تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الحق كمفهوم في البحوث العلمية

فيصل العوامي

الحق كمفهوم في البحوث العلمية

 

الدكتور فيصل العوامي*

 

*         كاتب وباحث من السعودية.

 

 

 

ﷺ سياق البحث

تفترض هذه الدراسة أن حرية التعبير حق من الحقوق الكبرى للإنسان بالمعنى الفقهي والقانوني، لهذا لا بد من تسريح النظر في البعد المفاهيمي لمادة حق؛ لأنه سيساعد على تشخيص مستوى ممارسة هذا الحق خارجًا من قبل صاحب الحق.

ﷺ مفهوم الحق علميًّا

لم يُوْلِ بعض الفقهاء أهمية للبحث المفاهيمي لمادة حق، كما هو ملاحظ في مطاوي كلمات السيد الخوئي، حيث صدّر كلامه بالحديث عن أقسام الحقوق ثم انتقل مباشرة للحديث عن الفارق بين الحق والملك من جهة، وبين الحق والحكم من جهة أخرى، من دون التوقُّف عند الحديث عن ماهية الحق[1]، بل صرّح بعضهم كالسيد الحائري بعدم وجود أثر عملي لهذا اللحاظ من البحث، فبالرغم من أنه تناول الجانب المفاهيمي بشيء من التفصيل، إلَّا أنه ختم حديثه بالقول: «وعلى أية حال فهذا المنحى من البحث الذي بحثناه حتى الآن، وهو البحث عن تعريف الحق، وإن كانت له قيمته من زاوية فقه الحقوق ولكن لا أثر عملي فقهي يترتب عليه، وإنما الأثر العملي يترتب على منحًى ثانٍ من البحث، وهو ما قد يسمّى ببحث الفرق بين الحق والحكم، وهو البحث عن الآثار المعروفة التي قد ترتّب على الحق»[2].ومفاد هذا الكلام أننا لو قلنا بأن الحق يفيد الملكية لن يكون لذلك آثار فقهية عملية تختلف عن الآثار المترتبة على القول بإفادة الحق للسلطنة أو الأولوية.

لكن حتى لو سلّمنا جدلًا بعدم وجود ثمرة عملية لذلك فإنه لا يمنع من البحث فيما إذا كانت هناك ثمرة علمية.

الظاهر أن المتداول في البحث المفاهيمي الفقهي لمادة حق أخص من المفهوم اللغوي والقرآني وكذلك الروائي، والذي يبتني عليه الفعل القانوني إنما هو المفهوم الفقهي. كيف؟

ينبغي بدايةً تخصيص بحث لكل مفهوم من هذه المفاهيم، ليتضح لنا في النهاية المفهوم الذي خُصِّصَ البحث من أجله. وهذا بطبيعته سيجعل للبحث المفاهيمي في مادة حق أثرًا عمليًّا إضافةً للأثر العلمي.

وليس من الضرورة أن يكون في ذلك إيراد على الحائري حين قال بعدم وجود أثر عملي؛ إذ إن الأمر هنا ربما يكون من باب اختلاف اللحاظ، فالحائري عندما قال بعدم وجود ذلك الأثر كان لحاظُه المفهومَ الفقهي بما هو، أي من باب الماهية المهملة، بينما اللحاظ هنا من باب اللابشرط المقسمي، أي علاقة المفهوم الفقهي بالمفاهيم الأخرى للمادة نفسها، باعتبار أن الفعل القانوني إنما يبتني على المفهوم الفقهي فقط دون المفاهيم الأخرى، ولا شك أن لذلك أثارًا عملية في البحث الفقهي فضلًا عن القانوني.

أولاً: مفهوم الحق لغويًّا

فُسِّر الحق عند أهل اللغة تارة بأنه خلاف الباطل، وتارة بمعنى الوجوب والثبوت، والظاهر أن الثاني نتيجة تلقائية للأول.

فقد قال صاحب المقاييس «حقّ: الحاء والقاف أصل واحد وهو يدل على إحكام الشيء وصحته، فالحق نقيض الباطل»، ثم قال «ويقال حقَّ الشيء: وجب»[3].

وهكذا قال المصباح «الحق خلاف الباطل»، ثم قال «وهو مصدر حقّ الشيءُ من بابي ضرب وقتل إذا وجب وثبت،... وحققتُ الأمر أُحِقُّه إذا تيقّنته أو جعلته ثابتًا لازمًا»[4].

وفي لسان العرب «الحق: ضد الباطل»، وفيه أيضًا «حقّ الأمر ويحقّ حقوقًا: صار حقًا وثبت، قال الأزهري: معناه وجب يجب وجوبًا، وحقّ عليه القول وأحققته أنا. وفي التنزيل: {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ}[5] أي ثبت، قال الزجاج هم الجن والشياطين، وقوله تعالى {وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ}[6] أي وجبت وثبتت، وكذلك {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ}[7] وحقه يحقه حقًا وأحقه، كلاهما أثبته وصار عنده حقًا لا يشك فيه»[8].

وقد استنبط الفقيه الأصفهاني من هذه الكلمات أن الحق مفهومًا يعني شيئًا واحدًا وهو الثبوت، كما هو ظاهر عبارته التالية: «وأما الحق فله في اللغة معانٍ كثيرة، والمظنون رجوعها إلى مفهوم واحد، وجعل ما عداه من معانيه من باب اشتباه المفهوم بالمصداق، وذلك المفهوم هو الثبوت تقريبًا، فالحق بمعنى المبدأ هو الثبوت، والحق بالمعنى الوصفي هو الثابت، وبهذا الاعتبار يطلق الحق عليه تعالى لثبوته بأفضل أنحاء الثبوت الذي لا يخالطه عدم أو عدمي، والكلام الصادق حق لثبوت مضمونه في الواقع»[9].

وبالتالي فقول اللغويين (خلاف الباطل) أو (نقيض الباطل) يعني أن له وجودًا ثابتًا، باعتبار أن الباطل لا وجود له من رأس، أي أنه نوع من الكذب، وفي مقابله الصدق، أي الوجود الواقعي.

والثبوت المقصود هنا يعني أنه ثابت في نفسه، وقد يكون بمعنى الثبوت للغير إذا أُسند الحق إليه، فإذا قيل عن الشيء أنه حق كان بمعنى الثبوت في نفسه، وأما إذا قيل بأنه حق لفلان فهو يعني أنه ثابت له.

ولا شك أن الحق لغويًا يتضمن معنى الثبوت، لورود هذا المعنى في كلمات اللغويين، لكن الكلام هل المراد الثبوت فقط، أم هناك لحاظ آخر؟

يلاحَظ في تعريفات اللغويين المذكورة أعلاه ورود لحاظ آخر بضميمة الثبوت، وهو الوجوب في بعضها، واللزوم في بعض آخر.

فهل المراد هنا بالوجوب ما يرادف الثبوت، كما قد يظهر من عبارة لسان العرب حيث أنه عرّف الثبوت بالوجوب، قال «حقّ الأمر ويحقّ حقوقًا: صار حقًا وثبت، قال الأزهري: معناه وجب يجب وجوبًا»، بل ذكر المقاييس الوجوب دون الثبوت، قال «حق الشيء: وجب».

أم أن في الوجوب لحاظًا إضافيًا، كما قد يظهر من عبارة المصباح حيث أنه عطف الثبوت على الوجوب، قال «وجب وثبت»، والعطف يدل على المغايرة ولو النسبية، كما أنه ذكر حالين للحق وهما الثبوت واللزوم، قال «وحققتُ الأمر أُحِقُّه إذا تيقّنته أو جعلته ثابتًا لازمًا».

ويضاف إلى ذلك أيضًا اعتبار ولحاظ آخر في تعريف الحق نص عليه اللغويون، وهو اليقين والمطابقة التامة للواقع، ففي العبارة الأخيرة للمصباح نُصَّ على اليقين «تيقّنته»، وفي المقاييس نُصَّ على الإحكام والصحة «حقّ: الحاء والقاف أصل واحد وهو يدل على إحكام الشيء وصحته».

والظاهر وجود مغايرة ولو من جهة بعض اللحاظات لا جميعها، أي ليس من الضرورة أن يكون التغاير بمعنى التباين المطلق، فيكفي أن يكون بمعنى العموم والخصوص من وجه، والظاهر أنه كذلك، وذلك أن اللغويين يعتمدون في تعريف الألفاظ وتشكيل معانيها على الاستعمالات العرفية عند قدامى العرب:

فالعرب تارة يستعملون اللفظ في معنى ومجال واحد فقط، فيُفْهَم بذلك أن معنى اللفظ هو هذا لا غير، كما هو ظاهر استعمالاتهم للفظ (صنم)، وهو الشيء الذي يُتَّخَذ للعبادة، مع بعض التفاصيل لسنا بصددها في هذا المقام، ولذا قال صاحب المقاييس «صنم: كلمة واحدة لا فرع لها»[10].

وتارة يستعملونه في معانٍ ومجالات حقيقيّة متعددة، فيُفْهَم بذلك وجود اشتراك لفظي، كلفظ (عين) المستعمَل في العين الباصرة والعين النابعة وغيرهما على نحو الحقيقة[11]، وكلفظ (ظنَّ) المستعمَل بمعنى تيقّنَ وبمعنى شكَّ على نحو الحقيقة بحسب الظاهر[12]، وكلفظ (شعب) الدال على الافتراق والاجتماع[13]، وفيه قال الخليل الفراهيدي «من عجائب الكلام ووسع العربية أن الشّعب يكون تفرّقًا ويكون اجتماعًا»[14].

وقد يستعملون اللفظ أيضًا في عدة مجالات لكن لا بمعنى الاشتراك اللفظي، وإنما بمعنى أن اللفظ يدل على مجموع ذلك في آن، والظاهر لمن له أنس بالكتب اللغوية أن غالب تعريفات اللغويين هي من هذا القبيل، ولهذا تجدهم في تعريف الألفاظ يستشهدون بأمثلة كثيرة من استعمالات العرب، بحيث يكون كل مثال يشير إلى جزئيّة من كُلِّي المعنى، كالذي نحن بصدده تمامًا.

وبناء على ذلك فالذي يظهر أن لفظ الحق يُستعمَل بمعنى الوجوب، وبمعنى الثبوت أيضًا، كما يستعمل بمعنى المطابقة للواقع يقينًا. وكل واحد من هذه المعاني لا يعني الآخر وإن اتّحد معه في بعض الأجزاء، فالحق يعني المفهوم الجامع للوجوب والثبوت والمطابقة للواقع.

والوجوب هنا لا يعني الوجوب الذاتي العقلي، بحيث يكون معنى الحق: الواجب الوجود عقلًا في مقابل الممكنات العقلية، لأن الحق قد يكون واجبًا وقد يكون ممكنًا، وإنما يعني الوجوب العرفي، الذي يستمد الوجوب الشرعي منه معناه، فالوجوب هنا بمعنى اللزوم، ولهذا جاء في تعريف المصباح «جعلته ثابتًا لازمًا»، فالحق في معناه يستبطن اللزوم، أي أن تكون الجهة التي عليها الحق ملزَمة به. فبالإضافة إلى كونه ثابتًا في نفسه، فإنه واجب على من هو عليه.

وليس هذا فحسب، بل ثمّة إضافة أخرى لمفهوم الثبوت، وذلك أن الثبوت مفهوم تشكيكي، أي يمكن أن تكون له مراتب، والثبوت في مفهوم الحق يرقى إلى أعلى المراتب، ولهذا أُخِذ في مفهومه المطابقة اليقينية للواقع، فقد ورد قيد اليقين في عبارة المصباح المتقدمة، كما ورد أيضًا قيد الإحكام والصحة في عبارة المقاييس، وكلاهما يدلان على المطابقة التامة للواقع.

من جميع ذلك يمكن لنا استنباط المعنى الجامع لمفهوم الحق لغويًّا، فهو يعني: الثبوت المطابق للواقع برتبة اليقين، والواجب على من هو عليه، أي هو ثابت في نفسه يقينًا، وملزِمٌ لمن هو عليه.

فالحق لا يعني الثبوت المجرّد فقط، وإنما يضاف إليه لحاظان، أحدهما اليقين، والثاني الإلزام للغير. فإذا أُطلِق أريد به هذا المعنى المركّب.

ثانياً: مفهوم الحق قرآنيًا

استعمالات الحق كثيرة في القرآن الكريم، لكنها بحسب الظاهر تطبيقات لمفهوم واحد وبأساليب متعدّدة، ولعل من أهم تلك الاستعمالات الكاشفة عن مفهوم الحق الآيات التي اعتبرته نقيضًا للباطل، والنقيض للباطل إنما هو الحقيقة المطلقة والثابتة يقينًا، كقوله سبحانه: {وَقُلْ جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ}[15]، وقوله عز من قائل:{وَلَا تَلْبِسُوا الحَقَّ بِالْبَاطِلِ}[16]، وقوله تعالى:{لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ}[17]، وقوله جل شأنه: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}[18].

وهذا الاستعمال يشير إلى المفهوم اللغوي السابق الذكر، ويؤيِّد ذلك الاستعمالات المتفرِّقة في السور القرآنية لهذا اللفظ وباشتقاقات متعدّدة في معاني الثبوت والإلزام والمطابقة للواقع اليقيني، ومن أمثلة ذلك:

1- قوله سبحانه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}[19]، فالله هو الحق، أي إنه هو الثابت المطابق ثبوته للواقع اليقيني، وقد رأينا لهذا المعنى أثرًا في سياق تقريرات بعض الأصوليين لمفهوم الحق، كما هو ملاحظ في كلمات المحقق الأصفهاني عند تعريفه لمفهوم الحق، قال: « فالحق بمعنى المبدأ هو الثبوت، والحق بالمعنى الوصفي هو الثابت، وبهذا الاعتبار يطلق الحق عليه تعالى لثبوته بأفضل أنحاء الثبوت الذي لا يخالطه عدم أو عدمي»[20]. فالثبوت في كلامه هو المراد بالمطابقة مع الواقع اليقيني كما سبق الكلام.

2- قوله عز وجل {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا}[21]، فالحق هنا إشارة إلى الحقيقة الثابتة المطابقة للواقع والملزِمة للمخاطَب، وإنما هي حقيقة لأن من اتَّبعها كان على هدى، ومن خالفها كان على ضلال، كما تنص الآية، وأما كونها ملزِمة لوجوب اتِّباعها والالتزام بها؛ إذ لا معنى للهداية في الآية إلَّا وجوب الاتِّباع، كما لا معنى للضلال إلَّا حرمة المخالفة.

3- ما جاء في الآيات المباركة من التأكيد على أن الكثير من الأمور المرتبطة بالتكوين أو التشريع إنما حصلت بمحض الحق، كما في الآيات المباركة التالية {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالحَقِّ}[22]، {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ}[23]، {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالحَقِّ}[24]، فإرسال النبي الأكرم K، وتنزيل الكتاب، وخلق السماوات والأرض، كل ذلك إنما حصل بالحق والثبوت والمطابق للواقع. مع ضرورة الإشارة هنا إلى أن للحق في هذه الآيات ظلالًا ومعاني أوسع يتكفّل بها البحث التفسيري ولسنا في صددها في هذا المقام.

4- النص على مطابقة الحق للواقع التام من دون أي شائبة، وذلك من خلال التأكيد على أن كل ما عداه خارج تخصُّصًا عنه، بمعنى المباينة التامة للواقع والحقيقة، كما في قوله جل شأنه: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ}[25]، {فَوَقَعَ الحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[26]، فإذا كان كل شيء غير الحق ضلالًا، كما تنص الآية الأولى، والضلال هو «العدول عن الطريق المستقيم، ويضادّه الهداية»[27]، فمعنى ذلك أن الحق هو الهداية إلى الحقيقة الثابتة والواقع اليقيني. وهكذا إذا وقع الحق وتحقق خارجًا، تبيَّن أن كل شيء عداه باطل، كما تنص الآية الثانية، إذًا فالحق هو الثابت والمطابق للواقع.

وهكذا سائر الاستعمالات في القرآن الكريم، فجميعها تُشير وتُعبِّر عن المعنى اللغوي الذي قرَّرناه في العنوان السابق. بالتالي فالاستعمال القرآني لا يضيف خصوصيّة للمعنى اللغوي، وإنما يلتزم بالمعنى نفسه، كما هو الشأن في سائر الخطابات القرآنية، نظرًا لأن القرآن إنما جاء باللغة الدارجة عند العرب.

وهذا هو الظاهر تمامًا في الاستعمالات الروائية أيضًا، فجميعها متطابق مع الاستعمالات القرآنية. نعم سيأتي كلام حول التمايز بين الاستعمالات الروائية لمفهوم الحق وبين المفهوم الفقهي الخاص للحق.

ثالثاً: مفهوم الحق فقهيًّا

المفهوم الفقهي للحق أخص من المفهوم اللغوي، وهو الذي تبتني عليه الأحكام الشرعية والأنظمة القانونية.

وتقرير المراد منه لا يتأتّى عبر الرجوع إلى النصوص الشرعية كحال الكثير من المفاهيم، وذلك لعدم وجود نص صريح يحدّد هذا المفهوم بحسب ما هو متداول في ألسن الفقهاء، والطريق الوحيد لذلك النظر في الكلمات التعريفية المقرَّرة فقهيًّا.

وهذا لا يعني الانفكاك الكامل بين الكلمات الفقهية والنص الشرعي، بل تلك الكلمات مستمدَّة من مجموع النصوص الخاصة والعامة، ومن بعض التطبيقات الجزئية التي تُعَدُّ مسرحًا للنص.

اتجاهات البحث الفقهي

دار الجدل الفقهي عند تقرير مفهوم الحق بين عناوين عدة، أحدها السلطنة، وثانيها الملك، وثالثها الأولوية، ورابعها الاشتراك اللفظي بين مجموعة عناوين، وخامسها الاعتبار الخاص الخارج عن الملك والسلطنة.

فقد ذهب المشهور إلى أن الحق سلطنة[28]، ووصفه المحقق الأصفهاني بالمعروف[29]، وهو تعبير آخر عن المشهور كما فهمه بعضٌ[30].

وقد قيَّد بعض الفقهاء السلطنة بقيود، فالنائيني قيَّدها بالضعف ولو في بعض مراتبها، كما يظهر من عبارته التالية: «الحق سلطنة ضعيفة على المال، والسلطنة على المنفعة أقوى منها، والأقوى منهما على العين»[31]، في حين قيَّدها الشيخ الأنصاري بالفعلية[32] ولو بالنسبة لبعض الحقوق، كما هو صريح متن المكاسب التالي: «أن مثل هذا الحق[33] سلطنة فعلية»[34].

واعتبر بعضٌ الحق نوعًا من الملك، كما هو ظاهر عبارة السيد اليزدي حيث قال: «فهو مرتبة ضعيفة من الملك، بل نوع منه»[35]، مع أنه في مقدمة كلامه قال: «الحق نوع من السلطنة»[36]، بل في خاتمته كأنما مزج بين الأمرين فقد قال: «الحق نحو من الملك، بل هو ملك بحسب اللغة، وكونه في مقابل الملك اصطلاح عام أو خاص، ولا بد له من متعلّق سواء جعلناه إضافة ونسبة بين الطرفين أو سلطنة كما في الملك»[37].

وشِبْهُ ذلك ما جاء في عبارات النائيني، فهو تارة يُعبِّر عنه بالسلطنة الضعيفة، كما مرّ بيانه قبل قليل، وتارة بالمرتبة الضعيفة من الملك والملكية الناقصة[38]، وتارة أخرى يجمع بين الأمرين من خلال تصوير الحق على أنه اعتبار خاص، كما في عبارته التالية: «وكيف كان فإذا كان الحق عبارة عن اعتبار خاص الذي أثره السلطنة الضعيفة على شيء ومرتبة ضعيفة من الملك»[39].

ولا شك أن ذلك ليس تهافتًا في الكلام، وإنما يرمز إلى تقرير خاص لمفهوم الحق، وقد جمعه أحد الشُّرَّاح بالكيفية التالية عند تعليقه على عبارة اليزدي حيث قال: «ومقتضى تفسير الحق بالملك والملك بالسلطنة كون الحق سلطنة لا اعتبارًا مغايرًا للملك»[40].

ومؤدَّى هذا الجمع أن الحق سلطنة والسلطنة هي نوع من الملك، وبعبارة: إن التفسير الحقيقي للحق أنه سلطنة، والتفسير الحقيقي للسلطنة أنها ملك، وبالتالي حين يُعرَّف الحق بالملك وبأنه مرتبة ضعيفة منه، فإنما يراد بذلك السلطنة لأنها في حقيقتها نوع من الملك.

ويمكن أن يكون هناك جمع آخر لا تعوزه القرائن، بل هي ترشح في كلمات الفقهاء كما هو جليٌّ للمتتبع، مؤدّاه أن الاختلاف في التعريف تابع لاختلاف الموارد، وهو مبنيٌّ على القول بالتمايز والاختلاف بين مفهوم السلطنة ومفهوم الملك، ففي موارد خاصة يكون الحق من قبيل السلطنة، وفي أخرى يكون نوعًا من الملك، وفي ثالثة يتمايز بنسبة عن السلطنة والملك، ولهذا يصبح اعتبارًا خاصًّا خارجًا عنهما تخصّصًا.

وهذا ما مال إليه بحسب الظاهر المحقّق الأصفهاني مع مزيد تفصيل، فهو لم يستبعد أن يكون الحق اعتبارًا خاصًّا يلتقي في بعض الصور مع السلطنة وفي بعض آخر مع الأولوية ويفترق في كثير منها، هذا ما يُلْحَظ في نص عبارته التي قال فيها: «الحق مصداقًا في كل مورد اعتبار مخصوص له آثار خاصة، فحق الولاية ليس إلَّا اعتبار ولاية الحاكم والأب والجد، ومن أحكام نفس هذا الاعتبار جواز تصرفه في مال المولّى عليه تكليفًا ووضعًا، ولا حاجة إلى اعتبار آخر، فإضافة الحق إلى الولاية بيانية، وكذلك حق التولية وحق النظارة، بل كذلك حق الرهانة، فإنه ليس إلَّا اعتبار كون العين وثيقة شرعًا، وأثره جواز الاستيفاء ببيعه عند الامتناع عن الوفاء، وحق التحجير أي المسبب عنه ليس إلَّا اعتبار كونه أولى بالأرض من دون لزوم اعتبار آخر، وحق الاختصاص في الخمر ليس إلَّا نفس اعتبار اختصاصه به في قبال الآخر، من دون اعتبار ملك أو سلطنة له، وأثر الأولوية والاختصاص عدم جواز مزاحمة الغير له.

نعم، لا بأس بما ساعد عليه الدليل من اعتبار السلطنة فيه كحق القصاص، حيث قال عز من قائل: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا}[41]، وكذا لو لم يكن هناك معنى اعتباري مناسب للمقام كما في حق الشفعة، فإنه ليس إلا السلطنة على ضم حصة الشريك إلى حصته بتملّكه عليه قهرًا، فإن الشفع هو الضم، والشفعة -كاللقمة- كون الشيء مشفوعًا، أي مضمومًا إلى ملكه، ولا معنى لاعتبار نفس الشفعة، وإلَّا كان معناه اعتبار ملكية حصة الشريك، مع أنه لا يملك إلَّا بالأخذ بالشفعة لا بمجرد صيرورته ذا حق.

وكذا حق الخيار هو السلطنة على الاختيار -وهو ترجيح أحد الأمرين من الفسخ والإمضاء- لا اعتبار كونه مختارًا، فإنه في قوة اعتبار كونه مرجحًا أي فاسخًا أو ممضيًا، مع أنه لا فسخ ولا إمضاء بمجرد جعل الحق. نعم، ليس حق الخيار ملك الفسخ والإمضاء معًا وإلَّا نفذ إمضاؤه وفسخه معًا، مع إنه لا ينفذ منه إلَّا أحدهما، وكذا السلطنة فإن حالها حال الملك، ولا أحد الأمرين من الفسخ والإمضاء، فإن أحدهما المردد لا ثبوت له حتى يتقوّم به الملك والسلطنة، بل الملك أو السلطنة يتعلّق بترجيح أحد الأمرين على الآخر، فالمقوّم لاعتبار الملك أو السلطنة أمر واحد وهو ترجيحه لأحد الأمرين»[42].

فظاهر هذه العبارة بطولها صريح في أن الحق اعتبار خاص يلتقي مع السلطنة والأولوية ويفترق، وثمة من قال بالاعتبار الخاص أيضًا لكن بالشكل الذي لا يلتقي مع السلطنة ولا الملك، كما هو صريح عبارة الإمام الخميني التي أشكل فيها على ما استنتجه المحقّق الأصفهاني، فهو يذهب إلى أن الحق بحسب المفهوم العرفي والمرتكز العقلائي له معنى واحد، وهو اعتبار خاص يختلف عن اعتبار الملك أو السلطنة، ولهذا فقد جعل الحقوق التي عدّها الأصفهاني بعنوان حقيقة أخرى غير السلطنة خارجة عن الحقوق من رأس، لا أنها حق ولكنه مغاير للسلطنة أو الملك، ومثّل لذلك بالولاية وقال: إنها أمر اعتباري لدى العقلاء مجعول بذاته غير الحق والملك والسلطنة[43].

وقد تعرَّض بعض تلامذته بالشرح لمبررات هذا القول، وكان أهمها أن الحق ليس سلطة بل السلطة جزء من موضوع الحق، أي إنها في بعض الموارد أثر من آثاره لا أنها هو حقيقةً، «فكما أن المالكية منشأ للسلطة، كذلك الأمر في كونه صاحب حق هو منشأ للسلطة أيضًا»[44]. وهذا المبرر قريب من تعريف الآخوند الخراساني لمفهوم الحق، فقد ذهب إلى أن «الحق بنفسه ليس سلطنة، وإنما كانت السلطنة من آثاره، كما أنها من آثار الملك، وإنما هو اعتبار خاص له آثار مخصوصة، منها السلطنة على الفسخ كما في حق الخيار، أو التملك بالعوض كما في حق الشفعة، أو بلا عوض كما في حق التحجير»[45].

ومن المبررات أيضًا أن الحق ليس ملكًا، لأنه في بعض الأحيان يكون هناك حق من دون أن يوجد ملك، مثل حق السبق في المسجد[46].

خلاصة واستنتاج

لقد نوقشتْ جميع هذه الأقوال بمناقشات نقضية استقرائية أو تفسيرية، عبر تتبع مصاديق الحقوق والنظر في مستوى تطابقها مع التعريفات، من جهة جمع تلك التعريفات للأفراد وطردها للأغيار، أو النظر في مستوى دلالتها على مفهوم الحق[47].

والإنصاف أن جميع الآراء المذكورة ليست بمنأى عن التعريف الدقيق لمفهوم الحق، وإن لم تكن متطابقة معه من جميع الجهات، أي أنها صحيحة في الجملة.

والأقرب أن الحق قد يكون فعلًا في بعض الموارد بمعنى السلطنة، وفي أخرى بمعنى الملك، وفي ثالثة بمعنى الأولوية، وفي رابعة بمعنى مغاير للثلاثة، ويمكن الوقوف على ذلك من خلال التأمل في مصاديق الحقوق، ففيها ما ينطبق على كل ذلك، بل فيها أيضًا ما ينطبق على أكثر من معنى في آن.

وكل ذلك لا يكون أيضًا بمعزل عن معادلة الزمان والمكان ونوعية الأعراف والقوانين الاجتماعية، فبالنسبة لبعض الحقوق المستجدة قد تعطي الأعراف أو القوانين مساحة خاصة لممارسة الحق ليست من جنس السلطنة ولا الملك ولا حتى الأولوية، في الوقت نفسه الذي تعتبر فيه تلك المساحة حقًّا.

رابعاً: مفهوم الحق قانونيًّا

أرى إمكانية تشكيل رؤية واحدة حول مفهوم الحق باللحاظ القانوني، وإن كان ظاهر التعريفات في هذا المقام متغايرًا خصوصًا في التفاصيل، وذلك لأنها تنطلق من روح واحدة، وتشير إلى حقيقة واحدة.

ويظهر أن التغاير يعود إلى التعدّد وربما التطوّر في المباني الفلسفية، فمفهوم الحق عند أهل القانون متأثر بشكل واضح بطبيعة الروح الفلسفية الرائجة في زمان ومكان ما، وكلما تطوّرت المباني الفلسفية تطوّر أو تغيّر مفهوم الحق.

فالفيلسوف الذي كان يعيش نمطًا سياسيًّا واجتماعيًّا في العصور الأولى لتكوّن الفكر الفلسفي، أعطى الحق معنى يتناسب مع متطلبات بيئته السياسية والاجتماعية، فالفيلسوف الإغريقي والقانوني الروماني الذي كان مشغولًا بالبحث عن العدالة نظريًّا وعمليًّا، والتي ربما كان يفتقدها، نظر إلى الحق على أنه تجسيد لاحترام الكائن البشري[48].

بينما الفيلسوف الحديث الذي كان يُنظِّر لمفهوم الفرد بصفته مذهبًا فلسفيًّا، أعطى الحق تفسيرًا آخر، ويمكن الوقوع على ذلك بصورة واضحة فيما قرّره الدكتور الحاج حول مفهوم الحق في هذا السياق، فقد قال: «نحن لو عرفنا كلمة «الحقوق» droits لتبادر لنا للوهلة الأولى أنها مجموعة من الامتيازات التي يتمتع بها الأفراد والتي تضمنها بصورة أو بأخرى السلطات العامة أو تلك التي تستحق الضمان.

وهذا المفهوم لكلمة droits هو الذي يطلق عليه الفرنسيون «droit subjectif»، ويطلق عليه الإنجليز مصطلح «right»، ونستطيع بموجب ذلك أن نقول بـ«حق الملكية»، أو «الحق في الحياة»، أو «الحق في الزواج»، وغيرها من الحقوق التي يتمتع بها الإنسان في مجتمع منظم. ويظهر على هذا الاصطلاح تأثير الفلاسفة الذين كانوا مهتمين بالفرد أكثر من اهتمامهم بالمجتمع والذين كانت لهم السيادة في ميدان الفكر والقانون في القرنين السابع عشر والثامن عشر إبان سيادة المذهب الفردي الذي ظهر كرد فعل للحكم المطلق، واستبداد الملكية وطغيانها، والذي يرتكز على الحرية والمساواة المطلقة بين الأفراد، وكان أكبر دافع لقيام الثورة الفرنسية التي بالغت في شأن حقوق الفرد ووضعت من أجله «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» عام 1789م. وهكذا أصبح الفرد أساس القواعد القانونية وهدفها الأسمى، بحيث لا تسنّ هذه القواعد إلَّا لحماية حقوقه وحرياته، ومن هنا كان ارتباط الحقوق بالإنسان فأصبح لدينا مصطلح «حقوق الإنسان»[49]».

فهنا بالرغم من وجود تغاير في المعنى الظاهري للمفهوم والمبنى الفلسفي المنتِج لذلك المعنى، إلَّا أننا مع ذلك نستطيع أن نصطاد معنى متقاربًا لمفهوم الحق قانونيًّا، لأن هذا التغاير وإن كان يظهر منه -بحسب النَّظَر البَدْوي- التباعد النسبي أيضًا، إلَّا أنه منطلق من روح واحدة تهدف لتحقيق العدالة والمحافظة على كرامة الإنسان بلا فرق بين الفرد والمجتمع.

هناك أيضًا نمط آخر من التغاير في الجو الفلسفي يلقي بظلاله على الخط الذي يُفسِّر مفهوم الحق ولو مرحليًّا، كما لاحظ ذلك بعض المحقّقين في التاريخ الفلسفي، فطبيعة التداول الفكري في المجتمعات المثقَّفة تُولِّد إشكالات وتساؤلات ترتبط كثيرًا من الأحيان بالمفاهيم، لكن بلحاظ خاص تفرضه المرحلة، دون أن يكون لذلك أثر في التفسير الشمولي للمفهوم، وهكذا طبيعة المشكلة السياسية أو تطوّر الحياة الاجتماعية، بل وطبيعة التداول العَقَدي، كل ذلك له أثر على تفسير مفهوم الحق -بل جميع المفاهيم-، لذلك تارة يعرَّف الحق بالحقيقة فلسفيًّا، تبعًا للحاجة المرحلية ثقافيةً كانت أو سياسيةً أو غير ذلك، وتارة يُعرَّف بقيمة القيم أو الامتيازات الفردية المعبِّرة عن إنسانية الإنسان، وهكذا.

ذلك ما يمكن ملاحظته عند تتبُّع مراحل تكوّن الفكر الفلسفي على مستوى المفاهيم والمعاني، كما أشير إلى ذلك في كلمات بعض المتتبّعين حيث قال: «في الإطار الفلسفي تقلَّبَ مفهوم الحق بين معانٍ متنوّعة، تختلف حسب الأَنساق الفلسفية والسياق التاريخي الذي كان أساس تداوله. فاتخذ معاني أنطولوجية يراد بها عادة كل وجود مطلق، كما اتخذ معاني إبستيمولوجية يراد بها الحقيقة المطلقة. كما تَمَّ تداول مفهوم الحق بمعانٍ أكسيولوجية باعتباره قيمة القيم.

وفي عصر الأنوار أصبح الاهتمام بالحق كقيمة إنسانية على أساسها تبنى وتحدّد كرامة الإنسان. وقد تنوّع بعد ذلك تداوله في جميع مناحي الحياة الإنسانية، فاشتغلت به الفلسفة والسياسة والاقتصاد... إلخ. وارتبط بمفاهيم فلسفية كالعدالة والحرية والواجب... إلخ، أي كل القيم التي بموجبها يمكن أن تتفاعل وتتحقّق إنسانية الإنسان»[50].

كل ذلك يدلّل على مستوى التطوّر وربما التحوّل في معاني مفهوم الحق على المستوى الفلسفي، بشكل يُلقي بظلاله الخاصة على نمط تداول هذا المفهوم قانونيًّا، بحيث يُلحَظ نوعٌ من التغاير في تفسيره على المستوى القانوني، من زمن لآخر أو مكان لآخر. ومع ذلك نستطيع أن نستخلص تفسيرًا جامعًا أو متقاربًا، نظرًا لوحدة الروح المُشكِّلة لهذا المفهوم، كما سيتضح قريبًا.

هكذا إذًا ننطلق عند تحرير مفهوم الحق قانونيًّا، فالتعدّد في نمط التعريف لهذا المفهوم مرجعه التحوّل الطارئ في سيرورة المباني الفلسفية، وطبيعة الاحتياجات والمتطلبات المرحلية سواء كانت سياسية أو ثقافية أو اجتماعية.

نماذج من التعريفات

أَقَرَّ البعض بأن رجال القانون لم يستقرّوا «على تعريف موحَّد للحق، بل اختلفوا فيما بينهم اختلافًا بيِّنًا»[51]، فمنهم مَنْ قسَّمَ الحق إلى نظريات تقليدية وحديثة.

فأما التقليدية، ففيها الاتجاه الشخصي، وهو ما يُعَرِّف الحق من خلال صاحبه بأنه قدرةٌ أو سلطة إرادية للشخص يستمدها من القانون في نطاق معلوم[52]. وفيها الاتجاه الموضوعي، وهو ما يُعَرِّف الحق بأنه مصلحة يحميها القانون[53]، بحسب ما نُسِب إلى الألماني «إيهرنج» وأساسه أن الإرادة ليست هي جوهر الحق، إنما جوهره الحقيقي هو تلك المصلحة التي ترمي الإرادة إلى تحقيقها[54]. وفيها أيضًا الاتجاه الذي حاول المزج بين الاتجاهين الشخصي والموضوعي لتلافي الإشكال وسد الثغرات التي تؤخذ عليهما، لكن أصحاب هذا الاتجاه أيضًا لم يتفقوا على تعريف واحد[55]، فمنهم من اعتبر الحق قدرة إرادية معطاة لشخص معين في سبيل تحقيق مصلحة يحميها القانون، ومنهم من عرف الحق بأنه المصلحة التي يحميها القانون وتدافع عنها قدرة إرادية معينة[56].

وقد أُخِذ على هذه النظرية في الاتجاه الشخصي والجامع بينه والموضوعي أنه قرن الحق بالإرادة مع أنه قد يثبت لعديم الإرادة كالصبي والمجنون، ومفاد ذلك اعتبار الولي أو الوصي القائم على الصبي والمجنون هو صاحب الحق، وذلك غير صحيح. كما أخذ على الموضوعي والجامع بينه وبين الشخصي أنه عرّف الحق بالغاية منه لا بجوهره، هذا إضافة إلى أنه اعتبر الحق متضمِّنًا لمصلحة معينة، في حين ليس كل مصلحة من الحقوق[57].

هذا بالنسبة للنظرية التقليدية، وأما بالنسبة للنظرية الحديثة فقد نُسِبَتْ إلى البلجيكي «دابان» الذي قدَّم تفسيرًا خاصًّا للحق بهدف تجاوز الإشكاليات على النظرية التقليدية، وملخّص تفسيره أن الحق «ميزة يمنحها القانون لشخص معيّن ويحميها بطريقة قانونية، وبمقتضاها يتصرّف الشخص متسلطًا على مآل معترف له به بصفته مالكًا ومستحقًّا له»[58]. وهذا التفسير ينحل إلى أمور:

1- الاستئثار: ويراد به اختصاص شخص ما وإن لم يكن صاحب إرادة كالصغير[59] بشيء مادي كالمنقولات، أو بقيمة معينة كسلامة الحياة، كما يشمل العلم والامتناع عنه[60].

2- التسلط: ويعني القدرة على التصرف في محل الحق، وإن لم تكن إرادة، مع إمكانية وجود النائب لفاقد الإرادة.

ويُكَمَّل هذان الأمران بالرابطة القانونية، باعتبار أن الحق يفترض تلقائيًّا وجود أكثر من طرف، بحيث يكون الجميع محترِمًا لحق غيره، مع اشتراط الحماية القانونية لصاحب الحق[61].

ومن القانونيين من اكتفى بعرض الجانب الحديث من النظرية، ولكن بشيء من الاختلاف مع نظرية دابان، كالقانوني الأمريكي وسلي هوهفلد بحسب ما نقل عنه دليل أكسفورد للفلسفة، فدابان اعتبر الحق مكوِّنًا لعناصر أربعة (الاستئثار، التسلط، الرابطة القانونية، والحماية القانونية)، بينما هوهفلد غيَّر في العناصر من حيث الإضافة والحذف، فقال: إنها أربعة أيضًا وهي (الدعوى، الحرية، السلطة، والحصانة).

ويريد بالأول أن إقرار القانون بحق لأحد يعني امتلاكه للأساس القانوني للمطالبة بالمنافع المنطوية تحت عنوان ذلك الحق، وأما الثاني فيعني به القدرة على التصرف ضمن حدود الحق بقرار فردي ومن دون استئذان من أحد، والثالث يعني أن لصاحب الحق ولاية على كل ما هو موضوع للحق، وأخيرًا الرابع يعني عدم وجود مؤاخذة أو عقاب مترتبة على تصرف صاحب الحق في ما هو حق له[62].

ومنهم أيضًا من عَرَّفَ الحق بأنه «ما لا يحيد عن قاعدة أخلاقية، يعني ما هو مشروع وقانوني في مقابل ما هو فعلي وواقعي، إنه فعل فعل أو الاستمتاع بشيء أو إلزام الغير به تبعًا لقواعد تحكم العلاقات بين أفراد ينتمون إلى نفس المجتمع»[63].

وقريب منه ما جاء عن لالاند في معجمه الفلسفي حيث اعتبره «معيارًا أو قاعدة قانونية أخلاقية تؤطّر علاقات الأفراد فيما بينهم داخل مجتمع سياسي منظم»[64].

ومن هذا القبيل توجد أيضًا تعريفات كثيرة تتغاير ربما في بعض الجزئيات أو بعض اللحظات مع ما ذُكِر. وكل ذلك يدلل على وجود اختلاف بَدْوي بين نظريات الفلاسفة وعلماء القانون حول مفهوم الحق. والسؤال هنا: هل يمكن إيجاد جامع لمفهوم الحق وتشكيل رؤية واحدة على صعيد علم القانون بالرغم من التعدّد المعهود في كلمات القانونيين والفلاسفة؟. هذا ما سنتعرض له في العنوان القادم.

قاسم مشترك

ظهر من النقل أعلاه أن القانونيين اختلفوا في تقرير مفهوم الحق كما هو شأن الفقهاء، ومع ذلك يمكن الخروج بجامع لأقوالهم، فالاختلاف بينهم واضح وبيِّن ولا يمكن ادِّعاء خلاف ذلك، لكن عند التدقيق يمكن تكوين رؤية واضحة تُشكِّل جامعًا لتقريراتهم بحيث تزاح بعض التفاصيل والجزئيات التي ربما تكون هي السبب في تباعد التقريرات.

وقبل كل شيء ينبغي التنبيه إلى أن التدقيق في تقرير مفهوم الحق في المجال القانوني -كما كان الشأن في الفقهي- ليس عملًا ترفيًّا أو استعراضًا علميًّا، بل لما يترتب عليه من تطبيقات عملية؛ إذ إن كل تقرير يستتبع مميزات من نوع خاص، كما هو ملاحَظ لكل من تأمَّل في التعريفات المذكورة.

وعليه فالذي يبدو بعد تتبُّع التعريفات تلك، أن الخُلوص إلى تقرير وتعريف دِقِّي لمفهوم الحق من الصعوبة بمكان؛ إذ إن كل تعريف يُقتَرَح يمكن أن يُعترَض عليه بعدم شموله لبعض الأفراد الداخلة ضرورةً ضمن مفهوم الحق، أو بشموله لأفراد أخرى ليست داخلة في حريم هذا المفهوم ولا هي من مُقوِّماته، أي لا هو جامع للأفراد ولا مانع للأغيار، ويمكن ملاحظة ذلك جليًّا فيما استعرضناه من تعريفات في قسم النظرية التقليدية، فإن اقتران الحق بالإرادة يُخرِج عديم الإرادة كالصبي مع التسليم بأنه صاحب حق، كما أنه يُدخِل الولي القائم على الصبي ويُنزِّله منزلة صاحب الحق مع التسليم أيضًا بأنه ليس صاحب حق، وهكذا.

لذلك فالقول بصعوبة تقرير تعريف جامع لجميع الأفراد ومانع لجميع الأغيار لا مجازفة فيه، الأمر نفسه الذي يُواجِه المختص في كثير من الحقول العلمية، بل في البحث المفاهيمي غالبًا، ويمكن الوقوع على ذلك في تعريف الأصوليين لعلم الأصول، والفقهاء للقواعد الفقهية، والفلاسفة للفلسفة، بل حتى في جزئيات وفروع هذه العلوم وغيرها.

والأقرب للذوق أن مفهوم الحق مطّاط، يمتدّ من جهة وينكمش من أخرى، فهو في حقيقته امتيازات يتمتع بها الأفراد كما جاء في الكلام السابق للدكتور الحاج، وتأتي هذه الامتيازات من القانون وتُحمى بطريقة قانونية بحسب ما جاء في كلام مضى للبلجيكي دابان. لكن هذه الامتيازات ليس من الضرورة أن تكون من قبيل التسلُّط أو التملُّك، فقد تكون كذلك كما قال به دابان، وقد تكون بمعنى أحدهما دون الآخر، أو بمعنى ثالث دونهما كالأولوية، أو بمعنى حرية التصرّف فقط، أو غير ذلك، من غير أن يكون هناك استبعاد لشمول مفهوم الحق لدلالات أخرى غير ما ذُكِر، مع إمكانية وجود أثر للعرف الزماني والمكاني أيضًا. وهي النتيجة نفسها تقريبًا التي وصلنا إليها في البحث الفقهي، لهذا لا يوجد تمايز حقيقي يعتدُّ به بين الأفق الفقهي والقانوني في تعريف مفهوم الحق.

فتلخّص بأن الحق فقهيًّا وقانونيًّا عبارة عن امتياز خاص يمنحه القانون الشرعي أو الإنساني، سواء قلنا بأنه اعتبار خاص مغاير للملكية والسلطنة وأنهما مجرد آثار له كما قال بذلك الآخوند الخراساني بحسب ما أسلفنا، أو قلنا بأنه بعينه يكون في موارد بمعنى الملكية وفي موارد أخرى بمعنى السلطنة وهكذا، وهذا الامتياز يحميه القانون بكلا قسميه الشرعي والإنساني.

 

 

 



[1] أبو القاسم الخوئي، مصباح الفقاهة، بيروت: دار الهادي، الطبعة الأولى 1992م، ج2 ص330 - 344.

[2] السيد كاظم الحائري، فقه العقود، قم: مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة الثالثة 1428هـ، ج1 ص125.

[3] أبو الحسين أحمد بن فارس زكريا، معجم مقاييس اللغة، مكتبة الإعلام الإسلامي 1414هـ، ج2 ص15.

[4] العلامة المصطفوي، نقلًا عن التحقيق في كلمات القرآن الكريم، طهران: مركز نشر آثار العلامة المصطفوي، الطبعة الأولى 1385هـ.ش، ج2 ص305.

[5] القصص، آية 63.

[6] الزمر، آية 71.

[7] يس، آية 7.

[8] ابن منظور، لسان العرب، ، قم: نشر أدب الحوزة، محرم 1405هـج10 ص49.

[9] الشيخ محمد حسين الأصفهاني، حاشية كتاب المكاسب، الناشر: ذوي القربى، الطبعة الثانية 1427هـ، ج1 ص38.

[10] معجم مقاييس اللغة، مصدر سابق، ج3 ص314.

[11] السيد علي نقي الحيدري، أصول الاستنباط، الكاظمية: مكتبة الإمام الصادق (عليه السلام) ، ص50.

[12] معجم مقاييس اللغة، مصدر سابق، ج3 ص462.

[13] المصدر نفسه، ج3 ص190.

[14] المصدر نفسه ص191.

[15] الإسراء، آية 81.

[16] البقرة، آية 42.

[17] الأنفال، آية 8.

[18] الحج، آية 62.

[19] الحج، آية 62.

[20] حاشية كتاب المكاسب، مصدر سابق، ج1 ص38.

[21] يونس، آية 108.

[22] فاطر، آية 24.

[23] البقرة، آية 176.

[24] النحل، آية 3.

[25] يونس، آية 32.

[26] الأعراف، آية 118.

[27] المفردات في غريب القرآن، مصدر سابق، ص300.

[28] السيد محمد المروِّج، هدى الطالب إلى شرح المكاسب، قم: طليعة النور، الطبعة الأولى 1428هـ، ج1 ص130.

[29] حاشية كتاب المكاسب، مصدر سابق، ج1 ص41.

[30] فقه العقود، مصدر سابق، ج1 ص112.

[31] الشيخ موسى النجفي، منية الطالب في شرح المكاسب، تقريرًا لأبحاث المحقق محمد حسين النائيني، قم: مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، الطبعة الثانية 1424هـ، ج1 ص106.

[32] ويقصَد بالفعليّة ما يقابل الشأنية، فالصبي والسفيه سلطتهما على أملاكهما شأنية، فهما وإن كانا مالكين لكن لا قدرة لهما فعلًا على التصرف في تلك الأملاك بسبب الحجر، بينما الفعلية تتضمّن القدرة على التصرف الفعلي. انظ: السيد محمد المروِّج،  هدى الطالب إلى شرح المكاسب، ج1 ص98.

[33] يقصُد حق الخيار والشفعة.

[34] الشيخ مرتضى الأنصاري، كتاب المكاسب، قم: مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة الثامنة 1427هـ، ج3 ص8.

[35] السيد محمد كاظم اليزدي، حاشية كتاب المكاسب، تحقيق الشيخ عباس آل سباع، دار المصطفى لإحياء التراث، الطبعة الأولى 1423هـ، ج1 ص280.

[36] المصدر نفسه.

[37] حاشية كتاب المكاسب، مصدر سابق، ج1 ص288.

[38] هدى الطالب إلى شرح المكاسب، مصدر سابق، ج1 ص132.

[39] منية الطالب في شرح المكاسب، مصدر سابق، ج1 ص107.

[40] هدى الطالب إلى شرح المكاسب، ج1 ص131.

[41] الإسراء، آية 33.

[42] حاشية كتاب المكاسب، مصدر سابق، ج1 ص44.

[43] انظر: الإمام الخميني، كتاب البيع، ج1 ص22. نقلًا عن فقه العقود، مصدر سابق، ج1 ص118.

[44] آية الله كرامي - حوار، الفقه والقانون مقاربات في خطابي الحق والواجب، بيروت: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، ج1 ص100.

[45] الآخوند الخراساني، حاشية المكاسب، وزارة الإرشاد الإسلامي، الطبعة الأولى 1406هـ، ص4.

[46] المصدر نفسه.

[47] للوقوف على المزيد من التفاصيل يمكن مراجعة: السيد محمد المروِّج، هدى الطالب إلى شرح المكاسب، مصدر سابق، ج1 ص130-139. والسيد كاظم الحائري، فقه العقود، مصدر سابق، ج1 ص111-123. وحواشي المكاسب المشار إليها في حواشي هذا الكتاب.

[48] الدكتور ساسي سالم الحاج، المفاهيم القانونية لحقوق الإنسان عبر الزمان والمكان، بيروت: دار الكتاب الجديدة المتحدة، الطبعة الثالثة 2004م، ص18.

[49] المصدر نفسه، 16.

[50] http://membres.multimania.fr/lyceemarocain/phylo/al7a9.htm#introd

[51] http://www.blog.saeeed.com/2011/04/concept-droit-vie-droit-positif-les-theories-traditionnelle-moderne/

[52] أحمد فيغو، المدخل إلى العلوم القانونية، ص235. انظر المصدر السابق.

[53] http://www.blog.saeeed.com/2011/04/concept-droit-vie-droit-positif-les-theories-traditionnelle-moderne/

[54] محمد إبراهيم الدسوقي، النظرية العامة للقانون والحق في القانون الليبي، 223. انظر المصدر السابق.

[55] http://www.blog.saeeed.com/2011/04/concept-droit-vie-droit-positif-les-theories-traditionnelle-moderne/

[56] د. رمضان أبو السعود، النظرية العامة للحق، ص17. انظر المصدر السابق.

[57] http://www.blog.saeeed.com/2011/04/concept-droit-vie-droit-positif-les-theories-traditionnelle-moderne/

[58] النظرية العامة للقانون والحق في القانون الليبي، مصدر سابق، ص225.

[59] حسن كيرة، المدخل إلى القانون، ص423.

[60] النظرية العامة للحق، مصدر سابق، ص240.

[61] http://www.blog.saeeed.com/2011/04/concept-droit-vie-droit-positif-les-theories-traditionnelle-moderne/

[62] انظر: الدكتور توفيق السيف، رجل السياسة دليل في الحكم الرشيد، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى 2011م، ص189- 190.

[63] فضاء الفلسفة، الشبكة العنكبوتية.

[64] http://www.lyceee.com/doros/Philosophie/droit-3adala.pdf

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة