الآخر، ومقاسمة للحياة، التي هي قاعدة كل اجتماعية (Socialité)[76].

فبالرغم من أنّ هوسرل يرفض كل استعارة عضوية لوصف واقع المجتمع، ذلك أنه لا وجود، في المجتمع، لانصهار الذوات في جسد أو روح واحدة، فإن ما كان ليعرف عنها أقل من أنه «لا يوجد تماثل بسيط أو صورة بسيطة في فعل الكلام مثلًا عن روح المجتمع»، بل إن «روح» المجتمع هي محرّك القرارات والأفعال المشتركة لمجموعة ما، بحيث تسود تجربة فو-فردية (Supra-individuelle)، بما هي وعي جمعي يولد من تحديد هدف مشترك وتقوّم لإرادة مشتركة[77] مستمدّان من السلطة الروحية للفلسفة.

تمارس الفلسفة فعلًا روحيًّا فهي، إلى الجانب الأكثر أهمية للموقف النظري الذي يتّخذه الإنسان الفيلسوف، الكلّية النموذجية لمواقفه النقدية، قراره في عدم قبول من دون نقاش أي موقف أوّلي بحيث يطرح كلّ سؤال لصالح الحقيقي في ذاته، في صالح المثلية (Idéalité)، فإرادة إخضاع نسق التجربة لمعايير مثالية، بالنظر إلى معايير الحقيقة اللامشروطة، تثير تحويلًا عميقًا لكل ممارسة وبالتالي لحياة الثقافة كلّها، فلم تعد التجربة الساذجة للحياة اليومية والتقليد هي التي تتطلّب ضبطًا لها، وإنما الحقيقة الموضوعية، إذ تصبح الحقيقة المثالية قيمة مطلقة توّلد تغييرًا للبراكسيس بمعنى كلّي، بفضل حركات التشكيل الثقافي وبتأثير مستمر تمارسه الثقافة على تربية الأطفال»[78].

كل مجتمع يتشكل من أجل متابعة وتحقيق غاية ما مهما كانت، نهائية أو لا نهائية، لأن تطوير الثقافة وحياة التاريخ لا يمكن أن تكون إلَّا في هذا الإطار الجمعي، حيث تكون العادات، الأخلاق، الدين، بما هي معايير تقوم على توجيه الإرادة والفاعلية الفردية، الأمر الذي يعني ضرورة ضبط السلوك الفردي بطابع أخلاقي، وهو سرّ تحقّق المجتمعات التي تهدف إلى بقائها الدائم والرّاسخ، في مقابل مجتمعات مؤقتة البقاء ومهدَّدٌ كيانها بالزوال لأنها لم ترتكز على أسس ذات أفق ضارب في اللانهائي العقلي، فرغم «أنه يظهر تنافر ما بين الذّوات، إلَّا أنه يحدث اتفاق إمّا ضمنيًّا، أو صراحة، من خلال تبادل النّقاش والنّقد (...) إذ يتمّ ذلك بحيث يكون في وعي كلّ شخص وفي الوعي الجمعي، الذي ينشأ عن علاقة الأشخاص ويشملهم، يكتسب العالم الواحد صلاحية دائمة ويحافظ عليها باستمرار (...) العالم من حيث هو أفق الأشياء الموجودة، بين جميع الناس»[79].

لا يوجد، في الوقت نفسه، فارق، في المعنى وفي الوظيفة، ما بين مجتمع (Société) وتجمّع (Communauté)، وهو حال طوني (Tönnies)، مؤلِّف كتاب «الجمع والمجتمع»[80]؛ ذلك أن معنى الشعب أو الأمة يتأسس على هذين المفهومين، ولا سيما الأمة الأوروبية التي هي، بالنسبة لهوسرل، وحدة تاريخية من ثقافة ولغة، ولكن أيضًا وحدة إثنيّة، تجمّع للدّم، يمكن تسميتها أمّة (Nation) بالمعنى الأكثر تماسكًا للمفهوم، من حيث هي ملتقى أولئك الذين ولدوا من نفس الأجداد، ما يتضمّن أن معنى الأمة يشترك ما بين الطبيعة في جزء منه (الدّم والأجداد) والتاريخ في الجزء الثاني (الثقافة والمشاركة الحضارية)، من دون أية دلالة إلى المعنى السياسي له [الأمة][81].

فبما أن الفينومينولوجيا فلسفة، منذ بدئها، أنوية، أي اعتراف بالأنا، فإنه لا بد من عطاء فرصة للشخص حتى يتطوّر الجَمعُ به وبتطوّره، لأنه يسهم في تأسيس الدينامية الغائية البينذاتية، حتى في بعدها الإيتيقي، أو ما يمكن تسميته بـ«المحبة» بما هي الصورة السامية للحياة المونادية، إنها «بالمعنى الحقيقي أحد المشكلات الأساسية للفينومينولوجيا، وهذا ليس على مستوى الفردية المجرّدة وإنما هو مشكل كلي»[82].

المقصود، بذلك، عملية التكامل في تداخل المونادات فـ المُحِبُّ لا يحيا بجانب الآخر ومعه بل فيه، الأمر الذي يعني بأن ما يبدأ بالميل إلى تأسيس الفرد فهو كذلك لا لأجل أن ينتهي إلى نوع من الأنانية الطبيعية وإنما لأجل أن تتنامى نزعة المحبة هذه، وتبحث عمّا يكمّلها في الآخر لتنعطف نحوه، نحو الفناء فيه، ليكون الجمع بذلك مقامًا من مقامات الفناء في أكمل صوره.

لكون «غريزة المحبة» هذه ظاهرة انفعالية أصلية وهي أساس الرتبة السفلى للاجتماعية (Socialité)، وهو ما يُعثَرُ عليه في التحديد الهيغلي للشوق (Désir) بما هو شوق الشوق، ثم بأنه يوجد مسبقًا في انجذاب المحبة «العلاقة بالآخر بما هو آخر وبانجذابه المتضايف»[83].

وبهذا يندفع الأشخاص إلى تحقيق جمع أصلي تمثّله الدّولة الأصلية القائمة على هذه القيمة الأخلاقية، فالمحبة وإذا كانت تقصد وجود الآخر فليس هذا الآخر سوى الأنا المثالي في الموقف اللانهائي، المهمة اللانهائية، علمًا أن المحبة والعقلانية لا تتعارضان أبدًا بناء على معرفة الهوية الحقيقية للأنا الذي لا يتعامل إلَّا مع من يشاركونه أفعاله التعقّلية وغاياته الحضارية.

وبهذا يكون الجمع الحاصل حينذاك جمع للعارفين بما هو جمع للمحبة والمعرفة، إذ يتأسس على عقلانية واسعة الأفاق، أو بالأحرى على عقل عملي يستمدّ كيانه من عقل نظري، وهو الأمر الذي يشترك فيه، هوسرل، مع كانط، بحيث يجعل من «العقل خادمًا للإرادة»[84].

بناء على مسألة فهم المسؤولية الجمعية لجملة من الذوات التي تتصرّف بحرية، وفقًا لشعار التنوير، بموجب تعاليم العقل، فتحترم المعايير التي تمّ وضعها من قبلها[85]، وذلك قوام حياة الإيتيقا الاجتماعية، بالمعنى الممتلئ، بما هي صورة عملية للحياة الفلسفية[86]، والمجتمع الدولة إحدى واجهات تحقّق البينذاتية في أفضل صورها بما هما تجمّعان قائمان على المحبة والعقلانية، على اعتبار أن «الجمهورية» (République) فضاء لإمكانية حياة جمع أصلي عقلاني حقيقي لتحقّق الإيتيقا في صورة فو-فردية وفو-وطنية، مثلما هو عليه الأمر المنطقي[87].

ولكن ليس مبتغى الفينومينولوجيا تأسيس دولة أو مجتمع سياسي أيًّا كان وجه تحقّقه وإنّما تقوم رؤيتها على تأسيس إنسانية عارفة وعلمية مؤسّسة على العقلانية، بما أن الثقافة هي بؤرة التقاء أفراد مجتمع يتّفقون في اهتماماتهم وانهماماتهم، فالثقافة هي منتوج يحمل علاقة حياة جماعية سلمية ومنسجمة للكائنات الإنسانية.

وبهذا تكون فينومينولوجيا الجمع تحققًا للتعالي التاريخي عن الواقع العالمي؛ ذلك لأنها هي نفسها تتقوّم «الواقع الترانساندانتالي» بما هي فوق الدولة وفوق المجتمع وفوق كلّ ما هو إمبريقي، ومن هنا لا يبدو بأنّ لديها أي اعتراض عن أنواع الجمع شريطة أن يخدم، هذا الأخير أيًّا كان، الغاية التّاريخية واللانهائية التي تقوم الفينومينولوجيا بتقوّمها من حيث هي وحي بالطبيعة الحقيقية لغاية الحياة الجماعية الضرورية في تشكيل صورة الإنسانية الأوروبية قاطبة[88].

وعليه ليس السياسي هو الذي يقود الإنسانية في مهمتها اللّانهائية نحو خلاصها، غايتها، وإنّما جمع الفلاسفة والعلماء هم الموكولة إليهم هذه المهمّة، فهم، وحدهم، الذين يخدمون هذه الإنسانية بشرف ومسؤولية، وهنا يختلف هوسرل عن أفلاطون، الذي يرى بأن الفيلسوف رجل سياسة وسلطة، إذ إن الفيلسوف مربّي وموّجه وقائد روحي، لا سياسي، كما يمكن أن يكون كلّ فرد مربٍّ لنفسه وتلميذها في الآن معًا، فخدمة الإنسانية في هذه الحالة لا تعني بأن الخَدَمَةَ يؤدّون وظيفة خارجة عنهم وإنما يؤدّون مهمة العقلانية الكلية لأنهم يمثّلونها بالدّرجة الأولى على مثال الصورة السقراطية التي يتعامل فيها سقراط مع محاوريه، قناعة منهم بالدّفع الذاتي لإيقاظ الاستعداد العقلاني لدى الآخرين[89].

ذلك انطلاقًا من الإيمان بالنظرية التي يصوغها هو [هوسرل] حول في الاستواء[90] (la théorie de la normalité)، بما هي نظرية في ضوابط السلوك ومعايير العقلانية إذ تسلم بإمكانية اعتبار كلّ فرد فيلسوفًا وفينومينولوجيًّا، بما أن الفينومينولوجي الأوّل يسعى إلى أن يضمّ في الصفّ نفسه، كلّ أنواع الحياة الجمعية باسم العقلانية المؤسّسة فينومينولوجيًّا، في مصاف الأفق الشامل لغائية عقلانية، وهو ما يجعل «فكرة الجمع» الاجتماعي مألوفة لدى هوسرل[91]، من أجل تحقيق الانعتاق الإيتيقي[92].

من خلال هذه التأمّلات الهوسرلية يمكن التوصل إلى أن هوسرل نفسه قد كان يسعى إلى استعادة نموذج الإغريق المتعلّق بـ«الإنسان ذي المهام اللانهائية»[93] (L’homme aux tâche infinies)، ذلك أن فكرة الفلسفة يتمّ حملها من قبل أفراد متميّزين، حطّموا المعنى المصنّم لـ«الإنسان ذي المهام النهائية» مشكّلين بذلك «جمعًا محض داخلي»، هو جمع متفلسف، بامتياز، ينشر تعاليم التنوير ويحوّل معنى الحضارة على نحو إيجابي، إنها الوظيفة الفلسفية مفهومة بما هي تأمّل حرّ، كلي ولا نهائي في حركة جمعية وتجمّعية تجلياتها في المجتمع الواع والأمّة العقلانيين.

-4-
فلسفة التاريخ.. غائية[94] التاريخ

كيف يمكن التعرّف على الغائية التاريخية؟ ومن هو المكلّف ببحث غائية التاريخ، هل هو المؤرّخ أو الفيلسوف؟ وبصورة أخرى هل من مهام المؤرّخ المحترف وصلاحياته أن يتقدّم بمشروع قراءة التاريخ الغربي بعامة، وخصوصًا بما هو نوع من قدوم الفلسفة؟

يمكن الإطلاق تسمية «الغائية الحلقية» على التاريخ الذي يقوم هوسرل بتأسيسه، فالتاريخ غائي لا بقدر ما هو موّجه نحو سلسلة أحداث بل بقدر قدوم المعنى الترانساندانتالي، وتكمن حلقية (Circularité) التاريخ في معناه المنبسط فيه، بما أن الذات مجبَرَة على الأخذ به وتنشيطه، كما أن استئناف المعنى هو جزء من حدث تأسيسه الأصلي.

وبما أن التاريخ غائي فإنّه حلقي، ذلك أن الرؤية الغائية التي تبتغي التاريخ وتنتهي به هي التي تدفع هذه الحلقية، بموجب ضرورة استئناف الماضي الثقافي الذي يعتبر ضمانًا لمستقبل حاضر لا عقلاني، كلّه أزمات[95].

لقد ابتدأ هوسرل العمل على الحلقية، بما هي مهمة العقلانية، وقد وضّح برنامجها، وقضيتها، بحيث وجب عليه إعادة تفعيل الماضي المستَذكَر، فيصبح الماضي، بالنسبة للفيلسوف، مستقبله أيضًا، بحيث تكون أية رغبة أخرى عدا الكشف عن الغائية المحايثة، سذاجة وعبثًا ودربًا من دروب اللامعقول.

هذه الغائية هي التي تمكّن من تأسيس علاج الإنسانية الأوروبية، ذلك أنه طالما لهذه الإنسانية غاية محايثة فثمة ضمان مسيرة التاريخ لأجل تنوير ذاتها والوصول إلى مبتغاها فليس من حلٍّ سوى الدخول في وحدة غائية التاريخ[96] بما هي ممكن الإنسان لأجل الوصول إلى فهم ذاته، فمسار التأصيل الذي يؤكّد عليه هوسرل «لا يعني بأن هناك خطيّة [تاريخية]، بل التاريخ حلقة[97] ودلالة الحلقة، إحالة على التكرار والإعادة»[98]، وصورة التكرار هذه تتجلى في العقلانية التي تندفع «باكتشافها المتجدّد دائما لنسبيتها القاصرة (... ) لأجل انتزاع العقلانية الحقيقية»[99].

بصورة أخرى فإن غائية التاريخ تسعى وبدرجة كبرى إلى تحصيل إنسانية الإنسان من منظور عقلاني، فبفهم حركة التاريخ بما هو تاريخ الروح، يصل الوعي إلى معناه الخاص، وكما أن التأمل يعطي «الدليل القصدي» لقراءة التاريخ، يمكن القول بأن التاريخ يعطي «الدليل الزماني» لأجل معرفة العقل اللانهائي، في الوعي، إذ يصارع العقل لأجل أنسنة الإنسان، وببساطة فإن إعمال الفكر هو الوجه الآخر لوحدة المهمة، وقدوم المعنى.

على خلاف «محاضرة فيينا» التي لا تحتوي سوى بعض الإشارات الخاصة بهذه المشكلة، في بدايتها فقط، فإن بعض فقرات «الأزمة» تقود، بصورة جلية إلى المعنى الغائي للتاريخ الذي يتجلّى بما هو مهمة فلسفية، فمن الواضح بأنه توقّع فلسفي يسمح بفهم التاريخ بوصفه مرحلة قدوم (Avènement) للمعنى، عبر الكشف عمّن هو المكلّف بكشف هذا المعنى نفسه، بحيث تختلف مهمة المؤرّخ عن مهمة فيلسوف الحاضر، فالأوّل وإذا كان يتناول الأحداث في «سطحيتها» بالحفاظ عليها في صيغتها المعلوماتية بأمانة علمية.

فإنّ الثاني هو الذي يكرّس نفسه للحقيقة التي تخدم الوعي بالرّاهن، الحاضر الحي، التي هي رسالة الفيلسوف كما يعترف هوسرل صراحة، ومهمة التاريخ في أصالتها، «إننا نعيش كفلاسفة ينتمون لهذا الحاضر (... ) ولا يمكننا التخلّي عن الإيمان بإمكانية الفلسفة بما هي مهمة، أي بإمكانية معرفة شاملة، إنها مهمة الفيلسوف الجدّي»[100] ورسالته التي أوكلها لنفسه، إنها الفلسفة لا حقل آخر، والفيلسوف هو «خادم الإنسانية» إذ تتمثّل مسؤوليته الخاصة في أنه يحمل رسالة شخصية داخلية في الآن معًا بالنسبة للمسؤولية تجاه الوجود الحقيقي الذي لا يعتبر وجودًا إلَّا بالنظر إلى غاية ما، بحيث لا يتحقق معناها إلَّا إذا تحقق هذا الوجود نفسه المشروط بوجود فلاسفة وليس مؤرّخين[101].

بهذا يسمح هوسرل أن تخوض الفلسفة مهمة بحث الذات التي هي من صلب التاريخ لأنّه [التاريخ] لم يكن جديرًا بتأسيس ذاته بالأصالة من خلال تحصيل هذا الذي وحدها الفلسفة قادرة عليه، فمدى اللانهائية والشمولية ليسا في يد أحد سوى الفيلسوف بدءًا من ذاته نفسها، بما أن الإرادة اللانهائية المقصودة في عمق كل الفلاسفة، تقيم في الوحدة المختبئة لداخليتهم القصدية، التي يتقوّم التّاريخ بها.

هكذا يرتبط اسم هوسرل بإعادة تأسيس تكوين غاية اللّوغوس من خلال مقصد الفلسفة الذي يسمح مخططه بتأسيس نظرية التاريخ، تلك النظرية التي لا بدّ من فهمها بما هي طبقة مؤسِّسة لعقلانية العلم تسوّغ، منذئذٍ، استساغة المفهومين المتعارضين لـ: العالم المحيط (Umwelt) وعالم الحياة (Lebensumwelt)، بحيث يحيل مفهوم العالم المحيط إلى انفعالية ثانوية (بما هي نسق إحالة موحّد للجسد والروح)، بينما يحيل مفهوم عالم الحياة إلى انفعالية أصلية وفي إطار هذه الإحالة على الانفعالية الأصلية، تكون الذّات في حضرة عالم مختلف عن العالم المدرَك، أي في مواجهة تنظيم مبنين على أنماط تحديد يمكن معرفتها فينومينولوجيا بواسطة الذوات (Sujets)، أو بالأحرى بمواجهة الكشف عن عالم يحيل إلى أنماط تجارب تفسرها الفينومينولوجيا، هكذا «يتكوّن المعنى الانفعالي في عملية الإنتاج»[102].

يحيل مفهوم العالم المحيط إلى أفق ثقافي، في كليته، مترسّب بطبقاته التي تسمح بتفكير الذات مقارنة مع العالم المقصود، إذ ينعطي هذا العالم بمعنى قبلي في وجوده الصامت، إنه موجود هنا والآن دائمًا بدلالات لا نهائية للأصل الثقافي، وعلى هذا فإنه لا بدّ من العودة إلى البينذاتية والتاريخ.

وفي إثبات تناسب ما بين الذات (Sujet) والإنسانية، بما التأكيد على أن مفهوم العالم المحيط يوافق امتياز (لا مُدرَك) في ساحة الروح، والذي سيحصّل توجيه تيمة البينذاتية بما هي ضمان لكلية بنى الكوجيتو، فلو أن تيمة السذاجة توجّه نحو الكوجيتو كتيمة العقل، ولو أن الكوجيتو يوجّه نحو تيمة البينذاتية وبالتبادل، فإنّ التمتين تكونا متضايفتين مع تيمة التاريخ الذي يكتشفه التاريخ في نفسه وبواسطتها بما هي جملة من الطبقات المترسّبة للصوّر الثقافية والتي يسمح، الكوجيتو، بإعادة تنشيطها الممكنة دائمًا.

بهذا فإنّ التوصّل إلى أن التمعّن التاريخي الأوّل، عن طريق الارتداد، يساهم في تحقيق وضوح الوضعية الواقعية الراهنة وفي الإحاطة بها وبمحنتها ويقوم على التذكير بأن الفيلسوف هو وريث الماضي من حيث إن هدفه متعلّق بتحصيل هذا الماضي واستلهام مختلف الأفكار والمناهج لحلّ أزمات الرّاهن من خلال الولوج خلسة إلى المعنى الداخلي الذي يكشف الغائية المحايثة والخلفية القصدية، في الآن معًا، «التي وحدها تشكّل وحدة التاريخ»[103] مثلما كانت تسير نحوه الفلسفات الماضية من دون وعي منها[104].

إنه التأسيس النهائي بما هو غاية (Telos) كلّ فلسفة تبتغي الوضوح التام والمطلق، بما هو غاية التاريخ أيضًا وهي ما يسعى الفيلسوف لا المؤرّخ في القبض عليه، وهي «حقيقة الاعتبار الغائي التي لا يمكن تفنيدها وإنما تتأسس من خلف التاريخ نفسه عبر بداهة رؤية نقدية شاملة، فيما وراء حقائق الفلسفة وآرائها الشائعة وهو ما لا يمكن للمؤرّخ القيام به[105].

يعتبر كتاب «الأزمة» مرحلة في التأمّل التاريخي تنفتح فيها الفلسفة على التاريخ نفسه أو بالأحرى هو الذي يقتحمها ليتّجه نحو المركز بدلًا من بقائه في مناطق جهوية، ففينومينولوجيا الأزمة هي فينومينولوجيا التاريخ بامتياز وهو الفهم الذي يتقدّم به هوسرل في صورة جديدة تختلف عن التكوين الذاتي المتعلّق بتشكّل المعنى في المستويات التقوّمية الذاتية فقط، بما هي جملة من سيرورات الوعي، بحيث تعتبر عملية تحصيل الوعي بالأزمة تأكيدًا لغائية العقل دربًا شرعيًّا جديدًا للمثالية الترانساندانتالية، كما أن منظورية صيرورة الفلسفة الغريبة كلّها تهدف إلى تحديد الإيدوس الأوروبي ذي المهام اللانهائية وسرد مغامرات وحادثات الحافز الترانساندانتالي، المستتر في كلّ مرة، باسم الحركة التي تكشفه، وكل هذا ينفتح على الاستذكار (Rétrospection) الإجمالي بما هو رصيد لم يبرره، وبصورة سابقة، أي نقد للعقل التاريخي[106].

تتمثّل غاية التاريخ الفينومينولوجي في نزع طابع الثقة الغلّاب على الفلسفات عامة وهو الأمر الذي يعكس بصورة ما «نقد العقل» عمومًا والتاريخي، فينومينولوجيًّا، خصوصًا، فالقراءة الغائية للتاريخ تهتم بإثارة انتباه الإغفال الدوغمائي الذي لم يدرك معه الفلاسفة من أرسطو إلى هيغل ثم إلى برانشفيغ (Brunschvicg) من الماضي سوى الإحساس المتعب لفكرهم، بحيث كان عليهم أن يكونوا على وعي بأنّ تناول التاريخ، بما هو علم إمبريقي، لا يغير في الأمر شيئًا، وأن الفينومينولوجيا وحدها هي التي تمكّنت من ربطه بماهيته، كما أنه، وفي طابعه اللامادّي، يتحمّل مختلف أنواع التنوعات المخيالية والحدوس الماهوية[107].

إنّ إنجاز هذه المهمّة يجعل من الفلسفة والعلم حركة تاريخية يستمدّ العقل معناه منها وبالتالي يعمل «مفهوم الإنسان على تأهيل مفهوم العقل تاريخيا، في الوقت الذي يجعل فيه العقل من الإنسان صاحب معنى»[108]، وبهذا يتأسّس فهم الغائية التاريخية، على الاتفاق حول ميراث وحمل هذه الغائية، لكي يكون التأمل الغائي هو العلاج الممكن لإنسانية أوروبية تتخبّط في ويلات الأزمة، أي إنه من خلال الارتكاز على الوحدة الغائية للتاريخ يصبح الإنسان جديرًا بتمييز المهمة التاريخية التي بإمكانه أن يجعل منها مهمته.

يستتبع ذلك إنتاج إنسانية جديدة تتمتع بمقولات جديدة هي: مواجهة خطر التاريخ الإمبريقي، صيرورة العقل في مسيرة تحقّقه، مسؤولية الإرادة، المهمة اللانهائية والغائية المنفتحة بما هي أفق التاريخ وتصوّر جديد يقوم بالإشراف على المعنى الإنساني المستجد، بحيث يفهم الإنسان لا بما هو «أنا إنسان» يؤخَذ في معناه الواقعي المستَخلَص من الحياة العالمية بدروب السرد التاريخي والاستقراء السوسيولوجي، وإنما هو إنسان المرحلة الجديدة، مرحلة ما بعد الإيبوخي وإجراء إعدام العالم[109]، الذي تصفه «محاضرة فيينا» بـ«ذي المهام اللاّنهائية»، بحيث يؤول إلى الفلسفة مهمة «أنسنة الإنسان»، وإماطة المعنى التقني الذي كرّسته الأزمة الحديثة، أي العمل على ترسيخ تقاليد المعنى الإنساني الأصيل النابع من الصورة الأوّلية للإنسانية، بموجب أن العقل وحده ما يمكنه جعل الإنسان «سعيدًا»[110].

وهذا التحديد، للإنسانية الجديدة، مستمدّ من معالم النهوض ضد استصغار مهمة العقل، وعدم السماح له بالتوجّه نحو امتلائه، أي حرمانه من التحقيق الذاتي لإمكانياته التي هي في الأساس ميتافيزيقية ولكنّها الوحيدة التي تحقّق إمكان بلوغ الاكتمال[111] (Entéléchie) المتجلي في الإنسانية الكلية الكاملة التي «تعني الإنسانية ماهيتها أن نكون أناسًا في أشكال مترابطة عبر الأجيال والعلاقات الاجتماعية، فإذا ما كان الإنسان كائنًا عاقلًا، فإنه لا يكون إلَّا إذا كانت إنسانيته كلّها عاقلة»[112]، الأمر الذي يميّزها عن مختلف الأنماط الأنثروبولوجية التي يحيا وفقًا لها كلّ من الصين والهند[113] اللتين لا تحملان الفكرة المطلقة، أي تجلّي العقل لذاته في صورة فلسفة كلية ترتقي في معرفة بداهية قطعية مستمرة تضع معاييرها النظرية والمنهجية[114].

بل ولهما حتى «تأويلات للعالم تنشأ تاريخيًّا (...) فلكلّ شعب وقوم عالمه الذي يكون كل شيء منسجم فيه بالنسبة له، إما بصورة أسطوري-سحرية أو أوروبي-عقلية (...)، لكل شعب «منطقه» ومن ثمة قبليته الخاصة»[115]، أي وفقًا لكون هذه الشعوب تمتلك تصوّرًا تاريخانيًّا محدودًا ونسبيًّا، بينما الكمال والمطلق لأوروبا، فهو عودة الإنسان إلى نفسه مستجيبًا إلى جوهر العقل النظري وتحقق المعقولية فيه، لذا فليس المقام التاريخي للفلسفة قراءة لتاريخ الفلسفة ولغائيته فقط، وإنما هو تحويل للتّاريخية إلى مقتضى داخلي للتفلسف هو في الآن معًا تساوق بين إمكان الميتافيزيقا كشرط لفهم إمكان العقل وتحصيل معنى الفلسفة بالكليّة واستكمال للتاريخ ضمن جوهر الإنسانية[116].

يرتبط خلاص أوروبا بإنجاز، تكرار وإعادة الإيبوخي بما هو تحوّل نحو تشغيل التنوّع الماهوي في فاعليته ونزوعه نحو التأمّل الذي يتحدّد بما هو منهج فتح فكرة أوروبا (Europe): وبهذا يتحصّل، بالتتابع، في زمن أوّل تحضير تمييز بين المعنى الجغرافي والمعنى الروحي لأوروبا، وفي زمن ثان تحضير الفرق بين الشرق والغرب، وفي زمن ثالث انبثاق تيمة الإحساس الحي كدليل قصدي للإجراء، وفي زمن أخير انبثاق تيمة معجزة الإغريق وفتح ما هو قائم في ماهيته باسم التميز ما بين العلمي وقبل-العلمي؛ هذه اللّحظات الأربعة تجد تبريرها في الفلسفة التي تسمح بتهيئتها في حركة نقدية وتأسيسية في الآن معًا: «بالانتشار تحت صورة البحث والفعل التربوي»[117] اللّذين يشكّلان أوروبا روحيًّا.

الأمر الذي يعني بأنّ الصورة الروحية لأوروبا، ليست شيئًا ما، وليست أحدًا ما، ولا حتى عددًا من الناس بل هي فعل (Action): فعل الإظهار (Montrer)، إنه «التشكّل الروحي لأوروبا»، فعل الـ«البيان» (C’est montrer…)، التشكيل الروحي لأوروبا ذو قوام وكثافة في فعل وحركات الإظهار، في الإيضاح، وما يتمّ إظهاره هو الفكرة الفلسفية أو أيضًا الغائية المحايثة لتاريخ أوروبا، وبهذا يتّجه التاريخ نحو غاية ما، نحو مستقبل ما، وهذا المستقبل يكون بالنسبة للناس المنسجمين في التاريخ بما هو حاضرهم[118].

الفكرة الفلسفية، هذه هي، التي تكون فكرة بالنسبة للجميع، هي الفلسفة نفسها: هي «الظاهرة-البدئية» (Le proto-phénomène) للثقافة، الذي ينبغي الإنصات إليها جيّدًا لأنها لا تُفهم إلَّا بما هي معنى الإنسان الأوروبي، هي فكرة (Idée) بالمعنى الكانطي[119] للكلمة: إنها مهمة (Une tâche)، فكرة الفلسفة، ها هي ذي فلسفة التاريخ، التي تتحقّق أيضًا بما هي تاريخ الفلسفة[120].

إنّ التّدليل على الفلسفة بما هي فكرة، يعني رأسًا تحديد المعلمين المحوريين للشمولية (Totalité) واللانهائية (Infinité) وهو ما يسميه هوسرل غاية أو نهاية مقصودة متمثّلة في غاية العلم الكلي بالوجود وبما أنها تقصد اكتمال العلم بكل ما هو كائن ففكرة الفلسفة، من هذا المنظور، هي «صورة قيمية يكون محلها في اللانهائي»، ولكن كل تحقق تاريخي للفلسفة أفق يتعذّر بلوغه، وتاريخ الفكرة هو الذي يعبّر عن لا نهائيتها، تقدّمها بلانهاية، إذ إن إنسان ما قبل الفلسفة وخارجها يتمتع بتاريخية (Historicité)، ولكنّها تاريخية ذات مهام نهائية، مغلقة، بلا أفق، على أساس الرؤى قصيرة المدى، التي حدّدها التراث أو التقليد[121].

الأمر الذي يجعل من الأفق مشكلًا، ذلك أنه لا بد من أن يحقّق تأويل الأفق صورته العلمية لأجل بلوغ قبلية العالم التاريخي في شموليتها بصورة راسخة وحقيقية وهو ما لن يكون إلَّا بتحصيل «مقدرة» الذات على الانعكاس، على توجيه النظر إلى الأفق وعلى النفاذ إليه وتأويله»[122].

وتأويل الأفق هذا هو الذي يسمح لتصوّر الغائية، في التوجّه نحو اللانهائي، بأن يحمل معنى قدوم المعنى (Avènement du sens)، إذ يتجلّى في صورة التطوّر باتّجاه قطب أبدي من النمطية الاجتماعية نحو فكرة الإنسان، الإنسان الكامل، المتحرّر من تدجين الشعوب (Zoologie des peuples) لأن الأساس كامن في توقّع التوجّه القصدي لتمييز تسلسل المعنى الأرفع في تاريخ أوروبا.

كما يترادف كلّ من فلسفة التاريخ والغائية، إذ يريد هوسرل «إعطاء كل الاهتمام لفكرة الإنسانية الأوروبية بما تحقّق ذاتي للعقل الفلسفي، بتأملات من منظور فلسفة التاريخ أو أيضا بالمعنى الغائي»، ذلك أنه لأوروبا والإنسان الأوروبي «معنى غائي»، «فكرة»، وهذه «الفكرة» هي الفلسفة نفسها بما هي شمولية الأفق والمنظور اللانهائيين للعلوم إذ ترتبط بداية الجزء الأوّل من «الأزمة» بالفلسفة عبر وساطة الـ«معنى الغائي» بحيث «يحاول هذا الجزء تأسيس الضرورة الحتمية لقلب الفلسفة إلى فينومينولوجيا ترانساندانتالية على درب تحصيل الوعي بالغائية التاريخية التي يتم تطبيَقها على أصول الموقف النقدي[123].

إذا كان التاريخ مجرّد التحاق ثانوي بالفلسفة فقد أصبح الآن دربًا ممتازًا للولوج تخوض فيه، هذه الأخيرة، بما هو أحد إشكالياتها، فبعدما لم صار، التاريخ، يُفهَم باسم الفكرة، التي تتحقق فيه، فإن حركته هي ما أصبح، بالنسبة للفيلسوف، مُلْهِمًا أصليًّا للتيمات الترانساندانتالية، فوحدها أوروبا ذات «غائية محايثة» (Téléologie immanente)، ذات «معنى» (Sens)، إذ ليست مكانًا جغرافيًّا، وإنما رابطًا روحيًّا، وهو مقصد (Visée) «حياة فعل وإبداع، ذات طابع روحي».

والرقي الذي يتمتع به مفهوم الروح لم يعد منطويًا إلى جانب الطبيعة، وإنما مُحْتَفَظًا به إلى جانب الوعي التقوّمي (La conscience constitutive) وفقًا لكون رابطة الإنسان ليست مجرّد نمط سوسيولوجي وإنما «معنى غائي»[124].

لا ينفصل، إذن، بحث الغائية عن مشروع التاريخ بما هو لحظة فهم الذات بوصفها من يساهم في هذا التاريخ، إننا نأخذ في التحرّر، يقول هوسرل، من الوحدة التي تسيطر من خلال كل المواقف التاريخية للأهداف، من خلال تعارض وتضامن تحوّلاتها، بفضل نقد مستديم لا يأخذ سوى بمساق التاريخ في مجمله (...) فإننا نأخذ أخيرًا في إدراك المهمة التاريخية التي يمكننا وحدنا التعرّف عليها بما هي ملكنا الشخصي، بحيث لا يكون النظر من خارج الحدث: كما لو كانت الصيرورة الزمانية، التي نصير فيها نحن أنفسنا، مجرّد سيرورة سببية خارجية، وإنما يولد النظر من الداخل، نحن (...) [الـ] كائنات في صيرورة وفقًا للروح التاريخي، فوفقا لذلك فقط تكون لنا مهمة خاصة بنا[125].

وبما أن التاريخ هو تاريخ أوروبا فإن المعنى الذي تُعنى بتحقيقه هو أيضًا معنى هذا التاريخ، إنه معناها، وهذا النوع من إيضاح التاريخ... ليس سوى تحصيلًا أصليًّا للوعي، من قبل الفيلسوف، بالمعنى الحقيقي، لما يريده من نفسه، منحدرًا من الإرادة، وبما هي إرادة أسلافه الرّوحيين[126].

فالخطوط العريضة والأساسية لفكرة الفلسفة لا تُقرَأ إلَّا حول التاريخ، فليس التاريخ مواربة وهمية، بناء على المهمة اللانهائية للعقل التي تتضمّن تاريخًا، أي تحقيقًا تقدميًّا، وهكذا تكون عودة التاريخ ملهمًا ممتازًا لمعنى فو-تاريخي (Supra-historique)، كما يتأسس أفق المستقبل على اكتشاف الأصل والتأسيس البدئي بصورة نهائية بحيث يمكن معرفة الذات، وهذا استفادة من ديكارت قائد المعركة ضد الأحكام المسبقة، التي تحمل معاني الزيف والمواربة لا الأصالة وقطعية البداهة، الأمر الذي يحيل، ضرورة، إلى إلزام الالتزام بتجديد خوض هذه المعركة حتى يتم الحصول على المعنى «المطمور» (Enfuit) لأجل استحضاره ويكون، بالتالي، حاضرًا، ويتم تعقّل الوحدة الغائية للتاريخ، فمسألة فهم الذات لا تتحقّق إلَّا إذا تحقق فهم الأجداد وسوابق الأجيال التي يتمّ تأسيسها بما هي لحظات راهنة، إنه ما يطلق عليه تسمية «تحصيل الوعي بالذات» (Selbstbesinung) (Prise de conscience de soi)[127].

إذا كان مفهوم القطعية يأخذ دلالة منطقية فإنه مرادفه هو الاكتمال، الذي يأخذ دلالة تاريخية، إذ يكون فيه العقل قطب التاريخ الغائي اللانهائي واستحضارا لـ«الإنسان الذي يحقق أقصى فهم للذات من جهة مسؤوليته عن وجوده الخاص» بما هو تجلّي للحقيقة القطعية وحمل الوجود إلى رتبة العقل القطعي، العقل الذي يجعل من الوجود ملكًا له[128] من خلال حياة الإنسان الفاعلة، إن هذا العقل هو الذي يصنع إنسانيته، ومن هنا فإن القطعية هي معنى قسرية (Contrainte) المهمة الشاملة[129]، بما هي غائية علمية.

هكذا فإنّ أزمة أوروبا أزمة علمية بالدرجة الأولى ولكن يمكن حلّها إذ تصبح قابلة للفهم على بفهم خلفية «غائية التاريخ الأوروبي» عبر كشف الحجاب عنها في الصورة الفلسفية، شرط فهم أوروبا في النواة المركزية لماهيتها، ذلك أن إدراك الأزمة يتطلّب بلورة «مفهوم أوروبا بما هي الغائية التاريخية لأهداف العقل اللامتناهية»، أو بالأحرى كيف ينبثق العالم الأوروبي عن أفكار العقل، يعني عن روح الفلسفة، لينكشف بأنّ الأزمة في جوهرها ما هي إلَّا ذلك الفشل للعقلانية التي اتخذت طابع الخارجية والسطحية، أي «النزعة الموضوعية والنزعة الطبيعية»[130].

 

 

 

 



[1] Voir: Husserl (E): Sur le renouveau (cinq article), traduit et présenté par: Laurent Joumier, J. Vrin, Paris, 2005, P23.

[2] يصرّح النيو-كانطي هاينريش ريكارت (Heinrich Rickert) إلى أي مدى وقف هوسرل أمام الأحداث المؤلمة للحرب وإلى أي مدى يشعر بنفسه قريبًا من الفلسفة المثالية، منذ عدد من السنين مضت بحيث يقول هوسرل هو نفسه: «إنّنا نشترك في معركتنا ضد عدوّ واحد مشترك، النّزعة الطبيعية (Le naturalisme)» في رسالة بتاريخ 20 نوفمبر 1915، «إننا نخدم، كلّ على طريقتهن الآلهة ذاتها» إذ يقاسم المثاليين الألمان تجاربهم القاسية التي طالت كل معاصريه أثناء سنوات محنة الحرب وتوابعها مباشرة، إذ يتصرّف، وبصورة طبيعية يبدي انتماءه الروحي إلى فكرة العقل التي أظهرته وحده جديرا بإحياء وتغذية مقاومة جنون تساوق الحرب العمياء. Kelkel (A. L), Avant propos, In: Husserl (E): philosophie première II, in: Husserl (E): philosophie première II (Théorie de la réduction phénoménologique), Traduction: Arion L. Kelkel, 2ème édition, P. U. F, Coll: Epiméthée, Paris, 1990, P XI.

[3] Husserl (E): Sur le renouveau, ibid. P 23.

[4] يشير هوسرل في هذا المقام إلى اليابانيين تحديدًا لأنه تقدّم بالمقال الأوّل من المحاضرات الموسومة بـ «حول النّهضة» إلى مجلة The Kaizo من عام 1923، كراسة 3.

[5] Husserl (E): Sur le renouveau, ibid. P 23.

[6] يمكن القول أنه منذ (1930) قد بدأ هوسرل في ربط فهمه الفلسفي الخاص بفهم التّاريخ، وبدقة أكثر، بتاريخ الروح الأوروبية في 7 مايو (1935)، حيث ألقى الجمعية الثقافية، بـ: فيينا محاضرة «الفلسفة في أزمة الإنسانية الأوروبية»، متبوعة في نوفمبر (1935) بجملة من المحاضرات في «الحلقة الفلسفية ببراغ للأبحاث حول الفهم البشري».

[7] فيما يتعلّق بقراءة تحويل الإنسان إلى صورة المسيح في علاقتهما بالإله: صورة المسيح، الإنسان الحر بامتياز: Voir: Greisch (J): Le Buisson ardent et les lumières de la raison (L’invention de la philosophie de la religion), T II, les approches phénoménologiques et analytiques, Les éditions du CERF, Paris, 2002, PP 45-50.

[8] ليس الهدف من هذه الإشارة التّعريج على مبحث الإلوهية الفينومينولوجية مثلما يراها هوسرل، ولكن في الوقت نفسه يمكن الاعتبار بأنّ اللاّنهائي الفينومينولوجي قد يتطابق مع الإله أحيانًا ومع الإنسانية الكليّة أحيانًا وهذا عبر مختلف مؤلّفاته، خصوصًا كتاب «الأزمة» منها، فـ«الإله بما هو حامل اللّوغوس المطلق»، لا يوجد، ما يعني بأنّه ليس بلانهائي راهن، وإنّما بما هو فكرة مرتبطة بزمان لا نهائي هو أفق التّاريخ، أصله وغايته، فليس الإله بشيء آخر سوى العقل المطلق القادم إلى ذاته نفسها في سيرورة لا نهائية والتّاريخ نفسه يمكن اعتباره بما هو «سيرورة التحقق الذّاتي = للإلوهية» كما يقول هوسرل في مخطوط سنوات الثّلاثينات، وفي نهاية المطاف، فإن هذه الفكرة [الإله] مطابقة لفكرة الإنسانية الكاملة، الإنسانية العقلانية كلية، ذلك أن هوسرل لا يحاول التبيين بأنه يوجد عقل في التّاريخ، وإنّما على العكس فإنّه يثبت بأن العقل والحقيقة يقتضيان في ذاتهما التّاريخ. Voir: Husserl (E): Annexe III, La crise de l’humanité européenne et la philosophie, in: La crise des sciences européennes et la phénoménologie transcendantale, traduit de l’allemand et préfacé par: Gérard Granel, Gallimard, Paris, 1976, P 370.

[9] Op. cit. P 380.

[10] Kelkel (L) et Schérer (R): Husserl , sa vie, son œuvre avec un exposé de sa philosophie, 1er édition, Coll: Philosophie, P. U. F, Paris, 1964, P 73.

[11] Derrida (J): Introduction, in: Husserl (E): L’Origine de la géométrie, Coll Essais philosophiques, 1er édition, P. U. F, Paris, 1962, P 17.

[12] Guirao (J. M): Postface, in: Husserl: La crise de l’humanité européenne et la philosophie, Aubier Montagne, Paris, 1977, P 123.

[13] يرى غادامير(Gadamer) في «الحقيقة والمنهج» بأنّ عالم الحياة ليس سوى تسمية أخرى لما كان يسمّيه هوسرل سابقًا بـ«الذّاتية» وأسبق بـ«الوعي»، والمقصود عمومًا بهذا جملة الإنجازات التي تمارسها الذاتية الترانساندانتالية، غير أنه يريد أن يدقّق النظر أكثر والولوج أكثر إلى ما وراء الوجود الفعلي للوعي الذي يعطي المعنى، إنه بتحديد آخر عالم الذاتية الذي يختلف عن العالم الموضوعي العلمي، ومن هنا فالموقف الفينومينولوجي مختلف في ماهيته تمامًا عن الموقف الطبيعي لأنه يتقدّم عليه أنطولوجيًّا، وفي الوقت نفسه هو مفهوم تاريخي، لا يشير إلى كون موجود أو «عالم موجود»، (...) بل هو الكلّ الذي نعيش فيه بوصفنا كائنات تاريخية. انظر: غادامير (هـ. ج): الحقيقة والمنهج (الخطوط الأساسية لتأويلية فلسفية)، ترجمة: حسن ناظم وعلي حاكم صالح، مراجعة: جورج كتورة، ليبيا: ار أويا، ط1، 2007، ص ص 345، 346.

[14] Voir: Husserl (E): appendice XVII, P 511, in: La crise des sciences, op. cit.

[15] هوسرل، تأملات ديكارتية (المدخل إلى الظاهريات)، مصر: دار المعارف، (ب ط)، 1970، § 37، ص 195.

[16] Husserl (E): Philosophie première II (Théorie de la réduction phénoménologique), Traduction: Arion L. Kelkel, 2ème édition, P. U. F, Coll: Epiméthée, Paris, 1990, leçon 30, P20.

[17] Op. cit. leçon 53, PP 534-249.

[18] يقول نيتشه «أن تخيل مثلًا إغريقيًّا يتأمل هذا النوع من الثقافة، فإنّه سيدرك أنه يبدو لرجال الحداثة بأن كلمات «مثقّف» و«ثقافة تاريخية» شيء واحد وبأنه ليس بينهما من اختلاف سوى تعدد الكلمات، وإن تنبّه لإعمال فكره، بالنّظر إلى أحدٍ ما مثقف وتنقصه ثقافة تاريخية بصورة كلية، فإننا نعتقد بأن هناك سوء فهم، نهزّ رؤوسنا لأجله. هذا الشّعب الصغير الذي ينتمي إلى ماض غير بعيد عنا –يمكنني أن أتكلم عن الإغريق– قد عرف كيف يستمر بضراوة، في فترته بأكبر قوة، بمعنى لا تاريخي. فلو تمكّن رجل راهني، وبفعل العصا السحرية، من العودة إلى عصره، فإنّه من المحتمل أن يجد الإغريق «أميين» في حين يستوحي السرّ الذي تحتفظ به الثقافة الحديثة» Voir: Nietzsche (F): Seconde considération intempestive, traduction d’Henri Albert, édition Flammarion, Paris, 1988, PP 105-106.

[19] Voir: Husserl (E): La philosophie comme science rigoureuse, traduit de l’allemand et présenté par: Marc B. De Launey, 1ère édition, P. U. F, Paris, 1989.

[20] Op. cit. § 73, P 302.

[21] إنّ الانطلاق من التّقليد يؤدّي إلى حجب الحقائق والاستعجال في تبنّي البداهات باسم القطعية رغم تعارضها معها.

[22] Husserl (E): Philosophie première II, op. cit. leçon 30, P 31.

[23] Kelkel (L) et Schérer (R): Husserl, op. cit. P 73.

[24] Derrida (J): Introduction, op. cit. P 8.

[25] Husserl (E): La crise des sciences européennes et la phénoménologie transcendantale, traduit de l’allemand et préfacé par: Gérard Granel, Gallimard, Paris, 1976, § 3, P 14.

[26] Voir: Derrida (J): Introduction, op. cit. P 5.

[27] Kelkel (A. L), Avant propos, In: Husserl (E): philosophie première II, in: Husserl (E): philosophie première II (Théorie de la réduction phénoménologique), Traduction: Arion L. Kelkel, 2ème édition, P. U. F, Coll: Epiméthée, Paris, 1990, PP XVII, XXVIII.

[28] يأتي البحث في سؤال الإنسان بعدما كان قد عرف غيابه التام في مراحل الفينومينولوجيا الأولى، إذ كان متضايفًا مع غياب الإله الذي كان مقصى منها لنفس أسباب إقصاء الإنسان، فقد كان الرّد الترانساندانتالي متعلّقًا بشمولية علوم الواقع وهو ما يعني بأن الأنا العالمي والإله بما هو موضوع للدين خاضعين للإيبوخي، علمًا أن الوجود المطلق هو الوعي الترانساندانتالي نفسه بحيث تبيّن دلالة الرّد الترانساندانتالي نسبية كلّ الكائنات بالنظر إلى الوعي المطلق. Voir: Dastur (F): Husserl, Dès mathématiques à l’histoire, 2eme édition, Coll:Philosophie, P. U. F, Paris, 1999, P 105.

[29] هوسرل، أزمة العلوم الأوروبية والفينومينولوجيا الترانساندانتالية، ترجمة: المصدّق إسماعيل، بيروت: نشر وتوزيع مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2008، ص 390.

[30] Voir: Ricœur (P): Husserl et le sens de l’histoire, In: A L’école de la phénoménologie, librairie philosophique, J. Vrin, Paris, 1986, P33.

[31] تكتسب هذه الفكرة قيمة بالنسبة لغائية التاريخ من حيث إن تجاوز الغموض وهو الذي يمكّن من تحقيق الغاية من التاريخ، بإدراك الحقيقة الأصلية لأوروبا العلمية التي تعطي الأولوية والسبق للعقل وتحقّقه، أي الميتافيزيقا، لا لحدث إمبريقي، في مقابل فلسفة الوهم العلمي الماثلة في النزعة الوضعية، ومن هنا كانت مهمة هوسرل في توجيه صراع الدراما التاريخية في سبيل المعنى، في إطار المهمة الإنسانية نفسها، ما بين المقصد اللاّفعلي والأثر الفعلي، وبهذا يقترب هوسرل من تأملات فلسفة ياسبرس (Jaspers)، حول التّباين ما بين فتوحات الوجود المطلق وضيق نطاق الوجود الذي يكرّسه العلم الموضوعي.

[32] تفهم الفلسفة بما هي معنى الإنسان الأوروبية هذا بما أنها أو مدرسة أو عملا مؤرّخ وإنّما فكرة (Idée) بالمعنى الكانطي للكلمة: إنّها مهمة (Une tâche)، فكرة الفلسفة، ها هي ذي فلسفة التاريخ، ولهذا ففلسفة التّاريخ، في نهاية المطاف، هي تاريخ الفلسفة. Voir: Ricoeur (P): Husserl et le sens de l’histoire, op. cit. P32.

[33] Husserl (E): Philosophie première II, op. cit. leçon 32, PP 52-53.

[34]Husserl (E): Philosophie première I (Histoire critique des idées), Traduction: Arion L. Kelkel, 2ème édition, P. U. F, Coll: Epiméthée, Paris, 1990. leçon 1, P 7.

[35] Husserl (E): Logique formelle et logique transcendantale, Traduction de: Suzanne Bachelard, 2ème édition, P. U. F, Coll: Epiméthée, Paris, 1965. P 8.

[36] إنّ البحث الفلسفي الفينومينولوجي وباسم الذاتية يمنح للخيال وتنوّعاته موقعًا متميّزًا في عملية الإدراك والبحث والتفكير؛ إذ يمتلك تصورًا متميزًا عن مفهوم العلم في العلوم ذات الموضوع الإنساني. انظر: الزاهي (ف): النص والجسد والتأويل، المغرب: إفريقيا الشرق، (ب ط)، 2003، ص 17، فالمشكل الهوسرلي في التاريخ يمكن تحديده كما يلي: إنّ ظاهرة التاريخ (Phénomène de l’histoire) ظاهرة وحيدة، نادرة وفريدة ولكن مع ذلك فمن الممكن قراءتها بما هي حاملة لمعنى ما، باستخلاص الـ«حدوس الماهوية» وتحصيلها إلى جانب الـ«تنويعات الخيالية»، يعني أن يكون الأساس في ذلك عملية الوصف الفينومينولوجي لظاهرة التّاريخ بما هي ظاهرة ترانساندانتالية، ولكن الأمر لا يتوقّف عند هذا الحدّ بل يمتدّ إلى غاية قدرة الفينومينولوجيا على دراسة الأصول بما هي جزء من التاريخ [...] مع أن التاريخ نفسه يتموضع في علاقة بمجموعة كاملة من الأصول. انظر: هيوسلڤرمان (ج): نصيات (بين الهرمينوطيقا والتفكيكية)، ترجمة: حسن ناظم وعلى حاكم صالح، ، بيروت: المركز الثقافي العربي، ط1، 2002، ص 315.

[37] Husserl (E): philosophie première I, leçon3, op. cit. P 3.

[38] Voir: op. cit. P 4.

[39] Voir:op. cit. P 5.

[40] Ibid.

[41] Ibid.

[42] Op. cit. P 6.

[43] Ibid.

[44] Op. cit. P 7.

[45] Op. cit. P 8.

[46] Op. cit. P 9.

[47] Op. cit. P 10.

[48] انظر: إنڤزّو (ف)، هوسرل واستئناف الميتافيزيقا، ، دار الجنوب، (ب ب)، (ب، ط)، 2000، ، ص ص 164-165.

[49] Op. cit. leçon 26, P 263.

[50] Husserl (E): La crise des sciences, op. cit. § 6, PP 20-21.

[51] Ibid. § 16, P 85.

[52] Husserl (E): philosophie première I, op. cit. PP 6 - 7.

[53] Husserl (E): philosophie première II, op. cit. P 29.

[54] Op. cit. PP 19 - 30.

[55] Kelkel (A. L): Avant propos, op. cit. PP 19-30. P XXXI.

[56] يقدّم جيرار غرانيل رؤية تختلف عن المنظور الهوسرلي بحيث يمكن التخلّي عن التشبث بفكرة اختلاف الإنسانية الإغريقية عن كل إنسانية أخرى، والتراجع عن قرار الكينونة وحالة الوعي، ولكن مع ذلك يمكن الاستمرار في نقل التراث الأوروبي إلى الإنسانيات «الأخرى» بواسطة القوة ذاتها التي يتميز بها العلم والتقنية والثقافة، أي بواسطة القوة التي يتميز بها «نمط الكينونة» الأوربي، وبما أن العقل الحديث يرتكز على قاعدة ميتافيزيقية تحتية. انظر: جيرار غرانيل، هوسرل، نفسه.

[57] Husserl (E): philosophie première I et II, op. cit.

[58] يقترب هوسرل من هيغل حينما يتناول الحديث عن الروح (Geist) في صورة الفيلسوف المثالي «وحدها الروح خالدة»، إضافة إلى أن كل معنى التاريخ الأوروبي محمول في «الذاتية الترانساندانتالية»، وهو ما يسمى بـ«العودة إلى الإيغو» (Le retour à l’Ego)، أو «حياة وعيي»، «عملية وعيي»، التي عملها الأوّل هو «محيطي الحيوي»، فوجه المقاربة هذا يتمثّل في أن الروح تحضر في التّاريخ من حيث إنّها تستحضره في الآن معا، وهذا الصدد انظر: Hegel (G. W. F): La raison dans l’histoire, (Introduction à la philosophie de l’histoire), traduction nouvelle, introduction et notes:Kostas papaioannou, Union Générale d’éditions, Paris, 1965, Chapitre II, PP 70 - 176.

[59] انظر انڤزّو (ف)، هوسرل واستئناف الميتافيزيقا، نفسه، ص 144.

[60] Kelkel (L) Schérer (R): Husserl, op. cit. P 75.

[61] Ricœur (P): Husserl et le sens de l’histoire, op. cit. P 35.

[62] Husserl (E): La crise des sciences, op. cit. § 15, P38.

[63] Nietzsche (F): Seconde considération intempestive, traduction d’Henri Albert, édition Flammarion, Paris, 1988, P 94.

[64] Voir Husserl (E): Sur l’intersubjectivité I, Traduction, Introduction, Postface et Index par: Natalie Depraz, Coll: Epiméthée, P. U. F, Paris, 2001.

Husserl (E): Sur l’intersubjectivité II, Traduction, Introduction, Postface et Index par: Natalie Depraz, Coll: Epiméthée, P. U. F, Paris, 2001. et voir aussi: Annexe III (Conférence de vienne), op. cit.

[65] Husserl (E): Méditations cartésiennes (Introduction à la phénoménologie), traduit par: Gabrielle Peiffer et Emmanuel Lévinas, Librairie philosophique, J. Vrin, Paris, 1996, § 37, P66.

[66] Op. cit § 29, P 54.

[67] Husserl (E): Annexe III, ibid. PP 359-360.

[68] Op. cit. PP 41-43.

[69] Husserl (E): Philosophie première I, op. cit. P 20.

[70] لقد دعت الضرورة السياسية، والواقع السياسي المتأزّم بالتحدد، هوسرل لأن يحلّ مشكلة أصل الدولة، ومعرفة مدى طبيعيتها من ثقافيتها، أو بالأحرى: هل تنعطي مع توحّد الشعب بما هو روح الشعب (Volkgeist) مثلما يقول هيغل، أو هي نتيجة لسيرورة الإرادة بما هي جمع؟ رغم بعض التردّد في كون الدولة هي الصورة الحقيقية للشعب والأمة أحيانًا وأحيانًا أخرى هي مجتمع اصطناعي قائم على تقوّم إرادة نوعية، فإن هوسرل يرى فيها، على عكس هيغل، ظاهرة سلبية تمامًا، بل واقع قاس رغم ضرورته، وهذا موقف الرومانسيين، كما أن هناك نوعًا من المجاورة ما بين فكرته ونظرية فيخته (Fichte) عن الدولة، فالدولة ضرورية لاجتناب صراع الغايات السائد من بين الأفراد داخل الجمع الإنساني، ولوضع نهاية لحرب المصالح الخاصة، ولكن، في الوقت نفسه، ليست الدولة غاية في ذاتها، فهي سلبية بأكثر درجة، وسلبيتها هذه تكمن في ما تحدثه من اضطرابات في الاتصال الثقافي ما بين المونادات والسماح لها بمواصلة تحقيق غايتها الخاصة المتمثلة في الاتصال الترانساندانتالي، ولهذا تقتضي الدولة أداة القانون (Loi)، بحيث إنه لا فاصل بين الظاهرتين [ظاهرة القانون وظاهرة الدولة]، إذ لا يوجد قانون بالمعنى الصارم إلَّا في الدولة، وهو بذلك يحمل معنى القسرية والإجبار للتقييد والمنع فقط وليس معنى الإذن والسّماح أو الحق كما يتعلق الأمر بتأمين سلطة الدولة التي تحتاج إليها لضمان نظام دائم في المجتمع، أم عن الكيفية التي يمكن أن تكون بها الدولة فاعلة في الحياة الاجتماعية، وإثراء التاريخ بالتالي، هي كونها تساهم في اكتمال الحركة الغائية الكلية للفينومينولوجيا، فتكون الدولة، لا فاهمة القانون والسلطة على سبيل الإجبار والقسرية بل على سبيل الحقّ والإذن والتسامح بالمعنى نفسه الذي يؤمّن تطبيق الواجبات وفرض النظام، لتكون بذلك هي نفسها غاية في حدّ ذاتها وتحقّق غاية التطوّر الإنساني.

Voir: Dastur (F): Dés mathématiques à l’histoire, op. cit. PP 116, 117

[71] Husserl (E): Sur le renouveau, op. cit.

[72] تميز اللغة الألمانية Menschheit، الإنسانية بمعنى مجموعة الناس وMenschentum، الإنسانية بمعنى ما يميّز ماهية الإنساني. يستعمل هوسرل المفهوم الأوّل في صيغة الجمع ليتكلّم عن منظومات ثقافية نهائية، ويستخدم الثاني في صيغة المفرد ليعني به الإنسانية بالمعنى اللانهائي التي هي الإنسانية العلمية والفلسفية.

[73] Voir: Husserl (E): Appendice XXVI au § 71, in: La crise des sciences européennes, op. cit. PP 556 - 557.

[74] يكفي هنا أن يخصص كارل شومان (Karl Schuhman)، مؤلّف «كرونيكا هوسرل» (Husserl-chronik)، كتابًا في حوالي مائتي صفحة للفلسفة الهوسرلية عن الدولة، إذ لم يعد من الممكن اليوم النظر إلى هوسرل بما هو فيلسوف لا سياسي، كما أصبح حاله بعد نشر كتاب «الأزمة»، بحيث أصبح مستحيلًا النظر إليه بما هو مفكّر لا تاريخي (Anhistorique). تحيل هذه الفكرة إلى أن الفينومينولوجيا بإمكانها الخوض في مجمل الموضوعات في تعدّديتها واختلافها، الأمر الذي يجعل منها منهجًا في فهم الحياة، عمومًا، وظاهراتها.

[75] Husserl (E): Philosophie première II, op. cit. Leçon 53, b, PP 239 - 249.

[76] Husserl (E): La crise des sciences, op. cit. § 47, PP 183 - 187.

[77] Voir: Dastur (F): Dès mathématiques à l’histoire, op. cit. PP 113 - 114.

[78] Husserl (E), op. cit. § 9, P 53.

[79] Op. cit. § 47, P 186.

[80] إن عمل فيرديناند توني (1855-1936) أحد الآباء المؤسسين لعلم الاجتماع في ألمانيا، «الجمع والمجتمع» (Gemeinscheft und Gesellschaft) قد ظهر عام 1887، وعرف حتى 1935 ثمانية طبعات متتالية، وقد أثر بعمق في كلّ الفكر السياسي والاجتماعي المعاصر. بالنسبة لتوني، فالتجمع، الذي يخضع للرابط الاجتماعي، يحاول التحوّل إلى مجتمع، المؤسس على التعاقدات ويجيب على الانشغالات العقلانية.

[81] Husserl (E): Annexe III, op. cit. PP 370 - 371.

[82] مخطوط استشهد به ك. شومان، نفسه، ص 78، في: داستور (ف): من الرياضة إلى التاريخ.

[83] Voir: Husserl (E): Husserliana XIV, P174 et XV, P593, in: Dastur (F): Dès athématiques à l’histoire, op. cit. P 118.

[84] Husserl (E): Philosophie première II, op. cit.

[85] Dastur (F): Dés mathématiques à l’histoire, op. cit. P 119.

[86] Husserl (E): Philosophie première I, op. cit. P 21.

[87] Husserl (E): Philosophie première I, op. cit. P 22.

[88] Voir: Husserl (E): Annexe III, P 371.

[89] Ibid.

[90] فيما يتعلّق بهذه النّظرية، يمكن اعتبار كلّ أنواع شذوذ الحياة الاجتماعية: الطفل، الشيخ، المريض، المجنون، البدائي وحتى الحيوان، بما هي حالات سوية بالقوة [بإمكان]، ولاسيما حالة البدائيين: إنهم بشر ومن الممكن فهمهم والدخول في تطابق معهم، كما يصرح هوسرل لـ: ليفي بريل (Lévy-Brul) في رسالة مؤرخة بـ: 11 مارس 1935، لأن ثقافتهم [البدائيين] منبسطة في الطريق المؤدّي إلى التحقق الذاتي للإنسانية، وهنا يكون هوسرل أكثر انفتاحًا مما كان عليه، في رؤيته «عن البينذاتية».

[91] شومان (ك)، هوسرل ستاتزفلوزوفي، ألبير، فرايبورغ، مانشن، 1988، نفسه، ص 198-199، في داستور: من الرياضة إلى التاريخ.

[92] انظر: نفسه، ص 198-199، داستور (ف): من الرياضة إلى التاريخ، ص 123.

[93] Ricœur (P): Husserl et le sens de l’histoire, op. cit. P32.

[94] إنّ المقصود بالتفسير الغائي عمومًا أنه «تفسير يكون فيه النظام بما هو نظام عاملًا في إنتاجه، نظام مفروض من ذاته، (...) وصف لنسق وقانون هذا النسق بحيث إن حدثًا يحصل في هذا النسق، لأن الظروف التي أنتجته هي الشروط المطلوبة لإنتاج هذه الغاية وللتوصل إليها»، أو كما يقول تشارلز تايلور: «إن شروط ظهور حدث هو أن تتحقق حالة للأشياء بحيث تجلب الغاية موضع الطلب، أو بحيث يصبح هذا الحدث مطلبا لهذه الغاية». انظر: ريكور (بول)، الذات عينها كآخر، ترجمة وتقديم وتعليق: جورج زيناتي، بيروت: المنظمة العربية للترجمة،  ط1، 2005، ، ص 193.

[95] Voir: Gérard (V): La Krisis, Husserl, ellipses, Coll philo-œuvres, Paris, 1999, P 15.

[96] يتّجه جيرار غرانيل إلى أن موقف هوسرل العقلاني قائم على المركزية العرقية على نحو ماكر بفكرة أوروبا، بحيث يستخدم مفهوم أرسطو عن «الكائن الكامل» إلى درجة أن «الإثنوس»، باستحضار الشعب ما، هو إلا شعب كينونة «أوروبا» جغرافية و«التيلوس» الذي يمنح لباسه للتاريخ غير الطبيعي للكائن، الإنسان كتاريخ لـ«العالم» الذي بالمقارنة معه فإن كل الإنسانيات القديمة والحالية ليست سوى حاملات لقدر (...) لكن بدون هذا القرار التاريخي فإن هذا الكائن هو حيوان مسلوب من طرف اللّوغوس وليس كائنًا حيًّا يمسك باللّوغوس، أي كائن يتميز بالقدرة على الثورة عليه، كما تطوقه وتؤسسه القوى اللاطبيعية على نحو مطلق لكائن إنساني على نحو مطلق. انظر: جيرار غرانيل، هوسرل، مجلة مدارات فلسفية، العدد 4، المغرب.

[97] يرى ميرلوبونتي بأن هناك مقاربة ما بين تصوّر هوسرل الغائي للتاريخ ورؤية بروست (Proust) للرواية، إذ تنغلق الدائرة لدى دراسة اللّوغوس والتّاريخ الفينومينولوجي مثلما يغلق بروست الدائرة عندما يصل إلى اللحظة التي يقرر فيها الراوي أن يكتب، وهكذا تكون نهاية الفلسفة هي قصة بدايتها، إذ تبدأ من الحاضر الأوروبي لترجع إلى الماضي الإغريقي لأجل تأسيس مستقبل ينطلق من وعي أزمة الحاضر على دعائم الماضي، تلكم هي الدائرة الفينومينولوجية. انظر: ميرلوبونتي (م): المرئي واللامرئي، ترجمة وتقديم: عبد العزيز العيادي، ص 277. كما أنّه جدير بالتّذكير أن من أكبر فلاسفة الغرب «نيتشه» الذي يتصوّر العالم في حلقة دائرية وعود أبدي، هو عود على بدء حيث كون نقطة ابتدائه نفسها هي نقطة الانتهاء وهذا من خلال استعارة خاتم الخطوبة الذي يتحدّث عنه عمله «هكذا تكلّم زرادشت» إضافة إلى إشارات عن الفكرة نفسها في «العلم المرِح». Voir: Nietzsche (F. W): Ainsi parlait Zarathoustra, et: Gai savoir, in: Œuvres, traduit de l’allemand par: Daniel Halévy et Robert Dreyfus, traduction révisée par: Jaques le rider, éditions: Robert Laffont, Paris.

[98] هيوسلڤرمان (ج)، نصيات، نفسه، ص 85، وانظر أيضًا: هيدغر (م)، أصل العمل الفنّي، ترجمة: أبو العيد دودو، الجزائر: منشورات الاختلاف، ط1، 2001.

[99] Husserl (E): La crise des sciences, § 73, op. cit. PP 302, 303.

[100] Op. cit. § 7, PP 23, 24.

[101] Op. cit. P 23.

[102] Husserl (E): L’origine de la géométrie, tr: Derrida L’Origine de la géométrie, 1er édition, Coll Essais philosophiques, P. U. F, Paris, 1962, P 191.

[103] Husserl (E): La crise des sciences, op. cit § 15, P 84.

[104] Op. cit. § 7, P 24.

[105] Op. cit. § 15, PP 84, 85.

[106] Derrida (J): Introduction, Op. cit. P 8.

[107] Voir: Derrida (J): Le problème de la genèse dans la philosophe de Husserl, 1ère édition, Coll: Epiméthée, P. U. F, Pris, 1990, PP 247-258.

[108] Ricœur (P): Husserl et le sens de l’histoire, op. cit. P 39.

[109] Voir: Husserl (E): Idées directrices pour une phénoménologie et une philosophie phénoménologiques I (Introduction générale a la phénoménologie pur), traduction de: Paul Ricœur, Gallimard, Paris, 1950, §§ 33, 49, 53.

[110] Voir: Ricœur (P): Husserl et le sens de l’histoire, op. cit. P 38.

[111] الاكتمال أو الكمال الأوّل هو ما يتضمّن بلوغ شيء ما في غايته الداخلية الكامنة فيه، وبالتالي بلوغ امتلائه، ومن هنا يفهم هوسرل كلّ من العلم والفلسفة بما هما غاية تحملها الإنسانية الأوروبية في ذاتها تتحقق بما هي كذلك في إجراء انبثاقها وحده، في انكشاف العقل الكلّي الذي يسكن هذه الإنسانية.

Husserl (E): La crise des sciences, op. cit. § 6, P21.

[112] Husserl (E): La crise des sciences, op. cit. § 6, P 21.

[113] يتساءل هوسرل عن إمكانية تمييز التشكّل الروحي لأوروبا بتمييزها عن الشعوب الشرقية على الخصوص: «أنا لا أتصوّر أوروبا جغرافيًّا وكأنها على الخريطة، كما لو أنه من الممكن تحديد ميدان الإنسانية التي تحيا مجتمعة في إقليم، بما هي إنسانية أوروبية. بالمعنى الروحي، من البيّن أن الدومينيين الإنجليز (Les dominions anglais)، الولايات المتحدة (Etats-Unis)... إلخ تنتمي إلى أوروبا، ولكن ليس الإسكيمو أو الهنود ذوي المعارض المتنقلة، ولا حتى الغجر (Les tziganes) المتسكعين دائمًا في أوروبا. من الجلي بأن الأمر، باسم أوروبا، يتعلّق بوحدة حياة، نشاط، إبداع روحي، مع كلّ الأهداف، الاهتمامات، الانشغالات والمشاق، مع التشكّلات الغائية، المؤسسات والتنظيمات، وفي هذه المنظومة يتصرّف الناس الفرديون في حضن مختلف المجتمعات وفقا لمستوى مختلف، العائلات القبائل (Les tribus) الأمم، كلها متحدة داخليًّا بصورة روحية و، كما أسلفت، في وحدة الصورة الروحية الوحيدة». هذا ما يبيّن إلى أي مدى هي ممتدّة مركزية هوسرل، الأوروبية، بالنظر إلى كون الإسكيمو، الهنود والغجر وغيرهم، كلهم يقدمون على إقصاء الإنسانية المفكِّرة، وهو ما يعني بأن سؤال المصير يحصل على إجابته، لدى هوسرل، انطلاقًا من مبدأ العقلانية والفكر العقلاني لا مبدأ الموقع المكاني والتحديد الجغرافي.

         Husserl (E): Annexe III, op. cit. P 352.

[114] Voir: Husserl (E): Annexe III, et voir aussi: La crise des sciences, op. cit. § 6, P 21.

[115] Husserl (E): L’origine de la géométrie, in: La crise des sciences, op. cit. PP 421 - 422.

[116] Husserl (E): La crise des sciences, op. cit. P 20 - 21.

[117] Guirao (J. M): Postface, op. cit. PP 120 - 122.

[118] Husserl (E): Annexe III, op. cit.

[119] لقد تطوّرت الفينومينولوجيا إلى فلسفة العقل الديناميكي (Une philosophie de la raison dynamique) بناء على توظيف الثنائية الكانطية: العقل والفهم، بحيث إن متابعتها في حقل فلسفة التاريخ تتم عبر ما حدّده كانط مسبقًا، إذ هناك تفاوت بين الفهم (L’entendement) بما هو مشروعية الظواهر القابلة للتحقّق الفعلي والعقل بما هو اقتضاء الشمولية غير القابلة للتحقق الفعلي، بالجمع بين المشروط في اللامشروط؛ وهي مطالبة، تحضر في كل الأفكار الترانساندانتالية.

[120] Voir ; Derrida (J): Le problème de la genèse dans la philosophie de Husserl, op. cit. PP 231 - 241.

[121] Ricœur (P): Husserl et le sens de l’histoire, op. cit. P 32.

[122] Husserl (E): L’origine de la géométrie, tr: Derrida (J), op. cit. P 208.

[123] Voir: Ricœur (P): Husserl et le sens de l’histoire, op. cit. P 30.

[124] Op. cit. P 31.

[125] Husserl (E): La crise des sciences, op. cit. § 73, P 302.

[126] Ricœur (P), op. cit. P 33.

[127] Op. cit. bid. P 34.

[128] لا شكّ أن هذه الفكرة تصرّح بمدى ديكارتية هوسرل بما هي دعوة؛ لأن يكون الإنسان سيد الطبيعة والأشياء باستخدام العقل، إنها لغة «مقال في المنهج» إذ يركّز ديكارت بوضوح تام على قيمة العقل وقيمة سواده للأشياء.

[129] Op. cit. P 40.

[130] Voir: Husserl (E): Annexe III, op. cit. PP 382 - 383.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة