شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
مؤتمر: التأصيل الثقافي للعلوم الإنسانية: رؤى وتجارب
بيروت: عقد في 20-21 نوفمبر 2018م
محمد تهامي دكير
«إنّ المشكلة ليست في التعلُّم من تجارب الآخرين، على الإطلاق، بل هي تحديدًا في نقل معارفهم والاقتداء بهم، بلا أيِّ جُهدٍ نقدي، يُحفّز العقل على الإبداع..».
د. طلال عتريسي
للتّعرف على نشأة العلوم الإنسانية في الغرب، وأسباب انتشارها وهيمنتها على الدراسات الإنسانية في العالمين العربي والإسلامي على وجه الخصوص، ولرصد الأزمة العميقة التي تعانيها اليوم هذه العلوم في موطن نشوئها، وكيفية نقدها علميًّا ومعرفيًّا، وما دور الجامعات العربية والإسلامية في التأصيل الثقافي لهذه العلوم، وإلى أيِّ حدٍّ نجحت بعض الدول الإسلامية في مشروع أسلمة الجامعات، وإنتاج العلم والمعرفة، في إطار قيم ومبادئ المرجعية الإسلامية ومبادئها ورُؤيتها للكون والإنسان..
وللإجابة عن سؤال مُهم، يتعلّق بمدى مساهمة العلوم الإنسانية الغربية اليوم، في جعل الحياة البشرية أفضل، بعد هذا الكم المعرفي الهائل من النظريات والأدبيات التي أنتجت على مدى قرون من نشوء وتطوّر الحضارة الغربية.
نظمت جامعة المعارف في بيروت (لبنان)، مؤتمرًا دوليًّا تحت عنوان: «التأصيل الثقافي للعلوم الإنسانية: رؤى وتجارب» وذلك بين 20-21 نوفمبر 2018م، في بيروت، بمشاركة عدد من العلماء والمفكّرين والأساتذة الجامعيين من العالمين العربي والإسلامي، ناقشوا على مدى يومين مجموعة من المحاور في ستِّ جلسات.. وقد اختتمت فعاليات المؤتمر بجلسة تكريمية للمشاركين.
ﷺ الجلسة الافتتاحية
شارك في الجلسة الافتتاحية عدد كبير من الشخصيات السياسية والأكاديمية والدينية: اللبنانية والعربية والإسلامية، على رأسهم وزير الدفاع اللبناني السابق، وممثّل وزير الخارجية، وسفيرا إسبانيا والجمهورية الإسلامية الإيرانية، وممثّل البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، وممثّل رئيس الجامعة اللبنانية الدكتور فؤاد أيوب، ورئيس جامعة حلب، وممثّل بطريرك أنطاكية وسائر المشرق، والمفتي الجعفري الممتاز، بالإضافة إلى عدد كبير من الباحثين والمفكّرين وأساتذة الجامعات والمعاهد اللبنانية والعربية.
وقد ألقيت في هذه الجلسة مجموعة من الكلمات:
كلمة رئيس جامعة المعارف، البروفسور علي علاء الدين، وقد أشار فيها إلى ما قدّمته العلوم الإنسانيّةُ من أدبيات نظريّة ومعرفيّة وتطبيقيّة في المجالات الإنسانيّة والاجتماعيّة كافّةً، متسائلًا: هل ساهمت في جعل حياة الإنسانية أفضل، في الوقت الذي تتفاقم فيه المشكلاتُ الاجتماعيّة والاقتصاديّة والأخلاقيّة والنفسيّة..؟
وما حجمُ الفائدةِ التي تُرجى من نتاجاتِ تلك العلوم وتطبيقاتِها، في مجتمعاتٍ تختلفُ في ثقافاتِها ومرجعيَّاتِها الروحيّةِ والفكريّةِ عن المجتمعات الغربيّة.. وفي إطار هذه الإشكالية -يقول د. علاء الدين-: وضعتِ الجامعة، تحت هذه المظلة، أولوياتِها الاستراتيجيةَ في التربية والتعليم، لتكونَ في حالةٍ من الانسجامِ بين التأصيل الثقافيّ، والتّميُّز العلمي من جهة والانفتاحِ على الأُفقِ العلميِّ المعاصر، وعلى تجاربِ الآخرين من جهةٍ أخرى.. وبالتالي -يضيف د. علاء الدين- فإنّ المؤتمر هو محاولة لوضع منهج تفكير وسلوك، يراعي منظومة القيم في مختلف جوانب الحياة، ويفعّل الطاقات الإنسانية الفطرية الكامنة لاكتساب المعرفة، وتحقيق الكمال الإنساني وعمارة الأرض كما أرادها الله.
أما منسّق المؤتمر د. طلال عتريسي، فقد تحدث عن أهمية موضوع التأصيل الذي سيناقشه المؤتمر من خلال الإشارة إلى إشكاليات علمية ستَّة مهمة هي: علوم غربية، هذه العلوم هي نظريات، النظريات تحوّلت إلى يقينيات، هيمنة الغرب هيمنة نظرياته، جوابنا هو النفي، نقد الغرب لنظرياته، رفض التبعية، إنتاج المعرفة.. وهذه الإشكاليات سيتم مناقشتها ومعالجتها من خلال ما ستقدّمه الأوراق المشاركة والمحاور الرئيسة المعتمدة في هذا المؤتمر.
وقد اختتم حفل الافتتاح، بكلمة لوزير الدفاع الوطني اللبناني السابق وعضو مجلس أمناء جامعة المعارف، المهندس يعقوب الصراف، أشار فيها إلى أهمية «الانفتاح على العلوم الإنسانية والاستفادة منها دون التخلّي عن الهوية؛ لأن ما قدَّمه الآخرون من علوم غربية، يُمكن توظيفه في سياق تطوير العلوم عندنا في إطار من التكامل المعرفي».
ﷺ أعمال اليوم الأول
عقدت في هذا اليوم ثلاث جلسات، الجلسة الأولى: ترأسها د. مصطفى أفيوني (رئيس جامعة حلب)، وقد ناقشت المحور الأول: «نشأة العلوم الإنسانية الغربية، وأسباب هيمنتها»، وقدّم فيها الدكتور حميد رضا پارسانيا (رئيس اللجنة الحوزوية للمجلس الأعلى للثورة الثقافية، من الجمهورية الإسلامية الإيرانية) ورقة بعنوان: «الأبعاد الفكرية والفلسفية والاجتماعية لمنهجية العلوم الإنسانية الغربية»، وفيها تحدّث عن نشوء علم الاجتماع في الغرب والتطوّر التاريخي الذي أثّر في تعريف الفلسفة والعقل والعلم، فديكارت قدّم مفهومًا جديدًا للعقل، عندما اعتبره قوة من قوى الإنسان، فيما أكّد الفيلسوف الألماني كانط تمتّع العقل بهوية ذاتية، أما الفيلسوف هيغل فإنه تحدّث عن البعد المتعالي وقدّم مقارنة للعقل من منظار تاريخي، موكدًا أن «المعاني التي أعطاها كانط للفلسفة قد تغيّرت على مدى العقود المختلفة من القرن العشرين، وقد اقترنت هذه التغييرات بتغيير هوية العلم، بما في ذلك هوية العلوم الاجتماعية».
ومع أوغست كونت الذي كان متأثّرًا بكانط فإن الفلسفة ستفترق نهائيًّا عن العقل، وهكذا تمّ التمييز بين الفلسفة التي تفكر في العالم بطريقة عقلية، فيما أصبحت العلوم (science) تفكّر فيه بطريقة حسية.. كذلك أشار الكاتب إلى تطوّر فكري مهم مع ماكس فيبر الذي سيعتبر الفلسفة جزءًا من العلم بل تعطيه الهوية كالميتافيزقا.
الورقة الثانية في هذه الجلسة قدّمها الدكتور سيف دعنا (عميد كلية العلوم الاجتماعية في جامعة ويسكنسن في الولايات المتحدة الأميركية)، وجاءت تحت عنوان: «كيف تحوّلت العلوم الإنسانية الغربية إلى علوم مهيمنة عالميًّا»، وفيها انطلق الباحث من رؤية الباحث الفلسطيني الشهير إدوارد سعيد الذي تحدّث في كتبه عن (الاستشراق) و(الثقافة والإمبريالية) وقد كشف عن نمط الثقافة الاستعمارية التي تضع تصورًا متخيًلا للآخر المختلف حضاريًّا، حيث تم تصوير المسلم –مثلًا- كإرهابي، وبالتالي، فمن خلال هذه الكتابات والحوارات البحثية بين الأكاديميين يمكن التعرّف على الرؤية الإمبريالية للآخر وكيف يتم تحويلها إلى واقع، لذلك –حسب الباحث- لا يمكن فهم سياسات الهيمنة الغربية إلَّا من خلال التعرّف على العلوم الاجتماعية والإنسانية الغربية والدور الذي تلعبه في تكريس هذه الرؤية، وبالتالي، لا بدّ من التعرّف على ذاتنا بشكل صحيح وإيجاد رؤية للعالم خاصة بنا، ومعرفة العلاقة الجدلية التي توجد بين المعرفة والسلطة، والانتباه إلى ما تروّج له الثقافة والعلوم الإنسانية في الغرب من مفاهيم وقيم تصب في مدح تركيز الثروة في يد جهات معينة من خلال الدعوة إلى الحرية الفردية.
«دور الجامعات في نقل هيمنة العلوم الإنسانية الغربية واستمرارها» عنوان الورقة التي قدّمها الدكتور شاندرا كانت راجو (الأستاذ المحاضر في عدد من الجامعات الهندية)، وقد أشار فيها إلى كيف كانت الشعوب المُسْتَعمَرَة تنظر إلى العلم الغربي، على أنه سبب في التفوّق والإغراءات الوظيفية التي كانت تقدّمها الدول الاستعمارية، ما جعل التعليم في هذه المستعمرات يتماهى مع الوظائف وإغراءاتها المادية، وبالتالي أدى ذلك إلى هيمنة هذا النمط من التعليم.
وهذا الوضع وإن انكشف وجهه المخادع والمزيف لدى البعض -حسب الباحث- إلَّا أن الغالبية ظلّت تحترم وتثق في كل ما يكتبه الغرب الاستعماري، وترفض ما يكتبه غيره. ثم أشار إلى بعض التجارب التحرّرية الجامعية من الاستعمار ومناهجه التعليمية كما حدث في الجامعات الهندية والماليزية والإيرانية.
ولمناقشة المحور الثاني: «أزمة العلوم الإنسانية الغربية»، عقدت الجلسة الثانية التي ترأّسها الأستاذ عبد الله قصير (المدير العام لمركز الأبحاث والدراسات التربوية – لبنان)، وقد تحدّث فيها الدكتور عبد الحليم فضل الله (رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق في لبنان) عن: «العلوم الإنسانية في خدمة مَنْ: علوم من أجلِ الإنسان أو من أجلِ السيطرة»، وفيها أشار الباحث في البداية إلى العلاقة بين العلوم الإنسانية والمجتمع والسلطة، مؤكدًا فشل التطوّر العلمي الهائل في الغرب مع ما حقّقه من إنجازات في الإجابة عن الكثير من الأسئلة الإنسانية التي لا تزال معلّقة، في الوقت الذي تحوّل فيه العلم وإنجازاته وسيلة للسيطرة والهيمنة، كما تساءل عن عقلانية العلوم الإنسانية، وهل تستند إلى مبادئ وأصول متينة؟ وما تأثيرها على الإنسان هل هو تأثير إيجابي أم سلبي؟
وقد قدَّم الباحث فضل الله مجموعة من الأمثلة على تجارب للتفاعل الإيجابي والسلبي بين العلوم الإنسانية وبين عدد من الوقائع السياسية والاقتصادية، حيث تم استغلال بعض النظريات والنماذج الإرشادية للهيمنة وتغيير السلطة ومحاولات الهندسة الاجتماعية، بذريعة العقلانية تارة والحداثة تارة أخرى. وفي الأخير أكَّد الباحث فضل الله على أن «النزعتين الفردانية والجماعية أخفقتا في جعل علوم الإنسان مدخلًا للعدالة والسعادة والحرية والرخاء، وفشلتا أيضًا في إثبات الاستقلال الفكري والحياد المنهجي تجاه قوى السلطة والسيطرة المتصارعة في خضم علاقات القوة. وهذا يؤكّد الحاجة إلى ثورة معرفية لتخطّي الاختلالات المذكورة، حتى تؤكّد علوم الإنسان قدرتها على التفسير والتأويل من ناحية، وعلى تجديد القيم وتطويرها بوصفها مدخلًا للتغيير من ناحية ثانية، وهذا -يضيف الباحث- انطلاقًا من أنّ التغيير والنهوض المطلوبين، يجب أن يكونا من خلال البشر، فالإنسان هو أقوى من القوانين الاجتماعية والحتميات التاريخية والمعادلات الرياضية، ومصدر مشروعيتها وقوتها واستمرارها...».
الدكتور كلود الڤاريس (باحث من الهند) قدّم ورقة بعنوان: «أي إنسان درست العلوم الإنسانية الغربية؟»، في هذه الورقة انتقد الباحث العلوم الإنسانية الغربية وخصوصًا ادّعاءها الشمولية، بينما مصادرها لا يتجاوز الميثولوجيا اليونانية والرومانية والهواجس الفكرية والثقافية الأوربية؛ لذلك دعا لتجاوزها والتخلي عن الأنثروبولوجيا على وجه الخصوص لأنه علم في خدمة الاستعمار. كما انتقد تبعية الباحثين في الهند لكل ما ينتج في الغرب، داعيًا إلى التعرّف على الإنسان بشكل صحيح، وإقامة علاقة صحيحة مع العلوم الإنسانية الغربية متحرّرة من تأثير الوظيفة والسعي للإبداع والابتكار ورفض التقليد.
الدكتور أحمد حسين شريفي (أستاذ الفقه والأصول في حوزة العلمية بقم المقدسة - إيران) قدّم ورقة بعنوان: «علوم إنسانية بلا روح» أشار فيها إلى جوانب الضعف التي تعتري العلوم الإنسانية الغربية، متهمًا إيّاها بأنها «فاقدة للروح، وناقصة وغير إنسانية»، وأنها -بشكل عام- تسعى إلى تحقيق مجموعة من الأهداف، مثل: التأكيد على أصالة الإنسان وأصالة اللذة وأصالة المنفعة والإلحاد وغيرها... القول بالنسبية المعرفية ما يجعل الإنسان يتخبّط في الجهل، السعي لإلغاء أي تأثير للدين في المجتمع عن طريق الدفاع عن الأيديولوجية العلمانية، وإبعاد الإنسان عن الفطرة.
كما انتقد الباحث اقتصار هذه العلوم على المنهج التجريبي الظاهري الذي يهتم بالأبعاد العميقة الأخرى، وبسبب ذلك فقد انعكس ذلك على الواقع الاجتماعي الغربي الذي يشهد تصاعد معدّلات الجريمة والانتحار والتحلل الأخلاقي... إلخ، وبالتالي «فمن أجل التمتّع بمجتمع معافى وسليم، وتشكيل حضارة سليمة، وبناء الإنسان وتكامله، لا مناص من بثّ روح الحقيقة والمعنويات والإنسانية في العلوم الإنسانية، وبناء العلوم الإنسانية على أسس ومباني توحيدية...».
الجلسة الأخيرة في هذا اليوم، تناولت محور: «نقد العلوم الإنسانية الغربية»، وقد ترأسها الدكتور محمد سعيد مهدوي كني (الرئيس السابق لجامعة الإمام الصادق C في إيران)، وقد تحدّث فيها في البداية الشيخ محمد زراقط (مدير مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي في بيروت)، عن «نقد النزعة العلموية في الغرب»، حيث أكّد أنّ الدقة العلمية واحترام المعايير والقواعد المنهجية في البحث العلمي من المبادئ الأولية التي لا يحسن النقاش فيها فضلًا عن الدعوة إلى التخفّف من أعبائها، كما انتقد الخلل المنهجي الذي تعاني منه العلوم الإنسانية في الغرب بتقوقعها على المنهج التجريبي فقط، وفي نظره فإن النقد الغربي للعلم التجريبي قد انتهى إلى ما يسمّى بالعلموية، وهذه الظاهرة ينظر إليها باعتبارها خللًا منهجيًّا ابْتُلي به الفكر الغربي في بعض قطاعاته عندما تمّ تحكيم منهجية من منهجيّات البحث العلمي في سائر الميادين، كما أشار إلى وجود أكثر من نسخة في نقد هذه العلموية، وأن المفكّرين في الغرب أكثر نقدًا لها من المفكّرين الإسلاميين وغيرهم، مستعرضًا نموذجين لهذه العلموية.
«العلوم الإنسانيّة الغربيّة بين التحيّز والموضوعيّة» هو عنوان الورقة التي قدّمها الدكتور عامر عبد زيد الوائلي (باحث من العراق)، وفيها تحدّث عن مناهج العلوم الاجتماعية وكيف أن لها سياقات محدّدة تتعلّق بالإنسان وحياته الاجتماعية، أما بخصوص موضوع التحيّز فقد أشار الباحث إلى الخطأ الذي وقع فيه الباحثون في العلوم الإنسانية في الغرب عندما حاولوا الاستفادة من العلوم الطبيعية ومناهجها التي حقّقت الكثير من الإنجازات المعرفية، مع أن موضوع الإنسان متغيّر بخلاف العلوم الطبيعية، كما أشار إلى العامل الأيديولوجي والوظيفي الذي يجعل الباحث الغربي لا يستطيع التجرّد أو البحث بموضوعية منهجية، ما يجعله يتوصّل إلى نتائج مؤدلجة، لا تخدم الحقيقة المعرفية، بل تحكمها خلفيات أيديولوجية مسبقة، وهذا لا ينحصر في الغرب بل وقع الأمر نفسه في الثقافة العربية والإسلامية الحديثة والمعاصرة التي تقاسمها تياران: تيار الحداثة والنهضة وتيار الاستشراق.
الدكتور رمضان برهومي (جامعة الزيتونة – تونس)، أشار فيها إلى الأسئلة المهمّة التي تطرحها العلوم الإنسانية، وأنّ ما تقدّمه هذه العلوم هو من باب النظريات وليست المقدّسات؛ لذلك لا بد من التوقّف عند علاقة المعرفة بالمقدّس، هل هي من جهة الحقائق التي تنتهي إليها أو الموضوعات أو المناهج؟
وفي نظره من المفترض في بداهة الحقائق أنّ السّؤال في نظريّة المعرفة وصيرورتها يقترن على وجه الضّرورة بالنّظر والتّدبّر في تنوّع العلوم وتصنيفها على اعتبار الموضوعات من جهة تعاليها أو واقعيّتها ومناهجها بالتّحقّق في مدى صوريّتها أو مادّيّتها، وهو ما لا يفضي إلى مرحلة تقدير النّتائج والحقائق بتقدير درجة يقينيّتها.
وأضاف الباحث: هذا ما يؤكّد الحاجة الملحّة إلى تحديد زاوية السّؤال المعرفيّ لتحقيق الانتصارات العلميّة التي تتوازى فيها المقدّمات مع النّتائج، وحتّى يتحقّق الانسجام والتكامل بين مشروعيّة السّؤال في علاقته بمقتضياته الذّهنيّة والحضاريّة من ناحية، وحدود فاعليّة الحقائق المحمولة على علم من العلوم من ناحية أخرى في سياق تنوّع الموضوعات والمناهج. وأخيرًا أكد أنّ «أزمات المعرفة الإنسانيّة تختلف من سياق ثقافي إلى آخر، ومن مرحلة تاريخيّة إلى أخرى، وفي حالة اشتغالنا على الحدود الفاصلة في العلوم الإنسانيّة بين الشّواغل والعوامل الإنسانيّة ونسبيّة حقائقها من جهة، وبالمرجعيّات المقدّسة بما هي يقين لا يتعارض مع البرهنة العلميّة أو التّأويليّة العرفانيّة ولكنّها في نهايتها ليست سوى مقاربات إنسانيّة في حدود نسبيّتها التي لا ترقى إلى المرجعيّة المقدّسة في انتسابها إلى أيّ متن اعتقاديّ لا سيّما في سياق رؤية العقيدة الإسلاميّة لصلة الإنسان بالكون».
ﷺ أعمال اليوم الثاني
في هذا اليوم بدأت أعماله بمناقشة المحور الرّابع: «تجارب في التأصيل الثقافي»، وقد ترأس الجلسة الأولى الدكتور محمد ضيف الله القطابري (رئيس جامعة عمران من صنعاء اليمن). وتحدّث فيها الدكتور محمد سعيد مهدوي كني (إيران) عن «التجربة الإيرانية: أسلمة الجامعات»، حيث أشار فيها إلى الاستقلالية التي تمتّعت بها الجامعات بعد الثورة، والتغيير الذي طال المناهج والمحتوى، حيث «حصلت على هوية مستقلّة عن المؤسسات التعليمية الأخرى في إيران. وتَفرُّد هذه المؤسسة في مسار إنتاج العلوم الإنسانية والاجتماعية الإسلامية يُمكن أن يُعتبر حصيلة رؤيتها الخاصة إلى البنية، والمنهاج التعليمي، وإلى المعلّم والمتعلّم كمكوّنات أساسية مانحة لهوية هذه الجامعة..».
بدوره تحدّث الدكتور أنور أبو طه (من فلسطين)، عن تجربة المعهد العالمي للفكر الإسلامي ومشروعه الخاص بـ«إسلامية المعرفة»، وكيف شجّع هذا المعهد على إنشاء الجامعات الإسلامية ووضع المناهج التعليمية المنطلقة من الرؤية الإسلامية، والساعية لإنتاج المعارف العلمية المتناغمة مع هذه الرؤية، وقد أشار الباحث إلى مساهمة المعهد في إنشاء الجامعة الإسلامية في ماليزيا وغيرها من المعاهد المختلفة.
كذلك تحدّث الدكتور إبراهيم پور (من تركيا) عن التجربة التركية، وكيف أثّر التغريب على النظام التعليمي في تركيا وما تركه من عواقب سلبية على المجتمع، انطلاقًا من المعطيات التاريخية، كما استعرض بعض المحطات التاريخية المهمّة حيث تم تغيير المناهج التعليمية سواء أثناء حكم الدولة العثمانية، وبعدها ما حدث في تركيا الحديثة بعد قيام الدولة العلمانية.
ومتابعة لعرض بعض التجارب في التأصيل الثقافي عقدت جلسة جديدة ترأسها الدكتور كلود الڤاريس (منسق مشروع «تحرير الجامعة» من الهند). وقد قدّم فيها الدكتور لوتو بابوزيبوا (من أوغندا) ورقة بعنوان: «الأفكار والتجارب الأفريقية حيال تأصيل العلوم»، حيث أشار الباحث إلى أهمية إعادة تنشيط جميع المواقع الثقافية والفكرية في المجتمع واللغات القومية، بحيث يمكن للخبراء الاجتماعيين والأكاديميين أن يعالجوا إشكالية التكنولوجيا والعلوم الملائمة وإقرارها كي يتعاملوا مع تحدياتهم الوجودية، وتحويل هذه العلوم لخدمة المجتمعات الإفريقية.
أما الدكتور سيد فريد العطاس فقد تناول تجربة التأصيل في جنوب شرق آسيا، فتحت عنوان: «النظرية الجنوبية.. التحرّر من الاستعمار والعلوم المستقلة» تحدّث الباحث عمَّا سمَّاه «النظرية الجنوبية» التي قُدمت «كعلم اجتماعي مستقل متحرّر من الاستعمار»، كما ناقش مفهوم «الجنوب» كمفهوم إرشادي، «لكنه أقرب إلى التشبيه أو إلى الرمز للتبعية الفكرية، وهذا يؤدّي إلى فهم خاص لمعنى النظرية الجنوبية بوصفها علمًا اجتماعيًّا محرّرًا من الاستعمار».
الجلسة الأخيرة عقدت لمناقشة المحور السّادس: «دور الجامعة في التأصيل الثقافي»، وقد ترأسها الشيخ الدكتور أكرم بركات (مدير جمعية المعارف الإسلامية في لبنان)، وقد تحدّث فيها الدكتور طلال عتريسي (من جامعة المعارف) عن «واقع العلوم الإنسانية في الجامعات العربية». وقد تحدّث فيها عن «إشكاليات التعامل مع العلوم الإنسانية في الجامعات العربية»؛ إذ تبيّن من خلال متابعة ما كتب وما عُقد من مؤتمرات في أكثر من جامعة عربية أن هناك قاسمًا مشتركًا، هو «الأزمة» في توصيف هذا التعامل مع تلك العلوم. وتعود هذه الأزمة إلى تشكُّل هذه العلوم خارج السياق التاريخي والمجتمعي للمجتمع العربي، وتبعيتها للسوسيولوجيا الغربية، وعدم الثقة بمناهجها في فهم مجتمعاتها، من جهة، واختصار عائد التعليم الجامعي بفاعليته في سوق العمل من جهة أخرى.
أما الدكتور محمد ضيف الله القطابري (من اليمن) فقد تحدّث عن «مناهج التعليم الجامعي والتأصيل الثقافي» داعيًا إلى احتواء المناهج التعليمية على «أساسيات التأصيل الثقافي لمحتوياتها العلمية بالشكل الذي يضمن تحصين شبابنا ومجتمعاتنا العربية والإسلامية من مخاطر الانحراف الفكري والغزو الثقافي في وقت أصبح فيه التداخل الفكري والثقافي بين الثقافات المختلفة أسهل ما يمكن..».
بدوره تحدّث الدكتور حجاج أبو جبر (من مصر)، في ورقته عن: «العلوم الإنسانية في خدمة المجتمع» على مفهوم «عصر بناء الأمة»، مستشهدًا بـ«المفكّر المصري أحمد لطفي السيد، المدير الأول للجامعة المصرية الجديدة في عشرينات القرن العشرين، إذ لم يذكر كلمة (المجتمع) في سيرته الفكرية (قصة حياتي)، في حين وردت كلمة «الأمة» في سيرته ثمانين مرة..». كما تناول الباحث بالتحليل والنقد إشكالية تقليد العلوم الإنسانية ومناهجها ونظرياتها وأثرها في النخبة الثقافية المصرية المتطلّعة إلى بناء الأمة.
وقد أنهى المؤتمر فعالياته بقيام رئيس جامعة المعارف بتوزيع دروع تكريمية على المشاركين في المؤتمر.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.