تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

عداء النبي الخاتم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .. من الشخص إلى العقيدة

شريف الدين بن دوبه

عداء النبي الخاتم (صلى الله عليه وآله وسلم)..

من الشخص إلى العقيدة

شريف الدين بن دوبه*

*         باحث وأستاذ مساعد شعبة الفلسفة، جامعة سعيدة، الجزائر، البريد الإلكتروني: bendouba.philos@yahoo.fr

 

 

 

قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ما أوذي أحد ما أوذيت في الله»[1].

في البدء

إقصاء الحادثة المفردة، والفاقدة لقابلية التكرار، من الحقل العلمي له ما يبرِّره، لأن القصد العلمي بالأصل يكمن في التحكم بالظاهرة، وإعادة إنتاجها، والذي يشترط إمكانية تكرارها، أما غض الطرف عنها في الحقل الإنساني فهو غير مبرر؛ لأن الحوادث الإنسانية بطبيعتها بالغة التعقيد، وخطيرة في استتباعاتها، خصوصًا إذا كان الأمر متعلقًا بمعالم مقدسة، أو مرتبطة بتراكم عقدي مقدس.

وقد أصبح تكرار الحوادث المسيئة للنبي الكريم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، مسألة توجب البحث فيها شرعًا، وأخلاقيًّا، فمن الناحية الشرعية الأنبياء والرسل الذين ارتضاهم الله تعالى لرسالته، ولأمانته تجعل منهم مقامات دينية، وليس مجرّد شخصيات مفردة تُعبِّر عن شخصياتها الفردية، ومن الناحية الخلقية نجد أن الإصرار على العداء لنبي الإسلام عداء للرسالة ككل، والتي تقوم في الأصل على إتمام الأخلاق، فالعداء للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عداء للقيم الأخلاقية.

من هنا وجدنا لزامًا علينا البحث في ظاهرة العداء للنبي الكريم من حيث الدلالة، ومن حيث الأصول المرجعية والثقافية لظاهرة العداء، فالعداء للنبي بدأ مع اليهود قبل ميلاد النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم عمل بعض المغرضين، أو بتوصيف أدق المنافقين كشريحة اجتماعية داخل الجسم الإسلامي على تشويه القيم الأخلاقية، والإنسانية التي قام عليها الإسلام، فكانت أخلاقهم من المآخذ التي أخذها الغرب علينا، وأسّس بذلك عداءه لنبينا الكريم، ودليلنا في ذلك التناقضات التي نجدها في مواقف النخبة الفكرية عندهم حول شخصية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

العداء.. الدلالة والاصطلاح

العداء كدلالة واصطلاح لا يحتاج منا الرجوع إلى القواميس اللغوية؛ لأن المعنى الذي يتجلّى به في المجال التداولي كتجاوز، ونظر إلى الآخر بعين القدح، والذم، مألوف ومتعارف مهما كانت أشكاله التعبيرية.

وفي اللغة: «عدا يعدو عدوًا، وعدوانًا جرى وأحضر. وعدا عليه عدوًا وعدوانًا: ظلمه، وعدا اللص على أمتعة عداءً وعدوانًا، وعدوانًا: سرقها، وقد أورد صاحب اللسان حديث علي لطلحة يوم الجمل: «عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق، فما عدا مما بدا» أي ما بدا لك مني عمَّا صرفك عني...[2]

يلاحظ أن الفعل عدا عندما يكون في سياق منفصل عن آخر يكون بدلالة السيرورة والحركية، وعندما يقع في سياق العلاقة بين عنصر آخر يأخذ دلالة الظلم والسلوك العدواني، سواء كان قولًا أو فعلًا أو فنًّا، سلوك متناقض وفاقد للمشروعية؛ لأن المعتدي يتعاطى مع حقوق المعتدى عليه الطبيعية، والوضعية وفقًا لرؤيته الشخصية، فتسقط حقوقه، وتصبح الشرعية والمشروعية في يد المعتدي.

والعداء أو العنوان شكل من أشكال العنف الذي عرفته البشرية، وعالم النفس فرويد يصور لنا في النص التالي الدوافع المحركة للعداء بين بني الإنسان: «كبداية كانت القوة العضلية الأكثر تفوقًا هي التي تقرر من يملك الأشياء، وإرادة من هي التي تسود، وسريعًا ما استعيض عنها باستخدام الأدوات، فالفائز من يملك الأسلحة الأفضل أو من يستخدمها بطريقة أمهر، ومن اللحظة التي دخلت فيها الأسلحة بدأ التفوُّق العقلي فعلًا يحل محل القوة العضلية، ولكن الغرض النهائي من القتال بقي كما هو كان لا بد من إجبار طرف أو آخر على التخلي عن طلبه أو عن اعتراضه، وكان هذا الغرض يتحقّق بالكامل إذا أباد عنف العنصر خصمه بصفة نهائية..»[3].

الأصول الثقافية لظاهرة العداء

الثقافة اليهودية

تعتبر الخاتمية من المسلّمات الأساس في الإسلام، وفي تاريخ العقائد السماوية، وقد كانت العقائد السابقة نماذج كاملة في اعتقاد معتنقيها بتشريعاتها، وقيمها، والمؤسف أن هذه العقائد قد تعرّضت لانحرافات فكرية وشرعية، فتحوُّل الدين كمحرِّر للإنسان إلى مستعبد دليل كافٍ على انحراف العقيدة، وتحول الدين إلى مؤسسة سلطوية، متسلِّطة عين الانجراف وراء الشخصية الذاتية، وهذا ما عرفته الرسائل السماوية السابقة للإسلام.

وقد كانت الديانة اليهودية نموذجًا حيًّا للتحريف، والانسياق وراء نزوات الذات، فكان النبي الجديد بالنسبة إليها تهديدًا للسلطة التي كانت تملكها المؤسسة الدينية، والتكتلات الدينية في اليهودية من صدوقيين وفريسيين، يكشف عن تكتُّلات سياسية داخل المجتمع اليهودي.

كما ساهمت فكرة شعب الله المختار عند اليهود على غرس ثقافة عنصرية داخل الثقافة اليهودية، فالكل خدم لعائلة إسرائيل النبي (عليه السلام)، ولذريته من بعده، فتشكّلت طبقة بورجوازية داخل الجماعة اليهودية عملت على تكييف الشريعة اليهودية حسب ميولها، ومصالحها الشخصية.

وعليه نجد أن العداء لنبي الإسلام تحصيل حاصل، فتحوُّل النُّبوّة من الجماعة اليهودية إلى قبيلة عربية مسٌّ بكرامة الأنبياء، وتجاوز للشرائع اليهودية، علمًا أنهم كانوا على اطّلاع بنبوة محمد العربي الإسماعيلي (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولذا ورد في السيرة النبوية علامات على ميلاد النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

وقد عمل اليهود بقواهم الوهمية على إقناع أنفسهم بيهودية النبي الجديد، ويُمكننا الاستئناس بنص للمؤرخ التونسي هشام جعيط، جاء فيه: «من الواضح أن أصل العداء اليهودي للدعوة المحمدية في المدينة كان شعورًا بالازدراء يغذيه إحساس بالتفوّق الديني تجاه ما يمكن أن يظهر كتلفيق للتقليد التوراتي، إلَّا أن هذا التفوّق كان يستند أيضًا على إرث كتابي عتيق، وعلى غرور قومي وثقافي، إن ما رفضه اليهود في دعوة يسوع، ذلك الشخص المتطور داخل اليهودية، يرفضونه كذلك لمحمد، ذلك العنصر الغريب والخارجي»[4].

الثقافة المسيحية

الأصل في الرسائل السماوية هو التكامل الرسالي في بيان أحكام التشريع، وأبعاده القيمية، والرسالة الموسوية تتويج للمنحى الإبراهيمي، وإعادة المسار إلى الطريق المستقيم الذي رسمه الله تعالى عز وجل لعباده، وبما أن الانحراف الذي تعرّضت له القيم السماوية في الشريعة اليهودية إذ أصبح الفصل بين أحكام الله، وأحكام المشرعين من اليهود أمرًا مستحيلًا، حيث أصبح التلمود في اعتقاد الأتباع التوراة الشفهية التي تشرح التوراة المكتوبة، فكانت بديلًا رسميًّا للتوراة الحقيقية.

وكذلك الحال نلمسه في الرسالة المسيحية، والتي تعرّضت لتشويهات أصابت الأصول العقيدية في الديانة، والتثليث نموذج حي على ذلك، إذ أصبح الموحّدين، والقائلين ببشرية المسيح (عليه السلام) مبتدعة، وكفرة ينبغي محاربتهم مثل آريوس.

والإعلان عن ظهور دين جديد في شبه الجزيرة العربية ضربة للمؤسسة الدينية النصرانية، وتحدٍّ يهدّد الكيان الوجودي للمسيحية.. ومن الأمثلة التي تسرد الصراع بين المسيحية والإسلام قصة المباهلة بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ونصارى نجران، والتي انتهت بقبول الجزية، وعدم مباهلتهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خوفًا من انقراض المسيحيين في جميع بقاع الأرض، وقد ذكر رجال التفسير جزئيات الحادثة.

كما كانت الحروب الصليبية بجزئياتها توثيقًا لهذا الصراع بين المسيحية والإسلام والتي يعرفها البعض بأنها صراع بين البابوية والمشرق الإسلامي، وقد بدأت أولى حلقات هذا النزاع سنة 1076م أي قبل الحملة الصليبية الأولى بحوالي 20 سنة، و يرى بعض المؤرخين أن هذا الصراع جاء وسيلة لاستنفاذ الطاقة التي تزوّد بها المجتمع الغربي منذ القرن 11 م وأصبح لا بد من البحث عن منفذ خارجي لتوجيه تلك الطاقة.

وعندئذٍ ظهرت فكرة الحرب الصليبية التي وجد الغرب فيها ميدانًا واسعًا يستغل فيه نشاطه المكبوت وحماسهم المنطلق، وهي عند البعض الآخر من المؤرخين حلقة من حلقات الصراع بين الشرق والغرب، مثل الصراع الذي ظهر بين الفرس واليونان وبين الفرس والروم، ويرى البعض أنها سلسلة هجرات صحبت سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية.

كانت البابوية المحرك الأساس للحياة بصفة عامة في المجتمع الأوروبي في العصور الوسطى، وكان هاجسها الوحيد طمس الدين الإسلامي الذي كان بالنسبة لها الخطر المحدق بها، فالبابوية كانت ترسل من حين إلى آخر إلى ملوك أوروبا تلحّ عليهم في الخروج على رأس جيوشهم لمحاربة المسلمين في الشرق.

كما شكّلت الفتوحات الإسلامية لدى الغرب الأوروبي عقدة، ومركب نقص اتجاه الفاتح، واللوحات الفنية الكبرى في أوروبا تصوِّر الفاتح الإسلامي ككائن شهواني لا يقيم أي اعتبار لدلالة إنسانية، وفي إحدى الصور الفنية، يصور أحد القادة الفاتحين، وهو يعتزم على اغتصاب إحدى النساء المسيحيات، بعد أن قتل رضيعها، وزوجها، راميًا الصليب الذي كانت تتزين به المرأة أرضًا، واعتقد أن هذه الصورة تهزُّ مشاعر الإنسان ككل بعيدًا عن كل ملة، أما المسيحي فاعتقد أن تجليات الرفض والكراهية للمسلم ستكون مستغرقة لجميع المسلمين، وإن كانت تلك التصرفات الصادرة عن هؤلاء المجرمين الذين أساؤوا إلى الإسلام قبل الإساءة لأنفسهم.

ونجد في نص المؤرخ التونسي هشام جعيط بعضًا من الدلالات: «الغرب المسيحي قد أصيب بجسده، ونفسه بين القرنين الثامن والعاشر بآخر امتدادات الفتح العربي... من هذه التجربة الأصلية للعدوان العربي سيستمدّ الوعي الغربي القروسطي الأسس الانفعالية لتمثله للإسلام، ذلك التمثّل المجبول أساسًا بالعداوة.. ولكن خلال العصور الوسطى الأولى لم يستطع الغرب أن يفرز رؤية متجانسة ومتحقّقة كفاية عن الإسلام، وحدها إسبانيا في القرن التاسع ظنت أنّها اكتشفت في محمد شخص المسيح الدجال، وتركت هذا النمط من التفكير لتعود إليه مع نهاية الوجود الإسلامي في إسبانيا[5].

الثقافة الإسلامية

يبدو أنّ أوّل من وضع الإسلام في قفص الاتهام، وفي موقف الدفاع عن المعتقد الكوني والأخلاقي هم المسلمون أنفسهم، على قاعدة الشعور بعدائية الآخر لهذا الدين، حيث شمّروا للدفاع عن حجِّية الإسلام باستعمال شتى الأساليب الدفاعية كلامية كانت أو إنشائية، فوقعوا في فخ الانفعال الذي بقدر ما يرفع ينزل، فكانت بعض المرويات ذريعة عند البعض في القدح من الشخصية المحمدية التي لا تُمثل ذاتًا بشرية في الحقيقة بل الشريعة، وإن كانت أهلية الذات للرسالة تتناسب مع عظمة المسؤولية.. فمسلسل القدح الذي تعرض له الإسلام عمومًا، وفي شخصية محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بالأخص، والذي أشرف الغرب على عملية إخراجه نتاج لكثير من التراكمات أهمها التمثيل السلبي، والتمثل الخاطئ للعقيدة الإسلامية.

أصبح التكفير في المجتمع الإسلامي بديلًا للتفكير، ولحظة اعتقادية يعيشها المسلم، ومطلبًا يسعى لتحقيقه، والأمل في بلوغ الشهادة عند المؤمن المسلم تعبيراً عن الميل والشوق إلى لحظة القرب الإلهي، فبعد أن كانت القيم المعرفية والأخلاقية وسائل القرب في الإسلام أصبح دم المسلم وعرضه أعلى وأفضل وسيلة لتحقيق هذا المطلب، كأن الغاية من الارتقاء المعنوي في العقيدة الإسلامية إقصاء الآخر، وإعدامه، وفقدت بالتالي الطقوس والشعائر بعدها التربوي والأخلاقي، وأصبحت مطيّة لرفض الغير، وفساد الرأي الآخر، وامتلاك العقل الصراطي يؤسِّس للاختلاف، وللخلاف، وأخطر لازمة عن هاتين المقدمتين التكفير.

وظاهرة التكفير نتاج حتمي لمؤشرات متعدّدة، والرواسب الثقافية التي سايرت المجتمع العربي، ولا زالت تعترض البحث الحر في المجتمع العربي، والإسلامي وراء تشكيل جملة من الأصنام الذهنية، ساهمت في تربية النشء على ملكة الخوف من التنوّع الثقافي، والانفتاح على الآخر، وعلى تأصيل القابلية للاستعمار عند الجيل الجديد، وتعطيل العقل الفردي، وتحوّله إلى مجرّد آلة شرطية، تكتفي فقط بتطبيق الأوامر، وتجسيدها على أرض الواقع، أمّا التدبّر والتفكّر في مضمون الأمر، فلا يعنيهم البتّة، ومسؤوليته تنتهي عند تنفيذ الأوامر، أمّا التفكير فمن مهام العلماء، وقد استمدّت ظاهرة الاستهجان للتفكير الحر في المجتمع العربي مشروعيتها من فتاوى ورؤى كانت مخاض اعتقاد، ولا تجد البتة سندًا لها في العقيدة.

وقد أصبح بذلك الغرب مصطلحًا يشير إلى العدو في لا وعي المسلم، بحكم التراكمات الذهنية الخاطئة، فوضع الغرب في مقابل الشرق «الشرق شرق، والغرب غرب»، والشرق والغرب لا يلتقيان على أساس التناقض والمفارقة ليس إلَّا مجرّد أغلوطة لفظية، وتلاعب بالحدود، فالمرجعية التاريخية للمصطلح مبنية على خلفية جغرافية، وليست ثقافية، ولكن عملية الزحزحة للدلالة التي عرفها المفهومان، حيث تحوّلت دلالة المفهوم المكانية إلى ثقافة.

يقدم الأستاذ هشام جعيط في كتابه (الشخصية العربية الإسلامية.. والمصير العربي)، مجموعة من المسلمات تكشف عن طبيعة الوعي اللاشعوري الذي يكمن وراء هشاشة الشخصية العربية والإسلامية، ومنها فكرة العروبة، كانتماء لغوي أو عرقي، فالدلالات التي تحملها لفظة العروبة تكون متناقضة، إلى حد تصبح الشخصية العربية مضطربة، وقلقة، يقول جعيط: «لقد تمثّل اللاوعي الجماعي تركيبة العروبة بصفتها مفهومًا للبداوة، وذلك لمدة طويلة في تونس، وبمفعول مزدوج للفوضوية البدوية والهيمنة التركية، ولما كان من تضارب أساسي بين عالم الحضر وعالم المدر، فكانت في نفس الوقت محل احتقار ومشحونة مجدًا، لا شك أن البداوة تنقل قيمًا وفضائل، لكنها اقترنت منذ ابن خلدون اقترانًا نهائيًّا بأفكار العنف والتوحش..»[6].

فارتباط العروبة، في الشخصية بالعنف، والتوحش، كامن في أعماق النفس العربية، وظاهر أيضًا في سياق السلوك اللفظي، أو الحركي، مما أسس لدى الغرب مبررات للتحفظ في التعامل مع العربي أو المسلم، ويكون النبي الذي يعكس ثقافة هذه الشخصية نموذجًا للعدوانية، والدموية، وتصوير العربي، والمسلم في الإعلام الغربي بشتى الصور المسيئة يجد مبررات في سلوك العربي والمسلم القديم، والحديث، والمعاصر.

ومن مظاهر الاضطراب السلوكي عند العربي والمسلم في نظر الأستاذ جعيط طبيعة الشعور، وعدم ثباته، فالعربي يعيش في جماعة مدنية، ولكنّه يبقى يحن إلى جغرافيا أخرى تملك عليه كيانه كلّه، وهذا يؤثر في قرارات الفرد، واختياراته.

وهذا ما نلحظه في الانحرافات التي تشهدها الأمة الإسلامية، إذ يمكن أن يتحوّل المواطن داخل دولته إلى عدو لها ولأبناء جلدته، مثل ما نلحظه في ظاهرة الدعشنة الظاهرة المرضية الجديدة التي تنخر جسد الأمة الإسلامية، والمثال الذي يستأنس به المؤرخ هشام جعيط هو الرجل التونسي، يقول: «إن الأنا عند المحافظ القديم المتخرج من جامعة الزيتونة هو الأنا الإسلامي في أسمى مستوى، إنه بالتأكيد تغذّى وتربّى في الوطن التونسي، وبقي وفيًّا لنمط العيش الذي درج عليه منذ الطفولة، تونس وطنه الحسي في حين أن وطنه الروحي هو دار الإسلام قاطبة ولعله ميالًا إلى استنقاص الأرض المغربية لبعدها عن الينابيع التاريخية الإسلامية وأعز أمنياته أن يموت في المدينة، وأن يدفن في البقيع بموطن النبوة، فالإسلام سابق للوطن الحسي الذي يفضله على الوطن العربي، وكلما رجعنا إلى الأجيال الأقدم إلا وعجبًا لقوة الشعور الإسلامي، وضعف الشعور العربي الحديث هذا السلوك بقية باقية لبنية قديمة للشعور بدون شك لكنه شعور قوي بصفة فريدة، وهو لا يعوزه العمق»[7].

كما تكشف لنا ظاهرة الشعور بالنقص والقزمية أمام الغرب، مؤشرًا آخر على تأجيج العداوة للإسلام كعقيدة، ولنبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، إذ ينتقص رجال الدين المسلمين من إيمان المسلمين أنفسهم، من خلال بيان تعالي الغربي، وأخلاقياته العالية، فالنخبة التي تنتقص من كفاءة أبنائها ومريديها، لا تملك أية شرعية دينية أو مدنية، يقول جعيط: «أما ضمير عالم الدين، فقد بقي ممزقًا بين الولاء لمثل الفضائل الإسلامية، والشعور العميق بأن الواقع المحيط به موبوء غليظ مضطرب عاجز. وبذلك تجسّمت الفضائل الإسلامية في الأوروبي الذي يكون قد طبّق تعاليم الإسلام، التي خُنَّاها، في نظام حياته وعقله وإنسانيته، إنه المسلم الحق والمسلم الموضوعي. ولا يشبه المفكر المنغمس في التغريب سيئة، ولا يعلم عنه قطعًا إلَّا مظاهر جانبية»[8].

تلك هي أهم الأفكار القاتلة التي تُغذّي الشعور بالنقص نحو الغربي، وتؤصّل فكرة التفوُّق والكمالية عند الغرب، ومن الاستتباعات اللازمة من الإيمان بهذه الأفكار تراجع الحضور الرسالي والشخصي للنبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولذا نجد شباب اليوم يميل إلى الاقتداء بشخصيات غربية، وغريبة، وأصبح النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مجرّد شخصية آمن بها الأجداد، ولم تعد لها أية دلالة عملية على أرض الواقع، فالأوروبي هو النموذج في الأخلاق، وفي العلم، وفي... وفي... والعربي والمسلم رمز الخيانة، والنقص.

كما نجد في ظاهرة النقد الذاتي مؤشرًا للانتقاص من شخصية العربي والمسلم، ونجدها مقدمات للثورة على الشخصية المحمدية التعبير الرسمي لهذه العقيدة، فعبارة هكذا نحن العرب -على حد تعبير هشام جعيط- تعكس ألم النفس الجريحة، وفي مرارة الفرد تعبيرًا عن الحفيظة إزاء المحيط والنحن العربي يكون مركزًا لعيوب رئيسة هي قلة الاتحاد وانعدام التعاطف والخداع والعجب والرياء.

ولذا تصبح الشخصية العربية والإسلامية نموذجًا للشخصية المرضية، ووضعيتها المرضية نتاج حتمي لضعف النموذج المقتدى به، وعليه سيكون النبي الأكرم ضحية تصرفات المسلمين الهوجاء، فموجة العداء للنبي الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) تبدأ منا على مستوى الفعل ثم على مستوى القول والخطاب.

الاستشراق

تأخذ الحركة الاستشراقية في التعامل مع التراث العربي والإسلامي أبعادًا قيمية متباينة، فتارة يُعزى إليها إحياء التراث، وتعريف الشرقيين بتراثهم، وأحيانًا يكون تعاطيهم مع التراث تشويهًا له، وقد عملت دراساتهم لشخصية النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) على تقديم صورة مشوهة لنبي الإسلام، فهو شهواني، براغماتي لا يراعي إلَّا ولا ذمّة لأحد أمام مآربه الشخصية، وغرائزه، وعلى حد تعبير أحد المفكرين «لقد حرص المستشرقون على أن ينالوا من شخص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)... حيث توهموا أنّهم إن أفلحوا في هدم تلك الشخصية الربانية العظيمة فسوف ينهار الدين الذي جاء به»[9].

فالقصد بالأصل هو محاربة العقيدة الجديدة، التي نسخت كل مألوف لدى معتنقي الديانات السابقة، فالقيم الجديدة قيم كونية، عالية سامية، ومتعالية، ولكن المستشرق موتنغمري وات يتساءل عن إمكانية تحويل القيم المحمدية إلى مقدمات لأخلاق كونية.. فيقول: لم يقدر العالم حتى الآن الإجابة عن هذا السؤال، ولا يمكن أن ينظر لما قاله المسلمون لدعم تقديسهم لمحمد، إلَّا أنه عرض أولي للدفاع لم يقنع سوى القليل من غير المسلمين.. وتبقى الطريقة التي سيحكم بها العالم على محمد بالطريقة التي يتصرّف بها المسلمون اليوم[10].

وستكون تصرفات المسلمين اليوم طامة كبرى على الإسلام، وعلى نبيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، والقاعدة وداعش صورة حية لكل أوهام وتخيلات الغرب نحو الإسلام، وكأن هذه الحركات المندسة في الإسلام تحاول إقناع المسلمين أنفسهم، وليس الغرب فقط بأن العرب والمسلمين وحوش، لا تعرف القيم إليها السبيل طلقًا.

ونجد عند المستشرقين تأسيسًا تأريخيًّا لكل ما يحمله الوعي واللاوعي الغربي نحو الإسلام، ففي كتاب (محمد) للمستشرق مكسيم رودنسون تجد توصيفًا لنبي الإسلام بالشهوانية جاء فيه: «كان من سوء الحظ أن شعر اتجاه خديجة بالعاطفة الطبيعية التي أرواها بعدما تقدّمت به السن مع النساء الشابات والمحبوبات في حريمه»[11].

وعند الأديب الموسوعي دني ديدرو (Diderot) ما يقصم ظهر، وشوكة الإسلام، فهو عنده أفضل صديق للنساء، وأكبر عدو للعقل[12]، وإذا كان محمد عدوًّا للعقل، والعقل هو القاسم المشترك بين البشر، وكما يقول ديكارت: أعدل قسمة بين البشر، فكيف يمكن التحاور مع الإسلام إذا كان نبيّه لا يعرف العقل، ولا يملك الحظ منه، وعليه فالإسلام دين الشهوات والغرائز، ولا يملك أهلية البقاء في عالم الحداثة، عالم العقل.

وفي عبارة أخرى لمونتجمري وات في كتابه (محمد في المدينة) جاء فيها: «ونعلم من بعض الوثائق أن محمدًا بالإضافة إلى زيجاته الشرعية، واتصالاته بالجواري كانت له علاقة مع نساء أخريات وذلك حسب النظام الأمي القديم»[13].

أي نظام أمي يشير إليه المستشرق، وكيف يتلّقى الغربي أو المسلم المعاصر هذه العبارة، فالدلالة تمنح الشرعية لكل تطاول على النساء، وإذا كان القدوة بهذا الشكل، مسايرًا للشهوات، وباحثًا عن اللذات، فأين محل العفة والفضيلة في هذه الشريعة؟ وحكم العاقل بعبثية الشريعة أمر مبرّر، وفي النص التالي نلحظ براغماتية عمياء عند نبي الإسلام في مخيال الغرب «وآخر ما يلاحظ على زيجات النبي أنه كان يستخدمها كما كان يستخدم زيجات أصحابه الخلص لأغراض سياسية، وكان ذلك استمرارًا لعادة عربية قديمة»[14].

إذا كان النبي يستخدم زيجاته وزيجات أصحابه في الأغراض السياسية والعسكرية، فاستخدام الغير وسائل لتحقيق المآرب الشخصية، أمر غير مشروع أخلاقيًّا، أو مدنيًّا، ومن المأثور عن إيمانويل كانط: «لو كانت سعادة العالم بأسره مشروطة بقتل طفل بريء لكان العمل لا أخلاقيًّا»، وستصبح فلسفة إيمانويل كانط أرفع شأنًا من شريعة المسلمين، ومن نبيهم، والعياذ بالله، تعالى عن ذلك علوًّا كبيرًا.

ولذا نقصد من هذه الإشارة إلى بيان العناصر المتعدِّدة، والعديدة التي ساهمت في تكوين صورة مشوّهة عن النبي محمد صلوات الله وسلامه عليه.

الإسلاموفوبيا

ظاهرة قبل أن تكون اصطلاحًا، فهي تعبير عن حالة تخوف من الإسلام، وقد قامت مؤسسة بريطانية تدعى The Runnymede Trust تُعنى بأمور حقوق الإنسان والأقليات والعرقيات في المجتمع البريطاني، في تقرير لها بعنوان: «الإسلاموفوبيا: تحدٍّ لنا جميعًا» بوضع مجموعة من المحددات أو العناصر التي تكشف عن معالم الخوف، وهي النظر إلى الإسلام كثقافة صلبة غير قابلة للتأقلم مع الواقع المتغير، واعتبار الإسلام كيانًا قيميًّا مستقلًا لا يتقاطع من قريب أو من بعيد مع قيم البشرية، وهو غير قابل للتأثر بالثقافات الأخرى، ومن ناحية أخرى يكون الإسلام كدين ومعتقد دوني بالنسبة للغرب.. وبربري وغير عقلاني، بدائي وجنسي النزعة، وهو أيضًا عقيدة عدوانية ومصدر خطر، ومفطور على الإرهاب والصدام بين الحضارات، واعتباره أيديولوجية سياسية لتحقيق مصالح سياسية وعسكرية، وعليه يكون العداء تجاه المسلمين أمرًا عاديًّا وطبيعيًّا ومبررًا[15].

ظاهرة الخوف من الإسلام ومن المسلمين نتاج تراكمات ثقافية وتاريخية، والأطروحات الفلسفية المعاصرة تعكس ذلك، وأطروحة صراع الحضارات للمفكر الأمريكي صمويل هنتنغتون تعكس مستوى الشرعنة لكل عداء لعقيدة الإسلام، وللنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومما جاء في كلامه عن الإسلام ما نصه: «لقد تم انتقادي بشدة لأني تحدثت في مقالي حول صدام الحضارات عن الحدود الدموية للإسلام، ورغم ذلك فإن العبارة تعبّر عن واقع موجود بالفعل في البوسنة، الشيشان، القوقاز، فلسطين، السودان... فالعنف الذي يجتاح هذه البلدان سيكون في كل مرة بين المسلمين وشعوب ذات ديانات أخرى...»[16].

والمؤسف أن يكون الخطاب من طرف مفكر نخبوي يدرك تمام العلم أن الأحكام القيمية تجانب الصواب، والحق في أغلب المواقف، ومحدودية الحكم الاستقرائي في الظواهر الإنسانية مسألة نسبية.

والقصد من وراء هذا التأسيس بيان الفساد المنطقي الذي يلازم هذه القراءة، وقراءة النص التالي يظهر مدى التسييس الذي يُحايث الدراسات الغربية عمومًا، والمستقبلية خصوصًا، ويكون هؤلاء الفلاسفة مجرّد ناطقين، وأدوات بيد الحكام الغرب في إضفاء المشروعية على كل ما يقومون به في استغلال ثروات تلك الشعوب والأمم، يقول نيكسون: «فكثير من الأمريكيين يتصورون أن المسلمين هم شعوب غير متحضرة، ودميون، وغير منطقيين ويعتقدون أن سيوف محمد وأتباعه هي السبب في انتشار الدين الإسلامي في آسيا وإفريقيا، وحتى أوروبا.. ولذلك فإن الكثيرين من الأمريكيين قد أصبحوا ينظرون إلى المسلمين كأعداء.. وليس هناك صورة أسوأ في ذهن وضمير المواطن الأمريكي من صورة العالم الإسلامي»[17].

وعليه نجد أن ظاهرة العداء للنبي (عليه السلام) نتاج رواسب ثقافية وعقدية، بدأت قبل ميلاد النبي نفسه، ويكون بشخصيته النموذجية إعلانًا عن النهاية لكل استلاب للإنسان، فالحرب التي أقيمت عليه من طرف الغرب كثقافة هي حرب استراتيجية، يكون التنافس على مصادر الطاقة السر الأوحد في هذه الحرب؛ إذ لو كان الإسلام دينًا يمنح المشروعية لكل توهين بالإنسان لما كانت هذه الحرب أصلًا.

وفي الأخير نقول: إن الوجود الإنساني مطلب قيمي قبل أن يكون واقعًا حتميًّا؛ إذ نلمس من خلال حكمة الجعل: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} الأبعاد القيمية والأخلاقية التي وجد من أجلها الإنسان، فهو كإنسان على مستوى الإمكان «إنسان بالقوة»، مجموعة من القابليات والقدرات المعرفية والأخلاقية، والتي تحتاج إلى علة فاعلة تترأسها الإرادة التي يملكها الشخص، وهي أيضًا محل إشكال بين الفلاسفة حول آليات تربيتها، أما العلة الصورية التي تساهم في بناء الإنسان النموذجي فهي العلة الصورية أي الصورة النموذجية.

ولتحقيق هذه الغاية ينبغي أن تكون المثال نموذجيًّا، ومتعاليًا، والذي لا يكون مبرِّرًا للإحباط، بل متعاليًا بمعنى الكمال الذاتي الذي يحمله المثال، وتقدّم سيرة النبي الأكرم -صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه الأبرار- هذا المثال، فهو مثال حي للعلم، والحلم، والقيم الأخلاقية كلها، وسنحاول التجرؤ على المقام الأخلاقي الذي تستبطنه السيرة من صورة للإنسان لنموذج الإنسان المتكامل. الذي هو نموذج الجمال، والجلال الذي يأمله كل إنسان، والدليل على مطلوبية هذه الصفات التأكيد الذي تضمنته الروايات الواصفة لأصحاب الجنة على المحدّد الجمالي والجلالي، والذي كان النبي الخاتم منتهى ونهاية الممكن الوجودي للإنسان النموذج.

 

 

 

 



[1] رواه الترمذي وصحّحه الألباني.

[2] عبد الله البستاني، البستان، المجلد الثاني، المطبعة الأميركانية، بيروت، 1930، ص 1535.

[3] سيغموند فرويد، أفكار لأزمنة الحرب والموت، ترجمة: سمير كرم، بيروت: دار الطليعة، 1977، ص 45.

[4] هشام جعيط، أوروبا والإسلام، بيروت: دار الطليعة، الطبعة الثانية، 2001 ص 10.

[5] المرجع نفسه، ص 12.

[6] هشام جعيط، الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي، بيروت: دار الطليعة، الطبعة الثانية، 1990، ص: 18.

[7] هشام جعيط، الشخصية العربية والاسلامية والمصير العربي ، بيروت: دار الطليعة، الطبعة الثانية، 1990، ص 17.

[8] المرجع نفسه، ص 150.

[9] إسماعيل علي محمد ، الاستشراق، مصر: الكلمة للنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة، 2000، ص 157.

[10] مونتجمري وات، محمد في المدينة، تعريب: شعبان بركات، بيروت: منشورات المكتبة العصرية، (د.ط.ت)، ص 508.

[11] انظر: المرجع السابق، إسماعيل علي محمد ، الاستشراق ص 158.

[12] المرجع السابق، ص 159.

[13] مونتجمري وات، محمد في المدينة، مرجع سابق، ص 434.

[14] المرجع نفسه، ص 438.

[15] Chris Allen. The first decade of islamophobia.

[16] صمويل هنتنغتون، صدام الحضارات، ترجمة: طلعت الشايب، مصر: سطور الجديدة ط: الثانية، 1999، ص 414.

[17] مجموعة مؤلفين ، صورة الاسلام في التراث الغربي، ترجمة: ثابت عيد، نهضة مصر، 1999، ص 5.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة