تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

السيد السيستاني والدولة المدنية

محمد محفوظ

السيد السيستاني والدولة المدنية

 

محمد محفوظ

عند التأمَّل في مقولة (الدولة المدنية) نجد أن هذه المقولة تنطلق من حقيقة أساسية، مفادها أن جميع المواطنين -بصرف النظر عن تخصصاتهم العلمية وحيثياتهم الاجتماعية- هم على حدٍّ سواء وسواسية في تعيين مصيرهم السياسي.. فلا أحد ينوب عنهم في هذه المسألة. وبمقدار فعالية مشاركة الناس في صياغة راهنهم وتحديد مصيرهم ومستقبلهم، بالقدر ذاته تترتّب حقوقهم المكتسبة.

فالجميع لهم حق المساهمة المباشرة في تعيين شكل مستقبلهم الوطني والسياسي. والاختلاف يكون بين الناس على هذا الصعيد، ليس على صعيد حقهم الأصيل في تعيين مصيرهم ومستقبلهم، وإنما في مدى فعالية الناس على هذا الصعيد؛ فالأكثر فعالية وحيوية سيحصل على حقوق مكتسبة، توفّر له إنجاز ما يريد بشكل مباشر. فشرعية الدولة وفق المعنى المدني نابعة من تمثيلها لجميع آحاد المجتمع، وكلما اقتربت الدولة من أن تكون تعبيرًا أمينًا لجميع الحساسيات والاعتبارات بالمستوى ذاته يتحقّق المفهوم المدني للدولة.

ونحسب أن هذه المسألة أكثر تعبيرًا لإنجاز مفهوم الشرعية؛ فالدولة التي تكون انعكاسًا لجميع الحيثيات، هي أكثر شرعية من تلك الدولة التي ليست بالضرورة تعبيرًا أمينًا عن إرادة الناس وخياراتهم العامة. «وعلى هذا الأساس فإن المساحة العامة هي ملك الشعب، ولا يحق لأحد أن يتصرف أو يتدخل فيها دون أخذ الإذن من الأكثرية، وكسب رضا الشعب، وإن المسؤولين في إدارة الدولة إنما هم مجرّد وكلاء من قبل أفراد الشعب، ويجب عليهم العمل طبق مطالب من وكلهم»[1].

المرجعية الدينية

وعلى المستوى التاريخي مرّ نظام المرجعية الدينية - الشيعية الإمامية، بمراحل وأطوار تاريخية عديدة، وكان لطبيعة التكوين الثقافي والسياسي والاجتماعي للمرجع الديني التأثير الأساسي على مدى قربه وتصديه للشأن السياسي والعام، كما أن طبيعة الظروف العامة السياسية والثقافية والاجتماعية العامة، لها التأثير في قناعات وأفكار وأولويات المرجعية الدينية.

والمجتمعات الإسلامية - الشيعية احتضنت نظريات سياسية عديدة، هي بمثابة الإطار المرجعي والنظري لممارسة المرجعية الدينية.

فنظرية ولاية الفقيه من النظريات السياسية التي آمنت بها بعض المرجعيات الدينية، والتزم بمقتضياتها النظرية والعملية هؤلاء الفقهاء.

وفي مقابل نظرية ولاية الفقيه، ثمة آراء ومقولات نظرية عديدة تتحكم بعطاءات المرجعية الدينية.

وما نودّ أن نثيره في هذا السياق هو نظرية ولاية الأمة على نفسها، أو نظرية الدولة المدنية، انطلاقًا من آراء ومقولات السيد علي الحسيني السيستاني، وهو من المرجعيات الدينية الأساسية في العصر الراهن. وفي تقدير العديد من المراقبين: فإن السيد السيستاني من خلال إدارته غير المباشرة للمسألة العراقية، ينطلق من أن العراق كشعب متنوع مذهبيًّا وقوميًّا ويحتضن أديان متنوعة، يديرها انطلاقًا من نظريته الفقهية التي تتضمّن بناء دولة مدنية حاضنة وممثّلة لجميع أطياف الشعب العراقي، وأن الديمقراطية وآلياتها المختلفة هي القادرة على إدارة الحياة السياسية والإدارية للشعب العراقي.

وبالتالي فإن السيد السيستاني، يدير فقهيًّا الدولة العراقية وفق رؤية فقهية مغايرة لنظرية ولاية الفقيه، وإن الرؤية التي يتبناها السيد السيستاني في إدارة المسألة العراقية لا تستهدف بناء دولة شيعية بالمعنى الأيديولوجي، وإنما بناء دولة مدنية تشترك جميع أطياف الشعب العراقي في تكوينها وإدارتها. وما نود التعرُّف عليه في هذه الدراسة، هي هذه التجربة التي تدار فقهيًّا برؤية فقهية مختلفة عن رؤية ولاية الفقيه.

ولقد تمكّنت المرجعية الدينية عبر مراحلها التاريخية المتعدّدة، من القيام بأدوار تاريخية كبرى، ساهمت في حماية الاستقلال الوطني وحفظ الهوية الإسلامية للمجتمعات العربية والإسلامية، وحفظ الثغور الإسلامية أمام زحف الحركة الاستعمارية التي عملت على الهيمنة والسيطرة على العديد من الدول العربية والإسلامية.

ولقد تمكّنت المرجعية الدينية عبر تاريخها الطويل، من إفشال العديد من المخططات الاستعمارية التي كانت تستهدف أمن واستقرار البلاد العربية والإسلامية.

وفي سبيل ذلك ثمة نماذج تاريخية مرجعية نزلت إلى الميدان وثبّتت مشروع المواجهة المباشرة للمخططات الاستعمارية، كما تمكّنت المرجعية الدينية من الحفاظ على الهوية الإسلامية ومنع التعدي عليها. وبكلمة نستطيع القول: إن المرجعية الدينية في أطوارها التاريخية المتعدّدة كانت هي خط الدفاع الأول عن الهوية الإسلامية وحفظ مصالح البلاد والعباد. وبفعل الدور المركزي الذي كانت تقوم به المرجعية الدينية، توجّهت إليها المؤامرات الاستعمارية لتشويه سمعتها ودورها، ولإجهاض حالة التصدي العام الذي كانت تقوم به المرجعية الدينية. وبفعل ضغوطات المستعمر ومن بعده المستبد المحلي الهائلة على المرجعية الدينية، وبفعل إخفاق بعض الخطوات والمبادرات المرجعية.. ساهم هذا الظرف بكل أبعاده في إيقاف حركة المرجعية الدينية المتصدية للشأن العام.

وبفعل الضغوطات السياسية الهائلة وتفكيك بعض عناصر القوة والتأثير لدى المرجعية الدينية، وبفعل طبيعة الاهتمام بالشأن السياسي والتصدي لشؤون الأمة من جهة ثالثة؛ فقد أصيبت الحركة المرجعية في بعض محطاتها التاريخية ببعض العطب والإحباط العميق الذي منع أو عرقل المرجعية الدينية من التصدي السياسي المباشر لشؤون الأمة.

وتراجع من جرّاء هذا الدور التاريخي الذي كانت تقوم به المرجعية الدينية.. فبين السيد محمد حسن الشيرازي، والسيد محمد سعيد الحبوبي، والشيخ الأخوند الخرساني وغيرهم من الأسماء المرجعية مسافة كبرى على مستوى الاهتمام والتصدي السياسي المباشر. وقد «لمعت في النجف الأشرف آنذاك أسماء سيظل لها دوّيها فترة طويلة كالسيد مهدي بحر العلوم الكبير، والشيخ جعفر كاشف الغطاء، ونجله الشيخ موسى كاشف الغطاء، والشيخ محمد حسن صاحب الجواهر، والشيخ مرتضى الأنصاري. ولعل من أبرز مؤشرات النمو والتطور فكرة تنظيم عمل المرجعية التي ظهرت في أواخر القرن الثامن عشر الميلادي على يد السيد مهدي بحر العلوم الكبير، حيث أرشد الناس إلى تقليد تلميذه الشيخ جعفر كاشف الغطاء، وعيّن لإقامة الصلاة الشيخ حسين نجف، وللقضاء الشيخ شريف محي الدين، وأمر السيد جواد العاملي بالتأليف.

وجاء الشيخ موسى كاشف الغطاء في القرن التاسع عشر ليؤكّد هذه الخطوة وينسق أعمال المرجعية على هذا الأساس. وفي عام ١٢٣٧هـ - ١٨٢٢م برز تطور مهم له دلالاته بين الدولتين العثمانية ممثلة بوالي بغداد داوود باشا والدولة القاجارية ممثلة بمحمد علي بن فتح علي شاه القاجاري، ولقّب إثر ذلك بـ(مصلح الدولتين) إضافة إلى لقب (سلطان العلماء) الذي أطلقته الحوزة العلمية عليه؛ لما كان له من هيبة ورئاسة روحية، وما حظي به من انقياد العلماء لزعامته، وبذلك تكون المرجعية قد أطلّت على عالم السياسة وسجّلت أول أدوارها فيه بالنسبة إلى تاريخها المعاصر»[2].

وبإمكاننا تكثيف التاريخ المرجعي وعطاءات المرجعية الدينية من خلال الأفكار التالية:

1. الوقوف والتصدي الشامل ضد كل المخططات الاستعمارية والاستبداد الداخلي الذي كان يستهدف الأمة في عقيدتها ومصالحها النوعية.

2. الحفاظ عبر البرامج الثقافية والتوعوية والدينية على الهوية الإسلامية، والحؤول دون الاختراق الثقافي للمسلمين، وإعطاء الأولوية إلى الحوزة العلمية رعاية واهتمامًا وتطويرًا وإصلاحًا.

3. تبنّي خطاب الإصلاح الديني والثقافي، والتغيير الاجتماعي والثقافي والسياسي.

4. تبنّي خطاب ومشروع الدولة الإسلامية، ونقد كل المشروعات السياسية الاستبدادية التي تبتعد في خياراتها وممارساتها عن خيارات الإسلام وممارساته التاريخية.

الدولة المدنية من الشيخ محمد حسين النائيني إلى السيد علي السيستاني

يعتبر الشيخ النائيني هو المنظّر الفقهي والمدني الأبرز للحركة الدستورية في الحوزة العلمية - الشيعية؛ إذ تعتبر رسالته الفقهية المعنونة بـ(تنبيه الأمة وتنزيه الملة) من أوائل الرسائل العلمية والفقهية التي أثبت فيها مشروعية الحركة الدستورية. ولو تأملنا في مواقف ورؤية السيد السيستاني مع الدولة العراقية الراهنة، التي تشكّلت بعد ٢٠٠٣م، لوجدنا أنها آراء ومواقف تعكس قناعة السيد السيستاني ببناء دولة مدنية لكل العراقيين، بحيث تكون دولة للجميع، ويشارك الجميع فيها على قدر المساواة والكفاءة؛ لذلك فإن السيد السيستاني قَبِل وشجّع أن تكون دولة العراق بعد سقوط الديكتاتورية هي دولة ديمقراطية تعددية ونظامها السياسي تمثيلي، ولقد عمل السيد السيستاني مع اتّضاح معالم رؤية بريمر الحاكم العسكري الأمريكي للعراق، على أن كل الخطوات الكبرى التي يتشكّل منها النظام السياسي الجديد، هي بحاجة إلى تصويت وأخذ رأي الناس فيها؛ لأن شرعية النظام السياسي -وفق رؤية السيد السيستاني- هي نابعة من اختيار الناس إليها، فشرعية النظام السياسي نابعة من مدى تمثيله لرأي وإرادة الناس. فـ«لعبت المرجعية الدينية العليا في النجف الأشرف دورًا رئيسيًّا في العملية السياسية الجارية في العراق، فأسّست المرتكزات، وواكبت تحوّلاتها، ورعت مسيرتها، وكان لمواقفها الأثر البالغ في الحفاظ على الوحدة الوطنية، والسعي لإنجاز الاستقلال والسيادة، والعمل لإنهاء الاحتلال، من خلال الحث لإعادة بناء الدولة ومؤسساتها، على أساس الالتزام بالقانون، ومبادئ العدالة والمساواة واحترام الآخر وتفعيل المشاركة الشعبية»[3].

ولو تأمّلنا في الخطوات التي قام بها السيد السيستاني لوجدنا أنها كلها خطوات في سبيل بناء دولة مدنية، تمثيلية. ويمكن في هذا السياق الإشارة إلى الخطوات العملية التي قام بها السيد السيستاني وهي:

1. حماية الممتلكات العامة للدولة، وعدم جواز التعدّي على كل مؤسسات ومنشآت الدولة، وله فتاوى فقهية عديدة في هذا السياق والمعنى؛ لأنه لا يمكن أن تبني دولة بدون احترام ممتلكات هذه الدولة، لذلك وجّه السيد السيستاني كل وكلائه الشرعيين إلى أهمية العمل على صيانة وحماية الممتلكات العامة، ومؤسسات الدولة وحدها هي المعنية بالتصرف بهذه الممتلكات وإدارتها.

2. إن الشعب العراقي بكل تعبيراته الفكرية والسياسية، هو وحده المعني في اختيار نوع النظام السياسي للعراق... وبالتالي فإن قوى الاحتلال مهما تعاظم دورها وشأنها، ليس لها حق تعيين شكل نظام الحكم في العراق. وجاء في أسئلة موجهة إلى مكتب السيد السيستاني في النجف عن ما هي رؤيتكم أي السيد السيستاني لمستقبل الحكم في العراق؟.. فكانت الإجابة: المبدأ الذي يؤكّد عليه سماحته هو أن الحكم في العراق يجب أن يكون للعراقيين بلا أي تسلّط للأجنبي، والعراقيون هم الذين لهم الحق في اختيار نوع النظام بلا تدخل للأجانب.

3. علماء الدين وفق رؤية السيد السيستاني ليست لهم حظوة سياسية، ودعاهم إلى عدم الانشغال بالأدوار والمهام التنفيذية في الدولة.. فـ«لا يصح أن يزجّ برجال الدين في الجوانب الإدارية والتنفيذية، بل ينبغي أن يقتصر دورهم على التوجيه والإرشاد والإشراف على اللجان التي تتشكّل لإدارة أمور المدينة وتوفير الأمن والخدمات العامة للأهالي»[4].

وفي أسئلة موجّهة من صحيفة نيويورك تايمز إلى سماحة السيد السيستاني حول هل المرجعية الدينية ستطالب بموقع لها في مستقبل الحكم في العراق، كان الجواب: غير وارد[5].

فالمرجعية الدينية ليس لها موقع سياسي خارج نطاق دورها ووظيفتها التاريخية المعلومة. ووجود نماذج مرجعية متفاوتة على هذا المستوى يعود في تقديرنا إلى طبيعة الظروف السياسية والاجتماعية القائمة، وإلى تفاوت الطاقات المتوفرة لدى كل مرجعية دينية، إلَّا أن هذا التفاوت في المصاديق الخارجية لا يؤسس لأدوار سياسية خارج نطاق الدور المرجعي التاريخي والمعلوم.

والدولة المدنية في ظل المجتمعات المتعدّدة والمتنوّعة، لن تتمكن من تحقيق مفهوم العدالة إلَّا عبر الحياد القانوني؛ فهي تحترم كل الأديان والمذاهب والأفكار الكبرى التي يتبنّاها الناس، دون أن تنتصر لرأي واحد أو فكرة واحدة. وهذا -بطبيعة الحال- لا يعني أن الدولة المدنية بلا موقف أو رؤية من تطورات وتحولات العالم، وإنما يعني أن مواقف ورؤى الدولة المدنية من تحوّلات وتطوّرات العالم، نابعة من خيارات الدولة المدنية وقوانينها الأساسية والمصالح العليا لشعب الدولة المدنية.

الدولة المدنية وصناعة المستقبل

يبدو من مختلف المعطيات والحقائق الجيوسياسية، أن المنطقة لن تتمكن من الاستقرار السياسي العميق إلَّا بتفكيك الدولة الاستبدادية المهيمنة على كل شيء؛ لأن تفكيك هذه الدولة هو الذي يفتح المجال واسعًا، للتحكم بالراهن والمستقبل.. ولقد أبانت كل الأحداث والتطورات أن الدول الديكتاتورية هي المسؤولة عن تجويف كل الإمكانات والقدرات، كما أنها هي العقبة الفعلية التي تمنع التقدّم والتحرّر من كل العراقيل والمعيقات التي تمنع السيطرة على أسباب التطور والتقدم. فالدولة المستبدة والمتغوّلة على شعبها والمهيمنة على كل مقدراته، هي المشكلة الحقيقية التي تمنع التقدم وصناعة المستقبل بما يرضى به أبناء الشعب.

لذلك فإن الخطوة الأولى في مشروع التقدم، هو تفكيك الدولة الظالمة المستبدة والمسيطرة على كل القدرات والامكانات.

وفي تقديرنا أن الرؤية التي يتبنّاها السيد السيستاني في ضرورة بناء دولة مدنية - تمثيلية – ديمقراطية، هي البداية الفعلية لامتلاك أسباب التقدم والتطور في مجتمعاتنا، وذلك للاعتبارات التالية:

1. إن قوة الدولة وصلابتها الحقيقية نابعة بالدرجة الأولى من التفاف الناس عليها وتمثيلها لقوى الناس المختلفة. ويبدو من مختلف الوقائع أن الدولة المدنية التي تمثّل جميع الحساسيات والاعتبارات هي القادرة على صياغة المجتمع على أسس أكثر عدالة وحرية، وهذا ما تحتاجه مجتمعاتنا العربية والإسلامية.

ولعلنا لا نجانب الصواب حين نقول: إن قدرة النخب السياسية والاجتماعية والدينية في العراق على بناء دولة مدنية، هي القادرة على إنهاء كل المشاكل التي تعاني منها الساحة العراقية.

فالدولة ليست مزرعة لنخبة أو فئة أو شريحة أو طائفة، والتعاطي مع الدولة بوصفها مزرعة، هو السبب العميق لفشل النخبة السياسية في العراق، ولا علاج إلَّا بتغيير البنية السياسية والثقافية.. التغيير الذي لا يؤسّس للفوضى، كما لا يعيد صناعة المعادلة القائمة بحيث تسيطر الدولة على كل المقدرات والطاقات.

2. إن الدولة المدنية في حقيقتها وجوهرها، تقف بالضد من دولة الرأي الواحد والزعيم الواحد.

وأغلب مشاكل العراق الحديثة، تعود في جوهرها إلى البعد التاريخي، حيث الدولة العراقية التي هيمنت على العراق عقود طويلة، هي دولة الزعيم الأوحد الذي يسيطر على كل شيء في الدولة. والتحرر من شكل هذه الدولة بدون التحرر من بنيتها، يعيد إحياء المشكلة ذاتها مع تغيّر عميق في الشريحة أو الطبقة التي تتحكم بالدولة.

وهذا بطبيعة الحال، لا يؤسس إلى حالة صحية في الاجتماع السياسي العراقي.

لذلك فإن بناء الدولة المدنية في العراق يتطلّب الالتزام بقيم الحرية والتعددية، بحيث تكون الدولة لجميع المواطنين.. والوصول إلى هذا المستوى يتطلب:

1. التحرّر من ثقافة الشعارات الفضفاضة، التي لا تغيّر من الواقع شيئًا. والعراق لا يحتاج إلى شعارات أيديولوجية كبرى، وإنما يحتاج إلى أعمال عظيمة وكبرى في كل الحقول والمجالات.

2. بناء حقائق المشهد السياسي على أسس التنافس السياسي، وليس الطائفي أو القومي؛ لذلك فثمة حاجة لبناء أحزاب سياسية وطنية بعيدًا عن الانقسام الطائفي والقومي، فالتحرر من الانقسامات الطائفية والقومية في العراق يقرّب المشهد العراقي من بناء دولة، ليست مزرعة لأحد من المكونات أو القوى السياسية، ويصوغ الواقع العراقي على أسس أكثر صلابة وقدرة على الاستمرار.

3. إن المجتمعات المتنوعة والمتعددة، بحاجة إلى دولة حاضنة لجميع حقائق التنوع الموجودة في المجتمع. وفي تقديرنا، إن العراق بوصفه مجتمعًا متنوعًا، هو بحاجة إلى دولة متعالية على انقسامات المجتمع، دون الاستعلاء على المجتمع، وهذه الدولة هي الدولة المدنية التي تنطلق من مبادئ وأسس يقبلها الجميع وفي الوقت ذاته قادرة على احترام كل الحساسيات والاعتبارات.

وهذا لن يتم إلَّا في ظل دولة مدنية، تمثيلية، ديمقراطية، وأية دولة أخرى ستكون بطريقة أو أخرى طاردة لبعض الشرائح والمكونات.

فعدالة الدولة في العراق اليوم، مرهونة مع قدرة العراقيين، على بناء دولة مدنية، محايدة تجاه عقائد كل المواطنين، ومعبرة عن احترام عميق لعقائد الجميع أيضًا.

ودون ذلك سيبقى العراق يعاني الكثير من الويلات. والشراكة السياسية في العراق مرهونة إلى حدٍّ بعيد إلى طبيعة الدولة والنظام السياسي والإداري فيها.

ويبدو وبفعل حالة الانقسام الطائفي والقومي في العراق، ووجود تنوّعات مع طموحات سياسية مختلفة، لن يستقر وضع العراق إلَّا بدولة لجميع العراقيين. ولا دولة لجميع العراقيين إلَّا الدولة المدنية.

والوصول إلى بناء دولة مدنية في العراق، ليس مستحيلًا وإنما هو بحاجة إلى ثقافة سياسية جديدة في العراق تُعلي من شأن القيم المدنية دون الافتئات على القيم الدينية.

وبحاجة إلى حوامل بشرية، تسعى لتبنّي خيار الدولة المدنية بوصفها هي خشبة الخلاص لكل العراقيين.

الهوية الوطنية العراقية وخطر نظام المحاصصة

في كل الحقب والأحوال التي مرّت على الشعب العراقي، ثمة اعتزاز عميق لدى كل مواطن عراقي بهويته العراقية. قد يختلفون في السياسة والرياضة والمواقف الخارجية، إلَّا أن جميع العراقيين يعتزّون بعراقيتهم، ويتغنون بمساحة العراق كلها بدون زيادة أو نقصان. فالهوية العراقية عميقة لدى الإنسان العراقي، والاعتزاز بالعراق عميق وراسخ لدى جميع العراقيين.

أقول: إن أغلب الأنظمة السياسية التي حكمت العراق بنِسَب متفاوتة، ليست مقبولة لدى كل العراقيين، إلَّا أن رفضهم أو عدم قبولهم لنظام الحكم في بلادهم، لم يقلل لدى الشعب العراقي مستوى اعتزازهم بالعراق والهوية الوطنية.

وقد ينقسم الشعب العراقي في موقفه تجاه نظام الحكم، إلَّا أنهم جميعًا يعتزون بهويتهم الوطنية ويتسابقون بعضهم مع بعض في إبراز مدى تمسُّكهم بالعراق كله، ولم يسجل التاريخ أن بعضهم عبَّر عن رفضه للعراق وهويته الوطنية والعربية. وأخطاء السياسة على العراقيين لم تتحوّل إلى رفض لهويتهم الوطنية، بل في زمن الأزمات والمشاكل الضاغطة عليهم ازدادوا تمسّكًا بالعراق وعبّروا عن حبهم اللامحدود للعراق تاريخًا وثقافةً ووقائع اجتماعية ووطنية؛ لذلك فإن الهوية الوطنية لدى كل مكونات الشعب العراقي راسخة وعميقة، وثمة تعابير عديدة يبدعها المواطن العراقي للتعبير عن تمسّكه واعتزازه بهويته الوطنية. وفي تقديرنا، إن عدم ضمور الهوية الوطنية العراقية يعود إلى تمسّك كل العراقيين بهذه الهوية، وفصل هذه الهوية عن شكل وطبيعة النظام السياسي.

فالرأي والموقف يكون من النظام السياسي دون أن يتعداه إلى الوطن وهويته الجامعة لكل العراقيين. وحين التأمّل في التجارب السياسية العديدة التي مرّت على الشعب العراقي، ندرك أن الاعتزاز العميق بالهوية الوطنية العراقية ساهم في وحدة العراق، وساهم في ضمور كل النزعات التقسيمية في العراق. ووجود مشكل كردي في العراق لا يساوي أن ثمة نزعة تقسيمية عميقة لدى المكون الكردي العراقي، فحتى الأكراد الذين تعرّضوا إلى مشاكل وأزمات عديدة من أنظمة الحكم في بغداد، إلَّا أنهم جميعًا يعتزون بعراقيتهم ويعبرون عن هذا الاعتزاز بوسائلهم الخاصة والاجتماعية. وبروز هذه النزعة الانشقاقية لديهم الآن يعود إلى عوامل سياسية وتحوّلات اجتماعية ساهمت في بروز هذه النزعة للحفاظ على مصالحهم ومكاسبهم القومية. ومع نضوج هذه النزعة لديهم في هذه الحقبة من الزمن، إلَّا أنني لا زلت على قناعة عميقة أن إصلاح أوضاع بغداد السياسية والاقتصادية والاجتماعية، سيساهم في تخلي المكون الكردي عن قبول الانفصال عن العراق.

وهذا بطبيعة الحال يعود إلى نظام الحكم الحالي في بغداد، هل يتمكّن من بناء نظام سياسي واقتصادي وأمني أقرب إلى العدالة واستيعاب كل المكونات العراقية؟.. أحسب أن هذه المنجزات المنتظرة من النظام السياسي العراقي الحالي، هي القادرة على إماتة كل النزعات الانشقاقية لدى كل مكونات وتعبيرات العراق، ووجود أحزاب وكتل كردية تتبنى هذا الخيار، لا يعني بأي حال من الأحوال أن الشعب الكردي العراقي تخلَّى عن عراقيته أو يعمل للانفصال والانشقاق عن الوحدة الوطنية العراقية؛ لذلك فإننا نجد أن أغلب الشعب الكردي يعرف اللغة العربية ويعبّر بها عن كل طموحاته وتطلّعاته، وبعضهم أبدع شعرًا وأدبًا وكتابةً باللغة العربية.

وعليه فإن الذي ساهم ويساهم في تخريب الهوية الوطنية العراقية، هو طبيعة وبنية الأنظمة السياسية التي حكمت العراق في العصر الحديث، حيث إن هذه الأنظمة السياسية لم تكن على مستوى بنيتها الداخلية وإجراءاتها السياسية والأمنية والإدارية بمستوى الهوية العراقية الجامعة؛ لذلك فإن أغلب الأنظمة السياسية العراقية ساهمت بطريقة أو أخرى في إضعاف الهوية الوطنية العراقية، وإنتاج مشاكل سياسية ومجتمعية تساهم في إضعاف الهوية الوطنية العراقية، إلَّا أن الشعب العراقي بكل مكوناته وأطيافه وقف بالمرصاد ضد كل محاولة لتخريب الهوية الوطنية العراقية. وتمسك الشعب العراقي إلى الآن بهويته الوطنية لا زال عميقًا ومصدر اعتزاز لدى كل المكونات.

ومن المؤكد على هذا المستوى أن نظام المحاصصة الطائفية في العراق، يساهم في تخريب الهوية الوطنية الجامعة، وإن استمرار هذا النظام قد يُفضي إلى نتائج سلبية على مستوى التكوين الوطني العراقي؛ لذلك فإن رفض نظام المحاصصة الطائفية في العراق، هو ينسجم مع الهوية الوطنية العراقية، والإسراع في إنهاء هذا النظام هو الذي سيخلّص العراق من مشروع بقفازات ناعمة يستهدف تقويض الوحدة الوطنية العراقية. ولا ريب في أن أي جهد يبذل لتقويض الهوية الوطنية العراقية هو يخدم تفجير مجتمعات دول المشرق العربي من الداخل عبر تضخيم هوياته الفرعية، بحيث لا تكون هذه الهويات الفرعية منسجمة مع بعضها، وهذه الحالة بكل متوالياتها هي الخطوة الأولى في مشروع التقسيم والتشظي الذي ينتظر كل دول المشرق العربي.

ورفض نظام المحاصصة هو أيضًا الخطوة الأولى في مشروع إفشال كل المخططات التي تستهدف تمزيق العراق وأي بلد عربي مشرقي آخر.

وإننا نعتقد وبعمق أن الشيعة في العراق لا يربحون أي شيء من نظام المحاصصة. كما أن السنة في العراق كمكوّن أصيل من مكونات الشعب العراقي لا يربح أي شيء من نظام المحاصصة.

وعلى الجميع أن يدرك هذه الحقيقة، ويعمل وفق إمكاناته وممكناته لإفشال خيار التقسيم للعراق.

ولعل الحقيقة الكبرى التي تساهم في إفشال هذه المخططات هي الهوية الوطنية الجامعة التي يعتز بها كل مواطن عراقي. وقد صمد الجميع في التمسّك بهذه الهوية الوطنية، ولن يخضعوا لكل المحاولات التي تستهدف التفريط في الوحدة الوطنية العراقية. فلا خيار فعليًّا أمام العراقيين إلَّا التمسّك بعراقيتهم والاعتزاز بها، وبناء نظام سياسي تعددي - تشاركي - ديمقراطي.



[1] محسن كديور، الحكومة الولائية، بيروت: دار الانتشار العربي، ص١٩.

[2] عبد الكريم آل نجف، من أعلام الفكر والقيادة المرجعية، بيروت: دار المحجة البيضاء، الطبعة الأولى، ١٩٩٨م، ص ٢٢ - ٢٣.

[3] حامد الخفاف، النصوص الصادرة عن سماحة السيد السيستاني في المسألة العراقية، دار المؤرخ العربي، الطبعة الأولى، ٢٠٠٧م، ص٥.

[4] حامد الخفاف، مصدر سابق، ص١٢.

[5] حامد الخفاف، مصدر سابق، ص ١٧.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة