تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

التفسير السنني وتجربة التأصيل عند محمد باقر الصدر

إسماعيل نقاز

التفسير السُّنني وتجربة التأصيل 

عند محمد باقر الصدر

الدكتور إسماعيل نقاز*

 

* كلية العلوم الاجتماعية، جامعة وهران، الجزائر، البريد الإلكتروني:

nmaknaci@gmail.com

 

 

 

تمهيد

إن الحديث عن منهجية النظر في القرآن المجيد، هو حديث عن الخطوات المعرفية التي مرّت بها البحوث العلمية في قراءة النص القرآني، من حيث إنه منظومة معرفية مقدّسة ومطلقة احتوت ميادين الحياة بكل مجالاتها الإنسانية، فحري بهذه المجالات أن تنال حظها في البيان القرآني الذي يعدّ الدستور الإلهي في استجلاء المقاصد الإلهية التي تغيَّاها الشارع الحكيم في هذه الحياة.

هنا تأتي الخطوات العلمية تترا في دراسة القرآن المجيد، فظهرت في الساحة العلمية منذ القديم تفاسير متعدّدة ومتباينة في مناهجها وآلياتها، فمن التفسير بالمأثور، إلى التفسير بالرأي مرورًا بالتفسير الإشاري، إضافة إلى كثير من التفاسير المتعلّقة بميادين المعرفة المختلفة، فظهر على غرار ذلك كل من التفسير الفقهي، واللغوي، والعقدي، والقصصي،... إلخ[1].

وقد حفظت هذه التفاسير المدلول القرآني وبيّنت منطوقه، وكشفت عن مفهومه، وفسّرت مجمله ووضّحت مشكله، إلَّا أن ذلك لا يمثّل خطوة نهائية يتوقّف عندها البحث في النص القرآني، فالقرآن المجيد هذه المنظومة المقدّسة قد احتوت على مقاصد الشارع الحكيم تجاه الإنسان والكون والحياة بصفة عامة، فهي تنبض بالحياة والتجديد، والصلاحية الزمانية والمكانية.

والتفسير التجزيئي أو اللفظي أو الموضعي[2]، كان تفسيرًا وما زال يُعنى ببيان المعنى الجملي للآيات دون التوسُّع في جمع الآيات القرآنية في الموضوع الواحد، والوقوف على المقاصد الإلهية الكبرى في الإنسان والآفاق والحياة العامة، وقد نطقت بذلك الآية الكريمة التي لخَّصت لنا النظر في هذه المقاصد الإلهية العلية، فقال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[3].

إن هذه الآية الكريمة قد أعطت للنص القرآني عمقًا لا بد من الناظر فيه أن يزيده بيانًا وتنقيبًا وبحثًا عن هذه الآيات سواء في الأنفس أو الآفاق، وهو ما رأيناه في الاصطلاح بالتفسير السُّنني، وبهذا يكون التفسير السُّنني امتدادًا للتفسير التجزيئي، وأهم مورد ينهل من معينه الذي لا ينضب.

أمام هذه المدارس التفسيرية المختلفة، القديمة والجديدة، ظهرت في العصر الحديث والمعاصر، وجهات نظر مختلفة حول تجديد الخطاب التفسيري للقرآن المجيد وتوسيع الآليات المعرفية والمنهجية في دراسة النص القرآني، فظهر ما يسمى بالتفسير الموضوعي على يد كثير من الباحثين في التفسير والفكر الإسلامي، إما إشارةً أو تأصيلًا، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الشيخ محمد عبده وتلميذه رشيد رضا، محمد عبدالله درّاز، ومالك بن نبي، محمد الغزالي، محمد باقر الصدر... إلخ.

وإذا كان التفسير الموضوعي لعدد من الباحثين يختلف من حيث موضوعاته أو حتى النظرة الوصفية أو التأسيسية له، فإن تركيزنا في هذا البحث سيتمثل في دراسة إحدى هذه التجارب الفذة في تجديد الخطاب التفسيري للنص القرآني، ويتمثّل ذلك في تجربة السيد محمد باقر الصدر التأصيلية في التفسير السُّنني.

إنها خطوة ملموسة في استجلاء معنى التفسير السُّنني، ولماذا هذا المصطلح دون مصطلح التفسير الموضوعي؟ هل يرجع ذلك إلى آليات النظر المنهجية المختلفة عن التفسير الموضوعي؟ أم هو امتداد له، وطريق نحو المزيد من تعميق النص القرآني في استجلاء المقاصد الإلهية السُّننية في الآفاق والأنفس؟

ثم الحديث بعد ذلك عن تجربة التأصيل عند محمد باقر الصدر ودراسة سماتها والتنقيب عن منهجية النظر التي أفضاها على النص القرآني؛ من حيث التناول ومن حيث الموضوعات والآليات التي تدخّلت أساسًا في مضمونه.

بعد ذلك حديث في الخاتمة عن بوادر التجديد والتطلعات المستشرفة في البحث القرآني من حيث منهجية النظر وآلياته في تناول النص القرآني بوصفه دستورًا سماويًّا حاويًا لمقاصده الإلهية في النفس والاجتماع.

أمام هذه التساؤلات والإشكالات سيأتي بحثنا مبيّنًا لها في مبحثين:

أولًا: الإطار المفهومي للتفسير السُّنني وعلاقته بالتفسير الموضوعي.

ثانيًا: تجربة التأصيل للتفسير السُّنني عند محمد باقر الصدر.

أولًا: الإطار المفهومي للتفسير السُّنني وعلاقته بالتفسير الموضوعي

لقد ظهر في العصر الحديث لون من التجديد في التفسير ألا وهو التفسير الموضوعي، ويُعنى هذا التفسير بالعملية التجميعية للآيات القرآنية في وحدة الموضوع؛ أي في موضوع واحد، ثم بعد تصنيف الآيات القرآنية تأتي مرحلة التحليل واستجلاء المواقف القرآنية والمقاصد العِليَّة تجاه الموضوع المراد بحثه، كمن يريد أن يبحث ظاهرة النفاق مثلًا في القرآن المجيد كما فعل حبنكة الميداني، فيجمع الآيات التي ذكرت النفاق من أي ناحية، ثم بعد ذلك يصنف المحاور التي تدخل أساسًا في حقيقة النفاق وما يتعلَّق به من مواضيع.

هذا هو التفسير الموضوعي، وقد ذكر الشيخ محمد الغزالي مفهومين أو نوعين للتفسير الموضوعي؛ الأول: «فهو يتناول السورة كلها يحاول رسم صورة لها تتناول أولها وآخرها، وتتعرف على الروابط الخفية التي تشدّها كلها، وتجعل أولها تمهيدًا لآخرها، وآخرها تصديقًا لأولها»[4].

وهذا ما عمله الشيخ الغزالي في كتابه نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم؛ حيث نظر إلى أن سور القرآن المجيد تحتوي على وحدة موضوعية، فالمقطع والمطلع والمقصد كلها تدخل في شريان الموضوع العام للسورة، وقد أثبت ذلك من خلال إفراده لكل سورة في بحثه المشار.

أما المفهوم الثاني أو النوع الثاني فهو: «تتبع المعنى الواحد في طول القرآن وعرضه وحشده في سياق قريب، ومعالجة كثير من القضايا على هذا الأساس»[5].

وقد فصَّل الشيخ الغزالي في تأصيل هذا النوع في كتابيه: المحاور الخمسة للقرآن الكريم، وكتابه نظرات في القرآن؛ حيث بيَّن أن هذا النوع يتعلّق بالموضوعات التي تناولها القرآن الكريم فيقوم الناظر في كتاب الله بتجميعها، ثم بعد ذلك يصنّفها من خلال محاورها ومواضيعها، كما رأينا صنيع الميداني في ظاهرة النفاق.

إن هذا التفسير يعدّ من منجزات العصر الحديث في الرؤية الجديدة للقرآن المجيد، ويذكر الشيخ الغزالي أن محمد عبد الله دراز[6] هو أول من طرق هذا الباب في تأليف مستقل عندما فسّر سورة البقرة، في كتابه النبأ العظيم؛ فذكر أنه هو أول تفسير موضوعي لسورة كاملة[7].

من خلال هذه المقدمة التي رأيناها حول التفسير الموضوعي؛ نجد أن البحث القرآني بعد ذلك قد أخذ منطلقات عميقة تفوق البحث الموضوعي إلى البحث السُّنني واستجلاء المقاصد الإلهية في النفس والآفاق والكون، وهذا ما يمكن أن نصطلح عليه بالتفسير السُّنني، وهذا التفسير لا يقف انقلابًا على مفهوم التفسير الموضوعي، بقدر ما يمثّل انبعاثًا جديدًا في مزيد من تعميق النظر في مقاصد القرآن المجيد، وهنا نقف مع مفكر آخر تميّز في ساحة التجديد للفكر الإسلامي وهو محمد باقر الصدر[8].

إن هذا الأخير -كما سيأتي معنا في المبحث الثاني- لم يسمِّ منهاجه في النظر إلى القرآن المجيد تفسيرًا سُننيًّا، وإنما سمَّاه تفسيرًا موضوعيًّا، لكن من خلال المواضيع والمجالات التي طرحها في منهاجه، فإن تفسيره بحق يعدّ تفسيرًا سُننيًّا، ويمكن أن نعدّ منهاجيته في ذلك متفردة في جوار المباحث المتعدّدة للتفسير الموضوعي، فهو لا يقتصر على ضم الآيات في الموضوع الواحد المتعلّق بواقع الحياة، بقدر ما يخاطب الواقع في ذاته من خلال القرآن المجيد، فينتقل من الواقع إلى النص القرآني، وأكثر من ذلك فإن جوهرية المواضيع التي طرحها تجعلنا نقف على مواطن الإبداع والإقلاع الحضاري التي تغيَّاها في منهاجيته القرآنية الجديدة.

من خلال هذا التصوّر الحثيث في نظرية الصدر القرآنية، فإن مفهوم التفسير السُّنني في نظره عبارة عن «نسق معرفي جديد في تناول الموضوعات القرآنية يبحث عن السُّنن الإلهية الكونية في النفس والاجتماع».

إن هذا التعريف الذي أضفناه عن طريق متابعتنا لنظرية الصدر القرآنية؛ يأتي من خلال نظرنا في كتابه الذي يعدّ تأسيسًا وتأصيلًا لمفهوم التفسير السُّنني والمحاور الكبرى التي تدخل في تشكله، وهو كتاب «المدرسة القرآنية»[9]، فقد احتوى الكتاب الذي هو عبارة عن محاضرات في التفسير قدمها لطلابه، على ثلاثة محاور كبرى:

أولها: التفسير التجزيئي والتفسير الموضوعي في القرآن الكريم.

ثانيًا: السُّنن التاريخية في القرآن الكريم.

ثالثًا: عناصر المجتمع في القرآن الكريم.

في هذا الكتاب طرح الصدر نظريته الجديدة في قراءة النص القرآني، وسيأتي معنا في المبحث الثاني حديث عن مفهوم التفسير السُّنني عند باقر الصدر تأصيلًا وتوظيفًا.

ثانيًا: تجربة التأصيل للتفسير السُّنني عند محمد باقر الصدر

حديث تجربة التأصيل عند محمد باقر الصدر هو حديث عن جانبين من نظريته التجديدية في الخطاب القرآني؛ جانب تأصيلي وتأسيسي؛ حيث ذكر فيه المفاهيم والمسوغات التي يقوم عليها التفسير السُّنني، وجانب توظيفي ندب فيه الصدر نفسه إلى محتويات السُّنن التي لا بد من استجلائها من النص القرآني والمحاور الكبرى التي تنضوي تحتها، والمجالات المعرفية التي تدخل في إطارها.

1- تأصيل النظرية

قبل أن نُشير إلى محتويات التفسير السُّنني، لا بد أن نبيّن الفرق الذي ذكره الصدر بين التفسير التجزيئي الكلاسيكي وبين التفسير الموضوعي كما سماه أو التفسير السُّنني كما وظفه، ثم بعد ذلك حقيقة التفسير السُّنني ويتعلّق الأمر بمعنى السُّنة في مفهوم باقر الصدر، ثم حقيقة الربط بين السُّنة والقرآن المجيد، وأخيرًا علاقة القرآن المجيد بالسُّنن التاريخية.

الفرق بين التفسير التجزيئي والتفسير الموضوعي - السُّنني

أول درس يعقده الصدر هو حديثه عن الفرق بين التفسير التجزيئي والموضوعي، فهو يقصد بالتفسير التجزيئي هو ذلك التفسير الذي عهدناه على مدار التاريخ عبر مختلف المدارس التفسيرية حيث يُعنى ببيان مدلول النص القرآني آية آية.

يرى الصدر أن هذا التفسير لا يمكن الاستغناء عنه أبدًا، لكن لا يمنعنا من تعميق النظر في القرآن المجيد؛ لأن هذا التفسير في نظره لا يوصلنا في نهاية المطاف إلى نظرية قرآنية لكل مجال من مجالات الحياة، لأنه يعتقد أن: «هناك تراكم عددي للمعلومات، إلَّا أن الخيوط بين هذه المعلومات، أي الروابط والعلاقات التي تحوّلها إلى مركبات نظرية، ومجاميع فكرية، بالإمكان أن نحصر على أساسها نظرية القرآن لمختلف المجالات والمواضيع»[10].

وهذا غير متيسر في التفسير التجزيئي، أما الاتجاه الثاني وهو التفسير الموضوعي أو السُّنني، فهو: «يحاول القيام بالدراسة القرآنية لموضوع من موضوعات الحياة العقائدية أو الاجتماعية أو الكونية فيبيّن ويبحث ويدرس، مثلًا عقيدة التوحيد في القرآن أو يبحث عقيدة النبوة في القرآن أو عن المذهب الاقتصادي في القرآن أو عن سنن التاريخ في القرآن أو عن السماوات والأرض في القرآن الكريم وهكذا. ويستهدف التفسير التوحيدي أو الموضوعي من القيام بهذه الدراسات تحديد موقف نظري للقرآن الكريم وبالتالي للرسالة الإسلامية من ذلك الموضوع من موضوعات الحياة أو الكون»[11].

إن هذه الانطلاقة في بيان الفرق بينهما تجعل الصدر يجزم بأن مثل هذا التفسير حريّ بأن يكون مادة التفسير في هذا العصر الذي أصبح عصر النظرية، أو العقل الكلي التصوري، والفهم الشامل الذي يسحب معه العقول نحو الأيديولوجيا التي يتّخذها الناس بعد ذلك اعتقادًا ودينًا يناضلون من أجله.

هنا يقف القرآن المجيد بمعطياته المطلقة والإنسانية في الوقت نفسه، متمثلًا في السُّنن التاريخية التي احتواها، مجيبًا في قوالب عامة كلية عن هذه السُّنن التي لا يحيد عنها المجتمع الإنساني في تكونه وتكوينه، ولا بد له ألَّا يحيد عنها إذا أراد أن ينشد العدالة ومعاني الصلاح في الدنيا والدين.

بعد أن يذكر الصدر مبررات هذا الاتجاه، وأوجه المفارقة بينه وبين التجزيئي، يلمح إلى أهم الاستراتيجيات التي تقوم عليها نظريته في منهاجية القراءة الجديدة للخطاب القرآني، فهو يرى أن الناظر في القرآن المجيد لا بد أن يشكّل استجابة حوارية بين الواقع الذي يبدأ به ويعمّق الفكرة في النظر إلى موضوعاته وإشكالاته في أي حقل من حقول الحياة الإنسانية، ويستوعب ما أثارته تجارب الفكر الإنساني من مشاكل وحلول، وما تركته من فراغات، بعدها يلوي عنان فكره إلى النص القرآني، لا ليتخذ من نفسه مستمعًا أو مسجلًا فحسب؛ «بل ليطرح بين يدي النص موضوعًا جاهزًا مشرقًا بعدد كبير من الأفكار والمواقف البشرية، ويبدأ مع النص القرآني حوارًا، المفسر يسأل والقرآن يجيب المفسر على ضوء الحصيلة التي استطاع أن يجمعها من خلال التجارب البشرية النافعة، وهو يستهدف من ذلك أن يكتشف موقف القرآن الكريم من الموضوع المطروح والنظرية التي بإمكانه أن يستلهمها من النص من خلال مقارنة هذا النص بما استوعبه الباحث عن الموضوع من أفكار واتجاهات، ومن هنا كانت نتائج التفسير الموضوعي نتائج مرتبطة دائمًا بتيار التجربة البشرية لأنها تمثل المعالم والاتجاهات القرآنية لتحديد النظرية الإسلامية بشأن موضع من مواضيع الحياة، ومن هنا أيضًا كانت عملية التفسير الموضوعي عملية حوار مع القرآن الكريم واستنطاق له، وليست عملية استجابة سلبية بل استجابة فعّالة وتوظيفًا هادفًا للنص القرآني في سبيل الكشف عن حقيقة من حقائق الحياة الكبرى»[12].

فهذا الخيط الرفيع هو الذي يحدّد منهاجية النظر في التفسير السُّنني، فهو ينظر إلى الواقع أولًا يسائله، يباشره، يصاحبه، ثم بعد ذلك يأتي إلى النص القرآني ليستجلي منه المقاصد العلية عن كل الإشكالات التي تبدّت من هذا الواقع بمختلف مجالاته.

1.1- معنى السُّنة في مفهوم الصدر وعلاقتها بالقرآن المجيد

ليس مقصود السُّنة هنا ذلك الاصطلاح الذي عهدته كتب علم الحديث، وإن كان من الناحية اللغوية يصب في قالبه، لكن من الناحية الوظيفية في مفهوم الصدر، فهي تخرج عن ذلك الاصطلاح الذي حدّد مفهومها في أقوال وأفعال وتقريرات النبي عليه الصلاة والسلام، ليجتاز بذلك التصنيف الفني لمصطلح السُّنة -الذي عهده المحدثون- إلى المفهوم القرآني الذي نطقت به آياته وسوره، قوله تعالى في مواضيع عديدة منها: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا}[13]، {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}[14]، {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا}[15]، {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}[16]، {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}[17]، {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ}[18].

هذه أهم النصوص التي اتخذها الصدر سلَّمًا في البحث عن السُّنن القرآنية، يحدّد مفهوم السُّنة بأنها الناموس الذي وضعه الشارع الحكيم سبحانه، وهي الضوابط التي تتحكم في سيران التاريخ، ثم إن الإنسان لن يستطيع الوقوف على حقائق الحياة إلَّا إذا وقف عليها، فإذا عرفها وسار على نهجها ضمنت له بعد ذلك معرفة حقيقية بمجريات التاريخ وقانون الحياة.

فقد قاوم القرآن المجيد النظرة العفوية أو النظرة الغيبية الاستسلامية بتفسير الأحداث، الإنسان الاعتيادي كان يفسر أحداث التاريخ بوصفها كومة متراكمة من الأحداث، يفسرها على أساس الصدفة تارة وعلى أساس القضاء والقدر والاستسلام لأمر الله سبحانه وتعالى. القرآن الكريم قاوم هذه النظرة العفوية، وقاوم هذه النظرة الاستسلامية، ونبَّه العقل البشري إلى أن هذه الساحة لها سنن ولها قوانين، وأنه لكي تستطيع أن تكون إنسانًا فاعلًا مؤثرًا لا بد لك أن تكتشف هذه السُّنن[19]، لا بد وأن تتعرف على هذه القوانين لكي تستطيع أن تتحكم فيها وإلَّا تحكّمت هي فيك وأنت مغمض العينين.

وتتمثّل علاقة السُّنة بالقرآن المجيد، في أن هذا الكتاب قد حوى من السُّنن والنواميس الكونية ما يجعله الكتاب المقدّس الذي يعدّ المعيار الأساس في القوانين السُّننية التي وضعها الشارع الحكيم، يعبر عن ذلك الصدر بقوله: «نحن الآن نريد أن نتناول هذه المادة القرآنية من زاوية أخرى، من زاوية مقدار ما تلقي هذه المادة من أضواء على سنن التاريخ، على تلك الضوابط والقوانين والنواميس التي تتحكم في عملية التاريخ إذا كان يوجد في مفهوم القرآن شيء من هذه النواميس والضوابط والقوانين»[20].

ينتقل الصدر بعد ذلك مبيّنًا خصائص السُّنن ومحتواها أو طبيعتها من حيث علاقتها بالإنسان، ومن حيث مصدريتها وثبوتها، فبيّن أنها تتميّز بثلاثة مرتكزات لا تخرج عنها أبدًا:

1- الاطراد: بمعنى أن السُّنة التاريخية ذات طابع موضوعي وليس عشوائي، يوضح ذلك بقوله: «بمعنى أن السُّنة التاريخية مضطردة ليست علاقة عشوائية، ذات طابع موضوعي لا تتخلّف في الحالات الاعتيادية التي تجري فيها الطبيعة والكون وعلى السُّنن العامة، وكان التأكيد على طابع الاطراد في السُّنة تأكيدًا على الطابع العلمي للقانون التاريخي، لأن القانون العلمي أهم مميز يميزه عن بقية المعادلات والفروض والاطراد والتتابع وعدم التخلف»[21].

2- ربانية: أي إن هذه السُّنن هي إرادة الله وقوانينه، وإشعار الإنسان بأن: «الاستعانة بالنظام الكامل لمختلف الساحات الكونية والاستفادة من مختلف القوانين والسُّنن التي تتحكّم في هذه الساحات، ليس ذلك انعزالًا عن الله سبحانه وتعالى لأن الله يمارس قدرته من خلال هذه السُّنن، ولأن هذه السُّنن والقوانين هي إرادة الله، وهي ممثّلة لحكمة الله وتدبيره في الكون»[22].

3- بشرية: أي مترتبة على فعل بشري، يستند في ذلك إلى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[23]، إن هذه الآية في نظر الصدر قد جسّدت لنا حقائق ثلاث هي: أنها تترتب على فعل بشري هو السلوك الإيجابي، وعلى تدخل من السماء هو تحسين أوضاعهم بناء على تغييرهم لسلوكهم نحو الإيجاب، وأن هذا الترتب والتحسين يجسد قانونًا مطردًا لا تخلّف فيه.

من هنا يتبيّن أن خصائص السُّنة التاريخية في نظر الصدر تتحدّد بسمات ثلاث: أولًا أن ترتبط بسبب، ثانيًا أن ترتبط بهدف، ثالثًا أن تكون ذات أرضية اجتماعية[24].

2.1- علاقة القرآن المجيد بالسُّنن التاريخية

رأينا من قبلُ موقع السُّنن في جوار النص القرآني، لكن باقر الصدر عندما يطرح مصطلح السُّنة يضيف إليه بعد ذلك التاريخية، فيقول السُّنن التاريخية، هنا وقفة لا بد أن نقفها؛ ذلك أن أول بحث يتعرض إليه الصدر في نظريته هو بيان السُّنن التاريخية في القرآن الكريم، يطرح إشكالات متعددة: هل للتاريخ البشري سنن؟ ما هو دور الإنسان في عملية التاريخ؟ ما هو موقع السماء أو النبوة على الساحة الاجتماعية؟ إلى غيرها من التساؤلات.

لكن ما يعدّ إشكالًا هل القرآن المجيد كله يحتوي على السُّنن التاريخية فقط، ثم هل السُّنن التاريخية شاملة لكل السُّنن التي ذكرها القرآن المجيد، بمعنى آخر: هل تقتصر السُّنن على أن تكون تاريخية، ثم لماذا تاريخية؟ ولِمَ لم يقل: سننًا اجتماعية أو سياسية، وقال: سننًا تاريخية.

إن من خلال المرتكزات الثلاثة التي تقوم عليها السُّنن التاريخية، فإن الصدر يرى أن كل شيء يتعلق بالإنسان خاضع لهذه السُّنن، حتى الدين فهو سنة تاريخية؛ لأن «القرآن الكريم يرى أن الدين نفسه سنة من سنن التاريخ، سنة موضوعية من سنن التاريخ ليس الدين فقط تشريعًا، وإنما هو سنة من سنن التاريخ »[25].

فالساحة التاريخية يلخص فيها السُّنن القرآنية، وإن كانت هنالك إشارات في القرآن المجيد عن الساحة الفلكية، والساحة النباتية والطبيعية، إلَّا أن القرآن المجيد لم ينص على هذه الإشارات إلَّا: «بالحدود التي تؤكد على البعد الإلهي للقرآن، وبقدر ما يمكن أن يثبت العمق الرباني لهذا الكتاب الذي أحاط بالماضي والحاضر والمستقبل، والذي استطاع أن يسبق التجربة البشرية مئات السنين في مقام الكشف عن حقائق متفرّقة في الميادين العلمية المتفرقة، لكن هذه الإشارات القرآنية إنما هي لأجل غرض عملي من هذا القبيل»[26].

والجانب البشري يخضع لسنن التاريخ، فلا بد إذن أن نستلهم، ولا بد إذن أن يكون للقرآن الكريم تصورات وعطاءات في هذا المجال لتكوين إطار عام للنظرة القرآنية والإسلامية عن سنن التاريخ. إن هذا لا يشبه سنن الفيزياء والكيمياء والفلك والحيوان والنبات، تلك السُّنن ليست داخلة في نطاق التأثير المباشر على عملية التاريخ.

ومن هنا فالقرآن المجيد كتاب هداية، وعملية تغيير، هذه العملية التي عبّر عنها بإخراج الناس من الظلمات إلى النور، وعملية التغيير هذه فيها جانبان، فالساحة التاريخية تشمل كل ما يجري من أحداث سياسية واجتماعية وعقائدية وعسكرية، إلَّا أن السُّنن التاريخية لها جانبان جانب سماوي رباني وجانب تاريخي بشري.

فالجانب الأول يمثل شريعة الله تعالى التي نزلت على النبي عليه الصلاة والسلام، وتحدث بنفس نزولها عليه كل سنن التاريخ؛ لأن: «هذه الشريعة كانت أكبر من الجو الذي نزلت عليه، ومن البيئة التي حلّت فيها، ومن الفرد الذي كلف بأن يقوم بأعباء تبليغها. هذا الجانب من عملية التغيير، جانب المحتوى والمضمون، جانب التشريعات والأحكام والمناهج التي تدعو إليها هذه العملية، هذا الجانب جانب رباني إلهي»[27].

فحينما تؤخذ العملية التغييرية بوصفها تجسيدًا بشريًّا على الساحة التاريخية، فعندها تكون بشرية، ويكون الناس سواسية تحكمهم سنن التاريخ، فعملية التغيير التي مارسها القرآن ومارسها النبي عليه الصلاة والسلام لها جانبان من حيث صلتها بالشريعة والوحي فهي ربانية، وفوق التاريخ، ولكن من حيث كونها عملًا قائمًا على الساحة التاريخية، فتكون عملًا تاريخيًّا تتحكم فيه السُّنن التاريخية التي وضعها الباري سبحانه لتنظيم ظواهر الكون.

بعد هذا التأصيل في بيان حقيقة التفسير السُّنني وعلاقته القرآن المجيد، ثم حديث التأسيس بعد ذلك، يأتي المطلب الثاني ليكون البساط الذي أفرش فيه الصدر نظريته في الجانب الوظيفي.

2- توظيف النظرية

لقد رأينا أن أول بحث استهل به الصدر حديثه عن تأصيل التفسير السُّنني ذكره للسنن التاريخية في القرآن المجيد، وقد قلنا: إن الصدر يعتقد أن كل الظواهر الإنسانية التي ذكرها القرآن المجيد هي من قبيل السُّنن التاريخية، فحتى التدين بوصفه ظاهرة تجمع بين نوازع السماء واستجابة البشر هو ظاهرة تدخل ضمن الساحة التاريخية التي حوت السُّنن القرآنية.

1.2- أشكال السُّنن التاريخية:

عندما يقف الصدر مبيّنًا طبيعة السُّنن التاريخية وعلاقتها بالإنسان في حديثه عن فلسفة النصر والهزيمة كما ذكرها القرآن المجيد وموقف الإنسان منها ووظيفته، يجعل ديباجة الولوج إلى هذا الموضوع أن السُّنن التاريخية لها ثلاثة أشكال، ولن نستطيع أن نفك الشفرة عن كثير من السُّنن والمعطيات القرآنية إلَّا إذا ميزنا بين هذه الأشكال:

الشكل الأول: شكل القضية الشرطية.

الشكل الثاني: شكل القضية الفعلية.

الشكل الثالث: شكل القضية الاتجاهية.

أما الأولى فهي القضية التي يتحقق جزاؤها متى ما تحقق شرطها، مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، فالأولى جزاء والثانية شرط لتحقيقه.

أما الثانية فهي شكل القضية الفعلية، والمقصود بها الناجزة الوجودية المحققة، فهذه القضايا المحققة لا يملك الإنسان تجاهها أن يغيّر من ظروفها أو يعدّل من شروطها؛ لأنها صيغت بلغة التنجيز والتحقيق بلحاظ زمن معين[28].

ويُشير الصدر إلى أن هذا الشكل هو الذي كان مدخلًا أوحى به الشك في الفكر الأوروبي أن هنالك تعارضًا بين فكرة سنن التاريخ وفكرة اختيار الإنسان؛ «نشأ هذا التوهم الخاطئ الذي يقول بأن فكرة سنن التاريخ لا يمكن أن تجتمع إلى جانب فكرة اختيار الإنسان؛ لأن سنن التاريخ هي التي تنظم مسار الإنسان وحياة الإنسان؛ إذن ماذا يبقى لإرادة الإنسان؟ هذا التوهُّم أدى إلى أن بعض المفكرين يذهب إلى أن الإنسان له دور سلبي فقط حفاظًا على سنن التاريخ وعلى موضوعية هذه السُّنن، ضحَّى باختيار الإنسان من أجل الحفاظ على سنن التاريخ فقال بأن الإنسان دوره دور سلبي وليس دورًا إيجابيًّا، يتحرّك كما تتحرّك الآلة وفقًا لظروفها الموضوعية »[29].

هذا التعارض غير وارد إذا فهمنا بأن هنالك سننًا لا تحيد فيبقى الإنسان يتعامل على وترها، ولا يمكن أن يتحرّر من بوتقتها؛ لأن نواميس الخلق كانت على ذلك النحو، مثل العالم الفلكي حينما يصدر حكمًا علميًّا على ضوء قوانين مسارات الفلك بأن الشمس سوف تنكسف في اليوم الفلاني، أو أن القمر سوف ينخسف في اليوم الفلاني هذا قانون علمي وقضية علمية، إلَّا أنها قضية وجودية ناجزة، وليست قضية شرطية، لا يملك الإنسان اتجاه هذه القضية أن يغيّر من ظروفها وأن يعدّل من شروطها.

أما الثالثة وهي المستهدفة في بحثه، حيث عبّر عنها القرآن المجيد كثيرًا، وهي: «أن السُّنة التاريخية المصاغة على صورة اتجاه طبيعي في حركة التاريخ لا على صورة قانون صارم حدّي»، ويعني بها السُّنة التكوينية التي تُقرن بالمرونة بحيث يمكن أن يتحدَّاها الإنسان، «ولكن المتحدّي يتحطّم على يد سنن التاريخ نفسها»، بمعنى أنه يمكن أن يتحدّاها على مدى الشوط القصير. ولتوضيح ذلك قدم الصدر مثال قوم لوط عندما استحلُّوا فاحشة اللواط، أمكنهم أن يتحدّوا مؤقتًا، إلَّا أنهم تحطّموا نتيجة ذلك.

ينطلق الصدر من هذا الشكل ليبيّن مسألة في غاية الأهمية ليتحّدث عن الظاهرة الدينية، قائلًا: «وأهم مصداق يعرضه القرآن الكريم لهذا الشكل من السُّنن هو الدين، القرآن الكريم يرى أن الدين نفسه سنة من سنن التاريخ، سنة موضوعية من سنن التاريخ ليس الدين فقط تشريعًا، وإنما هو سنة من سنن التاريخ، ولهذا يعرض الدين على شكلين: تارة يعرضه بوصفه تشريعًا كما يقول علم الأصول: بوصفه إرادة تشريعية»، وذلك مثل قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ}[30].

هنا يبيّن الدين كتشريع كقرار كأمر، لكن في مجال آخر: «يبينه سنة من سنن التاريخ وقانون داخل في صميم تركيب الإنسان وفطرة الإنسان»[31].

وفي هذا السياق يفسر الصدر حقيقة العذاب الجماعي الذي كان مصير الأمم السابقة، أن سببه هو تحدي هؤلاء للسنن الإلهية التي لا يمكن أن تتحدى على المدى البعيد، فالشرك والكفر كلها معانٍ تناقض سنة تاريخية فطرية في الإنسان لا تتبدل ولا يمكن أن تتبدل.

2.2- عناصر المجتمع في القرآن المجيد

يعدّ هذا الجانب من نظرية الصدر الوظيفية والعملية بمثابة المسرح الذي أسس عليه نظريته، فهو يعتقد أن السُّنن التاريخية لا يوجد لها حيّز تتحرّك وتحيا فيه إلَّا المجتمع الإنساني فما هي عناصر هذا المجتمع؟ ما هو دوره بوصفه أولًا سنة تاريخية وثانيًا مسرحًا للأحداث والابتلاءات، وتجسيد السُّنن؟.

انطلق الصدر يحلّل عناصر المجتمع بأنها لا تخرج عن ثلاثة:

1- الإنسان.

2- الأرض أو الطبيعة.

3- العلاقة التي تربط الإنسان بالطبيعة من جانب، وبأخيه من جانب آخر.

فالصيغة إما ثلاثية (الإنسان، الطبيعة، والآخر)، تحيا بمعزل عن الله، وإما رباعية تتعامل مع الله بإضافة الباري عز وجل إلى هذه الصيغة.

ويترتّب على الصيغة الرباعية، أن تكون علاقة الإنسان مع الطبيعة ومع الآخر علاقة «أمين على أمانة استؤمن عليها» حيث «لا سيّد ولا مالك للكون والحياة إلَّا الله، وأن دور الإنسان في ممارسة حياته هو الاستخلاف، وليست علاقة سيادة أو مالكية»[32].

وهذه على عكس الصياغة الثلاثية التي تحيا بمنأى عن الله تعالى، حيث استتبعت سيادة الإنسان على أخيه الإنسان، وسيادة الملكية على الأرض وثرواتها.

هنا يطرح مسألة توازن المجتمعات وعدمها، بأن ذلك متعلّق بمدى الربط بين الصيغتين الرباعية والثلاثية من خلال التفسير القرآني للظاهرة. طبيعي أن علم الاجتماع قائم على إشكالية ما الذي يجعل المجتمعات متوازنة؟ دافع هذا التساؤل إما المشكلات الاجتماعية متمثلة في شتى ألوان الانحراف، وإما الانحراف البنائي العام للمجتمعات[33].

والسؤال هنا: ما هي الخطوط التي طرحها الصدر ليستدل بها على سننية سيرورة المجتمع في الحفاظ على توازنه؟، هنا معادلة معقدة يذلل مصاعبها الصدر حين يربط بين الصيغة الثلاثية والرباعية.

يعتقد الصدر بأن حركة التاريخ تتميّز بكونها هادفة تتَّجه نحو المستقبل، وأن الوجود الذهني للإنسان هو المحرك لذلك، فهو يتضمن فاعلين «الأفكار»، و«الإرادة»، وهذان يصوغان المحتوى الداخلي للإنسان، والمحور الأساس لهذا المحتوى هو البحث عن «المثل الأعلى»، أي أن المثل الأعلى هو وجهة نظر الإنسان إلى الحياة، والكون في شتى مستوياته.

ينطلق الصدر من القرآن المجيد ليستخلص موقع «المثل الأعلى» في صياغة النماذج التي يسير على وفقها الإنسان ويعتقدها بعد ذلك، مستصحبًا في ذلك التجربة الشخصية التي خاضها والتجربة التاريخية عمومًا، يقسم المثل الأعلى إلى ثلاثة أنماط:

1- مثل يستمد مادته من الواقع الذي يحياه الإنسان.

2- مثل يستمد مادته من الطموح نحو المستقبل.

3- مثل يستمد مادته من مبادئ الله تعالى.

ينزل الصدر قليلًا إلى واقع المجتمع العربي من خلال هذه المثل، حيث إن المجتمع العربي الحديث في منظمته الاجتماعية إذا حاد عن التوفيق بين الصيغة الثلاثية والرباعية، فهو بين خيارين: إما أن تتداعى الأمة أمام الغزو الخارجي، وإما تستورد مثلًا جديدًا هو الحضارة الأوروبية، ويبقى في حال التوافق بين القوى المعيارية التي حلّل بها عناصر المجتمع، أن تتولّد في أعماق الأمة فكرة إعادة المثل الأعلى الديني، وهذا ما حدث حين ظهر رواد الفكر الإسلامي ضد الحضارة الأوروبية.

وهنا يتّخذ من المثل الثالث معيارًا أساسًا في توجيه المثل الأول والثاني؛ لأن أي سلوك إيجابي أو طموح نحو المستقبل قد اكتسب سمته الإيجابية بحيث استوعب كما يقول الصدر: نفحة أو شيء أو قبضة من المطلق، إنما يعود إلى إلهامية الخير والشر[34]، أي إلى المثل الثالث.

بعد تحديد هذه المثل يأتي الصدر في عملية استقرائية يبحث عن عوامل النماء والفتور التي وقعت فيها الأمة على مدار التاريخ، ويقارن ذلك بحضارة الغرب الأوروبي، كل ذلك تحت الوشائج التي تقف دونها عناصر المجتمع وهي الصيغتان الرباعية والثلاثية، وعلاقة ذلك كله بالمثل الثلاث.

ولن يُسعفنا نطاق البحث أن نواصل التجربة التي خاضها في بيان السُّنن التاريخية من القرآن المجيد، وموقفها على الساحة التاريخية ترشيدًا وإقلاعًا حضاريًّا، وفي هذا القدر كفاية في بيان الخطوط الرفيعة التي تربط القرآن المجيد بالتفسير السُّنني، وأثر ذلك في نظريته المنهاجية تجاه هذا النص المقدس.

 

 



[1] عبد الله شحاتة، علوم التفسير، دار الشروق، ط1: 1421/ 2001، ص90.

[2] كما اصطلح الشيخ محمد الغزالي، نحو تفسير موضوعي لسور للقرآن الكريم، دار الشروق، ط4: 1420/ 2000م، ص5.

[3] فصلت: 53.

[4]محمد الغزالي، نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم، ص5.

[5] المرجع نفسه، ص6.

[6] محمد عبد الله دراز، النبأ العظيم، قطر: دار الثقافة، ط: 1405هـ/ 1985م، ص158.

[7] محمد الغزالي، نحو تفسير موضوعي لسور القرآن الكريم، ص 5.

[8] هو السيد محمد باقر بن السيد حيدر بن السيد إسماعيل الصدر الكاظمي الموسوي، ولد في مدينة الكاظمية في بغداد سنة 1353هـ المصادف 1935م. وقتل المرجع المفكر ودفن في مدينة النجف الأشرف، وذلك يوم الأربعاء المصادف 9/ 4/ 1980م. له مؤلفات كثيرة في الفكر الإسلامي بمختلف مجالاته أهمها المدرسة القرآنية، فلسفتنا، اقتصادنا. أخذت الترجمة من كتاب: السيد الصدر، دراسة في المنهج، نزيه الحسن، بيروت: دار التعارف، ط: 1413هـ/ 1992م، ص16.

[9] الكتاب عبارة عن محاضرات ألقاها على الطلبة، وهي تضم أربعة عشر محاضرة، الأخيرة منها وعظية، أما الأخرى فهي حديث عن نظريته في التفسير، وقد طبع هذا الكتاب بعد تفريغه من أشرطة تسجيل، وطبع تحت عنوان «المدرسة القرآنية»، محمد باقر الصدر، بيروت: دار التعارف للمطبوعات، ط: 1401هـ/1981م. والظاهر أن العنوان هو من إنشاء طلبته، وهناك طبعات أخرى وردت تحت عنوان «مقدمات في التفسير الموضوعي» كذلك من إنشاء طلبته.

[10] محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية، ص 13.

[11] المرجع نفسه، ص14.

[12] المرجع نفسه، ص1.

[13] الإسراء 77.

[14] الأحزاب 62.

[15] الأحزاب 38.

[16] الفتح 23.

[17] آل عمران 137.

[18] النساء 26.

[19] المدرسة القرآنية، ص 59.

[20] المدرسة القرآنية، ص 23.

[21] المرجع نفسه، ص61.

[22] المرجع نفسه، ص63.

[23] الرعد 11.

[24] عبدالإله المسلم، سنن التاريخ عند الشهيد باقر الصدر، مجلة ثقافتنا للدراسات والبحوث، المجلد 2، العدد السابع 1426هـ/ 2005م، ص 67.

[25] المدرسة القرآنية، ص 91.

[26] المدرسة القرآنية، ص 35.

[27] المدرسة القرآنية، ص39.

[28] المدرسة القرآنية، ص90.

[29] المدرسة القرآنية، ص91.

[30] الشورى 13.

[31] المدرسة القرآنية، ص97.

[32] المدرسة القرآنية، ص 102.

[33] عبد الإله المسلم، سنن التاريخ عند الشهيد باقر الصدر، ص73.

[34] عبد الإله المسلم، سنن التاريخ عند الشهيد باقر الصدر، ص79.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة