تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

تدبير الاحتضار من الموت البيولوجي إلى الموت السياسي

إدريس هاني

تدبير الاحتضار

من الموت البيولوجي إلى الموت السياسي

إدريس هاني

هناك علاقة وثيقة بين البيولوجيا والسياسة، وهو حقًّا ما يجعل الأحداث الجارية في حقليهما متداخلة إلى حدّ بعيد. هذا يعني أنّنا أمام وضع يستدعي مقاربة بيوبولتيكية للغيبة، إنّ الغيبة وبخلاف الموت تؤدّي إلى كثافة الحضور. وهي بعد هذا تتجاوز الإشكاليات الناجمة عن الموت ليس كحدث بيولوجي بل كحدث بيوبوليتيكي.

ويبدو أنّ هذه الإشكالية البيوبوليتيكية هي جوهر مشكلة الاستخلاف كما بدت في تراجيديا يوم الخميس، إنّه موت الرسل والأئمة والصلحاء والقادة وما يطرحه من إشكاليات على مستوى انتقال السلطة السياسية، إنّه خلف كل أزمة سياسية هناك حدث بيوبوليتيكي.

ونعتبر الحدث بيوبوليتيكيًّا حينما يتعلّق الأمر بالموت البيولوجي لقادة يتمتّعون بكاريزما روحية أو وضعية قدسية خاصّة. ويبدو السؤال عن سبب الغيبة مع إمكانية الموت البيولوجي مشروعًا إذا لم ندرك إشكالية الموت البيوبوليتيكي ومأزق تدبير الاحتضار. وهو ما سنحاول الإجابة عنه من خلال تسليط الضوء على مفهوم الموت، وبالتّالي الموت البيولوجي وعلاقته بالموت السياسي.

ﷺ سحر الرمزي

للمقدّس سطوة تاريخية على الاجتماع الثقافي والسياسي لم يوجد من بين المجتمعات ناشز متفلّت عن هذه السطوة، على الرغم من الفروق والمسافات والحدود التي باعدت بين تجارب الاعتقاد وأزمنتها.

كان أحرى بنا الاستدراك اليوم، ومن دون تردّد، على حكاية حي بن يقظان، بقضية أساسية تتعلّق بمكانة الأسطوري والرمزي والمقدّس في حياة النوع كنوع، لا حاجة في ذلك إلى ضرورة الانتقال من بيئة إلى أخرى؛ ذلك لأن الإنسان في تحقيق استمراريته على الحياة هو أحوج إلى الخيال منه إلى العقل.

ذلك لأن الخيال مدرك لله كما العقل، بل إن العقل يحتاج في إدراك ذلك إلى الخيال، إذ الخيال من جنوده ووسائله إن لم نمضِ بعيدًا لنقرر أن الخيال مرتبة من مراتب تكامل النفس باتجاه العقل.

فالخطأ الذي لم يعد بالإمكان تحمله في الموقف العلمي من الظواهر الاجتماعية والإنسانية والمعرفية هو أهمية الخيال الذي ساوق ولا يزال يساوق العقل ويقاسمه الوظيفة في نظام بات يشكل سرّ هذا الجدل الذي لم تنفك عرى لغزه حتى الآن. فالخيال يستغرق عالم الأجساد والتّجسّدات، سواء ما تعلّق بهذه النشأة أو ما تعدّاها إلى النشأة الأخرى.

ومن هنا أهميته التي أغفلها الدارسون، إمّا منازعة للوهم أو إكبارًا للعقل الخالص، مع أن الوقوف على العقل الخالص في واقع تجسد الرمزي هو من كبرى أوهام عصر عبادة العقل.

ولهذا تحديدًا نظر نفر من الحكماء والعرفانيين في القرون السابقة إلى الخيال نظرة لا تقيمه على طرفي نقيض مع قوة العاقلة، بل جعلوا منه نورًا لإدراك مدركاته فأوقفوه في عرض الأشياء النورانية، دون أن يحملوه نتائج أخطاء الأحكام؛ لأن مثل تلك الأحكام هي من وظائف العقل الذي هو حاكم ومراقب ومساير لأنواع الإدراكات الحسية الأخرى. فقيمة الخيال تتجلّى في أنه مدرك لكل شيء حتى العدم. فهو لهذا السبب يستحق عنوان النورانية من سائر المخلوقات الموصوفة بها.

ومن هنا يتأكد لدى ابن عربي أن «الخيال لا يكون فاسدًا قط، فمن قال بفساده فإنه لا يعرف إدراك النور الخيالي»؛ ذلك لأن الخيال في إدراكه لمدركه ليس له حكم، بل الحكم للعقل. وحيث الخطأ ينسب لغيره فلا يكون الخيال خاطئًا قط، بل يكون صحيحًا كله، وليس فيه باطل.

بل إنّ الخطأ والصواب هو من شأن المدرك -بفتح الراء- لا من شأن المدرك -بكسرها-. وهنا يبدو واضحًا أن ابن عربي ينسب الخطأ للعقل لا للخيال؛ فالخيال معصوم.

في جانب من الجوانب قد يبدو المقدّس والأسطوري من إفراز التشكّل الجمعي وليس خاصية للأفراد. فالفرد نفسه قد يحيط نفسه بجملة من الطقوس ويطلق الخيال إلى مراتع أبعد بحثًا عن التكييف الأمثل والخلّاق لتجاربه الاعتقادية ومؤسساته الاجتماعية.

وحينما تفلّتت السوسيولوجيا من حاضنها الأول: المجتمعات الصناعية ومؤسساتها وثقافتها ومجمل بيئتها، لكي تفتح كوّة على الغرائبي الناشز عن هذه الأنماط، أي عند ظهور الأثنولوجيا والأنثروبولوجيا وتطورها من رؤيتها الأولى المعيارية ذات الوظيفة الكولونيالية إلى ثورتها التي نقلتها إلى آفاق أقلّ تحيّزًا ووظيفيةً، لفهم طبيعة المجتمعات الوحشية والتقليدية، تأكد أن فهمًا مختلفًا غدا للأسطوري والمقدّس والرمزي أدهش أهل النّظر في هذا الحقل.

نتحدث اليوم عن عدم انقطاع في حضور الرمزي في كل المجتمعات بما فيها التي تبدو اليوم أكثر تاريخية وحداثة. حيث اتضح أكثر أنّ ما بدا ولعًا بالعقلانية الحديثة إن هو إلَّا شكل من إضفاء هذه القداسة والأسطورة على العقلانية التي لم تتحقّق بطهرانيتها في المجتمعات الحديثة شديدة الوفاء لأكثر ضروب الأسطورة والمقدّس والرمزي. فالمجتمعات تختار رموزها وتشكّل قداستها وفق مسارات شديدة التعقيد.

لذا ليس غريبًا أن يحدث تقارب شديد بين صور الاعتقاد الأكثر تقليدية وصور الاعتقاد الأكثر رومانسية في العصر الحديث. وهو التّشاكل الذي يظهر في الموقف من الموت وتصوّره بينهما. وإذ لا وجود لقطيعة تامّة في مستوى بنية الثقافات، فإن الأمر سيان في مستوى بنية السلطة السياسية. لا مجال لتحقّق البنى الخالصة والنقية بل ثمة فقط وفقط إعادة تركّب البنى من العناصر ذاتها، حيث كيفية تركب العناصر هو من يحدد اختلاف الأنماط.

ونفهم شيئًا من ذلك فيما أشار إليه موريس دوفرجيه أيضًا حينما اعتبر بأن «كل نمط ثقافي هو على علاقة مع نمط بنية سياسية». هنا ترتبط البنى التقليدية في السلطة بالثقافة الرعائية كما ترتبط البنى الديمقراطية بثقافة المشاركة. لا شيء إذن جديد، بل الأمر يتعلّق بتغليب ثقافة على أخرى داخل بنية مركبة من كل تلك العناصر.

من هنا يؤكّد دوفرجيه أيضًا -استنادًا إلى ألمون وفيربا- أن التطابق بين البنية السياسية والبنية الثقافية ضرورة يمليها واجب استقرار النظام.

لكن ما يهمّ أكثر في مقاربة دوفرجيه هو تأكيده على أن الثقافة القديمة لا تندثر بل تستمر ضمن أنماط أخرى بشكل من الأشكال؛ فكل ثقافة قائمة في نظر دوفرجيه هي نتيجة لخليط ثلاثي مكون من عنصر رعائي وخضوعي ومشاركي.

يحضر الرمزي بشكل أوفر في حقل الاجتماع السياسي نظرًا لأهميته الوظيفية في استقرار الجماعات وانشداد الجماعة إلى أميرها. تاريخيًّا لا يوجد إشباع في الشرعية لدى الحاكم. كان لا بد من استكمالات من داخل الحقل الرمزي لتثبيت القدر الممكن من تلك الشرعية. ومن هنا لا يمكن لأي سلطة أن تستغني عن حقل الرمزي، الذي يدعمها بقدر ما تكرّسه. حتى في الاجتماع الحديث تبدو مسألة الإشباع تلك غير ناجزة.

ومن هنا أبدع المجتمع الحديث طقوسه الديمقراطية الخاصة التي يلعب فيها طقس الانتخابوية والعناوين والبروتوكول السياسي الحديث دورًا بديلًا لكنه يؤمن المعنى نفسه لتحقيق ذلك الإشباع.

ليس الرمزي أمرًا محدودًا يقف عند حدّ قد توجد فيه السلطة مثلًا ولا يوجد معها الرمزي. إن الرمزي يحتضن السلطة ويعيد بناءها وترسيخها. الرمزي حاضن للسلطة. وهو ما يجعلنا في مورد الحديث عن الاحتضار والموت وانتقال الجسد أمام ذروة توتر الرمزي الذي يتمتع بإمكانات هائلة لتعزيز حضوره المعاوض لغياب الجسد. فالرمزي ليس فقط يسبق الجسد بل يشارك أيضًا في تجهيز جنازته وإعادة بناء صورته في الخيال. ففي البدء كان الرمزي وفي المنتهى يبقى أيضًا.

ﷺ الجسد والرمزي من وجهة نظر عقائدية إسلامية

قبل ذلك لا بد من الإشارة إلى معنى ومكانة الرمزي. وهو ما يتوقّف عليه استيعاب ما نحن فيه من معالجة؛ لأنه سيستمر معنا كمفهوم حيوي في استيعاب ظاهرة الموت نفسها حينما تتلبّس بالرمزي ويصبح الموت حينما يلاقي القادة والزعماء، مسألة إعادة انتشار للحضور أو الصيرورة التي تجعل المجتمع أيًّا كانت تجربته الاعتقادية يسلم بتناسخ الأرواح، بالمعنى السياسي كما سنرى.

يضعنا بول تيليش على جملة من الحقائق شديدة الوضوح في تمثّل معنى الرمزي نعتبرها حيوية في فهم ما يجري في مجال المقدّس. إنه يقيم ضرورة الرمزي على وضعية الذروة في قلق الإنسان، وهي الذروة التي لا يمكن التعبير عنها إلَّا باللغة الرمزية. ولهذا سيحدد تيليش للرمز ست خصائص: الأولى تتعلّق بوظيفته الدلالية التي تجعله شبيها بالعلامة من حيث أنها تشير إلى شيء خارجها.

وهذا لا يعني عدم وجود مائز بين الرمز والعلامة، حيث خاصية الرمز الثانية أنه يشارك في الوقائع التي يدل عليها بخلاف العلامة، كما يتعذّر تغيير الرموز برموز أخرى كما هو متاح في العلامة، إلَّا من خلال حدث كبير أو «كارثة تاريخية».

والخاصية الثالثة للرمز أنه يفتح آفاقًا جديدة أمامنا في الواقع ما كان بالإمكان إدراكها لولا وجود الرمز الدال عليها. كما تكمن الخاصية الرابعة في كونه أيضًا يفتح مغلقات داخل أنفسنا.

وأما الخامسة فهو كون الرمز نابعًا من اللاوعي الفردي والجماعي؛ إذ إن «الرموز التي تؤدّي وظيفة اجتماعية خاصة كالرموز السياسية والدينية يخلقها أو في الأقل يقبلها اللاشعور الجمعي للجماعة التي تظهر فيها».

أما الخاصية السادسة فهي أن الرمز لا يمكن ابتكاره بل هو كائن حي ينمو كلما نضج الموقف ويموت كلما تغيّر الموقف. فالرموز «تموت حين لا تعود قادرة على توليد الاستجابة في الجماعة التي وجدت فيها التعبير عنها في الأصل». وبتعبير تيليش فإن قلق الإنسان الأقصى لا يمكن التعبير عنه بلغة مباشرة.

وهنا أهمية الرمزي، لأنه تعبير عمَّا لا نملك التعبير عنه بالمباشرة بل لا يستحسن التعبير عنه كذلك. ولذا بات واضحًا أن الرمزي يجب اعتباره هو الأهم وليس اللغة المباشرة؛ علينا أن نكفّ عن القول: «إنه مجرّد رمز».

ومن ثمّة ليست الأشياء المقدّسة هي المقصودة هنا بذاتها، بل المقصود هاهنا، ما تحيل عليه تلك الأشياء إلى منبع القداسة. ولا مجال إذن لكسر الأسطورة ولغتها الرمزية لجعلها أكثر شعورية. فالحاجة إلى مقاومة كل أشكال تفتيت الأسطورة لا جدوى منها ولا تخدم أغراض المستفيدين منها. فالنظم السلطوية تعزّز مقاومة تهشيم الأسطورة. هذه المقاومة ضد هدم الأسطورة وجعل فهمها خارج لغة الرمزي تؤسّس للنزعة الظاهرية والحرفية. وحينما يأخذ الإيمان رموزه حرفيًّا «يتحوّل إلى وثنية».

إن أهم ما يخلص إليه تيليش ونعتقد أنه غاية في الأهمية، هو أن رموز الإيمان، أي الدين، لا يمكن استبدالها برموز أخرى مثل الفن كما لا ينفع النقد العلمي في إزالتها. والسبب في ذلك أن هذه الرموز مركوزة في العقل الإنساني كما هي سائر الرموز الأخرى الفنية والعلمية؛ لا شيء يعوض شيئًا. فلا يوجد شيء غير الرمزي والأسطوري يمكن أن يعاوض الإنسان عن التعبير عن قلقه الأقصى.

ويؤكد ردولف أوتو على التعبير الفني، كتعبير غير مباشر عن القدسي؛ لكن دون أن يمنحه قدرة التعبير الكامل عن ذلك. قصارى ما في الأمر أنه يملك شيئًا من التعبير غير المباشر عن الألوهي. وذلك لأنه ارتأى في الفن الغربي أسلوبين فقط في هذا التعبير: الظلمة والصمت.

وأيًّا كان أمرها، فإنه «هيهات أن يكون للموسيقا وسيلة إيجابية تعبّر بها عن القدسي رغم أنها تستطيع أن تمدّ مشاعر الذهن جميعها بشتى أنواع التعبير، على نحو فارق؛ بل حتى أشدّ موسيقى القداديس إرهافًا يكاد لا يقوى على حبو أقدس اللحظات وأكثرها ألوهية في تضاعيف القداس». من هنا تتأكّد أهمية الرمزي الخاص بالقدسي، أي ما لا يمكن أن يحلّ محلّه أي تعبير آخر.

كان جون هيك قد توقّف هو الآخر عند هذا التقريب للغة الدينية الرمزية عند تيليش. وقد تحدّث هو الآخر عن أهمية التجسد في الإيمان المسيحي. أما بالنسبة إلى المقدّس فقد اعتبر هيك أن «وعي الإله كمقدّس هو وعي لكائن في غاية الغموض وتعلّق بقوة تضمحل أمامها كل القوى... إنه وعي للقدرة والمقصد الذي لا يسعنا كبشر إلَّا أن ننحني أمامه بخشوع».

وتفيدنا هذه الفكرة في تكوين تصور عن ظاهرة استنزال الرمزي من مستوى التعبير عن القلق العارم والهمّ الأقصى بتعبير تيليش، وإسقاط حالة الغموض من الذات الإلهية إلى عالم البشر، وهو ما ينقل من معالم المقدّس خارج نطاق الذات الإلهية غير القابلة لإدراك كنهها.

وتتجلّى أهمية الرمزي والمقدّس داخل الاجتماع السياسي بصورة وظيفية يتحوّل بموجبها نظام الدلالة الألوهي إلى أحياز السلط أو يمتح منها بعض أبعادها. فالمقدّس كان ولا يزال ملازمًا وفيًّا للسلطة.

وفي نظر جورج بالانديه، يكون «المقدّس هو أحد أبعاد السياسي» كما يصلح الدين -وحتمًا رموزه- وسيلة للاستغلال كأداة للسلطة من جهة وكضامن لشرعيتها من جهة ثانية. وهو نفسه ما وقفنا عليه عند دوفرجيه.

ﷺ لحظة الاحتضار من الناحية الدينية و العقدية

أقام الدين الإسلامي علاقة جدلية بين الموت والحياة، كرّس من خلالها مساحة لنهوض وتضخّم الرمزي في حياة الجماعات، بوصف هذا الأخير -أي الرمزي- حسب جون هيك، هو منتهى التعبير عمَّا لا نقوى على فهمه بالمباشرة.

منذ وجود آدم وحتى نزوله إلى الدنيا كانت أولى الحقائق التي صدمته هي سؤال الخلود والاستمرارية. فلئن كان الإيمان المسيحي بلغ بمعتقد الخطيئة منتهى الانسداد الذي جعل البشرية تدفع ثمن الموقف التراجيدي لأبينا آدم لم ينفّس عنه سوى حدث تضحية المسيح في الاعتقاد المسيحي التجسيمي، فإن الأمر في الإسلام يتعلّق بخطأ -تدريبي- تأسّس على الغواية وضعف الإنسان تمّ على إثره النزول المشروط بقصد العودة، ووفق سلوك منضبط بالوعد والوعيد.

يصبح الموت في سردية الخطيئة المسيحانية عقابًا في ذاته بيد أنه يعدّ في التّصور الإسلامي مدخلًا برزخيًّا للنشأة الأخرى. وتتعدّى رمزية هذا الحدث المفصلي إلى المدرك السياسي للديانتين؛ فحيث إنّ النزول بالمنظور المسيحي هو عقاب لا رجعة فيه تبدو فيه مسألة الانصياع إلى الحكومات بوصفها غير عادلة من البلاء الحتمي والمقدر على النوع، يكون إقامة دولة العدل في الدنيا من منظور الإسلام ممكنًا بل مطلوبًا؛ وتلك هي حكاية نزول الأنبياء تترى، بدين الحق لينشروا العدل ويقيموا القسط بين الناس: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}[1].

لا يتعلّق الأمر في الإسلام إذن بعقوبة وإن حصل إشراك آدم في ضمير الجمع مع إبليس في قضية النزول، فليس هبوط آدم كهبوط إبليس، ولا عقوبة إبليس كعقوبة آدم وحواء.

يحدّثنا ابن عربي في الفتوحات عن هذه الحقيقة بتقسيم التكليف بين إبليس وآدم. فالأمر بالسجود ظاهر في الأمر، بينما الأمر بعدم اقتراب الشجرة ظاهر في النهي. على أنهما أول أمر ونهي، من هنا وقعت العقوبة فورًا عند المخالفة.

ويبدو أن التخريج الأخير فيه بعض التعمّل؛ ذلك لأن التكليف ظهر قبل ذلك، وقد كان إبليس رفقة الملائكة وهم مأمورون قبل آدم، كما أن إبليس كان من الجن حسب المقرّر في الكتاب، وأنه ارتقى إلى منزلة الكروبيين، وهذا لا يحصل بداهة إلَّا بظهور الأمر والنهي قبل حادثة آدم.

لكن ما يبدو مهمًّا أيضًا عند ابن عربي هو قوله: «ولم يكن الهبوط عقوبة لآدم وحواء، وإنما كان عقوبة لإبليس». كان هبوط آدم وحواء هبوط كرامة وهبوط إبليس هبوط عقوبة وخذلان؛ إذ سيتحمل إبليس وزر كل مشرك حتى وإن كان موحدًا محتفظًا في نفسه بصورة الشرك، ما دام سنّ سنة الشرك بقوله للإنسان: «اكفر».

ويمثّل ابن عربي هبوط آدم بخطيئة العارفين التي لا تستوجب شقاء أبديًّا، وإن زلّوا فحطّوا من مقامهم، «بل يكون هبوطهم كهبوط آدم». ومن هنا اعتبر ابن عربي سبب إيراده لقصة آدم والنزول في فتوحاته ليعتبر بها العارفون، بل «تأنيسًا لأهل الله تعالى».

والموت في التصور الديني الإسلامي حق وحتمية لا مفرّ منها: {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ المَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا}[2]. فلا أحد يتنبأ بقدره وكيفية قضائه ميتًا: {أيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا}[3].

وكل من عليها فانٍ ولا يبقى إلَّا وجه ربك ذو الجلال والإكرام. وهنا يبدو الموت قدرًا عامًّا لا يستثنى حتى ملك الموت قابض الأرواح. إذ يذكر الطبري في تفسير البيان في مورد قوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}، قوله: «فَيَقُولُ: أيْ رَبِّ قَدْ مَاتَ حَمَلَةُ عَرْشِكَ، فَيَقُولُ: مَنْ بَقِيَ؟ وَهُوَ أعْلَمُ، فَيَقُولُ: بَقِيتَ أنْتَ الحَيَّ الَّذِي لا يَمُوتُ وبَقِيتُ أنا، قال: فَيَقُولُ اللهُ: أنْتَ مِنْ خَلْقِي خَلَقْتُكَ لِمَا رَأَيْتَ، فَمُتْ لا تَحْيَا، فَيَمُوتُ».

وقد تفاوتت المدارك حول هذا المفهوم وحقيقته، بعد أن سلّمت بحتميته، ما بين أهل الأخبار الظاهرية والمتكلّمين والحكماء، وعند هؤلاء الأواخر لا يبدو ممكنًا إدراك حقيقة الموت إن لم ندرك حقيقة النفس.

إن استذكار الموت مندوب لجنبة كونه ضامنًا لاستمرارية تحقّق القيم الموصولة باليوم الآخر على الأرض. فجعل من بعض ضروب الموت حياة وشهادة. كما أن الموتى لا يموتون وإنما يتوفَّى الله الأنفس بعد موتها، أي بعد انسلاخ الروح عن الجسد. لكن سيعزز حكماء الإسلام هذا المعنى بمزيد من التحليل ليتحدّثوا عن أن النفس جسمانية الحدوث وروحانية البقاء.

وقد شكّل هذا محور نقاش فلسفي ارتقى بالفهم الديني للموت والنشأة الأخرى إلى مستوى تأكيد جدل الحياة والموت الذي هو عنوان آخر لجدل الحضور والغياب، بموجبه ينهض فهم آخر يجعل الموت -غير الاخترامي منه- تعبيرًا عن تكامل النفس في إحدى وجهتيها الملهمتين (بفتح الهاء) لها.

مما يوجب انعتاقها الحتمي من الجسد المادي إلى عالم المثال وفي خطوة أرقى إلى عالم العقل إن هي تكاملت في اتجاهه. فكما أنها في مراحل نشأتها الضعيفة تحتاج إلى استدعاء صورة لها لتتكامل من خلالها فكذلك حين تحقّق كمالها في مسالك الخير أو مسالك الشر فإنها تستغني عن البدن.

قيمة هذه المقاربة أنها نزعت التجسيم من قوانين النشأة الآخرة كما نزعت المفارقة ما بين النشأة الأولى والأخرى التي يعدّ الموت مفصلًا بينهما، وإن أقرّت بتجسّم الأعمال في عالم المثال المنفصل الذي هو عالم البرزخ.

وهو حتى بهذا المقدار لا يعدً تجسّمًا حقيقيًّا بل تجسّمًا خياليًّا له آثاره في عالم المثال بموجب قاعدة كل بحسبه؛ لأن الذي يحدّد مستوى النشأة الأخرى هو مقدار ما تحقّق من المعرفة في النشأة الأولى؛ فالمائز بين النشأتين يتحدّد بجدل الغفلة والبصيرة. فالدنيا في نظر ابن عربي وكثير من الحكماء هي حلم يجب عبوره مثلما وجب تعبير الرؤية. فهي جسر يعبر لا يعمر مثل الحلم الذي يعبر ولا يعمر أيضًا.

الموت ليست هي النهاية بل هي يقظة من نوم الحياة، فإذا تحقّق ذلك لم «ينتقل معه شيء مما كان في يده وفي حسه»، كما هو حاله لما استيقظ من نومه. إن الإنسان نائم دائمًا ما لم يمت.

ويعتبر الموت في التصوّر الإسلامي مناسبة لتحقيق الاعتبار بوصفها ذروة الاستخفاف بالجسد. فمع أن الإسلام حثّ على الاهتمام به من منطلق أن لجسدك عليك حقًّا، إلَّا أنه استنكر تكريس ثقافة الجسد على حساب الروح. فالجسد يحضر كشرط في جوانب كثيرة من حياة المسلمين وتشريعهم. لكنه لا يمثّل منتهى القلق.

بل لقد شرعت الكثير من الأحكام التي هدفت إلى قمع الجسد وتغلّبه على النفس، وذلك عبر شعيرة الصيام التي هي من الأحكام التي مناطها ضرري يكلّف المكلّف شيئًا من الجهد والضرر الخفيف المتحمل كما في سائر الرياضات التي يراد منها التدريب وتقوية النفس والعزيمة.

كما أن سلامة الجسد أخذت بعدًا رئيسًا في اشتراط الحاكم المعتبر. فالجسد لا ينظر إليه بوصفه حقيقة الكائن بل عادة ما ينظر إليه على أنه آلة للنفس ومسكن لها.

فقد أفرد إخوان الصفا فصلًا في الرسالة التاسعة بعنوان: في أن الجسد كالدار وأن النفس كالساكن في الدار. ففي هذا الفصل والذي يليه نقف على أهمية النفس وتابعية الجسد لها. لقد جاءت لغة القرآن على نحو من المجاز الذي يخفي حقائق يتعذّر إيرادها بالمباشرة. فعالم العقل شديد التجريد.

ومن هنا جاء التقريب المجازي لمشاهد الجزاء الذي سيلقاه الناس في النشأة الأخرى حيث صوّرها بصور النشأة الأولى مع شيء من التضخيم. فالنّعيم الأوفى والألم الأكبر لا يمكن تقريبه إلَّا بتضخيم الجسد وليس بتعقّله بوصفه كشف النفس على وجه الحقيقة لما لا ينبغي لها في مشوار تكاملها. فلو حصل هذا لكان له تأثير في اعتقاد جمهور المؤمنين وعاشوا فراغًا في الخيال وظنوا بالله الظنونا.

فلم يفهم جمهور المؤمنين أن الثواب غير مادي، لأن عالم النشأة الأخرى ليس ماديًّا، ولا علاقة له بأشياء صوّرت له كما يصور النعيم للأطفال. فالسّر في كل هذا الأمر يكمن في قول صاحب الدعوة: «وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر». فلنتصور أن أهل الجنة في شغل يومئذٍ فاكهون، ليس لهم إلَّا أن يأكلوا وتتجدّد الشهية للطعام والجنس وتصبح أجسادهم أضخم من المعتاد لضمان أقصى حدّ للذة الجسدية، كما للمشركين أنيابًا بحجم جبل أحد لتمكّن الألم من أجسادهم. التقريب الجسدي للنشأة الأخرى مجازي محض ويؤكّد عصر طفولة البشر العقلية. وهي شهادة على أن زمن الرشد لم يتحقّق دينيًّا لأنه لم يتحقّق عقليًّا بعد.

ومن هنا جرى نقاش واسع وفلسفي أيضًا حول إمكانية بعث الأجساد. فالنشأة الأخرى عقلية محض لا يتصوّر فيها التجسيم. وحتى ما كان من أمر تجسّم الأعمال هو في نطاق عالم المثال الذي تعمل فيه ملكة الخيال وليس عالم المادة. فهو مثل الحلم الذي تتحسس فيه جميع أشكال الآلام والسعادة الحسية مع أنه عالم مثال لا عالم مادة.

وقد قرّر الفلاسفة استحالة إعادة المعدوم لأنه لا مجال أن يتخلل العدم الوجود ذاته. ولكي يخفّف البعض من ذلك قال باستعادة المثال، ليقرّ بالبعث الجسدي، لكنه في الواقع يتحدّث عن مثال الجسد وليس عنه هو نفسه؛ لأسباب أهمها أن استعادة الشيء بعد إعدامه يلزم عنه استعادة كل شروطه اللازمة لوجوده وهو أمر محال فلسفيًّا لتعذّر العودة بزمان الحركة.

والحق أن هذا الرأي يقوم على فكرة بعث المثال وكذا البعث الجسدي بالمثال. أي إن الجسد المبعوث هو مثال عن الأصل في نشأته الأولى لتعذّر بعث الجسد نفسه في كامل شروطه، وأيضًا بعث الجسد بالمثال وليس بالمادة؛ لأنه لا مادة في النشأة الأخرى؛ لأنها نشأة حقيقية وكاملة. فالجسد هناك مثالي وليس ماديًّا.

ويرقى ملا صدرا ببحث المعاد الجسماني إلى مرتبة تندكّ عندها نقائض المذاهب الحكمية، حيث أقرّ بضرورة البعث الجسماني، غير أنه عالجه وفق منظور الحكمة المتعالية. وهي الحكمة التي تقرّ ببعث الإنسان بكامل قواه وجوارحه، لكنها تقيم ذلك الفهم على أساس تغاير النشأتين؛ إذ «بالجملة فنحو وجودي الدنيا والآخرة مختلفان في جوهر الوجود».

وقد تفرّد ملا صدرا عن باقي الحكماء والعرفاء بمن فيهم ابن عربي في مسألة ما يتبقى من أجزاء الإنسان بعد الموت والتي منها تقوم النشأة الأخرى. فقد حاول بعضهم تأويل ما جاء في الخبر من بقاء «عجب الذنب»، فاعتقد بعضهم أن معناه الأعضاء الأصلية كما ذهب بعضهم إلى أن المقصود منه المادة الأولى أو الهيولى، وذهب ابن عربي إلى أنه الماهية المسماة بالعين الثابتة من الإنسان.

أما ملا صدرا فقد تحدّث عن بقاء القوة الخيالية المركبة للصور الغائبة عن عالم الحس. ويؤكّد ملا صدرا أن القوة الخيالية والجزء الحيواني من الإنسان جوهر مجرّد عن البدن الحسي العنصري؛ ولذا تبقى هذه القوة حتى بعد إتلاف الجسد العنصري، فهي غير داثرة. فقد خلق الله النفس الإنسانية -حسب ملا صدرا- بحيث تقدر على تصوير الحقائق في ذاتها وإنشاء الصور الغائبة عن الحواس في عالمها من غير مشاركة المواد.

ﷺ الاحتفاء بالجسد بين عنوان الكرامة والسخرية

لقد تحدّث القرآن في موارد كثيرة عن اهتمام خاص بنجاة البدن ورفعه. فقد بحث المسلمون في أمر من غاب من الأنبياء والصالحين واختفت أجسادهم، وذلك بإسناد إمكان ذلك فيما وقع من أمر أنبياء معمّرين مثل نوح الذي عمّر ألف سنة إلَّا خمسين عامًا.

كما استدلوا على إمكان ذلك دائمًا بناء على أن الوقوع أفضل الأدلة على الإمكان في تأكيد إمكان بقاء واستمرار المزاج البشري. وذلك حينما وقفوا على آيات تغييب أجساد لأزمنة طويلة، إذ كانت بمثابة آية للأقوام الظالمة؛ ومن تلك الأجساد أجساد حيوانات، كالحمار الذي لم يتسنمّ أو كلب أهل الكهف الذي غاب سنين عددًا وهو باسط ذراعيه بالوصيد. كما هو أمر رفعة المسيح بعد أن شبّه جسديًّا لقاتليه.

والأمر هنا ليس احتفالًا بالجسد بل بالروح التي تدبّر ذلك الجسد وخصوصية الشخصية التي يتعلّق بها ذلك الجسد. وحينما عاقب الله فرعون بالغرق، تحدّث عن أنه سينجيه اليوم ببدن لا روح فيه؛ فقال: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ}[4].

ذكر الألوسي في روح المعاني: «{فاليوم نُنَجّيكَ بِبَدَنِكَ} تهكّم به وتخييب له وحسم لأطماعه بالمرة، والمراد فاليوم نخرجك ممّا وقع فيه قومك من قعر البحر ونجعلك طافيًا ملابسًا ببدنك عاريًا عن الروح إلَّا أنه عبّر عن ذلك بالتنجية مجازًا... لتكون لمن يأتي بعدك من الأمم إذا سمعوا حال أمرك ممَّن شاهد حالك وما عراك عبرة، ونكالًا من الطغيان أو حجة تدلهم على أن الإنسان وإن بلغ الغاية القصوى من عظم الشأن وعلو الكبرياء وقوة السلطان فهو مملوك مقهور بعيد عن مظان الألوهية والربوبية».

ويذكر ابن كثير: «{فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ} أي: نرفعك على نَشز من الأرض، {بِبَدَنِك} قال مجاهد: بجسدك. وقال الحسن: بجسم لا روح فيه. وقال عبدالله بن شداد: سويًّا صحيحًا، أي: لم يتمزّق ليتحقّقوه ويعرفوه. وقال أبو صخر: بدرعك. وكل هذه الأقوال لا منافاة بينها، كما تقدّم، والله أعلم».

وبالنتيجة، فقد حصل ذلك من باب التهكّم لا من باب الحقيقة بعد أن رفضت توبته التي جاءت متأخّرة.

ﷺ طقوس الاحتضار عند المسلمين

تعرّفت الجماعات البشرية منذ وجودها إلى إقرار شكل من أشكال طقوس توديع الموتى وطقوس الاحتضار. اختلفت هذه الطقوس قليلًا أو كثيرًا بحسب اختلاف الأديان والثقافات، لكنها حافظت على جوهر واحد، هو توديع الموتى في وضعية يسودها الحزن. إنها تراجيديا الأجساد الراحلة عنّا، أو هي بالتعبير الديني الإسلامي: قيامة الإنسان.

وفي الشريعة الإسلامية هناك طقوس كاملة خاصة تبدأ بالاحتضار وتنتهي إلى لحظة مواراة الجثمان في التراب، ولكنها أيضًا لا تنتهي؛ لأنها تندب فعل التواصل في إطار شريعة زيارة الموتى وآدابها والدعاء لهم لتأمين ضرب من الاستمرارية.

تؤكد الشريعة أيضًا أن المستفيد من هذا الطقس هم الأحياء قبل الموتى. فالموتى يستفيدون من دعاء الأحياء، والأحياء يعتبرون من وضعية أهل القبور.

ولعل ثاني درس خلّدته ذاكرة الأديان بعد خطيئة آدم الأولى، هي عن حالة الحيرة التي انتابت أحد ابني آدم لما أقدم على قتل أخيه ظلمًا، ثم سرعان ما داهمه سؤال تدبير نقل الجسد إلى مثواه المقرّر. يذكر الآلوسي في روح المعاني هذه القصة في معرض تفسيره للآية: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ}[5].

قال: { فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ}، أخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عطية قال: لما قتله ندم فضمّه إليه حتى أرْوَح وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر متى يرمي به فتأكله، وكره أن يأتي به آدم عليه الصلاة والسلام فيحزنه؛ وتحيّر في أمره إذ كان أول ميت من بني آدم (عليه السلام)، فبعث الله تعالى غرابين قتل أحدهما الآخر وهو ينظر إليه ثم حفر له بمنقاره وبرجله حتى مكن له ثم دفعه برأسه حتى ألقاه في الحفرة ثم بحث عليه برجله حتى واراه، وقيل: إن أحد الغرابين كان ميتًا. والغراب: طائر معروف، قيل: والحكمة في كونه المبعوث دون غيره من الحيوان كونه يتشاءم به في الفراق والاغتراب وذلك مناسب لهذه القصة، وقال بعضهم: إنه كان ملكًا ظهر في صورة الغراب. والمستكن في {يُريه} لله تعالى أو للغراب، واللام على الأول متعلقة بـ{بعث} حتمًا، وعلى الثاني بـ{يبحث}، ويجوز تعلّقها بـ{بعث} أيضًا، و{كَيْفَ} حال من الضمير في {يوارى} قدم عليه لأن له الصدر، وجملة {كَيْفَ يُوَارِى} في محل نصب مفعول ثانٍ ليرى البصرية المتعدية بالهمزة لاثنين وهي معلقة عن الثاني، وقيل: إن {يريه} بمعنى يعلمه؛ إذ لو جعل بمعنى الإبصار لم يكن لجملة {كَيْفَ يُوَارِى} موقع حسن، وتكون الجملة في موقع مفعولين له وفيه نظر، و البحث في الأصل التفتيش عن الشيء مطلقًا أو في التراب، والمراد به هنا الحفر، والمراد بالسوأة جسد الميت وقيّده الجبائي بالمتغيّر، وقيل: العورة لأنها تسوء ناظرها، وخصّت بالذكر مع أن المراد مواراة جميع الجسد للاهتمام بها لأن سترها آكد، والأول أولى، ووجه التسمية مشترك، وضمير {أَخِيهِ} عائد على المبحوث عنه لا على الباحث كما توهم، وبعثة الغراب كانت من باب الإلهام إن كان المراد منه المتبادر، وبعثة حقيقة إن كان المراد منه ملكًا ظهر على صورته، وعلى التقديرين ذهب أكثر العلماء إلى أن الباحث وارى جثته وتعلّم قابيل، ففعل مثل ذلك بأخيه».

وتؤرّخ الكتب السماوية لهذا الحدث بسردية تحتمل الكثير من مستويات المعنى. فهي من ناحية أنفذ من مستهلكات الفهم السردي الظاهري، تؤكد أن الدرس الأخلاقي والفطري يحتاج إلى تماهٍ مع الطبيعة السابقة عن وجود الإنسان على مستوى الوجود الفعلي لا الغائي.

فمصدر المعرفة هنا ليس بالضرورة يتحقّق مع ميلاد الكائن البشري بل هي متاحة في العالم وأنه يتوصّل إليها بأولى وسائط المعرفة: التمثيل والمماثلة. تقمّص قابيل طريقة الغراب الذي يواري نظيره، فقام بعملية دفن هابيل؛ كانت تلك أولى تجارب الإنسان كما خلّدتها الكتب المقدّسة في تدبير نقل الموتى وإخفاء الجسد. تعرف الإنسان إلى غريزة القتل قبل تعرّفه إلى طرائق تدبير نقل الموتى.

ولكن أيضًا اتضح عبر هذه السردية أن طقس نقل الجثامين لم يتأخّر تاريخيًّا عن أول حادثة موت عرفها التاريخ البشري. وهي أولى تمظهرات تكريم الجنازة. إحدى أبرز تلك الطقوس في الإسلام ما يتعلّق بتلقين المحتضر الشهادتين إذا أغفلته عنها سكرات الموت، كما يتعيّن التلقين حينما يوارى الجثمان تحت التراب. لكن لحظة الاحتضار أيضًا تعرف ذروة علاقة الميت بالأحياء في الزمن الأخير من حياة الميت؛ يتعلّق الأمر هنا بالوصية.

وتقدّر أهمية الوصية من خلال مكانة الشخص ووزنه الاجتماعي أو السياسي أو العلمي. الوصية مفصل من مفاصل بعث الروح في واقع المجتمع سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا. فالوصية تؤشّر على الخلف وعلى حقائق قد أخفاها المحتضر طيلة حياته أو قرار الوصية بالمال التي تكشف عن علاقات اقتصادية غالبًا ما تفاجئ المعنيين بالإراثة.

انتقال السلطة في حالة موت الأمير أو تفتيت الثروة في حالة موت الموسر الغني، والكشف عن المستور والحقائق في حالات تتعلّق برموز المجتمع، تؤكد جميعها أن رحيل الرمز يعني أكثر مما يعنيه رحيل عوام الناس وهمل البشر؛ لأنه موت مؤثر في الاجتماع ومحدد لمصير استمراريته.

ومن هنا تأتي أهمية الوصية حينما يتعلّق الأمر بموت الأمير. والوصية في الشريعة مندوبة وهي أولى أن تحضر قبل وفاة المرء ويحتفظ بها في عزّ حياته؛ ربما الحكمة وراء ذلك أنه متى رآها تذكر الموت، وبالتالي استعاد الوصل بالنشأة الأخرى وعزّز جدلية قوس الصعود والنزول في حياته الروحية وسلوكه العملي.

ﷺ من فن الاحتضار إلى تدبيره

عرفت أوروبا انبثاق فلسفات سعت عبثًا لمقاومة الخوف من الموت ببدائل عدّة بدءًا من التشاؤمية حتى ذروة السوريالية، كما أطنب في عرضها جاك شورون في كتابه القيم «الموت في الفكر الغربي».

 ولكن أصل هذا الرهاب يعود في الحقيقة إلى حقبة القرون الوسطى حيث عاشت أوروبا حدثًا مروّعًا على إثر انتشار داء الطاعون الذي حصد جموعًا غفيرة من الناس. وقد بدا هذا الشكل من الموت بالجملة شكلًا من الموت المريع، أطلقوا عليه الموت الأسود.

وهنا سعت الكنيسة إلى إنتاج خطاب يعيد المعنى للموت السعيد والأفضل، من خلال ابتكار ما سمّي بفن الاحتضار، وهو الكتاب الذي ينسب لكاهن دومينيكاني مجهول وربما افتراضي في عام 1415م. يحاول كتاب (Tractatusartis bene moriendi) أن يساعد الناس على الموت السعيد والاستعداد للمغادرة وتجنّب محاذير الانتقال.

جاء الكتاب في فصول ستة:

الفصل الأول يشرح كيف أن للموت جانبًا حسنًا، ويساعد الشخص المحتضر على الاقتناع بأنه لا يوجد داعٍ للخوف من الموت.

الفصل الثاني: يوضّح الخمس مغريات التي تواجه الشخص المحتضر، وكيفية تجنبها. وهي: قلة الإيمان، اليأس، الجزع، الكبر، الجشع.

الفصل الثالث: يذكر الأسئلة السبعة الواجب توجيهها للشخص المحتضر، إلى جانب العزاء أو السلوى التي سوف تتاح له بواسطة القوى التطهيرية لحب المسيح.

الفصل الرابع: يشدّد على ضرورة الاقتداء بحياة المسيح.

الفصل الخامس: موجّه إلى عائلة وأصدقاء المحتضر، شارحًا القواعد السلوكية الواجب توافرها حين الاجتماع حول فراش الموت.

الفصل السادس: يتضمّن الصلوات الواجب تلاوتها على الشخص المحتضر.

ومثل هذا الفن حاضر في أكثر الديانات بما فيها غير السماوية. وقد ارتقى الإسلام بهذه الشعائر، وهو الاسم الأنسب والبديل في المنظور الإسلامي عن مصطلح الطقوس؛ لأن الطقوس اصطلاح عام والشعائر اصطلاح خاص؛ إذ الإسلام لا يقرّ بكل الطقوس التي قد يكون منشؤها اجتماعي؛ أي يقرّها كسلوك إنساني جماعي، أي يقرّها كسلوك حقيق بالجماعة الدينية ولكنه لا يقرّها كجزء من الدين بالضرورة ملزم لكل الجماعات؛ أجل لقد ارتقى الإسلام بشعيرة توديع الموتى واحتضارهم إلى مرتبة قصوى.

إن للإسلام حظًّا وافرًا في هذا الفنّ، حيث تكمن إحدى أبرز ميزاته في أن واجبات هذا الفن ومستحباته يتساوى فيها الحاكم والمحكوم، بل تشكل عبرة لمن شاء أن يعتبر. غير أن ما يبدو من أمر الاحتضار وخصوصيته لدى الحاكم تختلف من جهة الإخبار وجملة التدابير التي يجب اتخاذها قبل أن ينتقل الأمير إلى مثواه الأخير.

وهذه الخصوصية ليس منشؤها ديني محض، بل هي من موجبات السياسة. إذ لا شك في أن موت الأمير من شأنه أن يحدث أثرًا يتعدّى حدود الموت البيولوجي إلى الموت السياسي. فمقتضى الاستمرارية وموجب الاستقرار يفرض تدبيرًا خاصًّا لاحتضار الملوك وعموم الحكام، يؤكد أن جسد الملك نفسه مرتهن للدولة ليس في مدى انضباطه بطقوس التشريفات ومعظم ما يقتضيه البروتوكول في حياته العملية فحسب، بل الأمر يتعلّق بظرف الاحتضار وعملية انتقال الجسد.

ومن هنا اعتبرنا أننا في حالة الحاكم أو الملك، نتحدّث عن تدبير الاحتضار وليس عن فن الاحتضار؛ إذ في حال تدبير الاحتضار لا نسعى إلى إحراز الموت السعيد أو الجميل كما كان هدف فن الاحتضار، بل نتحدّث عن الانتقال السلس للسلطة وتعزيز استقرار الممالك؛ أي ما يمكن أن نسميه الانتقال السّلمي للسلطة ورمزيتها.

مسألة كتمان سرّ المرض والاحتضار واردة في الآداب السلطانية أيضًا. ففي التاج في أخلاق الملوك يقول الجاحظ: «ومن حق الملك إذا اعتلّ أَلَّا تطلب خاصته الدخول عليه في ليل ولا نهار، حتى يكون هو الذي يأمر بالإذن لمن حضر، وأَلَّا يرفع إليه الحاجب أسماءهم مبتدئًا، حتى يأذن له. فإذا أذن له بالدخول، فمن حقه أَلَّا تدخل عليه الطبقة العالية مع التي دونها، ولا يدخل عليه من هذه الطبقة جماعة، ومن غيرها جماعة. ولكن على الحاجب أن يحضر الطبقات الثلاث كلها أو من حضر منها، ثم يأذن للعليا جملةً. فإذا دخلت قامت بحيث مراتبها، فلم تسلم عليه فتحوجه إلى رد السلام، فإذا علمت أنه قد لاحظها، دعت له دعاءً يسيرًا موجزًا، ثم خرجت. ودخلت التي تليها، فقامت على مراتبها أقل من قيام الأولى، ودعت دعاءً أقل من دعاء الأولى، ثم دخلت بعدهما الثالثة، فكان حظها أن يراها فقط. وليس من عادة الملوك وقوف هذه الطبقة الثالثة، تتأمّل الملك، وتدعو له، وتنظر إليه، وإنما مراتبها أن يراها فقط. ومن حق الملك أَلَّا ينصرف أحد من هذه الطبقات إلى رحله إلَّا في اليوم الذي كان فيه ينصرف في صحة الملك. وبالأحرى ينبغي أن يبرح فناءً سيده ومالكه، انتظارًا لإفاقته من علّته، وفحصًا عن ساعات مرضه».

ومثله يؤكد الطرطوشي في سراج الملوك: «قال غيره: لا ينبغي للملك أن تكون له أيام معلومة يظهر فيها فإن في ذلك خصالًا مذمومة. منها أنه قد يعوق في ذلك اليوم ممسك مهم أو بعض الكسل أو لذة مغتنمة، فيلزمه الخروج على كره. ومنها أنه إذا تخلّف عن الظهور لأمر ما تطاولت الأعناق من الرعية وكثر كلامها وقالوا: مرض أو مات أو أصابته آفة، فيكسب العدو جراءة وسرورًا ويكسب الولي حزنًا وجبنًا. ومنها أنه قد واعد عدوه ليوم يلتقيان فيه، ولا ينبغي أن يكون الملك كثير التصرّف عند فساد الزمان وخبث الرعية، وعن هذا قالت الحكماء: إذا كان الجمل كثير النفر كان نصيب الذئب».

لقد كشف التاريخ عن صور احتضار الزعماء والرؤساء والملوك بوصفه لحظة استثنائية في حياة الأمم والجماعات. ولا خلاف بين موت الأمير المستبد والأمير العادل في خصوصية الحدث واستثنائيته. في عالم الناس تتحدّث الإحصائيات عن موت يحصد الأفراد في السلم على رأس كل ثانية، فضلًا عمَّا تنتجه الحروب وحوادث السير من ضروب الموت الاخترامي بالجملة.

لا أحد يتوقّف عند ظاهرة الموت إلَّا إذا دنت منه ومسّت أقرب الناس إليه. لكن دنو الموت من الأمير يعدّ حدثًا سوسيو-اجتماعي وتاريخي، لأنه يفوق كونه موتًا بيولوجيًّا. فالرمزي يتعدّى إلى هنا، حيث ما بعد موت الجسد، ليوقفنا على ضرب من الحلولية أو الاستمرارية التي تنتقل فيها السلطة ورمزيتها بصورة سلسة. والسلاسة هنا مكتسب وليس معطى لا يتم في العادة إلَّا بتكثيف الرمزي وتحريك نفوذه.

يجد الرمزي ونفوذ الهالة الكاريزمية اختباره الحقيقي عند حدث الموت. هناك فقط تستطيع الجماعة الإنسانية أن تميّز بين من يتكثّف حضورهم بعد الغياب وبين الهمل الذين ينطفئ حضورهم المعنوي بمجرّد أن يوارى الجسد تحت التراب.

ومن هنا كانت لحظة احتضار الزعيم والحاكم هي لحظة الذروة في حياة الجماعات والمجتمعات؛ حياة حيرة وذهول وأساطير وحز ومؤامرات. هذه الأخيرة تعيش لحظة عارمة من الانفصام الجماعي؛ فهي إذ تتهيّأ لتوديع قائدها تجد نفسها في وضع المتهيئ لاستقبال قائدها الجديد.

بين الشعور الأول الموسوم بالحزن والثاني الموسوم بالحبور، توجد حكاية الرمزي والقدسي الذي يشكل لبّ الثقافة السياسية للجماعة وقدرتها على هضم الإحساسين المتناقضين؛ وهناك فقط لا مجال للفراغ، ليس في واقع السياسة فحسب بل في مشاعر الجماعة السياسية؛ إذ موت السياسة يبدأ في الأحاسيس والثقافة السياسية.

لذا بدا إحساس الجماعة منسجمًا على ما يظهر من انفصامية الموقف، حينما يتم الإعلان لحظة احتضار الأمير عن شعار: «مات الزعيم، عاش الزعيم». يتحقّق الانتقال السلس في الوجدان الجماعي قبل أن يتحقّق في الواقع السياسي، هذا إن لم نقل: إن الوجدان هنا حاكم على الواقع نفسه. يعكس شعار: «مات الزعيم، عاش الزعيم» ثقافة سياسية كاملة. لكنه أيضًا يلخّص تاريخًا من الوعي السياسي بخطورة الفجوة التي تفصل بين الحدثين، حيث يجب رتقهما في الوجدان، وحده الوجدان -بخلاف الواقع- يمكن أن يتعقل اندماج لحظتين متفرقتين كما لو أنهما حدث واحد، إنه وعد بالبيعة وعنوان الاستمرارية.

ولا شك أن موت السياسة يختبر تحديدًا في هذا الموقف. وحين تحقّق الاطمئنان بهذا الوجدان، فلا مجال بعد ذلك للقلق على سيرورة الانتقال. وهو فضلًا عن ذلك أيضًا عنوان شرعية استباقية وتذكير غير مشروط بضرورة الاستمرارية.

فقد أثبت تاريخ الجماعات أن موت السياسة يمكن أن يداهم الجماعة لحظة الاحتضار نفسها، ليجعل من الموت البيولوجي مدخلا لتحقيق الموت السياسي؛ حيث يمكن للموقف الشعبي أن يتغيّر في أي لحظة من اللحظات و بسرعة قياسية. يحدث في الغالب أن ينتاب الجماهير إحساس عارم بفقد الأب بمعناه الفرويدي حين موت الملوك والزعماء. إنه لا حدود لجنون الجماهير، وتحيّزهم المفرط لكل ما هو ليس عقلاني، هو في الواقع أكثر من كونه معرتهم بل هو قانون استمرارية البنى وتجددها واستقرارها.

وقد دارت الآداب السلطانية حول محور تكريس الفهم بالمشاعر الجماعية وكيفية تدبيرها لتكريس استقرار الدول. فالوعي الفردي الذي لا معنى له سوى أن ينهض الجماعات من سبات هذا التحيّز اللامشروط للرمزي، هو مجال تدبير السياسة.

كان غوستاف لوبون سابق في الزمان على فرويد، أي قبل اكتشاف التحليل النفسي الفرويدي، لكنه هو الأكثر تمكنًا من فهم العقل الجماعي بل الأكثر فهما لأداء ونفوذ اللاّشعوري عند الجماعات حتى وهو يسمّي هذا اللَّاشعور باسم الشعور.

ولم يجد فرويد نفسه بدًّا من تجاوز هذا الاسم وهو يحدثنا في التحليل النفسي للجماهير. إنها حقًّا سيكولوجيا حادّة عنيفة متطرفة لا عقل فيها لكنها أيضًا متقلّبة وغير مستمرة بالضرورة.

وإذ تختزل السلطة مفهوم الأبوة بالمعنى نفسه الفرويدي الذي يقيس المجتمع البشري على المجتمع البهيمي في حادثة قتل الأب، فهذا أمر وارد عند لوبون الذي يعتبر وجود رئيس للجماعة أمر راسخًا في تقاليد الجماعية سواء أتعلق الأمر بعالم الحيوان أم عالم البشر.

هكذا قد يبدو الوضع في غاية الإحساس بفقد الأب وجرح المشاعر الأبوية المرافقة للإحساس العارم بالذنب، لا سيما إذا استحضرنا مفهوم الكراهية للحاكم وقتله اللاشعوري. ومثل هذه الوضعية المهسترة رافقت دائمًا موت الزعيم والبطل والحاكم على مرّ القرون والسنين. حتى في حياة النبي/ الأمير حصل مثل ذلك، وحدث أن رفض البعض أن يقبل بموته. فلا تأثير للعقل على الجماهير، بل إن مقدرة الأفراد العقلية تختفي في روح الجماعة.

إن هذه السيكولوجية بتعبير فرويد تضارع سيكولوجيا «النوّام»، ولغزها من لغزه، إنّ أهم سمة من سمات الجمهور -في نظر فرويد- هي سمة انحطاط النشاط الفكري والعجز عن ضبط النفس واللاّنهائية في التعبير عن مشاعره في التظاهرات العاطفية. وهذه هي نفسها صفات الجمهور عند جوستاف لوبون يثمّنها فرويد، قبل أن يعتبرها حالة نكوص نفسي لعهد الطفولة والتّوحش.

هذا دون أن ينسى فرويد أن يلفت إلى أن حالة النكوص هذه تتعلّق بالجماهير العادية ولكنها تقلّ بشكل ملفت لدى الجماهير المتقدّمة الأكثر تنظيمًا. من هنا كان المستهدف من تدبير هذه المشاعر هم الجماهير لا النخب التي وجب أن تدرك قبل غيرها أن تدبير مشاعر الجمهور لا يمكن أن تتم إلَّا بتفعيل الرمزي والكف عن المباشرة وتكثيف الطقس وتجنّب العقلاني.

لعل أكبر خطأ ترتكبه النخبة حينما تعتقد أن تدبير الرمزي هو خطيئة سلطانية أو حيلة من حيلها، بينما لا طريق للنفوذ والتحكم بالجماهير إلَّا بهذا الخداع الرمزي الذي هو في سوسيولوجيا السياسة ضرورة من ضرورات حفظ النظم التقليدية بل لو أدرك القدامى مفاهيمه لعبّروا عنه بتعبيرات غوستاف لوبون وفرويد ونظرائهما، أنه إذن في صلب الآداب السلطانية بل من موضوعات السياسة الشرعية.

ﷺ في مخاطر سوء تدبير الاحتضار

أعتقد بما أن نشأة الملك في التجربة العربية والإسلامية تمدّ جذورها إلى المنعطفات التاريخية التي توقفنا على العهد النبوي التأسيسي، يفرض رصد الظاهرة في هذه المرحلة تحديدًا؛ ذلك لأن الأمر هنا لا يتعلّق بتأويل المتعمّلين، بل يتعلّق بصاحب الدعوة الأول بوصفه مصدر الشرعية وصاحب الإمارة الأول بوصفه أول حاكم في الإسلام.

اجتماع النبوة والحكم كما في حالة سليمان الملك أو حالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، أمر لا غبار عليه كما يحدّثنا أيضًا ابن خلدون؛ لأن السؤال المطروح علينا في مجال التاريخ والفكر السياسي الإسلامي: هل منع الرمزي النبوي من كبح ظاهرة الصراع حول السلطة واختراق تدابير الاحتضار؟

إذا تبيّن أن النبوي لم يمنع من ذلك اتّضح إذ ذاك أي أهمية لتدبير الاحتضار، حيث ليس تدبير الاحتضار في نهاية المطاف سوى تدبير انتقال السلطة. فالذي قد يجعل النبي لا يغلّب السياسي على النبوي هو قيمة النبوي الحاكم على الأميري، وبالتالي في مورد التعارض لا يعقل أن يتصرّف النبي إلَّا كنبي وليس كحاكم.

ﷺ موت الزعيم والصراع على الحكم

ليس تدبير الاحتضار أمرًا نافلًا أو حتى بروتوكوليًّا لتعزيز هيبة الدولة، بل هو إجراء في صلب أمن الممالك وحفظ النظام العام. ومن هنا فإن تدبير الاحتضار من المسلمات التي تأخذ بها الدول لا يستثنى في ذلك أكثرها نزوعًا للعدل؛ أي حكومة الأنبياء أنفسهم.

ما يؤكد أهمية هذا التدبير وضرورته في استقرار الممالك كما ستظهر الآثار السلبية لسوء قيام هذا التدبير أو فشله. فمن باب الأولوية القطعية أنه متى ثبت أن تدبير الاحتضار ضرورة حتى في حكومة النبي، وجب الأمر مضاعفًا في حكومة من هم في العدالة دونه.

يحدّثنا القرآن الكريم عن إحدى أهم القصص المتعلّقة بتدبير احتضار الملك. يتعلّق الأمر بالملك سليمان العظيم. هو ملك ندرك جميعًا ما منحته لغة الخيال من مظاهر التحكّم بالإنس والجن. لكن لا أحد تساءل حول كيفية نهاية هذا الملك وكيفية احتضاره السرّي على الرغم من هذا الخضوع الكبير من رعايا سلطنته.

لم يكن سليمان ظالمًا، لسبب بسيط أنه كان نبيًّا. وقد كان ملكه ممدوحًا، وسلوكه واقع في طول الأمر الإلهي؛ ولذا اعتبر ملكه مثالًا عن الملك المحمود. يذكر ابن خلدون في هذا الصدد هذا الوجه من ملك سليمان/ النبي، فيقول: «وكذا الملك لما ذمّه الشارع لم يذم منه الغَلَب بالحق وقهر الكافة على الدين، ومراعاة المصالح، وإنما ذمّه لما فيه من التغلّب بالباطل وتصريف الأدميين طوع الأغراض والشهوات كما قلناه. فلو كان الملك مخلصًا في غلبه للناس أنه لله ولحملهم على عبادة الله وجهاد عدوه لم يكن ذلك مذمومًا. وقد قال سليمان صلوات الله عليه: {هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}، لما علم من نفسه أنه بمعزل عن الباطل في النبوة والملك».

ومع ذلك يوحي القرآن بأن أمر تدبير احتضاره وجب أن يتم في وضعية استثنائية تليق بخصوصية سلطانه. وحيث لا يوجد من هو جدير بكتم هذا السّر العظيم، كان لا بد أن يتعدّى رعب السلطان إلى ما بعد موت الملك بتدبير إلهي متين. لقد استمر الجسد يوحي باستمرارية السلطان في خداع لم يدركه عتاة الجن. هنا لعب الجسد دورًا سياسيًّا أمّن ضربًا من الاستقرار.

يحدثنا القرآن عن هذه القصة: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ المَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ المُهِينِ}[6].

جاء في معظم التفاسير، ومنها جامع البيان حكاية عن كيفية تدبير هذا الاحتضار. يقول الطبري: «يقول تعالى ذكره: فلما أمضينا قضاءنا على سليمان بالموت فمات {مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ} يقول: لم يدل الجن على موت سليمان {إِلا دَابَّةُ الأرْضِ} وهي الأرضة وقعت في عصاه التي كان متكئًا عليها فأكلتها، فذلك قول الله عز وجل: {تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ}.

حدثنا أحمد بن منصور قال: ثنا موسى بن مسعود أَبو حذيفة قال: ثنا إبراهيم بن طهمان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «كَانَ سُلَيمانُ نبيُّ اللهِ إذَا صَلَّى رأى شجرة نابتة بين يديه فيقول لها: ما اسمك؟ فتقول: كذا، فيقول: لأي شيء أنت؟ فإن كانت تُغْرَسُ غُرسَت، وإن كان لدواءٍ كُتبتْ، فبينما هو يصلي ذاتَ يَومٍ إذ رأى شجرةً بين يديه، فقال لها: ما اسمك؟ قالت: الخروب، قال: لأي شيء أنت؟ قالت: لخراب هذا البيت، فقال سليمان: اللهم عمِّ على الجن موتي؛ حتى يعلم الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، فنَحَتَها عصا فتوكَّأ عليها حولًا ميتًا، والجن تعمل، فأكلتها الأرضة، فسقط، فتبيّنت الإنس أن الجن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا حولًا في العذاب المهين». قال: وكان ابن عباس يقرؤها كذلك، قال: فشكرت الجن للأرضة فكانت تأتيها بالماء».

هناك أكثر من حكمة وراء هذا التدبير الذي لا يمكن تصوّره على نحو عبثي. فمن ذلك ما كان ينطوي عليه الأمر من تكذيب الجن بوصفهم يعلمون الغيب. وقد تحدّثت كل التفاسير عن هذه الحكمة بوصفها علّة هذا التدبير.

لقد بات واضحًا أن مراد سليمان من دعوته أَلَّا يتنفّذ الجن على الإنسان استنادًا إلى معرفتهم المزعومة بالغيب. فهذه المعرفة سلطة، ومن شأنها أن تجعل الجنّ حاكمًا على الإنس بمجرّد موت سليمان. إنه شكل من أشكال تفويت السلطة بتدبير متقن للاحتضار، وإفساد حكومة الجن على الإنس.

ﷺ احتضار النبي وانتقال السلطة

أفرد ابن هشام فصولًا عدّة في ذيل سيرته حول نهاية مشوار صاحب الدعوة (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت باب سماه: ابْتِدَاءُ شَكْوَى رَسُولِ اللّهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ منها على سبيل المثال لا الحصر، فصل: في افْتِتَانُ المُسْلِمِينَ بَعْدَ مَوْتِ الرّسُولِ (صلى الله عليه وآله وسلم). وفيه يحكي عن حوادث لو لم يتم احتواؤها لانفرط عقد الاجتماع السياسي العربي والإسلامي يومئذٍ.

ومع أن ابن هشام كما هو دأب سائر كتاب السير لم يخرجوا عن خط سياسة التدوين في تكريس وترديد السردية التاريخية نفسها، التي شرعت منذئذٍ كجزء من ممالآت تاريخ الغلب الذي بدأت تظهر أولى معالمه في سقيفة بني ساعدة، إلَّا أننا نجد في بعض من تلك الحوادث ما يحمل دلالات عن حقيقة ما يعنيه غياب الجسد.

ففي فصل من سيرة ابن هشام تحت عنوان: (مَقَالَةُ عُمَرَ بَعْدَ وَفَاةِ الرّسُولِ (صلى الله عليه وسلم))، نقف على رواية ينقلها ابن هشام عن ابن إسحاق: قال: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: قَالَ الزّهْرِيّ، وَحَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ المُسَيّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمّا تُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَامَ عُمْرُ بْنُ الْخَطّابِ، فَقَالَ إنّ رِجَالًا مِنْ المُنَافِقِينَ يَزْعُمُونَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَدْ تُوُفّيَ وَإِنّ رَسُولَ اللّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَا مَاتَ وَلَكِنّهُ ذَهَبَ إلَى رَبّهِ كَمَا ذَهَبَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ، فَقَدْ غَابَ عَنْ قَوْمِهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمّ رَجَعَ إلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ قِيلَ قَدْ مَاتَ، وَوَاللّهِ لَيَرْجِعَنّ رَسُولُ اللّهِ (صلى الله عليه وسلم) كَمَا رَجَعَ مُوسَى، فَلَيَقْطَعَنّ أَيْدِي رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ زَعَمُوا أَنّ رَسُولَ اللّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَات. قَالَ وَأَقْبَلَ أَبُو بَكْر حَتّى نَزَلَ عَلَى بَابِ المَسْجِدِ حِينَ بَلَغَهُ الْخَبَرُ، وَعُمَرُ يُكَلّمُ النّاسَ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَى شَيْءٍ حَتّى دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِي بَيْتِ عَائِشَةَ، وَرَسُولُ اللّهِ (صلى الله عليه وسلم) مُسَجّى فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ عَلَيْهِ بُرْدٌ حِبَرَةٌ فَأَقْبَلَ حَتّى كَشَفَ عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اللّهِ (صلى الله عليه وسلم). قَالَ: ثُمّ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فَقَبّلَهُ، ثُمّ قَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي، أَمّا المَوْتَةُ الّتِي كَتَبَ اللّهُ عَلَيْك فَقَدْ ذُقْتهَا، ثُمّ لَنْ تُصِيبَك بَعْدَهَا مَوْتَةٌ أَبَدًا. قَالَ: ثُمّ رَدّ الْبُرْدَ عَلَى وَجْهِ رَسُولِ اللّهِ (صلى الله عليه وسلم) ثُمّ خَرَجَ وَعُمَرُ يُكَلّمُ النّاسَ فَقَالَ: عَلَى رِسْلِك يَا عُمَرُ أَنْصِتْ، فَأَبَى إلّا أَنْ يَتَكَلّمَ، فَلَمّا رَآهُ أَبُو بَكْرٍ لَا يَنْصِتُ أَقْبَلَ عَلَى النّاسِ، فَلَمّا سَمِعَ النّاسُ كَلَامَهُ أَقْبَلُوا عَلَيْهِ وَتَرَكُوا عُمَرَ، فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمّ قَالَ: أَيّهَا النّاسُ، إنّهُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ مُحَمّدًا فَإِنّ مُحَمّدًا قَدْ مَاتَ، وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللّهَ فَإِنّ اللّهَ حَيّ لَا يَمُوتُ. قَالَ ثُمّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَمَا مُحَمّدٌ إِلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشّاكِرِينَ}. قَالَ فَوَاَللّهِ لَكَأَنّ النّاسُ لَمْ يَعْلَمُوا أَنّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ حَتّى تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ يَوْمئِذٍ. قَالَ: وَأَخَذَهَا النّاسُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ فَإِنّمَا هِيَ فِي أَفْوَاهِهِمْ. قَالَ: فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ عُمَرُ وَاَللّهِ مَا هُوَ إلّا أَنْ سَمِعْت أَبَا بَكْرٍ تَلَاهَا، فَعَقِرْت حَتّى وَقَعْت إلَى الْأَرْضِ مَا تَحْمِلُنِي رِجْلَايَ، وَعَرَفْت أَنّ رَسُولَ اللّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَدْ مَاتَ».

لست واثقًا من عدم ثبوت هذه الرواية لكنني غير واثق من صحّة توجيه مضمونها، لبيان تدفّق العواطف والانفعالات عند فقد جسد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ حيث هكذا على الأقل في متصور مجتمع المؤمنين أن فقد الجسد لا يعني فقد الحضور.

كما أن الموقف تغيّر رأسًا، حيث الذين نعوا فراقه لم يحضروا دفن الجسد. وذلك لسبب بسيط، هو أن جسد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما تؤكد السيرة بما في ذلك الأكثر ترطيبًا لسرد الحوادث التي رافقت عملية انتقال السلطة للإيحاء بسلاستها؛ أجل، كان فقد الجسد النبوي هو الأكثر مدعاة للتأمّل؛ لأنه مرّ مرور الكرام فيما اعتنى الباقي بالأثر السياسي لهذا الموت.

ما يهم هنا هو أهمية الحدث. فالأمر يتعلّق هنا برحيل نبي ولكنه أمير في الوقت نفسه. وهو درس تاريخي يؤكد أن خطر اختراق لحظة الاحتضار في تحويل مسارات السلطة وارد حتى في عصر النبي. وهذا يؤكد أهمية تدبير الاحتضار؛ لأن أي فشل في عملية التدبير تلك تكون له عواقب خطيرة. فالمغزى هنا واضح؛ إذا كان الأمير/ النبي لا يمكن أن يضمن الانتقال السلس للسلطة من دون تدبير الاحتضار، فكيف يمكن أن يحدث ذلك في حياة سواه.

وهذا ما تحقّق تاريخيًّا بعده، فلا وجود لمن لم يوصِ ويعمل على إحكام تدبير الاحتضار. والحدثان اللذان أجهض فيهما تدبير الاحتضار أو لم يتحقّق فيهما تدبير ناجح للاحتضار أعقبتهما حوادث كبرى. فبعد عهد عثمان الذي لم يمنحه الثوار من شتى طبقات المجتمع الصحابي فرصة النطق بالشهادة، بدا الوضع أن لم يعد هناك منازع موضوعي لعلي بن أبي طالب. فكانت أول عملية شورى في الإسلام يتحقّق معها الإجماع ولم ترتكز حتى على الوصيّة.

لكن هذا نفسه لم يدم حتى تداهمه فتنة الحزب الأموي لتدخل التجربة في معارك داخلية حدّدت مسار السلطة في الوعي الإسلامي وتاريخه حتى الآن. وأما الثانية فهي حينما أقدم أحد أمراء بني أمية وهو معاوية بن يزيد الذي رفض أن يوصي بعد أن ترك الحكم طواعية، وقيل: إنه اغتيل لهذا السبب. يذكر الفخري عن معاوية بن يزيد بن معاوية: «كان صبيًّا ضعيفًا، ملك أربعين يومًا، وقيل ثلاثة أشهر، ثم قال للناس: إني ضعفت عن أمركم فالتمست لكم مثل عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، فلم أجد، فالتمست ستةً مثل أهل الشورى فلم أجد، فأنتم أولى بأمركم فاختاروا له من أحببتم، فما كنت لأتزودها ميتًا وما استمتعت بها حيًّا. ثم دخل داره وتغيّب أيامًا ومات، وقيل مات مسمومًا وليس له من الأخبار ما يؤثر.ثم ملك بعده مروان بن الحكم».

ما يجب التوقّف عنده بوصفه لحظة نموذجية، هو كيف ترك النبي/ الأمير، إجراء تدبير الاحتضار؛ إذ لا يعقل أن يترك الأمر سدى. فهذا نبيّ لن يترك خلفه الرمزي فقط بل سيترك وراءه سلطة. وهنا يحدث تنافس وصراع بين الرمزي والسلطة السياسية، وحيث لا مجال لحيازة السلطة إلَّا بالاستيلاء على الرمزي النبوي أيضًا؛ وهذا ما فجّر أكبر صراع في تاريخ الإسلام منذ رحيل صاحب الدعوة (صلى الله عليه وآله وسلم).

هذا الأمر عبّر عنه عمر في وقت متأخّر وهو يصف خلافة أبي بكر التي مرّت من ظروف تنصيب صعبة كما يروي البلاذري في الأنساب والسيوطي في تاريخ الخلفاء الطبري في تاريخه والإيجي في المواقف وغيرهم: لقد كانت خلافة أبي بكر فلتة فمن عاد إليها فاقتلوه. الفلتة هنا وكما يشرحها اللغويون بأنها الخلسة كما ذهب الزمخشري أو الفتنة والفجأة كما عنى بها الإيجي. فلتة، لماذا؟

بكل بساطة، لأنها جاءت من دون تدبير أو على أعقاب نقض تدبير كان مقرّرًا. لقد جاءت على إثر فوضى وفشل في تدبير الاحتضار. وحتمًا لا يجوز قراءة المشهد من منظور الأعراف الديمقراطية بأثر رجعي؛ فلقد عذرهم طه حسين مرة في معرض الفتنة الكبرى بوصفهم لم يكونوا يعرفون ما معنى الدستور. فالوصية كانت الوسيلة الممكنة لضبط الاستقرار وإلَّا فهو الغلب والعصبية.

ولهذا عمل بالوصية حتى أولئك الذين رفضوها وأنكروا وجودها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم). فلقد وصّى الخليفة أبو بكر بعمر بن الخطاب كما وصّى هذا الأخير بالستة، وكان واضحًا أن المقصود من هذه التراتيبة السداسية عثمان وهكذا دواليك. فلقد فهم منها ذلك علي بن أبي طالب بمجرّد أن أعلن عن الأسماء ليقول لابن عمه العباس فيما يرويه أكثر من مؤرخ كابن مخنف والطبري في التاريخ: عدلت عنّا. فقال: وما علمك ؟ قال: قرن بي عثمان، وقال: كونوا مع الأكثر فإن رضي رجلان رجلًا، ورجلان رجلًا، فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن، وعبد الرحمن صهر عثمان، فلو كان الآخران معي لم ينفعاني، بله أني لا أرجو إلَّا أحدهما … فردّ عليه العباس مذكرًا بما قاله له حين سمّي في الستة ثم أوصاه قائلًا: احفظ عني واحدة: كلّما عرض عليك القوم فقل: لا، إلَّا أن يولوك، واحذر هؤلاء الرهط فإنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر حتى يقوم لنابه غيرنا.. فقال علي: أما لئن بقي عثمان لأذكرته ما أتى، ولئن مات ليتداولنها بينهم، ولئن فعلوا ليجدني حيث يكرهون».

هكذا كانت تفهم الأمور بناء على التوزيع القبلي والروابط العشائرية. ولذا كانت الوصية سلوكًا سياسيًّا في عصر الخلفاء الأوائل. وهي لحظات تعطينا تصوّرًا عن أشكال فنون تدبير الاحتضار. والحق، أن هذا تدبير احتضار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من جنبة كونه حاكمًا أيضًا، حصل بصورة دقيقة لولا أن واجهت أشكال من الاعتراض. وصورة التدبير النبوي/ الإماري اشتملت على موقفين تاريخيين شكّلا ذروة هذا التدبير:

التدبير الأول: حينما أصرّ النبي/ الأمير على تجهيز جيش أسامة. حتى قال فيما ذكره الشهرستاني في الملل والنحل والجرجاني في شرح المواقف وكذا ابن سعد في الطبقات والحافظ ابن حجر في فتح الباري في صحيح البخاري: «لعن الله من تخلّف عن جيش أسامة». وحينما طعنوا في إمارة أسامة في زمن الاحتضار، خرج الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) غاضبًا على من تقوّل فيه كما ينقل البخاري في كتاب المغازي - بعث النبي (صلى الله عليه وسلم) أسامة بن زيد ومثله رواه مسلم والترمذي وغيرهما: «ابن دينار، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بعث بعثًا وأمر عليهم أسامة بن زيد فطعن الناس في إمارته فقام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل زيد، إيم الله إن كان لخليقًا للإمارة، وإن كان لمن أحب الناس إليَّ، وإن هذا لمن أحب الناس إليَّ بعده».

التدبير الثاني: لمّا تم إفشال هذا التدبير، أعلنها بملء الصوت: آتوني قرطاسًا، وهو ما سماه ابن عباس برزية يوم الخميس. فقد روى البخاري في باب قول المريض: «قوموا عني» من كتاب المرضى من صحيحه بسنده إلى عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، وكذا في كتاب العلم، وكذا رواه مسلم في آخر الوصية من صحيحه وابن حنبل في المسند قال: لما حضر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبي (صلى الله عليه وسلم): «هلم أكتب لكم كتابًا لا تضلوا بعده، فقال عمر: إن النبي قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم النبي كتابًا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي (صلى الله عليه وسلم) قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): قوموا. قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم».

وطبعًا إن عبارة «غلب عليه الوجع» ليست هي الصيغة المشهورة، بل هي تلطيف للعبارة؛ لأن ما قيل هو «إن النبي يهجر». وهذه عبارة شائعة في كتب التاريخ الإسلامي -ليس هاهنا محلّ مناقشتها-، وهي تعني الهجر بمعنى الهذيان. هذا مع العلم أن الجميع أوصى وهو في حالة احتضار كما لا يخفى، إلَّا احتضار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان هذيانًا.

وحينما افتعل اللغط والجدل في حضرة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) صرخ النبي في وجوههم؛ كنبي لا كأمير: اخرجوا عني، لا يمكن التنازع عند نبي. هنا غلب النبوي على الأميري بعد أن تأكّد فشل تدبير عملية الاحتضار التي أشرف عليها شخصيًّا صاحب الدعوة بما له من نفوذ معنوي على القوم؛ ومع ذلك فشلت العملية؛ لأن المسألة تتعلّق بتشكّل ضرب من التعارض حينها، أي إن الاستمرارية لا يجب أن تتحقّق في الرمزي النبوي بل لا بد من الانتقال، تحت طائلة الحساسيات القبلية والعائلية، إلى طرف آخر كانت البيئة المحيطة حاضنة لتشكّل هذا الوعي أو استعادته.

يمكن القول: إن السياسة ماتت حينها لتمنح بالمقابل تدفّقًا للرمزي النبوي ولو في الحد الأدنى. يتعايش منذئذٍ الرمزي النبوي مع قيم العصبية والعشائرية، هو وحده ما يفسّر هذا التركّب بين النقيضين: التحرّري النبوي والأبوية العربية الجاهلية.

إن أغلب ما يشكّل موضوع نقد في الإسلام اليوم هو نفسه ما شكّل موضوع الإصلاح الإسلامي في عصر البعثة؛ أي إننا ننتقد في الإسلام التاريخي اليوم الجانب الجاهلي الذي عاد فاقتحم حرم النبوي، ليؤسّس ويشرعن القيم العصبية الجاهلية. لقد تمّ القبول بالحدّ الأدنى من النبوي المهدّد باستدماج القبلي، لكيلا يندثر النبوي جميعه ولا يبقى منه أثر؛ لأنه في مثل هذه المرحلة كاد السياسي يهجم على الديني.

لنقرّر أن الأمر في المبتدأ والخبر لم يكن حكاية إجهاز الديني على السياسي، بل على عكس ذلك كان إجهازًا للسياسي على الديني كما تأكّد عبر صيرورة أنماط السلطة في الإسلام.

ومن هنا تتجلّى معضلة المطلب العلماني في المجال العربي والإسلامي؛ لأن أنماط السلطة التاريخية في المجال العربي والإسلامي لا تمتح من شروط التاريخ المسيحاني الأوربي حيث الإجهاز الديني على السياسي استمر بعد فقد المسيح، حيث أوربا نفسها لم ترَ المسيح قطّ وإنما تعرّفت إلى صورته من خلال الكنيسة.

إن حقبة ما بعد النبوي في الإسلام هي لحظة تفوق المطلب العلماني الذي يؤمّن للمجتمع تعايش مكوّناته ويرعى الاختلاف، بل هي لحظة تحكم بكل الرمزي، الذي يبدو فيه الأمر لا يتعلّق بمجرّد تقاسم وظيفة بين المسيح وقيصر، المؤسسة لعلمانية الدولة الحديثة في أوربا، بل الأمر يتعلّق باحتكار وظيفة سياسية يتغلّب بموجبها على الديني؛ وهو شكل ارتضته الحاكمية العربية لنفسها واعتبرته صورة أثيرة لعلمانيتها المقنّعة.

وهذه ليست خصوصية في المجال العربي والإسلامي بل هي قاعدة مشتركة النفاذ والتأثير في كل المجالات، إذ يمكن للأنثربولوجيا السياسية أن تقف على آثارها ومصاديقها في كثير من الأنساق السياسية الوفية للرمزي الديني.

وكما يؤكد جورج بالانديه، فإن «المقدّس هو أحد أبعاد السياسي» مقرًّا أيضًا بإمكان أن يصبح المقدّس أداة للسلطة وضامن شرعيتها ووسيلة في الصراع أو المنافسة السياسية.

ﷺ ظروف الموت الحقيقية

لقد ظل جثمان الرسول على وضعيته لم يتلقَّ العناية إلَّا من أقربائه وفي مقدّمتهم علي والعباس. ففي المدينة نفسها أحدث النبأ الذي لم يتوقّعه أحد اضطرابًا هائلًا شغل الناس عن كل شيء حتى عن جثمان الرسول نفسه فلم يدفن إلَّا في اليوم التالي، وأنّ الباقي لم يشهدوا دفنه.

أما وصاياه التي ذكرها قبل الموت فقد تم التحلّل منها، مثل إيفاد جيش أسامة في لحظتها. وقد فهم البعض أن غياب الرسول - الجسد لا يمنحه حجية البقاء المعنوي. هكذا تنقلنا حادثة رزية يوم الخميس كما يصفها ابن عبّاس، التي أشرنا إليه سابقًا. لقد انتقل الجسد من بين الحضور ووري تحت التراب، والنزاع السياسي في سقيفة بني ساعدة على أشده.

ومع العلم أن المسلمين كانوا على فهم شائع بحقيقة الموت -حتى أن أحدهم يقول: كأننا سمعناها لأول مرة- يؤكد أن التعلّق بالتجسد الجسدي يحجب حقيقة الروح.

وهذا يؤكد أن الجسد يختزل كل الرمزي الروحي أيضًا. فالحضور الجسدي ليس كالحضور المعنوي. بل بلغ التجسيد حدًّا أن أصبح رحيله عنوان رحيل معنوي أيضًا. فلقد رحل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وحسبنا كتاب الله. أي إن نهاية الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) رسمت له في لحطة الاحتضار، حيث هناك كفّ في نظر البعض أن يظل نبيًّا. وأي قراءة عكسية لتطوّر الأحداث تؤكّد أسباب غضب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على الحضور وإصراره حتى لحظة الاحتضار على إنفاذ جيش أسامة وإشغال معظم من حوله بالمعركة التي كانت مقرّرة.

إذا تبيّن لك ذلك، فاعلم أن تدبير الاحتضار في الممالك ما دون حكومة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر طبيعي وآكد؛ إذ ليس ثمّة ما يمنع من إنفاذ هذا التدبير لمرجّح آخر غير السلطة واستقرار الملك والممالك.

فقد وضح أن أيّ اعتراض أو فشل في تدبير الاحتضار من شأنه أن يحول دون انتقال السلطة بالشكل المقرّر لها. فإذا حصل هذا في احتضار الحاكم النبي، فهو أولى في احتضار الحاكم غير النبي.

 

 



[1] سورة الحديد، الآية 25.

 

[2] سورة الأحزاب، الآية 16.

 

[3] سورة النساء، الآية 78.

 

[4] سورة يونس، الآية 92.

 

[5] سورة المائدة، الآية 31.

 

[6] سورة سبأ، الآية 14.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة