تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الصداقة والصديق عند التوحيدي

قسول ثابت

الصداقة والصديق عند التوحيدي

 

الدكتور قسول ثابت*

 

*       جامعة سيدي بلعباس، الجزائر.

 

من الحقائق المتّفق عليها بين أكثر الباحثين أن القرن الرابع الهجري هو العصر الذي وصلت فيه العلوم والفنون والآداب إلى أعلى درجات الرقي التي بلغتها، وإذا كان العصر العباسي الأول هو العصر الذهبي للدولة العربية الإسلامية، وفيه نقلت العلوم القديمة إلى العربية، وفي العصر العباسي الثالث نضجت العلوم على اختلاف موضوعاتها[1].

في هذا الجو نشأ أبو حيان التوحيدي وفتح عينيه على عصر من أخصب العصور معرفة، ساعدته على ترك إنتاج خصب في أكثر نواحي المعرفة، وليس غريبًا إلى مثله أن يترك للأجيال مثل هذه الثروة الضخمة النادرة في قيمتها، خاصة أنه عاش قرابة القرن أو يزيد، ولأنه أجاد فن التأليف وقضى عمره في تحصيل المعرفة والتدوين، ولم يكن يحسن شيئًا آخر غير ذلك، لهذا جاءت مؤلفاته غزيرة في كمّها، عميقة في فكرها، ولولا أنه أحرقها في آخر حياته لكانت الفائدة أعم[2].

ومن ميزات التوحيدي أنه كان أميل إلى فلسفة التشاؤم منه إلى فلسفة التفاؤل، نتيجة لما قاساه من الحرمان وكابده من مرارة الغربة وذل الفقر، وما عاناه من الإخفاق المتكرّر في كل مساعيه ولم يكن في الأصل صاحب مزاج سوداوي يغلب عليه الحزن والانقباض وإنما كان محبًّا للحياة مقبلًا عليها، وهو يدرك ذاك تمامًا ويقرّر أن من شقّ أمله شقّ عمله، ومن اشتدّ إلحاحه توالى غدوه ورواحه، ومن أسره رجاؤه طال عناؤه وعظم بلاؤه، ومن التهب طمعه وحرصه ظهر عجزه ونقصه[3].

ومن أهم مؤلفاته التي لها علاقة بالإشكالية المطروحة كتاب: «الصداقة والصديق»، ورد الاسم مختلفًا في بعض المراجع وهو «الصديق والصداقة»، «الصديق والتصديق»، وهو أول ما نشر من كتب أبي حيان التوحيدي، ولقد جمع في هذا الكتاب أكثر ما قيل في موضوع الصداقة والتصديق عند العرب في الجاهلية والإسلام شعرًا ونثرًا، ونقل كذلك عن الفرس واليونان وغيرهم من العجم.

قال أبو حيان عن سبب تأليفه: «سمع مني في وقت من مدينة السلام كلام في الصداقة والعشرة والمؤاخاة والألفة، وما يلحق بها من الرعاية والحفاظ والوفاء والنصيحة والبذل والمواساة والجود والكرم بين الناس، وعفا أثره عند العام والخاص وسُئلت إثباته ففعلت»[4].

يلاحظ على الكتاب أن أبا حيان التوحيدي نقل أكثر ما دوّنه فيه بخلاف ما يوحي به النص السابق من أن له فيه كثير من الآراء الخاصة، كما أنه بدأ في تأليفه سنة 380 وقد كان في حالة نفسية سيئة مليئة بالألم والمرارة وسوء الظن بالأصدقاء والصداقات بل بجميع الناس، ولهذا كانت الرسالة صادقة إلى حد بعيد في تصوير نفسية أبي حيان، فالرسالة تمثّل عهدًا من حياته يختلف كل الاختلاف عمَّا تمثّله المقدمة والخاتمة من حيث عمره وصلاته بالناس، والغالب أن أبا حيان كتب المقدمة والخاتمة عند تبييض الرسالة بعد تأليفها بنحو ثلاثين عامًا[5].

وقد انعكس ذلك على الكتاب وخاصة في المقدمة التي تظهر عليها سمة تشاؤمية صادرة عن روح التوحيدي الكئيبة، الذي قضى حياته تعسًا وراء صديق مخلص، مما جعله يُبادر إلى انكار مفهوم الصداقة المثالي الذي وضعه أرسطو في قوله: «الصديق هو أنت إلَّا أنه بالشخص غيرك»[6].

فالتوحيدي يبدأ كتابه بقوله: «وقبل كل شيء ينبغي أن نثق أنه لا صديق إلَّا من يشبه الصديق»، ثم يُورد بعد ذلك «جميل بن مرة» الذي لزم بيته واعتزل الناس، ولما عُوتب عن ذلك احتجَّ بقوله: «صحبت الناس أربعين عامًا فما رأيتهم غفروا لي ذنبًا، ولا سترو لي عيبًا، ولا أقالوا لي عثرة، ولا رحموا لي عبرة، ولا قبلوا لي معذرة، ولا فكوني من أسرة، ولا جبروا مني كسرًا، ولا بذلوا لي نصرًا، ورأيت الشغل بهم تضييعًا للحياة، وتباعدًا من الله، وتجرّعًا للغيض مع الساعات، وتسليطًا للهوى في الهات بعد الهات»[7].

وإن كان التوحيدي لا يُؤمن بالصداقة والتصديق، فذلك أمر طبيعي يعود بالدرجة الأولى إلى تجاربه الخاصة، ففي مقدمة الكتاب أراد أن يلفت الأنظار إلى ما وصل إليه من يأس تامٍّ وزهد في كل شيء؛ لأن مقدمة الرسالة كتبت قبل إحراق كتبه بقليل، وأنه فعل ذلك مدفوعًا باليأس والاعتقاد بأن كل ما خلا الله باطل[8].

وقد كان في مقدمة الصداقة والصديق من العجب والبديع، وجاء فيها على لسان التوحيدي: إنا كتبنا هذه الحروف على ما في النفس من الحرقة والأسف والحسرة والغيض والكمد والومد، لأني فقدت كل مؤنس وصاحب ومرفق ومشفق، والله لربما صليت في الجامع فلا أرى إلى جنبي من يصلي معي، فإن اتّفق فبقّال أو عطّار أو ندّاف أو قصّاب، ومن إذا وقف بجانبي أمدرني بصنانه وأسكرني بنتنه حتى أصبحت غريب الحال غريب اللفظ غريب النحلة، مستأنسًا بالوحدة معتادًا للصمت ملازمًا للحيرة محتملًا للأذى يائسًا من جميع ما نرى، فشمس العمر على شفا، وماء الحياة إلى نضوب، ونجم العيش إلى أفول[9].

وفي هذا الكتاب حافظ التوحيدي على وحدة الموضوع خلافًا لبعض مؤلفاته، حيث جاءت الرسالة دون تقييم أو تبويب من الأقوال التي تتَّصل بالصداقة والصديق، سواء تُقرّ بفائدة الصداقة أو تنفيها.

والرسالة وإن اشتملت على كل ما يتعلّق بالصداقة من آراء، إلَّا أنها في جملتها تدعو إلى سوء الظن بالأصدقاء والصداقات، لأن أبا حيان استجاب فيها لتجاربه وطبيعته[10].

ومن مميّزات هذه الرسالة كذلك، ما انطوت عليه من تقريقات لفظية من الألفاظ المتشابهة، التي شاع استعمالها كمترادفات، مثل قوله في التفرقة بين الصداقة والعلاقة: الصداقة أذهب في مسالك العقل، وأدخل في باب المروءة، وأبعد من نوازي الشهوة، وأنزه من آثار الطبيعة، وأشبه بذوي الشيب والكهولة، وأرمى إلى حدود الرشاد وأخذ بأهداب السداد، وأما العلاقة فهي من قبيل العشق والمحبة والشقق والتهيم والهوى، وهذه كلها أمراض أو كالأمراض.

وهكذا فهو يعالج هذه الظواهر الاجتماعية بمعيار فلسفي نفسي، ويتحدّث عن تقارب النفوس وتباعدها وتداعي الطباع وتلاقيها، باستحياء صادق لدخائل النفوس وخلجات القلوب، فمناغاة الصديق أعبث بالروح وأندى على الفؤاد من مغازلة المعشوق، لأنها تفزع بحديث المعشوق إلى الصديق، ولا تفزع بحديث الصديق إلى المعشوق[11].

إن التوحيدي صرف الجزء الأخير من حياته في بغداد حيث كان يعيش في فقر، وفي أواخر حياته أحرق مكتبته، وقد ذكر ذلك في رسالته «الصداقة والصديق» أنه كان منبوذًا من الجميع.

وقد وصف التوحيدي الصداقة والصديق بقوله: «وقد أتت هذه الرسالة على حديث الصداقة والصديق وما يتّصل بالوفاق والخلاف، والهجر والصلة، والعتب والرضا، والإخلاص والرياء، والنفاق والحيلة والخداع، والاستقامة والالتواء، والاستكانة والاجتماع، والاعتذار، ولو أمكن لكان ذلك كله أتم بما هو عليه الآن وأجرى إلى الغاية صنعه الشيء إلى شكله وصبّه على قالبه، فكان رونقه أبين ورقيقه أحسن، ولكن العذر قد تقدّم، ولو أردنا أن نجمع كل ما قاله ناظم في شعره، وكل ناثر في لفظه، لكان ذلك عسيرًا بل متعذرًا، فإن أنفاس الناس في هذا الباب طويلة»[12].

ويعلل التوحيدي لمسائل غاية في اللطافة والدقة، ويفرّق بين بين أنواع الحب يكاد لا يُدركها أكثر الناس إن لم يكن العلماء، وإن أدركها هؤلاء قصروا في التعبير عنها، كقوله نقلًا عن أعرابي من بني هلال: «أما حنيني إلى والدي فلنعتز به، فإن الوالد عضد وركن يُعاذ به ويُؤوى له. وأما حنيني إلى الوالدة فللسقفة المعهودة عنها، ولدعائها الذي لا يعرج إلى الله مثله... وأما صبابتي بالعشيق فذاك شيء أجده بالفطرة والارتياح قلَّما يخلو منه كريم له في الهوى عرق نابض وفي المجون جواد راكض، وأما الصديق فوجدي به فوق شوقي إلى كل من نعته لك لأني أُباثُّه ما أجل أبي عنه، وكل هؤلاء مع شرف موقعهم مني وأقساهم إليَّ دون الصديق الذي عرضي له مباح. أرى الدنيا بعينيه إذا رَنَوْتُ، وأجد غايتي عنده إذا دنوت. إذا عززت ذلَّ لي، وإذا ذللت له عزَّ بي. وإذا تلاحظنا تساقينا كأس المودة، وإذا تصامتنا تناجينا الثقة، لا يتوارى عني إلَّا حافظًا للغيب، ولا يتراءى لي إلَّا ساترا للعيب»[13].

وقال سمعت ابن الجلاد يقول: «من لا إخوان له فلا مأثرة له، ومن لا ولد له فلا ذكر له، ومن لا مال له فلا مروءة له، ومن لا عقل له فلا دنيا له ولا آخرة له»[14].

والتوحيدي لا يعجزه أن يمدح الشيء ويرتفع به إلى عنان السماء ثم يذمه ويجعله في الحضيض، ثم يقيم الحجج والبراهين على وجهتي النظر المختلفتين سواء ألَّف هو أو نقل عن غيره. وقد سبقه الجاحظ إلى ذلك، وقد روى سيلًا من الأقوال والآراء والحكم ليصل في النهاية إلى أن الصديق الحق لا وجود له، قال سئل فيلسوف: من أطول الناس سفرًا؟ فقال: «من سافر في طلب الصديق»[15].

وعلّق على عبارة أرسطو: «الصديق إنسان هو أنت إلا أنه بالشخص غيرك» بقوله: إن الحد صحيح ولكن المحدود غير موجود[16].

فالصديق بمفهوم أبي حيان التوحيدي غير موجود، اللَّهم إلَّا أن يكون من ذلك النوع الذي يرثيه جحا، والذي يروي قصته التوحيدي بقوله: قال ابن كناسة كان جحا كوفيًّا وكان مولى لبني أسد، وقد روى الحديث وحمل عنه ومات له صديق، فظل يبكي خلف جنازته ويقول: «من لي يحلف إذا كذبت، ومن لي يحثني على شرب الخمر إذا تبت، ومن لي يغطّي عني الفسوق إذا أفلت، لا ضيعني الله بعدك ولا حرمني أجرك»[17].

وروي عن أبي عثمان النصيمي: «من لا إخوان له فلا تعب له، ومن لا ولد له فلا حجاب له، ومن لا مال له فلا حساب عليه، ومن لا عقل له فهو في الجنة».

ونقل عن العسجدي قوله: «الصداقة مرفوضة، والحفاظ معدوم، والوفاء اسم لا حقيقة له، والرعاية موقوفة على البذل والكرم فقد مات، والله يحيي الموتى»[18].

وقال: قلت: لابن الأبهري من الصديق؟ قال: من سلّم سرّه لك، وزيّن ظاهره بك، بذل ذات يده عند حاجتك، وعفَّ عن ذات يدك عند حاجته، يراك منصفًا وإن كان حائرًا، ومفضلًا وإن كانت ممانعًا، رضاه منوط برضاك وهواه محاط بهواك، إن ضللت هداك، وإن ظمئت رواك، وإن عجزت آداك، لبيب عنك بالجسم والرسم، ويشاركك في القسم والوسم[19].

ويعلّق التوحيدي على ذلك بقوله: «أما الوصف فحسن، وأما الموصوف فعزيز»، وقال: «إنما عزَّ في زمانك حيث جشت الأعراق وفسدت الأخلاق، واستعمل النفاق في الوفاق، وخيف الهلاك في الفراق»[20].

وذكر قال سفيان بن عيينة: «صحبت الكأس خمسين سنة، وما ستر أحد عورة، ولا ردّ عني عيبة، ولا عفا لي عن مظلمة، ولا قطعته فوصلني، وأخص إخواني لو خالفته في رمانة فقلت: هي حامضة، وقال: هي حلوة؛ لسعى بي حتى يثبط –يسفك- بدمي»[21].

إن صديقك هو كفاية حاجتك، هو حقلك الذي تزرعه بالمحبة وتحصده بالشكر، هو مائدتك وموقدك لأنك تأتي إليه جائعا وتسعى وراء مستدفئا.

وإذا صدمت صديقك ولم يتكلّم فلا ينقطع قلبك عن الإصغاء إلى صوت قلبه؛ لأن الصداقة لا تحتاج إلى الألفاظ والعبارات في إنماء جميع الأفكار والرغبات والتمنيات التي يشترك الأصدقاء بفرح عظيم في قطف ثمارها اليانعات، لأن القلب يجد صاحبه في الندى العالق بالأشياء الصغيرة فينتعش ويستعيد قوته[22].

ولقد طالت الرسالة على غير تقدير التوحيدي لأنه وعد بأنه سيختمها ببعض النوادر والأبيات، لأنها إذا طالت أبغضت، وإذا أبغضت هجرت، ولكنه لم يختمها إلَّا بعد (172) صفحة.

وأخيرا يمكن القول: إن كتاب الصداقة والصديق الذي كتب في أدق مرحلة من حياة التوحيدي، بما اشتمل عليه من الفقرات الجميلة، والمقطوعات البديعة، والأخبار الطريفة، والصور الفنية الرائعة، يعتبر تحفة فنية فريدة، تدل على روح حساسة ترتاح للصداقات وتطرب للإخوانيات.

 

 



[1] محمد عبد الغني الشيخ، أبوحيان التوحيدي رأيه في الإعجاز وأثره في الأدب والنقد، الدار العربية للكتاب، ج1، ص21.

[2] المرجع نفسه، ص855.

[3] أبوحيان التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، تحقيق: أحمد أمين، لجنة التأليف والترجمة والنشر، ص13.

[4] أبو حيان التوحيدي، الصداقة والصديق.

[5] المرجع السابق، ص886.

[6] المرجع نفسه، ص887.

[7] المصدر نفسه، ص11.

[8] أبو حيان التوحيدي، الصداقة والصديق، مصدر سابق، ص11.

[9] المصدر نفسه، ص8.

[10] عبد الرزاق محي الدين، أبو حيان التوحيدي، مكتبة الحانجي، ص6.

[11] الصداقة والصديق، المصدر السابق، ص113.

[12] المصدر نفسه، ص2.

[13] المصدر نفسه، ص182.

[14] المصدر نفسه، ص86.

[15] المصدر نفسه، ص66.

[16] المصدر نفسه، ص66.

[17] أبو حيان التوحيدي، البصائر والذخائر، تحقيق: إبراهيم الكيلاني، بدون طبعة، دمشق: مكتبة الأطلس، المجلد 2، ص121.

[18] المصدر نفسه، ص82.

[19] القسم: النصيب، الوسم: العلامة.

[20] التوحيدي، الصداقة والصديق، مصدر سابق، ص322.

[21] المصدر نفسه، ص387.

[22] موسوعة جبران خليل جبران المعربة، شرح: رويش الجويدي، صيدا - بيروت: الدار النموذجية للطباعة والنشر،  2010، ص ص147-148.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة