شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
محطات معاصرة
في التقريب بين المذاهب الإسلامية
محمد تهامي دكير
الكتاب: الاعتراف المُتبادل بين أهل السُّنَّة والشيعة في الفتاوى والوثائق التاريخية.
إعداد وتحقيق: علي أنصاريان.
الناشر: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت.
سنة النشر: الطبعة الأولى، 2019م.
«إنّ الخلاف في الرأي ضرورة اجتماعية وشأن طبيعي لا يمكن دفعه، ولكن هناك فرقًا بين الاختلاف الذي تُمليه العصبية المذهبية وبين الاختلاف الذي تُمليه الحجة والبرهان.. فالأول خلاف مذموم، أما الثاني فهو خلاف الإنصاف والبحث عن الحقيقة، مع احترام كل فريق لرأي مخالفيه».
الشيخ محمود شلتوت
مقدّمة: الجذور التاريخية للاختلاف
الصراع بين أتباع ومُقلّدي المذاهب الفقهية والكلامية الإسلامية، ليس وليد الساعة، وإنما يضرب بجذوره في أعماق التاريخ الإسلامي، وإن كان للصراع الحالي ما يميّزه من حيث الاتّساع والشراسة والتباس الحق بالباطل، ودخول أطراف خارجية لإذكائه، مثل الاستعمار الغربي والصهيوني.
هناك محطات مفصلية في تاريخ الإسلام والمسلمين، أسّست للاختلاف حول قضايا سياسية ودينية مهمّة، وهناك محطات انفجر فيها الصراع، ليتحوّل من اختلاف في الرأي الاجتهادي الفقهي أو الكلامي، إلى صراع طائفي وسياسي دموي عنيف، سُفكت فيه الدماء المحرَّمة وانتهكت فيه الحقوق المصونة.
لقد اختلف مُجتمع الصحابة بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، حول طبيعة نظام الحكم ومن يتولَّى القيادة والتوجيه في الدولة الإسلامية الفتيَّة، إلى فريق يدافع عن نظام الخلافة، وفريق آخر يرى أن الإمامة المنصوص عليها هي السلطة الشرعية بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، هذا الاختلاف الذي تمّ استيعابه والسيطرة عليه لمدّة قصيرة، سرعان ما سينفجر صراعًا دمويًّا على السلطة، فيما عُرف في التاريخ الإسلامي بالفتنة الكبرى، على إثر مقتل الخليفة الثالث على يد الثوار في المدينة.
وقد استمر هذا الصراع على طول التاريخ الإسلامي وإلى الآن، بأشكال متعدِّدة ومتنوِّعة، كشفت عن عُمق الأزمة والمأزق الذي يعاني منه المسلمون في المجال السياسي، تنظيرًا وممارسة.
من جهة أخرى، سيظهر في الواقع الإسلامي اختلاف آخر، سيرتبط بفهم وتفسير وتأويل النصوص الدينية وتعاليم الوحي، وهذا الاختلاف سيأخذ أبعادًا صراعية دموية في عدد من المحطات التاريخية، بعد تأسيس المذاهب الفقهية والكلامية، وانتشار التقليد لها، وظهور فئات متعصِّبة داخل هذه المذاهب، ترى نفسها على الحق والصواب المطلق، وغيرها في ضلال مبين!
وقد شهدت عدد من الحواضر الإسلامية المشهورة في التاريخ، كبغداد عاصمة الخلافة العباسية لقرون، محطات صراع دموية بين مقلدي معظم المذاهب الإسلامية، أُزهقت فيها آلاف الأرواح، ودُمِّرت فيها الكثير من الممتلكات، ومن يطَّلع على ما كتبه المؤرخون، كابن الأثير أو ابن كثير، في تاريخيهما، سيلاحظ حجم ومدى العنف والشراسة في الصراع الذي كان موجودًا بين الحنابلة وخصومهم من باقي المذاهب، وخصوصًا الشيعة.
فقد شهدت منطقة الكرخ ببغداد مجازر دموية ذهب ضحيتها آلاف العوام من الشيعة والسُّنة، بسبب اعتراض الحنابلة على مراسم إحياء عاشوراء من طرف الشيعة، وكذلك الخصومات التي كانت قائمة بين الأحناف والشوافع... إلخ، صراع يبدأ بتبادل الأتباع تُهم التكفير والتضليل والتبديع لخصومهم المذهبيين، وصولًا إلى إخراجهم من الملة والدين، وانتهاء بإعلان الجهاد لاستئصالهم والتنكيل الجسدي بهم..!
وبالطبع، كانت هناك جهات مستفيدة من هذا الصراع بين أتباع ومقلدي المذاهب، جهات سياسية يهمّها إذكاء نار الفتنة بين مكوِّنات المجتمع المذهبية، في إطار سياسة فرِّق تسد، ولإبقاء حالة التوتّر والصراع الداخلي، وجهات من داخل المؤسسات المذهبية نفسها، لها مصالح ومنافع شخصية ضيقة، لا تتحقّق إلَّا في ظلّ حالة التشنُّج والصراع والتنافر المذهبي.
وبين الجهتين هناك الضحايا الذين هم في معظمهم من الأتباع والمقلّدين، الذين يعتقدون عن سذاجة وجهل، أنهم يُحسنون صنعًا، وأنهم يدافعون عن الإسلام وينتصرون للحق والدين، بتقديم أنفسهم قرابين في محرقة الصراع المذهبي والطائفي، الذي لا يخدم –في حقيقة الأمر–الإسلام، وإنما يُشوِّهُه، بالإضافة إلى مساهمته في تدمير الاجتماع الإسلامي، وتوهين عُرى الأخوة الإيمانية التي تربط بين جميع المسلمين، على اختلاف مذاهبهم الفقهية والكلامية وتعدَّدها.
أما ما يميّز الصراع المذهبي اليوم عن الأمس، فيمكن الحديث عن أمرين أو خصوصيتين، الأولى أن الصراع الذي تشهده الساحة الإسلامية، يقوده ويتولَّى تفجيره جماعات متعصِّبة من المسلمين تتسمّى غالبًا بالسلفية، وتسندها جماعات أعلنت الجهاد وسمَّت نفسها السلفية الجهادية، هي من أشعل الحرب المذهبية في الآونة الأخيرة، بتضليلهم وتبديعهم وتكفيرهم، غالبية أتباع المذاهب السُّنية المشهورة والتيارات الصوفية، وباقي المذاهب الشيعية، ناهيك عن خوضهم حربًا ضروسًا ضد العلمانيين والمثقّفين المُتغرّبين.
ومن ثم فإن الكتابات الصحافية التي تتحدّث عن صراع سُنّي شيعي غير دقيقة؛ لأن مُعظم الدعاة في الفضائيات وعلى منابر المساجد، والذين يتزعّمون حملات التبديع والتكفير لمخالفيهم المذهبيين، هم من هؤلاء المتعصِّبين من السلفية، مع وجود بعض الاستثناءات من باقي المذاهب، ممّن انخرط في هذا الصراع كردِّ فعل، أو بسبب التعصُّب والغلو في الاعتقاد بصحة اختياراته المذهبية.
الأمر الثاني، دخول الاستعمار الغربي والصهيوني –كعامل خارجي- ميدان الاستغلال السلبي لهذا التعدُّد والتنوُّع المذهبي، والاستفادة من بعض الحركات والجهات المذهبية والسياسية، لإشعال نار الفتنة المذهبية، داخل المجتمعات العربية والإسلامية، لأجل تمزيقها اجتماعيًّا وسياسيًّا، في محاولة لإيجاد دويلات وكانتونات سياسية صغيرة ومتقوقعة على خصوصيتها المذهبية أو العرقية، متناحرة فيما بينها، ما يسهّل على الاستعمار السيطرة عليها والتحكُّم فيها، ونهب ثرواتها الطبيعية، كما نشاهده اليوم.
وبطبيعة الحال، وانطلاقًا من سُنّة التدافع كانت هناك –وعلى مرّ التاريخ- دعوات لنبذ الفتنة والصراع، والدعوة إلى الإخاء والوحدة بين أتباع ومقلدي المذاهب، وحثٌّ على تقديم مصلحة الأمة، والتحذير من الآثار السلبية لهذا الصراع على الجميع، دعوات وإن كان أصحابها مُحاصرون أو قلّة، إلَّا أنها كانت تُثمر بين الحين والآخر مشاريع وحدوية تحاصر الفتن المذهبية، وتحدُّ من آثارها السلبية، كما تُساهم في نشر الوعي بحقيقة التعدُّد المذهبي، والموقف الشرعي منه، بالإضافة إلى الكشف عن الاستغلال السياسي المشبوه له، والأهداف الشيطانية والمصلحية لمن يقف وراء إذكاء نار الفتن المذهبية في العالمين العربي والإسلامي، من سياسيين مُستبدين وحُرّاس مذاهب، ووُكلاءَ محلِّيين للاستعمار الغربي والصهيوني.
محطات معاصرة لمواجهة فتنة الصراع المذهبي
في هذا الكتاب، الذي بين أيدينا، لم يتحدّث الكاتب عن جذور الاختلاف وأسبابه الدينية والسياسية أو التاريخية، وإنّما التركيز انْصبَّ على استعراض بعض أهم المحطات المعاصرة لمواجهة فتنة الصراع المذهبي بين أهل السُّنة والشيعة، مع أن هذا العنوان غير دقيق –كما أشرنا إلى ذلك قبل قليل- لأنّ ما نُشاهده في الواقع اليوم هو صراع سلفي متعصِّب، مع باقي المذاهب (السنية الثلاثة: المالكية والشوافع والأحناف) والشيعة (الإمامية والزيدية)، والإباضية والطرق الصوفية.
فهؤلاء المتعصِّبون الجُدد هم من يملك و يسيطر على عدد كبير من المنابر الإعلامية، والمؤسسات الدعوية، في العالمين العربي والإسلامي وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية ودول آسيا المسلمة، وهم من يتّهم مقلدي باقي المذاهب بالتورط في البدع والأعمال والمعتقدات الشركية المؤدّية إلى الكفر والزندقة.
لكن شراسة الصراع مع الشيعة الإمامية، وتركيز السلفية المتعصّبة، على نشر أوجه الاختلاف بين الشيعة والسنة بشكل عام، واتّساع نطاق المواجهة بينهما، في ظل الهواجس المذهبية جعل الصراع وكأنه بين أهل السُّنة قاطبة وبين المذهب الشيعي الإمامي، لكن الحقيقة بخلاف ذلك.
وهذا ما سيظهر بوضوح عند الإشارة إلى المحطات التقريبية والمشاريع التواصلية والوحدوية بين علماء المذاهب السنية خاصة (الشوافع والأحناف والمالكية) في بلاد الشام ومصر، وعدد من المرجعيات العلمائية الشيعية الإمامية في كلٍّ من العراق وإيران ولبنان.
حيث نجد الوعي الصحيح بحقيقة الاختلاف والتعدُّد المذهبي، وكونه الابن الشرعي للاجتهاد الفقهي والكلامي المشروع، والإدراك العميق لمخاطر الصراع المذهبي على الإسلام ومُعتنقيه، ووحدة دوله الاجتماعية والسياسة والدينية، بالإضافة إلى الرغبة في محاصرة ومعالجة الأسباب الداعية للاختلاف والتحارب، مثل التعصُّب والغلو، والتسرُّع في تكفير وتضليل المخالف المذهبي، والتحذير من الاستغلال السياسي لهذا التنوُّع والتعدُّد، الذي حوّلته هذا الأسباب والدوافع، من سبب في إغناء البحث الفقهي والكلامي وإثراء الفكر الإسلامي بشكل عام، إلى محطّة ومنطلق للخصام والتنابز بالألقاب، وتبادل التُّهم بالتضليل أو الخروج عن الملّة والدين.
الأزهر الشريف وجواز التعبُّد بالمذهب الإمامي
من بين أهم المحطّات التقاربية والوحدوية بين السُّنة والشيعة، التي تحدّث عنها الكتاب، مشروع التقريب الذي انطلق في ستينات القرن الماضي، وكان تحت إشراف الأزهر الشريف، ممثّلًا في شيخه محمود شلتوت، والمرجعية الشيعية في إيران، ممثّلة في السيد البروجردي والشيخ القمي.
وقد انطلق هذا المشروع التقريبي بين السُّنة والشيعة في ظل أجواء سياسية وحدوية كذلك، أثناء حُكم جمال عبد الناصر لمصر، وقد أثمرت هذه الجهود تأسيس دار للتقريب بين المذاهب في القاهرة، كما صدرت مجلة «رسالة الإسلام» كأهّم مجلة تقريبية، كتب فيها كبار علماء من الفريقين آنذاك، دراسات وبحوث مهمّة في مجال التأصيل للوحدة والأخوة والتعارف، ونبذ التعصُّب والفُرقة.
وقد تُوّجت هذه الأنشطة العلمية التقريبية الجادّة والمخلصة، بفتوى لشيخ الأزهر آنذاك الشيخ محمود شلتوت، أكّد فيها: «أنّ الإسلام لا يُوجب على أحدٍ اتّباع مذهب معيّن، وأنّ لكل مسلم الحق في تقليد أي مذهب من المذاهب المنقولة نقلًا صحيحًا، والمدوّنة أحكامها الخاصة، وبالتالي: يجوز التعبُّد بالمذهب الشيعي الجعفري (الإمامي) شرعًا، كسائر مذاهب أهل السُّنة..».
وأهمية هذه الفتوى، ليس فقط في موقفها العلمي والشرعي الصارم من التعصُّب المذهبي، وإنما في الاعتراف الصريح والواضح بشرعية تقليد المذاهب الفقهية والكلامية من خارج المذاهب السُّنية المشهورة، وعلى رأسها بالتحديد المذهب الشيعي الإمامي، بالإضافة إلى كونها صادرة من أعلى مرجعية سُنية معتبرة آنذاك.
وقد استُقبلت تلك الفتوى بترحيب من المرجعيات الشيعية في الشام والعراق وإيران، وكان لها تداعيات اجتماعية وحدوية مهمّة. كما أثمرت جهود التقريب هذه، صُدور موسوعة فقهية مهمّة اعتمدت على آراء المذاهب الثمانية المشهورة: (السُّنية الأربعة، والجعفري، والزيدي، والإباضي، والظاهري)، حيث بدأ العمل فيها سنة 1960م بالمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، ووضع برنامجها العلامة محمد فرج السنهوري، بمساعدة كبار رجال الفقه في مصر آنذاك، كما بدأ تدريس الفقه المقارن في الأزهر، باعتماد جميع المذاهب المعترف بها.
وهذه الفتوى، وإن كان البعض من المتأخّرين -ممَّن يُفضِّل الصراع على التقارب والوئام- قد شكّك في صدورها، إلَّا أنّ النسخة الأصلية لها، قد تمّت المحافظة عليها في الأرشيف التقريبي، بالإضافة إلى الشُّهرة الإعلامية التي واكبتها وأرَّخت لها.
كما أن الاعتراف بجواز التعبُّد بالمذهب الجعفري، واعتباره مذهبًا إسلاميًّا كباقي المذاهب السُّنية، والدعوة للتقريب بين السُّنة والشيعة، لم يكن رأي الشيخ شلتوت فقط، وإنما وافقه على ذلك كبار علماء الأزهر آنذاك، مثل الشيخ محمد الغزالي، والدكتور محمد فريد نصر، والمفتي محمد الفحّام، ود. محمود زقزوق وزير الأوقاف السابق، والشيخ متولي الشعراوي..، وغيرهم كثير، ممّن كان يكتب في مجلة «رسالة الإسلام» التقريبية. وقد قُوبلت هذه الفتوى السُّنية بمواقف علمائية/ شيعية، تتضمَّن صراحة الاحترام والاعتراف بالمذاهب السُّنية وعلمائها وتراثها الاجتهادي كذلك.
أما ردود الفعل المدافعة عن الفتوى داخل الأوساط العلمائية السُّنية، فقد جاءت لتؤكّد أن الهدف من التقريب والفتاوى التقريبة ليس الانتصار لمذهب على غيره، أو دمج المذاهب، وإنما الهدف والغاية القصوى هي: نبذ التعصُّب المذموم للرأي والمذهب، ومتابعة البحث العلمي الموضوعي في القضايا المختلف فيها وحولها، والدعوة إلى الدين والمذهب بالتي هي أحسن، حرصًا على السِّلم الاجتماعي ووحدة الأمة.
مؤتمرات التقريب والوحدة
مع انفجار الصراع المذهبي وما واكب ذلك من فوضى فتوائية، وصراع سياسي وحروب دموية على أرض الواقع، تداعت بعض الجهات العُلمائية والمؤسسات العلمية إلى عقد مؤتمرات وندوات لمناقشة مخاطر الصراع المذهبي، وتقديم التوصيات لمعالجة أسبابه، وهكذا عُقدت العشرات من المؤتمرات التقريبية والوحدوية، شارك فيها عدد كبير من المُفتين والعلماء والمفكّرين والدعاة الوسطيين، وكانت مناسبة للتذكير بمخاطر الصراع والفرقة بين المسلمين والدعوة إلى نبذ التعصُّب والغلو، والتحرُّز من التكفير والتبديع، وضرورة احترام مقلدي المذاهب لاختيارات بعضهم.
من بين أهم هذه المؤتمرات، المؤتمر الذي نظَّمته مؤسسة آل البيت للفكر الإسلامي في الأردن (تموز - يوليو 2005م)، تحت إشراف شبه رسمي من الدولة، وقد شارك فيه قرابة 155 عالمًا وفقيهًا ومُفتيًا، من العالمين العربي والإسلامي، وقد تمحورت الأسئلة التي أجاب عنها المشاركون عن الموقف الشرعي والسُّني -على وجه الخصوص- من المذاهب غير السُّنية (الشيعة الإمامية، والزيدية، والمذهب الظاهري، والإباضي، والتيارات والطرق الصوفية... إلخ)، وما هي حدود التكفير، والشروط المعتبرة في الإفتاء لمواجهة الفوضى في هذا المجال.
وقد جاءت الأجوبة كلها مُتَّفقة على أنّ مقلدي جميع المذاهب مُسلمون معصُومُو الدم والعرض والمال، وأن الخلاف بين جميع المذاهب هو خلاف منهجي في الاستنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسُّنة، وأن جميع مقلدي وأتباع هذه المذاهب، متّفقون ومجمعون على الأصول الاعتقادية والمبادئ الأساسية الإسلامية، ويشهدون الشهادتين إيمانًا وتصديقًا.
ومن بين أشهر الشخصيات التي شملها الاستفتاء: د. علي جمعة (مفتي مصر السابق)، د. مظفر شاهين (رئيس المجلس الأعلى للشؤون الدينية التركية السابق)، الشيخ أحمد كفتارو (المفتي العام السابق في سوريا)، الشيخ سعيد عبد الحفيظ الحجاوي (المفتي العام السابق للأردن)، والشيخ محمد تقي العثماني (مفتي باكستان)، والشيخ إبراهيم بن محمد الوزير (رئيس المركز الإسلامي للدراسات والبحوث بصنعاء - اليمن)، والشيخ أحمد بن حمد الخليلي (المفتي العام لسلطنة عمان)، والشيخ يوسف القرضاوي (مدير مركز بحوث السُّنة والسيرة في جامعة قطر).
صدر عن هذا المؤتمر فتوى تقرّر نصّها على هذا النحو «من شهد أن لا إله إلَّا الله وأن محمد رسول الله خالصًا من قلبه، فقد أصبح مسلمًا، له ما للمسلمين، وعليه ما على المسلمين، وأضاف: ولا عبرة بالتسميات التي يتسمّى بها الناس، أو يُسمّي بها بعضهم بعضًا، كقولهم: هذا سلفي، وهذا صوفي، وهذا سني، وهذا شيعي، وهذا أشعري، وهذا معتزلي، وهذا ظاهري، وهذا مقاصدي؛ لأن المدار على المُسمّيات والمضامين، لا على الأسماء والعناوين..»(ص109).
كذلك جاءت الفتاوى موحّدة في الموقف من التكفير للمخالف المذهبي، لما يترتّب عليه من الدعوة لاستحلال الدم والمال وانتهاك الحقوق المحترمة، وبالتالي، التورط في التداعيات الاجتماعية السلبية وتعرّض وحدة الأمة للتفتُّت والتمزُّق فالانهيار، وهذا ما يرغب فيه أعداء الإسلام، ويسعون لتحقيقه بشتّى الطرق والوسائل.
أما بخصوص الموقف من مذهب الشيعة، فإنّ معظم الاستفتاءات أكّدت بصراحة على أنّ «الجعفرية يُؤمنون بأركان الإيمان ويحترمون أركان الإسلام، ويلتقون مع بقية المذاهب في معظم الفروع، وقد تلقّى أئمة السُّنة عن أئمة الشيعة، كما تلقّى أئمة الشيعة عن أئمة السُّنة، ممّا يؤكّد أنهم أمة مسلمة واحدة..»(ص101).
مواقف مُنصفة ومُعتدلة
وإلى جانب هذه المواقف الفتوائية المعتدلة والوسطية التي تمَّ استعراضها في هذا المؤتمر وغيره من المؤتمرات والندوات الأخرى، هناك عدد كبير من الكتّاب والمفكّرين الإسلاميين من أهل السُّنة والحنابلة والصوفية، كتبوا باعتدال وموضوعية وإنصاف عن المذاهب غير السُّنية المعروفة، وكانت لهم مواقف صريحة من المذهب الشيعي الإمامي على وجه الخصوص.
وقد أشار الكاتب إلى 163 شخصية علمية مشهورة على الساحة الفكرية الإسلامية، ممّن تحدّثوا عن التشيُّع والشيعة بإنصاف وموضوعية وعلمية، دون أن يمنعهم ذلك من ذكر نقاط الاختلاف والاعتراض والنقد لما يرونه مخالفًا لقناعاتهم أو اختياراتهم الفقهية والعقائدية، بل والمواقف من عدد من الأحداث التاريخية.
من بين هؤلاء: الكاتب المصري أحمد بهاء الدين، والدكتور بدر الدين حسون (مفتي سوريا)، د. أحمد الشرباصي المصري، د. أحمد الطيب (شيخ الأزهر حاليًّا)، المفكّر الإسلامي التركي بديع الزمان سعيد النورسي، الكاتبة بنت الشاطئ، خالد محمد خالد، سعيد حوّى، زينب الغزالي، عائض القرني، الشيخ عبد الحميد كشك، د. عبد الصبور شاهين، الشيخ عبدالله محمد الهرري، د. علي سامي النشّار، المفكّر والمناضل الفلسطيني فتحي الشقاقي، المفكّر اللبناني فتحي يكن، د. محمد سعيد رمضان البوطي، محمد عبده يماني، د. محمد كمال الدين إمام، د. وهبة الزحيلي... إلخ.
هذا على مستوى الكتابات العلمية الحرّة، التي اتّخذ أصحابها مواقف شخصية منصفة من مخالفهم المذهبي، وبالتالي يمكن الانطلاق منها للتأسيس لحوار علمي، بعيد عن مواقف التشنُّج والتعصُّب والغلو، التي تجعل صاحبها يتورّط في مواقف سلبية تخدم في نهاية المطاف أعداء هذا الدين ومُعتنقيه.
أشار الكاتب كذلك إلى بعض المحطّات السياسية، في محاولة للاعتراف الرسمي بالتشيُّع كمذهب إسلامي لأتباعه حقوق المواطنة كغيرهم من باقي المذاهب، مثل ما وقع في سوريا وأفغانستان، وعلى غرار ما وقع في إيران بعد انتصار الثورة الإسلامية، فرغم أن الدستور ينص على أن المذهب الجعفري الاثني عشري هو المذهب الرسمي للجمهورية الإسلامية، إلَّا أنّ المادة 13 منه، تُؤكّد أنّ «المذاهب الإسلامية الأخرى، والتي تضمّ المذاهب: الحنفي والشافعي، والمالكي، والحنبلي والزيدي، فإنها تتمتّع باحترام كامل، وأتباع هذه المذاهب أحرار في أداء مراسمهم المذهبية حسب فقههم، ولهذه المذاهب الاعتبار الرسمي في مسائل التعليم والتربية الدينية والأحوال الشخصية (الزواج والطلاق والإرث والوصية)، وما يتعلّق بها من دعاوى المحاكم، وفي كل منطقة يتمتّع أتباع هذه المذاهب بالأكثرية فإنّ الأحكام المحلية لتلك المنطقة –في حدود صلاحيات مجالس الشورى– تكون وفق ذلك المذهب، هذا مع الحفاظ على حقوق أتباع المذاهب الأخرى..»(ص178).
في الوقت الذي ينظّم المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب (مقرّه في طهران)، وقد تأسس سنة 1990م، مؤتمرًا سنويًّا للتقريب، يحضره المئات من العلماء والفقهاء والدعاة والمفكّرين من جميع أنحاء العالمين العربي والإسلامي، في تظاهرة تقريبية وتواصلية بين أتباع ومقلدي جميع المذاهب، لا مثيل لها في العالم.
كما أن هذا المجمع يُشرف على جامعة المذاهب الإسلامية (تأسست سنة 1992م)، والتي يُدرس فيها الفقه السُّني الشافعي والحنفي والمالكي، لأهل السنة من الإيرانيين، وغيرهم ممّن يرغب في دراسة الفقه المقارن، وعندما يتخرّجون منها يلتحقون بالمؤسسات المذهبية الرسمية في مناطقهم، وهذه مبادرة لا يوجد لها مثيل –على حدِّ علمنا- في المجتمعات المتعدّدة المذاهب، والتي يشكّل الشيعة أقلية فيها، بل لا يوجد في دساتير هذه الدول ما يؤكّد الحقوق المذهبية للأقليات المذهبية.
ما يريد الكاتب الوصول إليه في هذا الكتاب، هو التأكيد على وجود محطّات تاريخية مهمّة، تبادل فيها أهل السُّنة والشيعة، فتاوى ومواقف اعترافية وتصالحية وإخائية، وهذا هو المطلوب والمنشود، وهو ما تحثُّ عليه التعاليم الدينية ونصوص الكتاب والسُّنة التي دعت إلى الاعتصام بحبل الله، ونهت عن التفرُّق، يقول عزَّ من قائل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}[1]، وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ}[2].
كما حذّر الرسول الكريم أمّته من التقاتل والتحارب فيما بينهم، يقول (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبة حجة الوداع: «لا ترجعوا بعدي كفّارًا يضرب بعضكم رقاب بعض»، وقد عانت الأمة على طول التاريخ من ويلات التحارب والصراع الداخلي.
لذلك، نعتقد أن مواجهة ظاهرة الصراع المذهبي لا يكفي فيها إصدار فتاوى الاعتراف المتبادل بين العلماء والمرجعيات المذهبية، وإنما معالجة الأسباب الرئيسة لانفجار هذا الصراع، وتحوّله من اختلاف في الاجتهاد الفقهي أو الكلامي أو الموقف من تحليل بعض الأحداث التاريخية، إلى مواقف متشنِّجة ومتعصِّبة، ثم إصدار فتاوى تكفير وإحلال دم المخالف المذهبي، من طرف بعض جهلة الدعاة أو المفتين المتنطِّعين، من وعّاظ السلاطين، الذين يخدمون مصالح لا علاقة لها بالاجتهاد المشروع ولا وحدة أو مصالح الأمة.
توصيات في الخاتمة
أما مواجهة الصراع المذهبي -في نظرنا– يمكن أن نضع لها حدًّا أو تتمّ محاصرتها بالتوصيات التالية:
أولًا: التجريم الشرعي والقانوني لأي دعوة أو فتوى تكفيرية، ويتمّ البتّ فيها قضائيًّا وبسرعة على غرار باقي الجرائم الخطيرة الماسّة بأمن الدولة والمجتمع.
ثانيًا: اعتماد الفتاوى التقريبية وفتاوى الاعتراف بإسلام جميع مقلدي المذاهب، بشكل رسمي وقانوني، واعتبار مخالفتها أو نقضها جريمة يعاقب عليها القانون، بعد نشر الوعي والموقف الصحيح من التعدُّد المذهبي في أوساط طلبة العلوم الدينية والدعاة والعوام على حدٍّ سواء.
ثالثًا: التوقُّف عن الاستغلال السياسي للتعدُّد المذهبي، والاختلاف في الرأي الاجتهادي، وتحذير عوام الناس من اتّباع دعاة الفتنة والمشجّعين على الصراع بين مقلدي المذاهب، وفضح نواياهم المصلحية والشيطانية.
رابعًا: الاعتراف الرسمي بشرعية التعدُّد المذهبي في كل بلد يوجد فيه مقلدون لمذاهب مختلفة، وما يترتّب على ذلك من حقوق، واعتبار ذلك من حقوق المواطنة، التي لا يجوز الاعتداء عليها، سواء من طرف السُّلطة السياسية، أو من أيِّ جهة اجتماعية أو دينية أو دعوية.
خامسًا: التأكيد على الاحترام المتبادل بين جميع أتباع ومقلدي المذاهب، بحيث يُجرَّم التعرُّض للاختيارات المذهبية الفقهية والكلامية، لأيِّ مذهب بطريقة التهكُّم أو الاستهزاء، أو الانتقاص المُشين من الرموز العلمية أو التاريخية لأيِّ مذهب، أو التنابز بالألقاب المهينة للمخالف المذهبي.
سادسًا: التشجيع على التعرُّف العلمي الموضوعي، وتجنُّب الكذب والافتراء على المخالف، وهذا لا يتمّ عبر الفضائيات والبرامج الحوارية التي تهدف إلى الإثارة الإعلامية، وتسجيل النقاط بين المتحاورين، بل داخل الجامعات والمؤسسات البحثية الأكاديمية المتخصّصة، وبين المتخصّصين في الفروع العلمية الفقهية والكلامية والتاريخية وباقي القضايا الخلافية، وهنا لا بدّ من التمييز بين البحث والنقد العلمي الموضوعي، وما ينتج عنه من حقائق أو نظريات أو حتى ظنون معتبرة علميًّا، وبين خطاب السبّ والشتم واللعن والقذف، للرموز المذهبية العلمية والسياسية، والتهكُّم والاستهزاء بآرائها ومواقفها، فالموقف الأول هو المطلوب، لأنه ينسجم مع المنهج العلمي الذي ينشد الحقيقة والصواب.
سابعًا: الالتزام في الدعوة إلى المذهب، بآداب وشروط الدعوة، من حيث التفريق بين الإيمان بالدين ككل، وبين الاختيارات المذهبية الاجتهادية، والدعوة بالحكمة والموعظة والجدال بالتي هي أحسن، وتجنُّب كل ما يُفضي إلى التشنُّج والصراع والتقاتل.
ثامنًا: أن يستشعر الدعاة والعلماء، وكل من يتصدّى للشأن الديني والدعوي مسؤولية وخطورة الكلمة، وأنهم سيقفون غدًا أمام الله، وأنّ أيَّ قطرة دم تُهرق بغير حق، بسبب فتوى أو موقف متشنِّج أو مُتطرِّف، فإنهم سيسألون عنها غدًا يوم القيامة.
تاسعًا: لم يعد الواقع الاجتماعي العربي والإسلامي، خصوصًا بعد الكوارث التي مُني بها بسبب الصراع المذهبي والاستغلال السياسي لهذا التعدُّد المذهبي، في حاجة إلى مؤتمرات أو ندوات وحدوية، أو إلى صدور فتاوى تُجرِّم التكفير والصراع والتقاتل بين أتباع ومقلدي المذاهب، ولا تكفي فتاوى الاعتراف المتبادل بإسلام وإيمان أتباع المذاهب الإسلامية المتعدّدة، وإنما نحن في حاجة لتطبيق بعض من هذه التوصيات التي خرجت بها هذه المؤتمرات والندوات، وتفعيل ما جاء فيها من دعوات للوحدة والتعارف والتواصل والإخاء بين المسلمين، وإيصالها لمراكز القرار السياسي والقانوني، ومراكز التعليم والتدريس والتبليغ والدعوة، لتحويلها إلى قرارات مُلزمة، ومناهج تربوية، وقيم دعوية واجتماعية، معيشة على مستوى التفكير والسلوك. يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}[3].
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.