تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

مدخل تحليلي لمنطق إقبال في نقد المشكلات الزائفة

وائل أحمد الكردي

مدخل تحليلي لمنطق إقبال

في نقد المشكلات الزائفة

الدكتور وائل أحمد الكردي*

 

*         دكتوراه في المنطق وفلسفة العلوم، أستاذ مشارك في معهد البحوث والدراسات الاجتماعية والجنائية، جامعة الرباط الوطني، السودان، البريد الإلكتروني:

waiahkhkordi@gmail.com

 

 

 

مقدمة

إذا كان من الممكن أن يحمل التجديد الفكري على محمولين أساسيين:

أحدهما: هو بقصد التحديث لقوالب المنظومة العقدية القائمة في ذاتها والإضافة إليها باعتبار أنها قد أصبحت قديمة وغير مواكبة لتطور الراهن الفكري والثقافي والحياتي فيراد نقلها إلى مرحلة جديدة أكثر تقدمًا. ومن قبيل هذا ما دار حوله كثيرًا جدل الأصالة والمعاصرة وما نحو ذلك.

وثانيهما: هو ما كان بقصد إبقاء المنظومة الفكرية أو العقدية قائمة كما هي على أصلها، وإنما يكون التجديد بحذف ودحض ما لحق أو علق بها من متغيرات وتأويلات وكيفيات في الفهم والتداول جراء تعدُّد تنزيلًا لهذه المنظومة على أنماط وطرق الحياة المختلفة بحسب التوزيع البشري إلى شعوب وقبائل، وهو ما يمكن تسميته بالتحديد بحذف ودحض التصورات والمفاهيم الزائفة التي تلحق بالمنظومة العقدية في كل عصر من العصور بنحو طارئ دون أن تمثل أصلًا فيها، بل يكون من شأنها إثارة مشكلات وهمية لا يكون الجدال فيها منتجًا لعلم أو مثمرًا لمعرفة حقيقة، فهي ليست بالمشكلات أصلًا ولكنها نشأت كأفكار ومفاهيم ومقولات طفيلية حول المنظومة الثابتة.

بهذا تطرح الورقة فرضية أساسية، وهي أن منهج إقبال في التجديد الفكري –لا سيما بنحو ما قدَّمه في كتابه تجديد الفكر الديني في الإسلام- إنما تثبت فاعليتها أكثر الشيء في الاتجاه الثاني الذي هو تحليل ودحض المشكلات الزائفة.

وتحاول الورقة بصدد تحقيق هذه الفرضية تتبُّع السياق المنطقي الذي التزم به في معالجته للقضايا المختلفة. وعليه فيمكن الإفادة من منهجية إقبال هذه في النظر النقدي إلى أي إضافات مستحدثة على أصل المنظومات العقدية الإسلامية بأنها محض تأويلات فلسفية، وذلك بافتراض أن القوالب والحدود الكلية للوعي قد اكتمل تشكُّلها منذ بدء الخليقة وحتى تمام رسالة سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وما أتى بعد ذلك إنما هي أشكال مركبة منها بصورة معاصرة وإلباسها محض أثواب جديدة دون إزالة الجوهر والمضمون لتصبح في الأخير أنماط من التفسير والتأويل والرد إليها.

حول الأصل الفلسفي لمصطلح المشكلات الزائفة

إن المنطق Logic بأنساقه التقليدية لم يعد هو إظهار صحيح الفكر من فاسده بنحو موضوعي مطلق ومحايد، بل صار هو الأداة التي تستخدم بكيفية يمليها نسق فكري أو عقدي معين ليثبت بها معه ما يتسق معه في النظر إلى ما هو صحيح من الفكر وما هو فاسد.

والشاهد في هذا الأمر هنا هو أن (المشكلات الحقيقية) و(المشكلات الزائفة) Pseudo-Problems يكون الداعم لكليهما في إقامة الحجة هو الخاصية الأداتية التي يتمثلها علم المنطق بكل ما فيه من قياس وحساب قضايا وحساب محمولات وعلاقات ودوال وثوابت ومتغيرات.

فالمنطق إذًا هو سلاح ذو حدين، ويمكن لنا الاستفادة منه بالحد الذي يحقّق لدينا خاصية (الضبط الدلالي) الذي يضع حيّزًا فارقًا بين دائرة ما هو مشكل ودائرة ما هو مشكل زائف. وذلك يقتضي إشراك الدلالة الوظيفية بصورة أساسية بالنسبة لكل مجال من مجالات الاستخدام المنطقي. وعلى هذا الأساس يتم التمييز بين للمشكلات الحق بأنها تساؤلات تصاغ بكيفية منطقية تلائم وضع إجابات عنها يتوقف عندها التساؤل وينتهي أو على الأقل لا يستمر.

أما المشكلات الزائفة فإن كيفية استخدام المنطق فيها لا يؤدي إلى وقف التساؤل بتقديم إجابات وحلول حاسمة عليها، بل يستمر التساؤل أو على الأقل يظل قائمًا برغم ما يقدّم عليها من إجابات متعددة. وسبب الاستمرار الدائم لهذه المشكلات أن وجه البحث فيها تتساوى فيه الحجة المؤيدة والحجة المعارضة على حد سواء.

وقديمًا ذُكر في الفكر الغربي ما عرف اصطلاحًا باسم (نصل أوكام) Ockham’s Razor ونصه: «لا يجب مضاعفة الكائنات بغير ضرورة»، وكان من قبيل استخدام هذا المبدأ في سياق الكشف عن المشكلات الزائفة هو أن ما لا يعتمد في الخبرة الحقيقية للإنسان لا يمكن أن يكون عضوًا ذا اعتبار في الحقل الدلالي للذهن البشري. والذي تعمل وفقًا له قوانين المنطق وأغراضه بمقتضى أن ما يكون له معنى هو ما كان (تحليليًّا) كما في العلوم الرياضية أو (تركيبيًّا) كما في العلوم الطبيعية والاجتماعية. من هنا كان المنطلق في تفسير ظاهرة المشكلات الزائفة ونشوئها في الفكر الإنساني كنوع من الافتراضات الزائدة عن حيز الخبرة الفعلية الممكنة.

التجريد المنهجي لمنطق إقبال في النقد الفكري بما يحقق فائدة حذف المشكلات الزائفة

يجب القول ابتدأ: إن محمد إقبال لم يوجّه دحضًا بنحو مباشر إلى المشكلات الزائفة بمعناها الاصطلاحي في الفكر الفلسفي، وإنما يمكن للباحث في فكر إقبال أن يستنبط إثباتًا لدحض وحذف هذه المشكلات من خلال الكشف عن عناصر منهج إقبال في التفكير والرؤية العامة والنقد، والذي إذا تم إعماله واستخدامه أدى تلقائيًّا إلى نفي هذه المشكلات سواء من جهة (المنع) أي منع ظهورها في الفكر أصلًا بإذابة مبرراتها وأسانيدها، أو من جهة (الكشف) أي البحث عنها ثم اكتشافها وإبرازها في واقع الحال القائم إذا ما وجدت في أي فكر بنحو أو بآخر.

ويمكن الاستدلال على هذه الفائدة في حذف المشكلات الزائفة -والتي يمكن أن تتحقق بتوافر الاستخدام لمثل هذا المنهج في الرؤية- من خلال التحليل التجريدي لاستنباط المناطق والمضامين الخادمة للغرض المطلوب والتي تكمن في ثنايا بعض نصوص إقبال، والتي ذيَّل بها مراجعاته النقدية على العديد من الآراء والمذاهب والفلسفات المختلفة واتجاهاتها المتغايرة. وهذا التحليل التجريدي هو الافتراض المحوري في هذه الدراسة. والمقصود بالتحليل التجريدي هو إثبات الفكرة في عدد من العناصر الإيضاحية.

ولو بدأنا بالنتيجة النهائية التي يقوم عليها الاستنباط في تحديد عناصر المنهج، وهي المسمى الملائم لهذا المنهج، لكان –فيما هو أقرب للحقيقة– إمكان تسميته اصطلاحًا (بالمنهج الوقائعي النقدي المفتوح)، والذي هو تعادلية من ثلاثة أطر: (الإطار المعرفي –الإطار العقلي – الإطار المرجعي). وللتحليل والإيضاح فالأفضل ألَّا يتم تفسير كل كلمة في هذا المسمى الاصطلاحي على حده بمعزل عن مجمل عناصر المنهج إلَّا من ناحية شكلية فقط، وذلك حفاظًا على وحدة التصور الكلي لهذا المنهج.

عليه، يمكن صياغة عناصر هذا النهج فيما يلي:

أولًا: التصور الوقائعي (الإطار المعرفي)

وهو ملكة الاستيعاب العام؛ أي كل ما يرد إلى حيِّز الوعي وبالإدراك الذاتي ليكون العملية المعرفية لدى الإنسان. ونعني بكلمة (وقائعي) تحويل كل فاعلية منتجة إلى واقعة؛ أي يمكن إدارتها بصورة علمية وتوظيفها وإدارتها. وهو معنى مستوحى من مفهوم (الواقعة الذرية) atomic fact لدى مدرسة الذرية المنطقية في التحليل اللغوي المعاصر، ويطلق على ما يتألف حتمًا وبصورة حاسمة من عناصر ومتغيِّرات بينها علاقات بما لا يتجاوز نهائيًّا الحد الأدنى في الربط بين عنصرين فقط بعلاقة ما بينهما.

أما ما هو بمصطلح (وقائعي) في حدود التعرُّض لأولى خطوات المنهج الإقبالي -بالرغم من أن إقبالًا لم يستخدمه بذاته- مصطلح شارح لما اتجه إليه إقبال بصورة أساسية في مشروعه التجديدي لفهم الدين. وهو هنا لدى إقبال إلغاء للرؤية التشطيرية –أي جعل كل مجال شطرًا منعزلًا قائمًا بذاته ولوحده- لفعاليات وأنشطة الوعي الإنساني، والتي تقوم على الفصل بين الجزئيات التجريبية موضوع العلم والأحوال النفسية موضوع الاجتماع والخصوصيات الروحانية المتعالية موضوع الدين وغير ذلك من التقسيمات التي تندرج كلها وعلى اختلافها تحت الرؤية التشطيرية للوعي.

ومناهضة إقبال لهذه الرؤية عمومًا ودحضه لها في ثنايا معالجاته وتحليلاته النقدية هو ما قد يثبت لدينا أنه ينطلق من موقف يُوحي لنا بما يُمكن تسميته أو وصفه به على سبيل الاصطلاح بأنه (الرؤية الجشتالتية التامة)؛ وهذا على اعتبار أن الجشتالت Gestalt هي المفردة الألمانية التي تعني الشكل أو الهيئة أو الصيغة، والتي قد أصبحت علامة اصطلاحية وصفية لإحدى أهم مدارس علم النفس في الراهن المعاصر، حيث دلَّت على أن «الجشتالت هو الكل المتكامل، وليس مجرَّد مجموع للوحدات والأجزاء. فالخصائص العائدة لصيغة الكل تختلف عن مجموع خصائص الأجزاء التي يتألف منها هذا الكل»[1].

وعليه، فإننا نلمح حقيقة هذا الاتفاق الاصطلاحي لموقف إقبال بأنه (رؤية جشتالتية تامة) من دلالة قوله: «ولعلنا الآن في موقف يجعلنا ندرك معنى الآية: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}، فقد أدَّى بنا التفسير الدقيق لتعاقب الزمان –كما يتجلَّى في أنفسنا- إلى فكرة عن الحقيقة القصوى، هي أنها (ديمومة) بحتة يتداخل فيها الفكر، والوجود، والغاية، لتؤلف جميعًا وحدة متكاملة. ولا نستطيع إدراك هذه الوحدة إلَّا من حيث هي وحدة نفس متحققة الوجود محيطة بكل شيء، هي الينبوع الأول لكل حياة فردية، وكل فكر فردي»[2].

وإقبال بهذا القول إنما يشمل العناصر الجدلية الفلسفية الثلاثة: (الله، والعالم، والإنسان)، فنجده –استجابة لهذا الموقف المعرفي الذي فرضه- يعقد الصلة بين «الذات الإلهية من جانب، والإنسان والعالم الواقعي من جانب آخر. يريد أن يزاوج بين (الواقعية) و(الروحية). يريد أن يحول الصوفية الإشرافية إلى زهد فجر الإسلام، فيبعد منها الفرار من الدنيا، وينحي منها الاتحاد بالله. ويريد أيضًا أن يحول الواقعية الحديثة التي جعلت للإنسان سلطانًا على قوى الطبيعة لم يسبق إليه –ولكنها سجّلت إيمانه هو بمصيره- إلى واقعية تصل الإنسان بأعماق وجوده إلى الله، حتى لا يكون حبه للمال حبًّا طاغيًا يقتل كل ما فيه من نضال سام شيئًا فشيئًا، ولا يعود عليه منه إلا تعب الحياة»[3].

وفي هذا الإطار، ليس هناك من شك لدى إقبال أن نظريات العلوم الطبيعية تفيد معرفة موثوقًا بها؛ لأنه يمكن التحقُّق من صدقها، ولأنها تمكَّنت من التنبؤ بالحوادث الطبيعية ومن التحكم فيها. ولكن ينبغي ألَّا ننسى أن ما نسميه (العلم) science ليس نظرة واحدة منسقة للحقيقة؛ بل هو مجموعة من النظرات الجزئية للحقيقة، أو هو عبارة عن اتجاهات مختلفة من تجربة كلية لا تظهر منسجمة بعضها مع بعض. فالعلوم الطبيعية تبحث في المادة وفي الحياة وفي العقل، ولكن إذا قُدِّم سؤال عن كيفية العلاقة المتبادلة بينها جميعًا حينئذٍ تظهر جزئية العلوم المختلفة التي تتناول البحث فيها، وتعجز كل واحدة منها عن الإجابة بمفردها عن السؤال المطروح[4].

ومن الممكن أن تتجلَّى لدينا أهمية وقائعية إقبال في الرؤية الجشتالتية التامة وفائدتها في حذف المشكلات الزائفة التي تنتج بالضرورة عن الرؤية التشطيرية، ذلك من خلال مقابلتها للجشتالت الجزئي الناقص على نحو ما طرح في الفلسفة اليونانية القديمة والتي أفضت أثرها السالب على وعي المسلمين على حد تعبيره: «أن الفلسفة اليونانية مع أنها وسعت آفاق النظر العقلي عند مفكري الإسلام غشت على أبصارهم في فهم القرآن»[5].

وقد أعطى إقبال إيضاحًا لتلك الرؤية الجشتالتية الناقصة في مثال الفكر اليوناني بقوله: «كان سقراط يقصر همّه على الإنسان وحده. وكان يرى أن معرفة الإنسان معرفة حقه إنما تكون بالنظر في الإنسان نفسه، لا بالتأمُّل في عالم النبات والهوام والنجوم. وما أشد مخالفة هذا لروح القرآن الذي يرى في النحل على ضآلة شأنه محلًّا للوحي الإلهي، والذي يدعو القارئ دائمًا إلى النظر في تصريف الرياح المتعاقب، وفي تعاقب الليل والنهار والسحب، والسماء ذات النجوم، والكواكب السابحة في فضاء لا يتناهى. وكان أفلاطون وفيًّا لتعاليم أستاذه سقراط فقدح في الإدراك الحسي؛ لأن الحس في رأيه يفيد الظن ولا يفيد اليقين.

وما أبعد هذا القول عن تعاليم القرآن الذي يعد (السمع) و(البصر) أجل نعم الله على عباده، ويصرح بأن الله جل وعلا سوف يسألهما في الآخرة عما فعلا في الحياة الدنيا. وقد فات هذا الأمر المتقدمين من علماء الإسلام الذين عكفوا على درس القرآن بعد أن بهرهم النظر الفلسفي القديم، فقرؤوا الكتاب على ضوء الفكر اليوناني. ومضى عليهم أكثر من قرنين من الزمان قبل أن يتبيَّن لهم في وضوح غير كافٍ أن روح القرآن تتعارض في جوهرها مع تعاليم الفلسفة القديمة. وقد نجم عن إدراكهم هذا النوع من الثورة الفكرية لم يدرك أثرها الكامل إلى يومنا هذا»[6].

والحق أنه بمجرد التناول لمفهوم الدين والإعلان به مديرًا معرفيًّا مانعًا لظهور أنواع المشكلات الزائفة في الفكر الإنساني، فإننا نكون مواجهين بسؤال بارز هو: أن الدين يفرض بالضرورة (الغيب) من ضمن سياقه العام وأن القرآن مليء بآيات الغيب جنبًا إلى جنب مع آيات العالم المشهود وآيات الإرشاد والسلوك والفعل، فكيف يمكن لمن لا يدرك أن يحكم على ما هو مدرك شهودًا وحسًّا؟ وللإجابة عن هذا السؤال نستخدم استشهاد إقبال بقول استيفن هوكينج St.Hawking (1942م) والذي يعد من أبرز علماء الفيزياء النظرية بعد أينشتاين A.Einstein (توفي 1955م) –وهو ملحد تقريبًا- حيث ذكر: «إذا حدث مرة في لحظة من اللحظات من لحظات يوم غافل طويل من أيام نفس ما لو كانت نفس ولي أن نزل وحي ليطوي حياته وحياتنا في مسالك جديدة، فلا يكون هذا ممكنًا إلَّا لأن هذا الوحي قد سمح لروحه أن تغزوها الأبدية في أكمل صور تحققها، ومثل هذا الوحي يعني من غير شك استعدادًا لا شعوريًّا، ورنينًا لا شعوريًّا كذلك. ولكن امتداد خلايا الهواء التي لم تستنشق بعد لا يعني أننا انقطعنا عن تنفس الهواء، بل يعني عكس هذا تمامًا»[7].

ولهذا يمكننا القول: إن إقبال أراد أن يعتمد آيات الغيب -ربما ضمنًا- وليس تصريحًا بأن القرآن كله سياق واحد كلي متكامل، وكل آية فيه بحروفها وألفظها واتصالها ووقفها لها دور أساسي متمم لهذا السياق القرآني الكلي سواء علمنا نحن معناها أم لم نعلم، فكل لكل كلمة في كل أية في السياق القرآني العام نما هي أحجار زاوية في بناء كامل يشدّ بينها وبين بعضها علاقات ضرورية منحتها تلك الوظيفة والأهمية، حتى إذا ما حذفت من السياق القرآني كما هي واردة فيه أو استبدلت فإنه لا يعود في مجمله قرآنًا. والمعجز هنا هو العلاقات السياقية الرابطة للعلامات الدلالية في النصوص القرآنية بحيث أن هذه العلامات signs إذا وردت في أي سياق آخر خارج السياق النصي القرآني تتحول إلى علامة عادية لا مفعول معجز لها.

وعلى هذا النحو يصبح لآيات ومفردات الغيب وما تدل عليه في القرآن الكريم فائدة حاسمة في تدوير وتتميم السياق القرآني العام والكلي حتى وإن علمناها فقط بظاهر المعنى وجهلنا دلالاتها الحقيقية، وسواءً منها ما كان مرهونًا معرفتنا بها للتطور الزماني والعلمي اللاحق وأنه غير متوفر أو متاح لدينا في الراهن ولكنه ممكن في المستقبل، أو ما كان منها مكنونًا في علم الله تعالى دون سواه. إذًا فإن لآيات الغيب فعل وظيفي في السياق العام للقرآن، حتى إن آيات القرآن غير الغيبية تكتسب معها وظيفتها الكاملة في تأليف الرؤية الجشتالتية التامة وحذف الرؤية التشطيرية المولدة للمشكلات الزائفة.

ثانيًا: الفاعلية النقدية (الإطار العقلي)

وهو ملكة الحكم؛ أي ما يتوجه منطقيًّا –بعدما تكون معرفيًّا- نحو العقول الأخرى لإثبات ما هي عليه من حق أو زيف. والحق أن الفاعلية النقدية على النحو الذي تناولها به إقبال –دون تخصيص لديه لمصطلح (فاعلية نقدية)- إنما يبدو من شأنها اكتشاف أوجه القوة وإبرازها في المنظومات الفكرية والأطروحات المقدمة لمعالجة معوقات التقدم الإنساني، وبالتالي فهي بدورها تمثل فائدة بارزة في الإفصاح عن أوجه وإمكانات التطور الكامنة فيها ومن ثم بناء الإدارة المعرفية عليها بتوجيه هذه المنظومات وإرشادها نحو الهدف السديد.

وسبب وصف المنهج النقدي لدى إقبال بالفاعلية النقدية هو اعتبار أن النقد هنا لا ينبع من أيديولوجيا معدة سلفًا، وإنما هو نشاط تحليلي يعمل على التوضيح والكشف. ولعله في هذا يكون متفقًا مع الاتجاهات الفلسفية المعاصرة نوعًا ما من حيث الطريقة لا سيما اتجاهات الفلسفة التحليلية. ويمكن تلمُّس عناصر هذه الرؤية النقدية وفق سياق محمد إقبال في منهج الفلسفة الظاهراتية (الفينومينولوجيا) Phenomenology من واقع قوله: «وأعني بالبرهان العقلي التفسير النقدي المجرد من مسلمات التجربة الإنسانية، وغايته على وجه عام الكشف عمَّا إذا كان تأويلنا يؤدي في النهاية إلى حقيقة تماثل نفس الحقيقة ألتي كشفتها لنا الرياضة الدينية»[8].

وفي هذا استفادة لإقبال من منهج (تعليق الحكم) الذي يعد الخطوة المنهجية الأساسية في فينومينولوجيا إدموند هوسرل E. Husserl (توفي 1938م) في النظر النقدي. وذلك لأن البرهان العقلي غير المتجرد عن المسلمات المستمدة من التجربة الذاتية أو الشخصية يسمح كثيرًا بتوليد رأي قاصر نحو الموضوع، ومن ثم يمثل الحكم عليه من هذه الزاوية نوعًا من المشكلات الزائفة؛ ذلك أن المشكلات الزائفة ليست تنشأ في الأساس في ميدان اكتشاف المعرفة ومضامينها العلمية وإنما في كيفية إدارة هذه المعرفة وتوجيهها.

ويمكن القول: إن الفكرة الأساسية التي يقوم عليها هذا الموقف أن لكل تجربة من تجاربنا شكلًا خاصًّا تقتضيه طبيعة الشيء الذي هي بصدد تناوله بحيث يكون في وسع الفرد وهو يحلل بنية تجربة معينة الوصول إلى خطاب قابل لأن يجيب على التساؤلات المطروحة حول الشيء المذكور.

ومن هنا فإن المنهج الفينومينولوجي ينحصر في وصف الظاهرة، أي ما هو معطى مباشرة، من هذه الجهة يتم غض النظر عن العلوم الطبيعية وعدم لفت الانتباه إلى نتائجها وبهذا يتم إسقاط التحيز إلى المذهب التجريبي، وبنفس القدر يتم صرف النظر من جهة أخرى عن تقديم نظرية في المعرفة كخطوة أولى أو ابتدائية في الموقف الفلسفي وبهذا يتم إسقاط التحيُّز للمذهب المثالي بدوره.

وعليه، فإذا كان المقصود بالظاهرة هو ماهيات الأشياء على حقيقتها كما تبدو أمام الوعي وليس على أعراضها المتغيرة، فلا بد إذًا من وسيلة لتجريد الظاهرة عمَّا يعلق بها من عناصر حسية متغيرة، وأيضًا تجريدها عمَّا يمكن أن نلحقه نحن بها من أحكام تكوَّنت لدينا مسبقًا بصددها قبل أن نعاينها على الحقيقة، ولذلك تأتي خطوة تعليق الحكم epoche كخطوة منهجية أساسية في الفينومينولوجيا الهوسيرليانية –وما يمكن أن يتفق معها لدى إقبال- بأن يتم استبعاد الواقع المادي بمؤثراته في أدوات الإدراك الحسي -على نحو مفارقة ديفيد هيوم D. Hume (توفي 1776م) في الشكية التجريبية- من ناحية، واستبعاد المواقف المثالية في إصدار الحكم العقلي الأولي المسبق من ناحية أخرى، ويكون هذا الاستبعاد بوضع العالم بين قوسين وإخراجه من دائرة الاهتمام وعدم الحديث عن الظاهرة المادية بإزاحتها جانبًا وعدم إصدار حكم عليها، وذلك بهدف القضاء على الاتجاه الطبيعي بكل مظاهره المادية والوضعية والأنثروبولوجية والبايولوجية، فهي بهذا تعدُّ ظاهرة متعالية Transcendental أي خارج الإدراك ولا تصلح ذات دلالة إلَّا بعد حلولها في الشعور كتجربة حية Transcendence وعدم رؤية الظواهر في المكان بل رؤيتها في الزمان الذي هو صفة الشعور الداخلي[9].

وتعتمد قاعدة تعليق الحكم بصورة أساسية على ما يعرف بمبدأ (القصدية)، ويعني أن كل وعي هو وعي بشيء ما، بمعنى أن الوعي الإنساني يقصد في كل لحظة إلى موضوع معين يكون هو في هذه اللحظة في مركز انتباه الذهن ومليء الوعي، وهذا يعني عزل الموضوع القائم في الوعي في اللحظة المعينة عن باقي المؤثرات والأشياء الأخرى حول هذا الوعي والمحيطة به، فلا يمكنه إصدار حكم إلَّا على ما هو قائم فيه تلك اللحظة.

وما يؤكد هذه الفائدة الفينومينولوجية في منهج إقبال النقدي المجرد هو ما يفهم من قوله: «أما الدين فتجربة حية، ومشاركة واتصال وثيق»[10]. وهو أيضًا ما يؤيد الخطوة الأساسية الثانية في الفينومينولوجيا الهوسيرليانية وهي (البناء) أو (التكوين) وتعد هي المرحلة التي يظهر فيها الشعور كقصد متبادل مكون من قالب Noes يمثل الجانب النظري أو العقلي في الأنا الخالصة Transcendental Ego ومضمون Noeme يمثل الموضوع. ويتميَّز الشعور بأنه (يتَّجه نحو) أو (يمتد نحو)، وهذا ما عرف بقصدية الوعي[11] السابق الإشارة إليها.

وعلى هذا الأساس يمكن –إن جاز ذلك- وصف تقرير هوسرل الصريح، والضمني لدى إقبال، أن الشعور هو ذات وموضوع معًا بأنه خطوة موفقة بصدد حل المسألة الأساسية في الفلسفة، وهي العلاقة بين الوجود والوعي. وبناء على هذا لم يعد العقل عنصرًا خالقًا لمعاني جديدة وإنما هو عنصر استقبال وإدارة.

ولكن مع هذا لا يستفيد إقبال من هوسرل استفادة حرفية دون إضافة إبداعية، وإنما هو أضاف بعدًا كاملًا للنشاط العقلي النقدي في مرحلة (التكوين) من المنهج الفينومينولوجي، وهو ما يمكن استنباطه من حديثه حول الصلاة: «والواقع هو أن الصلاة يجب أن ينظر إليها على أنها تكملة ضرورية للنشاط العقلي لمن يتأمل الطبيعة. وملاحظة الطبيعة ملاحظة علمية تجعلنا على اتصال وثيق بسلوك الحقيقة، فنشحذ بذلك إدراكنا الباطني لشهود الحقيقة شهودًا أوفى.. فالصلاة إذًا، سواءً في ذلك صلاة الفرد أو صلاة الجماعة، هي تعبير عن مكنون شوق الإنسان إلى من يستجيب لدعائه في سكون العالم المخيف... وهي فعل فريد من أفعال الاستكشاف، تؤكد به الذات الباحثة وجودها في اللحظة نفسها التي تنكر فيها ذاتها، فتتبين قدر نفسها ومبررات وجودها بوصفها عاملًا محرّكًا في حياة الكون. وصور العبادة في الإسلام، في صدق انطباقها على سيكولوجية المنزع العقلي، ترمز إلى إثبات الذات وإنكارها معًا»[12].

وفي السياق ذاته يقول أيضًا: «والدين إذن –والعبادة بوجه خاص، ورياضة الصوفي في صلاته على وجه أخص- مصدر ضروري لمعرفة الإنسان، ولوقوفه على الوجود؛ على ما فيه من جزئيات، وعلى ما له من أصل عام وهو الحقيقة الكلية»[13]. هذا يمثل المعايشة الحقيقية للظواهر في العالم بما يمكن من إصدار حكم كلي مكتمل وواضح وسليم عليها.

ثالثًا: الحد الدلالي المفتوح (الإطار المرجعي)

يفيد ذلك ترك الانسياب الكوني يجري في مجراه بالنسبة لكل الأصناف والوحدات والمنظومات فكرية كانت أم عينية، دون الحد من سيلانها أو قطع الطريق أمامها بل فتح قنوات وطرق مثمرة أمامها.

ذكر محمد البهي في كتابه (الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي) عن إقبال أنه تحدث عن (مبدأ الحركة في الإسلام) وقصد به «ما في الإسلام من عوامل يواجه بها الإنسان تغيُّر العالم وتطوره. وهي في ذاتها مبادئ ثابتة ولكن يتخذ منها الإنسان عدته لملائمة نفسه وأحوال التغيُّرات المتتابعة في عالمه المادي الواقعي. والإنسان هنا هو الفرد والجماعة على السواء. والإسلام بالنسبة لهما حقيقة واحدة»[14].

وهذا بالضبط ما يدل عليه المعنى الاصطلاحي (للحد المفتوح)، أي إن الدمج بين السياق النصي للقرآن الكريم والكون الممتد إنما هو تعبير عن تيار منساب ومفتوح الأفق دون انتهاء ولكنه يجري في داخل حد أو قناة توجه سيره بين جانبيها لتكون السياق الإطاري للنص.

وفي هذا الصدد يقرر إقبال: «الإسلام بوصفه حركة ثقافية، يرفض ما اصطلح عليه القدماء من اعتبار الكون مارًّا ثابتًا، ويصل إلى رأي يقول بأنه متحرك متغيِّر. والإسلام بوصفه نظامًا عاطفيًّا يقول بوحدة الكلمة ويدرك قيمة الفرد، من حيث هو فرد، ويرفض اعتبار قرابة الدم أساسًا لوحدة الإنسانية. فقرابة الدم أصلها مادي مرتبط بالأرض ولا يتيسر التماس أساس نفساني بحت لوحدة الإنسانية إلَّا إذا أدركنا أن الحياة الإنسانية جميعًا في روحية في أصلها ومنشئها»[15].

وبهذا جمع إقبال في تصوره الحدي المفتوح الدلالة –إن جاز لنا الوصف- بين تيارين فلسفيين متوازيين أحدهما التجريبية الجزيئية، والتالية العقلية التجريدية. ومن ثم رفض أن تكون الثقافة الإسلامية قد تشكَّلت حكرًا على أحد هذين الأصلين دون الآخر:

«فأول نقطة هامة نلاحظها في روح الثقافة الإسلامية هي أنها -في سبيل الحصول على المعرفة- تجعل المحسوس المتناهي نصب عينيها. وواضح كذلك أن ظهور منهج الملاحظة والتجربة في الإسلام لم ينشأ عن توافق بين العقل الإسلامي والعقل اليوناني، بل كان راجعًا إلى صراع عقلي طويل المدى. والواقع هو أن اليونان الذين وجهوا جل عنايتهم إلى النظري المجرد دون الواقع المحسوس –كما يقول بريفولت- اتجه تأثيرهم على الأكثر إلى حجب أنظار المسلمين عن فهم القرآن، ووقف حائلًا بين المزاج العربي العملي وبين إثبات وجوده واستقلاله خلال قرنين من الزمان على الأقل. ولهذا فإني أود أن أستأصل تلك الفكرة الخاطئة التي تزعم أن الفكر اليوناني شكل طبيعة الثقافة الإسلامية»[16].

وقد أيَّد مذهبه هذا بإقراره للتدرج الطبيعي في تكوين التجربة المعرفية: «إن المعرفة يجب أن تبدأ بالمحسوس، وقدرة العقل على تحصيل المحسوس وسلطانه عليه هو الذي ييسر له الانتقال من المحسوس»[17].

وقد يرى إقبال أن إثبات هذا الحد الدلالي المفتوح كخاصية متفردة للمعتقد الإسلامي أنه يبدأ من التعرف على بذور المذهب التاريخي في القرآن الكريم حيث إن الأحكام التاريخية العامة الواردة فيه هو الضامن لانسياب معرفي متوافق مع انسياب كوني يخلو من المشكلات الزائفة باعتماده على طبيعة السياق القرآني كمرشد وحاكم وموجه.

وعلى المستوى ذاته يؤكد إقبال أن دمج الأقطاب المتوازية هذه في الوحدة العقدية الإسلامية إنما يتبع بالضرورة لما يمكن التعبير عنه اصطلاحًا (بالديناميكية التطورية التحولية) والتي تُطابق بين الكون المتغيِّر والمتقدِّم باستمرار وبين المرونة الدلالية للنص القرآني، فقال إقبال: «وهكذا فإن جميع خطوط التفكير الإسلامي تتَّجه إلى تصور الكون متحركًا متغيرًا. ولهذا التصور دعامة أخرى في نظرية ابن مسكويه عن الحياة بوصفها حركة تطورية، وفي رأي ابن خلدون في التاريخ»[18].

ثم يسترسل في هذا السياق في موضع آخر: «إننا نرحب من أعماق قلوبنا بتحرير الفكر في الإسلام الحديث، ولكن ينبغي لنا أن نقرّر أيضًا أن لحظة ظهور الأفكار الحرة في الإسلام هي أدق اللحظات في تاريخه. فحرية الفكر من شأنها أن تنزع إلى أن تكون من عوامل الانحلال، وفكرة القومية الجنسية التي يبدو أنها تعمل في الإسلام العصري أقوى مما عرف عنها من قبل قد ينتهي أمرها إلى القضاء على النظرة الإنسانية العامة الشاملة، التي تشربتها نفوس المسلمين من دين الإسلام. أضف إلى هذا أن زعماء الإصلاح في الدين والسياسة قد يجاوزون في تحمسهم لتحرير الفكر الحدود الصحيحة للإصلاح إذا انعدم ما يكبح جماح حميتهم الفتية»[19].

وقد استشهد في هذا بإجابة هورتن Horten المستشرق المعاصر وأستاذ فقه اللغات السامية بجامعة بون على السؤال: هل شريعة الإسلام قابلة للتطور؟ حيث أجاب: «إن روح الإسلام رحبة فسيحة بحيث إنها لا تكاد لا تعرف الحدود، وقد تمثّلت كل ما أمكنها الحصول عليه من أفكار الأمم المجاورة، فيما عدا الأفكار الملحدة، ثم أضفت عليها طابع تطورها الخاص»[20].

وقد قدَّم إقبال دعمًا لهذا السياق بإشارته إلى الجدل العلمي الذي أحدثته نظرية أينشتاين النسبية Einstein theory of relativity بأن: «نظرية النسبية التي أدمجت الزمان في (الزمان الكلي)، قد زعزعت معنى (الجوهر) كما اصطلح عليه السلف، أكثر مما زعزعه جدل الفلاسفة كله. فالمادة للإدراك العادي –وهو الإدراك الفلسفي القديم- شيء يلبس في زمان ويتحرك في مكان، ولكن النسبية في الطبيعيات لا تقر هذا الرأي. فالقطعة من المادة ليست شيئًا ثابتًا له أحوال متغايرة، بل أصبحت مجموعة حوادث مرتبطة بعضها ببعض وبهذا ذهبت صلابة المادة التي قيل بها قديمًا، وذهبت معنى الخصائص التي كانت تجعلها تبدو في نظر المادي شيئًا أقوى في حقيقته من الأفكار التي تجول في العقل. وعلى هذا، فالطبيعة –طبقًا لرأي الأستاذ هوايتهد Whithead– ليست شيئًا قارًّا يقوم في خلاء لا حركة فيه، بل لها خصيصة التدفق والإيجاد الدائمين. غير أن الفكر يقطع هذا التركيب إلى أشياء ساكنة، منعزلة بعضها عن بعض، وينشأ عن علاقة بعضها ببعض تصور المكان والزمان»[21].

ويمكن لنا القول –على صعيد آخر في هذا المحور-: إن كل المجالات الإنسانية للجمع أو التوفيق بين الإطلاق اللانهائي للوجود وبين رسم الحد المعرفي الضامن للوعي الحقيقي والصادق به قد باءت بالاتهام بالقصور والنقص في أوجه ما من بحوثها. وكمثال لذلك أشار إقبال إلى قصور المنطق الأرسططاليسي عن الإيفاء بالمتطلبات العصرية للقياس syllogism المستعمل في أصول الفقه، وهو استخدام الدليل على التشابه في التشريع. فقال: «فسير الحياة المتشابك المعقد لا يمكن أن يخضع لقواعد مقررة جامدة تستنبط استنباطًا منطقيًا من أفكار عامة معينة، ولو نظرنا إلى سير الحياة بمنظار المنطق الأرسططاليسي لبدا آليًا بحتًا ليس له في ذاته أصل يبعث فيه الحياة والحركة»[22].

وهنا لا مناص من القول بأن إقبال قد وضع يديه على منهج فيتجنشتاين L. Wittgenstein (توفي1951م) الفيلسوف التحليلي المعاصر، في كتاباته المتأخرة ولو بنحو غير مباشر كما حدث مع سلفه أدموند هوسرل، حيث ذهب فيتجنشتاين في مجمل آرائه[23] إلى أن الاستدلال على صحة الأحكام إنما لا يتبع لقوانين منطقية ورياضية مطلقة ومعلقة في الهواء، وإنما هي أمور تتشكل بحسب التعدُّد اللامحدود لأنماط وأشكال وطرق الحياة للمجموعات الإنسانية شعوبًا وقبائل والتي تختلف في استخدام آليات العقول والتداول اللغوي على مستوى الحياة المركبة لكل منها والتي مرت بأطوار من التراكم والتحول منذ الأعماق البعيدة للتاريخ، ولكنها تتكامل في الأصل الإنساني العام. فالأصل واحد ولكن التركيبات المعقدة لأشكال الحياة في تفاصيلها المتعددة تحتاج إلى أكثر من مجرد مراعاة هذا الأصل فحسب في الحكم على أفعال وأقوال الإنسان الراهن بل لا بد من اعتماد الأنماط المنطقية المرنة والتي تستوعبها كل طريقة في الحياة بحسب نوعها ومزاجها الوجودي الجمعي الخاص.

وامتدادًا لهذا السياق، فإن هذه التعادلية المتولدة عن موقف إقبال الفكري والتي أسميناها بالحد الدلالي المفتوح تستوعب من جهة ضروب وألوان المشكلات الزائفة المنشأة عن الرؤى التشطيرية والمتحيّزة بأنه لا داعي لنشوئها أصلًا.

ومن جهة أخرى، ترد على المحاولات المنهجية الساعية إلى تحرير الحياة الإنسانية عن أي عقال لها وإطلاقها عن أي نوع من أنواع الحدود أو الضوابط الملزمة –حتى ولو كان الإسلام- بدعوى أن هذا ضرب من ضروب الوضعية المحجمة للطاقة الإنسانية.

ونموذج الرد على ذلك، ما يعتبر من مواقف إقبال الفكرية مواجهًا لدعاوى مدرسة فرانكفورت النقدية المعاصرة ضمن واتجاهات ما بعد الحداثة، وذلك حيث يجمع النقد لدى إقبال بين تجاوز الوضعية وبين تحديد أهداف للنقد المنطلق أو المفتوح، وذلك لا يحدث إلَّا في إطار النص القرآني حيث السقف المفتوح للدلالات فيه ولكنها في الوقت ذاته مضروب حولها بظاهر النص كقناة للسير وليس قفل للطريق.

واستنارة إقبال هي ما دفعته إلى القول في مقدمة كتابه (تجديد الفكر الديني في الإسلام): «كلما تقدَّمت المعرفة، وفتحت مسالك للفكر جديدة، أمكن الوصول إلى آراء أخرى غير تلك التي أثبتها في هذه المحاضرات، وقد تكون أصح منها. وعلى هذا فواجبنا يقتضي أن نرقب في يقظة وعناية تقدم الفكر الإنساني، وأن نقف منه موقف النقد والتمحيص»[24].

وكذلك قال في ذات السياق الصالح كرد مجمل على أطروحات ما بعد الحداثة: «أما المسلم فإن له هذه الآراء النهائية القائم على أساس من تنزيل يتحدث إلى الناس من أعماق الحياة والوجود، وما تعني به هذه الآراء من أمور خارجية في الظاهر يترك أثره في أعماق النفوس. والأساس الروحي للحياة عند المسلم هو إيمان يستطيع أقلُّنا استنارة أن يسترخص الحياة في سبيله. وبما أن القاعدة الأساسية في الإسلام تقول: إن محمدًا خاتم الأنبياء والمرسلين، فإنه ينبغي أن نكون من أكثر شعوب الأرض في الحرية الروحانية، والرعيل الأول من المسلمين الذين تخلَّصوا من الرق الروحي في آسيا الجاهلية لم يكونوا بحيث يستطيعون إدراك المعنى الصحيح لهذه القاعدة الأساسية، فعلى المسلم اليوم أن يقدر موقفه، وأن يعيد بناء حياته الاجتماعية على ضوء المبادئ النهائية، وأن يستنبط من أهداف الإسلام التي لم تتكشف بعد إلَّا تكشفًا جزئيًّا، تلك الديمقراطية الروحية التي هي منتهى غاية الإسلام ومقصده»[25].

والقول الفصل في هذا: «إن الإنسانية تحتاج اليوم إلى ثلاثة أمور: تأويل الكون تأويلًا روحيًّا، وتحرير روح الفرد، ووضع مبادئ أساسية ذات أهمية عالمية توجه تطور المجتمع الإنساني على أساس روحي. ولا شك في أن أوربا في العصر الحديث قد أقامت نظمًا مثالية على هذه الأسس، ولكن التجربة بيَّنت أن الحقيقة يكشفها العقل المحض لا قدرة لها على إشعال جذوة الإيمان القوي الصادق، تلك الجذوة التي يستطيع الدين وحده أن يشعلها. وهذا هو السبب في أن التفكير المجرَّد لم يؤثر في الناس إلَّا قليلًا في حين أن الدين استطاع دائمًا أن ينهض بالأفراد ويبدل الجماعات بقضها وقضيضها وينقلهم من حال إلى حال»[26].

من ثم يمكن أن يحيلنا إلى الإمكانات والاتجاهات التطبيقية التي يمكن أن تستفاد من هذا المنهج في كشف وإزالة زيف بعض المشكلات على مستويات متعددة.

تطبيق حذف المشكلات الزائفة استنادًا إلى مرجعية منهج إقبال

يمكن تلخيص مواقف المشكلات الزائفة على أنواعها إلى اتجاهين أساسيين:

الاتجاه الأول، هو نتاج الوعي الغربي القائل بأن الأصل هو أن الروح في خدمة الطبيعة. والاتجاه الثاني، هو نتاج الوعي الشرقي القائل بأن الأصل هو أن الطبيعة في خدمة الروح.

هذا مع ملاحظة أن أوجه الحق في كلا الاتجاهين لا يمكن إلغاؤها، ولكن المقصود هو ما ينشأ عن الاقتصار والتحيُّز فقط إلى اتجاه واحد دون الآخر مما يفقد النظرة الكلية والتي هي الحقيقة الواقعية المطلوبة، ومن ثم تنشأ مشكلات ليست هي بمشكلات أصلًا إذا تحقَّقت لدينا الرؤية الكلية.

أولًا: اتجاه الوعي الغربي

لعله يمكن ملاحظة أو استنباط حكم معين بصدد المقارنة لأنماط الميثولوجيا بصورة موجزة، فيكون ذلك بالإشارة إلى أن الافتراضات التي يمكن أن تؤدي إلى الكشف عن الخط المنهجي في التفكير الغربي في مجمله حتى الراهن المعاصر، بحيث يبدو كعرض تتكامل فيه الأدوار في وصل ماضيه بحاضره واستشراف مستقبله. في هذا الصدد يمكن إجراء الوصف المقارن بأن الميثولوجيا الشرقية كانت هي تلك الأحوال الفكرية التي عاشتها الحضارات القديمة في مناطق الشام ومصر والعراق والشرق الأقصى وغيرها، فيما كان يقوم في مقابلها حضارات اليونان والرومان والجرمان.

هذا ويمكن الافتراض بأنه إذا كان ما يميّز الميثولوجيا الشرقية بصورة عامة هو أن الطبيعة فيها كانت قائمة لخدمة الروح بما تحمل من معاني التجريد والإطلاق، وتجاوز الحس التجريبي المباشر، ومخاطبتها ملكة الوجدان، وكانت هي الأساس في فاعلية طرق الحياة التي عاشها الشرقيون، وهي العنصر الثابت المهيمن فوق العنصر المتغيِّر وهو الطبيعة المادية والجسدية.

وقد أدَّى هذا الطابع للميثولوجيا الشرقية –على سبيل الملاحظة- إلى التقدُّم نحو مزيد من التفكير الروحاني بمرور الزمن مما أعلى بدوره مبدأ (وظيفية العلم)، أي العلم الطبيعي بقدر الحاجة وليس من أجل ذاته، الأمر الذي ساعد على الاتجاه نحو رهن الموضوع الفردي إلى الذات العامة وإعلاء القيم الأخلاقية كأساس مطلق وعام.

كما كان من نتائجه المنطقية الابتعاد عن تصنيف المجتمع ونظامه بنحو طبقي إلى سادة وعبيد، وما كان ذلك إلَّا بصورة وظيفية عرضية تتلاشى مع التقدُّم بطبيعة حالها. وقد كان هذا (الروح الشرقي) في مقابل (الوعي الغربي) الذي جعلت فيه الروح –من باب الملاحظة- في مرحلة الميثولوجيا المتقدِّمة فيما قبل ميلاد المسيح لدى هوميروس وغيره في خدمة الطبيعة، فكان ذلك بمثابة التمهيد الطبيعي والمقدمة الضرورية لظهور التفكير العلمي المنظم والانتقال إلى مرحلة الفلسفة والمنطق ومبدأ العلم من أجل العلم؛ أي العلم على إطلاقه دون اعتبار للجانب الوظيفي لديه.

الأمر الذي أدَّى إلى تحقيق التطور المطرد للعلم الكوني لدى الغربيين بنحو ما هو ثابت تاريخيًّا. غير أنه كان من سلبيات هذا الطابع للوعي أن أدَّى إلى تصنيف المجتمعات بنحو طبقي إلى سادة وعبيد بصورة متأصلة على أساس عرقي يزداد مع التقدم بنحو ما نجده في الفكر المعاصر لدى هيجل Hegel (توفي 1831م) ونيتشه Niezshe (توفي 1900م) وغيرهما. ولربما كان السياق العلمي كما نشأ لدى الغربيين هو المحقق لما عرف فيما بعد بأزمة العلم المعاصر[27].

ومن ذلك ما سبب في ظهور ما قد سلفت الإشارة إليه من الانتباه المعرفي والمنطقي لوجود مشكلات هي ليست من قبيل المشكلات ذات الحل أصلًا وبحسب الاقتصار على البعد التجريبي المادي في هذا الفكر الغربي (الأوروبي). وحتى وإن جنح البعض من فلاسفتهم إلى التأييد الروحاني الماورائي للأحداث والظواهر، إلَّا أن هذا التأييد يعود ويستمد شرعيته في النهاية مما يصيبه أو يحرزه من روابط معرفية بالوقائع المادية المحسوسة.

وعليه، فقد ظهر إجمالًا –بحسب هذا الوعي- أنواع من المشكلات الزائفة على كلا الجانبين، الجانب المادي التجريبي أو التجريدي الصرف على نحو ما نجده لدى الفلسفة التجريبية الإنجليزية والفلسفة التحليلية المعاصرة، والجانب الروحاني الماورائي الملتحم بروابط الشرعية المعرفية المستمدة من وقائع وظواهر العالم المادي مثل الاتجاهات الوجودية وما نحوها.

ولقد رأى إقبال من خلال منهجه التكاملي كيف أن الفكر الغربي كان دومًا في بحثه عن الحقيقة ينزع إلى التخصيص والغوص في أعماق اللحظة التي بين يديه والظاهرة التي بين يديه، فعندما يتناول الطبيعة فإنه يقصر الأمر على الطبيعة من حيث هي بحدودها الظاهرة وبواطنها مما يقبله الحس أو الاستدلال العقلي، والأمر في كلا الحلتين لديهم مما يمكن معرفته بنحو يُسهم في نمو التراكم المعرفي والعلمي بالعالم. وحتى إذا وقف بعضهم موقفًا معاديًا للحس -مثل أفلاطون- فإنه فقط إنما يفسح المجال إلى أداة معرفية أخرى غير الحس، وهي (الاستدلال العقلي)، وهو «التفسير النقدي المجرد من مسلمات التجربة الإنسانية»[28].

ويرجع بدوره إلى كونه مستمدًا في الأخير من واقع حال النظرة الجزئية وكيف أن الأمر كله يقتصر على ما يمكن معرفته ذاتًا وتفصيلًا، سواء بالحس والتجريب والاستقراء أو بالاستدلال العقلي والاستنباط. وفي كلا الحالين فالأمر ضعيف من الناحية الماورائية Metaphysics. يمكن القول: إنه حتى هذا الحد لم تظهر مشكلات زائفة بالمعنى الدقيق، وإنما هي حلول ناقصة على مشكلات موضوعية، ولكن ما قد ولّد المشكلات الزائفة هو الاتجاه نحو تخصيص الإنسان في حدود الطبيعة بنوع من البرهان العملي دون البرهان العقلي، فإنه يغرق في عالم الإنسان في حيّزه المدرك حسيًّا وحده مما أطاح به -جرَّاء الإفراط في هذا المنحى- إلى تيارات الوجودية والعدمية وإلغاء النظم والقواعد والقيم والمعايير[29].

فعلى مستوى الإنسان كذات وماهية، فقد سمح سوء استخدام المنطق بإدخال تصورات تشكيكية على نحو ما حدث عند انتشار المد الوجودي بتساؤلاته الارتيابية نحو العالم الإسلامي نقلًا عن أوروبا المتأثرة بنتائج الحربين العالميتين في مطلع القرن العشرين ومنتصفه. وكان من ضمن الأطروحات الوجودية تلك السؤال عن (العدم) Nothingness كماهية وجعله صفة للحياة والفعل بما يقود إلى السؤال الكبير عن حال الإنسان عند البعث وحياة العالم الأخروي.

فالشاهد لديهم أن جوهر الإنسان هو حرية الاختيار بين البدائل، والدليل الوجودي على ذلك كون الإنسان يُخطئ ويُصيب، فمع كل صواب يحتمل الخطأ ومع كل خطأ يحتمل الصواب يتعاظم إحساس الإنسان بقيمة ومعنى وجوده. أما في العالم الأخروي فمع كل النعيم الافتراضي فيه إلَّا أنه منتهى عذاب الإنسان وألمه الوجودي، وذلك أن قيمة قدرة فعل الشر لديه وامتناعه عنه بمحض إرادته واختياره سوف تنتهي قصرًا في ذلك العالم الأخر حيث لا يمكن للإنسان في الجنة أن يأتي باختيار لفعل الشر؛ أي إنه مُسيَّر ومقهور إلى فعل الخير وحسب. بينما في الحياة الدنيا التي يعيشها الإنسان فهو مختار في أن يفعل أو لا يفعل.

وهذا الاختيار هو الجوهر الأصيل للإنسان، فيدخلون الأمر بذلك في حيّز البرهان المنطقي عبر قياس إحراجي مؤداه أن الاستدلال ينحصر في افتراضين اثنين كلاهما يؤدّي بالضرورة إلى النتيجة ذاتها، فإما أن يموت الإنسان ثم يبعث على حاله وبشريته وحقيقة ماهيته المشروطة بالقدرة الحرة على إثبات الخير أو إثبات الشر، فلا يستطيع أن يوافق بفطرته هذه مقتضى الحياة الأخروية التي تفرض طريقًا أحاديًّا لا اختيار له فيه، فيكون الإنسان بذلك في أقصى العذاب وهو الألم الوجودي بالإحساس بفقدان قيمة الذات وجوهرها.

كما أنه ليس من ثمة موت آخر في ذاك العالم ليرتاح به؛ إذ ليس لديه حق اختيار الانتحار وإنهاء الحياة بيديه وبمحض إرادته، بل ويفضل عليه بذلك الذي أدخل جهنم حيث ينشغل فيها بالألم الجسدي جراء حريق النار على جلده عن إحساسه بالألم النفسي بفقدانه قيمة ذاته. وإما –وهو الافتراض الاستدلالي الآخر- أن يحدث تتحولًا ماهويًّا في حقيقة الإنسان وفطرته حين البعث، ليكون بذلك من بعث بعد الموت للعالم الأخروي هو شخص آخر غير ذاك الذي عاش الحياة الدنيا ومات وفني إلى الأبد ولن يعود. وكلا الافتراضين في القياس نتيجته سالبة وتحث على الإغراق في الحياة الدنيا باعتبارها المجال الوحيد في رأيهم المتضمن لإحساس الإنسان بقيمة ذاته.

ولعل الرد الحاسم على هذه المشكلة الزائفة يجيء متوافقًا مع منهج إقبال وفق حدوده المؤدية إلى الجمع الكلي والتكاملي بين (البرهان العملي) و(البرهان العقلي)، فالرد الحاسم بهذا إذًا على هذه الحجة الوجودية بأنها مشكلة زائفة إنما يكون بالحجة الوجودية ذاتها. فأولًا، لا يكون (العدم) إلَّا مردودًا لغويًّا لكلمة (وجود) وليس له ماهية بذاته سلبًا للوجود. فالوجود هو فقط ما يمكن الإشارة إليه كعيان محقق مدلولًا عليه بلفظه (يكون)، أما العدم فلا يمكن الإشارة إليه أصلًا ناهيك عن التناقض المنطقي عند الإشارة إليه (بالعدم يكون...). إذًا، فالعدم مجرد سحب لصفة وخاصة الكينونة لدى الكائنات، ولا يكون بذاته كائنًا.

وثانيًا، فمن الثابت حتى على مستوى المشاهدة اليومية العادية أن الإنسان يكتشف في ذاته مع كل حدث جديد يتعرَّض له ما لم يكن يعلم عنها. وهكذا تنمو خبرة الإنسان بذاته مع نمو خبرته بالعالم من حوله، والإنسان لا يدري ولا يمكنه التنبؤ بمدى ما يمكن أن تبلغه قدراته مع حالة الخوف الشديد أو الغضب الشديد. وهكذا فالإنسان في حالة اكتشاف دائم لذاته مع تجدد المواقف والأحداث، وأن الإنسان بهذا هو مشروع دائم ومستمر لا يتوقف أو يكتمل إلَّا بموته.

وبالمنطق ذاته لا يكون بمستغرب ولا بمشكل أن معرفة الإنسان وكشفه عن العالم الأخروي كحدث جديد بما فيه مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، هو في الآن نفسه كشف جديد ومعرفة جديدة لذاته وقدراته وردود أفعاله وإمكاناته التي لم يكن يعلمها عن نفسه من قبل. وهذا يؤكد أن التجارب بأنواعها –وليس بالنوع المادي فقط- هي ما يولد المعارف لدى الإنسان عن عالمه وعن نفسه في الوقت ذاته. والإشارة إلى هذا في القران الكريم قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا}[30].

ولقد أشار إقبال في بُعدٍ آخر من أسباب نشوء هذه المشكلة الزائفة إلى الآية الكريمة: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ}[31] فقال: «مكابدة هذا النوع من الوحدة البيولوجية المتضمنة في هذه الآية يحتاج إلى طريقة أقل عنفًا من الناحية الفسيولوجية، وأكثر ملائمة من الناحية النفسية لهذا الطراز من العقل الواقعي، فإن عدمنا مثل هذه الطريقة تصبح الحاجة إلى وضع المعرفة الدينية في صورة علمية أمرًا طبيعيًّا»[32].

وتفسير ذلك أن العنف الفسيولوجي الذي أشار إليه إقبال إنما يشغل النفس عن التأمُّل الخلَّاق، ومضمون الآية المستدل بها هنا –وفق إقبال- يُشير إلى التفاعل والتجاذب النفسي بين العناصر المتعددة في إطار الكل. أما العنف الفسيولوجي فيفصل المناطق بعضها عن بعض ومن ثم يغترب الإنسان عن نفسه بألَّا يشعر بما فيها وما لديها على وجه الحقيقة.

ثانيًا: اتجاه الروح الشرقي

وهذا الاتجاه الثاني، فهو القائم في مناطق الفكر الشرقي والذي ينطلق في مختلف تياراته من اعتماد الروح –وهي أمر غيبي- كأساس وهدف تنقاد في سبيله الطبيعة وتظل دونه حتى تتلاشى فيه، ولا وتقيم فائدتها –أي الطبيعة والأدوات المعرفية عليها- إلَّا بقدر اقترابها من الروح. تلك التي يستلزم إدراكها والكشف عنها أدوات معرفية ومنطقًا مغايرًا لما للطبيعة والحس، ومن هذه النقطة بالضبط؛ أي نقطة الأداة المعرفية لإدراك الروح والمنطق العرفاني، هو ما ولَّد عددًا من المشكلات لا تحل بإجابات حاسمة ولا ينقطع فيها وحولها الجدال.

وسواء كانت هذه المشكلات نتاج الإفراط التجريدي في إعمال (الحركة العقلية) بما قدَّمه الفلاسفة والمتكلمون في الإسلام، أو كانت نتاجًا لإعلاء الحدس المباشر والذوق غير الممكن البرهنة عليه منطقيًّا وتعميمه حسيًّا كما لدى الصوفية ومذاهبهم.

فإن كلاهما قد اشترك في المبدأ العام بأن الطبيعة والمادة في خدمة الروح وهادفة إليها وما اقتضى ذلك من وسائل إدراكية ومعرفية ملائمة له، الشأن الذي يركز ويوجه الانتباه والبحث نحو زاوية للحكم دون أخرى، فيخرج الحكم على الظواهر والأحداث وفقًا لهذه الزاوية فعليًّا من هذا الجانب ولكنه مفتقرًا إلى جوانب أخرى.

وهذا مكمن نشوء المشكلات الزائفة حيث لا تتوفر الرؤية الكلية الشاملة والحقيقية لدعم الأحكام والبراهين. يقول إقبال: «إننا نعرف جميعًا أن الحركة العقلية التي ظهرت في الإسلام في صدر الدولة العباسية وما أثارته من خلافات مريرة. خذ مثلًا مسألة الخلاف الخطير بين الفريقين، حول رأي أهل السنة في قدم القرآن، فقد أنكر العقليون هذا الرأي لأنهم ظنوا أنه ليس إلَّا صورة أخرى لعقيدة المسيحيين في قدم (الكلمة).

ومن ناحية أخرى فإن أهل السنة –وقد أيدهم كل التأييد رجال الدولة العباسية في أواخر عهدها تخوفًا مما يسفر عن آراء العقليين من نتائج سياسية- كانوا يرون أن العقليين بإنكارهم القرآن يقوّضون دعائم الجماعة الإسلامية. خذ مثلًا النظام فقد كان ينكر الأحاديث وصرَّح بأن أبا هريرة لم يكن ثقة في روايته. وهكذا فإن عدم البواعث من غير الحقيقة للحركة العقلية من ناحية، ومغالاة بعض العقليين في أفكارهم من غير قيد من ناحية أخرى، جعل أهل السنة يعتبرون هذه الحركة عاملًا من عوامل الانحلال، ويعدّونها خطرًا على استقرار الإسلام من حيث هو دستور اجتماعي. فكان قصدهم الرئيسي هو الإبقاء على الوحدة الاجتماعية الإسلامية، ولم يكن من سبيل لتحقيق ذلك إلَّا استخدام ما للشريعة من قوة مقيدة ملزمة، والاحتفاظ ببناء نظامهم التشريعي على أدق صورة ممكنة. ثم كانت نشأة التصوف التزهُّدي ونموه متأثرًا في تطوّره التدريجي بطابع غير إسلامي، وهو جانب نظري بحت، فكان مسؤولًا إلى حد كبير عن هذا الاتجاه، وقوي في شطره الديني البحت نوعًا من التمرد على تخريجات الفقهاء المتقدمين.

وخير مثال على هذا سفيان الثوري، فقد كان من أدقّ الفقهاء في عصره وأوشك أن يضع مذهبًا في الفقه. ولكن فرط روحانيته وعقم الجدل الفقهي في عصره جعلاه يولّي وجهه شطر التصوف، والتصوف في جانبه النظري الذي تطور فيما بعد كان صورة من التفكير الحر على وفاق مع الحركة العقلية، وخلق بإصراره على التفرقة بين الظاهر والباطن نزعة من عدم اللامبالاة بكل ما يتصل بالظاهر دون الباطن. وهذه الروح التي تتضمن الانصراف التام إلى عوالم أخرى، وهي الروح التي طبع بها التصوف في عصوره الأخيرة حجبت أنظار الناس عن ناحية هامة من نواحي الإسلام بوصفه دستورًا اجتماعيًّا، كما أن إفساحه في المجال لتفكير طليق في شطره النظري قد اجتذب إليه خير العقول في الإسلام وأشربها في النهاية روحه. وبهذا أصبحت دولة الإسلام على وجه العموم في قبضة رجال مقاربين... ولم يجد جمهور المسلمين من غير المفكرين من هو خير من هؤلاء ليقودهم، فرأوا أن خير ضمان لهم هو إتباع المذاهب في تسليم أعمى»[33].

هذا القول يجسّد مظهر المشكلة أما عن أسبابها فيعطي إقبال النموذج التالي: «على أنه ينبغي ألَّا يفوتنا أن ألفاظ القرب والاتصال والافتراق التي تنطبق على الأجسام المادية لا تنطبق على الذات الإلهية، فوجود الله يتصل بالكون كله على مثال اتصال الروح بالبدن، والروح لا هي داخل البدن ولا هي خارجه، ولا هي قريبة منه ولا هي مفترقة عنه، ولكن اتصالها بكل ذرة من ذرات البدن حقيقة واقعة، ويستحيل أن نتصوّر اتّصالها هذا إلَّا إذا افترضنا نوعًا من مكان يوائم رقة الروح ولطفها. وعلى هذا فوجود مكان بالنسبة إلى الذات الإلهية لا يمكن أن ينكر وإنما ينبغي التحوّط في تعيين نوع المكان الذي يمكن أن يسند إلى ذات الله المطلقة»[34].

فبمراعاة كل مستوى من هذه الأمكنة لا يظهر الخلط فيما تحمله، إذ كلٌّ بحسب ما هو عليه من فطرة وحقيقة. إن الإفادة من المنهج النقدي الكلي والمتكامل لإقبال في رؤية وتفسير الظواهر والأحداث يعني ألَّا نستغرق في اللحظة المادية حتى نقع بالكلية في شكية لا خلاص منها، حيث يستوي فيها كل حكم بضده.

وكذلك ألَّا نستغرق في اللحظة الصوفية والذوق العرفاني المتجرّد عن العقل والتجربة الحسية إلى الدرجة التي نفقد معها الاتصال بواقع العالم والأشياء ونقع فريسة الخلط بين مكان الشهود ومكان الإله، وتفنى ذات الناسوت في ذات اللاهوت بنوع من الوهم الذي تتساوي فيه كل الأضداد والمتناقضات، بحيث يستحيل إثبات وصف لحقيقة ذوق صوفي أو نفيه سواء لدى المريدين والأتباع –والمقصود هنا على وجه التحديد الطرق والمذاهب والفرق الصوفية التي تتَّخذ أشكالًا وهيئات اجتماعية وليس المقصود الحالات الفردية السامية وأحوالها بينها وبين ربها- أو أمام الرافضين والممتنعين، وكلاهما يشهد حال صاحب ذاك الذوق الصوفي ويفسره بما يجده في هواه هو فالمريدين يؤمنون –ولا يثبتون- أن هذا الذوق والفناء حقيقة وحال صادق. والرافضين يدحضون –ولا يثبتون- هذا الذوق بزعمهم أنه نوع من الجنون العقلي أو الاحتيال العاطفي. وبهذا تستوي الحجة ونقيضها في مرتبة واحدة ولا قول ونهائي فصل.

واتجاه آخر في توليد أعظم المشكلات الزائفة في تاريخ الفكر الشرقي والإسلامي تحديدًا، وهو الاتجاه الكلامي التقليدي المعروف في حقبته التاريخية، حيث تحول الدفاع عن الإسلام إلى مجرد أساليب كلامية تُسرف في البرهان العقلي المجرد في تأويل آيات الغيب والذات والصفات وأطروحات القدم والحدوث للعالم وللنص القرآني المحفوظ مما لا يحسم الجدال والخلاف فيه لصالح طرف دون آخر، بل وينشأ عنه التشيع إلى فرق وطوائف ثم ليبلغ التعصب لها مداه إلى حد سفك الدماء وتكفير الأمة.

والواقع أن آيات الذات والصفات والغيب وما نتج عن الجدال فيها من دفوعات لتنزيه أو تجسيد وتشبيه ودعاوى لقدم أو حدوث، إنما مرده إما إلى الإفراط في البرهان العقلي التجريدي بحيث لا يقبل أي رأي من هذه الآراء المتناقضة التحقق الواقعي الحاسم للجدل في هيئة قوانين ومسائل العلم التجريبي. فلكل حجته المنطقية الصورية وبرهانه العقلي الصرف بما يكافئ حجة الطرف الآخر وبرهانه. وتظل هذه كبرى المشكلات الزائفة ولا حسم لها إلا بإزالتها ورفعها أصلًا من حيز الجدل، ليس لأن القرآن الكريم لم ينزل ليُعرف وإنما لتُعرف كل منطقة فيه بحسب وظائفها ودلالة دورها وحكمة ورودها في مجمل الكتاب.

ولعل هذا الرفع والإزالة لهذا النوع الخطير من المشكلات الزائفة يستفاد بإعمال منهج إقبال التكاملي في الرؤية –وإن لم يكن قد استخدمه بالفعل- حيث إنه منهج دينامكي متجدّد بحسب مقتضيات وأوجه الاستخدام لدى أي شخص يستعمله.

وذلك بافتراض المراعاة والتأكيد على موافقة مبدأ الرؤية الكلية لدى الإنسان لمقتضى كلية القرآن الكريم. فالقرآن الكريم هو وحدة نسقية كلية حرفًا وكلمةً وعبارةً، وكل علامة فيه لها دورها الوظيفي في مجمل السياق العام للقرآن سواء أدركنا كنهها ودلالاتها أم لم ندرك، فعدم العلم بمعنى دلالة آيات الغيب أو الذات والصفات لا يلغي وظيفتها في السياق القرآني العام بحيث لا يمكن نزعها منه وإلَّا فقد السياق القرآني الكلي لبنة ضرورية فيه، وفي الوقت نفسه ليس لدينا الأدوات المعرفية اللازمة للخوض في كنه هذه الآيات وإخضاعها للحجة المنطقية والبرهان العقلي أو البرهان التجريبي كما نفعل مع أحداث ووقائع عالم الشهادة، ثم نثبت بالدليل القاطع صحة فهمنا لها ونشير إلى ذلك الفهم بأنه هو الحقيقة الجازمة لا سواها والتي ينبغي الدفاع عنها حتى لو تحزَّبنا عليها وافترقنا عن الجماعة المعارضة لهذا الأخذ والفهم. إذًا، فالحل هو الخروج من كون هذه مشكلة أصلًا، وبأن نعلّق الحكم بصدد هذا النوع من الآيات ونؤمن بها فقط كجزء ضروري من القرآن لها وظيفتها الفاعلة فيه والتي يستحيل حذفها.

إن المنهج الموصوف لدى إقبال هو ما يسمح لنا بتعليق الأحكام بصدد هذا النوع من الآيات والموضوع في سبيل تحقيق الرؤية الكلية نحو القرآن بكونه (ظاهرة) يُعطينا ذاته على نحو كلي وإن لم ندرك دقائق التفاصيل بذاتها بمعزل أو انفراد عن السياق العام له. وأقرب الشبه في الاستدلال على ذلك هو ما حقَّقه العلم المعاصر من خلال فيزياء الكوانتم Quantum Mechanics بإثباتها أن الأصل الكائن لكل العالم وما فيه هو الطاقة، وأن هذه الطاقة تُدرك على هيئة (كموم) quanta تنطلق من مصادرها على هيئة دفعات التي هي الوحدة الأدنى في قياس الطاقة ثم الصعود منها إلى إدراك الأشياء على هيئتها المركَّبة بنحو ما نراها فعليًّا في العالم.

ولكن الشاهد أن هذه الوحدة القياسية للطاقة (الكم) هي بدورها كائن مركّب ومؤلّف من (جسيمات)، وأن هذه الجسيمات لا تتصدر بأي حال من الأحوال أدنى أو أعلى عتبات الحس لدى الإنسان، فهي خارج دائرة القياس على مستوى الجسيم الواحد، وإنما يتم إدراكها من خلال دورها في الكم كعضو فيه ضمن عدد لا يحصى من الجسيمات؛ أي لا يمكن الاستدلال على حقيقة وجود الجسيم مفردًا بذاته ولكن فقط من خلال مجموع كل الجسيمات معًا، تمامًا كتأثير حبة القمح الواحدة عند إلقائها على الأرض وسط الناس فهم لا يدركون وجودها لأنها في سقوطها بمفردها لم يخترق صوتها عتبة السمع لدى الإنسان، ولكن إذا أُفرغ كيس كامل به مئات الحبات من القمح على الأرض دفعة واحدة عندها يخترق صوت المجموع عتبة السمع لدى الناس فيدركون وجوده على هيئته هكذا كمجموع. ويكون من الثابت بالضرورة أن هذا الصوت قد اشتركت فيه كل حبة من حبات القمح بدورها الوظيفي فيه، وأن مجموع الوظائف تلك هو ما أحدث الأثر.

أخيرًا، لا بد من الإشارة إلى أن المقصود هنا ليس كل الفكر الشرقي وليس كل الفكر الغربي، وإنما المقصود فقط ما يتولَّد عنه جدل المشكلات الزائفة في كليهما والتي تنشأ غالبًا بفعل الرؤية الناقصة أو التشطيرية في التحيُّز لجزء دون الكل في مجال معرفي ما ولوسيلة معرفية مفردة دون الأخذ بأسباب المعرفة الكلية.

فائدة العقل المسلم المعاصر من منهجية إقبال

يمكن القول بأن ما يمكن أن تحقّقه منهجية إقبال في تغذية العقل المسلم المعاصر إنما يمثل نوعًا من الثورة الفكرية اللازمة لطبيعة مشكلات عصرنا الراهن، وقد تماثل هذه الثورة ما أحدثته فيزياء أينشتاين من ثورة على فيزياء نيوتن، أو ما أحدثته مدرسة الجشتالت في علم النفس من ثورة على تعاليم فرويد، أو ما أحدثته الفلسفة الظاهراتية من ثورة في تجاوز التحيّز المذهبي نحو التجريبية الكاملة أو المثالية الكاملة.

وذلك أن السبب الرئيس في ظهور مشكلات التفرُّق المذهبي وصولًا إلى حد التناحر هو الاختلاط والتشويش الذي أصاب ملكة الحكم لدى العقل المسلم في مواجهته لقضايا مراجعة التراث في مقابل الحداثة والمعاصرة والخلط الكبير في فهم حقيقة العلاقة بين العقل والنص، الأمر الذي بلغ معه درجة الأزمة. فكان الحل وجوبًا هو تنقية العقل من الأوهام المتولّدة عن عدم انتباه وتركيز الوعي النقدي بصدد تمييز ما هو حق وما هو زائف، أو بين ما هو ضروري للفكر والحياة وما هو عرض زائل، أو بين ما هو منتج على الحقيقة وما هو عقيم.

إن أكثر ما يُفاد المسلم المعاصر من إقبال ليس هو قدر من المعلومات النقدية في مسائل الفكر والعلم والعقيدة، وإنما يفاد طريقة في التفكير ومنهج للرؤية تزول معه تلك الحواجز الوهمية والزائفة بين أوجه الحقيقة الربانية الواحدة والحقيقة الكونية الواحدة واتخاذها فرقًا وشيعًا.

خاتمة

يمكن رسم الخلاصة النهائية لهذه الدراسة على محورين أساسيين:

أولًا: إن المنهج الذي تمَّ الادّعاء نسبته إلى إقبال وإثبات فعاليته في دحض وحذف المشكلات الزائفة إنما هو تجريد تأويلي لموقف إقبال الواضح في مؤلفاته تجاه القضايا الفكرية وعرضها على خبرته في فهم مسببات المشكلات الفكرية الإنسانية المرتبطة بالمرجعية الإسلامية وتصوراته لمعالجتها وتطوير وتجديد الرؤية الإسلامية الكلية الشاملة.

فمحاولات التجريد التأويلي تعني استكشاف نوع المنطق الكامن وراء تركيب السياقات والمفردات والعلامات اللغوية المعبرة عن موقف المفكر موضوع البحث، الأمر الذي يستلزم الاصطلاح في وضع مسميات مصطنعة لقواعد هذا المنطق وإن لم يذكرها بذاتها في سياق نصوصه ولكن توحي بها هذه السياقات والتعبيرات إيحاءً.

ونحسب أمن أهم عنصر في موقف إقبال المنهجي هو شمولية استيعاب حتى العناصر والتغيُّرات التي قد تبدو بسيطة في تشكيل وتوجيه المنظومة الفكرية الكلية خاصة، وأن (التجديد) لدى إقبال ليس هو تحويل الأصول والمبادئ والأسس وإنما هو تطوير وضبط النظرة إليها والرؤية نحوها بدرجة أقرب إلى الحقيقة التي تتجلَّى في متغيّرات العصر الراهن.

ثانيًا: إن أهم ما يتَّصف به الموقف الإقبالي وما يتأسس عليه من منهج هو الخاصية الديناميكية، وهي درجة مرونة الفكر في قابليته لاستيعاب مستحدثات الأمور ومستجدات العصر. وهي مرونة أداتية تظهر قيمتها في إعمال المنهج كأداة لاستنباط الرؤى والضوابط والموجهات المعاصرة من ذات المصدر المكتمل في حقبة قديمة من الماضي وهي هنا الرسالة المحمدية.

وهذا ما يؤيد وسم إقبال أحد أهم وأبرز مؤلفاته الفكرية (تجديد الفكر الديني في الإسلام)، وقال: (تجديد الفكر الديني) وليس تجديد الدين أو تجديد الإسلام؛ أي إن منهجه منعكس على موقفنا نحن الفكري والتأويلي على نصوص الكتاب والسنة وآيات الكون وليس عليها بذاتها.

 

 

 

 



[1] كميل الحاج، الموسوعة الميسرة في الفكر الفلسفي والاجتماعي، لبنان: مكتبة لبنان، د.ت. ص605.

[2] محمد إقبال، تجديد الفكر الديني في الإسلام، ترجمة: عباس محمود، دار الهداية للطباعة والنشر والتوزيع، ط2، 2000م، ص272.

[3] محمد البهي، الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، القاهرة: مكتبة وهبه، ط3، 1975م، ص406.

[4] المرجع السابق، ص407.

[5] محمد إقبال، تجديد الفكر الديني في الإسلام، مرجع سابق، ص10.

[6] المرجع السابق، ص10-11.

[7] إقبال، تجديد الفكر الديني في الإسلام، مرجع سابق، ص37.

[8] المرجع السابق، ص38.

[9] حسن حنفي، مقدمة في علم الاستغراب، لبنان: المؤسسة الجامعية للنشر والدراسات والتوزيع، ط1، 1992م، ص350-353.

[10] إقبال، تجديد الفكر الديني في الاسلام، مرجع سابق، ص77.

[11] حسن حنفي، مقدمة في علم الاستغراب، مرجع سابق، ص355-356.

[12] إقبال، تجديد الفكر الديني في الإسلام، مرجع سابق، ص104-105.

[13] المرجع السابق، ص107.

[14] محمد البهي، الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، مرجع سابق، ص415.

[15] إقبال، تجديد الفكر الديني في الإسلام، مرجع سابق، ص173.

[16] المرجع السابق، ص156.

[17] المرجع السابق، ص156.

[18] المرجع السابق، ص164.

[19] المرجع السابق، ص193.

[20] المرجع السابق، ص194.

[21] المرجع السابق، ص243.

[22] المرجع السابق، ص209.

[23] راجع: Ludwig Wittgenstein, The Blue Book, Basil Blackwell.

[24] المرجع السابق، ص4-5.

[25] المرجع السابق، ص213.

[26] المرجع السابق، ص212.

[27] وائل أحمد خليل، مسألة الحرية في الوعي الغربي، مجلة إسلامية المعرفة، واشنطن، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، العددان 31-32، 2002/ 2003م، ص247-249.

[28] إقبال، تجديد الفكر الديني في الإسلام، مرجع سابق، ص38.

[29] راجع: إقبال، تجديد الفكر الديني في الإسلام، مرجع سابق، ص10-11.

[30] الكهف، 68.

[31] لقمان، 28.

[32] المرجع السابق، ص3-4.

[33] المرجع السابق، ص177-178.

[34] المرجع السابق، ص161.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة