تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الكتابات الاستعجالية في العلوم الاجتماعية ..

نوي الجمعي

الكتابات الاستعجالية في العلوم الاجتماعية..

رؤية نقدية في بعض الكتابات السوسيولوجية حول الربيع العربي

الدكتور نوي الجمعي*

 

* أستاذ محاضر وباحث بقسم علم الاجتماع، جامعة محمد لمين دباغين (سطيف 2)، الجزائر.

 

 

 

 

مقدمة

التفكير في الكتابة كممارسة والكتابة حول الكتابة، شكّلت على الدوام مشروعًا فكريًّا لا متناهي، طالما أنّ الكتابة هي تجلٍّ لرغبة القول وهاجس وارتباك لدى الباحثين والمفكرين، تجسّدها أسئلة لا متناهية: لماذا نكتب؟ ماذا نكتب؟ كيف نكتب؟ هل الكتابة لغة وأسلوب أم هي كتابة في وَحوْل الأفكار؟ في التخصّص فقط وبلُغة التخصّص أم أن الكتابة في علوم المجتمع والإنسان هي كتابة هجينة، تستحضر كل الأساليب وتسخّر اللغة، لتخرج نصًّا غنيًّا واضحًا أو معقدًا، نصًّا يمكن أن ينتج نصًّا آخر يُثير لذة ومتعة القراءة لدى المتلقي؟

هذه التساؤلات أرّقت الفلاسفة والأدباء والنقاد وكل المشتغلين في حقل علوم المجتمع والإنسان، إذ يكفي العودة إلى نظريات الكتابة للوقوف على تعدّد وتنوّع التمثُّلات إزاء الكتابة من قبل المبدع، المؤلف والكاتب، أو القارئ العارف والعادي. ففي مجالات كثيرة، سعى الباحثون والمفكرون كلٌّ حسب تخصّصه إلى إبراز ملامحها، شروطها وإبستمولوجيتها، وإلى كشف وتشخيص العلائق القائمة والقطائع المستجدة التي تفرضها السياقات التي تمارس فيها الكتابة.

الكتابة لا تتمَّ في المطلق، ولم تكن وفق تطوّر تاريخي خطِّي و متجانس، أفضت إلى مد الكتابة بخاصية مشتركة لدى كل ممارسيها، بل هنالك استراتيجيات في الكتابة، تحتكم لمنطق العلاقة بين الذاتية والموضوعية، بين المنتج للنص والمتلقي، بين الخيال والواقع مجال إنتاج هذا النص، بغض النظر عن التخصّص ومجال الكتابة.

بالعودة لتاريخ العلوم عمومًا والعلوم الاجتماعية والإنسانية على وجه التحديد، تستشف حقيقة تكاد تكون مطلقة، إذا كانت كل المجتمعات لها لغتها، فهي إذن مارست الكتابة، عبر أشكال مختلفة، النحت عبر الرموز، الحركة، الصوت... إلخ. وهو ما يجعل من الكتابة وبالشكل الذي تتبدى عليه راهنًا، أنها كباقي الظواهر تطوّرت تاريخيًّا في علاقة بالسياق، مثلما ما تبيّنه مختلف التمثُّلات لممارسيها.

علوم المجتمع والإنسان وديمومة السؤال الإبستمولوجي

إن السؤال الإبستمولوجي حول الكتابة لم يكن سؤالًا في المفرد، بل هو سؤال في الجمع، أي لم يكن حكرًا على تخصّص بعينه، بل هو سؤال فلسفي ولساني وأنثروبولوجي وإثنوغرافي وأدبي وسوسيولوجي، ففي المحصلة هو سؤال في تاريخ العلوم ومن ثمة هو سؤال في تاريخ الكتابة وتجلياتها.

ولعل من أهم الأعمال التي حاولت تتبع الكتابة كممارسة، كفكر وكأسلوب، هي الهرمنيطيقا؛ حيث يكفي الاطلاع على مؤلف جاك دريدا «الكتابة والاختلاف» والذي له أكثر من دلالة، وتكمن قوته في تعرّضه بالنقد والتحليل للكثير من الأعمال الفكرية والفلسفية، مثلما توضحها طيّات هذا المؤلف، أثبت خلالها أن الكتابة ليست واحدة بل هي اختلاف، حتى وإن كانت في حقل معرفي واحد[1].

فكل كتابة هي على حدِّ قول دريدا: «خلق للمعنى تنحته في صور، على شكل أخدود وديناميات تطفو للسطح، وهي متنقلة إلى ما لا نهاية، سواء أردنا ذلك أما لا». الكتابة حسبه «تخوننا من خلال معانيها، فيجب أن نحذر منها وألَّا ننساق وراء المعاني التي خانتنا ذات مرة»[2].

ففي الحوارية بين معنى الكتابة عند فوكو وريكور ودريدا، وبالرغم من كونهم نهلوا من الموروث الفكري نفسه، الفلسفي والأدبي، وعايشوا السياق التاريخي نفسه، فالكتابة في الشكل وفي الأسلوب والاستراتيجية، لا تتمثّل لديهم بالصورة نفسها ولا تحملها المشاريع الفكرية نفسها.

بول ريكور (Ricoeur Paul) في مؤلّفه حول سيغموند فرويد، موْضع تفكيره الفلسفي في اللغة قائلًا: «اللغة هي دائمًا وفي الغالب مشوّهة، تقول شيئًا آخر غير الذي تقوله، تحوي معنى مزدوجًا، فهو من الواضح أن الحلم يندرج ضمن اللغة التي تبدو كمنطقة للمعنى، معقدة أو لها معنى آخر، وفي ذات الوقت تمنح وتختفي في معنى فوري آني: تسمى بمنطقة الرموز المزدوجة»[3].

من هذا المنطلق ومن دون الخوض مع الفلسفة التأويلية ومن خلالها الحوار حول الكتابة كفكر وممارسة، يقول راهنًا الموضوع يجب أن يمفصل العلاقة بين الأنا المتأتية من سؤال ديكارت، السؤال الذي يحيل في سياق الكتابة، التركيز على الحكاية (le récit) وعلى المجازية مثلما يبرزه مؤلفه Métaphore vive الصادر عام 1975.

ثم يتجاوزه إلى مرحلة أخرى طارحًا في خضمّها إشكالية فلسفة الزمن، التي تستعمل كاستراتيجية بشكل واسع، وهي تبحث علاقة الزمن بالحكاية (Temps et récit)(1983). تطرقت لما أسماه بالحبكة (mise en intrigue) وهو الشكل الذي يتبدّى في كل أنواع الكتابات حسبه، في الحبكة وفي رواية الأحداث، في التاريخ أو في الرواية الخيالية، وفي التداول البحثي وإعادة تشكيله، وكذا في الانطلاق من الماضي الحقيقي واللعب على الحدود بين الحقيقة والخيال[4].

إن الموازاة بين هذه الأفكار الثلاثة، هو لطرح التساؤل حول موضوعية الكتابة، هل هي كذلك في العلوم الاجتماعية كما صوّرها دريدا، حيث تخضع لإبستمولوجية السؤال الفلسفي؟ أو بالأحرى وطالما أنه ينطلق من كون أن الكتابة هي اختلاف، فهو يراها كذاك إلَّا في المشاريع الفكرية الفلسفية ومع أقرانه؟ وهل تنطبق على كل مجالات العلوم وبالخصوص على علوم الإنسان والمجتمع.

الإجابة يستشفها كل متتبع، لهذه المقولات المقتضبة والمفاهيم التي صاغها بول ريكور، حيال الحكاية التي لا يعتبرها تجلّيًا لذاتها، ولا تعنى فقط سردًا لأحداث عاشها أُناس أو شخصيات بقدر ما هو تأويل للمعنى وتفسير، وحاجة المؤلف أو الكاتب لتوضيح مواقفه من خلال الكتابة.

إذا كان بول ريكور يري فيها، ضرورة التوقّف عند المجاز والسياق الذي تمّت في خضمه، ففوكو وكما كتب عنه جاك دريدا في قراءة ونقد مؤلفه: (Histoire de la folie à l’âge classique) الصادر عام 1961، يرى أنّ ميشال فوكو حينما «أراد صناعة تاريخ الجنون وفي حيوية، قبل أن تلتقطها المعرفة كموضوع ومفهوم قائم بذاته ولذاته، أفضت إلى أن كتابة هذا الأخير يعتريها غياب النظام، وتكرّس اضطراب مهدد، ليتحول إلى ما أطلق عليه «les mots sans langage» كلمات دون لغة، وغابت الذات المتكلّمة، لتتحول إلى تمتمة من الخطاب يتحدث لوحده، فتهاوى قبل أن يتم تشكله، وبات بريقه بارزًا في الصمت الذي يعبر عنه»[5].

عند تأويل هذا التفكيك لنصّ فوكو من قبل دريدا، يتبدّى أن الإشكالية التي اهتمَّ بها عالم اللسانيات فرديناند ديسوسير (Ferdinand de Saussure)، هي ذات مصداقية علمية حول الكتابة بغض النظر عن الانتقاد الذي وُجِّه لميشال فوكو من قبل دريدا، وهو أن العلاقة بين «الدال والمدلول» يجب أن تفك رموزها، حتى لا تبقى رهن التفسير الاعتباطي، كون الحقيقة الواحدة يمكن أن تسوق في كلمات مختلفة وفي لغات متعددة»[6].

وهو ما ينطبق على الموضوع الذي نريد إسقاط إشكالية الكتابة عليه، العالم العربي، وما عرفه من هزات (soulèvement) وثورات (Révolutions) وتمرُّدات (rebellions)، أم هي انتفاضات (émeutes)، الربيع العربي (le printemps arabe)، أم ربيع الشعوب (le printemps des peuples) المقولة التاريخية التي تبنَّاها علماء الاجتماع وعلماء السياسية في ترسانتهم المفاهيمية.

هذه الحقيقة التي لا تكشف عن خباياها، وتعيشها مجتمعات إقليميًّا وثقافيًّا، وتاريخيًّا، وأنثروبولوجيًّا متجاورة حتى لا نقول متشابهة، والتي لم تُفصح عن خباياها وتجليتها، بعبارة أخرى: هل هذه المفاهيم - النعوت، تنطبق جزافًا على ما تعيشه، وهل الدال، الربيع العربي، هو ذاته المدلول، التطابق في الأهداف والغايات، الآليات والخطاب والتجليات؟ بمعنى هل الإفرازات هي ذاتها؟ ولماذا تختلف المفاهيم؟

فمن الباحثين من يدافع على أن هذه الحقائق السياسية - الاجتماعية هي ثورات، والبعض الآخر يصرّ على أنها ربيع عربي في مقابل ربيع الشعوب، كونها من المحيط إلى الخليج، حاولت الضغط على حكوماتها، مُطيحة بالبعض منها، ومنتجة لشعارات تكرّس في فضاء عمومي، تمّ احتلاله عُنوة من قبل قوى جديدة، تختلف أيديولوجيًّا وتتماثل سياسيًّا.

تجعل لا محالة من السؤال الإبستمولوجي في الكتابة حيال هذا الموضوع، يصبح سؤالًا أنطولوجيًّا بالنسبة للعلوم الاجتماعية، كون أن قوة كل تخصص ومشروعيته العلمية، باتت تستمد من اهتمامه بالكتابة كاستراتيجية، وفي بحث علاقة الدال بالمدلول، وهو ما يفسر عبر تاريخ العلوم بقاء كتابات خالدة، وأخرى تموت عند صدور النص.

مما سبق، وعلى العموم يمكن القول: إن دريدا يحيا الكتابة في الحرف والصورة، أي تُفكك ليعاد بناؤها. أما فوكو فيعيشها على مستوى الجملة والعلاقة التي يتم تشكيلها من خلال البحث فيما بينها، والتي تتجلى فيما أطلق عليه بالحفريات، في حين بول ريكور تعاطى معها من خلال منطوق الحكاية المحتوى في الزمن، أي إن الكتابة هي تلك الكلمات التي يعيد إحياءها من خلال التفسير (l’exégèse).

الكتابة في علوم الإنسان والمجتمع:
الهاجس الإبستمولوجي والإثبات العلمي

كل العلوم، علوم الإنسان والمجتمع، أدرجت في طياتها الإشكاليات المرتبطة بالكتابة، وتبدّت في التفكير الإبستمولوجي والمعرفي والمنهجي والإجرائي.

في التاريخ ظلت الكثير من الكتابات تبحث في الرواية الحقيقية أو ما يسمى بالحبكة التاريخية، وكيفية التخلّص من الكتابة البلاغية، التي هي كتابة أدبية. وفي علم الاجتماع هنالك رؤيتان: الأولى جسّدت في خضم هاجس إبستمولوجي محض، يكمن في كيفية إثبات الطابع العلمي له، وهي المسألة التي تبنّاها دوركايم، حيث حاول تقديم نصوص وكتابات تحمل في طياتها قوانين وحقائق اجتماعية، لا تهتم بالكتابة بقدر ما تهتم بالتخلّص من السرد والبلاغة، هذا التصوّر للنص السوسيولوجي، أدَّى ببعض النقّاد لنعت علم الاجتماع بكونه علم دون كتابة[7].

في حين أشار ماكس فيبر إلى هذا الخلط معبّرًا عنه على النحو الآتي: «العلم الذي يختار الجانب الجمالي في العرض غايته التأثير على سيكولوجية القارئ»[8].

ضمن هذا المنظور، بقيت الكتابة في علم الاجتماع الكلاسيكي تبحث عن تموضع إبستمولوجي يُهيكل منطق المعرفة وكيفية عرضها، طالما أن علميتها على المحك.

في حين الرؤية الثانية التي تجسّدت تحت ما أُطلق عليه بأزمة العلوم الاجتماعية، وقد حملها الكثير من العلماء أهمهم على الإطلاق بيير بورديو (Pierre Bourdieu)، حينما اتّهم بأنه لا يستعمل لغة بسيطة، فكتب موضّحًا: «الحقيقة ليست فقط معقّدة، بل هي في تراتبية، يجب إعطاء فكرة حول هذه البنية: إذا ما أردنا فهم العالم في تعقيداته... يجب الاستعانة بجُمل ثقيلة ومفصلة، والتي يجب بناؤها كما تبني الجمل اللاتينية... أعتقد أنه لمن الخطورة التخلّي عن استراتيجية الصرامة في انتقاء المفردات التقنية لفائدة الأسلوب الواضح والسهل»[9].

ضمن هذه الفكرة بورديو تخوّف من تراجع الحسّ الهرمنيطيقي، وفقدان التخصّص لهويته كتخصّص والقيمة المعرفية له. إن هذا الموقف مردّه أنّ بورديو كمثقف اهتم بالأنثروبولوجيا حينما درس القرية القبائلية في الجزائر، كتخصّص قاده لعلم الاجتماع والفلسفة، ليبني مشروعه الفكري في نقده للحداثة الغربية.

أما غريغوري باتسون (Gregory Bateson)، فيعتقد في فضل الأدب، الذي يعدّ أحد الأشكال الضرورية لكل كتابة علمية، طارحًا السؤال التالي: ماذا تعني الكتابة، إذا لم تكن فن إخراج نص، وإقامة ذلك التصالح بين الأدب والكتابة في العلوم الاجتماعية، كون أنه وفي كل كتابة، هي في الوقت ذاته جانب أخلاقي، وجمالي وعلمي[10].

هذه الرؤية حاولت تجاوز فكرة العلموية التي يسعي بعض الباحثين في علوم المجتمع وعلوم الإنسان من خلال التحديد القبلي للمفهوم، وتبني الدليل المنهجي والاختيار للآليات والأدوات البحثية، تغليب فكرة أن العمل الإمبريقي وحده الكفيل في الحفاظ على علمية العلوم الاجتماعية والإنسانية، وأن كل الكتابات الكيفية، التي تستعمل السرد، وتغلّب الأسلوب في عرض الحقائق، وتراعي جمالية النص فإنها تفقد العلوم الاجتماعية علميتها وإبستمولوجيتها، وهي كتابات براغماتية مثقلة بالأيديولوجية.

هذا الاختلاف الإبستمولوجي المنهجي الإجرائي تعرفه الأنثروبولوجيا أيضًا، مثلما يوضّحه الأنثروبولوجي الأمريكي غليفورد غيرتز في نقده لقرينه غيلنر.

فبالرغم من كونهما قد عملا في المجال الجغرافي البحثي نفسه، أي في المغرب الأقصى وحول الثقافة ذاتها، والبني الاجتماعية نفسها (القبيلة، العرش، علاقات القرابة) إلَّا أنهما اختلفا حول أسلوب تقديم وكتابة النص الأنثروبولوجي؛ إذ يصرّح: «يجب أن نفرّق بين المؤلف والكاتب، الأول يخلق موضوعات، في حين الثاني يكتب في الموضوع، معتبرًا غيلنر مؤلفًا وليس كاتبًا، فنصّه يقوم على السرد والتأويل، وهي كتابة أنثروبولوجية أدبية، خيالية تصنع النص من خلال التأويل لما يصرّح به السكان الأصليين (les indigènes)»[11].

هذا التوصيف لحالة الكتابة في الأنثروبولوجيا، والتي تطرح قضية الذاتية والموضوعية، فإنها بالنسبة للباحث عدي الهواري تنمّ على المنطلق الفكري والانتماء لطبيعة السؤال الأبستمولوجي، نقد غيرتز لغيلنر مردّه أن غيرتز متأثر بالمدرسة الأنثروبولوجية الإنجليزية، التي نهلت من المدرسة الفرنسية البنيوية (كلود ليفي ستروس وإميل دوركايم)، وهي لا تُولي التأويل أهمية، لكن غيلنر، هو ذو تكوين فلسفي، عايش الفيلسوف الألماني هاسرل، وكتاباته إلى جانب أنها تعتمد الإمبريقية كمرجع، فإنها تستعين بالسرد للأحداث، والتأويل لتصريحات المبحوثين، حول الدين، القرابة، التعايش، وحول لماذا الانقسامية هي استراتيجية في المجتمع المغربي، ووسيلة للاحتماء من الدولة الكولونيالية، والإفلات من هيمنة دولة الاستقلال التسلطية[12].

وضمن المنظور نفسه أطلق فانسون دي بوا (Vincent du bois) مفهومًا جديدًا في مجال الكتابة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، ألا وهو «شرطة اللغة السوسيولوجية» التي تهتم بمراقبة الكلمات، والتحكم في وظيفية البعض منها، سواء لمحاولة إبراز عدم علميتها، ونعتها أنها تُبنى على الحس العام، كما أن هذه الشرطة اللغوية، تحرس على الاستعمال الجيّد للكلمات، واحترام التعريف الجيّد للمفهوم[13].

ضمن هذه الأدوار الرقابية يعتقد أنه لمن الوهم أن يضع الباحث يده على اللغة التي تحدّد العلاقة بين الكلمات والأشياء أو الظواهر، وهو ما يسجل حسّه في التاريخ، وفي النظرية السوسيولوجية، التي هي دومًا غير قارة ويُعاد دومًا التفكير فيها من جديد؛ لأن المفاهيم التي تشتغل بموجبها هي تاريخيًّا متغيّرة.

مثلما تمّت الإشارة إليه، فالكتابة حول الكتابة هي بمثابة ذلك النص الذي ينتج نصًّا آخر، من خلال نقده، مراجعة مفاهيمه، قبول أفكاره، دحضها أو تأويلها، وهو ما يجعل من البحث في علمية العلوم الاجتماعية، وربطها وفق تصوّر وضعاني صرف، هو مشروع للوهم، طالما أنها كتابات، صحيح تؤسس للمعارف لكنها تبقى رهينة إضفاء العلموية على منتجها.

أدب الاستعجال مصدر عدوى
الكتابات الاستعجالية في علوم المجتمع والإنسان

الكتابة على عجل، أو الكتابة في الطارئ وحول اللامُتوقع، لا ترتبط فحسب بالربيع العربي بل هي ظاهرة عاشتها الكتابة في الجزائر وفي بعض بلدان أمريكا اللاتينية، خلال فترة التسعينات والعشرينات من القرن الماضي، شملت الأدب بالأساس وفي شتّى أشكاله وأنواعه، في الرواية والقصة والشعر، كما طالت مجال الفن والإبداع كالمسرح والسينما.

حيث شهدت الساحة الأدبية والفكرية بروز الكثير من الأقلام الجديدة، في حين الأدباء المعروفين من قبل، غيّروا من أسلوب كتاباتهم والموضوعات التي ظلَّت تميّز أدبهم وتصنّفه، مُكيّفين فكرهم وكتاباتهم مع السياق.

هذا التحوّل في الكتابة ارتبط بسياقات، وبالتحوّلات الكبرى للمجتمعات وما أفرزته في مجتمعات كان يميّزها الركود السياسي والثقافي والاجتماعي، إلى أمل ولوج الديمقراطية والحريات، والمواطنة، والشعور بالانتماء، ورفاه اجتماعي وثقافي. بعبارة أخرى: هي حالة تفاؤلية تنمّ عن الحلم بعالم سعيد (enchantement du monde)، لكن بدت هنالك رؤى تشاؤمية جرّاء العنف وخيبة الأمل، أي بات كل من الفرد العادي والعارف يعيش خرقًا لأفق التوقعات، أو مثلما يشبّه ذلك مارسال قوشيي (un monde désenchanté): عالم حيث يناضل الأفراد فيه للخروج من بؤس العالم، الفقر والمعاناة ومن الأزمة المجهولة المآلات، أدّت إلى غزارة غير مسبوقة في الإنتاج الأدبي على وجه الخصوص للتعبير عن معاناته[14].

ولمّا كان النقد الأدبي من مهامّه نقد الإبداعات الأدبية، ورصد خصائصها من حيث الأسلوب، اللغة، الجمالية والسيميائية، الرمزية، تداخل الواقع مع الخيال وبين هذا الأخير والمتخيل، فقد تبدّت هذه الكتابات تفلت إلى النعوت والتصنيفات التي ظلّت تهيمن في النقد الأدبي من حيث أشكال الإنتاج الأدبي، واهتدت إلى مفهوم جديد عرف بـ«الأدب الاستعجالي».

لكن هذه التسمية لم يتقبّلها الكثير من الأدباء كما هي، بل برزت العديد من المفاهيم تسعى لتوصيف وتفسير هذه الظاهرة، عرفت بكتابات الموقف والالتزام، النضالية، بكتابات الوصايا، كما بدت كتابات لجرد وإحصاء مشكلات متعدّدة: الهوية، الذاكرة والراهن، حقوق الإنسان، الرفض والتمرّد، التابوهات، المقدس، التعصب الديني، الغيرية، الإحباط، المرأة، السياسي... إلخ.

والملاحظ أن الأدب الاستعجالي، تقاطع فيه الأدب المكتوب باللغة العربية أو باللغة الفرنسية، في الموضوعات وفي الأسلوب كما وضّحه الناقد الجزائري رشيد مختاري الذي يعتبره جاء ليعبر عن تحوّل من أدب كلاسيكي عبر عن معاناة المجتمع من الهيمنة الكولونيالية والجرح الأنثروبولوجي الذي خلّفته، إلى خيبة الأمل في الراهن[15].

وهو ما تبرزه بعض الأعمال الأدبية التي استعملتها هذه الورقة للاستدلال بها. رواية «اليوم غدٌ جديد» للروائي عبد الحميد بن هدوقة، الصادرة عام 1992، والتي عبّر فيها عن خيبة أمل كبيرة في وضع المجتمع الجزائري كما توضّحها هذه المقاطع: «الأشقياء الذين غرّتهم الأحلام والخطب الخضراء في سنوات الجفاف». و«ثورة الأطفال الذين وُلدوا على الرغم من آبائهم، وليس بالإمكان أن يسكنوا إلى الأبد في الأكواخ القصديرية التي بنتها لهم قصور الاستقلال»، إلى إلقاء مسؤولية المأساة الجزائرية على «الذين أبلغتهم بنادقهم ذرى المجد»[16].

أما الروائي الطاهر وطار، فمن خلال روايته «الشمع والدهاليز» الصادرة عام 1995 توضّح في مجمل طياتها على نوع التناقض القائم وفق حبكة أدبية راقية فنيًّا، الشمع الذي يعبّر عن النور والدهاليز التي تحمل دلالة الظلمة ويكفي لبعض المفردات والصور التي حملتها الرواية الوقوف أيضًا على تعدّد الدهاليز في صيغة الجمع، أي كثرة الأزمات والمطبّات والظلمة التي عرفها المجتمع الجزائري، ومعاناة المثقف الأستاذ الجامعي الشاعر الذي حاولت الجماعات الإسلامية استقطابه ولمّا رفض، اغتيل. ويكفي استعمال كلمة حزب فرنسا فهو يحمل مسؤولية المأساة الوطنية إلى المتآمرين على الجزائر من داخل السلطة[17].

في حين رواية «سيدة المقام» لواسيني الأعرج الصادرة عام 1997 بدار الجمل بألمانيا، فتندرج ضمن السياق نفسه، فعبارة «حُرّاس النوايا» تقابلها عبارة «بني كلبون»، تجسّد الصراع بين الإسلاميين والسلطة، حيث يقف مخلوف عامر على ذلك «يعدهم ورثة بني كلبون أولئك الذين حكموا البلاد والعباد ردحًا من الزمن باسم الثورة والشرعية التاريخية، لكنهم في الواقع العملي تنكّروا للشهداء وعاثوا في البلاد فسادًا فعبّدوا بذلك الطريق لحُرّاس النوايا ليأخذوها لقمة جاهزة»[18].

أما في الأعمال الصادرة باللغة الفرنسية فهي تتقاطع مع موضوعات الأعمال الصادرة باللغة العربية، ونخصّ بالذكر محمد ديب، ففي آخر رواية له «إذا رغب الشيطان» جسّدت la contiguïté نوعاً من المجاورة والموازاة بين مأساة الإرهاب والمأساة الكولونيالية، وكأنّ المجتمع الجزائري، يعيش حتميات تاريخية، إفرازات الأزمة تتولد في شكل دوري (cyclique)[19].

فالانتقال من المؤلف الروائي لأجل الشعب إلى مؤلف يكتب حول الشعب، ويفسر الناقد الفرنسي شارل بون أن هذه الكتابات لاقت رواجًا لدى دور نشر، بسبب التعطّش لمعرفة الحقيقة من قبل القارئ الأوروبي وفي الوقت ذاته سمحت بدحض بعض أفكاره وأحكامه الناجزة حول المجتمعات العربية الإسلامية[20].

اللامتوقع والمستعجل وأزمة الكتابة في العلوم الاجتماعية

الكتابة في العلوم الاجتماعية والإنسانية، بالرغم من تقاطعها مع الكتابات الأدبية في الموضوع وتصوير هموم الأزمة اللامتناهية، أزمة هيكلية من منظور سوسيولوجي لم تتوقّف إفرازاتها تاريخيًّا وتستمد تفسيراتها من الأنثروبولوجيا (الدين والهوية، الطائفية السياسية، العنف، الإسلام السياسي، المرأة، الثقافة، الطقوس والعادات).

بلغة النقد في سوسيولوجيا الأدب، إنها تستعمل المرجعيات نفسها وتعيد إحياءها أو تجديدها. كما أنها تتقاطع من حيث السياقات الزمنية والمكانية، تحيي الذاكرة، تغرق في التاريخ، لكن يبقى الفرق بين الأدب والعلوم الاجتماعية أن الأول لا يحمل هاجس إثبات علميته، بل جمالية نصه، في حين أن الثانية تسعي دومًا إلى التمايز عن الأدب من خلال اتِّباع النموذج الإبستمولوجي للوضعانية، الذي ميّز تاريخها وأثر فيه. وهو ما جعلها لا تهتم بالكتابة من حيث الأسلوب بقدر ما تهتم بالمادة المقدمة.

من هذا الحرص برز هاجس إثبات علميتها، كون الكتابة في العلوم الاجتماعية والإنسانية ليس غايتها توزيع المعارف فحسب، بل أيضًا التفكير في معارفها من الداخل، أي تفكر في كينونة كتاباتها، لتجعل من معارفها معارف موضوعية، تبحث في التخلُّص من ذاتية منتج هذه العلوم.

هل هذا ممكن؟ أكيد ستكون الإجابة بلا، كون تأثير المجتمع، والثقافة، والسياسة والإيديولوجية، عوامل تؤثر في النص والإنتاج في هذه العلوم، ويمكن رصد أمثلة كثيرة في التخصّصات المختلفة.

ولعل ما يؤكّد ما سبق، هو ذلك التصنيف الذي صاغه عالم الاجتماع الفرنسي ريمون آرون (Raymond Aron)، حينما تطرّق لأنواع المثقف في العلوم الاجتماعية، قائلًا: «هنالك نوعان من المثقف، مستشار الملك، هو المثقف الخبير، أما النوع الثاني فهو الحامل لخطاب الأنبياء، أو هو بمثابة ذلك المعلم في الأيديولوجيا، وهو ما يحتم إيجاد صوت ثالث، ذلك المثقف المتورط الباحث المشارك مع المجتمع، ذلك الذي ينتقد ويقدم الآليات»[21].

مما سبق، الموضوعية والذاتية، لدى الباحث في العلوم الاجتماعية، هو نقاش لا منتهي، بل هو نقاش وهمي وحول الوهم. إذ يكفي العودة للأعمال المقدمة من قبل بعض رواد النظرية في علوم المجتمع، التي ترى أن الإشكالية ليست في هذه العلوم ومناهجها وباحثيها، بل الإشكالية هي في نسبيّة الحقيقة الاجتماعية والإنسانية المتعامل معها وما يمكن اكتشافه.

لذا تتبدى ضرورة استمرار التفكير في آليات اشتغالها داخليًّا، من مقاربات ووسائل إجرائية ومنهجية. المجتمعات تتغيّر، الأحداث تتسارع، أفق الانتظار للمهتمين يتزايد، ممّا أدّى بالكتابة كوسيلة تبرز في سياق الاستعجال على غرار ما حدث في الأدب، الكتابات في العلوم الاجتماعية بدت استعجالية، لكن الفرق بينها وبين الأدب أنها تتمّ في الأدب من قبل تخصّص واحد وفي أشكال مختلفة، رواية، محاولة، كرونولوجيا، في السرد، من قبل مثقفين يمكن أن يكتبوا عن المجتمع وهم مواطنون، أي الكتابة من الداخل أو يكتبوا عنه وهم في المنفي، كتابات قد تعبّر عن واقع من خلال مفكرين لا يعيشونه ولا يتعاطون مع يومياته، كونها كتابات تعتمد الواقع وتوظف الخيال كما أنها أيضًا هي كتابة «النحن لإشعار الآخر».

في حين بالنسبة للعلوم الاجتماعية والإنسانية التي يفترض معياريًّا أن تتّخذ فاصلًا زمنيًّا بين الحدث والنص المكتوب، حتى يتسنَّى جمع المادة العلمية، وممارسة الملاحظة، فالحقيقة بالنسبة لها لا تُبنى من المتخيّل فيه ومن الأسطورة، بل تُبنى من الإمبريقي ومن الأحداث المعيشة، وبالتالي تستلزم حضور الباحث أو الكاتب.

لكن ما جعلنا نعتقد أن علوم المجتمع والإنسان باتت كذلك علومًا للمستعجل على الأقل في سياق الكتابات التي تمّت حول المجتمع الجزائري، وتجلّت في أشكال عديدة، كرواج الكتابات في الذاكرة وحول الذاكرة، حيث بالاستناد لمقولة الفاعل لـ آلان توران (Alain Touraine)، خرج الفاعلون عن صمتهم وبدؤوا في تقديم شهاداتهم (écrits testimoniale)[22]، وراجعت الإثنو-مركزية قاموسها المعرفي حتى لا نقول العلمي منه، وهي على العكس ما حدث في الأدب: النحن يكتب للآخر جاءت الكتابات الاستعجالية في علوم المجتمع والإنسان -الآخر يكتب فينا- وفي مجالات عديدة، كتابات ثقافوية متعالية: تصورنا كمجتمعات ثقافاتها تتنافى والديمقراطية، وهي ذاتها الرؤية التي حملتها الكتابات التي تمّت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي من قبل الأنثروبولوجيين والمستشرفين، وبالتالي يمكن القول: إننا إزاء إثنو-مركزية مستحدثة (un néo égocentrisme).

الاستعجال لم يكن في تصوير تخلّفنا، وتشرذم مجتمعاتنا، بل تعدّاها إلى التفكير في معوّقات بلوغنا ما بلغته المجتمعات الغربية، كون الإثنو-مركزية هي كتابات تقوم على أنمذجة التفكير، في السياسة، في الثقافة، في مشروع بناء الدولة... وهذا النموذج سيظل هو الغرب.

الكتابة الاستعجالية في علوم المجتمع والإنسان جلّها لم تكن إمبريقية، بل هي كتابات انطباعية، اعتمدت وسائل الإعلام عوض الواقع. جعلت من التساؤل: ما الفارق بينها وبين الكتابات الأدبية؟ سؤالًا مشروعًا، فإلى أيّ حدّ يمكن الاعتياد بعلمية كتاباتها؟ ما هو الفاصل بين الواقع والحقيقة وانطباعية الكاتب؟ في التاريخ، في علم الاجتماع، في علم النفس، في العلوم السياسية... إلخ.

بالعودة لبعض المدونات وبالخصوص في التاريخ وعلم الاجتماع والعلوم السياسية، التي كتبت حول الأزمة التي مرت بها الجزائر خلال التسعينات لغرض الاستشهاد بها فقط، كونها ليست غاية هذه الورقة، طالما أن الغاية هي الكتابات التي تمّت حول الربيع العربي؛ يمكن نعتها بأنها كتابات زادت أزمة المجتمع من أزمتها.

العلوم الاجتماعية والإنسانية:
من كتابات في الأزمة إلى أزمة في الكتابة

استحضار التاريخ للكتابة حول الأزمة، من خلال عملية جرد بسيطة نقف على أعداد هائلة من المذكرات والسير الذاتية، كتب علي كافي، وآيت أحمد، ومحساس، وشاذلي بن جديد... إلخ[23]. مما جعل السؤال: لماذا يكتب هؤلاء وفي هذا الظرف بالذات؟ سؤالًا وجيهًا وذا مشروعية علمية، يحتاج لبحوث قائمة بذاتها، وهل كتاباتهم هي كتابات علمية؟ ولو لم تدخل الجزائر أزمة التسعينات هل كانت هذه الكتابات ستقدم على هذا العجل؟ علمًا أن كتابات هؤلاء لا يمكن اعتبارها كتابات علمية، كونهم ليسوا من المؤرخين، ولا من علماء السياسية أو علماء الاجتماع، لكن لإماطة اللثام عن الحقيقة فهذه الشهادات تستوقف المؤرخ، وعالم السياسة والسوسيولوجي.

قد تسمح بكتابة التاريخ وفق أسس فلسفة التاريخ، المقارنة، والعودة للأرشيف، حتى لا تعدو هذه الكتابات مضلّلة للذاكرة الجماعية، وترهن بناء التاريخ المشترك وتزرع الشك في إمكانية العيش معًا.

هذه الكتابات هي كتابات في الأزمة وتمّت في خضمّها، أقحمت الجيل الفاعل، للحركة الوطنية والثورة التحريرية، وكفاعلين في الحقل السياسي، سواء كمعارضين أو مسؤولين في الدولة، هذه الكتابات ألا تعكس فشل الخطاب السياسي حول الوطنية، الخطاب المثالي الممثلن، الذي تهاوى بفعل فشل سياسات التحديث، وفقدان الشباب لثقته في هذا الجيل، غاب الاستقرار الموعود، وأضحت فكرة الجزائر للجميع هي «افتراء» في نظر المهمشين والمبعدين.

ممّا يجعل من السياق التي تمّت فيه، ودون الوقوع في مضاربة فكرية حول هذه الكتابات، قد تكون كتابات لتبرئة الذمة، أو لاتهام رفقاء لهم، أو للتكفير عن الذنب، أم هي أيضًا كتابات للتملُّص من المسؤولية التاريخية والسياسية حيال الأزمة التي تعرفها الجزائر، إلَّا أنه وبغض النظر عن الغايات منها، فإنها أسهمت في تسليط الضوء عن أزمة السياسي في الجزائر.

في حين المختصون: المؤرخ، السوسيولوجي، عالم النفس، عالم السياسة؛ فأمام هذا التحوّل، جاءت كتاباتهم مستعجلة تتّخذ أسلوب التفاعل أو رد الفعل، تكتب في المستعجل (l’urgent) فعلى سبيل المثال لا الحصر، عند توقيف المسار الانتخابي في عام 1991 كتب عدي الهواري حول هذا الحدث الطارئ وطرح فكرة «التراجع المثمر» (la régression féconde)[24].

وخرج المؤرخ محمد حربي عن صمته، مشيرًا للعديد من القضايا مستحضرًا التاريخ لتفسير الأزمة، فيكفي الوقوف عند بعض مقولاته -للقول: إن الكتابة في الطارئ كانت فرصة لتأكيد أطروحاته كمؤرخ وفاعل-: «لكل دولة جيشها، لكن في حالة الجزائر الجيش هو من يملك دولة»[25].

هذه الفكرة نقف عليها في مؤلفات محمد حربي (جبهة التحرير الأسطورة والواقع)، إن الأزمة بدت جلية، وكل أزمة ستنتج لا محالة وفق الحتمية التاريخية أزمة أخرى، منذ مؤتمر الصومام 1956 والعسكري يهيمن على السياسي. أضحت مسلمة تاريخية ومسلمة يُعاد التذكير بها في الطارئ والمستعجل في الأزمة.

ممَّا يجعلنا نتساءل: هل التراجع يمكن أن يكون مثمرًا؟ وهل الحتميات ستظل كذلك المجتمعات تستسلم لها؟ وإلى متى سيظلّ المجتمع الجزائري رهينة لها؟ كل هذه التساؤلات هي إبستمولوجية لكل تخصّص لعلم الاجتماع والتاريخ وعلم النفس والعلوم السياسية.

الكتابة الاستعجالية:
كتابات هجينة لا تعتدّ بهويات التخصص[26]

إن كلمة الهجين تُحيل إلى تلاقي أجناس مختلفة لتمدّنا بجنس جديد، بالبقاء في سياق الكتابة وإسقاط هذا المفهوم عليها كممارسة، ففي الأدب تحيل إلى ذلك «الضغط» المتأتي جراء استخدام عناصر مختلفة، نريد التوليف بين الأشكال الأدبية عنوة، أو نقيم تحالفًا غير طبيعي، لتتحوّل إلى خليط من الأفكار يُمكن أن تسمّى بالحبكة الأدبية.

أما على مستوي ما يُعرف باستراتيجية الكتابة، فهي تدلّ على التداخل بين الكتابة في الميكرو والماكرو، أي تشكّل ذلك الذهاب والإياب، من الجزء يتم التعميم، والتعميم في المطلق استنادًا للمشروع الفكري للكاتب ومرجعياته والتجربة الشخصية.

الهجنة في الكتابة هي تحوّل يستشفه كل قارئ، طالما أنها تتمّ تحت ضغط السياق في كل تجلّياته، وتأثيره على الأجيال من المفكرين وعلى ومرجعيات المدارس الفكرية، والأيديولوجيات، كلها عوامل تجعل من الكتابات، تتحوّل إلى كتابات في كل شيء وفي آن واحد تمزج بين التاريخ والذاكرة وحول أفق التطلّعات فهي حسب ديسيرتو (De Certeau)تعبر عن «تناقض نشط بين الداخلي والخارجي»[27]. أي بين موقف الكاتب وإصراره على القول، وكأن الكتابة هي خلاص، تُمليها رغبة القول وضروراته، لا رغبة التفكير والهاجس الإبستمولوجي والعلمي.

من هذا المنطلق، هل الهجينية هي خاصية الإبداع والتأليف، وكتابات تقديم شهادات، بحيث تمكن أن يعبأ في خضمها الخيال والواقع، أن يستحضر ويستنجد فيها بكل الاستراتيجيات والقرائن، وتزول حدود الزمان والمكان، وتعبّر عن مواقف إزاء ما يحدث من طارئ من لا متوقع، فاضحة ذاتية المؤلف أو الكاتب، تجربته معاناته، ملاحظاته ومتابعته للأحداث، كما أنها إصرار على دخول التاريخ، كمؤلف مواطن، أو كمهني وخبير في التخصّص.

في الأخير، الكتابة الهجينة في التسعينات، هي كتابات تعبّر عن مواقف وعن إصرار للقول للمشاركة في إثراء وكشف الحقيقة، لكن طالما أن الأزمة في الأصل هي سياسية، فهذه الكتابات أثبتت جملة من الحقائق ترتبط بإستمولوجية علوم المجتمع والمنتمين إليها.

الراهن كمعطى وحقائق وكأزمة تتعدّد أبعاده، أزمة السياسي، عسر بناء الدولة، العنف في التسعينات هو تجلٍّ للعنف الذي عرفته الثورة التحريرية، أي إن المجتمع المُعنّف يُنتج عنفًا، هذه القضايا ليست جلّها حتميات تاريخية ولا هي أحادية السبب، بل هي أنثروبولوجية وتاريخية، يجب استحضار الأدب الأنثروبولوجي واعتماد التأويل، والفهم الفيبري.

الكتابات الهجينة تتنكر لكل تفسير وضعاني، كونه يؤدّي إلى تشيُّؤ الموضوعات، وبالتالي ينفي الديناميكية التاريخية للظواهر وللإفرازات، وعليه فالكتابة الهجينية، هي كتابات تنتج المعرفة لكنها معرفة تحتاج للبرهنة من منطلق إمبريقي على علميّتها. تعقّد الحقائق وتعدّدها، تستلزم الابتعاد عن الرؤية العلموية، بل تحتاج لتعبئة كل التخصّصات، فالسياسي ومشكلاته يسكنون في الاجتماعي والديني والثقافي والتاريخي والأنثروبولوجي والسيكولوجيا الجماعية.

الكتابة الاستعجالية الهجينة تفلت للبراديغم المهيمن، تتأرجح بين الكتابة التعاقدية والمعيارية، تبدو علمية حينما تكون المفاهيم والموضوعات سهلة المنال وتصبح معيارية حينما تقف المفاهيم حاجزًا أمامنا.

من هذا المنطلق، يبدو أن السؤال التالي هو أكثر من ضروري لبداية إظهار ما إذا كانت الكتابات الاستعجالية هي هجين من التجربة الشخصية للباحث، لتخصّصه ومجالات بحثه، لمشروعه الفكري، لمنطلقاته الإبستيمية والفلسفية، بعبارى أخرى: هل لكل منا هجينيته في الكتابة؟

في الأدب يستحضر التأثير التفكيكي أو التحليل اللساني، في السوسويولوجيا وعلم النفس ندفع بالإمبريقي إلى أبعد الحدود، تحت هاجس العلمجتماعوية أو العلمنفساوبة، وتستحضر تحت مبرر تعقّد الظاهرة الاجتماعية، الوسائل الكمية والكيفية معًا، في توليفات تكرّست كتقليد لدى الباحثين في العلوم الاجتماعية.

للإجابة عن هذه التساؤلات سنحاول تسليط الضوء على مفهوم الربيع العربي، كمفهوم زمني لا يوجد فاصل كبير منذ بداية الترويج له والكم الهائل من الكتابات التي صدرت حوله، فالربيع العربي كحدث «زماني ومكاني» هو موضوع للكتابة الاستعجالية، إلى أيّ حدّ يمكن اعتبارها كتابات علمية؟

الكتابات الاستعجالية حول الربيع العربي:
قراءة في بعض المدونات

في ضوء تتبع وعملية جرد بسيطة للبيبليوغرافيا التي تضمّنت الكتابات حول الربيع العربي، نجد الآلاف من المقالات وفي كل التخصّصات، تبرز في شكل مؤلفات جماعية أو مقالات صحفية أو في مجالات متخصّصة، كتبت بمبادرات شخصية أو تحت الطلب لدور نشر أو لمعاهد ومخابر بحث، وكأن موضوع الربيع العربي ساهم في تعاظم عدد الكتاب.

مفهوم الربيع العربي تداولته الصحافة استنادًا لمفهوم عرفته أوروبا خلال عام 1848 عرف بربيع الشعوب، هذه الموازنة في المطلق بين المفهومين لا ينتميان إلى السياق الزمني والمكاني نفسه، أرجعه (Michel Camau) لهيمنة الطروحات الناجزة التي يطلقها الغرب، ومن السهولة الصحفية التي صاغت موضوع الشرق المتوسط الموحد، أو مفهوم الشارع العربي، أو «الاستثناء السلطوي العربي» بمعني أنها مفاهيم «التشيؤ» العالم العربي، الذي ينعت كوحدة سياسية[28].

إذا كانت الكتابات الغربية تقع تحت هذا التأثير، فلماذا الكتابات التي تمّت من قبل المثقفين العرب تبنت المفاهيم نفسها في غالبها، هل معناه أن السؤال الإبستيمولوجي حول الكتابات في العلوم الاجتماعية يبقي مؤجلًا؟

ويكفي الكتابة لأجل الكتابة، للتوصيف وللتعبير عن المواقف الأيديولوجية والسياسية، وللمشاركة كنخب مثقفة، تحاول دخول اللحظة التاريخية ومواكبة ما يحدث في مجتمعاتها؟ على غرار ما حدث في أوروبا حيث فلاسفة الأنوار رافقت مجتمعاتها في حراكها، مع فارق أن هذه الأخيرة فكرت في المآلات في حين الثانية تفكر في الأسباب.

الكتابة الاستعجالية والسؤال الإبستمولوجي

بالعودة للمدونات التي تمّ اعتمادها، لمسألة هذه الكتابات، وقع الاختيار على جملة من المدونات جلّها كتبت في مؤلفات جماعية، وقد وقع الاختيار على مدونات كتبت من قبل مثقفين عرب، وأخرى كتبت من قبل كتّاب غربيين معروفين لدى القارئ المتخصّص الجزائري والعربي. الأول هو مؤلَّف جماعي لنخبة من الباحثين العرب، وقد حمل هذا المؤلَّف عنوان: الربيع العربي.. إلى أين؟ أفق جديد للتغيير الديمقراطي[29]، تناول موضوعات عديدة يمكن تلخيصها في الملاحظات التالية:

- الربيع العربي، مفاجأة: مثقفون لا يعرفون مجتمعاتهم. وهو ما يؤكّد على حد الطاهر لبيب «ما سمّي مفاجأة هو تلقائية الممكن»، ووصل إلى حكم أن ما استبطن من أحكام على أن العرب خارج التاريخ هو مغالطة فكرية، «... العربي الذي لا يثور، ما حدث وما يحدث فند الأيديولوجية الماركسية، من يتوقّعونهم كفاعلين، ليسوا هم اليوم بل استبدلهم الواقع بآخرين، أناس عاديون»، كانوا في بحوثنا كائنات هلامية نملأ بها جداول إحصاءاتنا.

هذه الملحوظات وجّهت للمثقف العربي، الذي لا يعرف مجتمعاته، وبالتالي طرحت أهمية المقاربة السيميائية لموضوع الربيع العربي، العلاقة بين الدال والمدلول، على حدّ بارت. أي إن المثقف العربي لا يستحضر حينما يكتب المدلولات ويقوم بتحليلها وتأويلها، كالسرد، المقال الصحفي، الحوار، كل العناصر الدلالية التي يحتويها الخطاب بكل أشكاله: الحوار، المنشورات، الخطاب الداخلي المتخيل.

بعبارة أخرى: لو كان المثقف يرافق ما يحدث لما شكّل ما حدث عنصرًا من عناصر المفاجأة، مع العلم أن التراكمات التاريخية وفشل التحديث كانت أكثر دلالة لإمكانية حدوث هذه الهزّات، لكن ربما ما كان مفاجئًا وخرق أفق التوقّع لدى الفرد العادي والمثقف هو سقوط هذه الأنظمة بسهولة وفي أرقام قياسية، وتأكد هشاشتها.

- ثورة أم ثورات أم ربيع عربي؟ سؤال من الضروري مناقشته دون الجزم بالنفي أو بالتأكيد، طرحه كاتب آخر منصف المرزوقي، تحت عنوان «نقطة نظام» داعيًا إلى عدم استعمال «الثورات في الجمع» بل هي ثورة عربية. مبررًا ذلك من كون أن الأسباب التي أدّت لحدوثها هي واحدة من الخليج للمحيط، إذ يصرح أنها، «تسلّط الفرد وحق أهله في الفساد، وحكم الأجهزة البوليسية، وخصخصة مؤسسات الدولة لخدمة الأفراد والعصابات بدل خدمة الوطن والشعب».

أما أهدافها فهي أيضاً واحدة تختصر بالجملة الشهيرة: «الشعب يريد إسقاط النظام». إضافة إلى وسائلها التي تميزت بالـ«سلمية» حتى وإن «ووجهت بالرصاص». كما أنها تحمل طبيعة واحدة «شعبية، مدنية، شبابية، بلا قيادة مركزية وبلا أيديولوجيا».

هل الاحتكام لمثقف غير متخصّص وناشطًا سياسيًّا أكثر منه مفكرًا، يُثنينا عن البحث، ونسلّم بما قاله ولا نبحث في مفهوم الثورة، ويكفي للأسباب المتشابهة، وللشعارات
(le logos) أن تجعل منها ثورة. في حين أن التراث النظري يُحيل إلى ضرورة التفريق بين اللحظة التاريخية والثورة، أي بين البداية والمآل.

إلى جانب تسليط الضوء على واقع الحراك في الخليج والولايات المتحدة والربيع العربي، وتقديم جملة من الاستنتاجات، كتناول الشعارات لكن دون رؤية ثاقبة، لذا غيب الرمزي وعلاقتها بالدال والمدلول، غيابه الذي يشكّل معوقًا معرفيًّا بامتياز.

- العلوم الاجتماعية ومفارقة إهمال الرمزي، والعلاقة بين الدال والمدلول. حملت حقيقة التغيير المراد في العالم العربي، جملة من الرموز، والشعارات، والصور، ومقولات في الحوارات التليفزيونية والكاريكاتور، وشكّل ما أنتجه البوعزيزي في تونس من الحرق للذات لغزًا ترك تأثيرًا في شباب كل المجتمعات. ساهمت شبكات التواصل الاجتماعي من الترويج لها، مؤسّسة بذلك لفضاء عام افتراضي في مقابل الفضاء العام الكلاسيكي الهابرماسي.

الشعب يريد إسقاط النظام، ارحل، البلطجي، لا دولة عسكرية أو إسلاموية، الورود، اليد المغلقة، حتى الألوان لم تُغيَّب عن الميادين والمساحات العمومية.

هذه الرموز والشعارات لم تستوقف أي أحد من كتاب هذا المؤلف، مع العلم أنها شكّلت في العلوم الاجتماعية حقلًا ثريًّا، مع فرديناند ديسوسير في اللسانيات، ومع بيار بورديو في السوسيولوجيا، والأنثروبولوجيا البنائية، التي تتناوله في سياق ما يعرف بـ«اللاوعي الثقافي» وتفسير الأسطورة، والمتخيل، ربما يعود هذا إلى التأخّر المفضوح في مجال الأنثروبولوجيا على وجه الخصوص، وعلم اجتماع المعرفة بالنظر للتعصّب الإمبريقي، ولغياب علم النفس المعرفي كتخصّصات قائمة بذاتها في جامعاتنا باستثناء محاولات بعض الباحثين المعزولين.

مع العلم أنّ الثورة وشعاراتها لها بنية مماثلة للغة التي تسوقها، ثورة عنيفة تنتج الشعارات العنيفة وثورة أقل عنفًا تنتج الشعارات العذبة: البلطجي في مصر والياسمين في تونس.

لو كان لدينا مثقفون ومختصون في الإثنولوجيا، لتمكنوا من رصد وتأويل هذه الرموز، طالما أن الإثنوغرافيا تهتم بما هو غير مكتوب. فحرق الذات في العالم العربي وبروزها في بعض المجتمعات الغربية أضحت ظاهرة تستوقف المختصين في علم النفس - الاجتماعي.

ولعلّ ما يُثير الاستغراب أن هذه الكتابات لم تهتم ببنيات المجتمع، بالرغم من أنها شكّلت حقلًا معرفيًّا للأنثربولوجيين الغربين: الثورة وتغيير النظام السياسي والحلم بمجتمع لرفاه، ألَّا تشبه «الأسطورة» التي تفسر من خلال بعدين، الأول كرونولوجي والثاني في اللحظة ذاتها. أي يسمح بالتأويل، الذي يتّخذ الشكل الأفقي أو العمودي، وهنا فمن خلال تتبع شعارات الشارع العربي، يمكن القول: إنها تطوّرت بتطوّر بنيته الثقافية السياسية جرّاء التأثيرات الداخلية، ووسائل الاتّصال، فتحوّلت من شعارات التوصيف والاتهام إلى الشعارات المطلبية من أنظمة كانت تنعتها بالتسلطية أو إرهابية إلى أنظمة تطالبها بالرحيل وتنادي إلى إسقاطها، أليس هذا التطوّر مهما لتناوله بالدراسة؟

ثورة أم ثورات، أم ربيع عربي؟ السياق والتاريخانية

في الوقت الذي شكّل أيضًا الربيع العربي مفاجأة بالنسبة للمثقف الغربي، صرح (Edgar Morin): العرب يُشبهوننا ونحن نُشبه العرب. هذه المقولة جاءت للردّ على النقاش الدائر في الأوساط العلمية الغربية والقاضي ببحث ما إذا كانت هذه الأحداث هي ثورات أم ربيع عربي؟ هذه المقولة تؤكّد أنّ ما يحدث يندرج في سياق الأزمة العالمية والشعوب الأكثر عرضة لها هي التي دشنت لهذا الحراك، وتصدر الأفكار، بدليل ظهور حركة (Les indignées) التي مسّت أوروبا[30].

ناقش ميشال كامو مفهوم الربيع العربي والثورة، انطلاقًا من مساءلة التجربة الغربية، وما كتبه بعض المفكرين حيث يرى أنّ الثورة هو مفهوم تاريخي، يُحيل تجارب والتجارب مختلفة، إنها تسمى كذلك لما تحدث بفعل عوامل من الداخل وبكيفية سريعة وعنيفة، تقلب القيم والأساطير السائدة في المجتمع، تغيير المؤسسات السياسية، والبنية الاجتماعية، وتغيير في الكاريزما ونشاط الحكومي والسياسات[31].

وإن كان هذه المفهوم يُحيل إلى جملة من الحقائق لكنه يفصح عن النهايات وليس للمسارات طالما أن ما يحدث في المجتمعات العربية لم يهدأ كون أن الإفرازات لا زالت تتوالي. الشيء الذي جعل أيضًا وفي سياق البحث عن تكسونوميا الثورة، وعليه يعتقد أنه من الوهم تحدي طبيعة الثورات العربية، كونها هجينية، فهي ليست ثورة اجتماعية خالصة على غرار ما حدث في فرنسا أو في روسيا أو في الصين، بمعنى أن الثورات العربية في إطار هذه الرؤية الإثنو-مركزية هي ثورات هجينة، هي سياسية واجتماعية وثقافية، أي إنها تفلت للتكسونوميا المشكلة من قبل التراث الفكري المسجل حول مفهوم الثورة[32].

وعليه يمكن الحديث عن الأزمات المؤدّية للثورة، كون أنّ هذه الأخيرة تستمد من أزمة الدولة وانشقاق النخب عن النظام والاحتجاج الجماهيري المحتمل. لكنه يبقى من السابق للأوان الحديث أو الجزم بأنها ثورة طالما أنها لم تفصح عن المآلات. فالثورات يمكن أن يتّم الانقلاب عليها، الثورة يمكن أن يتمّ الاستحواذ عليها من قبل بعض الفاعلين. كما أنّ مفهوم الثورة لا يمكن تحديده قبلًا طالما أن هنالك ما يعرف بمفهوم اللحظة الثورية ومسار الثورة ومآلاتها.

الإسلام سياسي أم السياسة في الدين:
مأزق الكتابة الاستعجالية

تعدّدت الكتابات حول جملة من المفاهيم ترتبط بالإسلام عمومًا والإسلام السياسي، وتوالت التصنيفات للأيديولوجيات والتيارات المنضوية تحت التيار الإسلامي. بعد سقوط ابن علي ومبارك، برزت فكرة تراجع الإسلام السياسي، كونه لم يعد الوحيد الذي يُعبِّئ الشارع العربي، وهي الفكرة التي صاغها أوليفيير روي (Olivier Roy) وأعاد طرحها وكأن هذا التلاقي بين الشرائح المختلفة يُفنّد فكرة أنه بات ليس كما ظل يعتقد التخلّص من السلطوية سيوقع بهذه المجتمعات في الشمولوية[33].

في حين فرانسوا بيرغا في تحليله لظاهرة الإسلام السياسي، بالرغم من أن كتاباته جاءت مستعجلة، إلَّا أنه استعمل مدخلًا تاريخيًّا سياسيًّا لتفسير الإسلام السياسي، فدون الجزم -على غرار روي- بتراجع الإسلام السياسي في العالم العربي، قدّم تحليلًا حول علاقة الإسلام السياسي بالأنظمة التسلطية في العالم العربي والمدعومة من قبل الدول الغربية[34]، التي على حدّ تعبيره تفضل أنظمة تسلّطيّة على أن تحكم هذه المجتمعات أنظمة شمولية.

موضحًا أنها قراءة خاطئة بالنظر لما تشهده كل من تونس ومصر، وإن فاز الإسلاميون بالانتخابات فهُم راهنًا لا يشكّلون الأغلبية المطلقة، بل مجبرون للتعاطي مع التعددية داخل التيار ذاته، وداخل المجتمع ككل، مع العلمانيين، والشباب، كون أنه لم يعد بإمكان أي قوة سياسية تمثيل المجتمع برمته.

يسجل فرنسوا بيرغا بداية التلاقي بين الإسلاميين والوطنيين، وبينهم وبين العلمانيين بدليل، أن شعارات الثورة ليس لها لون أيديولوجي معين، بل مشتركة، تندّد بالتسلّط، وتنادي بالحرية، والتداول على السلطة؛ عاملًا ومصدرًا للتعبئة السياسية ضد الكولونيالية وضد الأنظمة السياسية لدولة ما بعد الاستقلال. فكيف يكون تأثير الدين في السياسة بعد هذا الحراك؟ هل سيعرف الإسلام السياسي تحوّلًا هامًّا، ولعل أهمها على الإطلاق هو بداية تمكّن فكرة أن الإسلام السياسي لا يمثّل كل القوى المجتمعية، شباب جديد، وتمثّلات للعمل السياسي يحتكم للعالمية بفعل العالم الافتراضي.

عناصر الخاتمة

ما يستشف في الكتابات الاستعجالية من منظور إبستمولوجي، أنها اتَّسمت بـبعض السمات منها:

- الانسياق المفاهيمي أمام عنصر المفاجأة، فما حدث في البلدان العربية يعدّ بمثابة صاعقة على المثقف الذي أُصيب بذهول وإرباك. أمام الحدث إمّا أن يبحث عن مفاهيم جديّة لتوصيف ما يحدث، وإما أن ينساق وراء مفاهيم ناجزه، يحملها الفكر الإنساني، دون الأخذ بالتاريخانية، والاستثنائي والخصوصي في تجارب المجتمعات.

- ولوج مفاهيم ذات دلالات جديدة في الميادين والمساحات العامة، التي لم تعد فضاءً كلاسيكيًّا حسب المفهوم الهابرماسي، بل فضاء افتراضي، ساهمت في تشكّله وسائل إعلام واتصال جديدة، مما جعل من الحراك لا يتم فقط فيزيقيًّا ورقميًّا وعدديًا بل يشارك فيه كل الوطن عبر فضاء عام افتراضي.

- التفسير الهوليستي أو الكُلّياني معوق معرفي لفهم الخصوصي والاستثنائي. الإسلام السياسي، الارتباك في الممارسة والتنظير لما بعد الحراك، يستلزم أن نعالج الإسلام السياسي لا بوصفه واحدًا، بل بين الإسلام الدعوي والإسلام السياسي، السلفي والجهادي وغيره من الأشكال، هل فكرة أنهم يستعملون الديمقراطية ويتحولون ضدها هي حقيقة؟ أم أنها تستعمل من قبل الأنظمة التسلطية والقوى التي تحوم في كنفها؟ كلها فرضيات تحتاج للفاصل الزمني.

- صحيح أننا على غرار ما صاغه إدغار موران نُشبهُهُم ويُشبهُوننا، لكن أثبتت الدراسات أن لكل مجتمع مثقفيه، فلماذا نكتب في عجل، دون فرضيات مركزية، ومشاريع فكرية بحثية على غرار ما صاغه الاستشراف الجديد والأنثروبولوجيا الكولونيالية.

- لو سلمنا بأن الظاهرة على حدّ تعبير كيبل، الذي رفض مدّ ما يحدث بأي صفة سواء أكان ربيعًا عربيًّا أو ثورة أو ثورات، فهو لا يعدو إلَّا حراكًا ربما يخفت ويموت، بالنظر لقدرة الأنظمة السياسية على إعادة إنتاج ذاتها، والجزم بأن الإسلام السياسي في تونس أثبت أنه لا يتعارض مع الديمقراطية والتداول على السلطة يعدّ حكمًا سابقًا لأوانه طالما أن الانتخابات الرئاسية لم تجرِ، والجزم بأن المجتمعات التي تتمتع بالريع البترولي لن تعرف حراكًا، كونها تمتلك إمكانات شراء السلم الاجتماعي، كلها مواضيع تحتاج لفرضيات كبرى ومشاريع فكرية وإشكاليات جريئة.

 

 

 



[1] Jacques Derrida, l’écriture et la différence, éditions du seuil, paris, 1967, p 53 - 55.

[2] Idem, p 409 - 410.

[3] Marie J. Berchoud ,DERRIDA, FOUCAULT, RICOEUR ET L’AMOUR DE L’ÉCRITURE : Une première approche, Traduction en français du texte paru en chinois dans le n°7 de la revue Dialogue transculturel, (revue en anglais & chinois) université de Pékin, dir. Yue Dayan, avril 2005, éditions San Lian, Shangaï. ISBN 7 - 5426 - 2082 - 7

[4] Paul Ricœur, le temps et le récit, t2, le temps raconté, le seuil, 1985, pp 158 - 161.

[5] jacques Derrida, l’écriture et la différence, éditions du seuil, paris, 1967, p 55 - 57.

حيث تناول بالتحليل والنقد مؤلف فوكو، مخصصًا له فصلًا في المرجع ذاته الكتابة والاختلاف، تحت عنوان: الكوجيتو وتاريخ الجنون.

[6] ÉRIBON, Didier, Michel Foucault, 1926 - 1984, éditions Flammarion, Paris, 1989. P 123 - 126.

[7] Vincent Dubois, Lécriture en sociologie: une question de méthode  négligée, Ce texte est pour partie issu d’une communication présentée au colloque Littérature et sciences sociales, École normale supérieure, Paris, 10 - 12 janvier 2001.

[8] Lepenies Wolf, Les trois cultures. Entre science et littérature, l’avènement de la sociologie, Paris, éditions de la Maison des sciences de l’homme, 1990, p. 48 - 49

[9] Bourdieu Pierre, Chamboredon Jean-Claude, Passeron Jean-Claude, Le métier de sociologue, Paris, Mouton, 1968. p 132 - 133.

انظر أيضًا: بيار بيورديو، في مؤلفه علم الاجتماع الانعكاسي، ترجمة: عبد الجليل الكور، دار توبقال، المغرب، 1997، ص 194 - 195 .

[10] Gilles HOULE “La sociologie comme science du vivant l’approche biographique” Dans le cadre de: «Les classiques des sciences sociales» Site web: http://classiques.uqac.ca/

[11] LahouariAddi, deux anthropologues au Maghreb, EnestGellner et GliffordGeertez, éditions des archives contemporaines, paris, 2013, pp 31 - 35.

[12]  Idem, p 38 - 39.

[13] Vincent du bois, L’écriture en sociologie : une question de méthode négligée, Manuscrit auteur, publié dans «Transversale 1 (2005) p. 208 - 217»

[14] مقولة استعملت من قبل ماكس فييبر، وتحيل إلى زوال الأسطورة والخرافة الدينية، أي بداية العقلانية، عمل بموجبها الفيلسوف مارسال غوشيي، وطوّرها متطرقًا لأدور الدين وما طرحه من تناقضات في الممارسة هو الذي أدّي إلى دخول السياسية، الدولة الحريات كغايات لدي الأفراد. انظر

Jean-Paul Willaim,A propos du «Désenchantement du monde» de MarcelGauchet [Marcel Gauchet, Le désenchantement du monde. Une histoire politique de la religion]. In: Autres Temps. Les cahiers du christianisme social. N°9, 1986. pp. 68 - 75.

[15] LE NOUVEAU SOUFFLE DU ROMAN ALGÉRIEN DE RACHID MOKHTARI, Écriture de l’urgence et production del’imaginaire , interview de  O. HIND - Mardi 17 Octobre 2006, in le quotidien algérien, l’expression.

[16] عبد الحميد بن هدوقة، اليوم غدًا جديد، منشورات الأندلس، عام 1992.

[17] عبد الحميد هيمة، المأساة الوطنية في الرواية الجزائرية، قراءة في نماذج من الرواية الجزائرية الجديدة ، مجلة العلوم الإنسانية، العدد 29 ، ص ص 224 -225 .

[18] واسيني الأعرج، سيدة المقام ، الجزائر: دار الفضاء الحر، 2001، ص 213.

[19] voir faouziabendjelid, dans un interview réalisé le 15 avril 2014, l’écriture est tributaire de l’histoire.

فهو يكتب من منظور المجاورة بين التاريخ والحاضر، بمعني يكتب في استمرارية المأساة من الكولونيالية إلى الإرهاب والعنف الذي عاشه المجتمع الجزائري.

[20] Charles Bonn et Farida Boualit (dir.), Paysages littéraires algériens des années 90: Témoigner d›une tragédie? Paris, L›Harmattan, 1999. (www.limag.com).

[21] Pierre Rosanvallon, La contre-démocratie. La politique à l’âge de la défiance, Paris, Le Seuil, 2006, pp 136 - 138.

[22] Marie ESTRIPEAUT-BOURJAC, L’Écriture de l’urgenceen Amérique Latine, Pessac, Presses Universitaires de Bordeaux, 2012, p 256 - 260..

[23] شهدت الساحة الفكرية بعد الأزمة السياسية التي مرّت بها جملة من الكتابات في شكل مذكّرات، تمّت من قبل شخصيات وطنية، شكّلت نقاشًا داخليًّا بينهم كفاعلين، تارة بالتكذيب ووصولًا إلى اتهامات وانتهاءً بالمحاكم.

[24] «التراجع المثمر» هي عبارة أطلقها بعد توقيف المسار الانتخابي؛ حيث كان يري أن اللعبة الديمقراطية تقتضي عدم تهميش الإسلاميين، فالشعب الذي أوصلهم إلى الحكم هو ذاته الذي يُبعدهم، ودور الجيش يقتصر على السهر على احترام الاختيارات ووضع خطوط حمراء للجميع، على غرار التجربة التركية.

[25] مقولة ردّدها محمد حربي خلال إحدى محاوراته الصحفية على هامش ملتقى نُظِّم بوهران، حول كتابة التاريخ. كما وصف التاريخ الرسمي -التاريخ الذي يدرس في المدارس فقد وصفه بـ(الرواية الوطنية)- تسمية تعكس ما يشوب الكتابات التاريخية من تشويه وهيمنة أيديولوجية الفكر الواحد، وعدم دمقرطة التاريخ .

[26] Tiphaine,L’hybride et l›hétérogène, L’Art et l’hybride, Presses Universitaires de Vincennes, 2001, pp. 175 - 186.

[27] in, Françoise dosse, l’irréduction dans l’histoire intellectuelle, espaces temps, année 2004, volume, 84, numéro , 84 - 86, p 176.

[28] Michel Camau, un printempsarabe, l’émulation protestataire et ses limites, dossier de recherche, printemps arabe une révolution pour les sciences sociales, l’année du Maghreb, CNRS , 2012 , page 2.

[29] مجموعة من المؤلفين، الربيع العربي إلى أين.. أفق جديد للتغيير الديمقراطي، وزارة الثقافة، مركز دراسات الوحدة العربية، الأردن: مطبعة السفير، السنة 2011.

[30] تريدون عبيدًا ستجدون متمردين، العرب يشبهوننا ونحن نشبههم، مقولات قالها إدغار موران، في حواراته المختلفة، انظر:

cité in, Karim bitar, les intellectuels francais et le printemps arabe, la revue internationale et stratégique, le monde arabe l’onde du choc, armondcollin, 2011, no 83, paris, p 141 - 145.

[31] in Michel Camau, op cité, p 5.

[32] Iidem, p 8.

[33] olivier Roy, in le journal la croix, recueilli par jean Christophe Ploquin, - il n’ya pas d’islam politique mais l’islam dans le politique.

[34] François Burgat  anatomies des printemps arabes, CNRS - Ifpo ,In Bertrand Badie et Dominique Vidal (dir) pp 97 - 107 , Nouveaux acteurs, nouvelle donne: l’état du monde 2012, pp 7 - 10.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة