شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
مصطلح التاريخ المنطقي الافتراضي..
ججدراسة فلسفية في منهجية استدعاء الوقائع التاريخية المحذوفة
الدكتور وائل أحمد خليل الكردي*
* كاتب وباحث من السودان. البريد الإلكتروني: wailahkhkordi@gmail.com
مدخل
كتب قاسم عبده قاسم تحت عنوان (القراءة الشعبية للتاريخ) قائلًا: «عادة ما يحمل هذا الموروث الشعبي نواة تاريخية لأنه في التحليل الأخير القراءة الشعبية للتاريخ، وهو ما يعني أنه رؤية الجماعة لتاريخها، ولدورها في صنع هذا التاريخ، بغض النظر عن التفاصيل التي تتعلّق بالزمان أو المكان أو أبطال الحكاية التاريخية»[1].
وهكذا فإن التاريخ هو تدوين لحياة عاشها الإنسان في الماضي، ولم يعد حاضرًا منها سوى آثارها. ولكي يعرف الإنسان سر الحاضر ومفاتيح المستقبل كان لا مفرَّ له من أن يستدعي ما مرّ في سالف، فكان أمر الله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ}. وبما يحمل هذا الأمر من معنيين، فكيف بدأ الخلق، أي كيف أنشأه الله وكيف تكوَّن، وكيف بدأ الخلق، أي كيف بدأ الخلائق معيشتهم وطرق حياتهم؟
وفي كلتا الحالتين كان التدوين لازمًا ضروريًّا لبناء أي استدلال سليم في العلوم والمعارف والأحكام والآداب، وحيث إن التدوين والاسترداد عامل حاسم في السياسة والقضاء والشهادة على العصر وقياس لمدى تطور الوعي البشري وتقادمه.
وإن كان تدوين التاريخ يعتمد منهجيًّا على الوثائق والحفريات وروايات الشهود فكيف يكون الحال فيما لم يرد إلينا عليه أثر دال أو راوٍ شاهد، فلن يعود أمامنا سوى انتقاء أحسن الاستنباطات في شأنه بما لا يخلّ بسياق التواصل والاتصال لما قبله وما بعده من وقائع وأحداث. وفي الوقت نفسه بما لا يحجر على الملكة التخيلية في تعدّد تكوينات هذه الاستنباطات.
وهذا ما يجعل التدوين ليس حبرًا على ورق، وإنما تفاعل حي بين إنسان الحاضر ووقائع الماضي، وهذا على وجه التحديد ما يسمّى بمبحث فلسفة التاريخ ومنطقه.
التأسيس النظري لإثبات مقولة الوقائع المحذوفة
على نحو ما قال الفيلسوف الإنجليزي فيتجنشتاين (Ludwig Wittgenstein) فربما صحَّ أن مجمل مشكلاتنا الفكرية هي مشكلات لفظية في المقام الأول، اصطنعها استخدامنا للغة بطرق ما، بحيث إنها على المستوى غير اللفظي تبدو ليست بمشكلات أصلًا[2].
ولذلك كان من باب الفهم السليم بطبيعة المشكلات الحقيقية هو ضبط استخدام الاصطلاح اللغوي في حيّز ومجال استخدامه، فلا يضيع تداوله في النصوص لمعناه المتّفق عليه طوال سياق أي دراسة من الدراسات الفكرية.
ولهذا ففي سياق دراسة مقولة (التاريخ المنطقي) تتوفّر ثلاثة مصطلحات عامة يتم الحكم فيها بحسب دلالة الاستخدام اللغوي لها. فأولًا: (تاريخ المنطق) وهو متعلّق بعلم المنطق وليس بعلم التاريخ. وثانيًا: (منطق التاريخ) وهذا متعلّق بالتاريخ من حيث الفلسفة والمنهج الذي يسير عليه المؤرّخ في استرداد وتدوين الوقائع التاريخية والتوثيق لها، ومحاولة فيلسوف التاريخ تبيان السنة التي يمضي عليها التاريخ في سيره نحو أهداف معينة.
ويتّصل بهذا المعنى ما عبّر عنه الراهب جونيبر في رواية (جسر سان لويس ري) لمؤلّفها ثورنتونوايلدر عندما تساءل عن أولئك الخمسة الذين سقطوا ضحايا لانقطاع الجسر الأثري الذي كانوا يعبرون عليه من بلدتهم ليما إلى كيزكو في بيرو قائلًا: «لماذا حدث هذا لهؤلاء الخمسة؟ لئن كان هناك قانون يحكم الكون، أو نظام تسير عليه حياة الإنسان، فلا شك أنه يمكن الكشف عنه في طوايا هذه الأحياء الخمسة التي لقيت هذا المصرع المفاجئ، وعندئذٍ نعلم إن كانت حياتنا ووفاتنا مجرّد صدفة، أم أنهما تخضعان لسنة مطردة لا تتخلّف»[3].
وهذا الاتجاه الأخير غير محذوف بالكلية في مقصد المصطلح الثالث (التاريخ المنطقي)، والذي هو عين هذه الدراسة، بل هو حاضر فيه بقوة؛ حيث إنه يرتبط معه ارتباط الكل مع الجزء، فقضية التاريخ المنطقي يمكن أن تعدّ جزئية ضرورية داخل الفكرة العامة أو الكلية لمنطق التاريخ، فتكون هي الجانب المتعلّق بتلك الفراغات بين الوقائع التاريخية والتي يتم ملؤها بصورة افتراضية قد يتحوّل معها في الغالب المقصد والهدف النهائي لدى فيلسوف التاريخ في تصوّر حركة التاريخ وفق رؤية منطقية معينة لتطوّر وبناء الأحداث التاريخية، وهذا ما يجعل اختلاف آخرين معه في هذا المقصد أو الهدف التاريخي أمرًا ممكنًا.
إذن فالتاريخ المنطقي ينتمي لمنطق التاريخ انتماء الجزء إلى الكل. وإذا كان هانسون (N. R. Hansson) قد افترض في كتابه (في فلسفة العلم) ما أطلق عليه (أنماط الاكتشاف) (Patterns of Discovery) قائلًا: «إن هناك جوانب متعدّدة للملاحظة العلمية في حدِّ ذاتها، ويمكن حلّها عن طريق الأشكال الجشتالتية (Gestalt) بالإضافة إلى الرياضيات، بحيث إن الملاحظين لا يريان الشيء ذاته وهم أيضًا لا يبدأن من المعطيات عينها ولا ينتهيان إلى النتيجة نفسها مع أنهما على وعي تام بشيء واحد، ومن هنا تتولّد النظريات الجديدة»[4].
فإن هذا يبرز بنحو أقوى وأولى في ميدان الرصد والتفسير للتاريخ، حيث تنسحب عليه أيضًا خاصية (الجشتالت) في الرؤية، فلا يكون ما شاهده أي شاهد على أي واقعة تاريخية هو كل ما فيها من زوايا رؤية وليست هي الحقيقة الكاملة.
ومن ثَمَّ فإن المؤرّخ المتعقّب والراصد لتدوين هذه الوقائع لم يذكر بالتأكيد كل شيء عنها، ليس لأنه لا يريد ذلك قصدًا بنية إخفاء الحقائق، ولكن ببساطة لأنه لا يعلم كل الحقيقة، حتى وإن شاهد الواقعة بنفسه فستكون مشاهدته سليمة لا شك فيها، ولكن لا نستطيع القول بأنه قد شاهد كل شيء طالما أنه كان ينظر من زاوية معينة، فتكون مشاهدته صادقة بقدر زاوية رؤيته للواقعة.
وهذا ما سمح لدى مفسّري التاريخ وشرّاحه بأن تتعدّد –بل وربما تتنافر– أقوالهم التفسيرية على حادثة تاريخية واحدة، أو جملة حوادث مترابطة.
والسر الأعظم وراء ذلك هو أن التاريخ حالة إنسانية في وقائعه وفي تدوينه. حتى ولو كانت الوقائع متعلّقة بأحوال طبيعية أو مادية، ولكن يبقى فعل التاريخ هو حالة إنسانية. وهي الحالة التي لم تتح للعلوم الإنسانية والاجتماعية الفرصة لكي تبنى في البحث العلمي وفق مبدأ (القانون العلمي) (Scientific law) الذي لا يسمح بالاستثناءات على نحو ما في العلوم الطبيعية التجريبية، وإنما ما زالت تبنى على مبدأ (القاعدة العلمية) (Scientific rule) والذي يسمح باستثناءات في الحكم العام بنسبة مئوية تقديرية لأغلبية إلى أقلية ممّا أضعف من درجة الحسم والقطعية في العلوم الإنسانية والاجتماعية على خلاف التقوية المتصاعدة مع شواهد الإثبات والتكذيب في العلوم الطبيعية التجريبية.
وطالما أن الظاهرة التاريخية التي تتجلّى في أي واقعة ثابتة لا تعطي المراقب أو الراصد أو الشاهد التاريخي عليها كل عناصرها وأبعادها في لحظة المشاهدة لأنها لحظة وقوع وزوال تعبّر سريعًا وغالبًا لا تتكرّر بعينها، فإن هذا من شأنه أن يترك بالضرورة فراغات تمثّل علامات استفهام لدى من يفسّرون التاريخ، الأمر الذي يلجئهم إلى افتراض ما يملأ هذه الفراغات، ويجيب عن الاستفهامات افتراضًا، وربما كانت هذه الفراغات مصنوعة اصطناعًا.
وهنا يلعب الاستدلال المنطقي (Logical Inference) بموجب السياق دوره البارز في سبك رؤية كلية شاملة (World-View) حول الواقعة التاريخية وجعلها ظاهرة تاريخية متكاملة.
ومن هنا كان الاصطلاح عليه بالتاريخ المنطقي، فكلمة (منطقي) هنا مقصدها استخدام الاستدلال المنطقي في استنباط التصورات المكملة للوقائع التاريخية داخل السياق الحاكم أو الضابط لمجمل الحالة التاريخية أو الظرف التاريخي. ولكن هذا الأمر لا يخلو من مخاطر لطالما أدّت إلى حدوث مشكلات ارتقت في بعض الأحيان إلى درجة الأزمات الطاحنة.
إذن فمقولة (التاريخ المنطقي) تعادل في دلالتها مقولة (التاريخ الافتراضي)، ولكن الفرق هو أن التاريخ المنطقي لا يصطنع حالة تاريخية عامة بكامل وقائعها كما يفعل الروائيون وكتّاب دراما المسرح والسينما بتأليفهم عبر الخيال الحر، وإنما يكون التاريخ المنطقي هو الجزئيات التاريخية المفقودة فحسب داخل سياق من الوقائع التاريخية الواقعية والمشهودة عيانًا، وأن هذه الوقائع المفقودة أو المحذوفة تقبل أن تكون كالحقائق المدونة تمامًا إذا ما كان قد تم مشاهدتها وتدوينها.
واسترداد هذه الجزئيات المحذوفة عن طريق الافتراض يؤثّر في النتائج والأهداف التفسيرية لجملة الوقائع التاريخية المدونة، ولا يؤثر في الوقائع التاريخية بذاتها من جهة إثباتها ودلالاتها، وذلك بحكم أن سياق الوقائع التاريخية -تمامًا كما السياقات اللغوية- يفرض سقفًا دلاليًّا محدّدًا، وإن كان مرنًا ويتيح تعدّد البدائل والاختيارات إلَّا أنه لا يسمح للخيال بتجاوزه في استنباط الفراغات بينها أي الوقائع المحذوفة.
ومن أجل رسم التعبير الواضح عن هذه الفكرة كان لا بد من استلاف مقولة (التوسم) (Physiognomique) لفيلسوف التاريخ الألماني أوزفلد شبنجلر على نحو ما حلّلها عبد الرحمن بدوي في كتابه (مناهج البحث العلمي)، فإذا كانت وقائع التاريخ لا تتكرّر بحكم أن التاريخ يقوم على الزمان، والصفة الرئيسية للزمان هي الاتجاه والسير قدمًا دون تراجع، وأن المؤرّخ إنما يحاول أن يقوم بوظيفة مضادَّة لفعل الزمن بمحاولته استرداد ما كان في الماضي، فهو في هذا يحاول أن يتصوّر مجرى الأحداث التاريخية، وهذا لا يتم غالبًا «إلَّا بنوع من التجربة الحية التي يحاول المرء فيها أن يعاني في نفسه ما قد كان حسبما كان، فإن التاريخ الحق هو ذلك الذي يستطيع أن يحيا تجارب الماضي كما حدثت في نوع من التخيل. ولكن هذا التخيّل ليس تخيّلًا مبتدعًا إنما يجب أن يقوم على أساس ما خلّفته الأحداث الماضية من آثار، ذلك أن ما كان لا يمكن أن يستعاد بحال، إنما يمكن أن يستعاد نظريًّا بنوع من التركيب ابتداء ممّا خلّفه من وقائع يعمل الذهن فيها أحيانًا والخيال المبتدع أحيانًا أخرى»[5].
ويمكن القول: إن عنصر الخيال المستخدم في هذه التجربة الوجدانية الحيّة الموصوفة بالتوسُّم من أجل استراد أحوال وقائع الماضي بصورتها الكلية المتساوقة إنما هو خيال يتألّف على هيئة استدلال منطقي استنباطي على الزاوية المجهولة أو المخفية لدى من شاهدوا الواقعة التاريخية عيانًا، ثم نقلوها إلى المؤرّخين من زاوية رؤيتهم هم وبما تشبّعت به الرؤية من عناصر تأويلية ذهنية لدى هؤلاء المشاهدين.
التمثيلات المنطقية على فكرة الوقائع المحذوفة
إن الراهب جونيبر عندما استقرَّ العزم لديه أن يؤلِّف كتابًا ليثبت أن كل واحد من هؤلاء الخمسة الذين قضوا نحبهم بسقوطهم عن الجسر، وبانقطاعه لحظة عبورهم كانت حياته كلًّا واحدًا لا يتجزَّأ، مما يعني أن السُّنة الحكيمة التي تجري عليها الحياة جعلت موتهم بهذا الشكل هو الخاتمة الضرورية المناسبة لقصة حياتهم، فطرق الراهب كل باب في البلدة على مدى ستة أعوام كاملة ملقيًا آلاف الأسئلة عن هؤلاء، فكان الناس يُقدّمون إليه ما يطلب من عون وإن كان دائمًا عونًا مضللًا ممَّا جعل البعض يقولون دائمًا أننا لن نستطيع أبدًا أن نعرف الحقيقة[6].
وهذا هو بالضبط حال العملية التاريخية، فهي إما أن توصل إلينا الوقائع الماضية مفرّقة متقطّعة، وإما أن توصلها محمّلة بعناصر الرواة الذاتية، أو كليهما معًا فتكون النزاهة المجرّدة للسرد التاريخي متحقّقة بقدر أو بنسبة ما. ممّا يلزم معه أن يحتاج الأمر في كل الأحوال إلى المعالجة المنطقية في رسم الصورة الكلية للحدث التاريخي بأقرب ما يكون، وبحيث يكون المعيار في التفاضل بين الروايات التاريخية المتعدّدة هو بمدى السبك والصدق المنطقي في تحقيق الوحدة السياقية بين ما هو واقعة وما هو توسُّم تخيُّلي منطقي في ملء الفراغات التاريخية.
وممّا قد يوجد كأمثلة بارزة على خاصية التاريخ المنطقي هو ما اجتهد فيه علماء الطبيعة والكون من سدّ ثغرات تفسيراتهم العلمية بافتراضات استدلوا عليها استدلالًا منطقيًّا صرفًا.
فالفيلسوف الاقتصادي كارل ماركس (Karl Marx) الذي حاول أن يجعل من تفسيره المادي للتاريخ علمًا يحتذي المنهج التجريبي كما تحتذيه علوم الطبيعة، فأول كل مراحل الانتقال التاريخي للمجتمعات الإنسانية المدونة بأنها تنتظم وفق سنة الصراع الجدلي الاقتصادي الحتمي للطبقات الاجتماعية، والذي إذا ما بلغ أوجه تحوّل بالمجتمع كله إلى الحالة التاريخية الجديدة بفعل ثورة حتمية التغيير، وهكذا حتى بلوغ حالة التطوّر الاجتماعي الإنساني وصولًا إلى الشيوعية.
ولكن ماركس احتاج في بعض مناطق التاريخ التي أغفلها التدوين إلى سدّها بافتراضات تاريخية من أجل أن يكتمل تفسيره للتاريخ وفق سياقه؛ ولذا كان لا بد لهذه الافتراضات أن تأتي متّسقة منطقيًّا مع مجمل ما سلَّم به ومسوّغًا له. ولكنها لم تزل محض افتراضات، حيث كانت المشكلة في التوافق الزمني ما بين حالة وسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج كسبب حاسم لنشوء الثورة الحتمية للتغيير التاريخي الاجتماعي في لحظة توقيت معينة ومعلومة.
وقد تبدو مشكلة الجانب الافتراضي المنطقي واضحة في التفسير المادي الجدلي للتاريخ المؤدي إلى حتمية الثورة، وذلك في المقارنة بتساؤلات ماو تسي تونغ زعيم الثورة الشيوعية الصينية في ردّه على اتشسون الناطق باسم برجوازية الولايات المتحدة الأمريكية –كما أسماه هو– لإثبات جهل اتشسون بحركة التاريخ، قائلًا: «هل تنتج الثورات عن فائض السكان؟ لقد حصلت ثورات كثيرة في الأزمنة القديمة والحديثة... فهل كان سببها فائض السكان؟»[7].
دلالة هذا السؤال هي أن هناك أسبابًا عديدة للثورات، ولكن المفسّر للتاريخ ربّما يختار منها ما يلائم منظومته الفكرية أو الأيديولوجية ويصنع منها سياقًا مفاهيميًّا لوقائع التاريخ يسير عليه، محققًا لأغراض اتجاه أيديولوجيته تلك أو منظومة أفكاره.
والسبب في عدم الحسم في المواقف التفسيرية المختلفة للتاريخ، أي الوقائع الثابتة، أنها مرتبطة وجودًا وعدمًا بعنصر متغيّر بشدة هو الإنسان نفسه، والذي يصعب معه للغاية التنبؤ بأي سياق من الافتراضات المنطقية على الفراغات التاريخية بين الوقائع سيقود إلى مستقبل حتمي ذي شكل معيّن أو حالة معينة وفي أيّ توقيت بالتحديد.
وكذلك فعل داروين (Ch. Darwin) عندما لم يُتح له التحقّق من الحلقة الانتقالية المفقودة في سلّم التطوّر البيولوجي، بين ما شاهد عليه الكائنات فعليًّا في الحاضر، وبين ما اضطر للاستدلال عليه استدلالًا استرداديًّا لبدايات التكوّن في الماضي الغابر، وهو ما لم يطّلع عليه بملاحظة علمية مباشرة.
إن التفسير الدارويني إن هو إلَّا تفسير تاريخي في الأساس، به فجوات لم تخضع للكشف عنها كما خضعت الوقائع الدالة عليها الآثار والحفريات. ولذلك فقد اضطر داروين أن يصل ما بين الوقائع الآثارية والمشاهدات العلمية للحظة الآنية الحية بسدّ الفجوات واللبنات المفقودة بوقائع منطقية افتراضية من أجل إكمال هيئة السياق الواحد في تطوّر الكائنات.
وعلى المستوى ذاته كان تفسير علماء الفيزياء لبداية التاريخ الكوني بنظرية (الانفجار العظيم) (Big Bang)، وقد ظلّت هاتين النظريتين في نشأة الإنسان ونشأة الكون في حيّز النظريات العلمية (Theories) وليس القوانين العلمية (Laws) لأجل ما حكم الله تعالى به في القرآن الكريم: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ...}[8].
وهذا هو بالتالي ما أدّى إلى خلق الفرصة لتكوّن الفراغات التاريخية التي تمّت محاولة سدّها بالافتراضات المنطقية على وقائع التاريخ المحذوفة في إثبات النشأة الأولى.
ولعل تلك الخاصية للتاريخ الافتراضي في ميدان العلوم هي ما جعلت توماس كون فيلسوف العلم البارز أن يعمد إلى تفسير كيفية بناء ما اصطلح علية بالنماذج المعرفية (Paradigms) في أذهان العلماء، وكيف تتم التحوّلات التي تطرأ على هذه النماذج جرّاء المشاهدات العلمية الجديدة، والتي تقتضي دومًا من العلماء تجديد أو إعادة بناء النموذج المعرفي في أذهانهم الذي ينظرون به إلى الوقائع العلمية المعملية المتغيّرة، واستبدال القديم بآخر جديد لكي يحقّق لديهم كشوفات علمية جديدة، وزوايا جديدة في رؤية الكون، لم تكن متاحة من قبل، وكيف أن هذه النماذج المعرفية للعلماء تصدر متأثّرة بكل العناصر الوجودية الإنسانية العقلية والانفعالية والشواهد التاريخية والأحكام المنطقية والاتجاهات الاعتقادية وحتى مكوّنات الأسطورة والخرافة القديمة، فكل هذا ممّا لا يكمن بذاته في حقيقة الظاهرة موضوع الدراسة العلمية والبحث المعملي، وإنما هي محدّدات معرفية متكوّنة في ذهن العالم تحكم العمليات التفسيرية على ما يكشفه بحثه من حقائق علمية، ومن ثم قد تظهر في تدويناته عليها[9].
وهذا الأمر أشدّ وضوحًا وتأثيرًا في حيّز العلوم الإنسانية والاجتماعية لهذه النماذج المعرفية الذهنية، والتي تنتمي بنحو أو بآخر لظاهرة التاريخ الافتراضي.
وهكذا ربّما ظلّت تلك الفراغات التاريخية مفتوحة بين الوقائع المدوّنة أمام العقل المنطقي الإنساني من أجل توفير التمكين الإبداعي للإنسان في تأليف تصوّرات جديدة، مرورًا على السياقات ذاتها من الوقائع المشهودة والمقاس عليها الاستدلالات على الواقع الغائب.
وأيضًا ليكون هناك معنى لفكرة الحبكات الدرامية التي تصنعها عقول كتّاب سيناريو المسرح والسينما والرؤى الإخراجية المنفّذة لها، فتضعها في قالب فني يجدّد لدي المتلقي سياقات الحكايات التاريخية بنحو فيه اختلافات نوعية وكمية في كل عرض من العروض.
فما زال تاريخ قيام وسقوط الأندلس مثلًا يعاد تأليفه دراميًّا بعروض مختلفة على هذا الحدث التاريخي الواحد، وما سمح بهذا التجديد في الحبكات الدرامية للعرض هو تلك الفجوات التاريخية أو ما بين سطور الحقائق التاريخية المدوّنة من افتراضات منطقية للوقائع المحذوفة خلال هذه الحقائق، فهي بذلك شكّلت مساحة كافية لحركة الخيال الإنساني الإبداعي في قراءة وإعادة قراءة التاريخ.
إن البناء الدرامي للأحداث قد يفرض على مؤلّف رواية منسوجة على حقيقة تاريخية واقعية أن يعالج المناطق التاريخية المحذوفة أو غير المدونة، فيما بين الوقائع المثبتة برؤيته المنطقية الخاصة التي تجعل منه مؤلّفًا رغم أن الأحداث التي هي موضوع الرواية هي وقائع تاريخية حقيقية، ولكن تدوينه المتخيّل للوقائع المحذوفة جعل منه مؤلفًا روائيًّا وليس مؤرّخًا.
ونرى مثال ذلك في رواية (زنوبيا) لمؤلّفها محمد فريد أبو حديد، حيث إن وقائع الملكة (زنوبيا) وأحداث بلادها تدمر هي وقائع تاريخية مثبتة بوثائق ومخطوطات ومدوّنات، ولكن ما أضافه المؤلّف الروائي من تصوير تفصيلي دقيق للأحوال الشعورية الإنسانية العالية، والعواطف الجيّاشة والانفعالات الوجدانية على الوقائع والأحداث والإشارات اللغوية المحكية، والحركية المعبّرة عنها بما يتوافق مع طابع عصر مملكة تدمر، وخصوصيته الحضرية والزمانية، ونوع النسيج لشبكة العلاقات بين الأفراد والتواصل التفاعلي بينهم، ما من شأنه أن يحوّل الوقائع التاريخية الجافة والصامتة إلى مشاهد ذهنية حيّة متخيّلة ومتفاعلة في ذهن القارئ، فيشعره بالشيء الكثير من معايشة هذا العصر وأحداثه.
ولعل من أنماط التاريخ المنطقي الافتراضي فيما يحقّقه السرد الروائي التاريخي ما جاء في قصة (حي بن يقظان) للفيلسوف الأندلسي ابن طفيل، من دلالة على صياغة أو تأليف البناء الدرامي للاستدلال المنطقي في تكوين واستدعاء الوقائع التاريخية المحذوفة، فبالرغم من أن القصة ليست بذات وقائع تاريخية مثبتة إلَّا أنها مثّلت وسيطًا تفسيريًّا على ثلاث حتميات تاريخية هي حتمية وجود هذا العالم بمكوّناته الطبيعية والتاريخية، وحتمية حقيقة الرب الخالق المدبّر له، وحتمية وجود الإنسان المفكّر في الكون القارئ لأحواله وتصاريفه والمستدل منه على حق الرب ووجوب عبادته.
وفي كل هذه الاتجاهات في التحليل لظاهرة التاريخ الافتراضي، تكمن فائدة البناء المنطقي لوقائع التاريخ المحذوفة في أنها تجعل التاريخ معايشة متكاملة العناصر والأبعاد، وليس مجرّد عمليات خاصّة بالذاكرة المحايدة، أي إنها تجعل التاريخ بمثابة (لعبة – لغة) (Language-Game) ورسم طرائق في الحياة متعدّدة عبر العهود المتقادمة، وبحيث لا يتحقّق الفهم الكامل للتاريخ إلَّا بمعايشة الأحداث بعد استدعائها من جديد في قالب سياقي متوافق من الوقائع التاريخية المدوّنة، والوقائع التاريخية المحذوفة والمستكملة منطقيًّا وافتراضيًّا في وحدة واحدة، وهو ما يسمح بفعل المعايشة من أجل الوقوف على فهم سليم لعموم الحالة التاريخية موضوع الدراسة.
وجدير بالبحث هنا تحديد علاقة بين الاستدلال المنطقي في العملية التخيّلية على استدعاء الوقائع التاريخية المحذوفة، وبين مفهوم (المشابهات العائلية) (Family Resemblances) بحسب ما قدّمه الفيلسوف المعاصر فيتجنشتاين كما في فلسفته المتأخّرة، حيث إن المشابهات العائلية تعيّن حدود السقف الدلالي للسياق اللغوي في العلاقة الترابطية بين علاماته (Signs) على نحو ارتباط العلاقة فيما بين أفراد العائلة الواحدة، وبحيث إن أي عنصر لا يخضع لمعيار هذه المشابهة بين أفراد هذه العائلة فغالبًا ما لا يكون فردًا منها على الحقيقة[10].
وكذلك الحال في السياق اللغوي السردي فإن خروج العلامة بدلالة شاذّة عمّا يمنحها لها السياق تكون كسرًا للسياق الوظيفي العام للنص اللغوي، فلكي يتماسك النص اللغوي في تحقيق الفهم السليم لا بد من التزام العلامات داخل السياق بسقفها الدلالي الممنوح لها منه دون أي افتراضات تأويلية للخروج عليه، وإلَّا لتفكّك النص وفقد نسيجه المنطقي، وصار عبثًا بأن يتم إخفاء واسقاط وقائع تاريخية مدوّنة لحساب التصوّرات الافتراضية الزائدة من أجل تأويل التاريخ بحسب المقاصد الأيديولوجية أو الذاتية المختلفة. وبالتالي فإن مراعاة المشابهات العائلية كمعيار هو أحرى وأشدّ طلبًا في حقل التاريخ الافتراضي.
المقارنة بمنهجية الإسناد التواتري
هل الاستدعاء أو الاسترداد المنطقي للوقائع التاريخية المحذوفة أمر مطلوب في تحقيق وتكملة أي عمل تاريخي؟
إن ذلك يكون باستثناء مطلوبات وشروط الإثبات لواقعة التدوين والتناقل لنصوص ذات خصوصية هي نصوص الوحي الإلهي. فمثلًا أن البخاري كان قد وضع للحديث النبوي الشريف شرطًا مغلقًا لإثبات صحته واستحسانه وتضعيفه، وأن هذا الشرط لا يقبل أي نوع من الاستدعاء المنطقي، ولا يقبل إلَّا فقط ما هو واقعة نصيّة قولية أو فعلية محقّقة يتم تناقلها عبر سلسلة من الرواة الثقات من لدن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصولًا متّصلًا إلى من هم في الحاضر، وأيضًا بما هو ثابت في حق اولئك الرواة من صدق ورشد وأمانة في كافة شؤون حياتهم هم، كوقائع تاريخية معلومة وثابتة عنهم بلا خلاف وبلا استدعاء أو استرداد منطقي افتراضي لوقائع تاريخية محذوفة تخصّهم وتخصّ زمانهم ومكانهم.
وهذا في تأكيد حجية إثبات النص القولي أو العملي وليس في تأويلات الفهم عليه، والحكم على هذا الفهم من جهة الصواب والخطأ، وبحيث إن من أراد دحضًا لحديث صحيح أو متّفق عليه بشرط الإثبات من وجه التواتر فعلى الداحض أن يُقيم حجته في الدحض على شرط إثبات الواقعة التاريخية المتناقلة بالتواتر وليس على أي نوع من المقارنة بين النص وحالة العالم، أو بين النص والقياسات العقلية المحدودة.
وذلك على أن تجيء حجته في دحض النص من حيث شرط الإثبات بشاهد استدلالي، وحجة نفي أقوى من –أو على الأقل مساوية – لشاهد استدلال وحجة إثبات النص موضوع الحديث بكونه واقعة تاريخية محقّقة، وليس على مستوى الدلالة التاريخية.
والفرق حاسم بين مفهوم (واقعة تاريخية) ومفهوم (دلالة تاريخية)، فالواقعة التاريخية هي الشكل الوصفي المحقّق للحدث أو النص في ذاته ومن جهة وجوده، وهذا لا يستدعي إلَّا الشهادة. أما الدلالة التاريخية فهي المتعلّقة بالحدث أو النص من جهة الفهم والتفسير وهي تستدعي العناصر التفسيرية اللازمة بنحو المقارنة والبناء المنطقي والإشارة المعرفية والعلاقة بين الدال والمدلول، وأيضًا الهيئة أو الحالة التداولية.
وكذلك القرآن الكريم، فعندما نتحدث عنه كواقعة فإننا لا نستدعي في الإثبات له إلَّا الشاهد التاريخي في حيّز تنزيل الوحي على الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، أما إذا تحدثنا عنه كدلالة فجائز لنا أن نستدعي منطقيًّا بصدد تفسيره كل الوقائع التاريخية المحذوفة بين علاماته الواردة أيضًا.
وربما كان من أبرز شواهد تحقيق عنصر (المعايشة) للحدث التاريخي للأمم السابقة هو القصص القرآني وطريقة التطبيق عليها في الاستدعاء أو الاسترداد المنطقي للوقائع المحذوفة في ظاهر بنية السياق القصصي القرآني، ولعل هذا كان من جملة الأغراض الحكيمة لتوظيف كلا الجانبين المنطقي والانفعالي في التدبر للقصة القرآنية جراء الاستعاضة الافتراضية عن بعض الوقائع السردية المباشرة فيها.
خاتمة
إن الضبط الدلالي للمفاهيم في حيّز البحث التاريخي وتحديد المجال الوظيفي، لكل مفهوم مستخدم فيه فعليًّا، لهو مطلب مهمّ من أجل نسج الصورة المتكاملة لأيّ حالة تاريخية، وفق كافة أبعادها الظاهرة منها والمضمرة والمحذوفة، وهو ما يحقّق الغرض النهائي من دراسة التاريخ بأن تتوفّر العبرة والدرس المستفاد من ناحية، وأن تسهم في تجاوز الحاضر من أجل التطور نحو المستقبل من خلال تحقيق عنصر التأثير والتأثر للإنسان على الأحوال التاريخية بصورتها المتكاملة والتي كانت الآداب الروائية والفنون الحركية والأدائية في المجال التاريخي ما هي إلَّا تجسيدًا لهذا التأثير والتأثر، وتدريبًا للملكة الذهنية المنطقية في إجراء الاستدعاءات المختلفة للوقائع التاريخية المحذوفة، ممّا من شأنه أن يعمل على معايشة التاريخ وليس فقط تدوينه وقراءته وتذكره، بل وأيضًا تحقيق القدرة على صناعة التاريخ الحاضر أحيانًا من أجل رسم آفاق المستقبل على ما يشاء الله تعالى.
[1] قاسم عبده قاسم، إعادة قراءة التاريخ، سلسلة كتاب العربي 78 ، الكويت، الطبعة الأولى 2009م، ص 22.
[2] Ray Monk - Wittgenstein and the two culture - Prospect, July 1999, p. 1.
[3] ثورنتونوايلدر، جسر سان لويس ري، ترجمة: عبد القادر القط، مؤسسة فرانكلين للطباعة والنشر، الطبعة الثانية، 1957م، ص4.
[4] راجع: N.R. Hanson – Patterns of Discovery – Cambridge University Press, 1995, p. 11.
[5] عبد الرحمن بدوي، مناهج البحث العلمي، الكويت: وكالة المطبوعات، الطبعة الثالثة، 1977، ص183، 184.
[6] ثورنتو نوايلدر، جسر سان لويس ري، ص 6 - 7.
[7] ماو تسي تونج، المؤلفات المختارة، بيروت: دار ابن سينا، 1965م، المجلد الرابع، ص 499.
[8] سورة الكهف، آية: 51.
[9] راجع: توماس كون، بنية الثورات العلمية، ترجمة: حيدر حاج اسماعيل، بيروت: المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى، 2007م، ص 205-208.
[10] Ray Monk –Wittgenstein and two cultures – p. 2.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.