تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

المحددات المعرفية والمنهجية للنقد في بنية الاجتهاد الفقهي

حيدر حسن الأسدي

المحدّدات المعرفية والمنهجية للنقد في بنية الاجتهاد الفقهي

مقاربة تحليلية

الدكتور حيدر حسن الأسدي*

* جامعة الكوفة، كلية الفقه، العراق. البريد الإلكتروني: H.alasady2013@gmail.com

 

 

 

ﷺ مدخل

ليست المهمّة الوحيدة للمجتهد الاستنباط، بشكله المدرسي، ومراحله الاستدلالية المعهودة، ولكن له وظائف أخرى -ربما تسبق– أو تتزامن معها مثل:

- عرض الأقوال السابقة وأدلتها.

- نقد الأقوال بدقة موضوعية، بما يؤدي لإبراء ذمته.

- بيان مشروعية كل مورد فقهي ينتج مقولة جديدة.

وبناءً على ما تقدّم فإن النسق الفقهي الاجتهادي، يتكوّن من ثلاثة أركان هي:

- المقاربة.

- مسلك الاستدلال (المنهج بمعناه الخاص).

- المقولات.

ويبدو أن هذه الأركان ليست ناظرة إلى غرض آخر سوى خدمة الغرض الاستنباطي الفقهي، حتى لو كان كل ركن منها له أدوار هامّة في توجيه جميع العمليات الأخرى من: نقد وتقويم وغيرها.

كذلك الأمر بالنسبة للمسلك أو المنهج بمعناه الخاص، أما المقولات فدورها واضح بحيث لا يستغنى عنها في أي عملية نقدية تقويمية، وخاصة في مرحلة تثمين ونقد المقولات الأخرى.

وتأسيسًا على ما تقدم يتّضح أن البحث الفقهي الاجتهادي الاستدلالي يتضمّن مجموعة من المقولات العلمية التي تقع في طريق الاستنباط، وحينئذٍ لا بد أن يُبنى على معايير نقدية فعّالة، تمكّن الفقيه من الاطمئنان إلى سلامة تلك المقولات والآراء المتعدّدة، وقد أطلق السيد الشهيد محمد باقر الصدر على المقولات التي تقع في طريق الاستنباط تسمية (العناصر المشتركة للاستنباط).

وعلى الرغم من وضوح ارتباط العلاقة بين مرحلتي النقد والاستنباط، في البحث الاجتهادي الفقهي، فإن ذلك لا ينفي الحاجة إلى دراسة عملية الانتقال نفسها؛ لأن المرحلة الأولى التي يقف عليها المجتهد هي مرحلة «النقد»، وأن المرحلة الثانية هي تحصيل الحجة على الموجّه الشرعي أي مقام الاجتهاد.

والحجة في (اللغة) كل ما يثبت به الإنسان دعواه، ويغلب به خصم[1]. وفي المصطلح العلمي الخاص: تختلف الحجة في المنطق عنها في الأصول. ففي المنطق نطلق (الحجة) على مجموعة من القضايا المؤتلفة والمعلومة التي تؤدّي إلى استحصال المعرفة والعلم بمجهول تصديقي، وهي الاستدلال على صدق الدعوى أو كذبها، وهي مرادفة للدليل[2].

الحجة عند الأصوليين

أما الأصوليون فإن لهم اصطلاحهم الخاص فيها فهم يطلقونها على خصوص: «الأدلة الشرعية من الطرق والأمارات التي تقع وسطًا لإثبات متعلّقاتها بحسب الجعل الشرعي، من دون أن يكون بينها وبين المتعلّقات علقة ثبوتية بوجه من الوجوه»[3].

ومن الواضح عدم الارتباط الواقعي بين الأمارة نفسها وما تقوم عليه سواء كان موضوعًا خارجيًّا أم حكمًا شرعيًّا، أما الموضوع الخارجي فواضح جدًّا لبداهة عدم الارتباط بين الظن بخمرية شيء وبين الخمر الواقعي لا على نحو العلية والمعلولية، ولا على نحو التلازم؛ لأن الظن بخمرية ماء مثلًا لا يكون علّة في تحويل ذلك الماء إلى خمر واقعي، كما أنه لا تلازم واقعًا بين هذا الظن وثبوت مؤدّاه، وأما في الأحكام فأمرها أوضح؛ لأن الأحكام إنما ترد على موضوعاتها الواقعية لا على ما قام عليه الظن إلَّا على قسم من مباني القائلين بالتصويب وسيأتي الكلام فيها في موضعه، والظن لا يزيد على كونه واسطة في إثبات متعلّقه لا ثبوته[4].

وإطلاق كلمة الحجة على العلم يختلف عن إطلاقها على الأمارة؛ لأن إطلاقها على الأول لا يحتاج إلى توسط شيء وإطلاقها على الثاني يحتاج إلى توسط جعل من شارع أو عقل، وبهذا صح تقسيمها إلى قسمين:

أ– الحجة الذاتية

وهي التي لا تحتاج إلى جعل جاعل وتختصّ بخصوص القطع؛ لأنها من اللوازم العقلية له التي يستحيل تخلّفها عنه. وتتّضح هذه الملازمة إذا علمنا أن القطع ليس هو إلَّا كشف اللواقع وطريقًا له وطريقيته من لوازمه الذاتية، بل هو عين الطريق؛ لأن القطع لديه ليس هو إلَّا انكشاف أو رؤية للمقطوع[5]، «ومن الواضح أن ثبوت الشيء لنفسه ضروري والماهية هي هي بنفسها فلا معنى لتوهّم جعل الطريقية لها»[6].

ب– الحجة المجعولة

وهي التي لا تنهض بنفسها في مقام الاحتجاج، بل تحتاج إلى من يسندها من شارع أو عقل[7].

وهي إنما تتعلّق فيما عدا العلم من الأمارات والأصول إحرازية أو غير إحرازية، أي فيما ثبتت له الطريقية الناقصة التي لا تكشف عن الواقع إلَّا في حدود ما، أو لم تثبت له لعدم كشفه عنه. وإنما احتجنا إلى من يسندها من شارع أو عقل لعدم توفر الطريقية الذاتية لها لنقصان في كشفها إذا كانت أمارة أو أصلًا إحرازيًّا على قول أو لعدم توفر الطريقية لها إذا كانت أصلًا غير إحرازي. ومتى انعدمت الطريقية الذاتية انعدم لازمها العقلي وهو صحّة الاحتجاج بمضمونها بما له من المعذرية والمنجزية وغيرهما من اللوازم، ولإثبات تمامية الكشف للأمارة لا بد أن نحتاج إلى من يتبنّى تتميم كشفها من شارع أو عقل، أي نحتاج إلى القطع بإمضاء الشارع لها إذا كان تتميمها قائمًا لدى العرف، أو جعلها من قبله ابتداء بناء على ما هو الصحيح من إمكان جعل الطريقية للطرق والأمارات أو نحتاج إلى من يجعل الحجية لها بناء على القول الآخر[8].

وخلاصة القول: (الحجة) ما يؤدّي إلى إثبات حكم شرعي أو وظيفة شرعية أو عقلية بصورة قطعية، والمراد من الحجيّة الأصوليّة هو الأدلة الاجتهاديّة المعتبرة شرعًا والتي تكون طريقًا لإثبات متعلّقاتها[9].

ومن الحجج ما يؤدّي إلى حكم شرعي كالكتاب والسنة والعقل، ومنه ما يؤدّي إلى وظيفة شرعية أو عقلية كالأصول الأربعة (الأدلة الفقاهتية).

وهناك من يرى: أن الانتقال من «مرحلة النقد»، إلى مرحلة «تحصيل الموجه الشرعي/ الحجة»، لا بد أن تكون خالية من «الأشراط المعرفي» الذي هو: التأثير الخفي أو الظاهر الذي يخلّفه إطار معرفي ما، أو منظومة فكرية، على ذهنية الباحث أو الدارس، عالمًا كان أم صاحب فكر مستقل، أم مجتهد.

وهذا ما تنبّه له السيد محمد باقر الصدر، وأسماه بالذاتية المبررة للواقع، وهي تعني: «أن عملية تبرير الواقع هي: المحاول التي يندفع فيها الممارس –بقصد أو بدون قصد– إلى تطوير النصوص، وفهمها فهمًا خاصًّا يبرر الواقع الفاسد الذي يعيشه الممارس، ويعتبره ضرورة واقعة لا مناص عنها نظير ما قام به بعض المفكرين المسلمين، ممَّن استسلم للواقع الاجتماعي الذي يعيشه، وحاول أن يخضع النص للواقع، بدلًا عن التفكير في تغيير الواقع على أساس النص»[10].

والحقيقة أن هذا النوع من التبرير أو الأشراط هو الأخطر عواقب، والأكثر تأثيراً؛ لسهولة إفلاته من تحت طائلة «النقد» واحتمائه -أحيانًا- ببعض الاعتبارات الأخلاقية.

ويرى عدد غير قليل من العلماء المجتهدين أنه لغرض التخلّص من هذا الأشراط أو التبرير، هو ضرورة التطهير المنطقي للفضاء المعرفي، فلم تكن هذه المحاولة خافية عن بعض الأعلام، بل كانت من الأولويات في نظرهم، ولنا في تجربة تلامذة الشيخ محمد حسين الأصفهاني الغروي (ت 1365هـ)، وخاصة منهم العلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (ت: 1402هـ)، أوضح مصداق لهذه الظاهرة الإيجابية، لكن لم تلاقِ ظرفًا مناسبًا.

لقد التفت هؤلاء الأعلام إلى أهمية هذا التطهير، وبذلوا مجهودات محمودة في هذا الاتجاه، ولكن الظاهر أن كل تلك المجهودات كان مآلها التهميش، فانتفعت بها حقول علمية أخرى غير الفقه، بعد شيوع واستقرار تيار جعل الحجية للظن، في البحث الفقهي الاجتهادي.

إن مسلك جعل الحجية للظن اشتهر به الميرزا النائيني في المدرسة الأصولية الإمامية الحديثة، لكن له صورًا متعددة، تجتمع في مقولة مفادها: أن الشارع قد ارتضى لعباده إحلال الظن محل القطع عند تعبّدهم بالنصوص[11]. وبهذا يصبح لأي خبر ظني، بمقتضى هذا الجعل، قوة خبر قطعي في مجال الاستنباط الفقهي.

وهذه القضية الكلية العامة تحتل موقعًا ركنيًّا متميزًا، فتصلح أن تكون ملاكًا للتمييز بين المسالك التي تنتسب إليها ضمن مدرسة مستقلة، عن جميع من لا يؤمن بجعل الحجية للظن، فتشكّل بذلك اتجاه فقهي داخل المدرسة الفقهية الإمامية، ومن يستقرئ هذا الأمر يجد أن السيد المرتضى ( ت: 436هـ) رائد هذا الاتجاه في القرن الخامس الهجري، والشيخ ابن إدريس الحلي (ت: 598هـ) رافع لوائه في القرن السادس الهجري، والوحيد البهبهاني (ت: 1205هـ) المدافع عنه في بداية القرن الثالث عشر الهجري.

ومن هنا -ربما- تتشكّل الخطوط الأولية للاتجاه النقدي في الساحة الفقهية الإمامية، فلا تعني الممارسة النقدية الاقتصار على نقد الآراء الجزئية، وإبعاد المكونات النظرية العامة التي تشكّل مرتكزًا في عملية الاستنباط.

وعلى ما تقدّم يتّضح أن الأساس الاجتهادي للنقد يُبنى على موقعيته/ مرحليته من البحث الاستدلالي الفقهي، حيث يتكوّن من مراحل يمكن عرضها وفق الآتي:

- مرحلة عرض الأقوال والنظريات.

- مرحلة نقل الأدلة والاستدلال.

- مرحلة النقد والتوجيه، أي: تحصيل الحجة على الموجه الشرعي.

ولغرض الوقوف على هذه المراحل بشيء من التفصيل، يكون ذلك وفق المطالب الآتية:

ﷺ المطلب الأول: عرض الأقوال والنظريات

إن عملية نقل أقوال المجتهدين والفقهاء السابقين لا بد أن تنضبط بمجموعة من الضوابط العلمية والمنهجية؛ لأن النظر إلى هذه المرحلة من مراحل المسلك الاستدلالي نظرة خالية من التساهل والمسامحة؛ لأن الخطأ في هذه المرحلة قد ينتج عنه عدد كبير من أخطاء التقدير والاستنتاج في المراحل اللاحقة من مراحل المسلك الاستدلالي الاجتهادي، وما ذلك إلَّا لبعدها الاستنتاجي؛ «لأن الاستنتاج هو استخراج النتائج من المقدّمات»[12].

فإن الارتباط بين عملية نقل الأقوال والنظريات، وما يتبعها من نقدها من جهة، والاستنباط وتحصيل الفرع الفقهي من أصوله المعتبرة طبقًا للمعايير المضبوطة بالقواعد الأصولية والحديثية من جهة أخرى، وثيق وأكيد ومتعدّد الأبعاد، ومن هذه الضوابط العلمية التي تحكم عملية نقل الأقوال و النظريات:

- ضرورة نقل القول حرفيًّا دون تلخيص أو تصرّف في اللفظ، وضرورة الالتزام بهذا الشكل من النقل خاصة عندما يكون المراد نقد القول وتفنيده، سواء كان بالنقد الداخلي أو بالنقد الخارجي.

- أن يكون الغرض من نقل القول أو الرأي هو تبنّيه، فلا يكون نقله حرفيًّا ذا فائدة إلَّا نادرًا، فلا بد من مراعاة الضرورة في ذلك، لكن لا بد من التزام الأمانة والدقة في نقل أقوال المخالفين خاصة، كما أنه لا شك في ضرورة اجتناب الانتصار لأحد الآراء أو الأقوال باللجوء إلى تأويل الرأي الغامض أو الملتبس حتى يبدو موافقًا للرأي المختار، فهذا من أقسام الغش والتدليس.

- أن يكون المنقول عن جماعة يشتركون في قول واحد، فيكون المتعيّن في شكل النقل بالمعنى وليس باللفظ، خصوصًا إذا لم يوجد مرجّح لنقل عبارة واحد منهم دون غيره، فلا ينبغي تكلّف النقل الحرفي لعبارة واحد منهم، ويكفي اختصار المضمون المشترك بعبارة واضحة لا تترك مجالاً للالتباس.

- ضرورة الجمع بين احترام العلم واحترام المشتغلين به، فلا ينبغي أن يندفع الناقل في ردّ ونقد قول ليخوض في صاحبه دون مبرر، فيخرج حينئذٍ عن الضوابط العلمية والأخلاقية المطلوبة، ولكن قد يكون هذا الخروج ضروريًّا؛ لأنه -أحياناً- لا يتحقّق المطلوب العلمي إلَّا بالتنبيه الصريح واللهجة الصارمة التي قد تبلغ حدّ التجريح في أصحاب بعض الأقوال التي يخشى رواجها بين الناس وفساد دينهم بذلك، وهنا لا شك في رجحان ملاك الحفاظ على الدين على ملاك حفظ كرامة الأشخاص مهما علا قدرهم، وهذا يدخل في باب التزاحم، وتقديم الأهم على المهم[13].

وتارة لا يكون من الضروري أكثر من لفت نظر بسيط لبلوغ المطلب، وفي هذه الحالة لا يمكن تجويز الخروج عن الضوابط الأخلاقية الفقهية، التي تتمحور أساسًا حول تعظيم حرمة المؤمن، وقد جعل الله تعالى هذه الحرمة أعظم من بيت الله الحرام، قال أبو عبدالله جعفر الصادق (عليه السلام): «المؤمن أعظم حرمة من الكعبة»[14]

ولنأخذ تطبيقًا اجتهاديًّا على هذه المرحلة، فقد ذكر الشيخ محمد حسن النجفي في مورد زكاة الدين ما نصّه: «إن كان تأخيره من جهة صاحبه، فقيل والقائل الشيخان في المقنعة[15] والخلاف[16] والمبسوط[17] والجمل والعقود والمرتضى[18] على ما حكي: تجب الزكاة على مالكه، وقيل والقائل المشهور شهرة عظيمة، بل عليه إجماع المتأخرين: لا تجب الزكاة»[19].

وينبغي بعد عرض الأقوال -بوصفها مرحلة من مراحل المسلك الاستدلالي– أن نراعي مجموعة من الأمور:

1- أَلَّا تكون الأقوال مختزلة.

2- عدم اختزال الاتجاه المخالف.

3- عدم الاختزال في الاتجاه المختار.

بمعنى أن المجتهد يقوم بذكر بعض الآراء ويترك الآراء الأخرى، وبحسب المثال التطبيقي المتقدّم، إن المحقّق النجفي قد لخّص الأقوال في اتجاهين، يدور خلاف ونزاع بينهما:

القول بوجوب الزكاة في الدين الذي يتأخّر استيفاؤه بتقصير من المالك، وهو رأي المتقدّمين: الشيخ المفيد، والسيد المرتضى، والشيخ الطوسي.

نفي الوجوب، وهو رأي المتأخّرين، بحسب تعبير المحقّق النجفي، وقال بشهرته عندهم، وادّعى الإجماع عليه[20].

ولا يخفى ما في الرأي الثاني من استقراء، فنفي الوجوب أعم من الاستحباب والجواز بالمعنى الأخص والكراهة، فضلًا عن الحرمة، وإن كان الأخيران منتفيين بالضرورة الشرعية، وقد استدرك المحقّق النجفي، لكن مع تردّد واضح ودعوة إلى التأمّل على هذا الإجمال في آخر مرحلة من مراحل مسلكه الاستدلالي[21].

ويمكن أن يلاحظ على هذه المرحلة من مسلك الجواهر، والذي عرف بطابعه الاستيعابي، وكان أهم سبب في انتشاره وحضوره في ساحة البحث الفقهي الإمامي، هو توخّي الاختزال في عرض الاتجاهات الفقهية.

ﷺ المطلب الثاني: مرحلة الاستدلال ونقد الأدلة

عمد المنظّرون للتفكير النقدي إلى التمييز بين نوعين من الأدلة[22]:

الأول: الدليل الداخلي: وفيه يقوم الناقد بشرح وتفسير البراهين والإثباتات التي يستدل بها أو تستنتج من القضية، وهذا ما يعتبر المنهجية الأولى في الاستدلال النقدي.

الثاني: الدليل الخارجي: وتتوقّف نتائجه على مقدّمة واقعية ووقائع جديدة ضمن تدليل أو حجاج يستهدف عملية صريحة وظاهرة، ويقتضي مهارة تستند إلى رأي قوي أو مجموعة من المباني العلمية الكفيلة بتحقيق الإلزام.

ولذلك فإن أهم المعايير التي يقوم عليها الاستدلال النقدي، الذي قوامه الإثبات، هي[23]:

- الدليل أو البرهان الاستنباطي الصحيح.

- الدليل المبني على الاستقراء.

- الدليل المقبول، وقبول صحّة نتائجه يعود إلى قبول مقدماته.

ولذلك يعتبر عرض الأدلة في البحوث الاستدلالية الفقهية جزءًا أساسيًّا منه، بل هو يكاد يكون الأهم من بين مجمل مراحل المنهج والمسلك الاستدلالي، والذي يكسبه هذه الأهمية القصوى هو ما يجب أن يصاحبه من «نقد اجتهادي».

والذي ينبغي توضيحه هو مدى الارتباط بين البحث الفقهي الاستدلالي الاجتهادي ونقد الآراء وأدلتها، فمن المهم معرفة موقع هذا النقد من مجمل العملية الاستدلالية، وهل له موضوعية في مسلك الاستدلال أم هو طريقي محض؟

يمكن القول: إن بين البحث الفقهي الاجتهادي والنقد عموم وخصوص، فلا يمكن أن نتحدث عن استدلال اجتهادي لا يتضمّن قدرًا من النقد في بعض مراحل الاجتهاد والاستدلال، بل الرائج هو كون النقد مقوّم للبعد الاجتهادي.

ومن أهم الموارد التي يلتقي فيها الاستدلال الفقهي مع النقد الاجتهادي، هو مورد عرض الآراء بأدلتها، فنقل وعرض الآراء يكون على قسمين:

القسم الأول: أن يكون هذا النقل مقتصرًا على القول مجرّدًا عن أدلته، سواء بغرض عرضه، أو كمقدّمة لنقده.

القسم الثاني: أن يكون متعلّق النقل هو أدلّة القول ومجمل استدلال صاحبه عليه، فيكون نقد ذلك القول مقدّمة ضرورية للانتقال إلى بحث غيره. وهذا النقد طريقي ولا موضوعية له، وهو يكسب صفته «الاجتهادية» من علّته الغائية التي هي تمهّد طريق الاستنباط.

هذا النقد الاجتهادي يتكون –في الغالب- من نوعين، ممكن أن يجتمعا أو يفترقا:

الأول: النقد الخارجي، ومعناه: أن يكون النقد باستعمال أدلة المنقول عنه نفسها، ومناقشة المجتهد أو الفقيه على انسجام نتيجته مع مقدّمتها[24].

الثاني: النقد الداخلي، ومعناه: أن يكون النقد بوضع تلك الأدلة نفسها تحت مجهر الفحص والتقويم، وهذا ما يسمّى بالمناقشة في المبنى.

إن نقل الأدلة أو الاستدلال ونقده، قد يشكّل أوّل مراحل التمهيد المباشر والعملي للاستنباط الفقهي، فالنقد الذي يمارسه المجتهد في هذه المرحلة على الأدلة التي يستند إليها أقوال السابقين، هو الأساس الذي يبني عليه البحث مشروعيته.

ومن أجل فهم هذه المرحلة من مراحل النقد، نقول: لا بد للنقد الاجتهادي من تأمين المشروعية، فالنقد الاجتهادي لأدلة السابقين، بمقاميه الداخلي والخارجي، شرط ضروري لإحراز مشروعية النتائج التي يتوصّل لها المجتهد في عملية الاستدلال. وبيان ذلك: لو فرضنا خلو الاستدلال من النقد الاجتهادي، والانتقال مباشرة من مرحلة بيان محلّ النزاع، إلى مرحلة عرض الأدلة الخاصة بالمجتهد، ثم مرحلة إقامة البرهان على الرأي المختار؛ فإن أيّ نتيجة يحصل عليها المستدل/ المجتهد ستواجهها دعاوى التحقيق والبرهان على نتائج أخرى، وهذه الدعاوى –رغم كونها لا تضر بحجية ما توصل إليه- فإنها تزلزل المشروعية من تحت أقدام الفتوى.

وعليه يتّضح أن مسلك الاستدلال لا بد أن يتقيّد شكليًّا ومنهجيًّا بالمرور بمرحلة النقد؛ لأن النقد الاجتهادي لا يهدف إلى استنباط الحكم أو التوصّل إلى الفتوى، بل ينصبّ على تقويم اجتهادات الغير، وتثمينها، أو ردّها بإبطال استدلالاتها، فمهما كان متعلّق النقد، سواء كان قولًا متجسّدًا في مقولة أم استدلالًا، فهو إما أن يكون محاكمة بمعايير صاحبه، لا بمعايير غيره، وهذه هي حقيقة «النقد الداخلي»، وأما أن يكون محاكمة له بمعايير مطلقة من كل قيد، وهذه هي حقيقة «النقد الخارجي».

ربما يقال: إن من آداب النقد الاجتهادي وقواعده العلمية، إعطاء الأولوية للنقد الداخلي؛ لأن إهمال عرض أدلّة المنقول عنه هو اللازم المباشر للتخلف عن هذا المقام النقدي؛ إذ لا يمكن عرض الأدلّة دون تقويمها إلَّا عندما يكون الغرض تبنّيها.

وأما عرض الأقوال دون ذكر أدلّتها فهو يتعارض مع المنهج التحقيقي العلمي الذي يفترض على المجتهد الالتزام به، لكن لو كان المستند في غاية الضعف فيكون التنبيه على فساده راجحًا ولا تصل النوبة عندئذٍ إلى النقد الداخلي، وعليه يكون النقد الخارجي ليس فقط مكمّلًا هامًّا للمسلك الاستدلالي الاجتهادي، بل هو عماده الذي يستند إليه إذا كان ذا غرض استنباطي، فمن دونه لا يصل إلى هدفه الأصلي، وهو تمامية الحجية بالنسبة للمكلّف[25].

ﷺ المطلب الثالث: المقدّمات المعرفية والمنهجية للنقد الاستدلالي الاجتهادي

من المعلوم أن الفقيه/ المجتهد مستكشف للدليل الشرعي وليس مشرّعًا، فهو يجتهد في تحصيل الحجية على الدليل الشرعي، وهذا لا يكون إلَّا باستقصاء الجهد في تأمين الطريقية، الثابت حجيتها إلى الواقع.

واستقصاء الجهد لا يصحّ ادّعاؤه دون ترتيب الطرق والمسالك بحسب القيمة المنطقية للمعلومات التي تنتجها، أي الوصول لليقين. فمسلك الطريقيّة وهو المسلك الذي تبنّاه المحقّق النائيني والسيّد الخوئي فيما هو المجعول في الأمارات؛ حيث تبنيا أنّ المجعول في الأمارات هو الطريقيّة، بمعنى أنّ الشارع أعطى للأمارة دور الطريقيّة والكاشفيّة والمحرزيّة للواقع، فهي وإن لم تكن محرزة وكاشفة عن الواقع بذاتها إلَّا أنها بواسطة الجعل الشرعي تأهّلت لهذا الدور[26].

ويمكن أن يكون عرض طريق تحصيل الحجة على الموجه الشرعي في قسمين يمثلان صورتين نموذجيتين للقسمين اللذين يكوّنان «المسلك الاستدلالي»، هما: القسم المنهجي النظري، ترتيب الأدلة. ويمكن بيانهما وفق الآتي:

القسم الأول: القسم المنهجي النظري

في هذا القسم يتعيّن تحديد مقاربة موضوع المسألة المبحوثة، وتحديد المسلك والمقاربة. والمسلك عبارة عن مقدّمات معرفية مناهجية للاستدلال، التي هي بدورها مؤسِّسة لمشروعية الاستدلال وحجيته.

وهذه المقدّمات تتكوّن من أربعة محدِّدات معرفية، تتبعها خطوة خامسة هي تحديد مسلك الاستدلال. ويمكن بيان ذلك وفق الآتي:

أولًا: المحدٍّد المعرفي الفقهي/ التشريعي

في هذا المحدِّد يكون الفقيه مخيّرًا بين توجيهين معرفيين، هما:

- أن يكون غرضه تأمين المشروعية أولًا وقبل كل شيء، فيكون نظره معطوفًا نحو (عالم الملاكات)، و(الإرادة التشريعية)، وهو عالم الثبوت.

- أن يكون توجّهه بدرجة أولى إلى تحصيل الحجية، فيكون نظره نحو (عالم الإثبات)، بما فيه من (جعل شرعي)، وأدلّة وما يقوم مقامها من متمّمات الحجية.

وعمومًا فإن الحكم الشرعي يمرّ بمرحلتين[27]:

المرحلة الأولى: مرحلة الثبوت للحكم، ويقصد بها واقع العمليّة الذهنية التي يتدرّج فيها الفكر للوصول إلى الحكم. و يمرّ الحكم في هذه المرحلة (مرحلة الثبوت)، بثلاث مراحل:

الأولى: هي المصلحة المدركة (الملاك)، وقد طويت في هذه المرحلة المراحل التي سبقتها.

الثانية: الإرادة، والتي قلنا: إنها تتفاوت بتفاوت مستوى المصلحة والملاك.

الثالثة: وهي الاعتبار، وقد قلنا: إنها حالة نفسانية تفترض وتعتبر الحكم -المشتمل على المصلحة والإرادة- على عهدة المكلّف، وهي ليست أكثر من التماس كيفية تهيّئ لغرض إبراز المطلوب بها، فهي أشبه بالكلام النفسي الذي يرتّبه المتكلّم في نفسه استعدادًا لإلقائه[28].

المرحلة الثانية: وهي مرحلة الإثبات للحكم، وهي تبدأ من حيث تنتهي المرحلة الأولى. وهذه المرحلة عبارة عن إبراز وإظهار الحكم الناشئ عن الملاك والإرادة، فالمولى يبيّن في هذه المرحلة النتيجة التي رست عليها نفسه في مرحلة الثبوت، ويستخدم لهذا الغرض أحد الوسائل التي يتمّ بها الإبراز والإظهار، مثل الجملة الإنشائية الطلبية كالأمر أو النهي أو الجملة الخبرية المسوقة لغرض الإنشاء والطلب[29].

ثانيًا: المحدِّد المعرفي الخطابي

في هذا المفترق يكون الفقيه مخيّرًا أو متوجّهًا للخطاب الشرعي بوصفه:

- خطابًا تشريعيًا للفرد، أي عدم لحاظ وجودهم كمنظومة اجتماعية.

خطابًا مجتمعيًّا، أي إن الفقيه ينظر للكيان المجتمعي كمخاطب بالتشريع تمامًا كالأفراد.

توجّه النظرة الوسطية للخطاب، أي الجمع بين التوجّهين المتقدّمين، كمرتبة وسطى، أي التركيب الاعتباري بين التكاليف الفردية بحيث يكون جمع التكاليف تكليفًا للمجتمع.

إنّ بعض محاولات الاجتهاد في المرحلة المعاصرة هي سعيٌ لتحصيل التنجيز والتعذير، فالمهم لدى ذلك البعض براءة الذمة، ولهذا ولد فقه متشظٍّ، أعني الفقه الذي لا يرى بأسًا في الفصل بين الشيء ولوازمه الطبيعية؛ لأنّ مثل هذا الفقه -كما يقولون- يقوم على تفريق المؤتلفات وجمع المتفرّقات، الأمر الذي صعّب كثيرًا على أنصار فقه النظرية كالشهيد محمد باقر الصدر والشيخ محمد مهدي شمس الدين وغيرهما من بناء فقه متكامل، وهو ما دفع الشهيد الصدر في (اقتصادنا) للحديث عن فقه نظرية تأتلف عناصره من فتاوى العلماء أجمع[30]؛ لأن الفقه الاجتهادي لكلّ فقيه لا يمكن في العادة أن يقدّم لنا نسقًا متكاملًا ونظامًا متناغمًا.

من هذا كلّه، نعلم أنّنا عندما نتحدّث عن الفقه الإسلامي، فنحن نتحدّث عن فقه الواقع؛ لأنّ هذا هو معنى الفقه الذي يدير الحياة؛ فالحياة هي الواقع[31].

ثالثًا: المحدِّد المعرفي الذاتي

بلحاظ الحالة الذاتية يكون الفقيه عند كل مسألة تطرح أمامه للبحث، يكون أمام توجّهين من التعاطي الإجمالي مع المسألة المبحوثة، هما:

التوجه البنائي/ التقليدي: وهو أن تكون لدى بعضهم دوافع للمحافظة، فيتوجّه نحو البناء على من سبقه من الأعلام، متحاشيًا الاختلاف مع مبانيهم، مفضّلًا الجمع بين الآراء والتوفيق بين ما تباعد منها، محاولًا الترجيح بين الاختلافات، مبتعدًا عن التجديد[32].

التوجه التجديدي: أن تكون لديه حوافز قوية للتجديد، ومواصفات تمنحه الإقدام على التغيير، فينظر إلى البناء العلمي المعهود نظرة نقدية، وتمتد أمام ناظريه آفاق التطوير.

ولا يخفى أن أحد التوجّهين المتقدّمين لا يُقصي الآخر بالضرورة، فقد يجتمعان، وكثيرًا ما يكون اجتماعهما ضروريًّا.

رابعًا: المحدِّد المنطقي للإثبات

الإثبات في اللغة هو: الاستقرار والدوام[33]. وفي الاصطلاح: ما يقابل الإيجاب[34]، وعند الأصوليين هو: الحكم بثبوت شيءٍ لآخر[35].

على هذا يقف المجتهد موقفين ممكنين من الإثبات هما:

الأول: أما أن يكون الإثبات هو الغاية في ذاته، فيقبل ما يمكن أن يحتمل كونه مغايرًا للواقع لمجرّد كونه حجّة عند المخاطب، رغم أن الاحتمال كما يعرفه الجرجاني، هو: «ما لا يكون تصوّر طرفيه كافيًا بل يتردّد الذهن في النسبة بينهما، ويراد به الإمكان الذهني»[36]. وتابعه على هذا التعريف عدد من المعاصرين ممَّن عُنُوا بمعاجم فقهية أو فلسفية[37].

فحينئذٍ تكون هذه المقاربة إما قائمة على الاحتمال[38] أو تتدنّى إلى حالة التوهّم، أو قد تتردّى إلى مستوى «السفسطة».

الثاني: أن يكون بيانًا للحقيقة وكشفًا للواقع، وهما المطلوبان، بينما الإثبات هو مجرّد طريق موصل إلى ذلك، فيتعدّى الجهد العلمي من الإثبات إلى المثبت.

وهنا يكون ما بعد «تحصيل الحجة» على ما يفترض أن يكون هو الواقع وهو الهدف، وفي هذا الاتجاه لا يرتضي المجتهد بأقل من مقاربتين:

1- المقاربة الفاعلية، ومعناها الوصول للحقيقة وكشف الواقع، وأدنى المسالك في ذلك هو «إقامة البرهان»[39].

ويمكن تصوّر مفاهيم أربعة لهذه الفاعلية بلحاظ دورها في مرحلتي الثبوت والإثبات في عملية استنباط الأحكام[40]:

المعنى الأول: هو أن تكون الفاعلية بمعنى «القدرة» أي أن يكون الإنسان قادرًا على الإتيان بالفعل الذي تعلّق به الحكم الشرعي، في مقابل الفعل الخارج عن نطاق قدرة الإنسان، فالحكم حينئذٍ لا يمكن أن يتعلّق بهذا الفعل لعدم إمكان الإتيان به خارجًا، فهو إذن فاقد للفاعلية.

المعنى الثاني: أن تكون بمعنى وجود الفائدة في تشريع الحكم تبعًا لوجود المصلحة والمفسدة في العمل نفسه الذي تعلّق به الحكم الشرعي، فعلى هذا فالحكم المفيد يشمل الأوامر والنواهي الإلزامية التابعة للمصالح والمفاسد الملزمة.

المعنى الثالث: هو أن تكون الفاعلية بمعنى «الابتلاء» أي أن يكون الحكم محل ابتلاء لنوع البشر.

المعنى الرابع: الممكن تصوّره لمفهوم فاعلية الحكم فهو أن يكون الحكم «عقلائيًّا»، بمعنى أن يكون مقبولًا في عرف العقلاء، في مقابل الحكم الفاقد للفاعلية إذا استوجب إنكارهم ورفضهم له.

وأما دورها في عملية استنباط الأحكام الشرعية فيمكن تصوّر ذلك على نحوين[41]:

الأول: أن تكون الفاعلية داخلة في عملية الاستنباط في مرحلة الثبوت، بمعنى أن تقوم بتوسيع دائرة الحكم وتضييقه في عالم الجعل وعالم الثبوت.

والثاني: أن يكون الدخل في عالم الإثبات والتطبيق بمعنى أن يكون الدخل في دلالة الأدلة الشرعية على ثبوت الحكم.

2- المقاربة الإفعالية، إن المجتهد عندما تعوزه المقدّمات اليقينية يتنزّل عنها إلى «المظنونات» و«المشهورات»، ولا يتم اللجوء في الاستدلال إلى المظنونات والمشهورات إلَّا في حالة انعدام أو عدم تحصيل المسالك اليقينية.

خامسًا: تحديد مسلك الاستدلال

بعد الانتهاء من محدّدات المقاربة الأربعة المتقدمة يصل البحث الاجتهادي إلى دور تحديد نوع المسلك الاستدلالي المعتمد، ويلاحظ الارتباط الموجود بين المرتكزات المنطيقة الحاضرة في المقاربة، وتحديد نوع العلاقة الحاكمة على بنية أدوات التركيب والتحليل.

فإن هذا التحديد هو بمثابة الجسر الواصل بين المقاربة أو المقدمات المعرفية المناهجية لاستدلال وبين مسلك الاستدلال المختار، وعليه -وبحسب أولوية تقديم التركيب على التحليل أو العكس- سينتج أو يتحدّد لنا نوع المسلك الذي إما أن يكون:

- مسلك الاستدلال النصوصي التحليلي: وهو ينتج من تقديم ومنح الأولوية للتحليل على التركيب[42].

- مسلك الاستدلال النصوصي التركيبي: وهو ما ينتج من تقدم أو منح الأولوية للتركيب على التحليل[43].

القسم الثاني: ترتيب الأدلة

ترتيب الأدلة هو المعيار الذي يعرض عليه القسم الثاني من مسلك، وعلى هذا المستوى يصبح العمل في هذه المرحلة مناهجيًّا ماهويًّا بمعناه الأصولي الفقهي، ولا يمكن تصوّره بمعزل عن مرجعية النقد أو الاستدلال، بحيث يصل الفقيه المجتهد إما إلى الفتوى أو الاحتياط بعد أن يتوصّل إلى عدم إمكانية تحصيل الحجة.

فيكون المتعيّن التوقّف في الفتوى ومراتب الاستدلال وطريقة ترتيب الأدلة خطوات عملية تفترض: أن الانتقال من الدليل الأول إلى الدليل الثاني لا يحصل إلَّا مع اتّضاح عدم كفاية الأول، وجودًا أو وظيفةً. ومراتب الأدلة هي:

أولًا: الدليل القطعي العقلي

الدليل القطعي العقلي –المقصود هنا– أوسع من مدلوله المنطقي أو اللفظي؛ وقيد (العقلي) إنما يحترز به عن القطعيات الشرعية/ النقلية/ النصية، التي وردت بها نصوص التنزيل.

وتشمل هذه الرتبة جميع الأدلة التي تؤدّي إلى القطع:

1- الأدلة العقلية الحدسية والحسية (كالبرهان، والاستقراء التام).

2- الحدسيات القطعية، من أي منشأ حصلت (كالإجماع المحصّل)، التي تشتت قطعية العقلي القطعي، دون سائر الإجماعات، كالمدركي والمنقول[44]؛ لأن الإجماع المحصّل يعني: «الإجماع المحرز وجدانًا والذي ينشأ عن تتبّع الفقيه لآراء العلماء في مسألة من المسائل والوقوف بعد ذلك على اتفاقهم عليها، وهذا في مقابل الإجماع المنقول والذي لا يكون فيه الإجماع محرزًا بالوجدان، وإنما هو متلقّى عن فقيه آخر كان قد حصّل الإجماع بنفسه»[45].

3- اليقينيات الحسية: وتتدرّج تحت هذا العنوان الحسيات؛ لأن الملاك هو تحصيل الحجّة على الموجه الشرعي، وأول الحجج هو: العقل، والحس، والوجدان.

ثانيًا: الدليل النصي/ النقلي القطعي

في هذه الرتبة نجد:

1- الدليل القرآني فهو قطعي الصدور، وما كان منه قطعي الدلالة.

2- الأخبار المتواترة، ذات العلاقة القطعية.

قسّم الأُصوليون دلالة الكلام بناء على معناه إلى: دلالة قطعية، ودلالة ظنية. فوصفوا دلالة النصوص على معانيها بالدلالة القطعية التي لا يحتمل خلافها، ودلالة الظواهر دلالة ظنية تقابل الأُولى.

هذا من جانب، ومن جانب آخر: إنّ نصوص القرآن بالنسبة إلى الظواهر أقل، وبذلك أصبحت دلالة القرآن على مضامينها دلالة ظنية لا قطعية[46]

ثالثًا: الأدلة الشرعية المقطوع بحجيتها

هي الأدلة التي يقطع بأن الشارع قد جعل لها الحجية، وإن لم تكن هذه الحجية من ذاتيتها كما هو في حال الأدلة القطعية، وفي هذه المرتبة نجد قسمين من الأدلة:

ما كان قطعي لصدور وظني الدلالة: مثل (ظواهر الكتاب العزيز، الأخبار المحفوفة بقرائن قطعية).

الأخبار ظنية لكنها قطعية الدلالة، وهذا القسم من الأدلة وقع خلاف في حجية على اتجاهين: الاتجاه الأول: عدم حجية هذا النوع من الأدلة، الاتجاه الثاني: حجيته.

وقد تبنّى الاتجاه الأول أصحاب المسلك الاستدلالي (القطعي النصي)، شخصيات أمثال: السيد المرتضى، وابن أدريس الحلي، وابن زهرة، وابن الصلاح الحلبي، وغيرهم. أما الاتجاه الثاني فقد قال به أصحاب مسلك الاستدلالي (النصوصي العقلي).

رابعًا: الأصول العملية

بعد اليأس من الحصول على دليل محرز، تصل النوبة إلى الأصل العلمي الذي هو: الدليل الذي تتحدّد به الوظيفة العملية المقرّرة للمكلّف عند الشك في الحكم الواقعي، وعدم وجدان الدليل المحرز الأعم من القطعي والظني المعتبر[47].

فلا يكون المطلوب من الأصل العملي الكشف عن الحكم الشرعي الواقعي، بل إن دوره يتمحض في تحديد الوظيفة العملية للمكلّف عند فقدان الدليل المحرز، أو ما ينتج نتيجة الفقدان كإجمال الدليل أو ابتلائه بالمعارض.

وهذا ما يعني أنّ مرجعية الأصل العملي إنّما تكون بعد استفراغ الوسع في البحث عن الأدلة المحرزة. فإن عثر على ما يصلح للكشف عن الحكم الشرعي الواقعي فهو المعتمد، وإلَّا فالمرجع هو الأصل العملي، فموضوع الأصل العملي الذي يترتّب على تنقّحه جريانه هو فقدان الدليل الكاشف عن الحكم الواقعي[48].

والخلاف في هذه الأدلة يتركز حول:

- حجية الأصل العلمي.

- ترتيبها.

والمسلك المشهور في ذلك هو: تقديم ما يسمّى بالأصل الحاكم على الأصل المحكوم مثل تقدّم الاستصحاب على أصل البراءة.

وتأسيسًا على ما تقدّم نقول: إن الاجتهاد فاعلية معرفية، غير متعالية على التقليد، ومن هنا لا يمكن اعتبار كل اجتهاد تجديد، خصوصًا إذا كان الممارس للاجتهاد ينتهي إلى النتائج ذاتها التي توصّل لها من سبقه.

وعليه فإن أهم تجليات الاجتهاد هو ما انطوى على النقد الفاعل الذي ينتهي إلى التجديد ويتّخذه هدفًا، و«ما نعتقده حاجة للتجديد، فليس فقط البعد الإداري أو التعليمي أو اللغوي، وإنما الخطاب الذي يعني بُنية التفكير وطرائق التعقّل، فهذا هو المحور الرئيس الذي يرفد سائر المحاور التجديدية –في دائرته النقدية- ذات الطابع المعرفي والمنهجي»[49].

وقد عبّر الاجتهاد عن أعمق نموذج لتجديد فهم الدين وربطه بطاقة مستمرة لمواكبة الحياة وتحوّلاتها المتنوّعة، وكانت أفدح خسارة مُني بها العقل الإسلامي هي القرار المتعسّف بغلق باب الاجتهاد، وتعطيل فاعلية التفكير الإسلامي، وحصره بآراء الفقهاء الأربعة[50].

لكن الحواضر العلمية لمدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ظلّت بمنجاة من ذلك القرار، فتواصل فيها الاجتهاد، وبرز فيها عدد كبير من الفقهاء والأصوليين، الذين ورثنا منهم موسوعات زاخرة بالأبحاث العلمية المعمقة.

وظلّت عملية الاستدلال الفقهي تنمو وتتّسع وتتشّعب بمرور الزمان، فتُفضي إلى آراء جديدة تتجاوز الآراء القديمة السابقة لها، وذلك بعد نقض ونقد مداركها وأدلتها. يقول الشيخ المطهري: «إن الاجتهاد مفهوم نسبي ومتطوّر ومتكامل، وإن كل عصر يتطلّب رؤيةً ووعيًا خاصًّا، وتعود هذه النسبية لسببين، هما: القابلية اللا محدودة للمنابع الإسلامية للكشف والبحث والدراسة. تطور وتكامل العلوم البشرية... إذ إنه كلّما تطوّرت العلوم الاجتماعية والنفسية والحقوقية في العصر الحديث أمكن التوغّل في أعماق الأبحاث الفقهية»[51].

ﷺ الخاتمة

بالرغم من أن دعوات إعادة فتح الاجتهاد، وإعادة بناء المدوّنة الفقهية انطلقت منذ أكثر من قرنين، بيد أن معظمها يفتقر إلى تشخيص المأزق الحقيقي وانسداد الآفاق، اللذين انتهى إليهما الفقه، وما زالت تفسيراتها تبسيطية تشدّد على بعث أصول الفقه وتوظيف العناصر التقليدية في الاستدلال الفقهي، وتجاهل وإهمال واضح للإفادة من مناهج العلوم الإنسانية الحديثة والمعاصرة، والنقد العلمي الفاعل.

فقلّما نجد محاولات جادّة تشخّص الانسداد الفقهي، واكتشاف مديات بديلة للاجتهاد، فلم تتمكّن المحاولات والتجارب الإصلاحية الإفلات من تقليدية النظام المكّون، واجتراح مقاربة أخرى في تجديد مناهج الاجتهاد، عمادها تفعيل التفكير النقدي والمنهجية العلمية ذات الطابع العقلي.

ونتيجة لذلك تحوّلت عملية الاجتهاد من عملية ذهنية إلى مجرّد معارف متراكمة، ويبدو أن أحد أسبابها تقليص الشروط العلمية الخاصة بالاجتهاد على حساب الشروط الأخلاقية، فيمكن أن يشابه ما وصل إليه اليوم حال المعرفة الإسلامية من جمود ما حصل بعد القرن الخامس الهجري، حيث سيطر الطابع النظري والتجريدي على بنية الاجتهاد، وانسحابه إلى قراءة الواقع.

 

 

 



[1] ابن منظور، لسان العرب، 4/38.

 

[2] جميل صليبا، المعجم الفلسفي، 1/445.

 

[3] فوائد الأصول، 3/4.

 

[4] السيد محمد تقي الحكيم، الأصول العامة للفقه المقارن، ص 34.

 

[5] ظ: المصدر نفسه.

 

[6] السيد الخوئي، دراسات في أصول الفقه، ص5.

 

[7] السيد محمد تقي الحكيم، الأصول العامة للفقه المقارن، ص 34.

 

[8] ظ: المصدر نفسه.

 

[9] المعجم الأصولي، 3/ 12.

 

[10] محمد باقر الصدر، اقتصادنا، ص 384.

 

[11] الميرزا النائيني، فوائد الأصول، 3/277.

 

[12] انظر: الدكتور جميل صليبا، المعجم الفلسفي، 1/74.

 

[13] انظر: نهاية الأفكار، 4/ 127-128، وانظر: السيد الخوئي، مصباح الأصول، 3/ 426- 428.

 

[14] الشيخ المجلسي، بحار الأنوار، 68/16 .

 

[15] الشيخ المفيد، ص 239.

 

[16] الشيخ الطوسي، الخلاف، 2/80.

 

[17] الشيخ الطوسي، المبسوط، 1/297.

 

[18] رسائل المرتضى، 3/74.

 

[19] جواهر الكلام، 15/ 59.

 

[20] المصدر نفسه، 15/58.

 

[21] انظر: جواهر الكلام.

 

[22] ظ: حسان الباهي، الحوار ومنهجية التفكير النقدي، الدار البيضاء - المغرب: إفريقيا الشرق، ط1، 2004م، ص 153.

 

[23] ظ: المصدر نفسه، ص 154.

 

[24] انظر: الدكتور جميل صليبا:1/75، الدكتور محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، ص113. .

 

[25] تاريخ التشريع، ص 120.

 

[26] انظر: المعجم الأصولي: 1272.

 

[27] السيد محمد باقر الصدر، دروس في علم الأصول (الحلقة الثانية)، ص 3.

 

[28] انظر: السيد كمال الحيدري، الدروس (شرح الحلقة الثانية)، 3/ 28. و انظر: الشيخ محمّد صنقور علي البحراني، شرح الأصول من الحلقة الثانية، ١/ 27-28.

 

[29] المصدر نفسه.

 

[30] محمد باقر الصدر، اقتصادنا، بيروت: دار التعارف للمطبوعات، ط20، 1987م، ص392 - 399.

 

[31] انظر: حيدر حب الله، مشروعية تجديد الفكر الديني.. هواجس ومسوّغات، مجلة الاجتهاد والتجديد.

 

[32] وهذا ما يسمّى بالتقليد غير المحمود  كما ساد فيما سمّي بعصر المقلدة.

 

[33] انظر: ابن منظور لسان العرب، مادة (ثبت).

 

[34] السيد جعفر باقر الحسيني، معجم مصطلحات المنطق، قم المشرّفة: دار الاعتصام، مطبعة البقيع، الطبعة الأولى، ص 6.

 

[35] انظر: هيثم هلال، معجم مصطلح الأصول، مراجعة وتوثيق: الدكتور محمد التونجي، بيروت: دار الجيل، الطبعة الأولى، 2003م.

 

[36] علي بن محمد الجرجاني، التعريفات، دار الكتاب العربي، طبعة ثانية 1992م، ص 26.

 

[37] انظر: محمود عبد الرحمن عبد المنعم، معجم المصطلحات والألفاظ الفقهية، دار الفضيلة القاهرة الطبعة الأولى، 1/77. سعدي أبو جيب، القاموس الفقهي لغةً واصطلاحًا، دمشق: دار الفكر، طبعة أولى 1402هـ، ص74. عبد المنعم الحنفي، المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، القاهرة: مكتبة مدبولي، الطبعة الثالثة 2000م، ص 54. مراد وهبة، المعجم الفلسفي، دار قباء، الطبعة الرابعة 1998م، ص 28. السيد نفادي، الضروري والاحتمال بين الفلسفة والعلم، بيروت: دار التنوير، الطبعة الأولى 1983م، ص 11.

 

[38] انظر: المقاربة الأداتية للتقويم التكويني للتعلمات، جانين لافوا سيروا، ترجمة وتكييف: عبد المجيد غازي جرنيتي، عن موقع: http://cfijdida.over-blog.com.

 

[39] انظر: عبد الهادي الفضلي، دروس في أصول فقه الإمامية، ص375.

 

[40] الشيخ محسن الأراكي، ندوة «الفاعلية ودورها في استنباط الأحكام الشرعية»، موقع المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية: http://www.taghrib.org.

 

[41] المصدر نفسه.

 

[42] التحليل: هو إرجاع الكل إلى أجزائه، والتحليل العقلي يعني أن نؤلّف سلسلة من القضايا أولها القضية المراد إثباتها، وآخرها القضية المعلومة. انظر: المعجم الفلسفي، 1/ 254-255.

 

[43] التركيب: هو تأليف الكل من أجزائه، وهو أيضًا: الجمع بين الرأي وضده، في قول جديد يأخذ بأحسن ما في الرأيين، ويمزج أحدهما بالآخر، مستعينًا على ذلك بوجهة نظر أعلى من وجهتيهما. انظر: المعجم الفلسفي، 1/ 269- 270.

 

[44] الإجماع المدركي: هو إجماع الفقهاء على حكم مسألة مع إحراز مدرك إجماعهم على حكم تلك المسألة، ولا يختلف الحال بين اتّفاقهم على مدرك واحد أو أنّهم مختلفون فيما هو مدرك حكم المسألة مع اتّفاقهم في النتيجة، فإنّ الإجماع في كلا الصورتين يكون مدركيًّا، كما أنّه لا فرق بين كون المدرك من قبيل الأدلّة الاجتهاديّة أو الأصول العمليّة، فالمناط في مدركيّة الإجماع هو إحراز ما هو منشأ اتّفاقهم في الفتوى.

أما المنقول: وهو الإجماع الذي يتمّ إحرازه بواسطة نقل المحصّل للإجماع، وهذا النقل قد يكون متواترًا وقد لا يكون كذلك، والثاني هو المعبّر عنه بالإجماع المنقول بخبر الواحد.

ومن هنا تكون حجيته منوطة بثبوت الحجية لخبر الواحد أولًا، وبأنّ الحجية الثابتة لخبر الواحد لا تختصّ بالخبر الحسّي بل تشمل الخبر الحدسي.

[45] الشيخ محمّد صنقور علي البحراني، المعجم الأصولي، ١/57.

 

[46] انظر: جعفر السبحاني، المناهج التفسيرية، ص49.

 

[47] الشيخ محمّد صنقور علي البحراني، المعجم الأصولي، 1/260.

 

[48] الشيخ محمّد صنقور علي البحراني، المعجم الأصولي، 1/260.

 

[49] حيدر حب الله، الاجتهاد والتجديد، قراءة في هموم الفقه الإسلامي المعاصر، مجلة الاجتهاد و التجديد، العدد الأول، ص 15.

 

[50] عبدالجبار الرفاعي، تقديم كتاب: إشكاليات التجديد، ماجد الغرباوي، دار الهادي، ص 7.

 

[51] الشيخ مرتضى مطهري، ختم النبوة، ص52.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة