تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الحوار برؤية إسلامية

أحمد فيصل أحمد

الحوار برؤية إسلامية

 

أحمد فيصل أحمد*

 

* كاتب من الكويت.

 

 

 

 

ﷺ المقدمة

إن القرآن الكريم ذلك الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه جاء ليرسم ملامح التكامل الإنساني للبشرية على جميع الصعد، المادي منها والمعنوي، فهو الكلمة الفاصلة لكل ما يريده الباري جلَّ وعلا وما ينهى عنه، بل هو تعبير عن الرسالات السماوية جمعاء، فكان اللسان الناطق عن تلك الديانات وكتابها الخاتم، وهو المصدر الإسلامي الأصيل لفكر الإسلام وشريعته.

وهو الوثيقة التي تنبغي مراجعتها على الدوام بأسلوب واعٍ لنجد فيه الحوار الذي يتعلّق بكل قضايا العقيدة ابتداءً من فكرة وجود الله تبارك وتعالى ووحدانتيه إلى الأحكام الشرعية.

فكان القرآن في حياة المسلمين يمثل المرجع والمدرسة التي ينطلق منها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه في الأساليب المتنوعة للحوار، وكانت آياته الشريفة تمثّل الدروس العملية في تجسيد وصول الحوار إلى هدفه ومبتغاه الذي ارتضاه الحق تبارك وتعالى.

فالحوار يشكّل الأصل في الإسلام وما عداه يُعدّ طارئًا يحتاج إلى دليل عليه؛ إذ إن الدعوة إلى الله والتي كانت تشكّل المحور في حياة المسلمين في بداية انطلاق الرسالة كانت قائمة على الحوار الهادف الرصين، القائم على الحكمة والعبرة، والقرآن وهو كتاب السماء لا ينفك عن التأكيد على الحوار في العلاقات مع الآخر.

ومن خلال ملاحظة السلوك العام للمجتمعات الإسلامية يتبيَّن أن السلوك الشائع بين أبناء هذه الأمة قد ابتعد عمّا رسمته الشريعة السمحاء من أساليب الحوار وغاياته؛ إذ إن التصادم وإلغاء بقية الأطراف غير المتوافقة والاستبداد بالرأي والتسلط أصبحت سمة بارزة في المجتمعات التي ترفع الإسلام شعارًا لها، ولا تختص هذه السمة بفئة مجتمعية دون أخرى، بل قد استشرت هذه الظاهرة حتى في أوساط البيئة الملتزمة دينيًّا وتتَّخذ من الإسلام هوية لها في تطبيقها له وفق فهمها الشخصي لنصوصه، في إشارة واضحة إلى عدم استيعاب السبيل الذي رسمه القرآن الكريم في الدعوة الإسلامية، أو الجهل (قصورًا أو تقصيرًا) بالتطبيق العملي للمنهج القرآني في الحوار.

وفي هذا البحث المختصر سنعمل على تسليط الضوء على بعض المسارات التي رسمها القرآن الكريم حول الحوار وغاياته وأساليبه لتتضح ملامح الحوار الذي ارتضاه الإسلام وترتفع بعض الشبهات حوله ليبقى في الأفق جليًّا الحوار برؤية إسلامية.

ﷺ مفهوم الحوار والجدل

الحوار في اللغة كما ذكره ضمرة (2005) والحبيب (2013) هو مأخوذ من الحور: وهو رجوع عن الشيء وإلى الشيء، ويفصّل ضمرة (2005) في مادة حور إلى أن الحور: النقصان بعد الزيادة؛ لأنه رجوع من حال إلى حال، والمحاورة: المجاوبة، والتحاور: التجاوب، والمحاورة: مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة، وحاوره محاورة وحوارًا: جاوبه وجادله، وتحاوروا: تراجعوا الكلام بينهم وتجادلوا.

وأما اصطلاحًا فهو مناقشة بين طرفين –أو أطراف- بقصد تصحيح الكلام، وإظهار الحجة، وإثبات حق، ودفع شبهة، وردّ الفاسد من القول والرأي.

وقد ورد في القرآن الكريم في ثلاثة مواضع:

1. في قصة أصحاب الجنة في سورة الكهف{وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا}[1].

2. في نفس القصة {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا}[2].

3. في صدر سورة المجادلة {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}[3].

وأما الجدال الذي يقوم مقام الحوار، بل إنه أحد أساليب الدعوة إلى الله كما ورد في القرآن الكريم {إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ}[4]، فقد جاءت الإشارة إليه في سبعة وعشرين موضعًا في القضايا الدينية التي تتعلّق بالعقيدة والحياة، ولكن الطابع الذي يغلب على لفظ المجادلة هو الدلالة على اللدد والخصومة، والجدال والمجادلة والجدل كل ذلك ينحى منح الخصومة أو بمعنى العناد والتمسُّك بالرأي والتعصُّب له، بدليل ما جاء في القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ}[5]، وقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ}[6]، أما الحوار والمحاورة فهي مراجعة الكلام والحديث بين طرفين دون أن يكون بينهما ما يدل بالضرورة على الخصومة.

والسبب في ذلك يرجع إلى الواقع الذي عاشه الإسلام من تحدٍّ ومواجهة لخصومه، حيث إنه كان يقارع حججهم مستخدمًا أسلوب الجدال، وفي هذا الصدد يُشير فضل الله (1983) إلى أن كلمة (الجدل) أخذت مدلولًا يوحي بالطريقة التي يتَّخذها المتناظران، أو المتجادلان ليغرقا حديثهما بالكلام العقيم الذي قد يقترب من الترف الذهني بما يثيره من قضايا جانبية تحرف مسار الفكرة لتدخلها في متاهات لا يتمكن الإنسان من الخلاص منها، وإلى ماذا يكون مآلها.

كما أنها تحوّلت إلى صناعة يقصدها الكثيرون لذاتها من أجل التدرّب على الأخذ والرد والهجوم والدفاع في مجال الصراعات الفكرية ليس بهدف إثبات الحقيقة، وإنما لإثبات الرأي وإن كان باطلًا.

ومع ذلك لا يمكن إطلاق سلبية الجدال؛ إذ إنها جزء من الحوار، والحوار أعم من الجدال، فإن كان الحوار عقيمًا فليس بالضرورة أن يتحوّل إلى الجدل، وإن كان الجدل يؤتي أكله من هدفية الحوار فبذلك لا يكون الجدال سلبيًّا، فالإنسان فُطر على مواجهة الحياة وما يواجهه فيها، فلا تستقر نفسه حتى يجد ما يشفي غليل تساؤلاته ويروي ظمأه فيها، وبذلك يتَّخذ الأساليب المختلفة من الحوار تارة والجدال تارة أخرى حتى ينتقل من مرحلة الشك إلى مرحلة اليقين، وبذلك يكون الجدال وهو الحوار القائم على إقناع وإفحام الطرف المقابل بما يسلم به هو من اعتقاد.

فالحوار يتمثّل في إدارة الفكرة بين طرفين مختلفين أو أطراف متنازعة، والجدال الذي يتجسَّد في إعطاء الحوار قوة العناد للفكرة والإصرار عليها.

وبناء على المواضع الأربعة التي ذكرت آنفًا والتي ورد فيها الجدال دون الدلالة على الخصومة واللد في الحوار، وهي كما في قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[7]، و{وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[8]، ومنها ما لم يقيد بالحسنى {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ}[9]، و{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}[10]، يذكر ضمرة (2005) القواعد العامة للجدل بالتي هي أحسن ومنها:

1. طلب الحق والبعد عن التعصب، انطلاقًا من قوله تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[11]، وهي دعوة واضحة للتخلي عن التعصب وإعلان الرغبة في طلب الحق أنّى كان.

2. التمسك بالأخلاق الفضيلة والابتعاد عن أسلوب التجريح والاستهزاء لما له من دور في اتساع رقعة الخلاف بين المتحاورين، مما يؤول إلى عدم الاتفاق، انطلاقًا من قول الباري سبحانه وتعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[12].

3. الالتزام بالحوار المنطقي السليم، وتجنّب الحيدة والحيل في سبيل إرغام الطرف المقابل على قبول ما يحمل المحاور من أفكار، وقد أسس العلماء قاعدة في آداب المناظرة والبحث مفادها «إن كنت ناقلًا فالصحة، أو مدّعيًا فالدليل».

4. ألَّا يكون في الدليل تناقض وتعارض.

من خلال ما سبق يتبيّن أن الهدف الأسمى الذي يرسمه الإسلام من الحوار بالصورة العامة والجدال على وجه الخصوص هو الوصول إلى الحق واتباعه والدفاع عنه من خلال الوسائل المختلفة، وبذلك تتّضح الرؤية الإسلامية الرافضة للجدال بمفهومه السلبي على أساس أن يكون فنًّا بذاته، يتحوّل به الإنسان إلى شخصية جدلية، لا همَّ لها في المجال الفكري سوى غلبة الخصوم، وهو ما يرفضه الإسلام بسبب ما يقوم به هذا النوع من الجدال من تشويه الكيان الفكري للإنسان، بما يثيره من طريقة تفكيره من الابتعاد عن القضايا البديهية في الحياة، ويبقى بحسب تعبير فضل الله (1983) مشدودًا إلى الافتراضات البعيدة التي تغذّي الجدل وتحجب عن الإنسان رؤية الحقيقة.

ومن خصائص أسلوب الجدل:

1. اعتماده على العلم والمعرفة.

2. إقامة الحجة على الخصم وإفحامه.

3. تنوّع بواعثه ما بين علمية ونفسية واجتماعية.

ﷺ ما هو الحوار المطلوب؟ وما الهدف منه؟

الحوار قبل أن يكون ألفاظًا متداولة بين الأطراف هو روحية واستعداد نفسي، يرتبط بالوجدان والقيم الإسلامية التي أسّست لهذا الخيار في كل جوانب الحياة وشؤونها.

يذكر المحفوظ (2010) أن الحوار لا يستهدف شيوع حالة الفوضى في الآراء والمواقف، وإنما تضييق مساحة الخلاف، وإبراز عناصر الوحدة والائتلاف، فبالحوار تضمحل الخلافات وتزول أسباب الصراع، وتتأكد مفاهيم الوحدة.

يشير التويجري (2015) إلى أن الحوار الذي يجب أن ندعو إليه وندخل فيه ونتبناه هو الذي يستمد من الإسلام روح الاعتدال، من نبذ التطرف انطلاقًا من قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[13]، فهي دعوة إلى الحوار الراقي والهادف الموصل إلى الحقيقة بعيدًا الصراع والخصومة، فالحوار يجب أن يحمل من السعة والشمول ما يمكن أن يوصل إلى الحقائق مادامت الهدف المنشود، مما يعود بالنفع على المجتمع في نهاية المطاف.

فضلًا عن أن الحوار ضرورة مطلوبة في ظل التصادم القائم بين الحضارات والذي سيستمر الصراع فيها مادام الحوار منعدمًا بين أطرافها، وسيكون المعسكر الشرقي هو الطرف الخاسر حتمًا في هذا الصراع؛ لما يمتلكه الغرب من آليات قادرة على اختراق المجتمعات الشرقية دون أن يشعر أبناؤها بهذا الخطر، ومن الملاحظ أن فقدان الهوية الشرقية أحد أبرز معالم الاختراق الذي يقوم به الغرب نتيجة ضعف القدرة على الحوار مع الحضارة الأخرى، بل إن الضعف يكمن في عدم القدرة على الحوار الداخلي بين أبناء المجتمع الواحد مما أدّى إلى ضعفه وتفككه، وبذلك لم يكن قادرًا على الصمود أمام الصراع الحضاري مع الغرب.

إن الضرورة الحضارية تفرض أن يكون في الأمة وعي مزدوج لعملية الحوار، وعي على مستوى الحوار الثقافي والإنساني الذي وصلت إليه المجتمعات المتقدّمة بين أفرادها وتياراتها ومدارسها الفلسفية والفكرية، ووعي على مستوى الواقع الإسلامي وتلمُّس الممكنات المتوفرة لانطلاق العملية الحضارية والعقبات التي تحول دون ذلك.

إن للحوار أكثر من قيمة ودور على صعيد البناء المعرفي الفكري يستعرضها كل من الصفار (2012) ومحفوظ (2010)، فضلًا عن أنه سبيل للبحث عن الحق، ومن هذه القيم:

1. مراجعة الرأي

يعتبر الحوار المجدّد للنشاط الفكري للإنسان والعامل على تحريك ركود الفكر لديه، فمن خلال الحوار يعمل المرء على مراجعة آرائه معرض حواره مع الآخرين، ومواجهته لتساؤلاتهم، فيتأكد حينئذٍ من صحة رأيه وثبات دلائله، وقد يكتشف الثغرات ونقاط الضعف في وجهة نظره من خلال الحوار مع الطرف المقابل فيعمد على تغيير ذلك الرأي الباطل واعتناق الرأي الصواب.

2. معرفة الرأي الآخر

الحوار بين البشر هو الوسيلة المثلى للتعارف بينهم، لذلك أكد القرآن على هذه القيمة، واعتبر التعدّد والاختلاف إنما هو من أجل التعارف وكسر حواجز الجهل المتبادل وصولًا إلى تعميق أواصر التفكير الحر والسليم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}[14]، ومن هذا المنطلق يتيح الحوار للإنسان فرصة الاطلاع على الرأي الآخر بشكل مباشر وواضح، فعادة ما يصاحب الاختلافات الفكرية صراعات ونزاعات تؤدي إلى التعتيم على رأي كل طرف من ساحة الطرف الآخر، وتشويهه، وتحريفه، ونقله مبتورًا مضطربًا.

3. الحوار للدعوة والإقناع

إن أفضل الطرق التي يتبنّاها الإنسان في تعزيز موقعية الفكر الذي يتبناه، والتبشير به هو سلوك أسلوب الحوار مع الآخرين، فمن خلال هذا الحوار يكون المحاور قادرًا على كسب الأطراف الأخرى وإقناعهم، أو على الأقل تحييدهم حتى لا يقفوا موقف الضد المعادي، كما يمكن أن يعطي المحاور من خلال حواره الصورة الواقعية لما يعتقد بدلًا من أن تصلهم صورة مشوّهة ناقصة من جهات أخرى.

4. حركة المعرفة

يساهم الحوار في تنشيط حركة المعرفة والثقافة في المجتمع، فقد تتكامل الآراء، وتتراكم التجارب المعرفية عبر التفاعل الحواري، فيعتبر ذلك مكسبًا لساحة المعرفة والثقافة التي تنضج من خلال الحوار. فالدعوة إلى الحوار إنما هي لكسر حواجز الجهل، وتعميق عوامل المعرفة التي تعمل على تشييد أركان البناء المعرفي فتنمو وتزدهر عبر الأفراد المتحاورة في المجتمع.

5. من أجل السلام

يؤدي الحوار وظيفة مهمة على صعيد تحقيق الاستقرار والسلم الاجتماعي، ذلك لأن قسمًا كبيرًا من المشاكل والأزمات في العلاقات الاجتماعية تنشأ من جهل الناس بعضهم ببعض، وتصور كل طرف الآخر على غير حقيقته وذلك بسبب التباعد والقطيعة، أو لحدوث سوء ظن أو سوء فهم، فمن خلال الحوار من الممكن تفادي الوقوع في صدام اجتماعي من خلال التلاقي والتحاور بين الأطراف، ليتم الكشف بالحوار عن حقائق الأمور ووضعها في نصابها الصحيح، أو على الأقل يساهم الحوار في تخفيف حدة التوتر والتشنّج والانفعال، فالحوار يعمل على محاصرة سوء الفهم، وكذلك في المقابل يعمل على زيادة عوامل الثقة المتبادلة وأسباب التعاون والتضامن على قاعدة «رأي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب».

ومن الجدير بالاهتمام ما يذكره الصفار (2012) من أن حالة الاستقرار السياسي والاجتماعي في المجتمعات الغربية لا يمكن إرجاعها إلى عدم وجود حالة الاختلاف في الرأي والمصلحة، بل قد يكون التعدّد والتنوّع عندهم في الأعراق والديانات والمذاهب والأحزاب يفوق ما هو موجود في الوسط الشرقي، ولكنهم ينعمون بوجود المؤسسات التي تقوم على عملية الحوار على الصعيد السياسي والاجتماعي، يعالجون من خلالها المشكلات، ويحتوون الأزمات، وبذلك كان الحوار جزءًا من نظام حياتهم في الإدارة السياسية والعمل الاجتماعي والمؤسسات العلمية ووسائل الإعلام.

ﷺ المنطلق الإسلامي للحوار

الحوار هو المظهر الحضاري الذي يعكس تطوّر المجتمع ويقيس مدى نضجه على الصعد المختلفة، كما أنه يعتبر قوة وسلاحًا من أسلحة السجال الثقافي والمعركة الحضارية عبر توظيفه في الدفاع عن المصالح العليا للأمة، وشرح قضاياها واهتماماتها، وتبليغ رسالتها، ودرء المفاسد عنها، وبذلك يكون الرقي الحضاري هو المنشود من خلال الحوار وفق الرؤية الإسلامية على الصعيد الديني بالدرجة الأولى والصعد المختلفة بالدرجة الثانية كالاجتماعي والسياسي والثقافي... إلخ.

ولكي يؤتي الحوار ثماره كان لزامًا أن ينطلق من مناخ وبيئة تحمل من العوامل ما تساهم في أن يكون ذا طريقة علمية منتجة بعيدًا عن أن يكون عملًا ضيّقًا عقيمًا في الشكل والمضمون.

فقد أولى الإسلام الكثير من الاهتمام في عناصر الحوار بتفاصيلها الدقيقة من خلال التخطيط العملي في بناء القاعدة الأساسية للحوار الذي قام به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مسترشدًا بالقرآن الكريم، ابتداءً من المحاور الذي يقود عملية الحوار، وشخصية الطرف المقابل من حيث الحالة النفسية التي تعتريه وهو يعيش حالة الحوار، انتهاءً بممارسة الأسلوب الذي يستطيع أن يقود الآخرين إلى الفكرة ولا ينفرهم منها.

يذكر فضل الله (1983) أن العناصر الواجب توافرها في عملية الحوار خمسة، وهي على النحو التالي:

1. شخصية المحاور الذي يدير عملية الحوار

ينبغي على المحاور أن يراعي بعض النقاط الأساسية ليتمكن من قيادة حوار ناجح تتحقق من خلاله الأهداف المرجوة من عملية الحوار، كأن يملك الطرفان الحرية الفكرية الكاملة للتعبير عن المعتقد المعتنق الذي تلازمه الثقة بالفكرة المستقلة، دون أن يقع أحد الأطراف تحت وطأة الإرهاب الفكري فتتضاءل معه ثقته بالفكرة مما يؤدي إلى تضاؤل قابليته لأن يكون طرفًا في الحوار، فيفقد عندئذٍ قدرته على الحركة الفكرية، وبذلك يكون صدى للأفكار التي يتلقاها دونما التعبير عن مكنون أفكاره التي اهتزت بفعل الإرهاب الفكري.

2. شخصية الطرف الآخر للحوار

على من يقوم بالوغول في عملية الحوار من الطرفين أن يستعد استعدادًا نفسيًّا لقبول النتائج الحاسمة التي يقود إليها الحوار، وإلَّا تحوَّل الموقف إلى جدل عقيم لا يراد منه سوى تسجيل موقف الاعتراض واللدد، والاستعراض اللفظي التي لا طائل من ورائه سوى بناء الحواجز التي تنفّر الأفراد بعضهم عن بعض، وذلك بسبب القناعة المسبقة غير القابلة للتغيير مهما كانت الأدلة قاطعة تبعًا للدوافع الذاتية والاجتماعية التي لا ربط لها بالقناعة المرتكزة على الحجة والبرهان، وفي هذا المقام يقول الحق تبارك وتعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ}[15].

3. خلق الجو الهادئ للتفكير المستقل

لعل أحد أكثر العناصر أهمية في الوصول إلى الهدف من عملية الحوار هو وجود الأجواء الهادئة للتفكير، والابتعاد عن الأجواء الانفعالية التي تُبعد الإنسان عن الوقوف مع نفسه وقفة تأمل وتفكير، ونتيجة لهذا الشحن الانفعالي قد يخضع الفرد لسيطرة البيئة الاجتماعية التي تكتسيها في كثير من الأحيان أجواء الحماس لفكرة معينة، أو رفض أخرى، فيستسلم لها الإنسان استسلامًا لا شعوريًّا، الأمر الذي يفقد فيه هذا المرء استقلاله الفكري، وبذلك يكون صدى صوت للآخرين.

وفي حال أن غرق أحد المتحاورين في التوتر أو الحماس اللاشعوري الذي يدفع باتجاه الصدام أثناء الحوار ينبغي على المحاور أن يلتفت إلى ضرورة التخفيف من وتيرة الحدة الناشئة عن الحماس والانجذاب العاطفي ليعود الحوار إلى أصل انطلاقه، وهي الفكرة وأسسها الأصيلة من جديد.

4. معرفة المتحاورين بموضوع الحوار

لا بد للفكرة أن تكون في غاية الوضوح بالنسبة للمتحاورين، فلا يكتنفها أي غموض في طريق الإثبات أو النفي، حيث إن المعرفة تجعل المتحاورين بدرجة من الوعي لما يطرح من أفكار أثناء عملية الحوار، ويجعل الأطراف المتحاورة قادرة على تمييز نقطة البدء في الحوار، وطرق الخوض فيه، والانتهاء منه، من خلال وضوح الرؤية، وهدوء الفكر، ولطف الكلمة.

5. أسلوب الحوار

الطريق الذي يرسمه الإسلام بالنسبة للمتحاورين في عملية الحوار هي الطريقة السليمة التي تعتمد على اللين أساسًا للصراع –انطلاقًا من النظرة الإسلامية للصراع على أنه وبمختلف مستوياته ومجالاته إنما هو وسيلة للوصول إلى الهدف- وبما أن الإسلام هو الحق فينبغي استخدام الوسائل إلى تساهم بأن يفتح الآخرون قلوبهم وعقولهم على هذا الحق، ولا يكون ذلك إلَّا بالكلمة الطيّبة المرنة، بعيدًا عن السلبيات القاسية، فكان الإسلام يرفع شعار (بالتي هي أحسن) على الدوام، وبذلك ينطق القرآن بتلك الحقيقة في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[16].

كما ينبغي أن يتحلى ببعض الصفات القادرة التي تحفظ للحوار هدوءه ومساره بعيدًا عن التصادم.

ﷺ المصادر

1- التويجري، عبدالعزيز بن عثمان. (2015). الحوار والتفاعل الحضاري من منظور إسلامي (ط2). المملكة المغربية: المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة.

2- الحبيب، طارق بن علي. (2013). كيف تحاور (ط2). الرياض: مؤسسة قرطبة للطباعة والتوزيع والنشر.

3- الصفار، حسن بن موسى. (2012). الحوار والانفتاح على الآخر (ط2). بيروت: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي.

4- ضمرة، معن محمود عثمان. (2005). الحوار في القرآن الكريم (رسالة ماجستير). جامعة النجاح الوطنية. فلسطين.

5- فضل الله، محمد حسين. (1983). الحوار في القرآن قواعد – أساليبه – معطياته (ط2). بيروت: الدار الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع.

6- محفوظ، محمد جاسم. (2010). الحوار أولاً ودائماً. الدمام: مركز آفاق للدراسات والبحوث.

 

 

 



[1] سورة الكهف: 34.

[2] سورة الكهف: 37.

[3] سورة المجادلة: 1.

[4] سورة النحل: 125.

[5] سورة غافر: 5.

[6] سورة الحج: 8.

[7] سورة العنكبوت: 46.

[8] سورة النحل: 125.

[9] سورة هود: 74 - 75.

[10] سورة المجادلة: 1.

[11] سورة سبأ: 24.

[12] العنكبوت: 46.

[13] سورة آل عمران: 64.

[14] سورة الحجرات: 13.

[15] سورة الأنعام: 25.

[16] سورة فصلت: 33-35.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة