تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

دور حركة الترجمة في إثراء الطب العربي

ماني سعادة نادية

دور حركة الترجمة في إثراء الطب العربي

 

ماني سعادة نادية*

 

*         المركز الجامعي، غليزان، الجزائر.

 

تمهيد

يقصد بالطب العربي مجموعة الآراء الطبية التي حوتها مؤلفات الأطباء العرب، أو الذين كتبوا باللغة العربية، تلك الآراء المنقولة من الطب القديم وخاصة اليوناني منها، والتي زُيّنت بإضافات نفيسة من الطب الهندي والفارسي والسرياني.

لم يكن العرب في نقلهم لتراث الأمم التي أخذوا عنها معارفهم الطبية نقلة جامدين لكنهم أضافوا إليها الكثير، وجعلوا ما توصل إليه غيرهم مقدمة أساسية لأبحاثهم. ومن هنا فإن اتهام العقلية العربية بأنها عقلية تحليلية، تحلل الأمور فقط ولا تقوى على التركيب والابتكار، إنما هو اتهام باطل تدحضه الوقائع التاريخية والحقائق العلمية التي سنقوم بتوضيحها عند أطبائنا العرب، بعد أن نتحدث عن دور حركة الترجمة في إثراء الطب العربي وإبراز العوامل التي مهّدت لظهورها، والمراحل التي مرت بها مع إبراز أهم المترجمين الذين مثّلوها.

عوامل مهدت لظهور حركة الترجمة

1- «أدّت فتوحات الإسكندر الأكبر إلى انتشار العلوم اليونانية في غرب آسيا ومصر، مما اكسب هذه المنطقة طابعًا خاصًّا، أطلق عليه بعض المؤرخين اسم الثقافة الهلنستية، وهي ممتدة حتى الفترة من وفاة الإسكندر الأكبر 323 ق. م. إلى القرن السابع الميلادي عندما جاء الفتح العربي، ونتيجة لتلك الفتوحات ولذلك الانتشار ازدهرت الكثير من المدارس التي اهتمت بتعليم العلوم والفلسفات الأجنبية مثل مدرسة الإسكندرية، مدرسة نصين، مدرسة الرها، مدرسة حرّان، ومدرسة جنديسابور التي تعتبر أكبر مركز علمي احتكت فيه الثقافات اليونانية بالثقافات الشرقية استولى عليها العرب عام 738م، وظل عملها نشيطًا حتى العصر العباسي»[1]. اشتهر فيها آل بختيشوع حيث استقدمهم الخلفاء واتخذوهم أطباء لهم، ومن أعلامها أيضًا يوحنا بن ماسويه.

2- ما بثه الدين الإسلامي من أفكار، وما أحدثه في نفوس معتنقيه من حب العلم والترغيب فيه لقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} ولقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد»، «من يطلب العلم يتقرب إلى الله»، «الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها التقطها»، «طلب العلم فريضة على كل مسلم».

3- ثم إن الفتوحات الإسلامية التي كانت عامل التقاء بين الثقافات العربية وثقافات الشعوب التي دخلت الإسلام، فآمنت به وأعجبت بإعجاز قرآنه وبلاغة حديثه، كانت أيضًا من العوامل الهامة في نشوء حركة الترجمة.

4- حاجة العرب إلى علوم تسهّل عليهم القيام بفروضهم الدينية التي تحتاج إلى حساب وتقويم وتوقيت جعلتهم يقبلون على الترجمة.

5- انتقال عاصمة الخلافة من المدينة إلى دمشق ومن دمشق إلى بغداد ليس مجرد نقل للعاصمة من بلد لآخر، وليس انتقالًا جغرافيًّا أو مكانيًّا، «بل لقد كان في الواقع نقلًا للدولة الإسلامية من عقلية إلى عقلية، من نمط فكري إلى نمط آخر، بل من عصر إلى عصر، ومن جيل إلى جيل»[2].

6- هناك حقيقة إنسانية واجتماعية تقول بأن العلم من توابع الاستقرار والحضارة، فما إن استقرت الدولة العربية الإسلامية وازدهرت سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا حتى اتجهت النفوس إلى الحركة الفكرية، فترجمت الكتب الفارسية والإغريقية والسريانية ونقلت ذخائرها في العلوم إلى العربية.

7- التنافس بين العرب والشعوبيين، كان أيضًا من العوامل المهمة في ظهور حركة الترجمة، فقد تباهى العرب بدينهم وشعرهم وقوتهم أمام الشعوب الأخرى وخاصة الفرس فكان لزامًا على هذه الشعوب أن تقبل على ترجمة تراثها من اجل إثبات وجودها أمام العرب.

مراحل حركة الترجمة

1- بدء النقل

عني العرب بعلم الطب، ولكي يتم الاطلاع عليه كان طبيعيًّا أن ينقلوه من لغته الأصلية إلى لسانهم، «وكان أول نقل في عهد خالد بن يزيد بن معاوية (85هـ، 704م)، حيث نقل له راهب إسكندراني اسمه مريانوس كتب الكيمياء من اليونانية إلى العربية»[3].

فقد كان خالد بن يزيد بن معاوية يطمح في الخلافة ولما يئس من الفوز بها، راح يبحث عن تسلية شريفة تتفّق ومركزه، فرأى أنه إذا استطاع تحويل المعادن إلى ذهب استطاع أن يحول الناس إليه، ويكون له من المنزلة ما يحسده عليه الخلفاء.

 هذا ونقل أيضًا الطبيب اليهودي الفارسي الأصل السرياني اللغة ماسرجويه للخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز كناشا في الطب، قد وضعه في اليونانية القس أهرون بن أعين الإسكندري، كما أن عمر بن عبد العزيز هذا وسّع المجمع الطبي في أنطاكية بأن استقدم إليه نطس الأطباء من مدينة الإسكندرية وأمرهم بنقل بعض المؤلفات الطبية إلى اللغة العربية»[4].

2- اتساع حركة النقل

لم تتسع حركة الترجمة إلَّا في العصر العباسي، فقد شهد هذا العهد نهضة طبية بالتوازي مع النهضة الحضارية الشاملة على كافة الأصعدة، فازدهرت العلوم قاطبة بما فيها العلوم الطبية، حيث كانت بغداد قبلة للكتب تأتيها من سائر الأصقاع، فكان الخلفاء العباسيون وبحق هم سندة وحماة التراث الإنساني، وتستوقفنا في هذا المجال ثلاثة أسماء من الخلفاء العباسيين الذين كان لهم دور كبير في تشجيع الترجمة والنهوض بها، وهؤلاء هم المنصور والرشيد والمأمون.

أما المنصور فأصابه في أواخر أيامه (سنة 148هـ) مرض في معدته فانقطعت شهوته، وكان الأطباء القائمون في خدمته يعالجونه ولا يجدي علاجهم نفعًا، فجمعهم يومًا وقال لهم: «هل تعرفون من الأطباء في سائر المدن طبيبًا ماهرًا؟ فقالوا: ليس في وقتنا هذا أحد يشبه جرجياس رئيس أطباء مدرسة جنديسابور، وهو جورجياس بن بختيشوع السرياني، فبعث المنصور في طلبه على عجل، فأخبره عن علته من ابتدائها، فدبره جورجياس تدبيرًا لطيفًا، فشفي المنصور ورجع إلى مزاجه»[5].

وفي أيام الرشيد ترجم يوحنا بن ماسويه الكتب الطبية القديمة، وأوكل إليه الخليفة جميع الكتب التي غنمها المسلمون في غزواتهم، وله عدة مؤلفات منها: كتاب السموم وكتاب الصداع. وفي الحديث عن عهد المأمون[6] تجدر بنا الإشارة إلى بيت الحكمة، وهو صرح ثقافي وضع نواته الرشيد وأكمله المأمون فجعله مركزًا للعلم والعلماء، إلى جانب هذا كان بيت الحكمة معهدًا للترجمة، ومجلسًا للمناقشة والجدل، وقاعة للمطالعة ويمكن القول بصورة عامة على حسب رأي الدكتور شوكت الشطي: «إن الترجمة في عهد العباسي كانت عمل دولة وأفراد، فقد زاد عدد التراجم عن المائة، وقد تخصّصت بعض الأسر بأعمال النقل كما أقيمت مدارس خاصة لتعليم المترجمين وإصلاح ما ترجموه»[7].

3- أبرز المترجمين

ذكر ابن النديم في الفهرست أسماء المترجمين على مر العصور من بينهم آل حنين، وأشهرهم:

- حنين بن إسحاق: من أشهر المترجمين في القرن الثالث الهجري، عربي الأصل نصراني، تعلم صناعة الطب عن يوحنا بن ماسويه، عاصر المأمون والمعتصم والواثق والمتوكل، عرف بإتقانه لعدة لغات: العربية، السريانية، اليونانية، والفارسية، كما اشتهر بجودة الترجمة. وبلغ اهتمامه بالتراث الطبي اليوناني أنه كان يجوب الأقطار من أجل الحصول على الكتب. ونضرب مثلًا على ذلك كتاب (البرهان) لجالينوس، فقد كان هذا الكتاب نادر الوجود.

فجاب في طلبه أرجاء العراق والشام ومصر باحثًا متنقبًا، فلم يظفر أخيرًا إلَّا بما يقرب من نصفه بدمشق، وقد بلغ من تقدير المأمون لجهوده في الترجمة ما يرويه ابن أصيبعة من أنه كان يعطيه من الذهب زنة ما كان ينقله من الكتب ترجم إلى العربية سبعة من كتب أبقراط، ونقل إلى العربية جميع مصنفات جالينوس الطبية

- آل بختيشوع[8]: وهم من السريان والنساطرة، أولهم جورجياس بن بختيشوع طبيب المنصور، وخلفه ابنه بختيشوع بن جورجياس، استقدمه الرشيد من جنديسابور، وولّاه رئاسة الأطباء بعد امتحانه، وخلفه فيها ابنه جبريل، وخلفه ابنه بختيشوع بن جبريل، وقد بلغ من عظم المنزلة والحال وكثرة المال ما لم يبلغه أحد من أطباء عصره، ومنهم أيضًا جبريل بن عبيد الله بن بختيشوع، وخلفه عبيد الله بن جبريل[9]. فهؤلاء ستة من آل بختيشوع كلهم من مهرة الأطباء لم يعنَ بالترجمة منهم إلَّا جورجياس الأول، وإنما وردنا ذكرهم لأن أكثرهم ألَّف في الطب كتبًا مفيدة.

- آل قـرّة: توارثوا العلم في بغداد وأشهرهم ثابت بن قرّة، ويقال له أيضًا: «الحرّاني» نسبة إلى حرّان، انتقل من حرّان إلى بغداد وبرع فيها كطبيب، كان من حذّاق المترجمين فقد ترجم جوامع كتاب الأدوية المفردة كجالينوس، من مؤلفاته: وجع المفاصل والنقرس، رسالة في الحصى المتولد في المثانة، رسالة في البياض الذي يظهر في البدن»[10].

- قسطا بن لوقا البعلبكي: يوناني الأصل، وهو من مترجمين القرن الثالث الهجري، كان يجيد اليونانية والسريانية والعربية، من صفاته في الترجمة أنه كان جيد النقل، حسن العبارة والأسلوب، وأعاد إصلاح بعض الترجمات التي أُجريت في عهود سابقة، وقد ترجم بعض كتب جالينوس وأرسطو.

هذا ولم تقتصر الترجمة على هؤلاء المترجمين، فقد كان مترجمون آخرون لكن لا يسع المجال على ذكرهم كلهم.

4- أهم الكتب المنقولة إلى العربية

1- الكتب المنقولة عن اليونانية: نقل عن الطبيب اليوناني أبقراط عدة كتب منها كتاب الفضول، تقدمة المعرفة، الأمراض الحادة، أبيديميا الأخلاط، كتاب طبيعة الإنسان، وكتاب عهد أبقراط، أما أشهر كتب جالينوس المنقولة إلى العربية، الكتب الستة عشر وهي: كتب الفرق، الطاعة، النبض، شفاء الأمراض، المقالات الخمس، الأسطقصات، كتاب المزاج، القوى الطبيعية، العلل، الأمراض، تعرف على العلل الباطنية، حيلة البرء وغيرها، ومعظم هذه الكتب نقلها حنين بن إسحاق إلى لسان العرب.

2- الكتب المنقولة عن الهندية: ومن الكتب الطبية التي نقلت من الهندية إلى لسان العرب في العصر العباسي، كتاب ساسرد في الطب، كتاب أسماء عقاقير الهند، كتاب استنكر الجامع، كتاب مختصر الهند في العقاقير، كتاب روسا الهندية في علاجات النساء، كتاب التوهم في الأمراض والعلل، و كتاب الهند في أجناس الحياة وسمومها[11].

وبعد أن تمّت عملية النقل، واستقرت أحوال الدولة العباسية، برزت في ظل هذا الاستقرار، نقلة نوعية في تاريخ الطب العربي من الترجمة إلى التأليف بعد منتصف القرن الرابع الهجري، مبشرة بعهد جديد من الإبداع الطبي العربي، كان باكروته كتاب فردوس الحكمة لعلي بن سهل الطبري حيث صنف الكتاب على سبعة أنواع والأنواع تحتوي على ثلاثين مقالًا والمقالات تحتوي على ثلاثمائة وستين بابًا[12].

ويقول عن سبب تأليفه لهذا الكتاب: ووجدت فيما قرأت من كتب الحكماء كناشات -أي مختصرات- كثيرة لأهل سوريا وغيرهم، قد اقتصر أصحابها فيها على فن واحد من فنون الطب المتفرقة الكثيرة فدعاني ذلك إلى أن ألفت منها كتابًا جامعًا لمحاسن كتب الأولين والآخرين، ليكون زمامًا لها وإمامًا محيطًا لجوامع الكناشات، وحذفت منه المعاني المكررة والخطب المشكلة المبرمة، وقصدت إلى الفوائد والعيون فتهيَّأ لي منها بعون الله سر من أسرار الحكمة وكنز من كنوز الصناعة، وكناش يحيط بأكثر مما يتمناه المتمني ويبلغه الواصف فعن علم الطب ومعرفة أصول هذا العلم وفروعه وكيفية جواهره وأعراضه وكون أنفسه وأجسامه وتركيب حيواناته ونباته وعلل ألوانه ومذاقاته[13].

وفي الكتاب يذكر ابن ربان الطبري المصادر التي أخذ عنها وهي أبقراط، أرسطو، جالينوس، يوحنا بن ماسويه وحنين بن إسحاق. وقد استغرق تأليف هذا الكتاب سنوات عدة لكثرة مشاغله التي لم تتح فرصة التفرغ للكتابة، حتى تيسّر له إتمامه في السنة الثالثة من خلافة المتوكل، وله أيضًا كتاب أرفاف الحياة، منافع الأطعمة والأشربة والعقاقير، وكتاب حفظ الصحة، كتاب في الحجامة، وكتاب في ترتيب الأغذية.

5- أثر حركة الترجمة في الطب العربي

يتّضح مما تقدّم أن أهم ما ساعد على تقدّم الطب العربي وتطوّره في هذا العصر حركة الترجمة، التي أتاحت للأطباء العرب التعرف على الطب اليوناني وأشهر رجاله، وكان قد سبق ذلك استقدام عدد من مشاهير الأطباء من معهد جنديسابور ومن الهند من أيام الخليفة أبي جعفر المنصور، وما لقيه هؤلاء من رعاية الخلفاء واهتمامهم بهم، الأمر الذي شجّع على ظهور أطباء آخرون، نشروا معارفهم الطبية سواء بالتدريس أو الترجمة أو التأليف، بحيث تسنى للطب العربي أن يستقيم عوده وأن يرتكز على قاعدة علمية متينة متجسدة في كل من شخصية الرازي وابن سينا اللذين كانا يصفان الأعراض المرضية ويشخّصان العلل، ثم يأتيان على بيان الروابط والعلاقات بين علل الأمراض المتشابهة، وهما في هذا يقومان بعملية تفسير لا تقتصر على مجرّد وصف مظاهر المرض، بل تفسير أعراض المرض ودلالته[14].

ويقول: «ابن خلدون في هذا المجال وكان في الإسلام في هذه الصناعة أئمة جاؤوا من وراء الغاية مثل الرازي والمجوسي وابن سينا، ومن أهل الأندلس أيضًا كثيرون وأشهرهم ابن زهر»[15].

ولقد أثّرت الترجمة الطب العربي من أدناه إلى أقصاه وفجّرت الطاقات الكامنة والمواهب الخلّاقة، لقد كانت بحق أداة التوعية التي وسّعت آفاق الفكر العربي وفتحت مجالات الحوار والتفاعل بينه وبين أفكار الأمم الأخرى، بعد أن ظل أجيالًا منكفئًا على نفسه.

هذا وإذا أردنا أن نعرف مبلغ الأثر الذي خلفته حركة الترجمة، فما علينا إلَّا أن ننظر فيما طرأ على الطب العباسي من تغيّرات عميقة لا صلة للطب الجاهلي بها أو مقارنة ما كتبه الأطباء في العصر الجاهلي[16] والإسلامي، بما كتب في العصر العباسي.

الطب الجاهلي

كان يعتمد طب العرب في الجاهلية على تجارب بسيطة وعلى العادة والتقليد، وهو طب يتجلى فيه ضعف التعليل والمحاكمة بسبب الاعتماد على العادة الذائعة لا على العلم، وبسبب عدم القدرة على فهم الارتباط بين العلة والمعلول والسبب والمسبب فهمًا تامًّا. يمرض أحدهم ويألم من مرضه فيصفون له علاجًا فيفهم نوعًا من الارتباط بين الدواء والداء، ولكن لا يفهم فهم العقل الدقيق بسبب هذا المرض، أن عادة القبيلة هو تناول هذا الدواء عند هذا الداء هذا كل شيء في نظره، لهذا يرى عقله بأسًا من أن يعتقد أن سبب المرض حلول أرواح شريرة في بدن الإنسان وأن إعادة الصحة إليه تكون في طرد هذه الأرواح منه، فكان الطب من أعمال السحرة والكهنة والتعاويذ و التمائم[17].

أما معالجتهم فشبيهة بما كان عند المصريين وغيرهم من الأمم القديمة، فقد كانوا يعالجون بالعقاقير البسيطة أو الأشربة وخصوصًا العسل، فإنه كان قاعدة العلاج في أمراض البطن، على أن اعتمادهم في معالجة الأمراض كان معظمه عائدًا إلى الجراحة، كالحجامة والفصد، ومن أقوالهم: «كل داء حسم بالكي آخر الأمر، وآخر الطب الكي».

وكثيرًا ما كانوا يعالجون بالقطع أو البتر، والغالب أن يكون ذلك بالنار، فالنار عندهم كانت تقوم مقام مضادات الفساد (المطهرات) عندنا. فإذا أرادوا فصل عضو حموا شفرة بالنار وقطعوه[18].

عرف عرب الجاهلية العدوى وخصصوا معازل المجذومين، كما عرفوا علاج الأسنان واللثة، وشدوا الأسنان بالذهب، وكان عثمان ابن عفان قد شدَّ أسنانه بالذهب، وظل كذلك بعد أن دخل الإسلام. كما عرفوا الطب البيطري لاهتمامهم بتربية المواشي، ومن بياطرة العصر الجاهلي العاصي بن وائل[19].

وبهذا نقول: إن الطب في هذه الفترة من تاريخ العرب في غالب الأمر مبني على تجربة فجّة غير ناضجة ينقصها الوضوح، فلم تكن هنا ضوابط موجهة لإجراء التجارب، وإنما كانت التجربة كما يقول ابن خلدون: «والبادية من أهل العمران طب يبنونه على غالب الأمر على تجربة قاصرة على بعض الأشخاص، ويتداولونه متوارثًا عن مشايخ الحي وعجائزه، وربما يصحّ منه البعض إلَّا أنه ليس على قانون طبيعي ولا عن موافقة المزاج»[20].

ولقد اشتهر في هذه الفترة من التاريخ عدة أطباء، أقدمهم لقمان الحكيم، وهو حكيمهم وفيلسوفهم، وكان عبدًا حبشيًّا جاء ذكره في القرآن الكريم لقوله عز وجل: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ...، وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ}[21].

وقد روي عن حكمه الطبية أنه بينما هو مع مولاه إذ دخل المخرج فأطال فيه الجلوس فناداه لقمان قائلًا: «إن طول الجلوس على الخلاء يتجع منه الكبد ويورث الباسور».

يليه من الأطباء داميان وكوسم أبوي الطب والصيدلة، وهما شقيقان توأمان عربيان، فأوحت إليهم فكرة تخليد صورهما في لوحات فنية رائعة تمثل إحداهما داميان قائمًا بعمل صيدلاني وكوسم منكبًّا على قارورة يفسر فيها تشخيص المرض، عاشا في سورية حوالي السنة الثلاثمائة بعد الميلاد، شغلت سيرتهما عددًا من الفنانين الرسامين.

ومن الأطباء أيضا زهير بن جناب الحميري، وابن النديم الذي كان يضرب المثل بمعارفه الطبية فيقال: فلان أطب من ابن نديم، وكانت بينهم، امرأة تدعى زينب طبيبة بني أود، خبيرة بالعلاج والمداواة وآلام العين والجراحات.

أما أطباء الجاهلية الذين عاصروا الإسلام، الحارث ابن كلذة الثقفي الذي تعلّم الطب في بلاد فارس وعاش أيام الرسول، وبقي يداوي طيلة عهد الخلفاء الراشدين، وقد «سأله الخليفة عمر ابن الخطاب رضي الله عنه ما الدواء؟ فقال الحارث: لأزم، أي الحمية»[22].

وفي هذه المحاورة التي وقعت بينه وبين كسرى نقف على الكثير من العناصر الطبية التي تلفت الانتباه:

«قال كسرى: كيف بصرك بالطب؟

قال الحارث: نهيك.

قال كسرى: فما الداء؟

قال الحارث: إدخال الطعام على الطعام هو الذي يفني البرية ويهلك السباع في جوف البرية.

قال كسرى: فما الحمرة التي منها الدواء؟

قال الحارث: هي التخمة إن بقيت في الجوف قتلت، وإن تحللت أسقمت.

قال كسرى: صدقت، ثم قال: ما تقول في الدواء؟

قال الحارث: ما لزمتك الصحة فاجتنبه، فإن هاج داء فاحسمه بما يردعه قبل استحكامه، فإن البدن بمنزلة الأرض إن أصلحتها عمرت، وإن تركتها خربت.

قال كسرى: فأي اللحوم أفضل؟

قال الحارث: الضأن الفتي، والقديد المالح مهلك للأكل.

قال كسرى: فما تقوله في الفواكه؟

قال الحارث: كلها في إقبال، وحين أوانها، واتركها إذا أدبرت وولّت وانخفض زمانها.

قال كسرى: فما تقول في شرب الماء؟

قال الحارث: هو حياة البدن، وبه قوامه، ينفع ما يشرب منه بقدر الحاجة.

قال كسرى: فما طعمه؟

قال الحارث: لا يتوهم له طعام إلَّا أنه مشتق من الحياة.

قال كسرى: فما الحمية؟

قال الحارث: الاقتصاد في كل شيء فإن الأكل فوق المقدار يضيق على الروح»[23].

نستنتج مما تقدّم أن الحارث بن كلده قد جمع في محاورته مع ملك الفرس كل ما كان معروفًا عن الطب في ذلك العهد، فقد تكلّم في الصحة والمرض والدواء والغذاء والشراب والحقنة والحجامة والفصد والرياضة والاستحمام والأخلاط والأمزجة، وفي أكثر كلامه تعابير جديدة ومعلومات حديثة بالنسبة إلى طب العرب في الجاهلية.

وقد كان عصر الحارث في الجزيرة عصر جهل مطبق، والذين كانوا يكتبون ويقرؤون قلّة إلى جانب ندرة الكتب الطبية التي كانت لا تزال محفوظة على ورق البردي أو ورق البرجامون. ولذلك كانت العلوم الطبية عند العرب داخل الجزيرة هي المعارف التي يتناقلها أصحاب التجارب الطبية رواية وليس من الكتب المدونة، والواضح أن الحارث كان من المتعلمين والمثقفين العالمين بالقراءة والكتابة، ودليل ذلك ما ورد في محاورته من قوله: «قرأت بعض كتب الحكماء»[24].

وهذا يعني أن الحارث أشار إلى الكتب اليونانية أو السريانية، وتعلّم لغتها في اليمن أو جنديسابور فاعتمدها واستند إلى تلك الكتب في دراسة الطب.

الطب الإسلامي

عاش بن كلدة وابنه النضر إلى أيام الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ولهذا لم يحصل اختلاف ملموس في الطب. هذا بالنسبة للاتجاه الأول، أما الاتجاه الثاني فيتمثل في الطب النبوي المنقول عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو مجموعة الأحاديث النبوية التي تضمّنت قواعد عامة لحفظ الصحة، الاستحمام، الشراب، الأكل، الزواج وغيرها، ضف إلى هذا الإجراءات والمبادئ الصحية الوقائية كالنظافة مثلًا والتي اعتبرها الرسول ضرورية لحفظ الصحة.

ويقول في هذا ابن خلدون: «والطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل، وليس من الوحي في شيء، وإنما هو أمر كان عاديًّا للعرب ووقع في ذكر أحوال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، من نوع ذكر أحواله التي هي عادة و جبلّة، لا من جهة ذلك مشروع على ذلك النوع من العمل فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما بعث ليعلمنا الشرائع ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات. وقد وقع له شأن تلقيح النخل ما وقع فقال: أنتم أعلم بأمور دنياكم، فلا ينبغي أن يحمل شيء مما وقع من الطب الذي وقع في الأحاديث الصحيحة المنقولة على أنه مشروع، فليس هناك ما يدل عليه اللهم إن استعمل على جهة التبرك وصدق العقد الإيماني، فيكون له أثر عظيم في النفع، وليس ذلك من الطب المزاجي وإنما هو من أثار الكلمة الإيمانية»[25].

إن ما ذهب إليه ابن خلدون في قوله بديهي، فالنبي جاء رسولًا وليس طبيبا وأن ما جاء به من أحاديث طبية لا تتعدى النصائح والإرشادات والمعلومات الصحية العامة.

الطب الأموي

أخذ التطبيب يتأثر بالاتجاه اليوناني منذ مطلع العصر الأموي، فنقل العرب إلى لسانهم كتب أبقراط وجالينوس وغيرهم من أطباء اليونان، واطّلعوا على ما كان عند السريان من الطب اليوناني الممزوج ببقايا طب القدماء، ونقل إليهم أطباء مدرسة جنديسابور طب اليونان بصبغته الفارسية، واطّلعوا على طب الهنود ممن جاؤوا بغداد من أطبائهم، غير ما كان عند العرب في أيام الجاهلية وتنوقل في الإسلام، ومن تفاعل هذه العناصر وتمازجها تألَّف الطب الأموي.

«وتدور بعض التفاصيل البسيطة حول الأطباء الذين خدموا خلفاء بني أمية الأوائل فكان ابن آثال، وهو نصراني من دمشق، طبيبًا لمعاوية، الخليفة الأول لهذه السلالة والحكم الدمشقي، كان يستطبه معاوية ويعتمد عليه في تطبيب أفراد عائلته. ويروى أن خالد بن زيد حفيد معاوية كان عالمًا بالطب والكيمياء وهو أول من نقل طب اليونان إلى العربية لاستعماله الشخصي»[26].

الطب العباسي

في هذا العهد ارتفع مستوى الطب ارتفاعًا ملحوظًا، بسبب نشاط حركة النقل والترجمة، وتشجيع الخلفاء العباسيين لها، فازدهرت العلوم قاطبة بما فيها العلوم الطبية، وكثر الأطباء، وسطع القلم بالتأليف، وأنشئت المستشفيات وتفوّقت بنظامها وخبراتها المهنية على كل المؤسسات الطبية المعروفة في الأزمنة القديمة، وكذلك الموجودة خارج البلاد الإسلامية في هذا العصر بشكل هائل.

«وهكذا ازدادت أهمية الطب عند العرب وكثر طلابه ومريدوه، وعُني المسلمون بهذا العلم عناية شديدة، حتى بلغ عدد المتخصصين والمؤلفين من أطباء العرب مبلغًا من الكثرة جعل ابن أبي أصيبعة يفرد لهم مجلدًا كاملًا من كتابه عيون الأنباء في طبقات الأطباء»[27].

ولو أحصينا الأطباء المسلمين الذين نبغوا بعد ترجمة الكتب الطبية إلى انقضاء النهضة العباسية وابتداء عصر التقهقر، أي في أثناء ثلاثة أو أربعة قرون، لزاد عدد المؤلفين منهم ممن بلغت إلينا أسماؤهم على بضع مئات.

6- منجزات العرب الطبية وطرقهم في المعالجة

لا يخفى أن صناعة الطب خطيرة الشأن شديدة المساس بالمجتمع تصونه من الهلاك وتحفظه من الزوال، وتدفع عنه الأمراض السارية، وتحميه من الأوبئة الفتّاكة يتحكم أصحابها بأرواح العباد، فلا بد أن يكون ممتهنها على معرفة بعلومها ودراية بأصولها وخبرة بفنونها، ليكون قادرًا على أداء مهمته، عالمًا برسالته، ولهذا اشترط حكام العرب على محترف المهنة الطبية أن يكون عالمًا بالتشريح، ملمًّا بعلم وظائف الأعضاء، خبيرًا بالنبض وتبدّل البول، محيطًا بجميع العلوم التي لها صلة قريبة أو بعيدة بالطب.

ومن هنا ظهر نوع مما يمكن أن نسميه حاليًّا بالتخصص في تناول فروع الطب المختلفة كالطب الجراحي، وطب العيون وعلم التشريح، والطب النفساني، وما يتبع ذلك من تطور في طرق العلاج وبناء المستشفيات.

الطب الجراحي:

عرف هذا الفرع من الطب عند الأقدمين من المسلمين بأسماء عدة، منها عمل اليد، وصناعة اليد، وعلاج الحديد لما يدخل فيه من استخدام أدوات تصنع من الحديد، وكان يطلق على من يزاول هذه المهنة اسم الجرائحي أو دستكار[28].

وعلى الرغم من أن العرب ذكروا أنهم استقوا عملهم في الجراحة من الهند وبلاد فارس فإن معظم ما نقلوه كان من اليونان، ومن ثمَّ أبدعوا فيه، وهم أول من ألزموا الجرّاح أن يكون ملمًّا بعلم التشريح ومنافع الأعضاء ومواضعها، وكانوا يؤكدون على حاجة المشتغلين بالطب إلى تشريح الأجسام حية أو ميتة.

فكان يوحنا بن ماسويه ولوعًا بالتشريح، وقد أهداه المعتصم بالله قردًا كبير الحجم فشرّحه، وصنّف في الموضوع كتابًا لاقى استحسانًا كبيرًا. وقد ابتلي بابنٍ بليد لا يكاد يفهم شيئًا فكان يقول عنه: «لولا كثرة فضول السلطان ودخوله فيما لا يعنيه لشرَّحت ابني هذا حيًّا مثلما كان جالينوس يشرح القرود والناس، فكنت أعرف بتشريحه الأسباب التي كانت لها بلادته»[29]. وكانت معرفة الجراحين المسلمين بكتاب جالينوس المعروف بقاطاجانس في الجراحات والمراهم أمرًا إلزاميًّا.

ومن إبداعات العرب في الجراحة أنهم أول من تمكن من استخراج حصى المثانة لدى النساء عن طريق المهبل، كما توصلوا إلى وصف دقيق لعملية نزف الدم وقالوا بالعامل الوراثي في ذلك، حيث وجدوا أن بعض الأجسام لديها استعداد للنزف أكثر من غيرها، وتابعوا ذلك في عائلة واحدة لديها هذا الاستعداد وعالجوه بالكي، كما نجحوا في إيقاف دم النزيف أيضًا بربط الشرايين الكبيرة، وأجروا العمليات الجراحية في كل موضع تقريبًا من البدن، وكتبوا عن جراحة الأسنان وتقويمها، وجراحة العين، وبرعوا في قدح الماء الأزرق من العين، وكانت هذه العملية أمرًا يسيرًا ونتائجها مضمونة.

وذكروا أكثر من ستة طرق لاستخراج هذا الماء من العين منها طريقة الشفط. كما مارس الجراحون العرب إجراء العمليات الناجحة في القصبة الهوائية، في البطن والمجاري البولية والولادة القيصرية، وتجبير الكسور والخلع وعمليات الأنف والأذن والحنجرة، وكانوا يخيطون الجروح خياطة داخلية لا تترك أثرًا ظاهرًا من الجانب الخارجي، وخاطوا مواضع العمليات بخيط واحد باستخدام إبرتين، واستخدموا الأوتار الجلدية وخيوطًا صنعوها من أمعاء القطط[30].

فقد شرح لنا أبو العباس المجوسي عملية الشق العجاني على الحصاة، وقال عن علاج الإنوريزم oneurysm (تمدّد الأوعية الدموية): «يجب أولًا أن تشق الجلد بالطول وتخرج ما في مكان من الدم وتكشف عن الشريان وتعريه من الأجسام التي حوله، وتعلّقه بصنارة، تم خذ إبرة فيها خيط من إبريسم وأدخله تحت أحد طرف الشريان واعقده، واقطع الخيط وافعل نفس الشيء بالجنب الآخر، ونشف الموضع من الدم وضع على المكان خرقًا مبلولة ثم ذر عليها الذرور الملحم ثم المراهم المنبتة للحم، فإن كان حدوث هذا الورم ناتج عن شق الشريان فيجب أن تمسك بأصابعك كل ما أمكن من الورم مع الجلد، ثم خذ إبرة وخيط إبر يسم جيد الفتل وأدخله تحت الورم من أحد جانبي المكان الذي قد أمسكتها وتربطه ربطًا جيدًا، ثم شق الورم في وسطها وأخرج جميع ما فيها من الدم، ثم اعصر الجلد من جميع جوانبه إلى حد المكان المشدودة ثم ضع عليها رفادة مغموسة بشراب وزيت والمراهم المنبتة للحم»[31].

طب العيون:

كان العرب يطلقون على هذا الفرع من الطب اسم الكحالة، ويسمون المشتغلين به من الأطباء باسم الكحّالين، فكانوا يُمتحنون امتحانًا صعبًا، «فمن كان منهم عارفًا تشريح طبقات العين السبعة، وعدد رطوبتها الثلاث، وعدد أمراضها وأنواعها وما يتفرع من ذلك، وكان خبيرًا بتركيب الأكحال وأمزجة العقاقير، أُذن له بالتصدي لمداواة أعين الناس، وبذلك كان لا يفسح مجالًا للدجالين والجهّال بتعاطي طبابة العيون»[32].

كما ألَّف العرب العديد من الكتب في طب العيون وجراحتها ومداواتها، ومن أشهر كتب الكحالة كتاب «عشر مقالات في العين» لحنين بن إسحاق، ويعدّ هذا الكتاب نقطة الانطلاق في علم الكحالة عند العرب، «ويقول عنه المستشرق الفرنسي لاكلير: إنه أبرز شخصية في القرن التاسع الميلادي، وأكبر العقول المتحلية بأسمى الأخلاق، وإذا لم يكن هو الذي خلق النهضة في المشرق فليس من مخلوق آخر عمل أكثر منه في سبيل العلم»[33].

ولعل إبداع العرب وإجادتهم في هذا المجال يعود إلى كثرة انتشار أمراض العيون في المناطق الحارة، إلى جانب ذلك مارس الكحَّالون العرب تشريح عيون الحيوانات مما أوقفهم على معلومات قيِّمة تتَّسم بالدقة العلمية.

الطب النفسي

لم يقتصر الطب عند العرب والمسلمين على العلاج العضوي فحسب، بل تعدّاه إلى العلاج النفسي، وكانوا يرون الوهم والأحداث النفسية من العلل التي تؤثر في البدن، لذا نجد «إخوان الصفا أشاروا إلى إعطاء المريض الفرصة ليسرد أحوال علته وأسبابها كما يشعر بها هو، ثم يشرع الطبيب بعد ذلك في محاولة إزالتها ورفع الوهم المسيطر على المريض والتقليل من شأن المرض»[34].

كما أدلى ابن الهيثم بدلوه في هذا الشأن عند حديثه عن الموسيقى وأثرها في الإنسان والحيوان، لقد كان ينادي بوجوب الاستعانة بالوسائل النفسية ذلك لأن فيها رفعًا للقوى المضادة للمرض ويناصرها التغلب عليه[35].

هذا وقد توصّل العرب إلى اكتشاف العديد من الأمراض، وصحّحوا أخطاء اليونانيين في وصفهم للأمراض وعلاجهم لها، فمن ذلك أن اليونانيين لم يميّزوا الالتهاب الرئوي عن التهاب البلورة، كما أخطأ هؤلاء في تمييز المغص المعوي عن المغص الكلوي، أما ابن سينا فقد ميّز بين هذه الأمراض وعرف أسبابها وطرق علاجها متجاوزًا بذلك ما أخذه عن أسلافه اليونان.

كذلك من الأشياء الأصيلة وذات الفضل العظيم على الإنسانية، طريقة العرب في التخدير، وهم يختلفون فيها عن الهنود واليونان الذين كانوا يُسكرون المريض، أما الطريقة العربية في تخدير المريض فهي «العمل على تخديره لا لتخفيف الآلام فقط بل استخدام طريقة التخدير الشامل لكل الجسم من أجل تسهيل القيام بعملية الجراحة دون أن يشعر المريض بالآلام»[36].

كما كان أطباء اليونان يعالجون المشلولين بأدوية تولد فيهم الحرارة، أما أطباء العرب فكانوا يعالجونهم بأدوية تولد فيهم البرودة، فعالجوا النزف بالماء البارد واستعملوا كيس الثلج[37].

ويقول جورجي زيدان في هذا المجال: «أما ما أحدثه العرب من عند أنفسهم رأسا، فالإحاطة به من الأمور الشاقة التي يعسر تحقيقها، فنذكر ما ثبت عندنا حدوثه على سبيل المثال: من ذلك أنهم أحدثوا في الطب آراء جديدة تخالف آراء القدماء في تدبير الأمراض، وإن لم يصلنا إلَّا الخبر القليل منها، مثل نقلهم تدبير أكثر الأمراض التي كانت تعالج قديمًا بالأدوية الحارة على اصطلاحهم إلى التدبير البارد كالفالج، واللقوة، والاسترخاء وغيرها، ذلك على غير ما سطّره القدماء، هم أول من فطن بهذه الطريقة ونبَّه عليها بالفصد والتبريد والترطيب ومنهم من الغذاء»[38].

يمكن وصف الطب العربي بأنه طب وقائي للأصحاء بقدر ما كان طبًّا للمرض، فهو يعمل على حفظ الصحة أولًا، ثم يذهب إلى البحث عن العلاج، ومن المعروف أن إنذار المرض أسهل من علاجه، «ولذلك تستحوذ الوقاية على الدور الأهم على الصحة، وليس علاج المرض بحد ذاته، كما أن الوقاية تصون حياة الإنسان وتطهّر قدراته الإبداعية»[39].

حرص الأطباء العرب في تشخيص الأمراض على مراقبة التنفس والحرارة وجس النبض وفحص البول ومراقبة تقلبات لونه ورواسبه، كما كانوا يتابعون ويُدوِّنون ملاحظاتهم المتوالية واليومية. كما استخدم الأطباء العرب عبقرياتهم التنظيمية إلى جانب مهاراتهم الخاصة في مجال العلاج والجراحة في إنشاء مستشفيات عظمى في المدن الكبرى في العالم الإسلامي في العصور الوسطى.

وقد تفوَّقت هذه المؤسسات الطبية سواء في حجمها أو في خبراتها المهنية على كل المؤسسات الطبية المعروفة في الأزمنة القديمة، وكذلك الموجودة خارج البلاد الإسلامية في هذا العصر بشكل هائل[40].

ومن جميع ما ذكرنا يتبيّن لنا مبدأ تطبيق الاختصاص في علم الطب عند العرب، فهناك الطبيب والمجبّر والكحّال، والجراح والفصاد و الحجام، كل يمارس الصنعة في حدود معرفته لها وضمن اختصاصه الذي حدق فيه. إن ما كان يقوم به الطبيب العربي قديمًا هو نفسه ما يقوم به الطبيب اليوم مع تحمّل المسؤولية في حالتي الجهل والتقصير.

وكثيرًا ما ورد ذكر صفات معلم الطب والطبيب في تواليف الطب العربية، والتي أوجزها الطبيب علي بن رضوان بقوله: يجب أن تجتمع في الطبيب سبع خصال:

«1- أن يكون تام الخَلق، صحيح الأعضاء، حسن الذكاء، جيد الرواية، عاقلًا، ذكورًا، خيّر الطبع.

2- أن يكون حسن الملبس، طيّب الرائحة، نظيف البدن والثوب.

3- أن يكون كتومًا لأسرار المرضى، لا يبوح بشيء من أمراضهم.

4- أن تكون رغبته في إبراء المرضى أكثر من رغبته فيما يلتمسه من الأجرة، ورغبته في علاج الفقراء أكثر من رغبته في علاج الأغنياء.

5- أن يكون حريصًا على التعلّم والمبالغة في نفع الناس.

6- أن يكون سليم القلب، عفيف النظر، صادق اللهجة، لا يخطر بباله شيء من أمور النساء والأموال التي شاهدها في منازل الأعِلَّاء.

7- أن يكون مأمونًا ثقة على الأرواح، لا يصف دواء قتّالًا، ولا يعلمه، ولا دواء يسقط الجنين، ويعالج عدوه بنية صادقة كما يعالج حبيبه»[41].

يترتب عن هذه المميزات الطبية العربية منهج، يمكن أن نصفه بالشمول والتنوع والموضوعية من جانب، والإلمام بفنون الطب والصيدلية والتشريح والتمسك بالفضائل الأخلاقية من جانب آخر.

ولما كان أبرز أطباء اليونان علماء نظريين أكثر منهم متمرسين في التجربة والتطبيق العملي، فإن أطباء العرب الذين تأثروا بالفكر اليوناني وخصوصًا ما ينسب إلى أبقراط وجالينوس، ركّزوا على تطبيق تلك النظريات وتجريبها على المرض في مختلف الأحوال، وبذلك تمكّنوا من تثبيت ما ظهر صلاحه للممارسة وتركوا سواه، أو قاموا بتطويره إلى الأفضل المفيد في صناعة الطب.

 

 

 



[1] عبد الله العمري، تاريخ العلم عند العرب، عمان: دار مجدلاوي للنشر و التوزيع، ط1، س1990، ص43 – 44.

[2] محمد عبد الرحمن مرحبا، الجامع في تاريخ العلوم عند العرب، بيروت: منشورات عويدات، ط2، س 1988، ص207.

[3] عمر فروخ، تاريخ الفكر العربي إلى أيام ابن خلدون، بيروت: دار العلم للملايين، د ط، س 1966، ص271.

[4] محمد عبد الرحمن مرحبا، مرجع سبق ذكره، ص 213.

[5] جرحي زيدان، تاريخ التمدن الإسلامي، بيروت: منشورات دار المكتبة الحياة، (د. ط، د. س)، المجلد الثاني، ص1523.

[6] قال أبو إسحاق النديم صاحب كتاب الفهرست: إن سبب نقل المأمون الكتب اليونانية إلى العربية، أنه رأى في منامه أرسطو طاليس الحكيم وسأله بعض الأسئلة، فلما نهض من منامه طلب من الحجاج بن مطر وابن البطريق وحنين بن إسحاق ترجمة الطب. إن هذه القصة لا يصح أن تكون السبب الرئيسي لما عمله المأمون من أجل العلم على أنها تبيّن في كل حال رغبة الخلفاء في التوسع العلمي ونقل كل ما كان معروفًا من علوم الأولين، ويستدل شوكت الشطي بأن حركة الترجمة بدأت قبل عهد المأمون، وقصة رؤياه -إن صحت- دلتنا على أن الحلم كان انعكاس صورة طبيعية لما كان يفكر فيه المأمون في اليقظة.

[7] شوكت الشطي، آداب وتاريخ الطب، مطبعة الجامعة السورية، ط1، س 1956، ص47.

[8] بختيشوع تعني عبد يسوع.

[9] جرجي زيدان، مرجع سبق ذكره ص 158.

[10] عبد الله العمري، تاريخ العلم عند العرب، عمان: دار مجدلاوي للنشر و التوزيع، ط1، س 1990، ص65.

[11] جرجي زيدان، مرجع سبق ذكره، ص169- 176.

[12] أحمد عبد الباقي، معالم الحضارة العربية في القرن الثالث للهجري، مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، س 1991، ص 54.

[13] عبد الرحمن حكمت نجيب، دراسات في تاريخ العلوم عند العرب، جامعة الموصل، ط4، س 1985، ص 44.

[14] صالح أحمد العلي وآخرون، مكانة العقل في الفكر العربي، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، د. ط، د. س، ص 168-169.

[15] ابن خلدون، المقدمة، بيروت: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، س 2003، ص 491.

[16] تطلق كلمة الجاهلية خاصة على السواد الأعظم من سكان شمال الجزيرة، وذلك لأنهم أهل بداوة لم يساهموا بشيء في المدنيّة التي أقامها جيرانهم وأقرباؤهم الأنباط والتدمريون والغساسنة واللخميون. ويرى نفر من كبار المؤلفين أن كلمة الجاهلية التي أطلقت على عهد العرب قبل الإسلام ليست مشتقة من الجهل الذي هو ضد العلم، ولكن من الجهل الذي هو الاستخفاف والغضب والتجبّر والمفاخرة بالأنساب وما إلى ذلك من صفات قبلية، وقالوا أيضًا بأن الجاهلية كلمة تدل على الفترة التي كان عليها أكثر العرب قبل الإسلام من الجهل بالله تعالى وبشرائع الدين.

[17] محمد الصادق عفيفي، تطور الفكر العلمي عند المسلمين، القاهرة: مكتبة الخانجي، د. ط، س 1976، ص 173.

[18] جرجي زيدان، مرجع سبق ذكره، ص 22.

[19] عبد الله العمري، مرجع سبق ذكره، ص 80.

[20] ابن خلدون، مصدر سبق ذكره، ص 491.

[21] سورة لقمان آية: 12و13.

[22] عمر فروخ، تاريخ العلوم عند العرب، ص 165.

[23] محمد الصادق عفيفي، مرجع سبق ذكره، ص175.

[24] رحاب خضر عكاوي، مرجع سبق ذكره، ص81.

[25] ابن خلدون، مصدر سبق ذكره، ص 491.

[26] سالم السيد عبد العزيز، تاريخ الدولة العربية، بيروت: دار النهضة العربية، د. ط، د. س، ص 701.

[27] محمد عبد الرحمن مرحبا، مرجع سبق ذكره، ص 248.

[28] دستكار: كلمة فارسية الأصل، وهي ترجمة للكلمة العربية التي تعني عمل اليد.

[29] أحمد عبد الباقي، مرجع سبق ذكره، ص 533.

[30] الموسوعة العربية العالمية، ج16، ص 424 - 425.

[31] نجيب حكمت عبد الرحمن، مرجع سبق ذكره، ص 69.

[32] شوكت الشطي، مرجع سبق ذكره، ص 58.

[33] أحمد عبد الباقي، مرجع سبق ذكره، ص534.

[34] الموسوعة العربية العالمية، ج 16، ص432.

[35] زيغريد هونكه، شمس العرب تسطع على الغرب، نشر و توزيع مكتبة رحاب، د. ط، س1986، ص200.

[36] المصدر السابق، ص 197.

[37] محمد العريبي، مرجع سبق ذكره، ص 177

[38] جورجي زيدان، مرجع سبق ذكره، ص 202-203.

[39] ألكسندر دريابين، تر: ريمة علاء الدين، حافظوا على شبابكم، دمشق: منشورات دار علاء الدين، ط1، س 2001، ص 9.

[40] هوارد تيرز، تر: أحمد عبد السماح، فتح الله الشيخ، العلوم عند المسلمين، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ط1، س 2004، ص 167.

[41] رحاب خضر عكاوي، مرجع سبق ذكره، ص 330.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة