تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الامام علي في الأدب اللبناني المسيحي الحديث

زكي الميلاد

الإمام علي

في الأدب اللبناني المسيحي الحديث

زكي الميلاد

-1-
سرد وتوصيف

ما دوّن عن الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الأدب اللبناني المسيحي الحديث شعرًا ونثرًا، كمًّا وكيفًا، مثّل ظاهرة أدبية فريدة، قلَّ نظيرها ليس في تاريخ تطوّر الأدب اللبناني فحسب، وإنما في تاريخ تطوّر الأدب العربي الحديث عمومًا، ظاهرة تثير الدهشة والإعجاب، وتستحق التأمّل والنظر، ثرية في حقلها الدلالي، رحبة في أفقها الإنساني، مؤثّرة في عمقها الوجداني، تبهج القلب حقًّا.

لبيان هذه الظاهرة وصفًا وتوصيفًا، نسرد مجموع الأعمال المنشورة شعرًا ونثرًا، التي أحطت بها علمًا، وبحسب تعاقبها الزمني في الصدور هي:

- كتاب الأديب والسياسي أمين نخلة (1901-1976م) الموسوم بعنوان: (كتاب المئة) الصادر سنة 1931م، يضم مئة كلمة مختارة من كلمات الإمام علي (عليه السلام).

- كتاب الأديب والأكاديمي فؤاد أفرام البستاني (1904-1994م) الموسوم بعنوان: (نهج البلاغة درس ومنتخبات) الصادر سنة 1932م.

- ديوان الأديب والقاضي بولس سلامة (1902-1979م) الموسوم بعنوان: (علي والحسين) الصادر سنة 1946م، وديوانه الثاني الموسوم بعنوان: (عيد الغدير) الصادر سنة 1949م.

- موسوعة الأديب جورج جرداق (1913-2014م) الموسومة بعنوان: (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية) الصادرة في النصف الثاني من خمسينات القرن العشرين، المكوّنة من خمسة أجزاء، وضم لها لاحًقا جزءًا سادسًا بعنوان: (روائع نهج البلاغة).

- كتاب الأديب سليمان كتاني (1912-2004م) الموسوم بعنوان: (الإمام علي نبراس ومتراس) الصادر سنة 1967م.

- كتاب الأديب والدبلوماسي نصري سلهب (1921-2007م) الموسوم بعنوان: (في خطى علي) الصادر سنة 1973م.

- ديوان الأديب خليل فرحات (1919-1994م) الموسوم بعنوان: (في محراب علي) الصادر سنة 1991م.

- ديوان الأديب جورج شكور الموسوم بعنوان: (ملحمة الإمام علي) الصادر سنة 2007م.

- كتاب الأديب سعيد عقل (1912-2014م) الموسوم بعنوان: (علي والحسين في الشعر المسيحي) الصادر سنة 2009م.

يضاف إلى هذه الأعمال، نصوص وقصائد متفرّقة لأدباء منهم: جبران خليل جبران (1883-1931م)، ومخائيل نعيمة (1889-1988م)، وفؤاد جرداق (1912-1965م)، جوزيف الهاشم، غسان مطر، ريمون قسيس إلى جانب آخرين كذلك.

يتكشّف من هذا التوصيف أن المنخرطين في هذا النسق الأدبي هم أدباء كبار، لهم مكانتهم الأدبية والشعرية الرائدة والمرموقة، وبعضهم من جيل الرواد الذين غطّت شهرتهم وطافت لبنان، وامتدت إلى ما هو أبعد من المجال العربي، الأمر الذي يضاعف من القيمة الاعتبارية لتلك الظاهرة، ويرفع من وزنها الأدبي، ويجعلها في مصاف الظواهر الأدبية المميّزة وغير العادية، بما يؤكّد ضرورة العناية بها والاهتمام.

كما يتكشّف من هذا التوصيف كذلك مدى عمق الامتداد لهذه الظاهرة الأدبية مكانيًّا وزمانيًّا ومذهبيًّا، فمن جهة المكان غطّت الأسماء المذكورة العديد من بلدات لبنان، منها: بشري وبسكنتا وجبيل شمالًا، وجزين ومرجعيون جنوبًا، وزحلة شرقًا، وامتدت إلى المهجر خارج لبنان، واشترك فيها اثنان من كبار أدباء لبنان هما الزميلان والرفيقان: جبران خليل جبران ومخائيل نعيمة، واقترب منها كذلك الأديب أمين الريحاني (1876-1940م).

ومن جهة الزمان يتبيّن لنا من السرد السالف ذكره أن هذه الظاهرة ترتد وجودًا إلى ثلاثينات القرن العشرين، وبقيت وتواصلت على امتداد سبعة عقود من القرن الماضي، فقد ظل حبلها ممدودًا تتصل حلقاتها وتتباعد أحيانًا لكنها لم تنقطع أو تتوقّف، ومع غياب معظم الأسماء المذكورة بدأت تلك الظاهرة بالتقلّص والانكماش لكنها لم تنتهِ كليًّا.

ومن جهة المذهب فقد تخطت الأسماء المذكورة المذهب الواحد، وتوزعت انتماء إلى أكبر مذهبين في الديانة المسيحية هما: الكاثوليك والأرثوذكس، لكن الأكثرية منهم كانوا ينتسبون إلى المذهب الماروني الكاثوليكي، لكونه مذهب الأغلبية المسيحية في لبنان، والمتوزّع جغرافيًّا على امتداد مساحة لبنان.

بهذا يتبيّن أننا أمام ظاهرة أدبية ناضجة ومميّزة، لها وزنها الاعتباري، وثقلها الأدبي، وعمقها الزمني، وتخلُّقها الإنساني، وتنتسب إلى أشخاص هم من طبقة الأدباء الكبار، ويعدّون من الأسماء اللامعة في الأدب العربي الحديث، مع ذلك ظلّت هذه الظاهرة بعيدة عن العناية والاهتمام بحثًا وتدوينًا، ولم تدرس بالقدر الكافي، الملاحظة التي أشار إليها كل من تنبَّه لها.

-2-
الانبثاق والعوامل

تستدعي هذه الظاهرة الأدبية المميّزة إثارة تساؤلات عديدة سعيًا لفهمها وتكوين المعرفة بها، يأتي في مقدمة هذه التساؤلات: كيف انبثقت هذه الظاهرة؟ ولماذا استمرت بهذا العمق في الامتداد المكاني والزماني؟ وكيف تراكمت بهذا المستوى الأدبي الخلّاق؟ وكيف تمكّنت من استقطاب تلك النخبة المميّزة من الأدباء الكبار الذين قدّموا سردية لعلها تمثّل أعظم سردية أدبية حديثة تدوّن عن الإمام (عليه السلام)!

المدهش في هذه الظاهرة أنها جمعت بين أدباء ينتمون من ناحية الدين إلى المسيحية، مع إمام هو إمام الأئمة في الإسلام، وتجلّت في علاقة فريدة من نوعها، قلَّ نظيرها بين أتباع الديانات قديمًا وحديثًا، فقد أظهر هؤلاء الأدباء قربًا من الإمام فيه من الود والعاطفة والحب والتبجيل والتعظيم ما يثير الدهشة حقًّا، كاشفين عن هذا الأمر ومعلنين، متباهين به ومتفاخرين، مسجّلين له ومدوّنين في نصوص هي من أجمل النصوص في الأدب العربي الحديث.

أمام هذه الظاهرة نقف من جهة أمام أشخاص ليسوا عاديين على الإطلاق وإنما هم أدباء كبار لهم شهرتهم العالية في عالم الأدب، ولم يكن هؤلاء من ناحية العدد مجرّد واحد أو اثنين أو الثلاثة، فقد تخطّوا هذا العدد إلى سلسلة أطول من ذلك، ومن جهة أخرى نقف أمام علاقة بالإمام ليست عادية على الإطلاق، فلا هي علاقة سطحية ولا هي علاقة عابرة، فقد تجلّت في علاقة وجدانية عميقة كما لو أن الإمام كان مسيحيًّا، أو كأنهم كانوا مسلمين من شيعة الإمام، فالحب الذي ظهر منهم تجاه الإمام يفوق بالتأكيد ولا يقارن مع حب كثير من المسلمين.

ومن جهة ثالثة نقف أمام نصوص ليست عادية على الإطلاق، لا من ناحية الكم ولا من ناحية الكيف، فحب هؤلاء الأشخاص إلى الإمام لم يكن مجرّد عاطفة وجدانية مكانها القلب فحسب، فقد ظهر هذا الحب وتجلّى في نصوص شعرية ونثرية كوّنت ما يمكن تسميته بسردية أدبية جديدة، عُدَّت من أفضل السرديات الأدبية الحديثة المدوّنة عن الإمام.

لهذا توقّفت مليًّا ناظرًا وفاحصًا لمعرفة الدوافع والأسباب التي شكّلت هذا النمط من العلاقة مع الإمام، معتقدًا بوجود دوافع وأسباب قوية وعميقة تقف وراء هذه العلاقة، التي لا يمكن أن تنشأ وتستمر وتثمر هذا الأثر الأدبي الكبير بتأثير دوافع وأسباب ضعيفة أو هزيلة، هكذا هو حال الظواهر الأدبية القوية، فما هي هذه الدوافع والأسباب؟

جاءت هذه الدوافع والأسباب -كما تبيّنت لي- متفرّقة من جهة، ومتفاوتة من جهة أخرى، ومستنبطة من جهة ثالثة، متفرّقة بمعنى أنها لا جمع لها في مكان واحد وإنما هي موزّعة في مصادر شتى، ومتفاوتة بمعنى أن تلك الدوافع والأسباب ليست على درجة واحدة في الأثر والتأثير وإنما هي متفاوتة قوة وضعفًا، ومستنبطة بمعنى أنها ليست منكشفة بوضوح وإنما هي مستخرجة من الأحاديث والمتون والنصوص.

سوف نُعطي هذه الدوافع والأسباب صفة العوامل، وبحسب تصنيفها هي على النحو الآتي:

أولًا: العامل الأدبي

نعلم أن الصفة الجامعة لتلك الأسماء المذكورة هي صفة الانتساب إلى عالم الأدب، وأن أثرهم المنتج المعبّر عن علاقتهم بالإمام هو في الأساس أثر أدبي، فإذا حضر العامل الأدبي في هذه العلاقة فإن تأثيره سيكون قويًّا، وقد حضر فعلًا وكان تأثيره قويًّا كذلك، متحدّدًا في علاقتهم المتينة والوطيدة بكتاب (نهج البلاغة) الذي يضم خطب الإمام المروية عنه ورسائله وكلماته القصار، التي جمعها الشريف الرضي محمد بن حسين الموسوي (359-406هـ/ 970-1016م).

ما يؤكد تأثير هذا العامل وقوته، أن أغلب تلك الأسماء المذكورة -إن لم يكن جميعها- كانت لها سيرة خاصة مع (نهج البلاغة)، ولم تكن مجرّد علاقة عابرة تحدث وتمضي وتتلاشى مع مرور الوقت، على طريقة ما يحدث مع أيّ كتاب عادي آخر حيث يتلاشى ولا يبقى له أثر في الذاكرة.

فهؤلاء كانت لكل واحد منهم سيرة مميّزة مع (نهج البلاغة) امتزجت بسيرتهم الأدبية بيانًا وخيالًا وحكمة، ووجدوا فيه كتابًا يثير الدهشة والإعجاب والفخر، ولا يقارن في نظرهم بعد القرآن الكريم بأيّ كتاب آخر لا من المتقدّمين ولا من المتأخّرين.

وقد تواترت في هذا الشأن وتتابعت كلمات أولئك الأدباء الدالّة والبليغة، فقد عدّه أمين نخلة من نعم الله على العربية، وتحدّث عنه قائلًا: «فإذا شاء أحد أن يشفي صبابة نفسه من كلام الإمام فليقبل عليه في النهج من الدفة إلى الدفة، وليتعلّم المشي على ضوء البلاغة»[1].

وجاء على لسان بولس سلامة أن «نهج البلاغة هو أشهر الكتب التي عرف بها الإمام، ولا يفوق هذا الكتاب بلاغة وقيمة إلَّا التنزيل»[2].

وكانت لسلامة علاقة خاصة بهذا الكتاب، وحسب شهادة ابنه المحامي رشاد سلامة أن والده «قد عاد مئات المرات مطالعة نهج البلاغة، ينهل منه نهل طالب العلم، عاشق الحكمة، والخطبة العصماء، والموعظة المعجزة»[3].

وهكذا الحال مع جورج جرداق الذي ارتبطت سيرته الأدبية وامتزجت منذ الصغر بكتاب النهج، وبقيت هذه السيرة راسخة ومتجدّدة ولم تنقطع أو تتوقّف في كل أطوار حياته الأدبية، والفضل يعود لشقيقه الأكبر فؤاد جرداق الذي عرّفه منذ كان صغيرًا إلى كتاب النهج، وأهداه نسخة منه قائلًا له: ادرس هذا الكتاب، واحفظ منه كل ما تستطيع حفظه، فإن فيه الخير كل الخير لمن يطّلع عليه ويحفظ ما فيه.

والتزم جرداق بهذه النصيحة وتابعها ووجد فيها ضالته، وقد تعاظمت مع مرور الوقت رؤيته لنهج البلاغة واصفًا له بالكتاب العظيم، متحدّثًا عن صاحبه قائلًا: «هو الإمام في الأدب وسرّه البلاغة... وآيته في ذلك نهج البلاغة الذي يقوم في أسس البلاغة العربية فيما يلي القرآن من أسس، وتتّصل به أساليب العرب في نحو ثلاثة عشر قرنًا، فتبني على بنائه، وتقتبس منه، ويحيا جيدها في نطاق من بيانه الساحر... وإنك لا تجد في الأدب العربي كلّه هذا المقدار الذي تجده في نهج البلاغة من روائع الفكر السليم، والمنطق المحكم في مثل هذا الأسلوب النادر»[4].

وتناغمًا مع هذا النسق يرى سليمان كتاني أن الإمام هو «ركن متين من أركان الفصاحة والبلاغة في الأدب العربي، وإنه حتى الآن أي بعد مرور أربعة عشر قرنًا بحر الفصاحة والبلاغة، وسيد الكلمة المنحوتة والمحفورة بأزميل معناها، والحامل أفياء الفكر، وأبعاد المرامي، وعبوات الفلسفة المؤمنة بخالق الكون وأزليات الوجود»[5].

من جهته يرى نصري سلهب أن الإمام «أتحف العربية بسفر لا يفوقه بلاغة إلَّا القرآن الكريم، ولا عجب في ذلك فهذا تنزيل من الله، وذاك من صنع إنسان، وما اقترب امرؤ من الله حرفًا وروحًا كاقتراب علي منه في نهج البلاغة... لو قدّر لنهج البلاغة من ينقله روحًا ومعنى إلى بعض لغات الغرب، لأخذ علي مكانه بين أعظم المفكّرين الذين خاطبوا القلوب والعقول والضمائر»[6].

لذا دعا سلهب جميع المسيحيين إلى الإقبال على نهج البلاغة، ليقرؤوه بعمق وإمعان، ليتبينوا فيه تلك الخيوط الروحية التي تشدّ المسيحي إلى المسلم.

وتتابعًا لهذا العامل ذكر الباحث في تاريخ الأديان المقارن الدكتور لويس صليبا أنه حين كان في صباه جاءه عمّه الخوري فرنسيس صليبا، وكان كاهنًا مارونيًّا ومديرًا للدروس العربية، يحمل معه كتاب (نهج البلاغة) طالبًا منه أن يقرأه، ويعيد قراءته ليشرق بيانه، ويتعلّم العربية من أبرز مصادرها، لافتًا أن هذا الكاهن المسيحي الذي كان أبًا روحيًّا عاش في كنفه لم يختر له من الكتب سوى كتاب أمير البيان، مردّدًا على مسمعه هذا القول: «كلامه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق»[7].

من هذه الانطباعات والسير القوية، يتأكّد تأثير العامل الأدبي وقوته في تمتين علاقة هؤلاء الأدباء بالإمام، ولولا هذا العامل الساحر لما كانت هذه العلاقة بتلك القوة، وبتلك الصورة النموذجية التي ظهرت بها وتجلّت.

ثانيًا: العامل الديني

المسيحيون الذين تعرّفوا على سيرة الإمام وأقواله، وجدوا فيه تشبّهًا بالسيد المسيح (عليه السلام) التشبّه الذي نادرًا ما يحدث في نظرهم، ومتى ما حدث فهو بالنسبة لهم يعني شيئًا كبيرًا وعظيمًا، فالسيد المسيح في اعتقاد المسيحيين لا يضاهى بأحد ولا يقارن، ومنزلته تفوق جميع البشر، لذا فقد كان لهذا التشبيه مفاعيل قوية في تمتين علاقة المسيحيين بالإمام.

شكّل هذا التشبيه صورة نموذجية عن الإمام، جعلت منه قريبًا إلى قلوب المسيحيين، قربًا يكاشفون به بلا خفاء، ويتحدّثون عنه بكل سخاء، ويدوّنون النثر عنه بكل بهاء، ويتقرّبون منه بكل حب ورجاء، يجدون في دوحته راحة وسكينة، فقد هالهم أن يجدوا شبيهًا للسيد المسيح من غير ملّتهم، فكان مثالًا لهم.

وقد أبان عن هذا الجانب بوضوح كبير جورج جرداق، راجعًا إلى تاريخ المسيحيين تارة، وتاريخ المسلمين تارة أخرى، ومذكّرًا بوقائع عايشها في حياته، معتقدًا أن الإمام هو «أقرب الخلق إلى المسيح بوادعته وزهده وتواضعه واستقامته وصلابته مع الحق، وعظمة أخلاقه، وقوة إيمانه، وعمق إنسانيته، وجلال مأساته»[8].

ومن التاريخ المسيحي ذكر جرداق قائلًا: «إذا ما اطّلعنا على بعض الآداب الأوروبية في العصور الوسطى، لا سيما الأدب الإيطالي المعبّر أكثر من سواه عن الأفكار والمعتقدات في العالم المسيحي يوم ذاك، نعلم أن الفكرة التي كانت لدى الكثير من الناس عن الإمام علي أنه قديس مسيحي، لما في أقواله ومنهجه من شبه بتعليم المسيح. وممّا يجدر ذكره في هذا الباب أن للإمام علي صورة في إحدى الكنائس القديمة بإيطاليا، وهنا في بيروت في صدر صالة الاستقبال الكبرى بمدرسة زهرة الإحسان التابعة لمطرانية الروم الأرثوذكس تجد صورة واسعة المساحة للإمام علي»[9].

ومن التاريخ الإسلامي ذكر جرداق أن النصارى العرب الذين عرفوا الإمام في زمانه كانوا من أشد الناس حبًّا له، وحسب قوله: «وعلى الرغم من تعصّب أهل الجهل والغباء من أبناء كل دين في العصور الغابرة، فإن هذه الحقيقة عن علي جعلت عارفيه من نصارى العرب في زمانه وبعيد زمانه، من أشد الناس حبًّا له وتعلّقًا به، وقد أشار ابن أبي الحديد إلى ذلك في شرح النهج، قال: وما أقول في رجل –يعني عليًّا- تحبّه أهل الذمة على تكذيبهم بالنبوة. ولقد بنى علي معاملته لغير المسلمين على قوله هذا: أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا»[10].

وأعم من ذلك، يرى جرداق إجماع الناس على حب الإمام، مصورًا هذا الأمر قائلًا: «وإنك ما ضربت بعينيك صفحات هذا التاريخ إلَّا لتدرك حقيقة حقّة، وهي أنك قلّما تجد في شخصياته العظيمة من أجمع الناس على حبه وإجلاله والانتصار له، إجماعهم على حب علي بن أبي طالب، وعلى إجلاله والعطف على قضاياه، وفي مثل هذا الحب تمرّد على البُطل، وخذلان للجريمة، وفيه لجوء إلى الحق، واعتصام بالوجدان»[11].

ومن الوقائع الدالة التي عايشها جرداق، قصته مع الراهب المسيحي اللبناني الذي تبنّى طباعة كتابه عن الإمام من دون سابق معرفة، وذلك بعد اطّلاعه على أجزاء منشورة من الكتاب، مُقدمًا على هذه الخطوة تكريمًا للإمام وإعجابًا بأسلوب المؤلف.

وعن تفاصيل هذه الواقعة حكى جرداق قائلًا: «في أثناء تأليف الكتاب جاءني رئيس تحرير مجلة الرسالة اللبنانية، وهو صديق كريم، وطلب إليّ أن أعطيه فصلين اثنين على الأقل من الفصول التي انتهيت من كتابتها، فلبيت رغبته، فنشر الفصلين في عددين من المجلة. واتّفق للراهب العالم الأب نجم رئيس مدرسة الرهبان الكرمليين في مدينة جونية، أن قرأ هذين الفصلين في المجلة المذكورة، فطاب له الموضوع، كما طاب له الأسلوب الذي عولج به، فاتصل برئيس تحرير الرسالة، ليخبره بأنه يريد أن يطبع هذا الكتاب بأجزائه كلها عندما أنتهي أنا من تأليفه كاملًا، على نفقة الرهبانية. وهكذا كان، فقد طبعه الأب نجم على نفقته كما أراد وأصرّ على إجراء ما أراده. وبعدما نُشر الكتاب بمدّة وجيزة وبيعت منه كمية كبيرة، أبى الراهب النبيل أن يسترد قرشًا واحدًا من ثمن الورق وتكاليف الصف والطباعة وكانت كثيرة، وقال: لقد نشرت هذا الكتاب تكريمًا للإمام علي، وإعجابًا بأسلوب المؤلف وصدقه فيما يرى ويكتب»[12].

وتأكّد هذا الشبه وتعزّز عند المسيحيين بين الإمام والسيد المسيح، مع القول المروي من الفريقين عن النبي الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): «يا علي، إن فيك مثلًا من عيسى ابن مريم»[13].

هذا القول رأى فيه جرداق أجمل ما قيل في هذا الموضوع، معتبرًا أن الإمام أقرب الجميع إلى المسيح، وأن الملامح بينهما كثيرة، مذكّرًا بعفو الإمام عن أخصامه في الصراع، متلمّسًا هذه السمة في قول المسيح: «أحبوا مبغضيكم».

وممّا له دلالة على ذلك أيضًا، واقعة التقاضي بين الإمام ورجل مسيحي حول الدرع المفقود، الواقعة التي أكبرت الإمام وعظّمته في عيون المسيحيين، ووجد فيها جرداق دلالة على مدى تشبُّع الإمام بروح العدالة، متحدّثًا عنها قائلًا: «وكان الإمام يأبى الترفُّع عن رعاياه في المخاصمة والمقاضاة، بل إنه كان يسعى إلى المقاضاة إذا وجبت لتشبُّعه من روح العدالة، من ذلك أنه وجد درعه عند عربي مسيحي من عامة الناس، فأقبل به إلى أحد القضاة واسمه شريح، ليخاصمه ويقاضيه، ولما كان الرجلان أمام القاضي قال علي: إنها درعي ولم أبع ولم أهب، فسأل القاضي الرجل المسيحي: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟ فقال العربي المسيحي: ما الدرع إلَّا درعي وما أمير المؤمنين عندي بكاذب! وهنا التفت القاضي شريح إلى علي يسأله: هل من بيّنة تشهد أن هذه الدرع لك؟ فضحك علي وقال: أصاب شريح، ما لي بينة، فقضى شريح بالدرع للرجل المسيحي، فأخذها ومشى أمير المؤمنين ينظر إليه! إلَّا أن الرجل لم يخطُ خطوات قلائل حتى عاد يقول: أمّا أنا فأشهد أن هذه أحكام أنبياء، أمير المؤمنين يدينني إلى قاضٍ يقضي عليه! ثم قال: الدرع والله درعك يا أمير المؤمين، وقد كنت كاذبًا فيما ادّعيت، وبعد زمن شهد الناس هذا الرجل وهو من أصدق الجنود، وأشد الأبطال بأسًا وبلاءً في قتال الخوارج يوم النهروان، إلى جانب الإمام علي»[14].

ثالثًا: العامل الإنساني

وجد هؤلاء الأدباء المسيحيون في الإمام (عليه السلام) صورة الإنسان الأمثل الذي يهفو إليه البشر بطبيعتهم وفطرتهم في كل زمان ومكان، وبين الملل والنحل كافة، تعلُّقًا بالقيم السامية، واعتزازُا بالمُثُل العليا، وافتخارًا بالعظماء، وتقديرًا للحكماء، فلم يكن الإمام -في نظر هؤلاء الأدباء- رجلًا عاديًّا، بل كان مثالًا يسكن القلوب، ويسحر العقول، ويوقظ الضمائر، ويبقى في الذاكرة.

وقد توالت كلمات هؤلاء الأدباء وتواترت ببلاغتهم المعهودة، كاشفين عن هذه الصورة المثالية للإمام ومبرزين لها، واثقين منها، وصادقين فيها، وثابتين عليها، متحدّثين عنها بكل رغبة وحب وكأنهم يتحدّثون عن أقرب الناس لهم.

نلمس هذه الصورة المثالية التي تتخطّى الزمان والمكان والملل والنحل، حين يتحدّث عنها بولس سلامة واصفًا الإمام بالرجل المثالي قائلًا: «فإننا نتحدّث عن الرجل المثالي الذي علت أخلاقه فلم يلتحق بها الغبار، ولا اعتلقت بها أدران الناس، فلقد جاء الدنيا عاريًا وخرج عاريًا، إلَّا من الفضل والذكر الخالد»[15].

وحضر هذا المعنى بقوة في نص جورج جرداق، فالإمام في نظره «له من صفات الإنسان الأمثل ما يجعله جديرًا بالسلطان على القلوب»[16]، وعدّه «من الأفذاذ النادرين الذين إذا عرفتهم على حقيقتهم بعيدًا عن الصعيد التقليدي الذي درجنا على أساسه، ندرس رجالنا وتاريخنا، عرفت أن محور عظمتهم إنما هو الإيمان المطلق بكرامة الإنسان، وحقّه المقدّس في الحياة الحرة الشريفة، وبأن هذا الإنسان متطوّر أبدًا، وبأن الجمود والتقهقر والتوقّف عند حال من أحوال الماضي أو الحاضر ليست إلَّا نذير الموت ودليل الفناء»[17].

ونقل جرداق قولًا بليغًا ونادرًا لشبلي شميل (1276-1335هـ/1860-1917م) تحدّث فيه عن عظمة الإمام وتفرُّده قائلًا: «الإمام علي بن أبي طالب عظيم العظماء، نسخة مفردة لم يَرَ لها الشرق ولا الغرب صورة طبق الأصل لا قديمًا ولا حديثًا»[18].

وقد وجد مخائيل نعيمة في كتاب جرداق شاهدًا على هذه الصورة التي ألهبت روح كاتب مسيحي لأن يكتب موسوعة عن الإمام، مقدّمًا لها قائلًا: «وهذا الكتاب الذي بين يديك خير شاهد على ما أقول، فهو مُكرَّس لحياة عظيم من عظماء البشرية، أنبتته أرض عربية، ولكنها ما استأثرت به، وفجّر ينابيع مواهبه الإسلام، ولكنه ما كان للإسلام وحده، وإلَّا فكيف لحياته الفذّة أن تلهب روح كاتب مسيحي في لبنان وفي العام 1956م، فيتصدّى لها بالدرس والتمحيص والتحليل، ويتغنّى تغنّي الشاعر المتيَّم بمفاتنها ومآثرها وبطولاتها... وقد نجح إلى حدٍّ بعيد في رسم صورة لابن أبي طالب لا تستطيع أمامها إلَّا أن تشهد بأنها الصورة الحية لأعظم رجل عربي بعد النبي»[19].

ومن جهته يُرى سليمان كتاني رافعًا منزلة الإمام بين الرجال قائلًا: «أيُّ رجل مثل علي، مثل سيفه، مثل صدره، مثل صدقه، مثل نبله، مثل حدبه الوسيع، ومثل نهجه البليغ»[20]، لذا فقد أصبح الإمام كما يضيف كتاني قائلًا: «أوسع واحة يهفو إليها عطش الإنسان، إذ يلهث به تجواله عبر العصور»[21].

وأكثر من أفاض في تركيز هذا المعنى وتأكيده، نصري سلهب الذي رفع الإمام إلى القمة، وجعله مثالًا، متخطيًا قومه، ومقيمًا في ضمير كل إنسان، إذ يرى قائلًا: إن الإمام قد بلغ «قمة المستوى الإنساني، فما هو بعربي يتحدّث إلى عرب، ولا بمسلم يحدّث مسلمين، إنما هو مفكّر مؤمن يخاطب البشر، جميع البشر»[22].

وجدّد سلهب هذا المعنى قائلًا: إن الإمام «ليس لقوم دون آخرين، بل هو للدنيا بأسرها، لا زمان يحتويه ولا مكان، هو أمير المؤمنين، جميع المؤمنين مسيحيين ومسلمين، لأنه عاش إيمانه في أعماقه والروح... وقلَّما نلتقي في أروقة التاريخ بشرًا كعلي، قوله والفعل صنوان... لقد كان المثال والقدوة، وسما حتى عجز الناس عن اقتفاء أثره، والسير على خطاها... فأتحف الإنسانية بعطاء روحي وفكري قل له نظير»[23].

ومن أبلغ كلمات سلهب دلالة على قوة العامل الإنساني حين تحدّث عن الإمام قائلًا: «علي حي في خاطر كل إنسان، مقيم في ضمير كل إنسان، نابض مع قلب كل إنسان، تخطى الزمان والمكان، والقومية والدين، وسما وارتفع حتى غدا ملك الإنسانية جمعاء، ذلك أنه تجسيد للإنسان المطلق»[24].

وآخر ما نختم به ما ذكره لويس صليبا قائلًا: «ولا يمكن لأي مسيحي شرقيًّا كان أم غربيًّا، أن ينظر إلى شخصية الإمام علي وقيمه وفضائله من دون أن يشعر أنه يشاركه هذه القيم، وأن يتوجع لألمه»[25].

من يتفحّص هذه الكلمات والأقوال يجد فيها من التناغم والتشابه كما لو أنها نبعت من قلب واحد، وصدرت من رجل واحد عبّر عنها بعبارات مختلفة، وسكّها بكلمات متعدّدة، فقد جاءت متعاضدة فيما بينها، يصدق بعضها بعضًا، ويكمل بعضها بعضًا، دلّت على أثر العامل الإنساني وقوته.

لعل هذه العوامل الثلاثة: (الأدبي والديني والإنساني)، هي العوامل الأساسية التي متّنت علاقة أولئك الأدباء بالإمام (عليه السلام) يضاف لها عوامل أخرى كان لها قدر من التأثير، تحدّدت تقريبًا في عاملين هما:

العامل الأول: له علاقة بجانب الانتماء العروبي المتّصل بكون أن أولئك الأدباء كانوا يغلّبون انتماءهم العربي، بالشكل الذي جعلهم يفتخرون بالعظماء العرب بغض النظر عن طبيعة معتقداتهم الدينية مسلمين كانوا أم مسيحيين.

أشار لهذا العامل وغلّبه جورج جرداق، إذ كان يرى أن المسيحيين حصل عندهم هذا الاهتمام بالإمام لأنهم عرب، وكانوا يعتبرون كل ما له علاقة بالعرب هو تراث لهم، بما في ذلك تراث المسلمين وتاريخهم. وتطرّق جرداق لهذا الأمر في موسوعته قائلًا: «وإنه لمن مفاخرنا نحن العرب أن يكون في تاريخنا أمثال علي، الذي أوحى مثل هذا الحب، وانطلق من نطاق المخصوصية إلى النطاق الواسع العام، فإذا أمره لا يعني حزبًا من الأحزاب أو طائفة من الطوائف أكثر ممّا يعني الناس جميعًا، وإذا سيرته مصدر أدب رفيع في كل عصر ومصر، وما ذاك إلَّا لأن الصفات التي تميّزت بها شخصية الإمام الظاهرة في أعماله وأقواله، هي صفات تجوز -بما فيها من إنسانية وعالمية- حدود الزمان والمكان، كما تجوز حدود الأحزاب والطوائف، وبمثل علي يتوحّد الناس ويتداعون إلى التعاون من أجل الخير»[26].

العامل الثاني: له علاقة بطبيعة البيئة الاجتماعية التي ارتبط بها أولئك الأدباء، ومثّلت لهم ذاكرة المكان والزمان، فقد ظلّت هذه البيئة تذكّرهم بالإمام، وتبعث لهم بصور فيها من التعظيم وفيها من التألّم، على طريقة ما كان يجري في إحياء المناسبات الدينية عند المسلمين الشيعة هناك، فلا يمكن إغفال هذا العامل وما له من تأثير، خصوصًا في بلد مثل لبنان المعروف بمساحته الجغرافية الصغيرة، وبأكثريته السكانية الشيعية، وباختلاط تعدّدياته المذهبية والدينية.

نلحظ تأثير هذا العامل الاجتماعي من خلال شواهد تفصيلية كثيرة، يعرفها أولئك الأدباء أكثر من غيرهم، من هذه الشواهد الدالّة ما ذكره بولس سلامة من أنه اختار نظم ملحمته (عيد الغدير) استجابة لطلب من السيد عبدالحسين شرف الدين (1290-1377هـ/ 1873-1957م)، وتأكيدًا لهذا الأمر نقل رشاد سلامة متحدّثًا عن والده قائلًا: «بعد قصيدة علي والحسين زار والدي سماحة العلامة السيد عبدالحسين شرف الدين، الذي طلب منه أن يكون أول شاعر عربيّ ينظم ملحمة شعريّة، فوجد والدي نفسه أمام بطلٍ حقيقيٍّ وليس بأسطوريّ كأبطال بقية الملاحم اليونانيّة أو الهنديّة، فكان الإمام علي محور ملحمته التي تضمّنت أربعة آلاف بيت شعري، وكانت (عيد الغدير) بكر الملاحم العربية، وأول ملحمة عربية في الأدب العربيّ، ومدارها التاريخ الإسلامي وواقعة الغدير، والإمام علي كبطل عظيم لها بصورة خاصّة»[27].

وحين تحدّث الكاتب اللبناني سمير عطا الله عن علاقة الشعراء المسيحيين اللبنانيين بالإمام علي، تطرّق إلى بولس سلامة قائلًا: «كان بولس سلامة يضع في صدر منزله القروي صورة واحدة هي لوالده، وفي مكتبه الصغير في بيروت كانت هناك صورة واحدة وحيدة: الإمام موسى الصدر منحنيًا بقامته النبيلة يسلّم على الشاعر الذي لم يشفَ تمامًا من آثار 24 عملية جراحية»[28].

وعندما سئل جورج جرداق في حوار صحفي معه، عمَّن يمثّل في نظره اليوم امتدادًا لنهج علي بن أبي طالب، أجاب قائلًا: «ربما كثيرون في أمم أخرى لا أعرفهم، ولكن على حدِّ علمي في لبنان الإمام السيد موسى الصدر، أراه ابنًا للإمام علي، ولهذا السبب أبعدوه»[29].

وما من أحد من أولئك الأدباء إلَّا وله شاهد أو شواهد في سيرته، دالّة على تأثير العامل الاجتماعي في ارتباطهم بالإمام (عليه السلام)، فالعديد منهم كانوا يحلّون ضيوفًا ومتحدّثين في المهرجانات والمناسبات الدينية التي كانت تخصّص حول الإمام وأهل البيت (عليهم السلام).

هذه لعلها هي أبرز العوامل التي أسهمت في تكوين علاقة أولئك الأدباء بالإمام، وفي بقاء هذه العلاقة وديمومتها، ولا شك أنها عوامل قوية ومؤثّرة، كشفت وفسّرت كيف تخطّت تلك العلاقة درجة الحب الوجداني بالإمام، إلى التعبير عن هذا الحب في آثار أدبية مميّزة نثرًا وشعرًا.

والسؤال: كيف تجلّت صورة الإمام عند هؤلاء الأدباء؟ وما هي طبيعة نظراتهم وانطباعاتهم؟

سوف نتتبّع هذه النظرات والانطباعات في إطار سياق تاريخي، يتحدّد في العودة إلى نصوص أولئك الأدباء وأدبياتهم في تتابعها الزمني من جهة النشر والصدور.

-3-
جبران خليل جبران

نشرت مجلة العرفان اللبنانية سنة 1931م، نصًّا نادرًا وبديعًا للأديب جبران خليل جبران دوّنه عن الإمام (عليه السلام) عكس فيه قوة بيانه، وجمالية ذائقته، وبُعد أفقه، كاشفًا عن طبيعة نظرته إلى الإمام، مبجّلًا له ومقدرًا، رافعًا مكانته، مبتهجًا ببلاغته، معظمًا روحه، مفارقًا بينه وبين قومه من جهة، وبينه وبين زمنه من جهة أخرى.

في هذا النص دوّن جبران قائلًا: «في عقيدتي أن ابن أبي طالب كان أول عربي لازم الروح الكلية وجاورها وسامرها، وهو أول عربي تناولت شفتاه صدى أغانيها على مسمع قوم لم يسمعوا بها من ذي قبل، فتاهوا بين مناهج بلاغته، وظلمات ماضيهم، فمن أعجب بها كان إعجابه موثوقًا بالفطرة، ومن خاصمه كان من أبناء الجاهلية.

مات علي بن أبي طالب شهيد عظمته، مات والصلاة بين شفتيه، مات وفي قلبه الشوق إلى ربّه، ولم يعرف العرب حقيقة مقامه ومقداره، حتى قام من جيرانهم الفرس أناس يدركون الفارق بين الجواهر والحصى.

مات قبل أن يبلّغ العالم رسالته كاملة وافية، غير أنني أتمثّله مبتسمًا قبل أن يغمض عينيه عن هذه الارض.

مات شأن جميع الأنبياء الباصرين الذين يأتون إلى بلد ليس ببلدهم، وإلى قوم ليس بقومهم، في زمن ليس بزمنهم، ولكن لربك شأنًا في ذلك وهو أعلم!»[30].

تكمن أهمية هذا النص الوجيز والبليغ والثري، في كونه ينتسب إلى أديب كبير في مقام جبران، الذي تعدّدت توصيفاته عند الآخرين مدحًا وتبجيلًا واعترافًا بقامته الأدبية، فقد وصفه بولس سلامة في ملحمته بالنابغة، ووصفه جورج جرداق في موسوعته بالفنان العربي المبدع، ووصفه الشيخ مرتضى المطهري في ملحمته الحسينية بالكاتب العبقري وصاحب القلم البديع، ووصفه لويس صليبا بعبقري الأدب اللبناني، إلى جانب توصيفات أخرى تلتقي بهذا النسق من التبجيل الرفيع وتتناغم.

وتأكّدت أهمية هذا النص وقيمته في الاحتفاء المميّز به، فقد عمد بعض الأدباء تتويج أعمالهم بهذا النص مفتتحين به ومحتفين، حدث ذلك مع أمين نخلة في كتابه (كتاب المئة)، ومع بولس سلامة في ملحمته (عيد الغدير)، ونقله وعلّق عليه مبجّلًا جورج جرداق في موسوعته، كما حضر باهتمام كبير في كتابات آخرين نشرت عن الإمام (عليه السلام).

ولا يستبعد في أن يكون لهذا النص أثر في لفت انتباه أولئك الأدباء إلى شخصية الإمام وتحفيزهم نحو الاقتراب منه والكتابة عنه، مقتفين أثر جبران الذي سبقهم وأضاء لهم هذا الدرب، مقدّمًا نصًّا مضيئًا ومشعًّا، بقي وما زال متوقّدًا، يحفّز بقوة من يطالعه لأن يتساءل من هو: علي بن أبي طالب الذي كتب عنه جبران ما كتب؟! واصفًا له أنه أول عربي لازم الروح الكليَّة وجاورها وسامرها.

ما كتبه جبران لم يكن مجرّد نص أدبي أحكم صفّ كلماته ببلاغته المعهودة، وإنما كان نصًّا نابعًا من وجدانه، جاء من قلب واع، ومن عقل عالم، عرف الإمام وعظّمه وتأثّر به، دلّ على ذلك ما ذكره جرداق قائلًا: «وطالما كان جبران يردّد اسم علي بن أبي طالب في مجالسه الخاصة والعامة، وحين يخلو إلى نفسه، وطالما كان يعظّمه وينعته بما يليق به من حسان النعوت»[31].

وتمَّم جرداق كلامه، مستشهدًا بما جاء في رسالة وصلته من مخائيل نعيمة الذي عدَّه جرداق من أقرب الناس إلى جبران، يقول فيها: «وأذكر أن جبران كان يجلّ الإمام كثيرًا، ويكاد يضعه في مرتبة واحدة مع النبي»[32].

وحين تحدّث جرداق عن جبران من جهة علاقته بالإمام، مفسّرًا لماذا كتب عن الإمام ما كتب؟ شارحًا ذلك بكلام جميل، متحدّثًا عن سياق تاريخي تعدّدت فيه الوجوه والشخصيات، قائلًا: قد ظل جبران «طوال حياته يبحث عن الوجوه الإنسانية الصافية من خلال صفحات التاريخ، رغبةً منه في تجسيم مثاليته الاجتماعية والإنسانية في أشخاص من لحم ودم، وفي كبار الناس، مثل هذه الرغبة لا يخلّونها ولا تخلّيهم، وقد هرع بقلبه إلى نيتشه وإلى بوذا، وإلى وليم بلايك وأضرابه، ممَّن رأى أنهم يجسّمون أشياء في نفسه يريد لها بقاء أبديًّا. وطالما هرع إلى الأحدوثة الواهمة، وإلى الأسطورة يرى فيها الكثير من أماني القلب والنفس، التي لم تكن لتكتمل في الواقع فاكتملت بخيال أصحابها وأشواقهم. غير أن ثلاثة من عظماء الإنسانية ملؤوا قلبه، فإذا هم يمثّلون الكمال الإنساني في أروع مظاهره وأصفى صفاته، فاتّجه إليهم بقول كثير هو أشبه بالصلوات الحارّة، تتصاعد من معبد الحياة إلى من اكتملت فيهم معانيها وسمت روحها. أما العظماء الثلاثة في قلب جبران: فالمسيح ومحمد وعلي! أما قوله في المسيح ومحمد فكثير، وأما اقتباسه من روائعهما فمعروف، أما علي بن أبي طالب فماذا يرى فيه؟ ينظر جبران إلى علي نظرته إلى الكائن الذي اتّصل بأسمى ما في الوجود من معاني الوجود، وتاق إلى الكمال الروحي فأدركه واتّحد به، فإذا هو يلازم ما أسماه الروح الكلية ويجاورها ويسامرها، فلا يجفوها ولا تجفوه»[33].

ويرى لويس صليبا أن للإمام أثرًا بين في أدب جبران العالمي، ملمحًا بشاهد واحد رجع فيه إلى كتاب (النبي)، متطابقًا في هذا الشاهد مع ما كشفه وأكّده الناقد السعودي محمد العباس الذي أجرى مقارنة بين نصوص مختارة لجبران في كتابه (النبي)، مع نصوص للإمام في نهج البلاغة، مبتدئًا بالشاهد نفسه الذي أشار إليه لويس صليبا واكتفى به، والمتعلّق بالأبناء وتأثير الزمان في تربيتهم.

وحسب شرحهما لهذا الشاهد كتب صليبا قائلًا: «لجبران قول مشهور في كتابه النبي: أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة، لكم أن تمنحوهم محبتكم لا أفكاركم؛ لأن لهم أفكارهم، ونفوسهم تسكن بيت المستقبل والحياة لا ترجع إلى الوراء. وفي قوله هذا يبدو جبران متأثّرًا بوصية الإمام الشهيرة: لا تخلّقوا أولادكم بأخلاقكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم»[34].

وشرح العباس رأيه مذكّرًا برأي جبران قائلًا: «إن أولادكم ليسوا أولادًا لكم، ومع أنهم يعيشون معكم فهم ليسوا ملكًا لكم، أنتم تستطيعون أن تمنحوهم محبتكم، ولكنكم لا تقدرون أن تغرسوا فيهم بذور أفكاركم؛ لأن لهم أفكارًا خاصة بهم، ولكن نفوسهم لا تقطن في مساكنكم فهي تقطن في مساكن الغد الذي لا تستطيعون أن تزوروه حتى ولا في أحلامكم.

يقول الإمام علي: الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم، ويقول: لا تقسروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم. وفي هاتين المقولتين اختصار لكل ما قاله جبران، وخصوصًا المقولة الثانية التي تمثّل تصوّرًا تربويًّا تناوله الكثير من المفكّرين والكتّاب بالشرح والتحليل، وكل ما فعله جبران هو تمديد المقولة الثانية بمفردات إضافية، وشدّها إلى أقصى حدٍّ بياني ممكن بأسلوب أدبي رفيع»[35].

وبعد أن تتبّع العباس هذا الشبه الذي يصل أحيانًا عنده إلى حدِّ التطابق، مصنّفًا في عناوين هي: الأولاد، العمل، الذات، الفرح، الرفاهية، الأرض، الصداقة، العبادة، الحياة، العبرة، الحرية، الرياء، ختم مقاربته قائلًا: «ممّا تقدّم يبدو أن جبران قد تقاطع في كثير من أفكاره، أو على الأقل فيما اقتطفنا من كتابه النبي مع الإمام علي، وهذا التشابه يبدو جليًّا لدرجة التطابق، حتى في صيغة الخطاب، خصوصًا لمن يقرأ كتاب جبران كاملًا، الأمر الذي يثير الاستفهام حول ما سطّره جبران، هل هي شروحات تأمّلية لفلسفات قديمة؟ أم هي تنويعات أدبية على ثيمة أساسية بمفردات وصيغ جديدة؟ وهل يمكن أن تتوارد خواطر مفكّرين لدرجة التطابق؟ وإلى أيِّ حدٍّ يمكن أن نعتبر كتاب جبران اقتباسًا أو استلهامًا؟ أليس من المحتمل أن يكون جبران قد وجد كلام الإمام علي خمائر أدبية وتأمّلات فلسفية جاهزة مارس عليها حالة تناصٍّ أدبية، فنفخها بشروحات، ومدَّدها بتعليقات، ليشدّها إلى أقصى احتمالاتها الجمالية! ربما يؤكّد ذلك إعجاب جبران بالإمام علي وتشبيهه بالأنبياء الباصرين»[36].

وإذا تأكّد أثر الإمام في كتاب (النبي) وقد تأكّد فعلًا، فهذا يدل على قوة أثر الإمام في الخطاب الأدبي لجبران، لكون أن هذا الكتاب تمثّل فيه جبران بكل صوره المتعدّدة المؤتلفة والمختلفة التي تناثرت متفرّقة بين باقي آثاره الأخرى.

وهي الصورة التي أوضحها بأوسع من ذلك مترجم الكتاب الأرشمندريت أنطونيوس بشير قائلًا: «وكأننا بالمؤلف قضى حياته يستعد لإخراج هذا السفر النفيس، فإن كتبه السابقة من عربية وإنجليزية ليست سوى مقدّمات لما في هذا الكتاب من حكمة وفلسفة وشعر وفن، فلا ترى فيه جبران الثائر الذي تراه في «العواصف» و«الأرواح المتمرّدة»، ولا جبران الشاعر الذي تراه في «آلهة الأرض» و«أيها الليل» وغيرهما، ولا جبران المتألم في «لكم لبنانكم ولي لبناني» وفي صورة «وجه أمي وجه أمتي»، ولا جبران المعلم الحكيم في «القشور واللباب»، و«المجنون» و«السابق»، ولا جبران الرسام الرمزي في جميع ما أبرزته ريشته الساحرة، ولا جبران الخيالي في «بين ليل وصباح» وفي «حفار القبور»، بل ترى في هذا الكتاب جبران الذي هو من هذه العناصر جميعها، بل هو خلاصتها المختارة، فإنك لا تقرأ فصلًا من فصوله إلَّا وترى أمامك حكمة من خيال وفلسفة في بلاغة وجمال»[37].

-4-
أمين نخلة

كان من اللافت أن يكون أول عمل يصدره الأديب والقانوني والسياسي أمين نخلة متوّجًا به إرثه الأدبي الكبير، كتابًا عن الإمام (عليه السلام) نعني به (كتاب المئة) الصادر سنة 1931م، جامعًا فيه مئة كلمة من كلام الإمام مختارة من كتاب (نهج البلاغة)، متبوعة عند الحاجة بشرح مقتبس من مفتي الديار المصرية الشيخ محمد عبده (1266-1323هـ/ 1849-1905م)، وعادة ما يكون للكتاب الأول إشاراته الرمزية الدالّة ثقافيًّا وأدبيًّا.

جاء هذا الكتاب ثمرة تواصل أدبي بين أمين نخلة والأديب الشيخ توفيق البلاغي صاحب فكرة الكتاب اقتراحًا، ورعايته طباعة، فهو الذي رغّب نخلة أن يختار له مئة كلمة من كلمات الإمام، وذلك لمعرفته بموقع كلام الإمام من نفسه، ولموقع نخلة من الأدب ومحلّه العالي فيه، فلبَّى له الطلب منجزًا هذا الكتاب، مبتهجًا به، واصفًا له بالكتاب الفريد، ظانًّا أن بطباعته ونشره يكون قد قدَّم خدمة إلى اللغة والأدب والحكمة.

احتوى الكتاب على مقدّمة سطّرها نخلة بقلمه، وجاءت على صورة خطاب مرفوع إلى الشيخ البلاغي، مثّلت نصًّا نثريًّا بديعًا، كاشفًا فيه عن الناحية البلاغية للإمام، معتبرًا أنه من أبلغ العرب كلامًا، واصفًا كتاب «نهج البلاغة» بإنجيل البلاغة.

في هذا النص النثري دوّن نخلة قائلًا: «حضرة الأديب الشيخ توفيق البلاغي: سألتني أن أنتقي مئة كلمة من كلام أبلغ العرب أبي الحسن تخرجها في كتاب، وليس بين يدي الآن من كتب الأدب التي يرجع إليها في مثل هذا الغرض، إلَّا طائفة قليلة منها إنجيل البلاغة «النهج»، فرحت أسرح أصبعي فيه، ووالله لا أعرف كيف أصطفي لك المئة من مئات، بل الكلمة من كلمات، إلَّا إذا سلخت الياقوتة عن أختها الياقوتة، ولقد فعلت، ويدي تتقلّب على اليواقيت، وعيني تغوص في اللمعان، فما حسبتني أخرج من معدن البلاغة بكلمة، لفرط ما تحيّرت في التخيّر، فخذ هذه المئة، وتذكّر أنها لمحات من نور وزهرات من نور، ففي «نهج البلاغة» من نعم الله على العربية وأهلها أكثر بكثير من مئة كلمة!.

قال لي مرة الأستاذ العظيم أمين الريحاني في حديث لنا عن ترجمة أبي العلاء إلى الإنكليزية: أما الإمام فسيبهر الجماعة -يريد الإنكليز- إذا ترجم لهم، فقلت: ولكنني أخاف الترجمة، فستخلع عن معاني صاحبنا هذا الوشي العربي ولا ريب. فإذا كان ذلك ممّا يقال في ترجمة كلام الإمام إلى لغات الأجنبيين، والريحاني هو المتصدي للترجمة، فكيف يقال في مئة كلمة تنزع عن أخواتها، وتقلب عن مواضعها، والكلام جماله في سياقه وفي موقعه!. فإذا شاء أحد أن يشفي صبابة نفسه من كلام الإمام، فليقبل عليه في «النهج» من الدفة إلى الدفة، وليتعلّم المشي على ضوء البلاغة»[38].

أشار نخلة في هذا النص إلى اسم الأديب والرحالة أمين الريحاني (1876-1940م)، مذكّرًا برجل كانت له سيرة بالإمام، معرّفًا عن إعجابه بكتاب «نهج البلاغة»، وكيف أنه كان عازمًا على ترجمته إلى اللغة الإنجليزية، متوقعًا انبهار الغربيين به أدبًا وبلاغة وحكمة، متمنيًا لنفسه القيام بهذا العمل، الذي لم يتحقّق مع الأسف.

ويتّصل بهذا السياق كذلك ما ذكره الكاتب السوري راجي أنور هيفا من أن الريحاني عندما كان في مهجره في الولايات المتحدة الأمريكية، عقد العزم على كتابة مسرحية تتناول سيرة الإمام (عليه السلام) وشخصيته، وحين استشار صديقه المقرّب جبران خليل جبران بهذا الأمر، رحّب به أفضل ترحيب، وشجّعه على المضي قدمًا في ذلك، لكن حصلت معه ظروف مانعة حالت دون القيام بهذا العمل[39].

-5-
بولس سلامة

تطوّرت مع بولس سلامة العلاقة بالإمام وتعمّقت في الأدب اللبناني المسيحي، فمن جهة أظهر سلامة عاطفة قوية تجاه الإمام مسكونة بالمعاناة والألم، ومن جهة أخرى نقل سلامة حضور الإمام الأدبي من عالم النثر إلى عالم الشعر، ومن جهة ثالثة بقي سلامة متمسّكًا بقضية الإمام ومتابعًا لها يتحدّث عنها ويكتب شعرًا ونثرًا.

بدأ سلامة علاقته بالإمام على مستوى النشر من النثر ثم تحوّل إلى الشعر، فقد كتب عنه نثرًا ثلاثة مقالات قصيرة، كانت في الأصل أحاديث أذيعت بالنيابة عنه بسبب مرضه الشديد في راديو الشرق، وأعاد نشرها لاحقًا مع مجموعة الأحاديث المذاعة في كتاب بعنوان (حديث العشية) صدر سنة 1949م.

هذه المقالات الثلاثة هي: (علي فارس الإسلام)، (علي أمير الكلام)، (علي الزاهد المتصوّف). في المقال الأول ميّز سلامة الإمام بالشجاعة والفروسية واصفًا له بفارس الإسلام، متتبعًا المواقف التي تجلّت فيها شجاعته قبل الفتح وبعد الفتح، قبل خلافته وبعد خلافته، متحدّثًا عنه قائلًا: «والذي تلفت إليه العصور كلّما جرى ذكر الشجاعة على لسان، هو فارس الإسلام علي بن أبي طالب»[40].

وفي المقال الثاني وقف سلامة على الجانب البلاغي عند الإمام، واصفًا له بأمير الكلام، وسيد البلغاء، وإمام البلغاء، متتبعًا بعضًا من نصوصه دالًّا بها على إمامته في البلاغة والبيان، مفتتحًا حديثه قائلًا: «ولا ريب أنه سيد البلغاء، وكلامه يأتي في الطراز الأول بعد كلام سيد العرب محمد بن عبد الله، فهو البحر خاليًا من الشوائب، يزخر باللآلئ ويطفح بالدر، ولكنه الخضم لا ساحل له... يلقي الإمام الكلمة الموجزة فتنشرها فتراها قد انطوت على حكمة الأجيال، ومنارة الصلاح في الدنيا والآخرة»[41].

وفي المقال الثالث وقف سلامة على جانب الزهد عند الإمام، واصفًا له بالرجل المثالي، متتبّعًا بعضًا من نصوصه ومواقفه الدالة على هذه الصفة، مفتتحًا كلامه قائلًا: «فإننا نتحدّث عن الرجل المثالي، الذي علت أخلاقه فلم يلتحق بها الغبار، ولا اعتلقت بها أدران الناس، فلقد جاء الدنيا عاريًا وخرج منها عاريًا إلَّا من الفضل والذكر الخالد... وقد بلغ علي من الزهد والتصوّف ما لم تبلغه إلَّا النفوس العالية التي انسلخت عن عالم المادة، وتبرَّأت من الدنيا الغرور... إن ابن أبي طالب كان وسيبقى أنشودة العز في فم الأجيال»[42].

أما القفزة الكبيرة في علاقة سلامة بالإمام، فقد حدثت حين تحوّل من عالم النثر وانتقل إلى عالم الشعر؛ إذ لم يقنع بتلك الأحاديث النثرية، معتقدًا بأن الإمام هو أكبر من أن يكتبه نثرًا مقيّدًا بذلك الحدّ وذلك الأفق، فاتّجه إلى الشعر عالمه الدافئ والرحب، مطلقًا موهبته، معلنًا عن عاطفته، مقتربًا من الإمام قربًا حميميًّا، مبتدئًا من قصيدته البديعة والرائعة (علي والحسين).

نشر سلامة هذه القصيدة في ديوان صغير سنة 1946م، ضمّنه مقدّمة مقتضبة شرح فيها من جهة علاقته كشاعر عربي تجاه الإسلام معترفًا له بمديونيته الأدبية، وموضحًا من جهة أخرى منزلة الإمام البلاغية والوجدانية في خاطره، وحاكيًا من جهة ثالثة قصة هذه القصيدة، وكيف أنها انبثقت من التقاء الآمه بآلام علي والحسين.

من جهة علاقته كأديب بالإسلام كتب سلامة قائلًا: «في عنق الشاعر العربي دين للإسلام، سواء كان الأديب مسلمًا أو مسيحيًّا؛ إذ إنه لم يجرِ قلم بالفصاحة إلَّا وعليه رشاش من غيث القرآن الكريم، ولم يكتحل جفن بسحر البيان إلَّا وقد أشرف من باب رحب على هذه المروج الخضر التي تعهدها الإسلام بالماء والظلال»[43].

ومن جهة منزلة الإمام في خاطره تحدّث سلامة قائلًا: «وأول من يطلّ عليك من هذه الجنان بعد الرسول هو سيد البلغاء، وفارس الإسلام، وسدرة المنتهى في الكمال الإنساني علي بن أبي طالب، ولقد أولعت بالقرآن المجيد وتاريخ الإسلام منذ كنت صبيًّا، فكيف بي وقد نيَّفت بي الأيام على الأربعين، وكنت كلّما مرّ في خاطري مصرع أمير المؤمنين وابنه الحسين تلهّب صدري نصرة للحق ونقمة على الباطل»[44].

وأما من جهة قصة القصيدة فقد دوّن سلامة قائلًا: «وقد ألمَّت بي النكبات منذ سنين، وجرت مهجتي على حدِّ المباضع تسع عشرة مرّة، ولم أزل صريع الداء. وفي ذات ليلة من هذه الليالي السوداء أرقت أرقًا شديدًا ومزّقني الألم، فوثب خيالي إلى ما وراء العصور، فوقع قلبي بين علي والحسين جريحين، فاستعبرت كثيرًا، وما هي إلَّا عشية وضحاها حتى كانت هذه القصيدة»[45].

ما إن نشرت هذه القصيدة حتى لقيت صدى طيّبًا واحتفاء امتدَّ من لبنان وعبر إلى العراق وحطَّ في أماكن أخرى، فقد توالت عليها التقريظات مدحًا وثناء وابتهاجًا، وردت في رسائل مكتوبة تارة، وتارة في كلمات منشورة في صحف ومجلات لبنانية وعربية، حدث ذلك لكون أن القصيدة جاءت من شاعر مسيحي كبير من جهة، وكونها عبّرت عن عاطفة قوية من جهة أخرى، ولأنها من جهة ثالثة جمعت بين آلام الإمامين علي والحسين (عليهما السلام).

وقد وثّق سلامة مبتهجًا بعضًا من هذه التقريظات في مدخل ديوانه (عيد الغدير)، مشيرًا إليها قائلًا: «فضلًا عن التشجيع الشفهي الذي سمعته من كبار شعراء وأدباء العرب، فقد طلعت الجرائد والمجلات العربية حافلة بفيض من الثناء، وتواردت كتب التقدير من كل صوب، وإننا نجتزئ باليسير اليسير منها، معتذرين للأدباء الأعلام لعدم نشر ما تفضّلت به أقلامهم النضيرة من ثناء... ناشرين نتفًا من رسائل بعضهم»[46].

من هذه التقريظات المعبّرة ما جاء في رسالة السيد عبدالحسين شرف الدين الذي نثر قائلًا: «لله أنت حبيب قلبي، وقرّة عيني، أي بولس السلامة والكرامة، والناهد المرقل بلواء النبوة والإمامة، يا فتى المسيح وداعة، وبطل محمد شجاعة، والثائر للشهيدين علي والحسين، ما أحسن عائدتك علينا أهل البيت، وقد أهبت بأهل الأرض والسماء في عبقريتك العصماء الخالدة، تجلوها عذراء أفكارك، وغانية ابتكارك علوية حسينية فذّة، تركتها للسان الحمد يرويها، ولبريد الثناء يذيعها»[47].

وقرظت مجلة العرفان اللبنانية القصيدة مدحًا، إذ كتبت قائلة: «وقد احتلت هذه الفريدة الغريزة محلًّا مرموقًا من نفوس المسلمين، ترمقها أبصارهم بكل إعجاب وتقدير، ويكبرون الناحية الفنية فيها كأسلوبها الرائع في الوصف، والوقائع التاريخية الصحيحة، والعاطفة الملتهبة الصادقة التي يتحلّى بها شاعرنا الفنان الملهم»[48].

وأشادت بها كذلك مجلة العروبة اللبنانية، وكتبت عنها قائلة: «إن في كل بيت من قصيدة علي والحسين منارًا تعشو إليه كل نفس يعوزها لترى الحق، أن تكتحل بهذا النور، وإن في كل كلمة من كل بيت روحًا تحسّ وتشعر مشيرة لنا إلى هذه العبر التي تتقلّب في الأجيال، ثم لا يشعر بها إلَّا من صهرت نفوسهم الآلام»[49].

وبالغت بالإشادة بها صحيفة الأحرار اللبنانية، إذ كتبت قائلة: «وفي غمرة من الألم نظم الأستاذ بولس سلامة قصيدته علي والحسين، فإذا هي معلّقة ترقى إلى أعلى ما سمت إليه المعلّقات السبع، وتحفة أدبية رائعة تستحق كل إكبار»[50].

وامتدَّ الاحتفاء بهذه القصيدة إلى مدينة النجف العراقية، حيث طبعت هناك على نفقة مكتبة الهلال لصاحبها محمد صادق الكتبي، وتضمّنت لمحة من سيرة بولس سلامة أعدّها الدكتور الشيخ محمد هادي الأميني صاحب كتاب (معجم رجال الفكر والأدب في النجف الأشرف خلال ألف عام).

في هذه السيرة بالغ الشيخ الأميني في الثناء على سلامة، فقد اعتبره في طليعة أولئك العباقرة الذين بلغوا في نظمهم درجة الإعجاز والإلهام، واصفًا له بالشاعر والكاتب الموهوب الذي تتزاحم عليه المعاني، فيختار في نثره كل فائق، ويأخذ في نظمه رقاب القوافي، مسجّلًا في شعره نبضات قلبه، وخلجات فكره، ناشرًا في تضاعيفها السلام والجمال والحب والخير في الآفاق.

وعن حقيقة مشاعره تجاه سلامة وشعره دوّن الشيخ الأميني قائلًا: «وإني وإن كتبت عن هذا الشاعر فإنما أكتب عن مبلغ علمي، وليعلم أيضًا أن ما أصوّره عن شخصية ذلك الشاعر الحر، ليس إلَّا ما أحسست به عند قراءتي شعره، الذي استرق سمعي وبصري بسحر بيانه، وكدت اعترف له بالقوة وعمق الخيال»[51].

أما الخطوة الأهم في علاقة سلامة بالإمام فقد جاءت بعد نشره ديوانه الشهير (عيد الغدير)، الذي نظمه سنة 1948م وصدر سنة 1949م، وأعده أول ملحمة عربية*، معرّفًا له بأنه ملحمة شعرية تتناول أهم نواحي التاريخ الإسلامي وخاصة الهاشميين العلويين، وما يتعلّق بهم منذ الجاهلية حتى آخر دولة بني أمية.

ضمّ الديوان سبعًا وأربعين قصيدة، بلغ مجموع أبياتها ما يزيد على ثلاثة آلاف وأربعمائة بيتًا، استغرق العمل فيه ستة أشهر، ثلاثة منها لدرس الموضوع، وثلاثة للنظم، أدمج سلامة فيه بعضًا من قصيدة علي والحسين، ناقلًا ماله -حسب وصفه- من اليد اليسرى إلى اليمنى.

كما احتوى الديوان على مقدّمة مهمّة، شرح سلامة فيها ما يريد قوله عن الديوان، وما يريد القارئ معرفته عن الديوان، متطرّقًا لفكرة الديوان من أين جاءت وكيف انبثقت؟ وموضّحًا طريقته في درس الموضوع تاريخيًّا ومنهجيًّا وبيانيًّا، ملتفتًا لاعتراضات وتساؤلات محتملة، مجيبًا عنها ومكاشفًا، مدركًا ما بين الديانات والمذاهب من مفارقات والتباسات.

بالعودة إلى هذه المقدّمة نفهم أن فكرة الديوان جاءت وانبثقت بتأثير ثلاثة عوامل مترابطة، هي:

أولًا: العامل النقدي، يتّصل هذا العامل بالملاحظات التي وصلت إلى سلامة مسجّلة على قصيدته «علي والحسين»، منبّهة على إهمال بعض الحوادث المهمّة في حياة الإمام، منها حادثة الغدير.

أمام هذه الملاحظات أقرَّ سلامة بحق الآخرين في النقد، معتذرًا بأن الإمام لا تسعه الملاحم فكيف بقصيدة، ناويًا سدَّ تلك الثلوم في آونة أخرى.

وقد افتتح سلامة مقدّمة ديوانه «عيد الغدير» كاشفًا عن هذا الأمر النقدي قائلًا: «عرضت في مطلع هذا الكتاب بعض ما جاءني من رسائل التشجيع عقب انتشار قصيدتي علي والحسين، غير أن بعض شيوخ الأدب أخصّ العراقيين منهم، أخذ عليّ إهمالي بضع حوادث خطيرة في حياة الإمام علي، أهمّها حديث الغدير، ونومه على فراش الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ليل الهجرة، وانتصاره المجيد في موقعة وادي الرمل، وغير ذلك من الأحداث الدالّة على مكانته، الناطقة ببطولته. ولقد حقَّ عليَّ النقد، فاعتذرت بأن عليًّا لا تسعه الملاحم، فكيف بقصيدة انشأتها في ليلة ألم بين عشية وضحاها. ونويت سدَّ تلك الثلوم في آونة أخرى، فحال دون الإنفاذ اشتغالي بمؤلفاتي التي نشر بعضها ولم يزل بعضها الآخر مطويًّا»[52].

ثانيًا: العامل الاجتماعي، يتّصل هذا العامل بأثر نابع من البيئة الاجتماعية، متحدّدًا في علاقات اجتماعية تمازج فيها الجانب الأدبي بالجانب الاعتباري، فقد وجد سلامة نفسه بين رغبتين، رغبة على صورة تمنٍّ وصلته من صديقه الشيخ عبدالله العلايلي (1914-1996م) تدعوه لنظم ملحمة حول أيام العرب، ورغبة على صورة اقتراح وصلته من السيد عبدالحسين شرف الدين تدعوه لنظم ملحمة حول عيد الغدير، فتزاحمت عليه الأفكار، وأخيرًا صحّت عزيمته، منتخبًا عيد الغدير موضوعًا لملحمته.

وأشار سلامة لهذا الأمر، وأوضحه قائلًا: «نشرت مجلة الأديب القيمة، إحدى قصائدي القديمة -حمدان البدوي- وكأن طريقتي في سرد هذه القصة المنظومة لفتت أنظار الأدباء المرموقين، فتمنَّى عليَّ عميدهم الشيخ عبدالله العلايلي في العدد نفسه، أن أنظم أيام العرب في ملحمة، نظرًا لافتقار الأدب العربي إلى الملاحم. وفي أعقاب خريف سنة 1947م اقترح عليَّ حضرة العالم الشريف الموسوي النبيل، صاحب السماحة السيد عبدالحسين آل شرف الدين نظم يوم الغدير، فتزاحمت عليَّ الفكر، وأيقظت كوامن الوجدان، وتآلفت كما تتآلف المويجات على صفحات اليم، ثم تتكشّف عن موجة كبيرة ترفض على الشاطئ، فصحّت عزيمتي على نظم ملحمة عنوانها عيد الغدير»[53].

ثالثًا: العامل النفسي، يتّصل هذا العامل بالانجذاب الوجداني الصافي والعميق عند سلامة نحو الإمامين علي والحسين ونحو أهل البيت عمومًا، فقد بات هذا الموضوع -حسب قول رشاد سلامة متحدثًا عن والده- «هو الموضوع الذي استهوى والدي، حتى أصبح جزءًا من إنسانه، متداخلًا مع وجدانه»[54].

وتأكيدًا لهذه المودة لأهل البيت تقصّد سلامة تعزيزها في داخل أسرته، وشاهدنا على هذا التأكيد ما كشفه رشاد سلامة قائلًا: «حرص والدي على أن تعمَّ حالة علي والحسين، حالة عائلته وأسرته وبيته، فأصابني هكذا بعض الشرف متحدّرًا من والدي، وربّيت على حبّه لعلي والحسن والحسين (عليهم السلام) وأهل البيت المطيّبين الأكرمين، وعلى ما بات يمثّل نموذجًا راقيًا لتشيع المسيحي للأئمة والمناضلين والمجاهدين الثائرين على الظلم، منتصرين لحق الإسلام والإيمان والإنسان»[55].

وتوثّقت هذه العلاقة وتعمّقت عند سلامة، بما وجده من التقاء آلامه بآلام الإمامين علي والحسين، فقد وجد في آلامهما سكنًا له وراحة وتأسّيًا، ووجد في آلامه عاطفة تلتهب حرارة وقوة، فصبها منتعشًا في هذا الموضوع، فجاءت مآثره الشعرية مصطبغة بالآلام ومتعانقة.

وقد أبان سلامة بوضوح عن هذا الأمر حين شرح قصة قصيدته «علي والحسين» قائلًا: «وقد ألمَّت بي النكبات منذ سنين، وجرت مهجتي على حدِّ المباضع تسع عشرة مرة، ولم أزل صريع الداء. وفي ذات ليلة من هذه الليالي السوداء أرقت أرقًا شديدًا ومزّقني الألم، فوثب خيالي إلى ما وراء العصور، فوقع قلبي بين علي والحسين جريحين، فاستعبرت كثيرًا، وما هي إلَّا عشية وضحاها حتى كانت هذه القصيدة»[56].

وشاهد آخر أشار إليه رشاد سلامة، متحدثًا عمَّا أسماه الليلة الرهيبة قائلًا: «ثم إني لشاهد على فصل من حياة والدي، ألمح إليه في كتاباته، فأسماه الليلة الرهيبة، وقد عنى الليل الذي نظم في عتمته مصرع الإمام الحسين (عليه السلام) ومؤدَّى ذلك، أني دخلت غرفة والدي صباح ذات يوم بعد أن سمعت رنين الجرس الذي يؤذن بيقظته، فألقيت التحية ورحت كالعادة أجمع إلى ما وراء وسادته الغطاء المرفوع فوق سريره، فوقعت يدي على المخدة فوجدتها مبللة، فسألته في الأمر، وكنت قد ظننت أنه سكب الماء فوقها بالخطأ، فأجاب لا، ثم ظننت أنه تعرّق، ولم يكن الزمن زمان القيظ، بل كان في صقيع الشتاء، فأجاب لا، فقلت له: إن الوسادة رطبة ومبللة، فقال: اعلم يا بني أني نظمت الليلة فاجعة كربلاء، وسطّرت في عيد الغدير مصرع الإمام الحسين. أجل! لم يكن الماء سبب البلل، ولا كان الحر هو السبب، ولا تصبّب العرق بفعل القيظ، بل كانت على وسادته حرق من كبده، ودموع سكبت مع مجرى القلم، فأدركت إلى أيِّ حدٍّ كان بولس سلامة مندمجًا مع حال أبطاله، وإلى أيِّ مدى كان شريك آلامهم، وحليف راياتهم، وبتُّ أفهم بالتمام القصيدة التي وضعها في زمن لاحق، والأبيات التي منها:

بكيت حتى وسادي نشَّ من حرق

وضجَّ في قلمي إعوال منتحب

أنا المسيحي أبكاني الحسين وقد

شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي»[57]

رابعًا: العامل النهضوي، يتّصل هذا العامل بربط الماضي بالحاضر، الماضي متحدّدًا عند سلامة في أهل البيت (عليهم السلام) نشرًا لناحية عظمى من التاريخ العربي، والحاضر متحدّدًا عند سلامة في العروبة المستيقّظة في صدور أبنائها، وأنها أحوج إلى التمثُّل بأبطالها الغابرين، وفي مقدّمتهم الإمامين علي والحسين (عليهما السلام) اللذين كان عليهما المدار الأكبر في ديوان «عيد الغدير».

نفهم هذا الأمر حين أوضح سلامة أن مدار ديوانه يتحدّد حول أهل البيت في أهم ما يتّصل بهم منذ الجاهلية حتى ختام مأساة كربلاء، ولماذا أهل البيت؟ أجاب سلامة قائلًا: «ولا يخفى أن في ذلك نشرًا لناحية عظمى من التاريخ العربي، وأن العروبة المستيقظة اليوم في صدور أبنائها، من المغرب الأقصى إلى آخر جزيرة العرب، لأحوج ما تكون إلى التمثُّل بأبطالها الغابرين، وهم كثر، على أنه لم يجتمع لواحد منهم ما اجتمع لعلي (عليه السلام) من البطولة والعلم والصلاح، ولم يقم في وجه الظالمين أشجع من الحسين (عليه السلام)، فقد عاش الأب للحق وجرّد سيفه للذياد عنه منذ يوم بدر، واستشهد الابن في سبيل الحرية يوم كربلاء، ولا غرو، فالأول ربيب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) والثاني فلذة منه»[58].

أما الطريقة التي اعتمدها سلامة في درس الموضوع، ومعالجته من النواحي التاريخية والشعرية والبيانية والفكرية، فقد تحدَّدت على هذا النحو:

الناحية التاريخية، كان سلامة ملتفتًا إلى المراجع التاريخية، مثبتًا روايته للوقائع بالعودة إلى الثقات من مؤرخي السنة، مقلِّلًا الاعتماد على مؤرخي الشيعة، قاطعًا على الآخرين التظنُّن والشبهة من هذه الجهة، شارحًا هذا الأمر قائلًا: «ولما عزمت على النظم انصرفت إلى درس المراجع التأريخية، ولكنني قطعًا للظن والشبهات، قلَّما اعتمدت مؤرخي الشيعة، بل الثقات من أهل السنة الذين عصمهم الله من فتنة الأمويين، وتقيّدت بالتاريخ جهد الاستطاعة، فلو تقيّدت أكثر ممّا فعلت، لكنت كاتب عدل يخضع التاريخ للقوافي»[59].

الناحية الشعرية، التفت سلامة إلى ما بين الشعر والتاريخ من مفارقات، كما التفت من جهة أخرى إلى ما بين الملاحم والتاريخ من مفارقات كذلك، فالتاريخ كان مقيّدًا له في كلا الحالتين.

في حالة الشعر وجد سلامة نفسه مغلول الجناحين لا يستطيع أن يخلع على الواقعات إلَّا بمقدار، وفي حالة التاريخ رأى سلامة أن الملاحم عادة تدور على الأساطير بينما عمله مقيّد بالتاريخ، حرام عليه الخيال حتى في الحوادث العادية، موضحًا هذا الأمر قائلًا: «وبالرغم من الانطلاق الشعري الذي حاولته، فلقد بقيت مغلول الجناحين لا أستطيع أن أخلع على الواقعات من الفن إلَّا بمقدار، ذلك أن الملاحم تدور على الأساطير حيث يسبح الشاعر ولا رقيب عليه إلَّا ذوقه، وكتابي هذا محوره التاريخ، والتاريخ حرام على الخيال حتى في الحوادث العادية، فكيف به عندما يستند معظمه إلى الأحاديث النبوية»[60].

الناحية البيانية، تطرّق سلامة إلى قاموسه اللفظي، مفسّرًا من الألفاظ عسيرها، متنكّبًا عن استعمال الغريب منها، غير محجم عن تناول بعض المهجورة، مبيّنًا هذا الأمر قائلًا: «لقد جعلت للكاتب هامشًا، يسهل للقراء وعلى الأخص غير المسلمين منهم تفهُّم الكتاب، ولم أفسّر من الألفاظ إلَّا عسيرها، ولقد تنكّبت عن استعمال الغريب، غير محجم عن تناول بعض الألفاظ المهجورة الخفيفة على السمع واللسان، لئلَّا تُمنى هذه العوانس بعزوبة دائمة، ولئلَّا يبقى مدار اللغة الشعرية في أواسط القرن العشرين مقصورًا على طائفة من الألفاظ»[61].

الناحية الفكرية، تصدَّى سلامة لبعض القضايا الفلسفية والاجتماعية من دون الابتعاد عن السرد، محافظًا على بنية السرد، ومتنبّهًا لعدم الإخلال بتلك البنية، متحدّثًا عن هذا الأمر قائلًا: «كما أنني قد تصدَّيت لبعض القضايا الفكرية، فوضعت على لسان مسلم ابن عقيل مشكلة الشر مثلًا، وأرسلت في كثير من المواضع آراء اجتماعية، فبسطت الرأي في الحرية والثورة في معرض الكلام على عثمان وأبي ذر الغفاري، وأنها آراء تصلح لكل زمان ومكان لأنها في صعيد المطلق، ولكنني في ذلك كلّه لم أبتعد عن السرد، وهو لحمة الملحمة وسداها إلَّا بمقدار. فإذا عدلت عنه قليلًا، فلا ألبث أن أعود إليه، وقد يكون التفلت منه إقبالًا عليه من شرفة أخرى، فالمقطع الخاص بأهل البيت مثلًا يبدو في ظاهره مدحًا مجرّدًا، وهو في حقيقته سرد للأحاديث النبوية المتعلّقة بالعترة الطاهرة»[62].

بعد ذلك انتقل سلامة مجيبًا عن ثلاثة تساؤلات ربما اعترضت بال بعض، وذلك لطبيعتها المفارقة من جهة الاختلاف في الدين، ومن جهة الاقتراب من الإمام، وثالثًا من جهة الاحتساب على التشيّع.

طرح سلامة هذه التساؤلات قاصدًا المكاشفة بحقيقة رأيه، معلنًا ما يعتمل في خاطره بلا حرج ولا مواربة، مقدّمًا تصوُّرات شفّافة تتجلّى فيها النزعة الأخلاقية.

التساؤل الأول من جهة الاختلاف في الدين، أشار إليه سلامة قائلًا: «ولربَّ معترض يقول: ما بال هذا المسيحي يتصدَّى لملحمة إسلامية بحتة؟».

أمام هذا التساؤل قدَّم سلامة إجابة بديعة وشفّافة، ناظرًا إلى ثلاثة أبعاد هي: التاريخ والخلق والنبي، من جهة بُعد التاريخ أجاب سلامة قائلًا: «أجل إنني مسيحي ولكن التاريخ مشاع للعالمين».

ومن جهة بُعد الخلق أجاب سلامة قائلًا: «أجل إني مسيحي ينظر من أفق رحب لا من كوّة ضيّقة، فيرى في غاندي الوثني قديسًا، مسيحي يرى الخلق كلهم عيال الله، ويرى أن لا فضل لعربي على عجمي إلَّا بالتقوى».

ومن جهة بعد النبي، أجاب سلامة قائلًا: إني «مسيحي ينحني أمام عظمة رجل يهتف باسمه مئات الملايين من الناس في مشارق الأرض ومغاربها خمسًا كل يوم، رجل ليس في مواليد حواء أعظم منه شأنًا، وأبعد أثرًا، وأخلد ذكرًا. رجل أطلَّ من غياهب الجاهلية فأطلت معه دنيا أظلّها بلواء مجيد، كتب عليه بأحرف من نور: لا إله إلَّا الله! الله أكبر!»[63].

التساؤل الثاني من جهة الاقتراب من الإمام، أشار إليه سلامة قائلًا: «ولم آثرت عليًّا دون سواه من أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه الملحمة؟».

أمام هذا التساؤل فضّل سلامة الإجابة عنه بكلمات، معتبرًا أن الملحمة كلها جاءت جوابًا عنه. في هذه الكلمات تتبع سلامة تمثّلات صور الإمام التي سمت عند أصحاب الديانات مسلمين ونصارى، وعند أصحاب الفنون كافة، مبرزًا عظمة الإمام ومكانته المتفوّقة التي لا يجاريه عليها أحد، واثقًا من إيثاره للإمام دون سواه من أصحاب النبي.

من تمثّلات صور الإمام عند أصحاب الديانات مسلمين ونصارى، ذكر سلامة قائلًا: سترى في سياق هذه الملحمة «بعض عظمة الرجل الذي يذكره المسلمون فيقولون: رضي الله عنه، وكرّم وجهه، وعليه السلام، ويذكره النصارى في مجالسهم فيتمثّلون بِحِكَمِه ويخشعون لتقواه».

ومن تمثّلات صور الإمام عند أصحاب الفنون، زهّادًا ومفكّرين وفقهاء وخطباء، تحدّث سلامة قائلًا: «ويتمثّل به الزهّاد في الصوامع فيزدادون زهدًا وقنوتًا، وينظر إليه المفكّر فيستضيء بهذا القطب الوضّاء، ويتطلّع إليه الكاتب الألمعي فيأتمّ ببيانه، ويعتمده الفقيه المُدْرِه فيسترشد بأحكامه. أما الخطيب فحسبه أن يقف على السفح، ويرفع الرأس إلى هذا الطود لتنهلَّ عليه الآيات من علٍ، وينطلق لسانه بالكلام العربي المبين الذي رسّخ قواعده أبو الحسن، إذ دفعها إلى أبي الأسود الدؤلي فقال: انحُ هذا النحو، وكان علم النحو».

ومن تمثّلات صور عظمة الإمام ما بين بطولته الجسدية وبطولته النفسية، تحدّث سلامة قائلًا: «ويقرأ الجبان سيرة علي فتهدر في صدره النخوة وتستهويه البطولة، إذ لم تشهد الغبراء، ولم تظلَّ السماء أشجع من ابن أبي طالب، فعلى ذلك الساعد الأجدل اعتمد الإسلام يوم كان وليدًا، فعلي هو بطل بدر وخيبر والخندق وحنين ووادي الرمل والطائف واليمن، وهو المنتصر في صفين، ويوم الجمل، والنهروان، والدافع عن الرسول يوم أحد، وقيدوم السرايا ولواء المغازي. وأعجب من بطولته الجسدية بطولته النفسية، فلم يُرَ أصبر منه على المكاره، إذ كانت حياته موصولة الآلام منذ فتح عينيه على النور في الكعبة، حتى أغمضهما على الحق في مسجد الكوفة».

ومن تمثّلات صور الإمام عند الخصوم، تحدّث سلامة قائلًا: «ولم يستطع خصوم الرجل أن يأخذوا عليه مأخذًا فاتّهموه بالتشدُّد في إحقاق الحق، أي إنهم شكوا كثرة فضله فأرادوه دنيويًّا يماري ويداري، وأراد نفسه روحانيًّا رفيعًا ليستميت في سبيل العدل، لا تأخذه في سبيل الله هوادة، وإنما الغضبة للحق ثورة النفوس القدسية التي يؤلمها أن ترى عوجًا»[64].

التساؤل الثالث من جهة الاحتساب على التشيع، أشار إليه سلامة قائلًا: بقي لك بعد هذا أن تحسبني شيعيًّا؟

أمام هذا التساؤل عدَّ سلامة نفسه شيعيًّا قائلًا: «إذا كان التشيع حبًّا لعلي وأهل البيت المطيّبين الأكرمين، وثورة على الظلم، وتوجُّعًا لما حلَّ بالحسين، وما نزل بأولاده من النكبات في مطاوي التاريخ، فإنني شيعي»[65].

وقبل أن يختم سلامة مقدّمته توجّه بخطابه إلى الإمام متشرِّفًا بذكره قائلًا: «فيا أبا الحسن! ماذا أقول فيك، وقد قال الكتاب في المتنبي: إنه مالئ الدنيا وشاغل الناس، وإن هو إلَّا شاعر له حفنة من الدُّرّ إزاء تلال من الحجارة! وما شخصيته حيال عظمتك إلَّا مدرة على النيل خجلى من عظمة الأهرام. حقًّا إن البيان ليسفّ، وإن شعري لحصاة في ساحلك يا أمير الكلام، ولكنها حصاة مخضوبة بدم الحسين الغالي، فتقبَّل هذه الملحمة، وانظر من رفاف الخلد إلى عاجز شرّف قلمه بذكرك»[66].

قدّم للديوان الشيخ عبدالله العلايلي الذي وصفه سلامة بصديقه العليم، وقد اتَّخذ من بعض مؤلفاته مرجعًا في شرح الحوادث التاريخية مدوّنة في هامش الديوان، ومن جهته وصف العلايلي الديوان بالأثر الأدبي الفريد، وقال عن الإمام: إنه شاء أن يكون أكبر من إنسان.

ومن الديوان الذي عكس فيه سلامة نظراته عن الإمام وانطباعاته، نقتبس بعض الأبيات من بعض القصائد بحسب تتابع القصائد، فمن قصيدة «صلاة» التي افتتح بها سلامة ديوانه، نقتبس منها أبيات خاتمتها:

هات يا شعر من عيونك واهتف

باسم من أشبع السباسب ريَّا

باسم زين العصور بعد نبي

نور الشرق كوكبا هاشميَّا

باسم ليث الحجاز نسر البوادي

خير من هزَّ في الوغى سمهريَّا

خير من جلّل الميادين غارًا

وانطوى زاهدًا ومات أبيَّا

كان ربَّ الكلام من بعد طه

وأخاه وصهره والوصيَّا

بطل السيف والتُّقى والسجايا

ما رأت مثله الرماح كميَّا

يا سماء اشهدي ويا أرض قرِّي

واخشعي إنني أردت عليَّا[67]

ومن قصيدته «هجرة علي» نقتبس هاذين البيتين:

يا رمال الصحراء هذا علي

فاملئي الدرب والضفاف أزاهر

هو بعد النبي أشرف ظلٍّ

لاح في السبسب الحلي مهاجر[68]

ومن قصيدته «علي في يثرب» نقتبس آخر بيتين عن مؤاخاة النبي مع الإمام:

لم يوآخِ النبي غير علي

حفنة التِّبر أُدمجت بالنضار

حسدٌ جال في الصدور وهمسٌ

وعيون في حيرة وازورار[69]

ومن قصيدته «يوم الغدير» نقتبس هذه الأبيات على لسان النبي:

سوف ألقاكم على الحوض إذ

يأتي علي بكير كل بكير

أسأل المؤمنين كيف حفظتم

عفو آي القرآن أمر سفيري

لا تضلوا واستمسكوا بكتاب

الله بعدي بعترتي بالأمير[70]

ومن قصيدته «خلافة علي» نقتبس هاذين البيتين:

أزهد الناس منذ ما عرف

التاريخ زهدًا فخلد الزهّادا

يغمر الناس عدله بالعطايا

لا يرى أعبدًا ولا أسيادا[71]

ومن الخاتمة نقتبس هذه الأبيات:

يا إله الأكوان أشفق عليَّا

لا تُمتني غبّ العذاب شقيَّا

أولني أجر عامل في صعيد

الخير يبغي ثوابك الأبديَّا

مصدر الحق لم أقل غير حق

أنت أجريته على شفتيَّا

أنت ألهمتني مديح علي

فهمى رفرف البيان عليَّا

وتخيّرت للإمام وأهل البيت

قلبًا آثرته عيسويًّا[72]

ومن أبيات هذه القصيدة:

يا علي العصور هذا بياني

صغت فيه وحي الإمام جليَّا

أنت سلسلت من جمانك

للفصحى ونسقت ثوبها السحريَّا

يا أمير البيان هذا وفائي

أحمد الله أن خُلقت وفيَّا[73]

وآخر ما ختم به سلامة هذه الأبيات:

جلجل الحق في المسيحي حتى

عُدَّ من فرط حبِّه علويَّا

أنا من يعشق البطولة والإلهام

والعدل والخلاق الرضيَّا

فإذا لم يكن علي نبيًّا

فلقد كان خُلقه نبويًّا

أنت رب للعالمين إلهي

فأنلهم حنانك الأبويَّا

وأنلني ثواب ما سطرت كفي

فهاج الدموع في مقلتيَّا

سفر خير الأنام من بعد طه

ما رأى الكون مثله آدميَّا

يا سماء اشهدي ويا أرض قرِّي

واخشعي إنني ذكرت عليَّا[74]

أحدث هذا الديوان عند صدوره تموُّجات أدبية ظلّت تتّسع وتمتدّ في محيط المشرق العربي، فقد مثّل أول ملحمة عربية في العصر الحديث، ملحمة استوقفت انتباه الكثيرين لكونها اتّخذت من يوم الغدير عنوانًا لها، ومن الإمام علي وأهل البيت (عليهم السلام) موضوعًا ومدارًا، وتأكّدت مكانتها وتعاظمت حين جاءت من شاعر مسيحي كبير في منزلة بولس سلامة.

والمدهش في هذا الديوان أن صداه وتموُّجاته قد تخطّت ساحة النخب، وامتدّت ووصلت آثارها ساحة الناس العاديين، ومن أبلغ المواقف دلالة الحادثة التي ذكرها الشيخ عفيف النابلسي منقولة من مجلة الدبور اللبنانية، ومفادها أن «إسكافيًّا كان يدور على البيوت ليصلح الأحذية، وصدفة يصل إلى بيت الأستاذ سلامة، وتخرج الخادمة له ببعض الأحذية فيصلحها، وعندما أراد الخروج عرف أن هذا البيت لصاحب ملحمة الغدير، وكانت حديثة عهد بالولادة، فرفض أخذ الأجر، واجتمع بالأستاذ وقرأ له عن ظهر قلب ما حفظه من ملحمته، وقال بعدها الأستاذ سلامة: إذا كان الإسكافي عند الشيعة حافظًا للملاحم الأدبية، والمقامات والشعر لفحول الشعراء، كيف لا يستحقون أن يكونوا أولياء لعبقري العصور الإنسان الخالد علي بن أبي طالب»[75].

-6-
مخائيل نعيمة

دوّن الأديب مخائيل نعيمة المسيحي الأرثوذكسي نصًّا بديعًا عن الإمام (عليه السلام) يعادل في قوّته وتميّزه نصَّ صديقه الحميم جبران خليل جبران، ويكاد يتطابق معه من نواحي البيان اللغوي، والتصوير الفني، والانطباع الذاتي عن الإمام، فالإمام عند جبران في عظمته وحكمته وبلاغته هو الإمام عند نعيمة.

وثّق هذا النص وعرّف به جورج جرداق في موسوعته، مبرزًا قيمته الأدبية، ومشيدًا بحكمته البلاغية، معتبرًا أنه حلقة ذهبية في سلسلة الآراء الجليلة التي أطلقها نوابغ الفكر والروح عن الإمام، مادحًا نعيمة ومثنيًا عليه، واصفًا له بالأديب الفذّ، ونابغة الأسلوب الصافي، قائلًا عنه: إنه في تفكيره كما في أسلوبه «لا يبالغ ولا يغلو، ولا ينطق لسانه إلَّا بما يجيش به قلبه، فلكل كلمة تخطُّها يداه موضع لا تجوز كلمة غيرها فيه، ولكل رأي يُبديه معنى في فكره وقلبه واضح لا يغشاه إبهام كثير أو قليل»[76].

يرجع هذا النص ويؤرّخ له في النصف الثاني من خمسينات القرن العشرين، حين تواصل جرداق بالرسائل البريدية مع نعيمة في مهجره بالولايات المتحدة الأمريكية، مخبرًا له في رسالة عن عزمه تأليف كتاب عن الإمام، طالبًا رأيه عن الإمام، فتلقَّى منه رسالة وصفها جرداق بالشيِّقة، داعمًا له ومشجّعًا.

تكوّن هذا النص من مقطعين، وجاء في شكلين، الشكل الأول في صورة رسالة وصلت جرداق جوابًا عن سؤاله عن رأي نعيمة حول الإمام، الشكل الثاني في صورة تقديم خصَّ به نعيمة موسوعة جرداق بناء على طلبه.

الرسالة وصلت جرداق من الخارج، والتقديم وصله من الداخل بعد عودة نعيمة من مهجره إلى موطنه لبنان، واستقراره في بلدته بسكنتا بقضاء المتن الشمالي التابع لمحافظة جبل لبنان.

ما بين الرسالة والتقديم تعاضد في المبنى والمعنى، وتمازج في الروح، فهما بمثابة نص واحد لا تباين بينهما ولا اختلاف، يلتقيان ولا يفترقان، يقتربان ولا يبتعدان، وبينهما حلول واتّحاد، حلول الرسالة في التقديم، وحلول التقديم في الرسالة، واتحادها معًا، فالبيان هو البيان من حيث قوّته وروعته، والإمام هو الإمام من حيث عظمته وبصيرته، والصور هي الصور من حيث الفن والجمال.

في الرسالة دوّن نعيمة قائلًا: «تسألني رأيي في الإمام -كرَّم الله وجهه- ورأيي أنه من بعد النبي سيد العرب على الإطلاق بلاغة وحكمة، وتفهُّمًا للدين، وتحمّسًا للحق، وتساميًا عن الدنايا، فأنا ما عرفت في كل من قرأت لهم من العرب رجلًا دانت له اللغة مثلما دانت لابن أبي طالب، سواء في عظاته الدينية، وخطبه الحماسية، ورسائله التوجيهية، أو في تلك الشذور المقتضبة التي كان يطلقها من حين إلى حين، مشحونة بالحكم الزمنية والروحية، متوهّجة ببوارق الإيمان الحي، ومدركة من الجمال في البيان حدَّ الإعجاز، فكأنها اللالئ بلغت بها الطبيعة حدَّ الكمال، وكأنه البحر يقذف بتلك اللالئ دونما عنت أو عناء! ليس بين العرب من صفت بصيرته صفاء بصيرة الإمام علي، ولا من أوتي المقدرة في اقتناص الصور التي انعكست على بصيرته، وعرضها في إطار من الروعة هو السحر الحلال، حتى سجعه، وهو كثير، يسطو عليك بألوانه وبموسيقاه، ولا سطو القوافي التي تبدو كما لو أنها هبطت على الشاعر من السماء، فهي ما اتّخذت مكانها في أواخر الأبيات إلَّا لتقوم بمهمة يستحيل على غيره القيام بها، إنها هناك لتقول أشياء لا تستطيع كلمات غيرها أن تقولها، فهي كالغلق في القنطرة. إن عليًّا لمن عمالقه الفكر والروح والبيان في كل زمان ومكان»[77].

وفي التقديم دوّن نعيمة قائلًا: «لنا في حياة العظماء معين لا ينضب من الخبرة والعبرة والإيمان والأمل، فهم القمم التي نتطلّع بشوق إليها ولهفة، والمنارات التي تكشح الدياجير من أمام أرجلنا وأبصارنا، وهم الذين يجددون ثقتنا بأنفسنا وبالحياة وأهدافها البعيدة السعيدة، ولولاهم لتولانا القنوط في كفاحنا مع المجهول، ولرفعنا الأعلام البيض من زمان، وقلنا للموت: نحن أسراك وعبيدك يا موت، فافعل بنا ما تشاء. إلَّا أننا ما استسلمنا يومًا للقنوط، ولن نستسلم، فالنصر لنا بشهادة الذين انتصروا منّا، وابن أبي طالب منهم، وهم معنا في كل حين، وإن قامت بيننا وبينهم وهدات سحيقة من الزمان والمكان، فلا الزمان بقادر أن يخنق أصواتهم في آذاننا، ولا المكان بماح صورهم من أذهاننا.

وهذا الكتاب الذي بين يديك خير شاهد على ما أقول، فهو مكرّس لحياة عظيم من عظماء البشرية، أنبتته أرض عربية، ولكنها ما استأثرت به، وفجّر ينابيع مواهبه الإسلام، ولكنه ما كان للإسلام وحده، وإلَّا فكيف لحياته الفذة أن تلهب روح كاتب مسيحي في لبنان وفي العالم 1956، فيتصدَّى لها بالدرس والتمحيص والتحليل، ويتغنَّى تغنّي الشاعر المتيّم بمفاتنها ومآثرها وبطولاتها. وبطولات الإمام ما اقتصرت يومًا على ميادين الحرب، فقد كان بطلًا في صفاء بصيرته، وطهارة وجدانه، وسحر بيانه، وعمق إنسانيته، وحرارة إيمانه، وسمو دعته، ونصرته للمحروم والمظلوم من الحارم والظالم، وتعبّده للحق أينما تجلّى له الحق. وهذه البطولات، ومهما تقادم بها العهد، لا تزال مقلعًا غنيًّا نعود إليه اليوم وفي كل يوم، كلما اشتدَّ بنا الوجد إلى بناء حياة صالحة فاضلة...

إنه ليستحيل على أيِّ مؤرّخ أو كاتب، مهما بلغ من الفطنة والعبقرية، أن يأتيك حتى في ألف صفحة بصورة كاملة لعظيم من عيار الإمام علي، ولحقبة حافلة بالأحداث الجسام كالحقبة التي عاشها، فالذي فكّره وتأمّله وقاله وعمله ذلك العملاق العربي بينه وبين نفسه وربّه، لممًا لم تسمعه أذن ولم تبصره عين، وهو أكثر بكثير ممّا عمله بيده أو أذاعه بلسانه وقلمه، وإذ ذاك فكل صورة نرسمها له هي صورة ناقصة لا محالة، وقصارى ما نرجوه منها أن تنبض بالحياة. إلَّا أن العبرة في كتاب من هذا النوع، هي في تفحُّص ما اتّصل بنا من أعمال علي وأقواله، ثم في تفهُّمه تفهُّمًا دقيقًا عميقًا، ثم في عرضه عرضًا تبرز منه صورة الرجل كما تخيّله المؤلّف، وكما يشاؤك أن تتخيّله.

ويقيني أن مؤلّف هذا السفر النفيس، بما في قلمه من لباقة، وما في قلبه من حرارة، وما في وجدانه من إنصاف، قد نجح إلى حدٍّ بعيد في رسم صورة لابن أبي طالب، لا تستطيع أمامها إلَّا تشهد بأنها الصورة الحية لأعظم رجل عربي بعد النبي»[78].

-7-
سليمان كتاني

سجّل الأديب الماروني سليمان كتاني من بلدة بسكنتا حضورًا مميّزًا في تاريخ تطوّر الأدب اللبناني المسيحي بكتابه (الإمام علي نبراس ومتراس) الصادر سنة 1967م، مقدّمًا فيه لونًا أدبيًّا جديدًا، معتمدًا على التصوير الفني، والتخييل الأدبي، والتبيين البلاغي، مظهرًا براعة في البيان وسحرًا.

والمفارقة التي ميّزت كتاب كتاني ورفعت من رصيده الأدبي، كونه كتابًا فائزًا بالجائزة الأولى في مسابقة التأليف عن الإمام، وتأكّدت هذه المفارقة وتعاظمت بلحاظ عنصر المكان، فقد جرت المسابقة في مدينة النجف الأشرف التي تمثّل إلى المسلمين الشيعة أكبر حاضرة علمية وأدبية ماضيًا وحاضرًا.

ولم تكن هذه المسابقة بعيدة عن المؤسسة الدينية هناك المعروفة بقوة الدرس والبحث والتأليف، فقد جاءت من داخلها، متّصلة بها، ومتفاعلة معها، فرئيس لجنة المسابقة كان الشيخ مرتضى آل ياسين (1311-1397هـ/ 1894-1978م)، رئيس جماعة العلماء في النجف، ومن كبار علمائها.

من بين عشرين كتابًا وصل إلى لجنة المسابقة، فاز كتاب كتاني بالجائزة الأولى، وطبع في النجف على نفقة الجائزة التي تبنّاها الخطيب السيد جواد شبر، وموَّلها السيد هاشم شبر، معرّفًا في غلافه بالكتاب الذي أحرز الجائزة الأولى في مسابقة التأليف عن الإمام علي.

هذه العناصر متضافرة، الموضوع متمثّلًا في الإمام، المكان متمثّلًا في النجف، واللجنة متمثّلة في رئيسها الشيخ مرتضى آل ياسين، والفوز متمثّلًا في الجائزة الأولى، والكاتب متمثّلًا في أديب عربي مسيحي، تضافر هذه العناصر، أسهمت كثيرًا في لفت الانتباه لهذا الكتاب، ودعمت شهرته في المجال العربي، وبين أوساط المسلمين الشيعة على وجه الخصوص.

إلى جانب ذلك لقي الكتاب عند نشره احتفاء جاء من اثنين من رجالات النجف هما: العالم الكبير الشيخ مرتضى آل ياسين، والأديب الكبير جعفر الخليلي (1322-1406هـ/ 1904-1985م)، فقد دوّن الشيخ آل ياسين في الكتاب كلمة مقتضبة، ميّز فيها الكتاب ببيانه وأسلوبه، قائلًا: «وحسبه ميزة أن يبرز بهذا الأسلوب الرائع، الذي أقلّ ما يقال فيه أنه أسلوب بياني بديع، له من مقوّمات اللفظ وخصائص المعنى ما يجعله جديرًا بكل إعجاب وتقدير، ولعله في أسلوبه البلاغي أول كتاب في موضوعه جاء منسجمًا مع شخصية لها مثل نهج البلاغة»[79].

أما الأديب الخليلي فقد شارك بمقدّمة موسّعة كان سخيًّا فيها، جاءت بطلب ملحّ من مؤلّف الكتاب ومن ناشره، مع شدّة امتناعه واعتذاره في أول الأمر. مثّلت هذه المقدّمة نصًّا متينًا ورائعًا، سدّت نقصًا واضحًا في بنية الكتاب، ورفعت من وزنه، وأعطته قوّة فكرية إلى جانب قوّته الأدبية.

ختم الخليلي المقدّمة مادحًا المؤلف في ملكته الأدبية، ومزاجه الإنساني، وطينته الطيبة، قائلًا: «بهذه الروح وبهذا المزاج، وبدافع من الضمير الحي، كتب سليمان كتاني كتابه هذا، مصوّرًا فيه أفكار أديب اجتذبه الإمام علي من هذه النواحي التي سيمرّ عليها القارئ بل سيقف عندها القارئ، وقفة طويلة، وفي شيء كثير من الإعجاب»[80].

حاول كتاني في كتابه تجنُّب السرد الذي يقف عند حدود المكان والزمان، مفضّلًا طريقة أخرى أطلق عليها صيغة الأناشيد، معتبرًا أن لها نفحات تناسب ذكر الأولياء.

ممتنعًا عن السرد وحروفه المقفلة التي لا تنفذ إليها ألوان المعاني، ناقدًا كتاني حصر الإمام في مكان وزمان، ناظرًا إلى أن بطولة الإمام وعبقريته وجوهره هي عصيّة على الحرف، ومتخطّية تلك الأحداث التي برع فيها الساردون.

وتأكيدًا لهذا المعنى خصّص كتاني مدخل كتابه لبيان أن طريقة السرد لا تفي بحق الإمام، ولا تقدّمه بالصورة المثلى التي تعلو على الماضي وتعبر المكان والزمان، وتتخطّى الحوادث، وتتلوَّن بألوان المعاني، فالإمام في نظره «لم يأتِ دنياه بمثل ما يأتيها العاديون من الناس، جماعات جماعات، يأتي الناس دنياهم يقضون فيها لبانات العيش ثم عنها بحكم المقدّر يرتحلون، لا تغمرهم بعد آجالهم إلَّا موجة النسيان. أما هو فلقد أتى دنياه، أتاها وكأنه أتى بها، ولما أتت عليه بقي وكأنه أتى عليها، فإذا اكتفى الحرف فقط بأن يصوّره في الفسحة التي هي بين مهده ولحده، فإنه يكون كالآلة تأخذ مظاهر الأشياء دون بواطنها. وإن الفرق بعيد بين الباطن والظاهر، فعلي الذي ولد في مكة، وعاش ستة عقود، ثم مات في الكوفة، ليس عليًّا الذي تقمط الجزيرة ولا يزال يعيش مع أربعة عشر قرنًا دون أن يعرف خرقة الكفن»[81].

وعن نقده لطريقة السرد من جهة البيان، ومن جهة الحصر في خصوص الإمام، يرى كتاني أن «كل قول في علي بن أبي طالب يحصر في مكان أو زمان، يبقى حديثًا له قيمة السرد، ويبقى حروفًا مقفلة لا تنفذ إليها ألوان المعاني. وما أكثر الأقلام التي تناولته بهذا النوع من السرد الكليل، فحصرته ضمن الحروف، ولم تتمكّن من أن تطوف به في غير جوّ مكة والمدينة، كأن مجاله البعيد لا يمكن أن يتعدَّى دائرة تصطفّ عليها بدر وأحد أو خيبر وصفين، وكأن قوّته لا اعتبار لها إلَّا أن تكون من النوع الذي يأتي به مارد القماقم. الساردون إذ خلطوا بين القوة والبطولة، فاستبدلوا بالوصف هذه بتلك. والحقيقة أن بطولته هي التي كانت من النوع الفريد، وهي التي تقدر أن تقتلع ليس فقط بوابة حصن خيبر، بل حصون الجهل برمّتها، إذ تتعاجف لياليها على عقل الإنسان»[82].

لذلك حاول كتاني أن يهرب قدر الإمكان من كل سرد يتناول الأحداث بيبوستها، ومن حيث تسأم عن حواشيها المعاني، ولن يدخل محراب هذا الإمام الجليل إلَّا بإطراقة المبجّل، وصمت المتأمّل، وإصغاءة المسترشد، مغلّبًا على حديثه إليه صيغة الأناشيد ما تمكّن من ذلك قلمه، إذ إن للأناشيد نفحات لا يطيب حرفها إلَّا مع ذكر الأولياء.

وعملًا بصيغة الأناشيد قسّم كتاني كتابه إلى مجموعة مقاطع كثيرة وقصيرة، حملت عناوين أحداث وأسماء وقضايا، جرّدها كليًّا من التاريخ، فجاءت مفرغة من الأخبار والوقائع والحوادث، حضرت فيها نصوص الإمام وأقواله لكنها كانت قليلة، وغابت عنها نصوص الآخرين خصوصًا المعاصرين منهم، لم يعتنِ بالتوثيق في هوامش الكتاب تهرُّبًا من السرد.

تجلّت صيغة الأناشيد، بمناجاة ولج منها كتاني إلى ساحة الإمام، افتتحها قائلًا: «أصحيح يا سيدي أنهم بدل أن يختلفوا إليك اختلفوا فيك؟

فمنهم من فقدوك وما وجدوك،

ومنهم من فقدوك ثم وجدوك،

ومنهم من وجدوك ثم فقدوك،

إنه لعجب عجاب»[83].

من هذه الأناشيد نقتبس بعضًا من نظرات كتاني وانطباعاته عن الإمام، منها ما أشار إليه في حديثه عن منزلته من النبي ومحبته له، إذ كتب كتاني قائلًا: «كان علي بن أبي طالب من أحبهم إطلاقًا على قلب النبي، فهو ربيبه، رفيقه، مستشاره، ملازمه الدائم، أخوه، زوج ابنته التي هي أعز الناس عليه، فاطمة الزهراء، أبو الحسن والحسين من فاطمة، الذين انحصرت فيهما ذرية النبي، وهو أول المؤمنين، وأقوى المدافعين، وأشجع المناضلين، وأصمد المقتحمين، وأبلغ المحقّقين»[84].

ومن نظرات كتاني وانطباعاته ما أشار إليه عند حديثه عن منزلة الإمام من الرسالة قائلًا: «هو بالنسبة للرسالة كل الرسالة، في تأسيسها وفي طريقة المحافظة عليها، وفي نشرها وفي مجالات الدفاع عنها، وأن له أطول سلسلة من النعوت الكريمة يتحلّى بها، فهو قوّة وإرادة وشجاعة وبطولة وعقل ومعرفة وحق وعدالة ومثال وكمال، فأيّ شيء يحول دون تسليم الزمام إلى يد كريمة كهذه اليد التي يعزّ نظيرها في كل الجزيرة»[85].

ومن نظرات كتاني وانطباعاته كذلك ما أشار إليه عند حديثه عن شخصية الإمام ومثالية صفاته قائلًا: «إن عليَّ بن أبي طالب هو مثال العفة والصدق والنزاهة، ومثال القوة التي تسلّحت بالإيمان والحق والعدالة، فانطوت فيه تلك الإرادة الصلبة، وفاضت عليه تلك الشجاعة النادرة، واندفقت به تلك البطولة الخارقة، من حيث برزت شخصيته المثلى التي أحب أن يكون بها قدوة لبني قومه، في سبيل بناء الجزيرة ذلك البناء الأمثل»[86].

وآخر ما نختم به من نظرات كتاني وانطباعاته ما أشار إليه عند حديثه عن الضربة التي هوت على رأس الامام، معتبرًا أنها طعنة في صميم الكرامة الإنسانية، إذ كتب قائلًا: «ولكن الضربة التي هوت على رأس هذا العبقري... فإنها لا تزال تعتبر طعنة في صميم الكرامة الإنسانية، ووصمة على عصر يتنازل عن حقّه، تاركًا للأجيال شرف تقييم الرجل الذي أهملت تقديره، من حيث أصبح ابن أبي طالب أوسع واحة يهفو إليها عطش الإنسان، إذ يلهث به تجواله عبر العصور»[87].

-8-
نصري سلهب

تابع الأديب والدبلوماسي الماروني نصري سلهب هذا الدرب في ساحة الأدب اللبناني المسيحي، مقدّمًا كتابًا بديعًا بعنوان: (في خطى علي)، كشف فيه من جهة عن معرفة واسعة وعميقة بالإمام نصًّا وتاريخًا، كما كشف فيه من جهة أخرى عن فيض من الحب والعشق النبيل والشفّاف، مقدّمًا صورة عن الإمام تعدّ من أجمل الصور في تاريخ تطوّر النثر العربي الحديث.

يكفي لهذا الكتاب أن يشرح لنا وبكل وضوح لماذا تعلّق هؤلاء المسيحيون أدباء ومفكّرين بهذا المستوى من التعلُّق بالإمام، متخطّيًا الجانب الفكري الذي يلامس عالم الذهن، متوغّلًا إلى الجانب الوجداني الذي يلامس عالم القلب، مظهرين من التعظيم والتبجيل، ومن العاطفة والحب، كما لو أن الإمام كان مسيحيًّا!

كان بإمكان سلهب الذي كتب (في خطى المسيح) الصادر سنة 1970م، أَلَّا يكتب (في خطى محمد) الصادر سنة 1971م، متقيّدًا بحدود ديانته المسيحية، لكنه تخطَّى هذه الحدود عدلًا وإنصافًا، وكان بإمكانه أيضًا الاستغناء عن كتابه (في خطى علي) لأنه وصل إلى المثل الأعلى بين البشر، حين كتب عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، مع ذلك كتب عن الإمام كرمًا منه وحبًّا، مقدّمًا للإنسانية ثلاثة نماذج: المسيح ومحمد وعلي، هم القدوة والمثل في كل مكان وزمان.

جمع سلهب في كتابه عن الإمام ثلاث موازنات دقيقة، ميّزت الكتاب ورفعت من رصيده، فمن جهة جمع بين قوة المبنى وقوة المعنى، وجمع من جهة ثانية بين قوة العاطفة وقوة العقل، ومن جهة ثالثة جمع بين قوة التاريخ وقوة الفكر.

الموازنة الأولى تجلّت واضحة في الكتاب من البداية إلى النهاية، وسرت في جميع أقسامه ومواضيعه، فقوّة البيان واضحة عليه وكذلك قوة المعنى، فلا هو من نمط التأليفات التي يغلب عليها قوة البيان وتغيب عنها قوة المعنى، ولا هو من نمط التأليفات التي يغلب عليها قوة المعنى وتغيب عنها قوة البيان، وتتأكّد هذه السمة عند ملاحظة الجانب الكمي الذي قارب أربعمائة صفحة.

وبشأن الموازنة الثانية فقد حضرت العاطفة ومثّلت قوة إلى الكتاب، وحضر العقل كذلك ومثّل قوة، حضور قوة العاطفة ليس بحاجة إلى بيان، حيث تجلّت سيلًا متدفّقًا سرت في الكلمات والنصوص، فحين أراد سلهب أن يخاطب الإمام تحدّث قائلًا: «دعني وأنا المسيحي أقل لك: أنت في خاطري ووجداني، شعاع يضيء طريقي، أنت في ضمير الزمن تعيش، وفي ضمير الزمن ستبقى أبا الشهداء وأمير المؤمنين»[88].

وفي نص آخر تحدّث سلهب قائلًا: «دعني وأنا سائر في خطاك أقل لك القول الصريح، النابع من قلب جريح: أنا من بلاد الأجراس الحزينة والمآذن الصامتة! أنا من بلاد الكنائس الثكلى والمساجد المنطوية على الجراح، أنا من بلاد الكرامات المذبوحة تئن وتهمس في مسمع التاريخ همسات خافتات... أتيتك وأنا سائر في خطاك أستمد منك قبسًا يشعل فيَّ زيت الكبرياء، لعلِّي على نفسي أثور، وعلى ذاتي أنتصر، فأنتصر على عدو أذلني ودنّس أرضي واستباح الحرمات... فيا أبا الحسن فتّشت في الدنيا عن سرّ خلودك فلم أجد عند أهل الأرض جوابًا، ألعلك من أبناء السماء، أم لعل أهل الأرض ما استحقّوا أن تكون عليهم أميرًا، فسلخك الله عن قلوبهم فأدماها، ولا تزال إلى اليوم تتضوّر شوقًا إليك وحنينًا»[89].

ودلَّ حضور قوة العقل متجلّيًا في تماسك المعنى، وشجاعة التعبير عن الرأي، وتمثّل الإرادة الحرة، والتحليل الناضج للحوادث التاريخية.

أما الموازنة الثالثة فقوّة التاريخ ظهرت لكون أن موضوع الكتاب ينتمي إلى حقل التاريخ، وتوازنت هذه القوة بقوة الفكر، عابرة بالموضوع من الماضي إلى الحاضر، فالكتاب ليس كتاب تاريخ يتحدّد بهذا الحقل وينحصر عليه، ولا هو كتاب فكر يتحدّد بهذا الحقل كذلك وينحصر عليه، فقد حضر التاريخ ولم يغب الفكر، وحضر الفكر ولم يغب التاريخ.

ومن جهة النظرات والانطباعات عن الإمام، فالكتاب يعدّ ثريًّا ولامعًا، ويمتاز بوفرة كبيرة جاءت ممتدّة من أول الكتاب إلى نهايته.

من هذه النظرات والانطباعات ما أشار إليه سلهب حين تحدّث عن مولد الإمام قائلًا: «أبصر النور في الكعبة، وهي نعمة لم تقدّر لسواه من البشر... فإذا هو يستمد من مكان مولده طهرًا وقداسة لازماه مدى حياته، وإذا هو بعد كرّ السنين، يهوي شهيدًا في بيت آخر من بيوت الله! لكأن الله أبى إلَّا أن يهبه الحياة في مسجد، وأن يسترد منه الحياة في مسجد، فكان بيت الله نقطة انطلاقه، وكان بيت الله نهاية مطافه»[90].

ومن نظرات سلهب وانطباعاته ما أشار إليه عند حديثه عن إسلام الإمام، قائلًا: «وعلي ليس أول من أسلم فحسب، بل هو الوحيد بين رفاق الرسول الذي ولد مسلمًا قبل الإسلام، قبل أن ينشر ابن عمّه الدعوة. فأولئك الذين أسلموا في حياة النبي كانوا قبل ذلك مشركين عابدي أصنام... أما علي فما ضحَّى لهبل أو للات والعزّى، بل قدّر لروحه أن تنعم بطهر إيمان أُعدّت له أو أُعدَّ لها»[91].

ومن هذه النظرات والانطباعات ما أشار إليه سلهب عند حديثه عن نشأة الإمام وعلاقته بالنبي قائلًا: «لقد قدّر لعلي باعتراف الجميع، محبيه وقادريه، وغير محبيه وقادريه، ما لم يقدّر لسواه في المسلمين. لقد عاش مع النبي في بيت واحد، وغدا النبي بالنسبة إليه قدوة ومثلًا أعلى، وخير رجل في الأنام، وأوج الطموح عنده أن يتشبّه به، وأن ينحو نحوه، وكان له ما أراد، إذ إن النبي نفسه أعلن أكثر من مرة أن عليًّا أفضل المسلمين علمًا وفقهًا ومعرفةً وخلقًا، والأحاديث في هذا الصدد كثيرة لا ينكرها إلَّا ناكرو أشعة الشمس... فأيّ واحد من الصحابة رافق النبي وعايشه كما رافقه علي وعايشه؟ وأيّ واحد منهم لازم النبي دون انقطاع طوال سنين ثلاثين؟ أيّ واحد منهم تعهّده النبي وربّاه ونشّأه ودرجه وأضاء عقله وطريقه بنور المعرفة والعلم والهدى؟ أيّ شأن من الشؤون لم يُعطَ لعلي أن يعالجه؟ وفي أي مضمار من المضامير لم يجلّ»[92].

ومن نظرات سلهب وانطباعاته، ما أشار إليه عند حديثه عن تفوّق الإمام على أقرانه، قائلًا: «وإذا كانت الشمائل والفضائل والصفات والمزايا هي التي تسمو ببشر على آخر وتجعله أجدر بتولّي الأحكام، فمن من أولئك جميعًا يستطيع أن ينكر على ابن أبي طالب تفوّقه عليهم في تلك المجالات كلها؟

من له مثل بطولته وشجاعته؟

من له مثل علمه وفقهه؟

من له مثل إيمانه وزهده؟

من له مثل تقواه؟

من يدانيه في شرح القرآن وجلاء غوامضه؟

من له مثل حكمه؟

من له مثل جهاده في ساحات القتال؟

من نصر الإسلام كما نصره؟ بل من أخلص للنبي كما أخلص له؟

من منهم قال فيه النبي ما قاله فيه؟

... ولو تجمّع شانؤوه وفتّشوا أيامًا وسنين تحت عدسة المجهر، ليعثروا على كلمة قالها لم تكن تجسيدًا للصدق والنُّبل والشرف، بل تجسيدًا للشجاعة الأدبية وللحقيقة، معبّرة عن واقع عاشه، لما عثروا على شيء، فعلي مدرسة، بل عالم قائم بذاته، مجموعة قيم، قطعة من سماء شاء الله أن يرصع بها الأرض»[93].

وعن زهد الإمام تحدّث سلهب قائلًا: «والأخبار عن علي في الزهد وطهر الكفّ والضمير، تكاد تكون من دنيا الأساطير، ولسنا ندري ما إذا كان ناسجو الأساطير بوسعهم أن يجاورا عليًّا في واقعه وحقيقته، إنه بما قال وفعل لا بما نُسب إليه لأسطورة حيّة لا تُضاهيها جمالًا وروعةً جميع الأساطير التي جادت بها على البشر مخيّلات البشر»[94].

ورأى سلهب في الإمام المثال والقدوة قائلًا: «لقد كان المثال والقدوة، وسما حتى عجز الناس عن اقتفاء أثره والسير على خطاه.. منذ أن أبصر النور حتى أغمض عينيه عن النور موسوم بسمة العفة والزهد... في بيت الإيمان نشأ وترعرع، فنشأ معه وترعرع إيمان قلّما عمر به قلب إنسان... وراح يكبر ومعه يكبر العلم والحلم، حتى غدا مجموعة من قيم قلّما تجمّعت في بشر من غير الأنبياء... لقد كاد أن يكون أسطورة من أحلى الأساطير، وعلى المرء أن يفتّش كثيرًا في أروقة التاريخ ليعثر على بشر تحلّى بمثل تلك الصفات التي تجمّعت في ابن أبي طالب... وجعلت منه كائنًا غير عادي، ليس باستطاعة بشر أن يقف منه موقف اللامبالاة، أو أن يمرّ به دون أن يترك في نفسه أثرًا عميقًا لا يُمحى»[95].

وقد بلغ الإمام في نظر سلهب قمّة المستوى الإنساني، مجسّدًا صورة الإنسان، مصوّرًا هذا الجانب قائلًا: «بلغ علي قمّة المستوى الإنساني، فما هو بعربي يتحدّث إلى عرب، ولا بمسلم يحدّث مسلمين، إنما هو مفكّر مؤمن يخاطب البشر جميع البشر... أتحف الإنسانية بعطاء روحي وفكري قلَّ له نظير... وضع تقواه وبلاغته في خدمة البشر... لو نُشرت وقائع حياته على البشر حكّامًا وشعوبًا لكانت لهم أرقى مدرسة أخلاقية عرفها التاريخ»[96].

لهذا الانطباع يرى سلهب أن الإمام سكن ضمير الإنسان، وأصبح إلى الدنيا بأسرها واثقًا بهذا الرأي، متباهيًا به، مندفعًا بالحديث عنه، مقدّمًا نصوصًا أجاد فيها بلاغةً وبيانًا، معتبرًا أن الإمام «ليس لقوم دون آخرين، بل هو للدنيا بأسرها، لا زمان يحتويه ولا مكان. هو أمير المؤمنين جميع المؤمنين مسيحيين ومسلمين؛ لأنه عاش إيمانه في أعماقه والروح... هو من أولئك البشر الذين كُتب لهم أن يخلدوا، لا في خواطر العرب والمسلمين فسحب، بل في أعماق كل إنسان أيًّا وأنَّى كان. كل كلمة قالها تقرّب الإنسان من الإنسان، وترفعهما كليهما إلى الله، وكل عمل أتاه صدى لما أوصى به الرحمن في كتبه، في مجال الرحمة والتسامح والغفران، في الزهد والنسك، في الترفّع عن الدنيا، في طهر القلب والضمير، في نزاهة الكفّ، في الدّعة والتواضع ومحو الذات، في نبل الخلق وسموّ الروح، في الحلم والحكمة، في الصدق والشجاعة، في نصرة الحق و زهق الباطل، في الثورة على الشرّ من أجل الخير، وعلى الكفر من أجل الإيمان، وعلى الأرض من أجل السماء»[97].

وتأكيدًا لهذا المعنى الإنساني السامي يضيف سلهب قائلًا: «علي حي في خاطر كل إنسان، مقيم في ضمير كل إنسان، نابض مع قلب كل إنسان، تخطّى الزمان والمكان، والقومية والدين، وسما وارتفع حتى غدا ملك الإنسانية جمعاء؛ ذلك أنه تجسيد للإنسان المطلق... تقرأ سيرته فإذا طالعك خبر موته، أحسست بالألم يحزّ في نفسك كأنما الرجل ميّت منذ يوم، وإذا تتبّعت ما جرى له من أحداث بدت لك تلك الأحداث من بنات الحاضر، فإذا أنت شاهد عيان بل رفيق تعيش مع علي، وتمشي معه جنبًا إلى جنب تتألّم لألمه، تفرح لفرحه، تغضب لغضبه، ترضى لرضاه، تثور معه، تشاركه اختلاجات قلبه وضميره وخاطره... جعلت منه ذلك الإنسان الذي عجز الزمان، وإن طال عن تخفيف جذوة المحبة عند محبيه، وصخب الإعجاب عند المعجبين به»[98].

وآخر ما نختم به من نصوص سلهب البديعة ما ذكره متحدّثًا عن انتقال الإمام إلى الرفيق الأعلى قائلًا: «ولما انتقل إلى الرفيق الأعلى أدرك الناس أيَّ عظيم خسروا، ومهما أكرمه البشر بعد موته فلن يكفّروا عن آثام ارتكبوها بحقّه وهو على قيد الحياة، ولكنه من دنيا خلوده ينظر إلينا نظرة من عفا وغفر، فهو لنا جميعًا مشعل هدى، وستظلّ ذكراه عزاء لنا إلى منتهى الدهر»[99].

هذه كانت لمحات عن أبرز رواد الأدب اللبناني المسيحي الحديث، الذين دوّنوا نصوصًا عن الإمام (عليه السلام) يُضاف إليهم الأديب خليل فرحات صاحب ديوان (في محراب علي)، والأديب جورج شكور صاحب ديوان (ملحمة الإمام علي)، إلى جانب آخرين، وقد استثنيت الأديب جورج جرداق لأني أفردت له بحثًا مستقلًّا تقديرًا لعمله الموسوعي الكبير.

-9-
ملاحظات وتحليلات

بعد هذه الجولة الاستطلاعية التي تتبّعنا فيها آثار الأدباء اللبنانيين المسيحيين ونصوصهم المدوّنة عن الإمام علي (عليه السلام) بقيت الإشارة إلى بعض الملاحظات والتحليلات:

أولًا: تعدّدت في هذا الأدب المسيحي وتنوّعت الآثار ما بين نثر وشعر، لم تنحصر على نمط واحد تتضيّق به، فلا هي انحصرت على نمط النثر وتضيّقت به، ولا هي كذلك انحصرت على نمط الشعر وتضيّقت به.

كما أن هذه الآثار تفاوتت حجمًا وتنوّعت شكلًا، فعلى مستوى النثر تفاوتت حجمًا وشكلًا وتنوّعت ما بين مقالة صغيرة كالمقالات التي سطّرها بولس سلامة ونشرها في كتابه (حديث العشية)، وما بين كتاب وجيز على صورة كتاب سليمان كتاني (الإمام علي نبراس ومتراس)، وكتاب وسيط من ناحية الحجم على صورة كتاب نصري سلهب (في خطى علي)، وكتاب مطوَّل على صورة الموسوعة الكبيرة لجورج جرداق (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية).

وعلى مستوى الشعر حدث كذلك التفاوت حجمًا وشكلًا، ما بين قصيدة قصيرة ووسيطة ومطولة، قصيرة على صورة قصيدة (علي والحسين) لبولس سلامة، ووسيطة من ناحية الحجم على صورة ديواني (في محراب علي) لخليل فرحات، و(ملحمة الإمام علي) لجورج شكور، ومطوَّلة على صورة ديوان (عيد الغدير) لبولس سلامة.

وحدث تفاوت آخر من ناحية الشكل، تحدّد ما بين نوعين من القصيدة هما: القصيدة العمودية التي طبعت معظم القصائد، وقصيدة النثر التي تفرّد بها خليل فرحات في ديوانه المذكور.

هذا التنوّع ما بين النثر والشعر شاملًا المقالة والدراسة والكتاب والموسوعة، والقصيدة والملحمة، أكسب الأدب اللبناني المسيحي قوة وثراء، ظهر متجلّيًا في النواحي البيانية والبلاغية والجمالية والفكرية والتاريخية.

ثانيًا: في مسارات هذا الأدب هناك ثلاث محطات بارزة أسهمت في تطوّره والنهوض به، وحفّزت على الانتباه إليه، وأكسبته قدرة على البقاء، وعلى الديمومة والامتداد.

هذه المحطات الثلاث هي:

1- المحطة التي مثّلها بولس سلامة، وتحدّدت تاريخيًّا في النصف الثاني من أربعينات القرن العشرين وما بعدها، وتكمن أهمية هذه المحطة في جهتين: جهة لها علاقة بالتتابع، وجهة لها علاقته بالتفرّد.

في الجهة الأولى، حافظ سلامة على خاصية التتابع مقدّمًا ثلاثة أعمال جاءت متتابعة، تراوحت ما بين نثر وشعر، بدأها نثرًا بكتابة ثلاثة مقالات عن الإمام سبقت الإشارة إليها، وتابعها شعرًا بقصيدة (علي والحسين) سنة 1946م، وجاء بعدها ديوان (عيد الغدير) سنة 1949م.

في الجهة الثانية، تفرّد سلامة حين نشر ديوان (عيد الغدير) مقدّمًا أول ملحمة عربية، مسجّلًا بها حدثًا بات يؤرَّخ له ليس على مستوى تاريخ تطوّر الأدب اللبناني الحديث فحسب، وإنما على مستوى تاريخ تطوّر الأدب العربي الحديث، فقد كان سلامة مدفوعًا برؤية أن الشرق العربي كان فقيرًا إلى الملاجم.

بهذا التتابع والتفرّد، تمكّن سلامة من لفت الانتباه إليه، ومعزّزًا مكانته في تاريخ تطوّر الأدب اللبناني الحديث.

2- المحطة التي مثّلها جورج جرداق، وتحدّدت تاريخيًّا في النصف الثاني من الخمسينات وما بعدها، وتكمن أهمية هذه المحطة في النقلة النوعية الكبرى التي أحدثها جرداق ليس على مستوى الأدب اللبناني الحديث فحسب، وإنما متخطّيًا الأدب العربي الحديث وما بعده وما فوقه، حين أنجز عمله الكبير متمثّلًا في موسوعته الشهيرة (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية) مكوّنة من ستة أجزاء، عُدَّت -بشهادة الكثيرين أدباء ومفكرين وعلماء عربًا ومسلمين- أنها من أفضل ما دوّن عن الإمام في سيرة المتقدّمين والمتأخّرين، وقد ظلّت هذه الموسوعة وما زالت تثير الإعجاب والتقدير بيانًا وبلاغة، علمًا وفكرًا، أفقًا وبُعدًا، عدلًا وإنصافًا.

3- المحطة التي مثّلها سليمان كتاني صاحب كتاب (الإمام علي نبراس ومتراس)، وتحدّدت تاريخيًّا في النصف الثاني من الستينات وما بعدها، وتكمن أهمية هذه المحطة في جهتين: الأولى لها علاقة بعامل المناسبة، والثانية لها علاقة بعامل التتابع.

في الجهة الأولى، ارتبط كتاب كتاني بمناسبة مسابقة متخصّصة في التأليف عن الإمام، مكانها مدينة النجف الأشرف، كان فيها الكتاب الفائز بالجائزة الأولى، وأصبح يعرف بهذه الصفة، التي أكسبته شهرة تطاولت وتعاظمت بتعاضد عامل المكان متحدّدًا في مدينة شريفة موصوفة بهذه الصفة، هي النجف الأشرف مدينة العلم والأدب، ومدينة مرقد إمام الأئمة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام).

الجهة الثانية، بتأثير هذا الفوز تحفّز كتاني -على ما يبدو- معنويًّا وأدبيًّا في متابعة هذا الشأن، منخرطًا في مسابقات التأليف الخاصة عن أهل البيت (عليهم السلام) التي جرت في العراق ولبنان، وقد ظلّ الحظّ حليفه بالفوز في معظم هذه المسابقات، محرزًا الجائزة الأولى.

فقد فاز بها في مسابقة التأليف عن السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) التي جرت في مدينة النجف سنة 1968م، عن كتابه (فاطمة الزهراء وتر في غمد)، وفاز بها كذلك في مسابقة عن الإمام الحسن (عليه السلام) جرت في بيروت برعاية مؤسسة آل البيت، عن كتابه (الإمام الحسن الكوثر المهدر) نشر سنة 1989م، وهكذا عن الإمام الحسين (عليه السلام) في كتابه (الإمام الحسين في حلّة البرفير) نشر سنة 1990م.

واستمر كتاني في هذا النهج، متابعًا التأليف عن أئمة أهل البيت متباهيًا ومبتهجًا، ناشرًا عن ثلاثة آخرين من الأئمة، عن الإمام علي بن الحسين كتابًا بعنوان (الإمام زين العابدين عنقود مرصّع)، وعن الإمام محمد بن علي الباقر كتابًا بعنوان (الإمام الباقر نجيّ الرسول)، وعن الإمام جعفر بن محمد الصادق كتابًا بعنوان (الإمام جعفر الصادق ضمير المعادلات)، كما نشر قبل ذلك كتابًا عن النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) بعنوان (محمد شاطئ وسحاب) صدر سنة 1970م.

وبهذه الأعمال أصبح كتاني أول أديب مسيحي في تاريخ الأدب الإنساني القديم والحديث يتفرّد بهذا العدد من التأليفات عن أهل البيت (عليهم السلام).

ثالثًا: من يتتبّع هذا الأدب المسيحي ويتعرّف إليه يلمس فيه أجمل صورة تشكّلت عن الإمام في العصر الحديث، هي الصورة التي سوف يصل إليها كل من يتعرّف إلى الإمام بتجرّد وتعمّق مهما كانت ملّته ونحلته، مجتمعه وموطنه، لغته ولسانه، عرقه وقومه، فليس هناك من يضاهي الإمام في جمالية السيرة والصورة، وما الصورة إلَّا انعكاس لتلك السيرة المشعّة بالجمال التي سطّرها الإمام في حياته، وجعلت منه صاحب سيرة تفارقت عن جميع سير الآخرين وتعالت، فهي السيرة التي تطابقت تمامًا وتمازجت بسيرة النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).

كنّا نؤمن بهذه الصورة المتعاظمة الجمال عن الإمام، وكنّا نتباهى بها ونتفاخر، فجاء هؤلاء الأدباء المسيحيون وأكّدوا هذه الصورة بأنفسهم، وازدادت جمالًا بأدبهم الجميل.

ومن حسن الحظ أن جاء هذا التأكيد بذلك المستوى الجمالي البديع، من أولئك الأدباء المسيحيين الذين لا تربطهم بالإمام صلة الدين والمذهب، الأمر الذي يعني أن ما توصّلوا إليه كان بعيدًا عن تأثيرات المصلحة، وعن باقي التحيّزات الأخرى على اختلاف صورها وأنماطها.

رابعًا: من الملاحظ أن هذا الأدب المسيحي العلوي -نسبة إلى الإمام- لم يحظَ بالاحتفاء الذي يستحقه في الأدب العربي الحديث، ويكاد أن يكون مهملًا أو مجهولًا في النطاق العام، لا ذكر له ولا أثر، وهو على أهميته وحيويته لم يتحوّل إلى حقل دراسي، أو مادة للبحث، والقدر المنشور عنه يعدّ ضئيلًا جدًّا من ناحية الكم، ويكاد يكرّر نفسه من ناحية الكيف.

من جانب آخر، لا نجد حضورًا جادًّا لهذا النسق الأدبي على مستوى النص والتوثيق في الكتابات والتأليفات المنشورة عن الإمام، بل نراه غائبًا كليًّا في بعض الكتابات العربية، كما في كتابات المصريين وتأليفاتهم المنشورة عن الإمام، وهكذا الحال يتكرّر في مناطق عربية أخرى.

نلمس هذه الملاحظة، ونراها دالّة إما على إهمال وإما على جهل، بدل أن يُكافأ هذا النسق الأدبي بالترحيب والتقدير، وبالعناية والاهتمام، كونه جاء من أناس ينتمون لديانة أخرى غير الديانة الإسلامية هي المسيحية، وكون أن هؤلاء الأدباء يصنّفون على طبقة كبار الأدباء، ولأنهم اعتنوا بشخصية إسلامية عظيمة قلَّ نظيرها في التاريخ الإنساني، هي شخصية الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام).

خامسًا: لفت انتباهي أن هؤلاء الأدباء لم يذكّروا بعضهم ببعض مع علمهم بأعمال بعضهم بعضًا، فجورج جرداق لم يأتِ في موسوعته على ذكر بولس سلامة الذي سبقه بالحديث عن الإمام نثرًا وشعرًا، وتطرّق إلى جبران خليل جبران ومخائيل نعيمة مع أن نصوصهما كانت قصيرة جدًّا، بخلاف بولس سلامة الذي قدّم أول ملحمة عربية عن الإمام، وطافت شهرته الآفاق.

وصنّف سليمان كتاني كتابه (الإمام علي نبراس ومتراس)، ولم يأتِ على ذكر جميع السابقين عليه، بما فيهم جورج جرداق الذي ملأ بموسوعته السمع والبصر، وتكرّر الحال مع نصري سلهب في كتابه (في خطى علي) إذ لم يأتِ كذلك على ذكر أحد من أولئك السابقين مع تزايدهم وشهرتهم.

فقد غاب عن هؤلاء جميعًا الوعي أو الالتفات بأنهم يشتركون في بناء نسق أدبي يتّخذ من الإمام محورًا ومدارًا، وأنهم بآثارهم الفائقة الجمال قد قدموا أعظم سردية في تاريخ السرديات الحديثة المدوّنة عن إمام الأئمة علي بن أبي طالب (عليه السلام).



[1] أمين نخلة، كتاب المئة، بيروت: الدار الإسلامية، 2002م، ص12.

[2] بولس سلامة، عيد الغدير، بيروت: مطبعة النسر، 1949م، ص70.

[3] رشاد بولس سلامة، مآثر الإمام علي بن أبي طالب والإمام الحسين في وجدان بولس سلامة، بيروت: دار الحمراء، ص6.

[4] جورج جرداق، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، قم: ذوي القربى، ص513-515.

[5] مجموعة كتاب، نهج البلاغة والفكر الإنساني المعاصر، دمشق: المستشارية الثقافية الإيرانية، 1993م، ص219.

[6] نصري سلهب، في خطى علي، بيروت: دار الكتاب اللبناني، 1973م، ص322-323.

[7] لويس صليبا، الحوار المسيحي الإمامي متى ولماذا؟ لبنان: صفحة دار ومكتبة بيبلون.

[8] جورج جرداق، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، مصدر سابق، ص965.

[9] جورج جرداق، حوار مع مجلة المنبر.

[10] جورج جرداق، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، ص164.

[11] جورج جرداق، المصدر نفسه، ص947.

[12] جورج جرداق، حوار مع مجلة المنبر.

[13] محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، ج35، ص322.

[14] جورج جرداق، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، ص72.

[15] بولس سلامة، حديث العشية، بيروت: دار الحضارة، 1963م، ص293.

[16] جورج جرداق، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، ص45.

[17] جورج جرداق، المصدر نفسه، ص12.

[18] جورج جرداق، المصدر نفسه، ص33.

[19] جورج جرداق، المصدر نفسه، ص17-18.

[20] سليمان كتاني، محمد شاطئ وسحاب وبقية كتبه، بيروت: دار المرتضى، 1990م، ص732.

[21] سليمان كتاني، الإمام علي نبراس ومتراس، قم: نشر أديان، ص259.

[22] نصري سلهب، في خطى علي، مصدر سابق، ص275.

[23] نصري سلهب، المصدر نفسه، ص341، 287، 302، 323.

[24] نصري سلهب، المصدر نفسه، ص349.

[25] لويس صليبا، الحوار المسيحي الإمامي متى ولماذا؟ مصدر سابق.

[26] جورج جرداق، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، ص948.

[27] انظر: حسين شمص، حياة الشاعر المسيحي بولس سلامة، صفحة شفقنا.

[28] سمير عطا الله، شعراء علي، بيروت: صحيفة النهار، 12 يناير 2014م.

[29] ولاء إبراهيم حمود، جورج جرداق في حوار حول الإمام علي، صفحة مركز العراق الجديد للإعلام والدراسات، يوليو 2011م.

[30] جورج جرداق، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، ص952.

[31] جورج جرداق، المصدر نفسه، ص952.

[32] جورج جرداق، المصدر نفسه، ص953.

[33] جورج جرداق، المصدر نفسه، ص951.

[34] لويس صليبا، الحوار المسيحي الإمامي متى ولماذا؟ مصدر سابق.

[35] محمد العباس، كتاب النبي.. جبران والإمام علي ترجمة أم تناص، بيروت: مجلة الكلمة، السنة الثانية، العدد السابع، ربيع 1995م/ 1415هـ، ص168.

[36] محمد العباس، المصدر نفسه، ص172.

[37] موسوعة جبران خليل جبران المعربة، بيروت: الدار النموذجية، 2017م، ص107.

[38] أمين نخلة، كتاب المئة، مصدر سابق، ص11.

[39] انظر: راجي أنور هيفا، الإمام علي في الفكر المسيحي المعاصر، بيروت: دار العلوم، 2005م، ص569.

[40] بولس سلامة، حديث العشية، مصدر سابق، ص281.

[41] بولس سلامة، المصدر نفسه، ص286.

[42] بولس سلامة، المصدر نفسه، ص293، 294، 297.

[43] بولس سلامة، علي والحسين، النجف: مطبعة دار النشر والتأليف، 1949م، ص2.

[44] بولس سلامة، المصدر نفسه، ص2.

[45] بولس سلامة، المصدر نفسه، ص2.

[46] بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق، ص12.

[47] بولس سلامة، المصدر نفسه، ص13.

[48] بولس سلامة، المصدر نفسه، ص16.

[49] بولس سلامة، المصدر نفسه، ص19.

[50] بولس سلامة، المصدر نفسه، ص14.

[51] بولس سلامة، علي والحسين، ص5.

*    قد تكون ملحمة بولس سلامة أول ملحمة عربية، لكنها ليست أول ملحمة عن الإمام علي، فقد سبقه الأديب الحلبي المسيحي عبدالمسيح الأنطاكي (1291-1341هـ/ 1874-1923م)، الذي نشر في مصر سنة 1920م ملحمة شعرية بعنوان: (ملحمة الإمام علي)، بلغ عدد أبياتها ما يزيد على خمسة آلاف بيت، فهي أكبر من عدد أبيات ملحمة بولس سلامة.

[52] بولس سلامة، عيد الغدير، ص23.

[53] بولس سلامة، المصدر نفسه، ص23.

[54] رشاد بولس سلامة، مآثر الإمام علي بن أبي طالب والإمام الحسين في وجدان بولس سلامة، مصدر سابق، ص5.

[55] رشاد بولس سلامة، المصدر نفسه، ص7.

[56] بولس سلامة، علي والحسين، ص2.

[57] رشاد بولس سلامة، مآثر الإمام علي بن أبي طالب والإمام الحسين في وجدان بولس سلامة، ص6.

[58] بولس سلامة، عيد الغدير، ص24.

[59] بولس سلامة، عيد الغدير، ص24.

[60] بولس سلامة، المصدر نفسه، ص25.

[61] بولس سلامة، المصدر نفسه، ص25.

[62] بولس سلامة، المصدر نفسه، ص25.

[63] بولس سلامة، المصدر نفسه، ص26.

[64] بولس سلامة، المصدر نفسه، ص27، 28.

[65] بولس سلامة، المصدر نفسه، ص28.

[66] بولس سلامة، المصدر نفسه، ص28.

[67] بولس سلامة، المصدر نفسه، ص34.

[68] بولس سلامة، المصدر نفسه، ص68.

[69] بولس سلامة، المصدر نفسه، ص72.

[70] بولس سلامة، المصدر نفسه، ص129.

[71] بولس سلامة، المصدر نفسه، ص60.

[72] بولس سلامة، المصدر نفسه، ص311.

[73] بولس سلامة، المصدر نفسه، ص314.

[74] بولس سلامة، المصدر نفسه، ص317.

[75] الشيخ عفيف النابلسي، الأدباء المسيحيون في لبنان والإمام علي، صفحة نهج البلاغة.

[76] جورج جرداق، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، ص953.

[77] جورج جرداق، المصدر نفسه، ص954.

[78] جورج جرداق، المصدر نفسه، ص17، 18.

[79] سليمان كتاني، الإمام علي نبراس ومتراس، ص7.

[80] سليمان كتاني، المصدر نفسه، ص72.

[81] سليمان كتاني، المصدر نفسه، ص82.

[82] سليمان كتاني، المصدر نفسه، ص84.

[83] سليمان كتاني، المصدر نفسه، ص79.

[84] سليمان كتاني، المصدر نفسه، ص97.

[85] سليمان كتاني، المصدر نفسه، ص164.

[86] سليمان كتاني، المصدر نفسه، ص173.

[87] سليمان كتاني، المصدر نفسه، ص259.

[88] نصري سلهب، في خطى علي، ص32.

[89] نصري سلهب، المصدر نفسه، ص20، 27.

[90] نصري سلهب، المصدر نفسه، ص62، 63.

[91] نصري سلهب، المصدر نفسه، ص35.

[92] نصري سلهب، المصدر نفسه، ص97.

[93] نصري سلهب، المصدر نفسه، ص75، 296.

[94] نصري سلهب، المصدر نفسه، ص371.

[95] نصري سلهب، المصدر نفسه، ص302، 304، 308، 359، 360.

[96] نصري سلهب، المصدر نفسه، ص275، 323، 327، 353.

[97] نصري سلهب، المصدر نفسه، ص341، 352.

[98] نصري سلهب، المصدر نفسه، ص349، 350.

[99] نصري سلهب، المصدر نفسه، ص44.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة