تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

كشف الحجاب عن الإعجاز الثاني في الكتاب

محمود الذوادي

كشف الحجاب
عن الإعجاز  الثاني في الكتاب

الدكتور محمود الذوادي*

 

* عالم اجتماع، جامعة تونس. البريد الإلكتروني: m.thawad43@gmail.com.

 

 

تأمّلات في اللغة والثقافة

برؤية يغلب عليها منظور العلوم الاجتماعية والإنسانية، نطرح هنا تأمّلات وأفكارًا حول اللغة والثقافة والعلاقة الرابطة بينهما من ناحية، وحول اللغة كأداة إعجاز في القرآن/ الكتاب، وكرمز أول متميّز في الوقت نفسه لكسب الجنس البشري وحده رهان تاج صفة الإنسانية من ناحية ثانية.

إنها حصيلة من الأفكار والرؤى ساعدت على ميلادها محاولة بحوثنا للتعمّق أكثر في خفايا وأسرار ما نسمّيه عالم الرموز الثقافية الذي بدأت التعرّف عليه والغوص في أعماقه منذ ما يقرب من عقدين من الزمن.

أتاح لنا السير على هذا الدرب اكتشاف معالم جديدة مستحدثة الصنعة غريبة النزعة، كما يقول ابن خلدون، في دنيا الرموز الثقافية كما سيتجلى ذلك هنا، وكما يتّضح أيضًا في كتبنا ودراساتنا ومقالاتنا العديدة باللغات الثلاث: العربية والإنجليزية والفرنسية.

معنى مفهوم الثقافة

يكثر الحديث اليوم عن الثقافة في المجتمعات البشرية بمعانيها العديدة المستعملة، مثل ثقافة النخبة المفكّرة، وثقافة النخبة السياسية، والثقافة البيئية، والثقافة الغذائية، وثقافة السياقة، وثقافة المزج اللغوي، وغيرها من الاستعمالات السائدة لكلمة الثقافة في مجتمعات عصر العولمة.

نودّ هنا أن نركّز على العلاقة الرابطة بين الثقافة بصفتها خاصية إنسانية مميّزة للجنس البشري من جهة، وملكة اللغة المميّزة هي الأخرى للإنسان عن غيره من الكائنات والأجناس الأخرى من جهة ثانية.

نستعمل هنا مصطلح الرموز الثقافية كمرادف لكلمة الثقافة، ويعني كل منهما عندنا العناصر التالية: اللغة والفكر والدين والمعرفة/ العلم والأساطير والقوانين والقيم والأعراف الثقافية وغيرها من العناصر الرموزية الثقافية التي يتّصف بها الإنسان وحده بقوة وتميّز في منظومته الثقافية.

اللغة رمز إنسانية الإنسان

عند التساؤل عن أهم عنصر في منظومة الرموز الثقافية يقف وراء ميلادها المميّز للجنس البشري، فإن اللغة البشرية المكتوبة والمنطوقة على الخصوص تكون هي وحدها المؤهّلة لبروز منظومة الرموز الثقافية/ الثقافة كما عرفناها أعلاه. فيصعب إذن تخيّل وجود بقية عناصر الرموز الثقافية كالدين والعلم والفكر، مثلًا بدون حضور اللغة البشرية في شكلها المنطوق على الأقل. ومن ثم جاءت مشروعية تأكيدنا المتكرّر في مقولة أبحاثنا المتعدّدة في العلوم الاجتماعية والإنسانية أن اللغة هي أم الرموز الثقافية جميعًا.

 يحظى موضوع اللغة باهتمام كبير بين الباحثين، فقد ذهب عالم النفس بنكر (Pinker) إلى القول بأن اللغة هي غريزة في الإنسان مثلها مثل قدرة الإنسان الغريزية على المشي. أي إنها شيء متجذّر ومبرمج في الطبيعة البشرية.

وهذا ما يفسّر نجاح كل الأطفال بكل سهولة على استعمال وحذق اللغة. فلو لم تكن المقدرة اللغوية أمرًا غريزيًّا مبرمجًا في عمق صميم الطبيعة البشرية لفشل عدد غير قليل من الأطفال في تعلّم اللغة كما يفشلون في تعلّم القراءة مثلًا.

وبعبارة أخرى فالقدرة على استعمال اللغة مسألة ديمقراطية متاحة لكل الناس في الظروف العادية، ولا يحرم منها إلَّا نزر قليل من الناس لأسباب خلقية أو لأسباب عارضة في حياتهم.

إن حرمان هؤلاء من استعمال اللغة لا يؤدّي بالضرورة إلى عجزهم على امتلاك بدرجات مختلفة بقية عناصر المنظومة الثقافية كالتفكير وممارسة العلم والمعرفة والتديّن والتأثّر بقيم وتقاليد المجتمع.

تمثّل ملكة اللغة هذه الغريزة البشرية، مخزونًا مركزيًّا وأساسيًّا في طبيعة الإنسان. ولهذا المخزون وجهان:

1- استعمال اللغة المنطوقة والمكتوبة.

2- الاستعداد والقدرة على استعمال بقية مكوّنات منظومة الرموز الثقافية.

إن حضور الوجهين للملكة اللغوية هو بالطبع الوضع المثالي لتمكين أفراد الجنس البشري من كامل تمتعهم بما هو موجود في هذا العالم، ومن ثم التأهّل الكامل للعب دور السيادة/ الخلافة فيه.

يرى العالمان نوبل (W.Noble) وديفدسن (I.Davidson) أن اللغة هي أداة التفكير الرمزي عند الإنسان. فهي التي تمكّنه من صياغة المفاهيم والأفكار ونشرها بين الآخرين. ففي نظرهما وقع الانفجار الثقافي الكبير (The Big Cultural Bang) في دنيا الإنسان بواسطة اللغة. فبها استطاع بنو البشر أن يبتكروا الفنون والتقنيات الجديدة للتعامل مع محيطهم.

وهكذا تتجلّى مركزية اللغة بوجهيها في تشكيل هوية الإنسان هذا الكائن الفريد على أديم هذه الأرض. ومن هنا، تأتي مشروعية القول بأن اللغة هي المصدر الذي لا ينضب في قدرته على مد الكائن البشري وحده بتاج صفة الإنسانية على مر العصور.

غياب اللغة في أشهر تعريف للثقافة

ونظرًا لمركزية ملكة اللغة في نشأة منظومة الرموز الثقافية، أو الثقافة بتعبير علمي الأنثروبولجيا والاجتماع على الخصوص، فإن وصف القدماء للإنسان بأنه حيوان ناطق وصف مشروع جدًّا؛ لأن اللغة المنطوقة والمكتوبة هما أكثر ما يميّز الجنس البشري عن بقية الأجناس الأخرى، ويعطيه السيادة عليها بواسطة منظومة الرموز الثقافية/ الثقافة. إنهما بكل المقاييس مصدر تأهّل بني البشر وحدهم بكل مشروعية إلى كسب رهان صفة الإنسانية، ومن ثم السيادة والخلافة في هذا العالم.

ورغم مركزية ملكة اللغة في هوية الإنسان، ومنه بروز منظومة الرموز الثقافية/ الثقافة في المجتمعات البشرية، فإن أشهر تعريف لمفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية الغربية المعاصرة لا يذكر اللغة كعنصر مركزي وأساسي في صلب منظومة الثقافة. أي إن اللغة هي العنصر الرئيسي المؤسس لظاهرة الثقافة البشرية، وهي من ثَمَّ جزء منها في الوقت نفسه.

وهذا ما لا نجده في أشهر تعريف أنثروبولوجي لمنظومة الثقافة، فقد عرف عالم الأنثروبولوجيا البريطاني إدوارد برنارد تيلر سنة 1871م الثقافة (Culture) بأنها « ذلك الكل المعقد الذي يتضمن المعرفة والعقيدة والفن والأخلاق والتقليد وأي مقدرات وعادات يكتسبها الإنسان كعضو في المجتمع Encyclopaedia of Sociology (1974:69).

يتمثّل قصور هذا التعريف التقليدي/ الكلاسيكي للثقافة في كونه لا يشير إلى اللغة ولا يعطيها الصدارة في مكوّنات منظومة الثقافة، والحال أن اللغة هي منشئة ظاهرة الثقافة نفسها بمعناها البشري الواسع والشديدة التعقيد، كما بيّنا.

أي إن هناك علاقة عضوية جدًّا بين اللغة ومنظومة ثقافتها عند بني البشر. ومن ثم، يجوز الحديث بمشروعية عن قصور تعريف تيلر لمفهوم الثقافة بسبب أنه لا يذكر بكل وضوح صدارة اللغة في تعريفه لظاهرة الثقافة البشرية، ذلك الكل المعقد، كما جاء في مضمون تعريفه السابق الذكر.

الإنسان كائن ثقافي بالطبع

يتبيّن ممّا سبق أن معلم الرموز الثقافية/ الثقافة هو بيت القصيد في هوية الكائن البشري. وبعبارة أخرى، فهذا الأخير يكسب صفة الإنسانية بسبب استعماله لهبة اللغة البشرية ورموز منظومتها الثقافية.

وبهذا التميّز اللغوي الرموزي الثقافي جاءت مشروعية هيمنة الإنسان على بقية الكائنات الحية والجامدة على حدٍّ سواء. أي إن تلك الهيمنة تأتي من الجانب غير المادي في هويته المزدوجة (الرموز الثقافية + الجسد) أي من الرموز الثقافية/ الثقافة.

وكما رأينا فإن ملكة اللغة هي مصدر تميّز الجنس البشري عن سواه بمنظومة الثقافة الإنسانية. فالإنسان إذن ليس حيوانًا ناطقًا فحسب كما قال قدماء الفلاسفة، بل هو أيضًا كائن رموزي ثقافي بالطبع.

وبعبارة أخرى، فتميّز الكائن البشري عن سواه من الكائنات الأخرى بالقدرة على استعمال مهارة اللغة في شكليْها المنطوق والمكتوب على الخصوص، أهّله بطريقة مشروعة لكي يكون وحده مخلوقًا لغويًّا رموزيًّا ثقافيًّا بالطبع.

وبمصطلح العلوم الاجتماعية الحديثة، يسهل القول: إن علاقة الارتباط قوية جدًّا بين ملكة اللغة عند بني البشر من جهة، وحضور ظاهرة الثقافة ذلك الكل المعقّد في المجتمعات الإنسانية من جهة ثانية.

تصور جديد لمركزية اللغة والثقافة في هوية الإنسان

هناك بالتأكيد مشروعية كبيرة لطرح سؤال محوري يصب في صميم الانشغال بفهم الإنسان، هذا المخلوق الفريد، إنه سؤال يتطلّبه ما يسمّى في دنيا العلوم بالبحث الأساسي (Basic research) في طبيعة الأشياء. وسؤالنا هو: هل الإنسان فعلًا كائن ثقافي بالطبع كما أشرنا أعلاه؟

إن الإجابة الوافية عن ذلك قد تحتاج إلى آلاف الكلمات في مقال أو دراسة أو كتاب أو حتى إلى عديد المجلدات. ويمكن للمرء أن يتبنّى مثلًا منظور الفلسفة أو العلوم الاجتماعية أو هما معًا لكي يكتب أطروحة متماسكة في هذا الموضوع. فنحن نعرف كم سال حبر أقلام الفلاسفة والمفكّرين الاجتماعيين على الخصوص من كل الحضارات وفي كل العصور حول مقولة مشابهة تتمثّل في: إن الإنسان مدني/ اجتماعي بالطبع.

ومن جهتنا نعتقد أنه ليس من الضروري الإطناب في النقاش والجدال في جوهر الحجج المؤكّدة لمركزية المنظومة الثقافية في طبيعة هوية الإنسان. فالمسألة يمكن حسمها في مقال لا يتجاوز خمسة آلاف كلمة. وكما يقال: فخير الكلام ما قلّ ودلّ أو البلاغة في الإيجاز.

وهذا ما نرغب في القيام به في طرح أفكار وصياغة حجج هذه المقالة نظريًّا وميدانيًّا، ولبلوغ ذلك نعتمد على الجمع بين العلوم الاجتماعية من ناحية، والعلوم الطبيعية من ناحية أخرى.

إذ يصعب التعمّق في فهم طبيعة الإنسان في غياب أيٍّ من هذه العلوم. فلا يجوز علميًّا تحليل ذات الإنسان وعمق كينونته بدون الحديث عن العوامل البيولوجية والفيزيولوجية/ الجسمية عند الإنسان.

كما لا تقبل محاولة فهم هذا الأخير بتهميش أو ترك جانب أهم ما يميّز الجنس البشري بطريقة فاصلة وحاسمة عن بقية الأجناس الحية الأخرى، وهي المنظومة الثقافية أو ما سميناه الرموز الثقافية: اللغة والفكر والدين والمعرفة/ العلم والأسطورة والقانون والقيم والأعراف الثقافية.

وللإجابة عن السؤال أعلاه نقول: نعم، إن الإنسان هو فعلًا كائن ثقافي بالطبع قبل أن يكون اجتماعيًّا بالطبع. يستند هذا القول إلى ملاحظات رئيسية حول خمسة معالم ينفرد بها الجنس البشري عن غيره من الأجناس الحية الأخرى:

1- يتّصف النمو الجسمي لأفراد الجنس البشري ببطء شديد مقارنة بسرعة النمو الجسدي الذي نجده عند بقية الكائنات.

2- يتمتّع أفراد الجنس البشري عمومًا بأمد حياة (سن) أطول من عمر معظم أفراد الأجناس الأخرى.

3- ينفرد الجنس البشري بلعب دور السيادة/ الخلافة في هذا العالم بدون منافسة حقيقية له من طرف باقي الأجناس الأخرى.

4- وكما ذكرنا من قبل، يتميّز الجنس البشري بطريقة فاصلة وحاسمة عن الأجناس الأخرى بمنظومة أطلقت عليها مصطلح الرموز الثقافية: اللغة، الفكر، الدين، المعرفة/ العلم، القوانين، الأساطير، القيم والمعايير الثقافية...

5- يختص أفراد الجنس البشري بهوية مزدوجة تتكوّن من الجانب الجسدي من جهة، والجانب الرموزي الثقافي (المشار إليه أعلاه في 4)، من جهة ثانية.

إن التساؤل المشروع الآن هو: هل من علاقة بين تلك المعالم الخمسة التي يتميّز بها الإنسان؟

أولًا: هناك علاقة مباشرة بين المعلمين 1 و 2. إذ إن النمو الجسمي البطيء عند أفراد الجنس البشري يؤدّي بالضرورة إلى حاجتهم إلى معدل سن أطول يمكّنهم من تحقيق مراحل النمو والنضج المختلفة والمتعدّدة المستويات، فالعلاقة بين الاثنين هي إذن من نوع العلاقة السببية.

ثانيًا: أما الهوية المزدوجة التي يتّصف بها الإنسان فإنها أيضًا ذات علاقة مباشرة بالعنصر الجسدي (المعلم 1) للإنسان والعنصر الرموزي الثقافي (المعلم 4).

ثالثًا:  عند البحث عن علاقة سيادة الجنس البشري في هذا العالم بالمعالم الأربعة الأخرى، فإن المعلمين 1 و 2 لا يؤهّلانه، على مستوى القوة المادية، لكسب رهان السيادة على بقية الأجناس الحية؛ إذ الإنسان أضعف جسديًّا من العديد من الكائنات الأخرى. ومن ثم يمكن الاستنتاج بأن سيادة الجنس البشري ذات علاقة قوية وربما مباشرة بالمعلمين 5 و4: الهوية المزدوجة والرموز الثقافية. والعنصر المشترك بين هذين المعلمين هو منظومة الرموز الثقافية.

وهذا ما يسمح بواقعية كبيرة بترشيح منظومة الرموز الثقافية للعب الدور المركزي والحاسم في تمكين الإنسان وحده من السيادة/ الخلافة في هذا العالم.

رابعًا: إن الرموز الثقافية تسمح أيضًا بتفسير المعلمين 1 و 2، وهو ما تجده العامة والخاصة أمرًا شديد الغرابة وباعثًا على الدهشة والحيرة. لكن كما يقال: «إذا عرف السبب بطل العجب». فالنمو الجسمي البطيء عند الإنسان يمكن إرجاعه إلى كون أن عملية النمو عنده تشمل جبهتين: الجبهة الجسمية والجبهة الرموزية الثقافية.

وهذا خلافًا للنمو الجسدي السريع عند الكائنات الأخرى بسبب اقتصاره على جبهة واحدة (الجسد) وبالتالي فقدانها لمنظومة الرموز الثقافية بمعناها البشري الرحب والمعقّد.

وبعبارة أخرى، يتطلّب النمو البشري على جبهتين مدة أطول لاكتمال عملية النمو على مستوى كل من الجبهتين، أي يجوز القول: إن مسيرة النمو على جبهة الجسد عند الطفل تعطّلها عملية نمو بعض عناصر جبهة منظومة الرموز الثقافية، كاللغة مثلًا.

واللافت للنظر بهذا الصدد أن بلوغ النمو الجسدي أوج نضجه يتمّ حوالي سن الخامسة والعشرين، بينما أن نضج عملية التفكير -كعنصر من منظومة الرموز الثقافية- لا يتمّ إلَّا بعد ذلك السن بأكثر من عقد، وعادة بعد سن الأربعين. أي كأن الانتهاء من عملية نضج دورة النمو الجسدي عند الإنسان يفتح لاحقًا الباب واسعًا أمام عملية النمو الكامل على مستوى عناصر منظومة الرموز الثقافية.

وهكذا تتّضح أهمية منظور الجبهتين في تفسير طبيعة مميّزات الجنس البشري عن الأجناس الأخرى في عدّة مجالات. إن الكشف عن أسرار وخفايا في الطبيعة البشرية قد تبدو عجيبة للوهلة الأولى لدى العامة والخاصة قد تُصبح مقبولة كحقائق تطمئن لها معظم قلوب وعقول الناس.

خامسًا: يلخص الرسم التالي مركزية الرموز الثقافية في ذات الإنسان، فيعطي بذلك مشروعية قوية لنظريتنا القائلة بأن الإنسان كائن ثقافي بالطبع. إذ تعرف النظرية الاجتماعية في علم الاجتماع على أنها أي محاولة لتفسير أي معلم من معالم الحياة الاجتماعية (Encyclopaedia of Sociology 1974:274).

فمقولة نظريتنا المنادية بأن الإنسان ثقافي بالطبع ليست قادرة فقط على تفسير سيادة/خلافة الإنسان في هذا العالم، بل تثبت قدرتها أيضًا على تفسير بطء نمو جسمه، وتمتّعه بعمر أطول من سن معظم الحيوانات على هذه الأرض، كما رأينا في الشرح أعلاه.

اللغة أم منظومة الرموز الثقافية

وبالإضافة إلى تلك القدرة التفسيرية لنظريتنا كما أبرزنا ذلك في الأمثلة المذكورة، فإن هذه النظرية تفسّر أيضًا أن اللغة هي مصدر/ منشئة منظومة الرموز الثقافية. أي إن اللغة هي أم الرموز الثقافية جميعًا. ومن ثم تصاب مثلًا الثقافة العالِمة في المجتمع بالخلل والتخلّف إن لم يستعمل كتّاب ومفكّرو وعلماء المجتمع اللغة/ اللغات الوطنية للمجتمع. ينطبق هذا الأمر في الوطن العربي على مجتمعات المغرب العربي التي وقع احتلالها من طرف فرنسا، فالاستعمال الواسع المستمر للغة الفرنسية اليوم في الجزائر وتونس والمغرب وموريتانيا لا يقتصر على ميادين العلوم الطبيعية فقط، بل هو يشمل أيضًا إلى حدٍّ كبير خاصة في المجتمع التونسي العلوم الاجتماعية والآداب وعمل الكثير من المؤسسات الوطنية والخاصة، وهذا ما أطلقنا عليه بظاهرة التخلّف الآخر (الذوادي، 002 2).

أستعمل اللغة إذن فأنا إنسان

إن التحليل السابق يؤكّد العلاقة الوثيقة بين اللغة والثقافة، حيث تكون اللغة هي السبب الرئيسي لبروز ظاهرة الثقافة الواسعة والمعقّدة عند الجنس البشري. فملكة اللغة والثقافة الناتجة عنها هما إذن سمتان مميّزتان للإنسان. أي إن هاتين السمتين هما مصدر إنسانية الإنسان، إذ بدونهما يفقد الإنسان إنسانيته من ناحية، ومشروعية سيادته/ خلافته في هذا العالم من ناحية أخرى.

وهكذا يتّضح أن اللغة في شكليها المنطوق والمكتوب هي المفتاح الأول الذي يمنح الإنسان وحده صفة الإنسانية. وهكذا يصحّ القول بهذا الصدد على الطريقة الديكارتية: أستعمل لغة إذن فأنا إنسان.

فلا معنى للحديث عن أسباب تكريم الإنسان في هذا العالم بدون الرجوع في المقام الأول إلى هبة ملكة اللغة التي يتميّز بها بنو البشر. فاستعمال اللغة هو بدون شك العلامة الرمزية الأسمى التي مكّنت الجنس البشري وحده من كسب رهان شرف تاج الإنسانية.

الإعجاز القرآني إعجازان

أ- الإعجاز الظاهر المتحدّي للعرب

اعتمادًا على الملاحظات والأطروحات السابقة حول مركزية اللغة في أنسنة أفراد الجنس البشري من كل المجموعات البشرية والشعوب والحضارات، فإنه يسهل فهم العبرة من تبني القرآن الكريم للإعجاز البياني لقريش وغيرها من القبائل العربية. فيجوز الحديث هنا عن صنفين من الإعجاز في القرآن لا صنف واحد كما هو معروف ومتداول في أدبيات المؤلّفات الكثيرة حول القرآن في القديم والحديث.

فمن المسلّم به أن القرآن يمثّل معجزة لغوية بيانية متحدية للعرب منذ مجيء الإسلام. وهذا ما نودّ تسميته بالإعجاز الظاهر للنص القرآني، أي الإعجاز البياني المعروف عند الخاصة والعامة. فالآيات القرآنية تتحدّث من جهتها عن ذلك بكل وضوح كقوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (العنكبوت، آية:50 - 51).

وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} (البقرة، آية: 23) ثم يشير القرآن إلى صفة الإعجاز العام في القرآن: اللغوي وغير اللغوي {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} (الإسراء، آية: 88).

فالإعجاز الظاهر/ اللغوي البياني القرآني الذي جاءت به الرسالة المحمدية يختلف مثلًا عن الإعجاز الذي تجلّى في رسالة السيد المسيح والمتمثّل بعضه فيما تذكره هذه الآية القرآنية {وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي المَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ...} (آل عمران، آية: 49).

يتمثّل الفرق بين الإعجازين في كون أن الثاني ذو طبيعة مادية بينما الأول ذو طبيعة رمزية/ لغوية بيانية. وبعبارة أخرى، فالإعجاز الظاهر/ اللغوي البياني القرآني هو من نوع الإعجاز الخاص الموجّه إلى العرب في كل من مكة ويثرب/ المدينة والجزيرة العربية عمومًا.

لقد أُلّفت العديد من الكتب المرجعية حول الإعجاز البلاغي في القرآن في القرون الأولى لانتشار الإسلام، فكان أبرزهم القاضي البلقاني (403 هجري) الذي ألّف كتابه «إعجاز القرآن» تحدّث فيه عن جوانب من الإعجاز البياني في القرآن الكريم، وتطرّق إلى فنون بلاغية عديدة مثل الاستعارة والتشبيه والكناية وغيرها من المعالم البلاغية.

أما علي بن عيسى الزماني (386 هجري) فقد ألّف رسالته «النكت في إعجاز القرآن»، وأكّد أن القرآن معجز ببلاغته وأنه أرقى درجات الكلام، وتحدّث عن الكثير من المصطلحات البلاغية المقترنة بالنص القرآني.

ويأتي تأليف كتاب «بيان إعجاز القرآن» في 388 هجري لأبي سليمان حمد بن محمد الخطابي، ليطرح موضوعًا جديدًا يتمثّل فيما سمّاه نظم القرآن، معتبرًا أن البلاغة القرآنية ترجع إلى جمال الألفاظ وحسن النظم وسمو المعاني والتأثير في النفوس.

وأخذ الأعجاز القرآني منعطفًا جديدًا بتأليف عبد القاهر الجرجاني (471 هجري) لكتابه «دلائل الإعجاز» الذي توسّع في الحديث فيه عن نظرية النظم فرأى أنها سر الإعجاز في القرآن الكريم.

يمكن القول إذن: إن اختيار القرآن للإعجاز البياني/ اللغوي ليس صدفة، وإنما هو أمر مقصود بالكامل نظرًا لشهرة العرب بالفصاحة والبلاغة، فالإعجاز القرآني في البلاغة والفصاحة للعرب في عهد بعثة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) برسالة الإسلام هو إعجاز يجوز وصفه بالخاص، وذلك بما للبيان اللغوي من بالغ الشأن عند العرب.

هذا النوع من الإعجاز الظاهر هو الذي يشار إليه بالبنان عند الخاصة وعند العامة في الثقافة العربية الإسلامية، كما أشرنا سابقًا. أي إن هناك إجماعًا كاملًا عند هؤلاء أن النص القرآني ليس له مثيل في الثقافة العربية في الفصاحة والبلاغة قبل مجيء الإسلام وبعده.

ومن ثم جاء قول الدكتور طه حسين المشهور في وصفه للنص القرآني: بأن القرآن ليس شعرًا أو نثرًا وإنما هو قرآن. أما المفكّر العربي الكبير محمد عابد الجابري فقد ذهب إلى أبعد من ذلك في تحديد معالم الإعجاز في القرآن في القصص القرآني قائلًا: «فإن ما نجد في القرآن من بناء استدلالاته وفق مقتضيات العقل، حتى داخل القصص نفسه، بعيدًا عن أسلوب التوراة والإنجيل في الإقناع، الأسلوب الذي يعتمد الاحتكام إلى أمور تقع خارج طور العقل من مثل قلب العصا ثعبانًا والقفز على ما جرت به العادة من سنن طبيعية لا تتخلّف، أقول: إن سلوك القرآن هذا المسلك في استدلالاته لهو شيء يدفع إلى وراء ليكون هو نفسه المعجزة التي القصد منها، لا التخويف كما كان حال معجزات الأنبياء السابقين {وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا} بل هدفها دعوة الإنسان إلى تدبّر نظام الكون، فهو مجمع الآيات والمعجزات لقوم يعقلون» (الجابري، 2006، ص424).

ب- الإعجاز الباطن/ الرمزي في القرآن

أما الجانب اللغوي الثاني للإعجاز القرآني الذي لم يقع ذكره حسب علمنا فيما صدر من مؤلّفات في القديم والحديث، فهو ما نودّ كشف الحجاب عنه في هذا القسم من هذه الدراسة.

وللقيام بذلك نحتاج منهجيًّا إلى طرح سؤال مشروع هو: هل من الممكن أَلَّا يقتصر نص الإعجاز القرآني اللغوي على معالم الفصاحة والبلاغة التي رأيناها سالفًا في الإعجاز الظاهر/ البياني الأول الذي وصفنا معالمه للتو؟

إن إجابتنا عن مثل هذا السؤال تكون بنعم، أي إن إعجاز النص اللغوي القرآني يمكن أن يتجاوز مجرّد أسلوبه وبلاغته وفصاحته ليشمل أيضًا جانبًا آخر رمزيًّا، ربما تتفوّق أهميته على مجرّد الإعجاز الظاهر/ اللغوي البياني.

نودّ تسمية هذا الجانب الآخر من الإعجاز بالجانب الإعجازي الباطني/ الرمزي. ويعني هذا الأخير في تأويلنا الخاص أن اختيار استعمال اللغة كوسيلة للإعجاز في النص القرآني له وظيفة خفية تختلف عن طبيعة الإعجاز الظاهر/ البياني للقرآن.

تتمثّل هذه الوظيفة الرمزية/ الباطنية للنص القرآني في الإشارة الواضحة إلى أهمية اللغة ليس فقط كوسيلة إعجاز ظاهري/ بياني، بل الأهم من ذلك إلى مركزية اللغة في هوية الجنس البشري باعتبار اللغة أسمى رمز إنسانية الجنس البشري، كما أوضحنا الأمر من قبل.

ومن ثم يجوز القول: إن معالم الجدة والابتكار في هذا الطرح الفكري تبرز في تشخيصنا للإعجاز القرآني على مستويين:

1- مستوى رفيع لا يُضاهَى في الفصاحة والبلاغة، وهذا هو الإعجاز الظاهر/ البياني المألوف حول النص القرآني.

2- اختيار اللغة كوسيلة للإعجاز الباطن/ الخفي باعتبارها الرمز الأول لإنسانية الإنسان.

بهذا التأويل الجديد، يمكن القول بأن إعجاز القرآن إعجازان: إعجاز لغوي بياني ظاهر، وإعجاز رمزي باطني. ويتمثّل هذا الأخير بالتحديد في اختيار أسمى رمز لإنسانية الإنسان لإبلاغ رسالة الإسلام للعالمين.

وبعبارة أخرى، فالإعجاز القرآني يجمع بين الإعجاز الظاهر/ البياني الخاص، المعجز/ المتحدي للعرب الناطقين بلغة الضاد أن يأتوا بمثله، وإعجاز باطني/ رمزي عام يتمثّل في اختيار اللغة البشرية كأعزّ ما كُرّم به الإنسان في هذا العالم لكي يكون وحده وبكل مشروعية خليفة الله في الأرض.

فاللغة هي إذن تأشيرة خضراء للجنس البشري لكسبه وحده صفة الإنسانية، ومن ثم السيادة/ الخلافة في هذا العالم. فالدلالة الباطنية الرمزية لاختيار اللغة كمعجزة القرآن الأولى أمر واضح المعالم على مستويين، كما رأينا، فالإعجاز الباطن/ الرمزي القرآني يمس أهم عنصر تتلخّص فيه معالم تجليات إنسانية الإنسان، ألا وهي ملكة اللغة.

لا يتمثّل الإعجاز هنا في مسألة جانبية أو هامشية في حياة ومصير بني البشر، بل يتجسّد الإعجاز في قمّة هرم ميزات الإنسان وعنوان إنسانيته الكبير، ألا وهي اللغة البشرية التي رشحت الجنس البشري وحده ليكون له منظومة الرموز الثقافية التي تأهّل بها وحده لكي تكون له السيادة/ الخلافة على وجه الأرض.

وهكذا يمكن القول: إن القرآن جمع أمرين في معجزته اللغوية: إعجازًا ظاهرًا/ بيانيًّا خاصًّا موجّه إلى الناطقين باللسان العربي ومتحديًا لهم في عهد النبوة وما بعدها إلى أبد الآبدين.

أما الإعجاز الباطني الرمزي فيتمثّل في أن اختيار اللغة للإعجاز البياني للعرب، يتزامن في الوقت نفسه مع إعجاز ثانٍ للغة موجّه للعالمين أجمعين.

يتلخّص هذا الإعجاز الباطن/ الثاني في تأويلنا أن اختيار القرآن للغة كوسيلة إعجاز ظاهر/ بياني للعرب يتجاوز المعنى الخاص للإعجاز البياني ليلوّح ويشير إلى المعنى العام/ الكوني لإعجاز استعمال اللغة باعتبار أن هذه الأخيرة هي أسمى رمز يميّز الجنس البشري عن سواه من الأجناس الأخرى ويمنحه السيادة عليها.

وبعبارة أخرى، فالقرآن كحامل لآخر الرسالات السماوية إلى العالمين، استعمل اللغة كأداة للإعجاز الباطني/ الرمزي باعتبارها أعزّ هبة كُرّمت وشُرّفت بها الإنسانية قاطبة في كل زمان ومكان وعبر العصور.

طرح سوسيولوجي معرفي لدلالات اللغة في القرآن

لهذا الإعجاز الظاهر/ البياني، والباطني/ والرمزي ثلاث دلالات رمزية إنسانية عامة موجّهة لكل الناس وليست خاصّة بالعرب وحدهم، يساعد منظور علم الاجتماع المعرفي على إلقاء الضوء عليها، وهي:

1- إعجاز دائم مدى الدهر وليس بالظرفي والمؤقّت كإعجاز عيسى وموسى، تمثّل القامة العالية للنص القرآني تحديًا للآخرين على مرّ العصور في جمال بلاغة وفصاحة تعبيره بأسلوبه الخاص الذي ليس هو شعرًا أو نثرًا وإنما هو قرآن، كما أكّد ذلك طه حسين.

فإعجاز النص القرآني إعجاز يتّصف بالاستمرارية وحتى الخلود؛ لأنه ضرب من الإعجاز الرمزي الذي تتجاوز قوة حضوره وتحديه للغير العوامل الظرفية للتاريخ والزمان والمكان. وهذا ما كشفت عنه الحجاب أطروحتنا عن طبيعة منظومة الرموز الثقافية.

2- يجوز القول بأن الإنسان هو الكائن المعجزة واللغز الكبير على هذه الأرض، بسبب انفراده بالسيادة في إدارة ما يجري على الكرة الأرضية وما فوقها، أي إنه لا توجد منافسة حقيقية له من طرف أي من الكائنات والأجناس الحية الأخرى في مسألة إدارة شؤون هذه الدنيا.

ويمثّل انفراد الإنسان في استعمال ملكة اللغة المصدر الأول في خلق الإنسان الكائن اللغز والمعجزة، كما بيّنا. فاللغة البشرية هي بهذا الاعتبار أم المعجزات جميعًا في جعل الإنسان مخلوقًا فريدًا يتأهَّل وحده لمنصب السيادة والخلافة في هذا العالم الفسيح.

فاللغة هي إذن أسمى علامة على إنسانية الإنسان، فمجيء الخطاب القرآني الفصيح والبليغ بلغة قريش معجزًا للعرب يمثّل في الوقت نفسه إشادة باطنية/ رمزية لدور اللغة في تأهيل الإنسان وحده للخلافة في هذا العالم.

وممّا لا يخفى أن الإعجاز الباطني/ الرمزي للغة أهم من مجرّد الإعجاز الظاهر/ البياني الذي يحفل به النص القرآني. إذ استعمال اللغة في النص القرآني المعجز هو تلويح باطني/ رمزي أيضًا لأسمى ما كُرّم به الجنس البشري ومُيّز وشُرّف به على كل الأجناس الحية الأخرى. ومن ثم هناك مشروعية قصوى لاستعمال اللغة المعجزة في الآن نفسه بيانًا ورمزًا كأعز معلم لإنسانية الإنسان في القرآن خاتم الكتب الدينية السماوية.

3- ومن خلال ما ورد في الفقرة الثانية فإنه يصبح مفهومًا ومشروعًا أن يتّخذ القرآن من الإعجاز الظاهر/ البياني والباطني/ الرمزي أداة التحدي الأولى للعرب وللناس أجمعين على مرّ العصور.

ففي تبني الإعجاز الظاهر/ البياني كوسيلة لتحدي العرب والآخرين تذكرة قرآنية بأن مشهد هذا النوع من الإعجاز العظيم تمثّله في نهاية المطاف اللغة المنطوقة والمكتوبة أرقى ما يتميّز به الإنسان وأعزّ ما أهّله بحق لأخذ مسؤولية تسيير شؤون هذه الدنيا، ورفض بقية المخلوقات بما فيها معالم الطبيعة العظيمة على تبني هذه المسؤولية كما يعبّر القرآن الكريم على ذلك في قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}.

وهكذا يمكن القول بأن الإعجاز الظاهر/ البياني القرآني لا يقتصر على مجرّد التحدّي الخاص للعرب في الفصاحة والبلاغة، وإنما هو يتجاوز ذلك إلى التأكيد على الجوانب الباطنية/ الرمزية الكامنة في اللغة، وهي جوانب لا يشار إليها لا من قريب ولا من بعيد لدى من كتبوا المؤلّفات المرجعية حول الإعجاز الظاهر/ البياني في القرآن الكريم، فلا ذكر عندهم لما نسميه هنا بالإعجاز الباطن/ الرمزي.

وكما شرحنا، يتمثّل هذا النوع الثاني من الإعجاز القرآني في جعل اللغة رمز إنسانية الإنسان وأرقى ميزاته، إنها الميدان الذي تحدّت فيه آيات القرآن كلام العرب من شعر ونثر. وبعبارة أخرى، فالإعجاز الظاهر/ البياني القرآني يقع من جهة على مستوى بلاغة وفصاحة صياغة الكلام العربي في النص القرآني، وهذا إعجاز خاص موجّه للعرب.

ومن جهة ثانية، يتضمّن الإعجاز القرآني إعجازًا باطنيًّا/ رمزيًّا عامًّا أكثر أهمية من الإعجاز الخاص. يتمثّل هذا النوع من الإعجاز في اختيار اللغة وحدها دون غيرها من الوسائل في تجسيد حدث الإعجاز في المحيط المكي والمديني، وهو اختيار يشير بكل وضوح بأن الإعجاز الظاهر/ البياني القرآني يتّخذ من اللغة أعز ميزة رمزية كرّم بها الإنسان فأُعطيت له وحده وبكل مشروعية السيادة/ الخلافة في هذا العالم.

إذن فالنص البياني القرآني المعجز يمثّل في الوقت نفسه إشادة بيّنة وعالية بمدى الأهمية القيّمة لرمزية اللغة في تشريف الإنسان على هذه الأرض.

ومن المؤكد أن التلويح إلى الدور الباطني/ الرمزي للغة كعلامة على إنسانية الإنسان وعلو مكانته في هذا العالم، هما أبلغ من مجرّد الإعجاز الظاهر/ البياني الخاص في النص القرآني والموجّه إلى العرب كما أوضحنا ذلك في هذه الأطروحة الفكرية لهذه المقالة التي تشهد مقولتها على الحضور القوي للعلوم الاجتماعية والإنسانية في صياغة جديدة لفرضياتها ومفاهيمها وإطارها النظري وخلاصتها.

(اقرأْ) الفعل الثقافي العمراني

تقترن اللغة كبصمة لإنسانية الإنسان ورمز لتميزه عن الكائنات الأخرى، في التصوّر القرآني بدعوته للإنسان إلى النهل من ثقافة المعرفة والعلم، كما تُشير إلى ذلك أولى كلمات الوحي على النبي العربي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ففعل (اقرأ) المخاطب للرسول في أول لقاء مع الوحي السماوي حمّال لأهمية منظومة المعرفة والعلم.

إن احتضان الخطاب القرآني لحرص كبير على أهمية الثقافة المعرفية والعلمية للجنس البشري، يعطي مشروعية ضخمة لبدء الوحي القرآني بفعل (اقرأ) بدلًا عن غيره من الأفعال الأخرى المناسبة أيضًا لبدء الوحي بها. إذ كان ممكنًا وملائمًا جدلًا أن يُخاطَب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في أول لقاء مع جبريل بأحد الفعليْن في مثل العبارتين التاليتين: «تاجرْ باسم ربك» أو «فلّحْ باسم ربك»، وهي مسألة لا يُثيرها المفسّرون في تحليلاتهم لمغزى افتتاح أول سورة قرآنية نزلت على النبي العربي بفعل (اقرأْ) ألا وهي سورة العلق، فعلى سبيل المثال يصمت كل من سيد قطب ومحمد عابد الجابري عن هذا الموضوع في مجلداتهما لتفسير القرآن الكريم.

يساعد علم النفس الحديث على فهم أعمق لبدء الوحي بفعل (اقرأ) مفتاح النهل من المعرفة والعلم أهم ذخيرة يتميّز بها الجنس البشري عن بقية الكائنات والملائكة. يرى هذا العلم أن انطباعات الناس عن بعضهم البعض في اللقاءات الأولى تصمد أطول في ذاكراتهم. ومن ثَمَّ، تأتي مشروعية ذكر أهم شيء للناس في أول لقاء بين الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والوحي حتى يصمد في ذاكرة النبي والمسلمين.

ففعل (اقرأ) كما بيّنا أعزّ من فعليْ (تاجر أو فلّح) لأنه عربون التأهل الكبير لكسب رهان المعرفة والعلم، الذي يتميز به الجنس البشري مما يمنحه السيادة/ الخلافة في الأرض.

وهكذا يجوز القول بسهولة: إن الفعل (اقرأْ) يحمل في عمقه شحنة التأهّل لبناء الحضارات الإنسانية في أشكالها المختلفة عبر العصور منذ الزمن السحيق. ففعل (اقرأ) يمثّل الرمز العملاق لميلاد منظومة الرموز الثقافية في صميم الكائن البشري. فهذه المنظومة هي الأساس لتجسم ما يسميه ابن خلدون بظاهرة العمران البشري.

وبعبارة أخرى، فلا وجود لمعالم العمران الإنساني على الأرض وفي الفضاء، دون امتلاك الجنس البشري لناصية منظومة الرموز الثقافية وفي طليعتها مهارة القراءة والكتابة التي يتميّز بها الإنسان هذا الكائن الذي ينفرد عن بقية المخلوقات.

وهكذا فافتتاح نزول الوحي على النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بفعل (اقرأ) يشير بوضوح إلى أن الإنسان كائن لغوي ثقافي بامتياز في المقام الأول. ومن ثَمَّ ففهم وتفسير سلوكيات الناس وحركية العمران البشري يتطلّبان ما يسمى بعلم الاجتماع ذي البرنامج القوي، أي علم الاجتماع الثقافي بالتعبير السوسيولوجي الحديث.

تميّز الإنسان بسلطان اللغة ونشأة الثقافة

عند التساؤل عن أهم عنصر في منظومة الرموز الثقافية يقف وراء ميلاد المنظومة الثقافية المميّزة للجنس البشري، فإن اللغة البشرية المكتوبة والمنطوقة تكون هي وحدها المؤهّلة لبروز منظومة الرموز الثقافية. فلا يمكن تخيّل وجود بقية عناصر الرموز الثقافية كالدين والعلم والفكر بدون حضور اللغة البشرية. ومن ثَمَّ، جاءت مشروعية اعتبارنا أن اللغة هي أم الرموز الثقافية جميعًا.

ونظرًا لمركزية اللغة المنطوقة والمكتوبة في نشأة منظومة الرموز الثقافية، فإن وصف الإنسان بأنه حيوان ناطق وصف مشروع جدًّا؛ لأن أكثر ما يميّز الجنس البشري عن بقية الأجناس الأخرى ويعطيه السيادة عليها بواسطة منظومة الرموز الثقافية هي اللغة المنطوقة والمكتوبة.

ورغم مركزية اللغة في هوية الإنسان وبالتالي في بروز منظومة الرموز الثقافية في المجموعات والمجتمعات البشرية، فإن أشهر تعريف لمفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعية الغربية المعاصرة لا يذكر اللغة كعنصر مركزي وأساسي لميلاد الثقافة نفسها.

فقد عرف عالم الأنثروبولوجيا البريطاني إدوارد برنارد تيلر (1871م) الثقافة (Culture) بأنها «ذلك الكل المعقّد الذي يتضمن المعرفة والعقيدة والفن والأخلاق والتقليد وأي مقدّرات وعادات يكتسبها الإنسان كعضو في المجتمع». يتمثّل قصور هذا التعريف الكلاسيكي للثقافة في كونه لا يشير إلى اللغة ولا يعطيها الصدارة في مكونات منظومة الثقافة، والحال أن اللغة هي منشئة ظاهرة الثقافة نفسها كما بيّنا. أي إن العلاقة علاقة عضوية جدًّا بين اللغة ومنظومة ثقافتها عند بني البشر. ومن ثم يتّضح قصور تعريف مفهوم الثقافة الذي لا يتضمّن بكل وضوح صدارة اللغة في تعريف مفهوم الثقافة البشرية (1973 White).

يتبيّن مما سبق أن نظريتنا للثقافة ترتكز على أن الثقافة هي ذلك الجانب غير البيولوجي الفيزيولوجي لهوية الإنسان المزدوجة (الرموز الثقافية والجسم)، وأن جانب الرموز الثقافية هو بيت القصيد في هوية الكائن البشري.

أي إن هيمنة هذا الأخير على بقية الكائنات وسيادته عليها يأتي من الجانب غير المادي في هويته المزدوجة، أي من الرموز الثقافية. وإن اللغة المنطوقة والمكتوبة هي مصدر تميّز الجنس البشري عن سواه بمنظومة الثقافة.

ومن ثم فالإنسان ليس حيوانًا ناطقًا فحسب كما قال قدماء الفلاسفة، بل هو أيضًا كائن رمزي/ ثقافي بالطبع. وبمصطلح العلوم الاجتماعية الحديثة يسهل القول بأن علاقة الارتباط correlation قوية جدًّا بين اللغة المنطوقة والمكتوبة عند بني البشر من جهة، وحضور ظاهرة الثقافة في المجتمعات الإنسانية من جهة ثانية.

البرنامج الثقافي القوي للقرآن الكريم

كما رأينا في الأقسام السالفة لهذه الدراسة، إن مسيرتنا الفكرية تنتمي بقوة إلى علم الاجتماع الثقافي الذي يعتبر أن الرموز الثقافية هي متغير مستقل independent variable. ففي رأي عالم الاجتماع الروسي سيمشكو (Semashko) أن الفترة ما قبل 1960م لعلماء الاجتماع ينظر إليها عالم الاجتماع الأمريكي ج. ألكسندر (J.Alexander) بأنها فترة تتّصف ببرنامج ضعيف في النظرية الاجتماعية للثقافة، تشمل هذه الفترة علم الاجتماع عند كل من فيبر ودوركهايم وماركس وملس وآخرين، وكذلك علماء الاجتماع الشيوعيين والفاشيين (Semashko 2006: 836).

يعتقد ألكسندر بأن تيار البرنامج الضعيف لا يزال هو السائد في الفترة الحديثة أي بعد 1960م، كما يتبيّن ذلك في أعمال مدرسة برمنجهام وفكر بورديو وفوكو ونظرية إنتاج واستهلاك الثقافة، وذلك ما أشرنا إليه في مطلع هذا البحث.

لقد غيّر عالم الأنثروبولوجيا الأمريكي كليفرد جيرتس (Clifford Geertz) مكانة الثقافة في منظورات العلوم الاجتماعية الحديثة (Geertz 1964). فالثقافة في نظر جيرتس ذات استقلالية، وأن المجتمعات البشرية تُشبه النصوص المكتوبة حيث تعتبر قراءة معانيها أمرًا مركزيًّا. ويعتقد ألكسندر أن اعتراف علماء الاجتماع الثقافيين باستقلالية الثقافة هو أهم مؤشّر للبرنامج القوي في دراسة الثقافة (Alexander 2003: 13).

يزكي المنظور القرآني توجّه البرنامج القوي لدراسة الثقافة الذي ينادي به كل من جيرتس ومسيرتنا البحثية في علم الاجتماع الثقافي. إن التأويل العميق للنص القرآني يؤدّي إلى استنتاج أن القرآن له برنامج قوي في التعامل مع ظاهرة الثقافة. وبعبارة أخرى: إن القرآن يعتبر البشر بأنهم كائنات رموزية ثقافية في العمق.

إن ما أشرنا إليه من دلالات ثقافية في بدء الوحي بفعل (اقرأ) مؤشّر على الحضور القوي لأهمية الثقافة في الخطاب القرآني. ولكي نتعرّف أكثر على طبيعة الرموز الثقافية/ الثقافة، وكذلك على أهميتها في هوية الإنسان في المنظور القرآني، فإنه ليس هناك أفضل من القرآن نفسه الذي هو المرجع الأول للإسلام في شتى المجالات، فعند التساؤل عن الرؤية المعرفية الإسلامية للرموز الثقافية فإن أفضل طريق لتحديد معالمها والفوز بكسب رهان جوهر طبيعتها هو الرجوع إلى القرآن الكريم.

ومن ثم فنحن نقدّم هنا الرؤية المعرفية القرآنية لطبيعة الثقافة/ الرموز الثقافية. وإذا نجحت قراءتنا في فهم مضمون الآيات القرآنية التي لها علاقة بالرموز الثقافية، فإننا نكون قد كسبنا الرؤية المعرفية الإسلامية الأصح عن طبيعة الثقافة.

وبذلك نكون قد سلّحنا أنفسنا بأقوم مفهوم إسلامي للثقافة يشجّع الباحث على ترشيحه للمقارنة، وربما للمنافسة مع مفهوم الثقافة كما وقع ويقع استعماله في العلوم الاجتماعية المعاصرة.

ويجوز أن تساعد هذه العملية المعرفية على بناء مفهوم للثقافة ذي مصداقية أكبر بالنسبة للباحثين المهتمين بالشأن الثقافي من وجهة الرؤية المعرفية الإسلامية على الخصوص.

وإذا وجدنا أن الرؤية القرآنية للرموز الثقافية تتشابه أو تتطابق مع تحليلنا المنهجي السابق لها، فإننا نكون قد وفّقنا للجمع بين العقل والنقل، وهي المنهجية المثالية في الفكر الإسلامي الأصيل.

إن منهجيتنا في استكشاف الرموز الثقافية وطبيعتها في النص القرآني تتكوّن من ثلاث خطوات:

- هل هناك إشارات واضحة في القرآن تميّز الإنسان عن غيره في خلافة الله في الأرض؟

- العثور على آيات قرآنية تتحدّث بصراحة مطلقة عن تميّز الجنس البشري عن بقية الأجناس الحية الأخرى.

- إلى أي شيء ترجع الآيات القرآنية تميّز وتفوّق الجنس البشري؟

1- يحفل النص القرآني بالآيات التي تعطي مكانة خاصة ومتميّزة للإنسان من بين كل المخلوقات الأخرى، سواء كانت كائنات روحية كالملائكة أو حيوانات ودواب أخرى تعيش على هذه الأرض مثل الإنسان. وبعبارة أخرى: فصورة الإنسان في القرآن هي صورة الكائن الفريد الذي يحتل المرتبة الأولى من حيث الأهمية بعد الله في هذا العالم/ الكون.

ومن ثَمَّ فلا منازع له على الإطلاق في تأهّله لإدارة شؤون هذا العالم وأخذ مقاليد السيادة (الخلافة) فيه. ولندع آيات القرآن تشخّص لنا بقوة تلك المكانة الفريدة التي يتمتّع بها الجنس البشري وحده بين كل الكائنات الأخرى.

ونقتصر هنا على إبراز ذلك عبر خمس حالات تحدّث فيها القرآن بكل وضوح عن تميّز الإنسان عن غيره من المخلوقات الأخرى. ففي الآية (30) من سورة البقرة يصف القرآن آدم الإنسان بأنه خليفة في الأرض قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً…} ولا يحتاج المرء هنا إلى شرح مدى أهمية هذا المنصب، الخلافة في الأرض الذي وليها الإنسان دون سواه من الملائكة والمخلوقات الأخرى على الأرض.

تميّز الإنسان بسلطان المعرفة والعلم

أما ميزات الإنسان المطلقة التي تتحدّث عنها الآيات القرآنية الثلاث (31 - 32 - 33) من السورة نفسها، فهي تتمثّل في اصطفاء الله لآدم بالمعرفة والعلم أكثر من غيره بما فيهم الملائكة قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ}.

ونتيجة للميزتين السابقتين اللتين حرمت منهما الملائكة وبقية الكائنات، وحصل عليهما الإنسان وحده جاء أمر الله للملائكة بالسجود لآدم دون غيره كعلامة تكريم وتمييز ثالثة لآدم قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ}.

أما الآية (70) من سورة الإسراء فهي تستعمل فعليْ «كرّم» «وفضّل» لإبراز سمتي تميّز بني آدم عن غيرهم من مخلوقات الأرض {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}.

فهذه الآيات القرآنية توضّح بما لا يدع مجالًا للشك بأن الإنسان كائن خاص متميّز ومتفوّق على غيره من مخلوقات الأرض، وكذلك على الملائكة. ومن ثم فالرؤية القرآنية للجنس البشري تمثل قطيعة معرفية (إبستيمولجية) كاملة مع نظرية التطوّر عند داروين وأصحابه، إذ إن خلق آدم في المنظور القرآني يمثّل حالة خاصة في الخلق هي في قطيعة مع كل من الملائكة وعوالم المخلوقات الأخرى على الأرض.

إن خلق آدم تميّز عن غيره بواسطة هبة المعرفة/ العلم التي أعطاها إياه الله دون سواه. وبهذه المقدرة المعرفية العالية جاءت مشروعية خلافة آدم بتكريمه وبتفضيله في الأرض وسجود الملائكة له.

روحي = المنظومة اللغوية الثقافية المعرفية

تربط آيتان من القرآن سجود الملائكة لآدم بنفخ روح الله فيه فآية {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}. نجدها مكرّرة مرتين في سورتيْ الحجر (15) وص (38).

إن التساؤل عن معنى كلمة «روحي» الواردة في السورتين تساؤل مشروع جدًّا؛ لأن الصيغة التركيبية لكلمات الآية تفيد بأن طلب سجود الملائكة لآدم تلا نفخ روح الله فيه، أي إن هناك علاقة قوية، إن لم تكن سببية بين عملية نفخ الروح الإلهية في آدم ودعوة الله الملائكة إلى السجود له. وكما هو معروف فإن كلمة الروح في القرآن أتت بمعانٍ مختلفة وفي طليعتها بثّ الحياة في الكائنات.

إن اطّلاعي على عدد من كتب المفسرين لكلمة «روحي» في هذا الآية يُشير أن معظمهم رأى أن لفظ «روحي» هنا يعني القدرة على بثّ الحياة في الكائنات. فتفسير الجلالين يقول: «وإضافة الروح اليه تشريف لآدم. والروح جسم لطيف يحيا به الإنسان بنفوذه فيه…».

أما المفسّر السوري المشهور اليوم عفيف عبد الفتاح طبارة فيقدم لنا هذا الشرح التفسيري لمعنى كلمة «روحي» في الآية قائلًا: «ونفخت فيه من قدرتي أو بعبارة أخرى فإذا أفضت عليه ما يحيا به من الروح التي هي من أمري... فخروا له ساجدين» (طبا رة، ج 23).

ونختم بتفسير الشيخ متولي الشعراوي أشهر المفسّرين المصريين في العصر الحديث، فيصوغ معنى كلمة روح الله ونفخها في آدم قائلًا: «والنفخ من روح الله لا يعني أن النفخ قد تم بدفع الحياة عن طريق الهواء في فم آدم. ولكن الأمر تمثيل لانتشار الروح في جميع أجزاء الجسد، وقد اختلف العلماء في تعريف الروح، وأرى أنه من الأسلم عدم الخوض في ذلك الأمر، لأن الحق سبحانه هو القائل: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}» (الشعراوي، المجلد 12).

فواضح من مضمون هذه التفاسير أن معنى لفظ «روحي» اقتصر على مجرّد معنى قدرة الله على بثّ الحياة في آدم التي لا يعرف البشر أسرارها، ومن ثم دعا الشيخ الشعراوي إلى تحاشي الخوض فيها.

إن الاقتصار على هذا التفسير لمعنى كلمة «روحي» لا يسمح لآدم الإنسان بتبوئي منصب الخلافة في الأرض، وسجود الملائكة له تكريمًا لخصوصية وتميّز خلقه. فالله لم يبث الحياة في الإنسان فقط، بل بثّها أيضًا في كل الكائنات الحية. وبالتالي فمجرّد بثّ الحياة في الإنسان لا تؤهّله وحده إلى الخلافة هنا على الأرض. فلا بد إذن من البحث عن معنى آخر للفظ «روحي» يفسّر بقوة مكانة تميّز الإنسان وتفوّقه على بقية المخلوقات في إدارة شؤون الأرض كخليفة.

وفي رأينا يأتي هنا بالتحديد دور العلوم الاجتماعية في مساعدة مفسّري القرآن وهديهم إلى المعنى المناسب الذي ينبغي أن يعطى إلى كلمة «روحي» في آية {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}. فالكثير من المفسّرين المحدّثين يستعينون باكتشافات العلوم الحديثة في التفسير للعديد من الآيات القرآنية التي لها علاقة بخلق الإنسان، وفهم عمل مخّ وجسم الإنسان، أو لها علاقة بالظواهر الطبيعية في الكون مثل الشمس والقمر والنجوم والجبال والبحار والبراكين والزلازل، ممّا عزّز من فكرة إعجاز القرآن. فازدادت المؤلّفات وكثر انعقاد الندوات والمؤتمرات في هذا الميدان في العالم الإسلامي الحديث.

وإننا نتّفق مع المفكّر الإسلامي وعالم الجيولوجيا الكبير الدكتور زغلول النجار الذي يؤكّد أن فهم الكثير من الآيات القرآنية لا يمكن أن يتم بدون الاعتماد على الاكتشافات العلمية ذات المصداقية العالية حول الإنسان والظواهر الطبيعية للعالم/ للكون.

والمفسّرون المحدّثون مطالبون هم أيضًا، وبالدرجة نفسها، بالاستفادة من الرصيد المعرفي العلمي للعلوم الاجتماعية المعاصرة فيما له علاقة بفهم سلوك الأفراد والجماعات وحركية المجتمعات والمعالم الثقافية البشرية. فهذه العلوم تساعد بالتأكيد على القرب من معنى كلمة «روحي» في الآية المشار إليها أعلاه.

فعلوم الأنثروبولوجيا والاجتماع والنفس تجمع على أن الإنسان يتميّز ويتفوّق على غيره من الكائنات الأخرى، بما تسميه تلك العلوم بالثقافة (Culture) أو ما أطلقنا عليه نحن بالرموز الثقافية: اللغة، الفكر، المعرفة/ العلم، الدين، القيم والأعراف الثقافية...

أي إن الجنس البشري ينفرد بتلك المنظومة من الرموز الثقافية، وهي التي أهّلته وحده في الماضي، وتؤهّله اليوم وفي المستقبل إلى لعب دور الخليفة في الأرض. وبعبارة أخرى: فمعنى {نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} تصبح تدل على أن النفخة الإلهية في آدم هي في المقام الأول نفخة ثقافية بالمعنى المعاصر الذي تعطيه العلوم الاجتماعية لمصطلح الثقافة.

إذ بهذه الأخيرة يفسّر علماء العلوم الاجتماعية تميّز الإنسان وسيادته في هذا العالم على بقية المخلوقات. ومن ثم {نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} فلا بد أن يعني أولًا وبالذات نفخة الرموز الثقافية في آدم وحده التي أعطته، دون سواه، مقاليد الخلافة في الأرض وما تبعها من سجود الملائكة له.

بهذه القراءة الثقافية لمعنى كلمة «روحي» في الآية يتّضح مدى تحسّن مصداقية تفسير معاني آيات القرآن لو استعان المفسرون بالرصيد العلمي الحديث لكل من علوم الطبيعية وعلوم الإنسان والمجتمع على حد السواء.

تجسيم الروح كمفهوم للرموز الثقافية

يقع استعمال المفهوم الإجرائي (operational concept) في العلوم الاجتماعية الوضعية الحديثة لتحديد الظاهرة المدروسة بما يستخدم في ملاحظتها وقياسها. ومن ثَمَّ، فإنه ينبغي على المتخصصين في هذه العلوم أن يحاولوا صياغة الظواهر الاجتماعية والأفكار المبهمة في مؤشّرات وملاحظات محسوسة، أي صياغتها قدر الإمكان في معطيات كمية وقابلة للقياس المحسوس بحيث تصبح تلك الظواهر والأفكار مجسّمة وقابلة للتعامل معها إمبريقيا.

إن عملية الإمبريقية هي بدون شك مستوحاة من إبستيمولوجيا العلم والمعرفة الوضعيين الغربيين الحديثين. فتعتمّد هذه الإبستيمولوجيا بشدة في فهمها وتفسيرها للظواهر على العوامل والأسباب الكمية والقابلة للقياس.

يختلف نجاح عملية الإمبريقية من صنف من الظواهر إلى صنف آخر. وعلى سبيل المثال، فما يسمّى بالظواهر الذاتية (المشاعر الشخصية، الآراء...) يصعب صياغتها صياغة إمبريقية، وذلك خلافًا للظواهر المادية المحسوسة في المحيط الخارجي، ومع ذلك، فلا بد من بذل الجهود اللازمة للوصول قدر الإمكان إلى التعرّف على الجوانب الخفية للظواهر المبهمة الغامضة.

وكما ذكرنا، فإن معنى النفخة الروحية الإلهية في الآية القرآنية في تفسيرات المفسّرين يبقى غامضًا، ومن هنا نحتاج إلى ابتكار منهجية جديدة تتجاوز مبادئ المنهج الوضعي، وتكون قادرة على تحريرنا من استعمال رموز مبهمة وعامة لا تساعد على الحصول على فهم قريب وأكثر واقعية لطبيعة النفخة الروحية الإلهية التي يتحدّث عنها القرآن.

ومن أجل استجلاء الغموض الذي يحيط بطبيعة النفخة الروحية الإلهية اخترنا تبني المنهجية التالية:

1- يجب علينا التعرّف بطريقة موضوعية وبمؤشّرات محسوسة على تلك العناصر التي يتميّز بها الجنس البشري عن بقية الأجناس الحية الأخرى وتجعله يتّصف بالتفوّق والسيادة عليها.

وكما أشرنا من قبل فالرموز الثقافية (اللغة والفكر والعقائد والمعرفة/ العلم والقيم والمعايير الثقافية والقوانين والأساطير...)، هي التي تميّز أكثر من غيرها من الصفات الجنس البشري عن غيره من الأجناس الأخرى.

2- إن الآيتين القرآنيتين المشار إليهما هنا تتحدّثان بوضوح حول مكانة الإنسان المتميّزة بين بقية الكائنات الأخرى في هذا الكون بما فيها الملائكة أنفسهم الذين دعاهم الله للسجود لآدم. ويبدو من سياق الآيتين أن نفخة روح الله في ذات الإنسان هي السبب الرئيسي وراء تبوّؤ الجنس البشري هذه المكانة الخاصة في الكون. فالتعبير القرآني في الآيتين يوحي بأن الله طلب من الملائكة السجود لآدم بعد وليس قبل حدوث وقوع نفخة روح الله في صلب الذات الآدمية.

فالتحليل الموضوعي للنص القرآني بهذا الصدد يشير بكل وضوح إلى تفوّق وسيادة جنس الإنسان على بقية الأجناس الأخرى. فمن جهة، ترجع العلوم الاجتماعية الحديثة مثل علم الاجتماع وعلم النفس وعلم الأنثروبولوجيا، تفوّق الجنس البشري على بقية الأجناس الأخرى إلى تميّز الإنسان بمهارات عالم الرموز الثقافية.

ومن جهة ثانية، يُستوحى من النص القرآني بأن سيادة الإنسان وخلافته في الكون، ترتبطان شديد الارتباط بنفخة روح الله في صميم ذات الإنسان.

وفي رأينا لا يوجد أي تناقض بين المنظورين. إذ إنه يمكن اعتبار أن الرؤية القرآنية تنظر إلى الرموز الثقافية على أنها أهم جزء على الأقل من نفخة روح الله في الإنسان. ومن ثَمَّ يتّفق المنظوران على الدور الحاسم الذي تلعبه منظومة الرموز البشرية في تميّز الجنس البشري وتفوّقه على بقية الكائنات الحية الأخرى.

ومع ذلك، فيجوز أن يكون لنفخة روح الله في الذات الآدمية معنى أوسع من مجرّد مفهوم الرموز الثقافية. أي إن نفخة روح الله تشمل كل شيء يميّز البشر عن غيرهم من الكائنات.

إن الرسم أسفله يبين النقاط المشتركة بين عالم الرموز الثقافية، ونفخة روح الله كعنصرين أساسيين لتميّز وتفوق الجنس البشري.

مصــدر تفـوّق/ تميّــز الإنســان

 

لقد أوضح تحليلنا المنهجي السابق الطبيعة الشاملة لنفخة الروح الإلهية. فنحن نرى أن هذه الأخيرة يجب أن تشمل أول ما تشمل الرموز الثقافية. وبعبارة أخرى: فالرموز الثقافية يجب أن تكون العنصر المركزي في نفخة الروح الثقافية الإلهية أو أن تكون الرموز الثقافية هي كل نفخة الروح الإلهية نفسها في ذات آدم.

وبهذه الرؤية تصبح ماهية النفخة الروحية الإلهية أقل غموضًا ممّا كانت هي عليه في تفسيرات المفسّرين المشار إليها سابقًا.

ويحسّن هذا الوضوح بكل تأكيد في إرساء فهم أفضل لمعنى {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} وما لذلك من انعكاسات إيجابية على المستوى النظري للبحث العلمي في منظومة الرموز الثقافية، وعلى المستوى التطبيقي والمتمثّل في دور الرموز الثقافية في تأهيل الجنس البشري وحده للخلافة في هذا العالم/ الكون.

وهكذا تتجلّى معالم الإعجاز الثاني للقرآن في استعمال اللغة رمز إنسانية الإنسان، ومصدر تأهّله لكسب منظومة الرموز الثقافية التي تميّزه عن بقية الكائنات واستخلافه وحده في الأرض.

المراجع

-    بن عيسى باطاهر، البلاغة العربية، بيروت، دار الكتاب الجديد، 2007م.

-    محمد عابد الجابري، مدخل إلى القرآن الكريم، الجزء الأول، في التعريف بالقرآن، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2006م.

-    محمود الذوادي، التخلّف الآخر: أزمة الهويات الثقافية في الوطن العربي والعالم الثالث، تونس، الأطلسية للنشر، 2002م.

-    محمود الذوادي، الثقافة بين تأصيل الرؤية الإسلامية واغتراب منظور العلوم الاجتماعية، بيروت، دار الكتاب الجديد المحدودة، 2006م.

-     Davidson, I. & Noble, W (1989) The archaeology of perception: Traces of depiction and language, Current Anthropology, 30, 125-156.

-     Dhaouadi, M (1996b) Un essai de théorisation sur le penchant vers l’accent parisien chez la femme tunisienne, International Journal of The Sociology of Language.

-     Dhaouadi, M (1996a) Toward Islamic Sociology of Cultural Symbols, Kuala Lumpur, A.S.Noordeen.

-     Dhaouadi, M (2002) Globalization of The Other Underdevelopment: Third World Cultural Identities, Kuala Lumpur.

-     Encyclopaedia of Sociology 1974, Guilford, Conn, The Dushkin Publishing Group, Inc.

-     Pinker, S (1994) The Language Instinct: How the Mind Creates Language, New York, Harper-Collins Publishers, Inc.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة