تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الإسلام ونبذ الكراهية

محمد محفوظ

الإسلام ونبذ الكراهية

 

محمد محفوظ

موجز

من الناحية الواقعية والمنهجية ثمَّة علاقة عميقة بين ظاهرة التكفير وظاهرة العنف في الاجتماع الإنساني. بمعنى أن التكفير -بوصفه موقفًا عقديًّا وثقافيًّا ونفسيًّا من الآخر المختلف والمغاير- يقود على مستوى الفعل والممارسة العملية إلى كره الآخر لأسباب دينية، وهذا الكره يُفضي إلى استخدام العنف ضد المكفَّر سواء كان فردًا أو جماعة. فالعلاقة في أحد جوانبها بين التكفير والكراهية هي علاقة السبب بالنتيجة. وتحاول هذه الدراسة سبر وتفكيك ظاهرة التكفير في الاجتماع الإسلامي المعاصر، عن طريق تفكيك ظاهرة الكراهية بين البشر لأسباب دينية. وعلى مستوى النص القرآني ليس هناك علاقة بين التكفير والقتال أو استخدام العنف؛ فالكفر ليس سببًا موجبًا للقتل والقتال، وبالتالي هناك مسافة بين ظاهرتي الكفر والعنف. وما تشهده بعض البلدان الإسلامية من ممارسة العنف العاري ضد المختلف المذهبي أو المغاير الديني يقودنا إلى أهمية دراسة وتفكيك ظاهرة الكراهية كخطوة أولى في سبيل دحض كل المتواليات النفسية والعملية المترتّبة عليها.

مفتتح

لعل من الظواهر الإنسانية الثابتة -التي تتطلّب قراءة عميقة لمعرفة العوامل والأسباب المفضية إليها، والطرق المناسبة لتجاوز التأثيرات السلبية والمدمرة لهذه الظاهرة، أو التقليل من حدوثها وبروزها في الفضاء الإنساني- هي ظاهرة الكراهية والعداء والعداوة بين بني الإنسان؛ حيث تشترك عوامل عدّة، موضوعية وذاتية، داخلية وخارجية، في بروز حالة العداء والعداوة بين الإنسان وأخيه الإنسان. وفي إطار سعينا الحثيث في إرساء ثقافة الحوار والتسامح وحقوق الإنسان في فضائنا الاجتماعي، من الأهمية بمكان، تفكيك هذه الظاهرة، ومعرفة العوامل المباشرة لحدوثها، وما هي الكيفية أو الآليات المناسبة للتقليل منها في فضائنا الاجتماعي والوطني. فهل من الطبيعي أن يقود الاختلاف الأيديولوجي أو السياسي إلى العداوة والكراهية؟ أم أن هناك عوامل وأسبابًا أخرى، تتدخّل في هذا الأمر، فتحوّل الاختلافات بكل مستوياتها إلى مصدر من مصادر العداوة والكراهية. إننا بحاجة ماسة اليوم إلى قراءة هذا الواقع، وإزالة كل موجبات الكراهية والعداوة من فضائنا الاجتماعي.

وذلك لأنه حينما يسود العداء الواقع الاجتماعي فإن الأخطار الحقيقية تتلاحق علينا، ولا يمكن بأيِّ حال من الأحوال أن تستقر أحوالنا وأوضاعنا ونحن نحتضن ثقافة تدفعنا إلى ممارسة الكراهية ضد الآخر المختلف عنّا والمغاير لتصوّراتنا وقناعاتنا؛ وذلك لأن هذه الثقافة -بتأثيراتها وانعكاساتها- قادرة شحن النفوس بشكل سلبي ضد الآخر المختلف والمغاير.

والسلوك العدواني هو في جوهره حالة نفسية سلبية ضد الآخر بحيث تنفيه وترفضه في وجوده ونفسه أو في موقعه ومنصبه أو في مصالحه وعلاقاته، وتتحرّك نحوه بطريقة عدوانية - تدميرية. والعلاقة جدُّ قريبة بين الثقافة التي تؤسّس لمقاولات الإكراه والإلغاء والنفي، والسلوك العدواني تجاه الآخر. فالثقافة التي لا ترى إلَّا ذاتها وتلغي ما عداها هي المقدّمة النظرية لذلك السلوك العدواني الذي لا يرى إلَّا قناعاته ومصالحه، ويعمل على تدمير الآخر بمستويات متعدّدة.

فالعلاقة بين الثقافة التي تبثّ الكراهية بين بني الإنسان لدواعي أيديولوجية أو سياسية والسلوك العدواني بكل مستوياته الذي يستهدف تدمير الآخر وإلغاءه هي علاقة السبب بالنتيجة. فلا يمكن أن تنتج ثقافة الكراهية والبغضاء والإلغاء واقع المحبة والألفة والتسامح، بل تنتج واقعًا من سنخها ومن طبيعة ماهيتها وجوهرها، وهو العدوان بكل صوره ومستوياته.

فالسلوك العدواني هو عبارة عن فكرة في العقل وغريزة في النفس وممارسة تدميرية والغائية في الواقع والموقف؛ لذلك نجد أن المجال الإسلامي المعاصر يعيش هذه المحنة في صور ومستويات متعدّدة. فالأفكار والأيديولوجيات التي تلغي الآخر المختلف والمغاير، ولا تعترف بحقوقه، فإنها أوصلتنا في المحصّلة النهائية إلى انتشار ظاهرة العنف والتطرّف والإرهاب. والتي تعمل على معالجة خلافاتها مع الآخرين عن طريق استخدام القوة العارية، فتحسم اختلافاتها عن طريق ممارسة القهر والعنف.

والمشروعات السياسية التي سادت في مجالنا الإسلامي بصرف النظر عن أيديولوجيتها وشعاراتها، والتي كانت تحمل مضمونًا سيّئًا من الآخر قادتنا هذه المشروعات وأوصلتنا إلى أنها تحوّلت إلى مصدر من مصادر العدوان والعنف في الواقع الاجتماعي والسياسي. فالمشروعات الأيديولوجية والسياسية التي لا تحمل موقفًا حضاريًّا وتعدديًّا من الآخر المختلف والمغاير، فإنها ساهمت بشكل أو بآخر في نشوء ظاهرة العدوان والعنف والتطرّف، فالذي يرفض الآخر على مستوى الشعور والفكر هو الذي يؤسّس للحرب وممارسة العنف تجاهه في الواقع الخارجي.

لذلك فإن المدخل الحقيقي لعلاج ظاهرة العنف والعدوان في الفضاء الاجتماعي، هو إعادة تأسيس العلاقة والموقف من الآخر المختلف والمغاير. فالأنا لا تقبض على كل الحقيقة، والآخر ليس شرًّا وباطلًا بالمطلق. إن تأصيل هذه الحقيقة هو الذي يزيل من نفوسنا وعقولنا كل المسوّغات النظرية والنفسية لمعاداة الآخر باعتباره مخالفًا لنا في الأيديولوجية أو الموقف الثقافي أو السياسي.

فالآخر هو مرآة ذواتنا، وإذا أردنا أن نتعرّف إلى خبايا وخفايا ذواتنا فعلينا أن نتواصل مع الآخر، فهو مرآتنا التي نكتشف من خلالها صوابية أفكارنا أو خطئها، سلامة تصوّراتنا أو سقمها.

لهذا كلّه فإن إعادة تأسيس العلاقة بين الذات والآخر على أسس القبول بالتعدّدية والاعتراف بحق الاختلاف ونسبية الحقيقة، هو الذي يزيل من ذواتنا وفضائنا الاجتماعي الكثير من موجبات العدوان على الآخرين.

فك الارتباط

الاختلاف الأيديولوجي أو السياسي أو الثقافي ليس مدعاة لانتهاك حقوق الآخرين، بل على العكس من ذلك تمامًا، حيث إن الاختلاف بكل مستوياته ينبغي أن يقود إلى التواصل والتعارف ومعرفة الآخرين على مختلف المستويات؛ إذ يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}[1]. فإلغاء الخصوصيات لا يمثل نهجًا واقعيًّا في التعاطي مع الواقع؛ لأن الإلغاء من أيِّ طرف كان لا يغيّر شيئًا من المسألة في طبيعتها الذاتية، أو من تأثيراتها الموضوعية، باعتبار أنها تمثّل بُعدًا في عمق الذات، لا مجرّد حالة طارئة على الهامش، مما يجعل من مسألة الإلغاء مشكلة غير قابلة للحل.. والرؤية القرآنية تؤكّد على ضرورة أن تحرّك الخصوصية في دائرتها الداخلية في الجانب الإيجابي الذي يدفع الإنسان للتفاعل عاطفيًّا وعمليًّا مع الذين يشاركونه هذه الخصوصية في القضايا المشتركة، ويبقى التعارف غاية إنسانية من أجل إغناء التجربة الحية المنفتحة على المعرفة المتنوّعة والتجربة المختلفة للوصول إلى النتائج الإيجابية في مستوى التكامل الإنساني.

ويقول عزّ من قائل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ، وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[2].

فحينما يختلف الناس في مواقع الفكر أو في مواقع الحياة الخاصة والعامة، فتثور المشاعر، وتتعقّد المواقف، حتى تتحوّل إلى خطر كبير على العلاقات الإنسانية في المجتمع، عندما يتّجه الموقف إلى الصدام الذي يهدّد الجميع، ويقطع التواصل في أفراده؛ فهناك أسلوب السيئة الذي يعمل على إثارة الانفعال الذي يتحرّك بالحقد والعداوة والبغضاء ويدفع بالموقف إلى القطيعة والصراع، وذلك بالكلمة الحادّة والنابية، والموقف الغاصب، واليد المعتدية.

وهناك أسلوب الحسنة الذي يعمل على تحريك الموقف والرؤية على أساس الدراسة العقلانية - الموضوعية لكل المفردات المتناثرة في ساحة الأفكار والمواقع والمواقف ومحاولة اكتشاف العناصر والمفردات الداخلية والخارجية التي تضيّق الهوّة بين هذا الموقف أو ذاك، أو تردمها، وتجمع العقول والقلوب على قاعدة فكرية وحياتية واحدة، وذلك بالكلمة الطيبة والنظرة الحانية والموقف الموضوعي واليد المصافحة والالتفاف على كل المشاعر السلبية بالمشاعر الإيجابية التي يختزنها الفكر والواقع.

فـ{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} ليتحوّل العدو إلى صديق، والبعيد إلى قريب، والخصم إلى رفيق، وذلك لأن الإيمان يفرض على الإنسان أن يختار الأحسن في حركة العلاقات، كما يريده اختيار الأحسن في حركة الحياة.

ولعل هذا الهدف يحتاج إلى الكثير من الجهد النفسي والفكري والعملي، الذي يتجاوز الكثير من الضغوط الداخلية والخارجية التي تريده أو تقوده إلى الاستسلام إزاء المشاعر الانفعالية والعدوانية؛ لذلك يقول تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا}[3] على مشاعر الحرمان التي يفرضها الانفتاح على الآخرين، في مجاهدة النفس ضد رغباتها الذاتية الضيقة، وضد نزواتها العشوائية، وعلى بعض الأوضاع الصعبة التي قد تحصل للإنسان من خلال ذلك، وعلى الوقت الطويل الذي يحتاجه الفكر الموضوعي - المتّزن للوصول إلى الحلول العملية التي تتناسب مع طبيعة المشاكل الموجودة في الساحة.. {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[4] من الإيمان والوعي والإنسانية النابضة بكل معاني الخير والإحسان.

إن وأد ثقافة الكراهية من مجتمعنا وفضائنا الوطني، بحاجة إلى إعادة الاعتبار إلى الآخر وجودًا ورأيًا ومشاعر، حتى يتسنّى للجميع صياغة العلاقة بين الذات والآخر، بين مكوّنات المجتمع وتعبيرات الوطن المتعدّدة على أسس الاعتراف بحق الآخر في التعبير عن وجوده وأفكاره بعيدًا عن ضغوط الإكراه وموجبات النفي والإلغاء.

فالاختلاف مهما كان حجمه لا يشرع للحقد والبغضاء وممارسة العدوان الرمزي والمادي، بل يؤسّس لضرورة الوعي والمعرفة بالآخر. وعيًا يزيل من نفوسنا الأدران والأحقاد والهواجس التي تسوّغ لنا -بشكل أو بآخر- معاداة المختلفين معنا.

ومعرفة تضيء كل محطّات العلاقة بمستوياتها المتعدّدة، وتحول دون إطلاق الاتهامات الجوفاء والشعارات الصفراء. إننا اليوم -وفي ظل الأوضاع الحرجة التي نعيشها على أكثر من صعيد- أحوج ما نكون إلى تلك الثقافة التي تدفعنا إلى تجسير الفجوة مع المختلفين معنا، وتحثّنا على التعارف والتواصل والتفاهم والحوار المستديم، وتلزمنا باحترام الإنسان وحقوقه. وإلى تلك المبادرات الاجتماعية والسياسية التي تستهدف إزالة كل ما من شأنه أن يشين إلى بعضنا بعضًا، ويعمّق أواصر التلاقي والمحبة، ويجذّر خيار التعايش والسلم الأهلي.

فلتتكاتف كل الجهود والطاقات والإمكانات من أجل الخروج من شرنقة التعصّب الأعمى إلى رحاب التواصل والحوار، ومن ضيق التطرّف والغلو إلى سعة الرفق والتيسير، ومن دائرة الجمود المميتة إلى فضاء التجديد والاجتهاد والكدح المتواصل من أجل الحق والحقيقة.

إن الظروف الحسّاسة التي نعيشها تتطلّب منا جميعًا الانعتاق من أسر الجمود والتعصّب والأنانية القاتلة، وذلك حتى نتمكّن من مجابهة هذه الظروف والتحديات التي تستهدفنا جميعًا.

فلنأخذ جميعًا بأسباب العدالة في تعاملنا مع الآخرين، في نطاق الرؤية التي تقول: عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به.

الحرية الدينية

ثمّة علاقة دقيقة وعميقة تربط بين قدرة الإنسان على التفكير واستقلاله فيه، وبين قيمة الحرية وممارسة مقتضياتها.

فالإنسان الذي يمتلك إمكانية التفكير المستقلّ، هو ذلك الإنسان الذي يستطيع استعادة حريته وإنسانيته، ويستثمر طاقاته وإمكاناته في سبيل تكريس نهج الحرية في الواقع الإنساني. فاستعادة الحرية بكل متطلّباتها وآفاقها تبدأ من الإنسان نفسه، فهو الذي يقرّر قدرته على التحرّر والانعتاق أو خضوعه واستغلاله واستعباده من قبل مراكز القوى. وذلك لأن التفكير السليم هو الشرط الأول للقوة في الحياة. من هنا ركّز القرآن الحكيم على أن الإيمان بالله يُعطي صاحبه التحرّر، والتحرّر يُعطيه القوة (التمسّك بالعروة الوثقى) والعلم (يخرجه من الظلمات إلى النور). ولكن أيّ إيمان هذا الذي يُعطينا القوة والعلم. إنه الإيمان الواعي لا الإيمان المكره عليه فهو الآخر نوع من الاستعباد والخضوع للقوة المادية.

من هنا تحدّث القرآن في بداية الحديث عن الحرية الدينية وقال: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}[5]. فجذر الحرية هو أن يتحرّر الإنسان من كل الضغوطات والأهواء والشهوات، التي تدفعه إلى الانسياق وراءها. فحينما يغمر الإيمان بالله عزَّ وجلَّ قلب الإنسان، ويتواصل بحب واختيار مع القدرة المطلقة، تنمو لديه القدرة على الانعتاق من كل الأشياء التي تناقض حرية الإنسان. فطريق الحرية الإنسانية الحقيقة يبدأ بالإيمان والعبودية المطلقة للباري عزَّ وجلَّ؛ وذلك لأن كل الأشياء حاضرة عنده، لا يغيب شيء منها عن علمه؛ لأن الأشياء مكشوفة لديه، فلا مجال لاختباء الإنسان عن الله في أيِّ عمل يُخفيه، أو سرّ يكتمه، أو خطأ يستره؛ لأن الإخفاء والكتمان والستر معانٍ تلتقي بالحواجز المادية التي تحول بين الشيء وبين ظهوره ممّا لا مجال لتصوّره في ذات الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور.

ولعل هذا الإحساس هو الذي يتعمّق في وعي الإنسان من حركة إيمانه فيمنعه عن الجريمة الخفية، والمعصية المستورة، والنيات الشريرة التي تتحفّز للاندفاع والظهور.

من هنا وقفت النصوص القرآنية ضد الإكراه والسيطرة، ودعت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى التحرك في أجواء الإبلاغ والإقناع وحركة حرية الفكر والتعبير، إذ قال تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}[6].

وقال عز من قائل: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ}[7]، وقال تبارك وتعالى: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[8].

وقد تحدّث الأستاذ (جودت سعيد) في كتابه (لا إكراه في الدين - دراسات وأبحاث في الفكر الإسلامي) عن مجموعة من الفوائد من آية {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، منها:

1- أنها في ظاهرها حماية للإنسان الآخر من أن يقع عليه الإكراه من قبلك، ولكنها في باطنها حماية لك أيضًا من أن يقع عليك الإكراه، فهي حماية للآخر وحماية للذات من أن يقع على كل منهما الإكراه.

2- يمكن فهم هذه الآية على أنها إخبار وليس إنشاء، أي يمكن أن تفهم على أنها نفي وليست نهيًا، ويكون بذلك معناها إخبارًا بأن الدين الذي يُفرض بالإكراه لا يصير دينًا للمكره فهو لم يقبله من قلبه، والدين في القلب وليس في اللسان. فهي بهذا الشكل إخبار بأن الدين لا يتحقّق بالإكراه ومن يكره إنما يقوم بعمل عابث لا أصل له.

هذا معنى الآية حينما نفهمها على أنها إخبار وليس انشاءً أو أمرًا، كما يمكن أن نفهم الآية على أساس الإنشاء، أي أن تُفهم على أنها نهي عن الإكراه؛ لأنه لا يليق بالعاقل أن يقوم بعمل عابث، ولأن فرض الإيمان والدين بالإكراه عبث فجدير أن ينهانا الله عنه، فيكون المعنى نهيًا عن ممارسة الإكراه للآخر، ونهيًا أيضًا لنا عن أن نقبل الإكراه والخضوع له.

فرشد الإنسان فردًا ومجتمعًا، هو من جرّاء التزامه بحريته واحترامه التام لحريات الآخرين. فحينما تنتفي كل الضغوطات والإكراهات، يتحقّق مفهوم الرشد في الواقع الخاص والعام.

فالحرية بكل ما تحمل من معانٍ إنسانية نبيلة وقيم تُعلي من شأن الإنسان وكرامته، وتحميه من كل نزعات الاستفراد والإقصاء والنبذ والإكراه، هي بوابة الرشد ووسيلته في آن. وهي التي تُخرج الإنسان من الغي وتخلق حقائق الاستمساك بالعروة الوثقى.

والمجتمع الذي يمارس حياته السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية بعيدًا عن كل أشكال الإكراه والعنف، هو المجتمع الرشيد الذي يدافع عن حقوقه ومكاسبه بالحرية. وبها أيضًا يصون حرمات الآخرين ومكاسبهم.

والتاريخ يحدّثنا أن كل من يمارس الإكراه والعنف للدفاع عن ذاته لا ينجز مراده ولا يحقّق هدفه، بل ترتدّ عليه هذه الممارسات أكثر سوءًا ويدخل في أتون النزاعات والحروب والعنف والعنف المضاد.

إن الاتحاد السوفيتي لم يستطع أن يحمي ذاته من التشرذم والانقسام والتلاشي، مع العلم أنه يمتلك أعتى الأسلحة وأكثرها تطورًا. فهذه الأسلحة الفتّاكة لم تمنع الشعوب المنضوية تحت لواء الاتحاد السوفيتي من النهوض ورفض كل أشكال القهر والإكراه.

فالحضارات لا تُبنى بالإكراه، كما أن الأفكار لا تنتقل بالقسر والإكراه. فما أكثر الإمبراطوريات التي انهارت وتلاشت وأصبحت في ذمة التاريخ، بفعل اعتمادها واستنادها على القهر والإكراه. وفي المقابل نجد أن هناك أممًا ودولًا صمدت في وجه كل عمليات القمع والقسر والإكراه لأنها تُدير شؤونها وتسيّر أمورها بحرية وديمقراطية، وبعيدًا عن كل أشكال القهر والإكراه.

فالحياة دائمًا لكل أمة ومجتمع يُدار بالحرية، وينبذ الإكراه بكل صنوفه وأشكاله ومستوياته. ويرتكب حماقة تاريخية كبرى كل من يسعى إلى إدخال غيره في دينه أو مذهبه أو حزبه بالإرغام والإكراه.

لذلك فإن الحرية من القيم الأساسية في حركة الإنسان الفرد والجماعة، وبها يُقاس تقدّم الأمم وتطوّرها؛ إذ لا يمكن أن يتحقّق التقدّم إلَّا بالتحرّر من كل معوّقاته وكوابحه. والحرية هي العنوان العريض للقدرة الإنسانية على إزالة المعوّقات وإنجاز أسباب وعوامل النهوض والانعتاق.

لذلك نجد أن الأنبياء جميعًا حاربوا الاستبداد والإكراه، ووقفوا في وجه الفراعنة، وعملوا من مواقع مختلفة لإرساء دعائم الحرية للإنسان. ولقد فكّ الأنبياء جميعًا العلاقة بين الفكر والعنف، فحرّروا معركة الأفكار من معركة الأجساد، والله تعالى حمى الأجساد من أن يُعتدى عليها من أجل الأفكار، فلم يعطِ لأحد الحق على جسد الآخر مهما كانت فكرته. وفي سبيل نيل الحقوق والحريات لم يشرع الله سبحانه وتعالى للأنبياء ممارسة الإجبار والإكراه، وإنما حدّد مهمّتهم ووظيفتهم في الدعوة بالموعظة الحسنة والتبشير والنذير.

فالوظيفة الكبرى هي هداية البشر بوسائل عقلية - سلمية، بعيدة كل البعد عن كل أشكال الضغط والقوة والإكراه.

وعلى هدى هذا نقول: إنه لا يجوز التضحية بحريات الأفراد تحت مبرّر معارك الخارج وتحدياته الحاسمة؛ إذ إنه لا يمكن أن نواجه تحديات الخارج بشكل فعّال، إلَّا إذا وفّرنا الحريات والحقوق لجميع المواطنين.

ولعلنا لا نعدو الصواب حين نقول: إن مجالنا العربي والإسلامي في العقود الخمسة الماضية قد قلب المعادلة؛ إذ سعت نخبته السياسية السائدة إلى إقصاء كل القوى والمكوّنات تحت دعوى ومسوّغ أن متطلّبات المعركة مع العدو الصهيوني تتطلّب ذلك. وأصبح شعار «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» هو السائد. ولكن النتيجة النهائية التي وصلنا إليها جميعًا حاكمًا ومحكومًا، أن هذا الخيار السياسي لم يوصلنا إلَّا إلى المزيد من التدهور والانحطاط، وبفعل هذه العقلية أصبح العدو الصهيوني أكثر قوة ومنعة، ودخلنا جميعًا في الزمن الإسرائيلي بكل تداعياته الدبلوماسية والسياسية والأمنية والثقافية والاقتصادية.

فتصحير الحياة السياسية والمدنية العربية والإسلامية لم يزدنا إلَّا ضياعًا وتشتُّتًا وضعفًا. ولقد دفع الجميع ثمن هذه الخطيئة التاريخية؛ لذلك آن الأوان بالنسبة لنا جميعًا أن نعيد صياغة المعادلة، فلا انتصار تاريخي على العدو الصهيوني إلَّا بارتقاء حقيقي ونوعي لحياتنا السياسية والمدنية. فإرساء دعائم الديمقراطية وصيانة حقوق الإنسان كل هذه الممارسات والمتطلّبات من صميم معركتنا التاريخية والحضارية، وانتصارنا على العدو الخارجي مرهون إلى قدرتنا على إنجاز هذه المتطلّبات في الداخل العربي والإسلامي. فالإكراه الديني والسياسي لا يصنع منجزات تاريخية، وإن صُنعت سرعان ما يتلاشى تأثيرها من جرّاء متواليات الإكراه وامتهان كرامة الإنسان.

فآراء الإنسان مصونة، بمعنى أن الإنسان لا يُقتل بسبب آرائه وأفكاره. والآراء والأفكار والقناعات لا تواجه بالقوة المادية أو استعداء الآخرين، وإنما بالردّ الفكري والحوار المتواصل وبيان أوجه الخطل والضعف في الآراء المتداولة.

لذلك كلّه فإن الحرية قبل أن تكون أشكالًا سياسية ونصوصًا دستورية، هي خروج كل فرد فينا عن أنانيته وأفقه الضيّق ومغادرة تلك الأفكار الآحادية والإقصائية والاستغنائية، التي لا تزيدنا إلَّا بُعدًا عن الديمقراطية ومتطلّباتها الفكرية والمجتمعية.

لذلك فإن النواة الأولى للاستقرار والتطوّر هي الاحترام العميق للآخرين مشاعر وأفكارًا ووجودًا، ومساواة الآخرين بالذات، ونبذ كل أشكال ممارسة الإكراه.

وإننا اليوم وفي كثير من مواقعنا، أحوج ما نكون إلى رفع شعار «لا إكراه في الدين» والعمل على تحويله إلى مشروع مجتمعي ينظّم حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية، ويرفع الغطاء الديني عن كل الممارسات العنفية والإرهابية، التي لا يقرّها عقل ولا دين ولا تنسجم وثوابت الأمة.

فلننبذ -من فضائنا السياسي والاجتماعي والثقافي- كل الممارسات الإكراهية والإقصائية، ونبني راهننا على أسس الحرية واحترام التعدّد والتنوّع، ونفسح له المجال لممارسة دوره ووظيفته في البناء وتعزيز خيار السلم والتعايش الأهلي.

من أجل تفاهم مشترك

جاء في التراث أنه كان هناك أربعة من الفقراء يجلسون في طريق، وكل منهم من بلد: أحدهم رومي، والثاني فارسي، والثالث عربي، والرابع تركي، ومرَّ بهم محسن فأعطاهم قطعة من النقد غير قابلة للتجزئة، ومن هنا بدأ الخلاف بينهم، يريد كل منهم أن يحمل الآخرين على اتّباع رأيه في التصرّف في هذا النقد. أما الرومي فقال: نشتري به (رستا فيل) وأما الفارسي فقال: أنا لا أرى من (لا نگور) بديلًا، وقال العربي: لا والله لا نشتري به إلَّا (عنبًا)، وقال التركي متشددًا في لهجة صارمة: إن الشيء الوحيد الذي أرضى به هو (أوزوم)، أما ما سواه فإني لا أوافق عليه أبدًا. وجرّ الكلام بين الأربعة إلى الخصام، وكاد يستفحل الأمر لولا أن مرّ بهم رجل يعرف لغاتهم جميعًا، وتدخّل للحكم بينهم، فبعد أن سمع كلامهم جميعًا، وشاهد ما أبداه كل منهم من تشدّد في موقفه أخذ منهم النقد واشترى به شيئًا، وما إن عرضه عليهم حتى رأى كل منهم فيه طلبته، فقال الرومي: هذا هو (رستا فيل) الذي طلبته، وقال الفارسي:هذا هو (لا نگور)وقال العربي: الحمد لله الذي آتاني ما طلبته! وقال التركي: هذا هو (أوزوم) الذي طلبته. وقد ظهر أن كلًّا منهم كان يطلب العنب من غير أن يعرف كل واحد منهم أنه هو بعينه ما يطلبه أصحابه.

لا ريب أن قراءة هذه القصة تُثير الضحك وروح الفكاهة، وتُثير الاستغراب والاستهجان في آن واحد من جرّاء الاختلاف والنزاع الذي حدث بين هؤلاء الصحبة دون وجود مبرّر عقلي وواقعي للخلاف والنزاع. فالكل يطلب العنب إلَّا أن اختلافهم اللغوي حال دون تفاهمهم المشترك، ممّا أدّى إلى الخصام على موضوع أقل ما يقال عنه أنه وهمي. ولعلنا لا نجانب الصواب حين القول: إن الكثير من الاختلافات والتباينات بين أبناء الوطن والمجتمع الواحد لا تخرج عن مضمون القصة المذكورة أعلاه. بمعنى أن الكثير ممّا نتصوّره من اختلافات بيننا هو من جرّاء مواقف مسبقة أو رؤية جاهزة حملها بعضنا على بعض، دون أن نكلّف أنفسنا عبء فحص هذه الرؤية أو تجاوزها بشكل علمي وموضوعي. والإنسان الذي ينحبس في إطار رؤية ضيقة فإنه سيتعصّب لرأيه دون أن يُدرك حجم الجوامع المشتركة بينه وبين الآخرين. فحين ينعدم التواصل، وتتضاءل فرص التعارف فإن مساحات سوء الظن والفهم تتّسع وتتراكم.

لذلك فإن التواصل بين مختلف مكوّنات المجتمع وتعبيراته المتعدّدة، هو من الروافد الأساسية التي تساهم في تعزيز خيار الوحدة والتضامن الداخلي. فوحدة المجتمعات والأوطان بحاجة بشكل دائم إلى التواصل والتعارف المباشر بين مختلف المكوّنات والشرائح؛ وذلك حتى تُبنى الوحدة على حقائق المعرفة العميقة المتبادلة. وبدون هذه المعرفة سنجد أنفسنا نختلف وتتباين مواقفنا حتى لو كانت غايتنا واحدة.

فالهدف المشترك بوحده لا يصنع وحدة، وإنما هو يحتاج إلى مساندة مستديمة عبر التعارف والتواصل الذي يُزيل الالتباسات والهواجس، ويحول دون الفرقة المذمومة. وتاريخيًّا لم تكن الوحدة التي صنعها العرب والمسلمون تعني التوحيد القسري ونبذ أشكال التعدّد والتنوّع الطبيعية في الوجود الاسلامي، وإنما صنع المسلمون وحدة قامت على احترام التنوّع وخصائص التعدّد؛ لأنها حالات وحقائق تاريخية مركوزة في التكوين النفسي والاجتماعي، ومتناغمة مع نواميس الوجود الإنساني؛ لأن الباري عزَّ وجلَّ قد خلق البشر مختلفين من نواح عديدة: لتكوّنهم من ذكر وأنثى {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى}[9]، وهم مختلفون لاختلاف ألسنتهم وألونهم {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ}[10]، كما هم مختلفون لاختلاف عقائدهم {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ}[11]، وعلى ضوء هذا الاختلاف والتنوّع تنشأ الوحدات الاجتماعية، لكن لا لكي تتباعد عن بعضها، وإنما لكي تتعارف.

فالتعارف هو المنظور القرآني لتجاوز الآثار السيئة والسلبية لحالة الاختلاف والتعدّد. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}[12].

فالاختلافات العقدية والفكرية والسياسية تزداد اتّساعًا، وتأخذ منحى تصاعديًّا وفي بعض الأحيان عنفيًّا، حينما تتراجع خطوات التفاهم وتغيب حقائق التلاقي والتواصل بين المختلفين. بينما التلاقي والتفاهم والتواصل يساهم في ضبط الاختلافات، ويحوّلها إلى رافد للثراء المعرفي والفكري، وترتفع من الفضاء الاجتماعي كل الهواجس والأكاذيب التي تسمّم العلاقة وتدفعها نحو دوائر وخيارات خطيرة.

ولقد دفع المسلمون جميعًا غالي الأثمان من هواجس بعضهم تجاه بعض، ومن الأكاذيب والافتراءات التاريخية والراهنة التي ساهمت بشكل مباشر في تأجيج النفوس وزيادة الاحتقانات بكل صورها وأشكالها.

وأود في هذا السياق أن أؤكد على النقاط التالية:

1- ضرورة العمل على تطوير التواصل العلمي والثقافي بين مكوّنات المجتمع والوطن الواحد؛ فكل طرف في هذا المجتمع يمتلك من الكتب والمؤلّفات الثمينة الشيء الكثير، ويعيش بين ظهراني هذا المجتمع العديد من العلماء والمفكّرين والكتّاب المتميّزين، ولكن وبفعل الجفاء المتبادل، وغياب حقائق التلاقي والتواصل، كل طرف يجهل حقيقة الآخر، أو لا يمتلك رؤية واقعية عنه.

وإننا نعتقد أن القيام بمبادرات حوارية وتواصلية بين حكماء المجتمع وعلمائه سيفضي إلى فهم متبادل عميق، قادر على إفشال كل مخططات الفتنة والتشظّي. ويشير إلى هذه المسألة أحد العلماء بقوله: إن توحيد المسلمين ثقافيًّا لا ينافي أن تعمل كل طائفة من الطوائف الإسلامية بما ثبت عندها واعتقدته، ما دام هذا لا يمسّ العقائد الأساسية، التي يجب الإيمان بها، ولكن من الواجب أن تعرف كل طائفة من المسلمين حقيقة عقائد الآخرين، لعلها تجد فيها ما تستفيد منه، أو على الأقل إذا أراد أحد باحثيها أن يكتب عنهم شيئًا، أو ينقل بعض فتاواهم، فلا يكتب: وأما ما سمعنا عنهم أنهم يقولون كذا وكذا، أو أنه يقال عنهم كذا وكذا. ولعمري، إن هذا لسبّة في جبين العلم أَلَّا يُتعب رجاله أنفسهم بالبحث عن كتاب يجدون فيه كل ما يبحثون عنه، من غير أن يسندوا أقوالهم إلى السماع، وكثيرًا ما يجيء هذا القول المسموع من ذوي الأغراض الخبيثة.

لو أن التعارف بين المسلمين تمّ على أساس توحيد الثقافة، بما في ذلك التبادل الثقافي، وتأليف كتب عن كل طائفة لإعطاء صورة صحيحة عنها، وتعليم اللغات الإسلامية في جامعاتهم وترجمة آثارهم ورجالهم، لعرف المسلمون أنفسهم، وعلموا قوّتهم ومقدرتهم، وأنهم مسلمون قبل كل شيء، مسلمون في كتابتهم وتآليفهم، مسلمون في قصصهم وأشعارهم، وأنهم أمناء فيما يكتبون.

فالحوار والتواصل بين مختلف التعبيرات والمكوّنات لا يلغي الاختلافات والتباينات، وإنما يُوصل الجميع إلى أفضل صيغة ممكنة لإدارة الاختلافات وضبط الانقسامات والتباينات. فالتعدّدية -على حدِّ تعبير اللجنة العالمية للثقافة والتنمية في تقريرها الموسوم بـ(التنوع البشري الخلاق)- ليست مجرّد غاية في حدِّ ذاتها، فالاعتراف بالاختلافات ما هو إلَّا شرط لبدء الحوار، وبالتالي لبناء اتّحاد أوسع نطاقًا بين أناس مختلفين. وعلى الرغم من المصاعب فإننا نواجه مصيرًا محتومًا، فلا بد من إيجاد سبل للتوفيق بين تعدّدية جديدة ومواطنة مشتركة. وقد لا يكون الهدف مجرّد مجتمع متعدّد الثقافات، بل دولة تتألف من ثقافات متعدّدة، دولة يمكن أن تعترف بالتعدّدية دون أن تفقد وحدتها.

2- إن التحصين الوطني ضد كل المخاطر التي قد تهدّد الأمن الاجتماعي والوطني يتطلّب العمل الجاد على بلورة مشروع ثقافي وطني، يحتضن كل أطياف وتعبيرات الحياة الثقافية الوطنية، ويوظّف كل إمكانات الوطن ويصبّها في خدمة المشروع، وينفتح على كل الخصوصيات الثقافية، ويتفاعل ويستفيد من كل القوى والوسائط الثقافية والاجتماعية الموجودة، ويتواصل مع منابع الفعل الثقافي بتنوّعه ومستوياته ومجالاته وآلياته القائمة والممكنة.

وبكلمة: إن تحصين الوطن من المخاطر يتطلّب بلورة حياة ثقافية جديدة تتجاوز صعوبات الواقع وسيئاته، وتسعى نحو إرساء دعائم وتقاليد التواصل والحوار والانفتاح على كل مكوّنات الفعل الثقافي والإبداعي الوطني. فالتحصين لا يتأتّى بالمنع وزيادة قائمة الممنوعات، بل بغرس أسباب الحياة والحيوية في حياتنا الثقافية والاجتماعية. فالمجتمع الراكد، هو أقرب المجتمعات إلى الاختراق على المستويات كافة. أما المجتمع الحي، والحيوي، فإنه يمتلك الدينامية الكافية التي تؤهّله لمقاومة كل الأخطار ومجابهة كل محاولات الاختراق التي تهدّد أمنه الاجتماعي والوطني.

فوجود الحياة الثقافية الجادة بكل مستلزماتها ومتطلّباتها وآلياتها، يساهم مساهمة أساسية في إرساء دعائم الأمن الاجتماعي والوطني. فحيوية المجتمع وديناميته، هو رهاننا لمجابهة كل التحديات والمخاطر؛ لذلك فإن عملية التحصين الوطني، تتطلّب منا جميعًا تنمية الاستعدادات والإمكانات الثقافية الوطنية، التي تأخذ على عاتقها معالجة الظواهر المجتمعية، واستيعاب أبناء الوطن بمختلف مستوياتهم في أطر ومؤسسات، تنمّي كفاءاتهم، وتصقل مواهبهم، وترفع من مستوياتهم وتشاركهم في صياغة حاضرهم ومستقبلهم.

 

 



[1] سورة الحجرات، الآية 13.

[2] سورة فصلت، الآية 33- 34.

[3] سورة فصلت، الآية 35.

[4] سورة فصلت، الآية 35.

[5] سورة البقرة، الآية 256.

[6] سورة الكهف، الآية 29.

[7] سورة الغاشية، الآية 22.

[8] سورة يونس، الآية 99.

[9] سورة النجم، الآية 45.

[10] سورة الروم، الآية 22.

[11] سورة التغابن، الآية 2.

[12] سورة الحجرات، الآية 13.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة