تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

فرضية التخلص من العنف التطرف

أحمد شهاب

فرضية التخلُّص من العنف والتطرُّف

 

أحمد شهاب*

 

* باحث في قضايا التنمية السياسية من الكويت، البريد الإلكتروني: ahshehab@gmail.com

 

 

 

مقدمة

 تشكل الفعل الحضاري في العالم الاسلامي نتيجة لفاعلية أمم متنوعة داخل الإطار المفاهيميٍ الإسلامي. فقد رفض الاسلام منح درجة خاصة للون أو العرق أو العائلة أو اللغة والمنطقة واكتفى بمخاطبة النوع الانساني بعيداً عن الأطر الضيقة التي يميل إليها غالبية البشر {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وأنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[1].

ولم يخلوا هذا الإطار من وجود الكثير من نقاط الخلاف والنزاع وتنوُّع الآراء وتعدُّد وجهات النظر، لكننا نعلم يقينًا أنه حقّق الكثير من الإنجازات في تلك الفترة نتيجة حفاظه على «الإطار الجامع» من التصدُّع بالقدر الممكن، وقدرة عقلاء الأمة على تدارك الأزمات، وتصدّيهم لكل مشاريع الفتنة التي كانت تندلع بين فترة وأخرى.

حتى عندما أفرزت الأزمات السياسية والاجتماعية الفِرَق والمذاهب والجماعات، كان كبار الأئمة ورواد الإصلاح والصلاح في الأمة يتعاملون بوصفهم أئمة لجميع الناس وليس لفئة أو جماعة منهم، ومهما حاول الآخرون أن يصنّفوهم أو يضيّقوا الأطر المذهبية أو السياسية حولهم، نجدهم يتمايزون بخطاب إنساني وأخلاقي عالي المضامين، ولم ينغلقوا في دائرة الآخرين ولم يجاروا مخطّطاتهم، ومشاريعهم التجزيئية للأمة.

وفي أتون الفتنة العاصفة التي مرّت على المسلمين بعد وفاة النبي الأكرم، وخلال الفترة التي تعدّ الأكثر حساسية ودقة من تاريخهم، نجد موقف الإمام علي بن أبي طالب الصريح في درء الفتنة، وإغلاق منابعها، فحين طالبه البعض بمدّ يده للبيعة، رفض الإمام قائلًا بأن مرادهم الفتنة[2]، وعندما امتنع عن البيعة أبان أحقيته بذلك بلسان عربي فصيح، ولم يخفِ اعتراضه على مسار الأحداث، ولكنه في الوقت ذاته لم يتردّد عن التوقّف وإعلان البيعة تضحية منه لصالح بقاء الاسلام، وبقاء قوته وديموته.

وفي توضيح أسباب ذلك يقول الامام علي: «فما راعني إلَّا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فأمسكت يدي حتى رأيت راجعةَ الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد، فخشيتُ إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً، تكون المصيبة به عليَّ أعظم من فوت ولايتكم الّتي إنّما هي متاعُ أيام قلائل يزول منها ما كان كما يزول السراب أو كما يتقشع السحاب، فنهضتُ في تلك الأحداث حتّى زاح الباطل وزهق، واطمأنّ الدين وتنهنه».

التفسير المذهبي لخطاب الاعتدال

وفقًا للتفسير المذهبي الذي ساد الجدل الكلامي بين المسلمين، فإن ارتقاء الخطاب عند رواد الإصلاح والصلاح في الأمة كان له دلالة على أحقانية هذا المذهب أو ذاك، أو ترجيح كفة هذا الفريق على الآخر، وملخّصه القول بأن الرواد يجزمون بأنهم الممثّل الوحيد والشرعي للأمة، وبالتالي فهم يتحدّثون باسمها بوصفهم أصحاب الحق التام والمطلق، وأن الآخرين هم عصبة من المدعين والمُتلبّسين بثوب الأمة الإسلامية الذي لا يتسع لسواهم، لتبدأ رحلة حشد الأدلة في سبيل النيل من انتماء الآخرين لهذه الأمة، وإلغاء المختلفين من فرصة الانتساب إليها.

وثمة تفسير آخر ينتهي إلى أن السلوك الوحدوي لقادة الصلاح والإصلاح في الأمة ما هو إلَّا جزء من منهج التقية التي يتّخذها المصلحون لاتِّقاء كيد السلطان الغاشم وأعوانه من الوشاة والمغرضين، سواء كان الضرر المحتمل واقعًا عليهم أو على عامة المسلمين، وعليه فإن الكثير من المواقف العملية والنظرية التي توصف بالاعتدال تعلل بأن مصدرها الخوف من السلطان أو الوقاية من ضرره، وليس طلب الوحدة والسعي لتحقيقها، وتحفل الأدبيات الدينية بتعليلات من هذا النوع.

وفي الموضوع ذاته، تذهب بعض التفسيرات إلى أن العديد من المقولات والمواقف التي صدرت عن هؤلاء القادة إنما جاءت ضمن سياق استيعاب المختلفين أو لنقل: إن هدفها ينحصر بالرغبة في الظهور بصورة الأب الروحي الهادف لكسب جولة النزال ضد الآخر، واستيعاب أكبر قدر من الجمهور لصالح ما يعتقدون أنه الحق، ذلك أن بعض مقتضيات مراعاة عقول وقدرات العامة الذهنية تستوجب الإفصاح عن المشتركات لتحفيز المختلف لقبولهم وعدم النفور منهم؛ ولذا لا يمكن أخذ ظاهر السلوك أو القول الوحدوي لقادة الصلاح والإصلاح في الأمة لكونه تكتيكًا ليس إلَّا، فالحق واحد -معهم- ولا يتعدّد.

إلَّا أنه ومن خلال تتبع الكثير من تلك المواقف نقف على نتيجة قد تبدو مغايرة لما ذهب إليه «أصحاب الجدل المذهبي»، وملخّصها نزوع قادة الإصلاح والصلاح إلى الاعتراف بقابلية الإطار المفاهيمي لاستيعاب المنضوين تحته، وإن اختلفوا معهم في الرأي أو اشتدوا معهم في ساحات المواجهة، فثمّة فرق كبير بين أن يكون الآخر مخطئًا أو مصيبًا في آرائه ومواقفه، وبين أجنبيته عن هذه الأمة، وكفره[3].

من المؤكد أن تفسيرات النص الديني قابلة للصحة والخطأ، ولا يمكن القول بأن كل التفسيرات هي سليمة وتامّة، لكن في الوقت ذاته فإن الخطأ العلمي لا يقتضي في الغالب القول بكفر صاحبه أو خروجه عن ملة الإسلام، بل منتهى ما يقتضيه هو الحكم بخطأ اجتهاد صاحبه وانحراف الفكرة أو عدم تمامها، أو حتى القول بانحراف من يقول بهذا الرأي، وهذا الانحراف لا يستدعي طرده من الأمة، أو التعاطي معه على أنه خرج عن الإطار الإسلامي مصداقًا لقوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا}[4] وقال ابن الأثير في تعليقه على الحديث الشريف: «من قال لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما».. لأنه إمّا يصدق عليه أو يكذب، فإن صدق فهو كافر، وإن كذب عاد إليه الكفر بتكفيره أخاه المسلم»[5].

إذا عدنا إلى سيرة رائد من رواد الإصلاح والصلاح في الأمة، وإمام لا يختلف مسلم على أن مواقفه وكلامه حجّة على سائر المسلمين، وهو الإمام علي بن أبي طالب إبّان الصراع الشهير مع الخوارج، فقد أخذ القائد موقفًا صريحًا بقوله: «لكم علينا ثلاث: لا نمنعكمْ مساجدَ الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفيء ما كانت أيديكم مع أيدينا، ولا نبدؤكم بقتال».

لو أردنا تشريح هذه المقولة، للوقوف على منهج المصلحين في التعاطي مع المختلفين معهم داخل الإطار الإسلامي، فسنجد أنها تكتنز مفاهيم ذات مضامين فكرية عالية ودقيقة في مجال البحث الجاري، من بينها:

1- أن تخصيص ذكر المسجد والذي يمثّل الرمز الأبرز لكل المسلمين بلا استثناء، ومحل جماعتهم، إنما يحمل رسالة واضحة بأن هذه الرمزية ينبغي أن تظل بعيدة عن تمثيل فئة ما ونفي ما عداها، ويعكس ذلك حجم وأهمية الاحتفاظ بالأمور التي تجمع بين المسلمين، وعدم قطعها بسبب نشوب خلافات سياسية أو دينية مهما بدت حادة وصاخبة.

2- أن مكانة المسجد عند المسلمين آنذاك، تمنح الجهة التي تفرض سيطرتها على حركة المسجد، القدرة على فرض نفوذها على الجماعة المسلمة تلقائيًّا، لكونها تمثّل مصدر الشرعية، وطرد الآخرين من المسجد سيكون بمثابة نزع الشرعية من الطرف الآخر، وإظهاره بأنه الجهة المقابلة للمسلمين، ومع أن الإمام هو إمام المسجد والجماعة، إلَّا أنه لم يسعَ لعزل الآخرين، بل اعتبر وجودهم هو حق من حقوقهم كمسلمين ولا يمكن نزع ذلك الحق منهم، وإن اختلفوا معه.

3- أن منبر المسجد هو الصوت الذي يمثّل التوجيه الديني في المجتمع، والمسلمين يعتبرون ما يُقال فوقه هو ما يريده الله منهم، وكان بإمكان الإمام أن يستثمر هذا المنبر لصالحه في تعرية الطرف الآخر، أو نبذه وإقصائه، كما يفعل الكثيرون حين يسيطرون على أدوات الخطاب والإعلام الديني ليظهروا المخالف لهم بأنه لا ينتمي إليهم، ويشوّهون صورته في عين المجتمع.

4- أن معرفة الإمام علي بأن الحق معه لا يقتضي محاربة الآخرين اقتصاديًّا، فحتى لو حمل الآخرون وجهة نظر مغايرة صُنّفت من وجهة نظر الحاكم بأنها باطلة، فإن حقه فيما حصل عليه المسلمون من أموال دون قتال لا يُمنعون منه بحجة مخالفة الحق، أو عبر تصنيفهم لأنهم خارج المظلة الإسلامية.

5- يتلوه القول: إن كل الحقوق التي للمسلم على المسلم تظل قائمة ومحترمة (ما كانت أيديكم مع أيدينا)، وهي دلالة على أنهم في إطار الإسلام وإن اختلفوا مع الإمام أو الحاكم الشرعي، فالخلاف لا يستتبعه انتهاك للحقوق، ولا يبيح للحاكم أن يعتدي على حقوق المختلف.

هذا السلوك العلوي ينطوي على منهج لا يستهدف إلغاء الآخر وإن اختلف معه، فطالما أن الضوابط قائمة بين الطرفين (عدم حمل السلاح)، فيبقي أصل الاتفاق قائم؛ ولذا شرع الإمام بشرح موقفه وإثبات عدالة قضيته، لكنه لم يلجأ أبدًا إلى طرد الآخر من الدين، أو تجريده من الشرعية، أو حرمانه من حقوقه العامة عوضًا عن الخاصة، هذا والإمام كان هو الحاكم، وصاحب الأمر، والكلمة الفصل بيده في الدولة.

من جهة أخرى فإن تفسير الأحداث التاريخية وسلوك القادة الأوائل بكونه ناتجًا عن ممارستهم للتقية، فهو أمر إن تمَّ قبوله في موارد شرعية محدّدة وثابتة، فإنه يعوزه الدليل في موارد أخرى كثيرة، فحتى نعتمد مثل هذه النتيجة فإننا نحتاج إلى قرينة واضحة تثبت أن الموقف يحتمل فيه احتمالًا عقلانيًّا أنه صادر عنهم تقية، وإلَّا فالأصل أن السلوك والقول نابع من قادة الصلاح والإصلاح في الأمة عن قناعة وعقيدة، وإلَّا أضحى تجريد الأوائل من كل منقبة وفضيلة أخلاقية متاحًا للجميع، وهو أمر لا يمكن تعقّله.

إن ما نلحظه من تباين الفقهاء والمتكلمين عند تفسير سلوك قادة الصلاح والإصلاح وأقوالهم ومواقفهم إنما ينطلق وفقًا للتصوّرات الشخصية للجهة التي تنظر إلى الأحداث وتحلّلها؛ إذ إن الانطباع الشخصي يطغي عادة عند قراءة الأحداث التاريخية، وهي انطباعات تتأثر بانتماءات الأفراد، وتجاربهم، وقناعاتهم الفكرية، وتغيب عنها في الكثير من الموارد المقاييس الموضوعية، لا سيما إن صدرت تلك الأدبيات في زمن الصراع والتحدّي الذي عاشته المدارس الدينية أغلب فتراتها.

إن أحد أهم أسباب غياب الموضوعية والعلمية عند العديد من البحّاثة المسلمين يتمثّل بأن التراث عند المسلمين هو من صميم دينهم، ولا يكاد ينفك عنه؛ ولذا فهم يتعبّدون باتّخاذ مواقف ضد هذا الطرف أو مع ذاك، لأن الموقف عقيدة، أما الجهد العلمي فهو عادة ينصب على إيجاد التفسير المتوافق مع الفهم الديني؛ ولذا يظهر أن التشدّد في إنتاج أفكار العنف والإقصاء، وكراهية الآخر والتنفير منه، يعكس عمق التديُّن عند بعض المدارس الإسلامية.

من جناية التراث إلى سطوة الحاضر

غير أن السؤال لا يتوقف عند ما أنتجه هؤلاء الفقهاء والمتكلّمون من أفكار إقصائية، أو بلورتهم لمناهج تؤصّل للعنف والكراهية والمواجهة مع المجتمع، وتؤمن بامتلاكها الحقيقة الخالصة منفردة، فهذا الأمر جدير بالنظر والتحليل، بيد أنه من الضرورة بمكان التعرُّف أيضًا على الأسباب التي مكّنت أفكار فقهاء العنف والكراهية من الانتشار جيلًا بعد جيل دون توقف، ومن قدرة هذا النموذج على قيادة طائفة من المسلمين حتى يومنا الراهن.

فأنموذج العنف لم يكن ليمثّل مشكلة حقيقية لولا أن الراهن الإسلامي ظل أسيرًا للماضي. وما تشهده البلدان الإسلامية من عنف امتدّ من أفغانستان إلى دول المغرب العربي، مصر، العراق، ودول الخليج، إلَّا انعكاس لحجم القدرة على تكييف التراث لتسويغ العنف، وهو ما يدفع الباحث الجاد للتساؤل عن سبب قابلية المجتمعات الإسلامية لاستقبال هذه الأفكار وتوليدها من جديد دون كلل أو ملل؟ بحيث وصف عقد التسعينات وما بعده بكونه عقد المتطرفين والغاضبين، فما أن تختفي موجة عنف حتى تطل موجة أشد عنفًا وأكثر شراسةً.

لا شك أن المكتبة الإسلامية زخرت بالكتب العقلية المتقدّمة بمجالها، وبالإنتاج المعرفي والعلمي الرصين، ولم تخلُ الساحة الإسلامية من أقصاها إلى أدناها من أصحاب الفكر الإنساني والأخلاقي المتميّز، فلماذا لا يزال أصحاب الأطروحات المتشدّدة، والغالون في معاداة العقل، يقيمون بقوة بين ظهرانينا اليوم؟ ولا يزالون يقودون المنظومة الفكرية للعديد من التيارات الحركية؟ بينما يكاد يقف أصحاب المنطق والعقل والإنتاج المعرفي على دكة الاحتياط؟ ولماذا يتقدّم صفوف المذاهب قادة التطرُّف ويتأخّر قادة العقل والمنطق؟ بل لماذا نجد أن موجة التشدّد التقمت بعض دعاة الاعتدال وأغرقتهم في بحر التطرُّف، حتى أصبحوا من أهم أدواته ومنظريه؟

هذا لا يمكن أن نجد تفسيره من خلال نبش تراث العنف والتطرّف فقط، ولا من خلال فحص فتاوى التكفير التي ينتجها أمراء الجماعات الإسلامية استنادًا إلى نصوص رصت في صفوف كتب الماضين فحسب، وإنما ينبغي كذلك النظر في أماكن خارج التراث، إلى الأزقة والقرى التي تضم عشرات الألوف من المحرومين والموجوعين من الذين فقدوا الأمل في المستقبل، ووجدوا أن بقاءهم في هذه الحياة يتشابه مع رحيلهم عنها، وأن غدهم ربما يكون أسوأ من يومهم.

والالتفات إلى الآلاف من الذين اضطروا للعودة إلى الماضي بعدما عجزوا عن مجاراة العصر، حيث ضاقت عليهم فرص الحياة الكريمة، فوجدوا في التراث مادة تتناسب مع حجم الأزمة التي يعيشونها في الحاضر، فنهلوا منه ما يشبع فضولهم، وأخذوا منه ما يدعم احتجاجهم، ويشرعن لغة العنف التي حاصرتهم فآمنوا بأن العنف لا يرد إلَّا بعنف مثله، وأن القوة لا تكسر إلَّا بقوة تفوقها حدة وصلابة، وهذا هو ما يدفع هؤلاء الشباب إلى البحث عن وسيلة لتغيير الواقع السياسي والاجتماعي، فيلتحقون بالتنظيمات الجهادية، ويجدون في العنف وسيلة فعّالة لتغيير الواقع السيئ.

إن كل ما يُشيعه الإعلام عن مسؤولية التراث في تفشي العنف، وكل ما يطمح إليه الإصلاحيون من منع كتب التراث التي تختزن نصوص التطرّف والكراهية كإجراء وقائي لتحصين المجتمعات الإسلامية من لوثة العنف، لا يعكس الحقيقة كاملة، فماذا يعني حظر كتاب في زمن ثورة الاتصالات والفضاء المفتوح؟ وكم كتاب وكرّاس وفتوى ينبغي منعها ومحاربتها والهجوم عليها حتى تأمن الشعوب على نفسها من تبعات العنف ومتوالياته الدموية؟

وإذا أدركنا أن الانضمام إلى الجماعات الجهادية يسبق الإيمان بالفكر المتطرّف في الكثير من الحالات، على عكس ما يتصوّره الجميع، فسندرك حينها أن بواعث العنف لا تكمن في التراث فقط، بل أيضًا تتمثّل في البيئة التي تجعل من هذا التراث فاعلًا ومؤثّرًا، أو بكلمة أدق: تلعب البيئة دورًا رئيسًا في تحديد طبيعة المادة التي يتمّ غرفها من التراث.

لا شك أن استشراء العنف في مجتمع ما يمثّل انتصارًا لغريزة الشَّر على العقل والحكمة، وهذه الأخيرة يفترض أنها نزعة إنسانية وأساسية، كما أن البحث عن التوافق يشكّل هاجسًا عند الكثير من البشر، إلَّا أن الموضوع ليس بهذه البساطة. فالعنف يمثل أيضًا السلوك الأكثر ثباتًا في الفعل الإنساني، إلَّا أنه ومن المؤسف أنه يحظى بالقبول عند العديد من المدارس السياسية.

هذا التناقض لا يعالج من خلال إطلاق الأحكام العامة وتوزيع الاتهامات المجانية على الأديان والمذاهب والمجتمعات، وإنما ينبغي التريّث في تفحّص الظاهرة وملاحقة جذورها وأسبابها الحقيقية إذا أردنا أن نتخلّص من العنف ونساهم في بناء موطن جديد يكون أكثر أمانًا للإنسانية جمعاء.

أبسط وسائل معالجة التطرّف

إن أبسط وسائل معالجة الظواهر السلبية المتفشية في المجتمعات الإسلامية ومن بينها العنف والتطرّف والتشدّد، ولعلها الأكثر دقة، هي حصر جميع معطيات الظاهرة ضمن إطارها الاجتماعي الواقعي؛ إذ لا يمكن فصل نشوب ظاهرة العنف عن الظروف الاجتماعية والسياسية التي تسببت في اندلاعها، لا سيما وأن العديد من الحكومات العربية تُغذّي التطرّف نفسه الذي تدّعي محاربته، وترعاه بطريقة أو أخرى.

كما أن تصدُّع لحمة المنظومة القيمية في العلاقات الأسرية والعائلية، والخلل في المناهج التعليمية، وتوارث المكانة الاجتماعية والمكاسب الاقتصادية والمناصب السياسية، واحتكارها في عوائل أو جماعات وأحزاب، كلها تجعل من ثمرة فكرة الصراع والتزاحم بين الأجيال، والتي يعوّل عليها في مشروع التغيير الداخلي، لا تكاد تخرج عن حدود الصراع حول الشكليات لا المضامين.

تظهر جماعات العنف من ردّة فعل على ظلم، حقيقي أو متخيّل، حيث تشعر تلك الجماعة بأنها مدفوعة دينيًّا وسياسيًّا نحو تصحيح مسار الظلم ورفع أصره عن المجتمع بحثًا عن حياة كريمة، كما أنه يظهر من خلال ردة فعل المجتمع أو بعض أفراده على استشراء الفساد، وتردِّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وبالتالي محاولة إصلاحها بالوسائل السلمية المعهودة، لكن مع انغلاق سبل الإصلاح السلمية، تميل تلك الجماعات لاستنباط أدوات جديدة في المقاومة والتحدي.

حيث يميلون بدءًا لإنجاز مطالبهم بهدوء والاكتفاء بطلب الحد الأدنى من الإصلاح، لكن تجاهل السلطة للمطالب العامة يستفز الناس، فتبدأ حركتهم بالانتظام بشكل تدريجي، لتأتي الأيديولوجيا فتعطي الجماعة المسوّغ الشرعي للمضي في طريق التغيير بإصرار، وسرعان ما يصطدم الإصرار على الإصلاح بالنظام العام، وسنجد أن ثلاثي القهر: قهر التقاليد الاجتماعية، وقهر الأسرة والطائفة، والقهر الاقتصادي والسياسي، يشكّل في المحصلة البيئة الخصبة للتطرّف واللجوء تاليًا إلى الإرهاب.

ويلاحظ أن العنف ينطلق غالبًا من الأحياء الشعبية، ويسير في ركبه المحرومون ماديًّا أو ثقافيًّا وتعليميًّا، وهو ما يعزّز من ارتباطه بعدم شعور الأفراد بالأمن المادي والاجتماعي، أو بسهولة الانقياد والتوجيه من قبل الآخرين لضعف تحصيلهم العلمي والديني. فالملاحظ أن الأسباب التي تدفع الناس لاعتناق أيديولوجيا متطرّفة تظل متنوّعة بقدر تنوُّع مسببات القهر وصوره.

لذلك تحديدًا، لا يمكن معالجة العنف عبر الاكتفاء بالقول: إن منشأه هو كتب التراث فقط، بل إنه حصيلة جملة من العوامل والتي تنتهي بمجموعها نحو لجوء الفرد إلى العنف، أو ميله إلى استخدامه، ويمكن تصنيفها وفقًا لمقوّمات الإدراك الوظيفي إلى مجموعتين:

* العنف النابع من الأفراد بإرادة ووعي بالهدف المرسوم، مثل العديد من قادة العنف الذين لجؤوا إلى التكييف الأيديولوجي لتبرير تطرُّفهم، وتبنّوا رأيًا مفاده أنّ عدم الإيمان بالله، ومخالفة شريعة الرحمن، يعتبر مبرّرًا لإباحة قتل الإنسان حتى لو لم يكن محاربًا أو معتديًا، باعتبار أنّ آية السيف قد نسخت كل آية مخالفة، لتبدأ التفسيرات المتطرّفة تتّجه نحو تعيين الفئة التي ينطبق عليها وصف الكفر (كافر - ملحد - مشرك)، فتبدأ من غير المسلمين وتنتهي عند اتّهام كل من يخالف منهجهم وفهمهم بالكفر والإلحاد حتى لو أقرّ بالشهادتين وأقام الفرائض. وتتمثّل هذه الفئة عادة بكبار الدعاة وشيوخ الدين، من الذين حدث لديهم اضطراب في إدراك دورهم الدعوي والإرشادي القائم على النصح، ليتلبّسوا ثوب وكلاء السماء في الأرض ويحدّدوا مصير الناس الدنيوي والأخروي، ويتحرّك بعضهم بفعل اجتهاده الخاص وقراءته المتطرّفة للنص الديني، أو بفعل سياسات عليا يتعاطى معها ويجسّدها لأغراض ومصالح متداخلة.

* العنف الذي ينبع من جهل وأميّة بالدين ومبادئه، ويمثّله الكثير من الإرهابيين والمتطرفين فكريًّا وسلوكيًّا والذين ينقادون من الفريق الأول، وفي ظنهم أنهم ينتصرون للإسلام بسفك دماء الأبرياء نتيجة لخلل حادٍّ في إدراك وظيفتهم الدينية. وغالباً ما يكون هؤلاء من الجاهلين بالإسلام، أو أن لديهم فهمًا محدودًا بالشريعة. ويتغذى هؤلاء على فكرة مفادها أن الدعاة الشرعيين وأمراء الجماعات، هم المخوّلون وحدهم بتفسير النصوص الدينية. وفي ظل انتشار الدعاة الوهميين، وفتاوى الإنترنت الجاهزة، تتّسع قاعدة المنضوين تحت رايات الجهاد المقدس. ولا يقتصر أفراد هذه الفئة على الفئات التي يكتنفها الجهل أو الفقر، بل أيضًا تضم متعلّمين وأصحاب شهادات عليا ولكن وعيهم الديني والفكري محدود، كما تضم أفراد من عوائل ثرية أو ميسورة الحال لكنهم سلّموا عقولهم لأمراء الجماعات الغاضبة.

فرضية المجتمع الآمن

إن كل مجتمع يتكوّن من مجموعة من المواطنين يختلفون بالضرورة بعضهم عن بعض، سواء في انتمائهم الديني، أو المذهبي، أو موقعهم الاجتماعي، أو الوظيفي، ولكن يجمعهم ما يمكن أن نُطلق عليه العقد الاجتماعي، ويمثّل الالتزام بالحقوق والواجبات الملزمة لكل طرف، والخروج عليها يمثّل إخلالًا وانتهاكًا لحقوق أحد الأطراف، ممّا يستوجب على الدولة -بصفتها الجهة المخوّلة وظيفيًّا بإدارة الشأن العام- التدخّل لتصحيح الموقف.

من هنا فإن العقد الاجتماعي يستهدف أساسًا إيجاد حالة من التوازن بين الأطراف المجتمعية المختلفة في المصالح، والقوة، والإمكانات، والإرادات، ويُساهم في تسوية النزاعات أو الخلافات، باعتبار أن قوة القانون والشرعية تمثّل المرجعية العليا، فالقانون وفقًا لـ«روسو» هو التعبير الأمثل عن الإرادة العامّة للأمة، والخروج عليها يعتبر انتهاكًا لحقوق الآخرين ينبغي لجمه.

وفي تعيين العلاقات الآمنة داخل أي مجتمع وفقًا لنظرية العقد الاجتماعي، وتحديدًا بين الإسلاميين وغيرهم، يمكن أن نضع ثلاثة افتراضات:

الافتراض الأول: أن الإسلاميين -وهم طيف شديد التنوّع يشمل أفراد ومؤسسات وأحزاب وجمعيات كثيرة- هم كغيرهم من أطياف المجتمع يميلون إلى الحياة السلمية الهادئة، ويسعون إلى تحقيق ما يؤمنون به بالوسائل السلمية المتعارفة، وتحقيق الإصلاح وفقًا للتعاليم الإسلامية التي يعتقدونها، وهم بذلك يمارسون حقهم المكفول إنسانيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا، ولا يمكن إدانتهم على ذلك.

الافتراض الثاني: أن القوى الإسلامية في ظل التعاطي مع قوى مختلفة، سواء كانت جماعة السلطة الحاكمة، أو الجماعات الدينية أو المذهبية الأخرى، ملزمة باكتشاف شروط العمل السياسي في مناخ تعدّدي، وهذه الاكتشافات تنبع عادة من القراءة المعاصرة للنص الديني، وتطويره وتطويعه لملاءمة الراهن السياسي والاجتماعي، وذلك لتحقيق إنجازات تتناسب مع المتغيرات الحديثة ولغة الأرقام وقبول النقد الذي يعد سمة من سمات الحياة العصرية وتضارب الأفكار والقناعات.

الافتراض الثالث: أن ازدياد حدة الاستقطاب الديني (إسلامي - علماني) والمذهبي (سني - شيعي) ينذر باختفاء عناصر الاعتدال والتسامح، بل إن هذه العناصر المعتدلة تبدأ شيئًا فشيئًا بالتحوّل إلى عناصر راديكالية شديدة التطرُّف، وهو ما يزيد من صعوبة تطوّر الديمقراطية في البلاد المصابة؛ ذلك أن الديمقراطية تنجح في ظل التدريب المستمر على ممارستها من خلال القبول بالتعدّدية، والتعرّف على الآخر، واكتشاف نقاط الالتقاء والاتفاق معه، فإذا لم يعتد على وجود الآخر فإنه يفكر في وسائل ازاحته وإنهاء وجوده.

وفقًا لهذه الفرضيات ينتهي الاعتقاد إلى أن انعدام «الأمل بالتغيير» ينتهي بالضرورة إلى بروز ظاهرة أوسع وهي العنف والتطرّف والتي ترتبط بظاهرة أوسع ملخّصها غياب مناخ «الاعتدال» الذي يعكسه انغلاق مناخات الحوار داخل الدولة، فعندما يتبدّد الأمل بالقدرة على التغيير السلمي، وتصل الجماعات إلى أفق ضيق، فإنها تلجأ تلقائيًّا إلى التمرّد على الأوضاع القائمة، والبحث عن خيارات ضغط جديدة في العمل السياسي والاجتماعي، وأحد أسوء هذه الخيارات هو العنف والمواجهة المسلحة.

في مقابل ذلك فإن إنفاذ دولة القانون يحمي الدولة والمجتمع من الاضطرابات السياسية، ويخفّف من درجة التوتر ويفكك دوافع التطرّف، إذ يعتقد أن العديد من الدول تؤدّي دورًا نشطًا في انهيار الأمن الاجتماعي والسياسي، من خلال رعاية الاستفزازات الدينية والمذهبية أو الصمت حيالها، ولجوء الدولة إلى دعم بعض الأطراف ضد أطراف أخرى، أو اختيار مذهب ومناصرة أتباعه ومنحهم امتيازات وطنية على حساب اتّباع المذاهب الأخرى.

ولذا يصح القول: إن من أبرز الأخطاء التي وقعت فيها الجهات الرسمية العربية، عند معالجة موضوع العنف أنها:

1- صبت معالجتها على الجانب الأمني، وأهملت منبع الكراهية الثقافية والمتمثّل في عداء ثقافة الناس ومحاربة معتقداتهم الدينية والفكرية عبر مناهج التعليم ومن خلال وسائل الإعلام، والتي اعتادت أن تمثّل صوت ديني أو مذهبي واحد، وتتجاهل بقية الانتماءات والآراء العقدية أو الفقهية، وهو ما يجعل الفرد الذي لا ينتمي لدين أو مذهب الدولة الرسمي في غربة دائمة عن محيطه الوطني، بينما نجد أن الدول التي أقرت بالتعدّدية واعتنت بتنوّعاتها الاجتماعية أحرزت الاستقرار بصورة ملموسة.

2- أهملت معالجة بؤرة التوتر الاجتماعي والمتمثّلة في الأزقة المحرومة والأفواه الجائعة، وتعاطت معهم على أنهم عبء على الدولة وكأنهم ليسوا جزءًا من الحاضن الوطني، ولعل أخطرها إهمال بعض المناطق لاعتبارات دينية ومذهبية، أو تضييق فرص التوظيف للمنتمين لطائفة محدّدة، أو إهمال معالجة مشكلات الفئات المعروفة بفئة غير محدّدي الجنسية، على الرغم من أن تركيبة المجتمعات المعاصرة لم تعد خالصة تضم أهل دين معين، أو مذهب معين، أو عرق معين أو لغة معينة، وتحوّلت التعدّدية إلى قيمة أساسية في مجتمعات متنوّعة بشريًّا ودينيًّا وثقافيًّا.

3- وظّفت المساجد والمؤسسات الدينية لصالح سياسات ومشاريع الدولة، ولم تترك أمامها إلَّا أحد خيارين: إما أن تكون أداة في يد الدولة أو سيفًا في خاصرتها، وكان من اليسير على الدولة أن تدفع هذه المؤسسات المهمة لتأخذ دورها العبادي والتربوي بعيدًا عن التجاذبات السياسية، بدلًا من توجيهها أو محاربتها؛ ولذا أصبحت المساجد والمؤسسات الدينية مصنّفة وتمثّل اتّجاهات سياسية، لا سيما بعد أن ضيّقت الدولة العربية من نشوء مؤسسات مدنية فتمَّ توظيف المسجد لأغراض سياسية، بينما نجد أن المجتمعات المستقرة فتحت مجالات لعمل المؤسسات، ومكّنتها من المشاركة في القرار وفقًا لقواعد متّفق عليها سلفًا.

هذا السلوك السلطوي في البلدان العربية، يردّه بعض البحّاثة إلى رغبة بعض الحكومات في إضعاف جميع الأطراف السياسية، وبسط الهيمنة، فيما يردّه آخرون إلى عشوائية الحكومات العربية وفقدانها لحس الإدارة السياسية الناجحة. ويبدو لي أن السبب الأساسي يعود إلى مذهبية الدولة فعلًا وإن ادّعت أنها عمومية؛ إذ إن حكومات العالم العربي لا تزال تعيش في القرن السابع عشر الأوروبي، حين تبنّت البابوية مبدأ (دين الدولة هو دين أميرها)، والتي تمَّ تجاوزها وأصبحت جزءًا من التراث الأوربي، بينما لا يزال العالم العربي حبيس الدولة المذهبية.

لذلك، فإن الحديث عن العقد الاجتماعي، لا يمكن أن يتمّ في إطار دولة لا تزال تتعاطى مع مواطنيها على أعراف ما قبل قيام الدولة، أعراف العائلية والمذهبية والطائفية. والإصرار على هذا التعاطي من شأنه أن يضاعف من حجم اللجوء إلى العنف في المجتمع، ويحوّله إلى تهديد حقيقي، ليس للمختلف معها فقط، وإنما تهديد لاستقرار الدولة برمتها، وتوحّش التنظيمات المسلحة من أمثال القاعدة وداعش وغيرها أبلغ من الكلام والشرح والتحليل.

الاستراتيجية الفعّالة لمواجهة التطرّف

وفقًا لما تمَّ عرضه سلفًا فإن الاستراتيجية الفعّالة لمواجهة العنف والتطرّف في الوقت الحالي قد أضحت تتمثّل في قدرة الدولة على تعزيز الانتماء الوطني من خلال:

1- تقوية الديمقراطية عبر تعزيز مبدأ المحاسبة ومكافحة الفساد وإرساء الثقافة الديمقراطية.

2- القبول بالتداول السلمي للسلطة، والمشاركة الآمنة، وتنظيم آلية الدخول والخروج إلى السلطة.

3- توجّه الدولة الوطنية إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص بين المواطنين.

4- احترام الحريات السياسية والاقتصادية وتمكين الأفراد من حق الانتفاع بثمار أعمالهم وفقًا لآليات اقتصاد السوق.

5- الإنماء الثقافي والاقتصادي والاجتماعي المتوازن لكافة المناطق ولعموم الشرائح الاجتماعية.

إن تفكيك البنية الفكرية والاجتماعية التي ينبعث منها العنف والتطرّف ينبغي أن تحتل صدارة اهتمامات هذا الجزء من العالم، ويتحتم على كل جيل أن يستخلص العبر والدروس لمعالجة مشكلاته الخاصة، ويواجه العنف بالوسائل المناسبة وفقًا للسياق العام الذي يوجد فيه، وذلك في سبيل بناء مجتمع أكثر إنسانية وسلمية وأقل تطرّفًا وعنفًا.

إذ يمكن أن نلحظ بشكل واضح أن بيئة المجتمع العنيف تتّسم بتسلطية النظم والأعراف الاجتماعية الجامدة عبر:

1- احتكار وسائل القهر والإكراه وهيمنة المعالجات الأمنية في النظام السياسي.

2- ضخّ المال العام في المال الخاص من خلال مأسسة الفساد وتوليد شبكات مصالح علائقية في النظام الاقتصادي.

3- حفظ وترتيل المعلومات كأساس لخطط التعليم ومناهجه في النظام التربوي.

4- إنتاج عقلية التبعية والتقليد والمطابقة وتشريع غلبة الماضي على الحاضر في النظام الديني.

5- سيادة عقلية الوصاية الفكرية والهيمنة الأحادية في النظام الأسري.

6- نمطية العادات والتقاليد وانتقالها من جيل إلى آخر بثبات في النظام الاجتماعي.

هذه السمات تسير بخط متصادم تمامًا مع طبيعة المجتمعات الحديثة التي تمتاز برتم حركي سريع جرّاء دخول جيل جديد من التقنيات وتطوّرها بشكل هائل، وهو تطوّر ينعكس بالضرورة على طبيعة الأنظمة الاجتماعية، الاقتصادية والسياسية القائمة، لكن هذا التطوّر لا تكاد تتوافر له بيئة مناسبة، فقد خلق امتيازات مادية للسلطة وحواشيها في مقابل سحق الطبقة محدودة ومتوسطة الدخل، فخلف الصفقات المليونية التي تعقدها الحكومات يزداد عدد الفقراء والمسحوقين.

ومن جهة أخرى فإن قيم المشاركة والحقوق التي يتلقاها الفرد عبر وسائل الاتصال مع أفراد ومؤسسات ينتمون إلى مجتمعات متقدمة ويتفاعلون معها تصطدم بواقع التغيّر البطيء على صعيد السلطة السياسية في العالم العربي، الأمر الذي ينتج انسدادًا على مستوى التفاهمات السياسية.

حيث تؤدّي تلك الوضعيات بالضرورة إلى تآكل شرعية السلطة بسبب عدم تجديد مصادرها، ممّا يُشيع نوعًا من التذمّر الاجتماعي، ينتهي بشيوع حالة من التمرّد بين جموع ترغب في التغيير ومجموعة تصرّ على التمسك بالسلطة وترفض كل محاولات التجديد حفاظًا على مكتسباتها الراهنة.

ومن خلال رصد العديد من التجارب القريبة يمكن أن نلاحظ أن العنف يعتبر الوليد الشرعي لفشل الدول في الحفاظ على شرعية السلطة، وتجديد مصادرها، بالصورة التي تضمن تحوّل الدولة لمؤسسة تنتمي إلى المجتمع وتحظى بقبوله، ويشعر المواطن فيها بأنه شريك حقيقي في كل مكتسبات الوطن، وأن السلطة هي إنجاز لغالبية المجتمع وليست وقفًا على جهات محدّدة تمسك بتلابيب سُلطة تحتكر كل خيرات الوطن.

الخلاصة

وفقًا لما تمَّ عرضه، فإن معالجة موضوع العنف ومتوالياته الفكرية والاجتماعية، وارتباط العنف بالجماعات الإسلامية، لا يستقيم بالالتفات إلى جانب من المشهد وإهمال بقية الزوايا، والتغافل عنها بإصرار وتعمّد، وهو المسلك الذي لجأ إليه أيضًا عدد كبير من البحّاثة العرب والمسلمين، عند تناولهم لهذا الموضوع، إما لضرورات مذهبية كما يعتقدون، أو تجنُّبًا للصدام مع الدولة القائمة، وحفاظًا على السلامة الشخصية، وربما نتيجة الخشية من ردّة فعل الجمهور الطائفي.

وهو ما يفسر حالة «الانقلابات الفكرية» من الاعتدال إلى التطرّف التي ظهرت على أكثر من صعيد سواء من قبل شخصيات فكرية وعلمية، أو من قبل جماعات دينية وسياسية، حيث نتابع يوميًّا سلسلة التبريرات الشرعية أو السياسية التي يصدرها البعض من علماء الدين والأكاديميين للتطرّف المذهبي أو لاستخدام القوة المفرطة ضد المختلفين معهم، في تناقض واضح مع كل الأدبيات الفكرية والسياسية التي كانوا يدعون إليها ويبشرون بها.

كذلك لا يمكن القول: إن العنف والتطرّف هو نتيجة العودة لتراث عنيف فقط؛ إذ يمكن إحياء منهج رواد الصلاح والإصلاح في الأمة، ونقض ما عداه، لكونه منهج الحق والمتوافق مع حاجة المجتمعات أولًا، ولاتّفاقه مع النصوص الدينية الثابتة ثانيًا، غير أن ذلك لا يتحقّق في ظل الشقاق الاجتماعي، وطغيان التجاذبات المذهبية، وانهيار أسس التعايش السلمي، كما أنه لا يقوم في ظل سيادة الاستبداد السياسي وظروف الحرمان الاقتصادي.

فالهروب الجماعي إلى التراث، واستنباط ما يؤيد الخروج على الحاكم، ونقض المجتمع، هي جزء من عملية التوسّل بالقوة لمواجهة الواقع المتعثر إنسانيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا، ولمعرفة دقة هذه النتيجة يمكن عمل مقارنة سريعة مع سائر المجتمعات المستقرة راهنًا، فهي أيضًا لديها تراث حافل بالدموية، ولديها سلة من فتاوى التكفير التاريخية، لكنها استطاعت أن تحيّدها جانبًا وتضعها في المتحف.

وهنا فقط يمكن أن نجد الإجابة عن الأسئلة المحيّرة من قبيل: لماذا ظلّ التراث المأزوم والمتوتر حيًّا وطريًّا ولديه القدرة على إزاحة العقلانية في العالم العربي والإسلامي، رغم مرور كل هذه السنوات؟ وما هي الأسباب التي مكّنت أفكار فقهاء العنف من الانتشار جيلًا بعد جيل دون توقّف على حساب أفكار رواد الإصلاح والصلاح في الأمة؟ وكيف تمكّن هذا النموذج من البقاء في سدة قيادة طائفة من المسلمين حتى يومنا الراهن؟ وعن السر الذي يقف خلف قابلية المجتمعات الإسلامية لاستقبال هذه الأفكار وتوليدها من جديد بنشاط وروح نضالية عالية؟.

 

 

 

 



[1] الحجرات: 13.

[2] تاريخ الطبري: 5/209.

[3] روى يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: «ملعون ملعون من رمى مؤمناً بكفر، ومن رمى مؤمناً بكفر، فهو كقتله» كنز الفوائد: 63، بحار الأنوار: 69/ 209. وعن جابر، عن أبي جعفر (عليه السلام): «ما شهد رجل على رجل بكفر قط إلَّا باء به أحدهما، إن كان شهد [به] على كافر صدق، وإن كان مؤمنًا رجع الكفر عليه، فإياكم والطعن على المؤمنين» بحار الأنوار: 69/ 208. وفي حديث الأربعمائة: «إذا قال المؤمن لأخيه: «أفٍّ» انقطع ما بينهما، فإذا قال له: أنت كافر؛ كفر أحدهما» الخصال للصدوق: 623.

[4] النساء: ٩٤.

[5] النهاية في غريب الحديث والأثر: ٤/١٨٥.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة