تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الولادة القيصرية للفلسفة الإسلامية من الحلم إلى الترجمة

العربي ميلود

الولادة القيصرية للفلسفة الإسلامية

من الحلم إلى الترجمة

الدكتور العربي ميلود

أليس الحديث عن البدايات المتجدّدة للفلسفة في عالمنا المعاصر وعن المعاني الفعلية لها، وعن الدور الذي من الممكن أن تلعبه الفلسفة في ظل سيطرة المفاهيم التقنية والعلمية، وابتعاد أغلب العلوم حتى الروحية منها عن التجريد خوفًا من أن تصنّف ضمن علوم الكلام والتي تغيب عنها الحقيقة ضمن مسار بحثها، وتساؤلاتها لا تتعدّى حدود السؤال.

والحديث عن هذا النمط من الفكر يُلزمنا دومًا بأن نعاود الحفر في الأصل، أي في ميلاد الفكر الفلسفي، متسائلين هل طرق التفلسف تقر بكينونة وحدة منظمة لشتى أنماط الممارسات الفكرية عبر التاريخ؟ أم أن تنوّع هذه الممارسات هو ما يعبّر عنه بالفلسفة؟ أم أن الفلسفة هي ذاك البحث الميتافزيقي في الجوهر والعلة والضرورة وغيره؟

هذه الأسئلة التي بات يطرحها العقل الغربي على نفسه معاودًا السؤال من جديد حول ما هي الفلسفة؟ يدفعنا نحن كذلك في ظل ثقافتنا العربية الإسلامية أن نعيد نحن كذلك السؤال عن الفلسفة، ولِمَ ظهرت الفلسفة أصلًا في مجتمعاتنا برغم وجود النص الديني وحمله لكل المعاني.

فإذا كانت الأسطورة قد اضمحلَّت عقب بزوغ التفكير العقلي، وإذا كانت الميتافيزيقا قد أعلن موتها مع ظهور الفلسفات الوضعية، والفكر الحداثي تمت مجاوزته إلى فكر ما بعد الحداثة، والآن انتقل الحديث إلى ما بعد بعد الحداثة.

أزمات عدة عرفتها الفلسفة أو بالأحرى عرفها الفكر الإنساني بكل تجلياته، وهذا لربما نتيجة أزمة النصوص المنتجة ذاتها، لكن في المقابل نجد النص الديني يحمل صفة الثبات، ولم يصل إلى النهايات التي عرفتها الأسطورة والفكر الفلسفي وغيره. إن كان هذا تعبيرًا عن انتصار للإيمان على العقل، فيصبح السؤال عن دعوى ظهور الفلسفة في مجتمعاتنا أمرًا مشروعًا، بالأخص إذا عرفنا أن ميلاد الفلسفة الإسلامية قد صاحبه وجود تلك السلطة الفقهية التي كانت ترى في الفلسفة منكرا وجب تحاشيه.

الفلسفة الإسلامية.. هل هو مشروع حلم؟

إن القارئ لبدايات ترجمة الكتب الفلسفية اليونانية يستوقفه نص شهير لابن النديم في كتابه «الفهرست»، يروي فيه لحظة حاسمة لميلاد الفلسفة الإسلامية، فتحت عنوان: «ذكر السبب الذي من أجله كثرت كتب الفلسفة وغيرها من العلوم القديمة في هذه البلاد»، كتب يقول: أحد الأسباب في ذلك أن المأمون رأى في منامه كأن رجلًا أبيض اللون، مشربًّا حمرة، واسع الجبهة، مقرون الحاجب، أجلح الرأس، أشهل العينين، حسن الشمائل، فقلت: من أنت؟ قال: أنا أرسطو طاليس. فسررت به وقلت: أيها الحكيم أسألك؟ قال: سل، قلت: ما الحسن؟ قال: ما حسن في العقل؟ قلت: ثم ماذا؟ قال: ما حسن في الشرع؟ قلت: ثم ماذا ؟، قال: ما حسن عند الجمهور. قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم لا ثم (...)، فكان هذا المنام أوكد الأسباب في إخراج الكتب. فإن المأمون كان بينه وبين ملك الروم مراسلات، وقد استظهر عليه المأمون، فكتب إلى ملك الروم يسأله الإذن في إنقاذ ما عنده من مختار من العلوم القديمة المخزونة، المدخرة ببلد الروم، فأجاب إلى ذلك بعد امتناع»، حديث خرافة وفي أحسن الأحوال مجرد حلم!»[1].

ما تأويل هذه الرؤيا، لماذا احتاج المأمون وهو الخليفة النافذ إلى حلم يبرّر به ترجمة الكتب؟، لماذا رأى في المنام أرسطو ولم يرَ سقراط ولا أفلاطون مثلًا؟، كيف أسّس الحلم (اللاعقل) إلى دخول العقل؟، الكثير من الأسئلة تطرح، لكن سنحاول أولًا حصر التصور العام للحلم، فما هي الأحلام؟.

قد نضطر لفهم أو تفسير هذا المنام الذي رآه المأمون بأن نمارس القراءة الهرمونوطيقية على هذا النص أو بالأحرى هذا الحلم، ربما سنبدأ فلسفيًّا في تشفير هذه الرؤيا. ونتساءل هل كان الخليفة المأمون على اطلاع بالفلسفة اليونانية خصوصًا، أم أن أول عهده مع الفلسفة كان مع هذا الحلم. قراءة ما وراء نص هذا الحلم تحيل إلى العكس.

فالسؤال الذي طرحناه: لماذا أرسطو وليس أفلاطون أو سقراط؟ يجعلنا نؤمن أن المأمون استحضر أرسطو العقلاني بدل سقراط الفضيلة أو أفلاطون المثل، لغاية سوسيو-فكرية فرضها الواقع السياسي والفكري السائد آنذاك. فعملية استحضار نص جديد ينتمي إلى ثقافة غريبة عن مجتمعاتنا في مقابل النص الديني الذي يمتلك من القداسة والجلالة. هو في حد ذاته عملية قيصرية سواء على المستوى الفكري أو السياسي، فهو بالتأكيد مغامرة أقدم عليها المأمون.

لذا اعتمد أن يُسائل أرسطو وليس غيره، لسببين اثنين، وهو أن الفضيلة والمثل ليسا بديلين عمَّا حملته رسالة الإسلام ممثلة في القرآن والسنة، لكن تعقّل الأشياء حتى النصوص المقدسة، هو سر رؤية أرسطو في المنام.

ولعل هذا ما يفسّره ذاك الصراع والجدل الفلسفي الذي شكّل أهم ملامح الفكر الفلسفي الإسلامي، جدلية النقل والعقل، صراع النص الموحى والفهم الإنساني... فالمعروف أن الحسن في التاريخ الإسلامي هو ما حسن في الشرع، لكن إجابة أرسطو للمأمون كانت ما حسن في العقل، وبهذا لم يؤسس المأمون لميلاد الفلسفة فحسب بل لميلاد عقل إسلامي مغاير تمامًا للتعريف الكلاسيكي للعقل في الثقافة العربية الإسلامية، فلغويًّا عقل الدابة هو ربطها.

وآية {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} التي تكرَّرت كثيرًا في القرآن الكريم فسّرت على أساس هذا الفهم اللغوي، أي ربط أي فهم إنساني بالنص الموحى، لكن أراد المأمون أن يؤسس لعقل جديد، عقل يفكر وينقد ويؤوّل إن اقتضى الأمر.

لكن قبل البحث والتقصّي فيما وراء هذا الحلم المتعقل للواقع المعيش آنذاك، سنبحث في معاني ودلالات الأحلام.

الأحلام: دلالاتها الدينية، النفسية والاجتماعية

هناك اعتقاد شائع لدى الناس هو أن للأحلام «معنى» (إنذار، تنبؤ) استشراف للمستقبل، أو هي رسائل من قوى سماوية، أو رسائل من عالم الموتى (الأسلاف)، فقد آمن البابليون والأشوريون أن مصدر الكوابيس أرواح شريرة، واعتقد اليونانيون أن الأحلام رسائل إلهية يوحي بها «زوس» لبعض البشر، أما في الحضارة الإسلامية فتقسم إلى: الحلم والرؤيا، فالرؤيا الصالحة زمنها الفجر ومصدرها الله تعالى وتكون رسالة كفعل سيدنا إبراهيم {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي المَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}[2]، أو تنبّؤ مثل ما حدث لنبي الله يوسف، وما أكثر قصص الرؤيا الصالحة، خاصة رؤية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) والصالحين، ولها من السحرية والأعاجيب ما بقي محفورًا في المخيال الشعبي، ويمكن الحديث طويلًا عن رمزية الحلم واللاشعور الجماعي فيه، لكن لا يسعنا المجال للحديث عنه ولا عن الرؤيا الصوفية، التي هي أكثر إيحاءً عبر فكرة الإشراق.

أما في الفكر المعاصر فيرى فرويد أن الأحلام هي الطريق الملكي إلى اللاشعور، وهي ليست استشرافًا ولا وحيًا بقدر ما هي تجسد لتأزم واقع الإنسان، مقابل رغباته وأمانيه بأسلوب رمزي يتبع فيه الدوافع اللاشعورية، أو جدل بين مبدأ الواقع ومبدأ اللذة، فمشاعر الصراع النفسي تنتهي إلى حلم يفضّ هذا النزاع بالتنفيس عن الشحنة وتحقيق التوازن النفسي، هذه أهم وظائف الحلم، لأنه في الأخير تعبير عن دوافع لا شعورية ورغبات مكبوتة، يحول المجتمع (مبدأ الواقع) دون إروائها، فهل كان حلم المأمون نتيجة كبت لرغبة وحل لصراع؟

يرى فرويد في كتابه «تفسير الأحلام» «أن الحلم تحقيق لرغبة..»[3]، من هذا المنطلق نضيء حلم المأمون بتأويل مادة الحلم[4] أولًا: رؤية أرسطو بالخصوص دون غيره من الفلاسفة.

لعل هذا يعود إلى ما يرمز إليه أرسطو من عقلانية، عكس أفلاطون مثلًا، الذي كانت تستند إليه الكتابات الغنوصية، مما جعل صفات أرسطو جد رمزية وكأنه نبي!!، «أبيض»، «حسن الشمائل»، نلاحظ أن المأمون سر عندما أخبره أنه أرسطو، زاد سرورًا عندما علّمه أن الحسن هو العقل وهو ما يوافق توجهه «الاعتزالي»، أما الفكرة السائدة في هذا الحلم ليست إلَّا حلًّا لصراع في حياة اليقظة، وتخلص من الرقابة، لكن رقابة من، وأي صراع يراد حله؟

يجب أَلَّا نكتفي بالبعد النفسي للحلم، بل بأبعاده السياسية والاجتماعية كذلك، فإذا كان المأمون حاكمًا مستنيرًا، فكيف يرضى بالاختباء وراء اللاعقل ليبرر أمرًا معقولًا، أهي رقابة الفقهاء القادرين على تأليب العامة عليه أم هي رغبة شديدة ظهرت كحلم؟

من البديهي القول: إن قرار الترجمة لم يكن مرحَّبًا به في الأوساط الدينية المحافظة، ففي سياق آخر تذكر القصص التاريخية «أن ملك الروم سأل أعوانه في إخراج الكتب إلى بلاد العرب، فنصحه مستشاريه بالقبول، لما في الكتب من شرور إذا خرجت من خزائنها، فقام وبعثها»، لعل هذه القصة الأقرب إلى الأسطورة، مصدرها مضاد لما فعله المأمون، لأنها تصف إخراج الكتب على أنه تحرير الشيطان من معقله، وبعث اللعنة إلى المسلمين.

هكذا نعي تشويه الحلم، فلو كان قرار الترجمة بشكل واعٍ ولم يدارَ وراء هذه الحجة لقوبل بالاعتراض والنقد، لكنه رؤيا لها من السحرية واللامعقولية ما لا يعترض عليه فاللامعقول لا يمكن محاجاته ولا رده بالبرهان؛ لأنه بكل بساطة غير معقول كالحب والإيمان والرغبة، فإنها لا تحكمها مستلزمات المنطق، بذلك تتضاءل إمكانية الاعتراض على قرار الخليفة.

تعرفنا عن القامع (الرقابة) قبل الدافع (الرغبة)، لذا نتساءل ما هي الرغبة التي أراد المأمون تحقيقها؟

للحديث عن الرغبة نتساءل مع فرويد «من أين تنشأ الرغبة التي تتحقق في الحلم؟..»[5].

يقدم فرويد ثلاثة احتمالات لهذا السؤال: «أولًا لعل هذه الرغبة قد استثيرت في النهار ولم تلقَ الإشباع بسبب ظروف خارجية، وفي هذه الحالة يكون النهار قد خلق لليل رغبة معترفًا بها وما تزال غير مشبعة... ثانيًا قد استثيرت في النهار لكنها صادفت إنكارًا ورفضًا ومن ثم تتخلّف كرغبة لم تشبع في النهار وتم قمعها.. ثالثًا.. «إنها رغبة لا تستثار»..»[6].

للرغبة سلطة، كما أن للسلطة رغبات أهمها تدمير المعارضين، أي حل النزاع بين «الأيديولوجيتين المتصارعتين»[7]، والمأمون استوحى ما كان سائدًا عند خصومه من الغنوصيين بتلقي التوجيه من «رؤيا صادقة» ولو أن الرؤيا تشيد بالعقل قبل الشرع، ويصبح العقل في الطليعة مقابل رافدين أقل منه «الشرع والجمهور»، وهنا فتوى فقهية من جهة، ومن جهة أخرى مواجهة للعرفانية المناوئة لحكمه، بحيث تحل مشكلة المعرفة إلى مصادر ثلاثة محدودة (بقوله: «ثم لا ثم») تتويجًا للعقل.

إذن البداية الرسمية لترجمة الفلسفة اليونانية كانت حلمًا، القرار السياسي لم يتخذ بشكل واعٍ جرّاء تبصّر ورؤيا مستقبلية لأهمية العلوم القديمة، بل جاء «حلمًا» وكأن حال الفلسفة لا يستقيم إلَّا وهي متخفية أو متنكّرة!، وتترجم من الآخر بطريقة تعسفية، لم يؤسس لها بفعل الحوار والتفاعل، بل استيراد إيماني أيديولوجي، فتلقي المأمون للأجوبة هو تلقي المريد من الشيخ، التعامل الذي سيطبع تلقينا للوافد اليوناني.

نحمل من كل هذا أن الجو العام لميلاد الفلسفة لم يكن «ترحيبيًّا»، بل لفضّ نزاع داخلي لصالح التيار العقلاني، ونتيجة «طبقة» أو فئة معينة تحمل تطلعات عقلانية، تستعين بها كسلاح ضد الخصوم أو مخلص لمأزق عام، بذلك أصبحت «محنة الفلسفة هي أنها فلسفة المحنة!»، «تنبعث في الأزمنة الحالكة» على حد تعبير هيجل.

هناك مسيرة متوازية وجدلية بين العقل واللاعقل، كون الفكر العربي استضاف العقل من خلال اللاعقل، مما أدخل الفلسفة تحت شرعية غير معقولة، فما يؤسس لميلادها هو «حلم»، وكأنهما يمارسان لعبة التخفي والظهور، فأمام الشتات والفرقة حلم المأمون بإقامة قاعدة مشتركة تعود إليها الفرق المتصارعة لتوحيد منطلقاتها المعرفية، وبحث عن مرجع مؤسس للكل: إنه العقل الكوني.

كما رمز حلمه عن تكبيت اللامعقول للعقل، يستنطق فيه أرسطو الفقيه بلسان عربي ويحدّد مجالات المعرفة في ثلاث مستويات تراتبية لا غير هي: العقل والشرع والجمهور إنها فتوى أرسطو الأصولي.

إذن حلم المأمون جعل من حركة الترجمة في عصره تتّسم بالتنوّع والانفتاح على كل ما هو آخر، لتتجاوز أرسطو واليونان وتتّسع إلى ثقافات مختلفة اللسان والتفكير كالفارسية والصينية والهندية وغيرها، وعليه فلم يؤسّس حلم المأمون لفعل الترجمة اللغوية فقط بل رسخ معنى التواصل الحضاري والثقافي بين مختلف شعوب المعمورة.

 

 



[1] ابن النديم، الفهرست، ص263، 348.

[2] القرآن الكريم، سورة الصافات. الآية 102.

[3] فرويد سيجموند، تفسير لأحلام، ترجمة: عبد المنعم الحفني، مكتبة مدبولي، الطبعة الأولى، 1996، ص 189.

[4] انطلاقًا من السؤال التالي: إذا عالجنا نصوص التراث الواعية، لم لا نعالج النص الغير واعي؟

[5] فرويد سيجموند، تفسير لأحلام، ص 617.

[6] المرجع نفسه، ص 217.

[7] حسين مروة، النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، بيروت: دار الفارابي، الطبعة 4، 1981، الجزء الثاني، ص 71.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة