تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الفلسفة والتصوف .. وسؤال العلاقة

عبدالقادر بوعرفة

الفلسفة والتصوف.. 

وسؤال العلاقة

إعداد وتقديم: الدكتور بوعرفة عبد القادر*

* كاتب وباحث وأستاذ جامعي، جامعة وهران 2، الجزائر، البريد الإلكتروني:

bouarfah9@yahoo.fr

 

 

حوى الملف المقدم جملة من الدراسات الفكرية حول علاقة التصوف بالفلسفة عمومًا، أو علاقة التصوف بالسؤال الفلسفي من حيث جدلية الحضور والغياب بين الذّوات العارفة والمتباينة في المقامات والأحوال، والمتقاربة في الهواجس والغايات.

وحمل الملف عدة قضايا مهمة تتعلق بالعلاقة القائمة بين مقام التفلسف ومقام التصوف، وأبرزها أن المقاميين يصبوان إلى البحث عن الحقيقة الكامنة خلف ظواهر الأشياء، فالظاهر مجرد لبوس للمعرفة، وأن الذات العارفة تتسلح بالسؤال للوصول إلى باطن الأشياء، ليس وصول مطابقة بل وصول مساءلة ووجد، فالحقيقة ثلاث مراتب: يقين (العلماء)، وعلم يقين (الأنبياء والأولياء)، وعين يقين (الله).

يتدرج الإنسان العارف في مراتب اليقين تدرجًا يختلف حسب الأدوات والأذواق، والأحوال والمقامات، والقرب والبعد، والصبر والقلق، الحب والوجد، اليقين والشك،...

لاحظنا من خلال الدراسات وجود نزعة نقدية، اتجهت نحو تحليل الصراع الفكري بين أنصار العرفان وأنصار البرهان، وإن شابت العملية النقدية بعض الأحكام الجاهزة التي أضرت بالدراسة في كثير من الجوانب.

ولكن رغم تلك الإيجابية إلَّا أن الدراسات الأربع غلبت عليها سمة الانحياز إلى التصوف باعتباره مغنمًا عقائديًّا ومخرجًا حضاريًّا، ومرتبة شهودية تتعالى عن المرتبة الوجودية التي يعكسها مقام التفلسف. ولذا كانت الغاية من تلك الدراسات الوصول إلى أهداف تتمثل في قراءة تاريخية لمجريات حوار الظاهر والباطن، العقل والقلب، البرهان والعرفان، والتي حددها الباحث رزقي: «هدفنا من الدراسة هو الوقوف على الحوار المستمر الذي نشأ بين الفلسفة والتصوف في الإسلام، والذي كان يظهر في شكل لقاءات أو مواقف يصدرها طرف عن الآخر معبرًا عن تجاوب أو تباعد في المنهج والنتائج.

ما نسجله في تاريخ هذا الحوار أن التشنج والقلق الذي كان يحكم علاقة المتكلم مع الفيلسوف قد انتقل إلى ساحة الفلسفة في علاقتها بحليفها العرفان، فالمشكلة لم تكن مع المتكلم فقط بل نشأت مشكلة أعمق بين الفيلسوف والمتصوف».

إن الباحث هو ذاته لم يستطع أن يتحرر من تلك العلاقة العصية، فهو ينتصر للعرفان والتصوف على حساب الفلسفة ذاتها، بالرغم محاولته استعمال وسائط فلسفية معاصرة والاستشهاد ببعض أعلام الفلسفة كابن سينا وابن رشد، وبعض أعلام التصوف كمحيي الدين بن العربي والأمير عبد القادر الجزائري.

توصل الباحث آخر الأمر إلى ضرورة قبول مرتبتين من المعرفة، المعرفة الشهودية والمعرفة الوجودية، ولكل مرتبة حقلها وحالها وطريقها، ويعني ذلك عنده أن حال العرفان أعلى مرتبة من حال النظر والبرهان: «فالإنسان الذي يبقى في دائرة الفكر والعقل فإنه يبقى في دائرة الحكمة، أما من دخل وادي العشق والمحبة فقد مات وقتل نفسه هذا هو الذي تعلق بحبل القدرة.

الفلسفة إنما تكون منتجة في معالجة القضايا ضمن نطاقها الخاص، أما عندما يصل الدور إلى المعرفة الشهودية، فإن رجل الاستدلاليين تكون خشبية، وفراسة الفلسفة هي أنها في المسائل التي تتعلق بالمعرفة الشهودية توكل إصدار الأحكام إلى العرفان، حتى تحفظ بذلك الحدود ويبقى الاتحاد بين الفلسفة والعرفان قائمًا».

حاول رزقي بن عمر أن يُبرهن على تلك التراتبية من خلال اللقاء الذي ذكره ابن عربي مع ابن رشد، والذي تظهر فيه رمزية لفظتي نعم ولا، بيد أن كل الدراسات النقدية تؤكد أن اللقاء المصرح به لم يحصل أصلًا، ولم يكن ابن رشد الفقيه ليقف مكتوفًا أمام تأرجح ابن عربي بين نعم ولا. ويُفسر اللقاء الذي ذكره ابن عربي على أنه لقاء رمزي (المُخيلة)، يشبه كل اللقاءات التي أوردها المتصوفة في ثنايا المنام أو اليقظة مع النبي أو الخضر... كما هو الحال مع التيجاني الذي زعم أنه التقى النبي يقظة لا منامًا في غار أبي سمغون بالجنوب الغربي للجزائر.

ومن جهة أخرى، فالقول بالمرتبتين هو ذاته قول قديم، نسبته الرشدية المسيحية إلى ابن رشد من خلال القول بالحقيقة المزدوجة، أي التقاء العقل والإيمان في بؤرة الحقيقة لا في كيفيها وكمها.

اتجهت دراسة الباحث قويدري الأخضر الموسومة بـ: «العرفان بين الاستقالة والاستنارة قراءة في مواقف الجابري من التصوف الإسلامي» نحو السجال الفكري، ومنطق الرد والهجوم على خصوم التصوف، حيث اختار الجابري كأنموذج يصدق على كل خصوم العرفان ومنتقديه.

حمل المقال بنية تحليلية ثم نقدية في المضمار نفسه، وقد بسط رؤى الجابري حول مرجعية العرفان، وركز على الهرمسية باعتبار أن التصوف الإسلامي في شقه الديني أو الفلسفي ما هو إلَّا امتداد تاريخي لتلك النزعة الفارسية حسب رأي الجابري.

بدأ الباحث المقالة بمسلمة وختمها بالمسلمة ذاتها، وهذا من حيث البناء العلمي يعتبر مصادرة على المطلوب، وانتصارًا للذات أكثر منه انتصارًا للحقيقة، حاول الباحث منذ البداية أن يثبت أن التصوف ظُلم من قبل الدارسين المعاصرين الذين نظَّروا إليه من أفق فلسفي نقدي إبستيمي ضيِّق لا يتناسب وطبيعته العرفانية.

ويبدو أن النزعة الدفاعية عند الباحث أربكته منهجيًّا وعلميًّا، حيث جعلته يقع في تناقض صارخ حين يقول في مقدمة بحثه: «ومختصر القصة كلِّها أن المرحوم محمد عابد الجابري، قد انطلق في دراسته للتصوف انطلاقة الناقد الحاقد، فجهز لتهديمه وإقصائه، حربا لا موضوعية فيها، وبذل في تشويه صورته في أعين المثقفين، حملة لا عدالة معها، فلم يُبْق له حسنةً تُشكر، ولا مزيةً تُذكر».

ولكنه في خاتمة البحث يناقض ما قاله سابقًا: «وحسب المفكر محمد عابد الجابري رحمه الله في كل ما كتب عن التصوف أنه اجتهد والمجتهد مأجور في كل الأحوال».

فهل يصح أن ننعت الحاقد والمدمر وغير الموضوعي بأنه مجتهد ومأجور!

ومن جهة أخرى، بنى الباحث بحثه على جملة من التصورات الأسطورية التي تتعارض مع العقل المجرد، والمؤيد، والمسدد. وهذا يدل على أن الرؤية بُنيت أساسًا على المعطى العمومي الشعبي، وعلى تموقع الذات في فضاء التصوف والطرقية، هذا ما جعل الباحث لا يفصل بين مقام التأمل والنقد وبين مقام الانتماء والولاء.

عندما نقرأ محاورات أفلاطون نلمس عرفانية تتعالى هي ذاتها عن اللوغس، فاللوغس عند أفلاطون هو مجرد لحظة نظر خالصة تحيل الذات إلى عالم العرفان الأبدي الموجود في عالم المثل. إن مفهوم السعادة والحب والفناء والخطيئة... عند أفلاطون لا تختلف من حيث الطرح الرمزي عن الطرح الصوفي القديم والمعاصر.

ورد المقال الثالث بعنوان «العشق والعقل في فكر جلال الدين الرومي» لصاحبته الدكتورة درغام نادية، حيث أرادت الباحثة أن تُحلل رؤية جلال الدين الرومي لثنائية العقل والعشق، فالعشق عند المتصوف عمومًا وعند الرومي خصوصًا يُعتبر جوهر العرفان، فالعشق عندما يحصل بين الذات العارفة والله تنكشف الحجب، ويعرف الإنسان الحقائق التي عجز العقل الكلي والجزئي عن إدراكها على النحو الرباني التي هي عليه، توضح الباحثة ذلك في قولها: «اقترن مفهوم العشق عند أهل التصوف والعرفان بمفهوم المحبة الذي ورد في القرآن الكريم، فالعشق هو إفراط المحبة وكني عنه في القرآن الكريم بشدة الحب في قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ}، وقوله: {قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا}، أي صار حبها ليوسف على قلبها كل الشغاف، وهي الجلدة الرقيقة التي تحتوي على القلب فهي ظرف له محيطة. والعشق هو بذل مالك وتحمل ما عليك».

ومن ثمة يصبح الكشف مرتبطًا بالقلب لأنه مكان العشق والمحبة، «يفصل العارف في رؤيته للوجود التي محلها القلب في اختيار العشق لرؤية الجميل، فكانت رؤيته شهودية قلبية لا تعتمد وسائط البرهان والاستدلال. من هذا المنطلق كان الصراع الأزلي بين العقل المفكر والعشق المطلق الذي لا يعترف بأحكام العقل لأن حكمه لا يطال إلَّا ما يقع تحت أدواته الحسية».

استعرضت الباحثة نظرة الرومي للعقل عمومًا، فالرومي لا يرفض المعرفة العقلية المبنية على البرهان والاستدلال، بل يجعلها معرفة وجودية لا معرفة شهودية فمقامها أدنى من مقام القلب، فالعرفان هو سمو الذات العارفة في مدارك الحقية سموًّا يجعل مما توصل إليه العقل بداهة لا حقيقة، فالحقيقة قلبية شهودية.

يقسم الرومي العقل إلى صنفين أحدهما جزئي والآخر كلي، إلَّا أن هناك علاقة بينهما يشبهها الرومي بعلاقة القشر مع اللب. غاية التصنيف بين العقل الجزئي أن الأول ذو طاقة إدراكية محدودة، بينما العقل الكلي هو عقل العقل.

وهذا الفصل بين العقل الكلي والجزئي وضحته الباحثة في قولها: «هناك فروق معرفية بين العقل (الجزئي) غايته التحصيل العلمي، وبين العقل (الكلي) غايته الإيصال إلى أصل المعرفة. فالعقل الجزئي يتميز بطبيعة محدودة مقارنة بالطبيعة النورانية للعقل الكلي».

ومن خلال بعض القصائد لجلال الدين الرومي، ندرك أن العقل يشبه القشرة وأن القلب يشبه اللب، والثمرة جوهرها في لبها لا قشرتها، يقول جلال الدين الرومي:

«إن عقل العقل هو بالنسبة لك لب وعقلك قشر ومعدة الحيوان غالبًا ما تطلب القش.

وطالب اللب يمل القشور أشد الملل لكن اللب صار حلالًا للأذكياء.

وبينما يقدم قشر العقل مائة برهان متى يخطو العقل الكلي خطوة واحدة دون يقين.

إن العقل يسود الدفاتر كلها لكن عقل العقل ذو آفاق مليئة بالأقمار.

فهو فارغ من سواد الحبر ومن بياض الورق ونور قمره بازغ من القلب والروح».

توصلت الباحثة آخر الأمر، بأن القلب هو عين اليقين من خلال جذوة العشق: «وبهذا فجلال الدين الرومي يولي أهمية كبرى للعشق، فهو رأس المال المحب، بل هو براق السير في ملك وملكوت الجمال يطوي به مسافات الفصل محولًا إياها على وصل أو لنقل يطوي الكثرة المعبر عنها بالصور الجمالية ليستغرق في الوحدة الحقة، أي وحدة الجمال ويفنى فيه».

جاء المقال الرابع موسومًا بـ«الفلسفة والتصوف.. قراءة في عيون الشّيخ محيي الدين ابن العربي» لصاحبه الأستاذ عبد القادر بلغيث، الذي حاول من خلال مقاله نفي ارتباط القول الصوفي بالقول الفلسفي، وأن المرجعية الفلسفية ليست هي التي شكّلت الخطاب الصوفي العرفاني، فالتصوف متعالٍ عن الفلسفة من خلال ما ردّده ابن عربي في كثير من رسائله، ومن جهة أخرى يحاول الباحث في المضمار نفسه أن يثبت أن التصوف مصدره الأساس والرئيس هو الإسلام فحسب، وأن حضور بعض النفحات الفلسفية ما هو إلَّا محايثة ومضايفة تاريخية، يقول: «إن هؤلاء المستشرقين في محاولتهم لربط التصوف الأكبري بأصول ومنابع غير إسلامية تصطدم بالكم الكبير من آيات القرآن الكريم، فلا تمر صفحة من صفات كتب الشيخ إلَّا وتجد آية من آياته يفسرها أو استشهد بها حين يقدم علومه، كما لا تخلو مصنفاته من الأحاديث النبوية من مختلف مصادر السنة من صحاح وسنن ومسانيد».

لكن الباحث غضّ الطرف عن المصطلحات الفلسفية المستعملة في الخطاب الأكبري، وكثرة استعمال الرموز والشفرات، وتماهيه مع كثير من النصوص الأفلاطونية والأفلوطنية.

حاول الباحث أن يُماثل رأي ابن عربي برأي الغزالي في الفلسفة، يقول الباحث: «كان موقف الغزالي من الفلاسفة موقفًا عنيفًا فقد وصفهم بالكفر وبالخروج عن الدين، وضلال مناهجهم وفكرهم، وقد حاول هدم بنيان فكرهم في عدة كتب من كتبه، منها تهافت الفلاسفة الذي تتبع فيه مسائلهم التي كانوا يعتقدون بها في قسم الإلهيات، أما كتابه المنقذ من الضلال فحاول فيه تشريح البنيان الفلسفي ومدارسه واتجاهاتها القديمة والإسلامية فصنفهم إلى ثلاثة أقسام، وهم الدهريون والطبيعيون والإلهيون، ثم أخذ ينتقد كل فكر تبنته هذه المدارس».

ولكن الشيء الذي غاب عن الباحث أن الغزالي لم يكفّر الفلاسفة لاشتغالهم بالفلسفة، بل كفرهم لاعتقاد ببعض المعتقدات التي تخالف حسب اعتقاده روح الإسلام التي حددها في كتابه تهافت الفلاسفة، فالنظر الفلسفي عنده واجب شرعي، وما كان للغزالي أن يرد على الفلاسفة لو لم يكن متمكنًا من الفلسفة وأدواتها، فنقد الفلسفة هو في حد ذاته فلسفة بالتعبير الأرسطي.

يعتقد الشيخ محيي الدين أن أصل علوم الفلاسفة أصل إلهي نبوي، ترجع إلى النبي ادريس (عليه السلام)، الذي يسميه الشيخ بمداوي الكلوم. وهذا الاعتقاد ليس له إثبات تاريخي على الإطلاق، فالنبي إدريس نُسجت حوله الكثير من الأساطير والخرفات، فبعضهم يجعله ملكًا فرعونيًّا موحدًا (أخناتون)، والبعض يعتبره أول من تحدث بالحكمة والفلسفة، والبعض الآخر ينظر إليه على أنه أول من خط بالقلم... وهذه الفرضية التي ينطلق منها الباحث تعتبر قضية واهية لا يمكن من خلالها ربط الفلسفة بالنبوة، ومن ثمة جعل مقام التفلسف تابع لها من منطق وحدة المصدر والمنبع.

ويمكن القول إجمالًا، أن الملف بالرغم من طابعه الدفاعي عن العرفان... حمل الكثير من المتعة والجدة، وفتح كثير من القضايا للمناظرة والتأمل، وهو ما نطمح أن نراه في الملفات المقبلة.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة