تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الدولة والطائفية وإشكاليات الوحدة والسلم المجتمعي

محمد المحفوظ

الدولة والطائفية

وإشكاليات الوحدة والسلم المجتمعي

محمد محفوظ

الدولة والانقسام الاجتماعي

إن الدول في المجال العربي على نحوين: دول أيديولوجية تعمل بمختلف الوسائل بما فيها القهرية لتعميم أيديولوجيتها واقتحام مجتمعها بكل فئاته ومكوّناته وشرائحه في بوتقة أيديولوجيتها، وكل طرف أو مكوّن يرفض الانضمام إلى هذه الأيديولوجيا يُمارس بحقّه النبذ والإقصاء والعنف المادي والرمزي؛ لهذا فإن صلة هذه الدولة بمواطنيها يتمّ عبر الأجهزة الأمنية، وإذا توفّرت فيها بعض أشكال الديمقراطية فهي شكلية وتمارس الاستبداد والقهر بقفازات ناعمة.

والدول تقليدية تعتمد في بنيتها الأساسية على حكم العائلة أو العشيرة أو أيّ شكل من أشكال الانتماءات التقليدية وهي أيضًا بحكم بنيتها حاضنة للبعض وطاردة للبعض الآخر.

ولعل أحد الفروقات الأساسية بين الدولة الأيديولوجية والدولة التقليدية في التجربة العربية المعاصرة، هي أن كلا الدولتين ديكتاتوريتان واستبداديتان، واحدة باسم الأيديولوجيا الدينية أو الأيديولوجيا التقدّمية، والأخرى باسم حكم العائلة وتقاليد المجتمع والحياة العامة في البلد.

فكلاهما ديكتاتوريتان تمارسان الاستبداد والإقصاء والنبذ بكل صنوفه. ويضاف إلى هذا أن الدول الأيديولوجية هي بطبيعتها أيضًا دول قمعية. بمعنى أن لأجهزتها الأمنية سطوة وصلاحيات هائلة لإدامة الاستقرار وحماية السلطة، فهي دول ديكتاتورية وقمعية في آن. وفي ظل هذه الدول فإن الأقليات الدينية تعاني العديد من المآزق والمشاكل المتعلّقة بحريتها الدينية ومستوى مشاركة أبنائها في الحياة العامة.

وقناعة الدراسة الأساسية: أنه إذا لم تتغيّر بنية الدولة في المجال العربي من دولة أيديولوجية أو تقليدية إلى دولة مدنية – تشاركية – تعددية محايدة تجاه عقائد مواطنيها، فإن مشاكل الأقليات ستستمر وتزداد استفحالًا.

والذي يزيد أزمة الأقليات في هذا السياق، هو طبيعة فكرها السياسي المحافظ، الذي يجعلها تحذر من الانخراط في مشروعات الإصلاح الوطني.

لهذا فإن الدراسة تعتقد أن تطوير فكر الأقليات السياسي، ودفعه نحو الانخراط في مشروعات الإصلاح والتفاعل الخلّاق مع قضايا التغيير السياسي، يساهم في معالجة مشكلة الأقليات في الدول العربية المعاصرة. وتطوير الفكر السياسي للأقليات للخروج من نفق المحافظة إلى رحاب الإصلاح يعني النقاط التالية:

1- الانخراط في مشروعات سياسية وفكرية عابرة للمكوّنات التقليدية ومتجاوزة للانتماءات الطبيعية، والمساهمة في بناء كتل وطنية تطالب بالإصلاح وتعمل من أجله.

2- الانعتاق من ربقة الانكفاء والانزواء، وكسر حواجز الانطواء، والتفاعل الكامل مع شركاء الوطن.

لأننا نعتقد أن الطائفية في المجال العربي تمارس على نحوين أساسين، وهما:

النحو الأول: الطائفية الغالبة، وهي تمارس طائفيتها بتبني سياسات النبذ والتهميش والإقصاء للآخر المختلف، والاستمرار في دفعه عبر وسائل قسرية وناعمة للمزيد من الانكفاء وبناء الحواجز النفسية والاجتماعية والسياسية مع الآخر المختلف الديني أو المذهبي أو القومي.

والنحو الآخر: هي الطائفية المغلوبة، وهي طائفية معكوسة تبرّر انكفاء الذات، وتسوّغ المفاصلة الشعورية والعملية.

فإذا كانت الطائفية الغالبة تمعن في سياسات الإقصاء والتمييز، فإن الطائفية المغلوبة تمعن في سياسات الانعزال والنظرة النرجسية للذات. والتحرر من النزعة المحافظة في الفكر والسياسة يقتضي العمل على نقد وتفكيك أسس ومتواليات الطائفية المعكوسة المعششة في نفوس وعقول الكثير من أبناء الأقليات الدينية والمذهبية والقومية في المجال العربي.

3- بناء العلاقة ونظام الحقوق والواجبات على أساس المواطنة المتساوية مع الاحترام التام لخصوصيات المواطنين الدينية والمذهبية.

والمواطنة بحمولتها القانونية والدستورية هي بوابة الانتقال بمجتمعاتنا من حالة السديم البشري إلى المجتمع التعاقدي الذي يضمن حقوق الجميع، ويفتح المجال القانوني للجميع للمشاركة في بناء الأوطان واستقرارها السياسي والاجتماعي.

ويبدو من خلال معطيات عديدة أن ظاهرة الانقسام في مجتمعاتنا العربية والإسلامية تحت يافطات وعناوين دينية ومذهبية وقومية، ظاهرة حقيقية، وتتطلّب معالجة واعية وموضوعية وتاريخية. ولقد كان العالم الفرنسي (جاك بيرك) واعيًا لظاهرة التصدّع والتنازع التي تشقّ الاجتماع السياسي العربي والإسلامي الحديث من خلال لفت الانتباه إلى وجود ما سمّاه بـ(وتائير سير) واستراتيجيات حراك متعارضة ومتضاربة في المجتمع العربي الواحد، بما يصحّ معه القول بوجود مجتمعين متقابلين ومتصادمين في المجتمع الواحد.

وتأسيسًا على هذه الحقيقة فإننا نستطيع القول: إن الدولة العربية – الإسلامية المعاصرة هي القادرة وحدها بما تمتلك من إمكانات وقدرات وسياسات، من معالجة كل التداعيات السلبية من جرّاء وجود حالة من التعدّديات والتنوّعات في المجتمع والوطن الواحد.

ولا يمكن أن نتجاوز تشظيات الاجتماع العربي – الإسلامي المعاصر، إلَّا بخيار الدولة الحاضنة للجميع والمعبرة عن جميع التعبيرات والمكوّنات، ومتجاوزة في آن انقسامات المجتمع وتشظياته الأفقية والعمودية.

وفي تقديرنا، إن هذا الأمر يتطلّب الاهتمام بالنقاط التالية:

1- ضرورة أن تكون مؤسسة الدولة متعالية على انقسامات المجتمع، ولا تكون جزءًا منها.

2- أَلَّا يكون الانتماء الديني أو المذهبي أو القبلي هو قاعدة التعامل، وإنما تكون قيمة المواطنة بكل حمولتها القانونية والدستورية هي وحدها قاعدة التعامل في مختلف دوائر الحياة. فالمواطنة بصرف النظر عن المنابت الأيديولوجية للمواطنين، هي التي تحدّد نظام الحقوق والواجبات.

3- المطلوب دائمًا وبالذات في الدول التي تحكم مجتمعات مختلطة ومتعدّدة، هو صيانة التعدّد على مستوى الأمة والمجتمع، وبناء مجتمع سياسي موحّد بعيدًا عن نزعات المحاصصة.

لأننا نعتقد أن بناء الدولة على قاعدة المحاصصة الطائفية أو المذهبية يديم الانقسامات، ويحيي التوترات مع كل حدث أو تطوّر سياسي.

لهذا فنحن مع احترام تام لكل مقتضيات التعدّدية على مستوى الاجتماع، أما على مستوى الدولة فإننا بحاجة إلى مجتمع سياسي موحّد؛ بحيث تكون الكفاءة هي جسر العبور الوحيد إلى مواقع الدولة الأساسية. وفي هذا السياق يعتبر نظام المحاصصة الطائفية الذي عملت الولايات المتحدة الأمريكية في العراق على تنفيذه وتطبيقه، هو من أرذل الأنظمة التي شوّهت النسيج الاجتماعي العراقي، وأدخلت العلاقات الداخلية بين مختلف المكوّنات والتعبيرات العراقية، في محنة شديدة لازال الواقع العراقي يدفع ثمنه على مختلف المستويات.

4- ضرورة العمل على بناء مؤسسات للمجتمع المدني، عابرة للمناطق والأديان والمذاهب والقبائل.

وإذا لم تتمكّن شعوبنا من بناء مؤسسات مدنية وطنية جامعة لكل التعدّديات، فإن هذه الأزمات ستستمر، ولن نتمكّن من الخروج من مآزق الراهن.

فالطريق للخروج من كل التداعيات السلبية والخطيرة، التي تعيشها أغلب المجتمعات العربية والإسلامية اليوم، في وقف حالة الانحدار والتشظي المذهبي والجهوي، وإعادة الاعتبار لكل عناصر الوحدة والائتلاف الاجتماعي والوطني. وإن الاستقرار السياسي العميق هو الشرط الشارط لأي عملية تنموية أو تطويرية لكل المؤسسات والهياكل الإدارية والسياسية. وإن التعامل الحكيم في التعاطي مع حقائق التنوّع الاجتماعي تقتضي التفكير بطريقة ليست ضيقة أو منحبسة في أطر واعتبارات ما دون الوطنية؛ لأن هذه الأطر الضيقة ستنتج بطبعها خيارات ضيقة، لا تنفع حقائق التنوّع الاجتماعي، وتضرّ في الوقت ذاته بحقيقة الوحدة الوطنية والاجتماعية. وفي تقديرنا، إن أي خيارات لا تساهم في تعزيز الوحدة الداخلية لمجتمعاتنا المتنوّعة، هي خيارات مضرّة للراهن والمستقبل معًا. وعليه فإننا نرى أهمية معالجة كل مشاكل التنوّع الاجتماعي، ولكن على قاعدة الوحدة الاجتماعية والوطنية. وإن أية محاولة لمعالجة مشاكل هذه الحقائق تفضي إلى خلق حالة من الإرباك الاجتماعي والسياسي، فإنها على الصعيد الواقعي، لن تعالج هذه المشكلات، وستضيف لها حساسيات ومشكلات جديدة من جرّاء التعامل الخاطئ مع حقائق التنوّع الاجتماعي. ولبناء المعادلة الصائبة بين عدم التغافل عن المشاكل، وفي الوقت ذاته عدم الإضرار بحقائق الوحدة الوطنية والاجتماعية؛ نقترح الالتفات إلى الأفكار التالية:

1-ضرورة وجود منظومة قانونية، تعتبر الانتماء الوطني والمواطنة، هي الحقائق الثابتة التي تحدّد قواعد المعالجة لأية مشكلة سواء كانت إدارية أو ثقافية أو سياسية.

2-إن معالجة أي مشكلة في الإطار الوطني، هي تساهم على المستوى الفعلي على تعزيز حقائق الوحدة الوطنية والاجتماعية. ونعتقد في هذا الإطار أن التغافل عن المشاكل، هو الذي يضرّ عبر متواليات عديدة بمستوى الاستقرار الداخلي والانسجام الاجتماعي.

3- العمل على زيادة وتيرة التواصل الاجتماعي، وتشجيع كل المبادرات التي تستهدف تعزيز حالة الإخاء الوطني؛ لأن حالة الجفاء والتباعد النفسي والاجتماعي، هي التي تضرّ بالوحدة. وأن التواصل الاجتماعي بكل مستوياته هو الذي يعزّز خيار الوحدة، ويعمّق مستوى التفاهم بين جميع المكوّنات والأطياف.

من الطائفة إلى الدولة

حين التعمّق في مجرى الأحداث والتطوّرات والتحوّلات السياسية والاجتماعية في المنطقة، يجدها تتّجه نحو مسارين وخيارين:

المسار الأول: هو تفكيك الدول القائمة وبناء كانتونات ودويلات دينية ومذهبية في المنطقة. وهذا بطبيعة الحال سيفتح الأفق العربي صوب صراعات ونزاعات مذهبية ودينية أهلية، تدمّر ما تبقى من النسيج الاجتماعي، وتؤسّس لمشروعات بناء مجتمعات مغلقة وذات هوية خالصة، ممّا يفضي إلى التهجير والتهجير المضاد، ويدمّر أسس التعايش بين الناس، ويحوّل الانتماء الديني والمذهبي والعرقي والقومي، من مصدر للطمأنينة الاجتماعية، إلى رافد لتغذية النزاعات المفتوحة على تدمير الدول والأوطان.

وفي هذا المسار تنهار الدولة كما ينهار المجتمع، وتتحوّل الفضاءات الاجتماعية إلى مسرح للاحتراب وتصفية الحسابات، وممارسة العنف بكل صنوفه وأشكاله.

ولا شك في أن هذا الخيار أو المسار هو من المسارات الكارثية على المنطقة العربية، لأنه يدمّر كل شيء ولا يصل إلى شيء؛ لأن الانقسام والتشظي والمتلازم دائمًا مع الحروب واستخدام العنف، سيتولد وسيسري على جوانب الحياة المختلفة.

لذلك يعدّ  المسار -ووفق المقاييس المختلفة- من المسارات الكارثية على الإنسان العربي والاستقرار العربي والنسيج الاجتماعي العربي؛ لأنه يحوّل الجميع ضد الجميع دون أفق سياسي واجتماعي واضح ونبيل.

لذلك نجد أن الدول التي بدأ فيها هذا المسار بالبروز، أو هناك قوى تعمل من أجل انخراط الجميع في هذا المسار، تعيش كل صنوف العذاب والعنف والقتل.

فالجميع يمارس القتل والاختطاف والتطهير الديني أو المذهبي أو العرقي، والكل يشعر أنه بهذا العمل المشين يدافع عن مقدّساته وتاريخه وثوابته، وهو في حقيقة الأمر يدمّر مقدّساته وتاريخه وثوابته.

وفي مقابل هذا المسار الكارثي الذي يحوّل العرب بكل دولهم وشعوبهم، إلى ساحة للحرب والاقتتال العبثي؛ ثمّة مسار آخر لا زال يراهن على الدولة، ويسعى بكل إمكاناته للدفاع عن مبدأ الدولة الجامعة والحاضنة للجميع. وهذا الخيار والمسار يشجّع ويدعو الجميع للخروج من أناهم القبلية والقومية والمذهبية إلى رحاب الاجتماع الوطني الذي يثرى بالجميع، وإلى الدولة التي تتّسع للجميع.

وأمام هذه المسارات ومتوالياتها، لا شك أننا مع المسار الثاني، وندعو إلى تجنيب كل الدول العربية كوارث المسار الأول الذي يدمّر الدولة والمجتمع معًا.

وفي هذا السياق يجدر بنا أن نذكّر الجميع بالحقائق التالية:

1- إن القبائل والمذاهب والأديان، ليست بديلًا أو نقيضًا لمفهوم الدولة وضروراتها السياسية والاجتماعية والإنسانية. وحينما ندعو إلى التشبّث بخيار الدولة والعمل على حماية فكرة الدولة في الاجتماع العربي المعاصر، لا ندعو إلى تدمير القبائل أو المذاهب أو الأديان. وإنما ندعو إلى احترام هذا التنوّع الذي تعيشه كل المجتمعات العربية، ولكنه الاحترام الذي يعزّز خيار الاندماج والوحدة.

لأنه حينما يتشبّث كل طرف بعنوانه الخاص ويتم التضحية بحاضن وجامع الجميع، فإنه يفتح الطريق لفتن وحروب لا تنتهي بين جميع هذه المكوّنات.

وحينما تقصّر الدولة أمام هذه الحقائق، من الضروري أن تُطالب برفع هذا التقصير. ولكن من المهم أَلَّا يقودنا تقصير الدولة أو عدم إيفائها بمتطلبات الحياة إلى التضحية بها؛ لأنه ضرورة لا يمكن لأي مجتمع الاستغناء عنها. والمطلوب دائمًا إصلاح أوضاع الدولة وليس التضحية بها كمؤسسة جامعة وحاضنة للجميع.

وهي ليست بديلًا عن حقائق المجتمع القبلية والمذهبية والدينية، كما أن هذه الحقائق أيضًا ليست بديلًا عن الدولة ودورها ووظيفتها. والمطلوب عربيًّا احترام التنوّع الديني والمذهبي والقومي في المنطقة العربية، وحماية الدولة بوصفها المؤسسة التي لا غنى عنها.

2- إن حماية الدولة ودورها الحاضن لجميع التعبيرات، يتطلّب من جميع هذه التعبيرات الانعتاق من ربقة الأنانية والانكفاء والانطواء وتنمية المساحات المشتركة، التي تحوّل جميع هذه التعبيرات إلى رافد لإثراء الحياة العامة والمشتركة.

وهذا بطبيعة الحال يتطلّب الإعلاء من قيمة المواطنة، بوصفها هي العنوان والحقيقة القانونية والدستورية التي تنظم منظومة الحقوق والواجبات. فالأوطان لا تبنى بانغلاق كل مجموعة على ذاتها، وإنما بانفتاح وتواصل الجميع مع الجميع ضمن رافعة ومحدّد المواطنة الجامعة.

كما أن الأوطان لا تحمى بتنمية النزاعات الطائفية أو أنظمة المحاصصة المذهبية. فالأوطان تحمى بالمساواة والعدالة ووحدة مؤسسة الدولة التي تتعامل مع المواطنين بوصفهم مواطنين وليسوا أفرادًا ينتمون إلى مذاهب وقوميات وقبائل.

وإن انحدار العرب صوب التعامل مع بعضهم البعض بوصفهم طوائف وقبائل، سيدخلهم في أتون أزمات متواصلة، وسيخدم هذا الانحدار الكيان الصهيوني الذي يتطلّع إلى لحظة تآكل وتشظي العرب الداخلي، بحيث يصبح هو الكيان الأقوى والقادر على فرض شروطه على الحياة العربية بأسرها.

لذلك فإن وقف هذا الانحدار ضرورة عربية رسمية وأهلية للحفاظ على فكرة ومؤسسة الدولة ووحدة العرب وللوقوف بوجه المشروع الصهيوني.

3- إن اللحظة السياسية والاجتماعية الحالية التي يعيشها العرب بكل بلدانهم وأقطارهم، تتطلّب صياغة مشروعات وطنية للمصالحة بين مؤسسة الدولة والمجتمع بكل شرائحه وفعالياته؛ لأن هذه المصالحة هي التي ستنقذ العديد من الشعوب العربية من التآكل الداخلي والتشظي الطائفي.

وإن استمرار الفجوة بين الدولة والمجتمع أو بعض فئاته أو شرائحه سيقود إلى وجود مناخ من اللاثقة التي لا تخدم أمن واستقرار الدولة العربية والشعوب العربية.

لذلك فإن تجديد وتفعيل العلاقة وبناء أواصر الثقة بين مؤسسات الدولة والمجتمع بكل فعالياته في الواقع العربي المعاصر يعدّ من الضرورات القصوى التي تجنّب الواقع العربي الكثير من السلبيات والسيئات. وأنه آن الأوان بالنسبة إلى المجتمعات العربية المتنوّعة للخروج من عناوينهم الخاصة إلى رحاب الوحدة الوطنية والمواطنة الجامعة.

فوحدة الأوطان العربية اليوم مرهونة، بوجود مبادرات فعّالة وشجاعة، تستهدف معالجة بعض مشاكل الحياة العربية وتعزيز أواصر العلاقة بين الدولة والشعب، حتى يتمكّن الجميع من إفشال مخططات الأعداء التي تعمل بوسائل عديدة لتقسيم العالم العربي وإدخاله في أتون معارك عبثية، تدمّر كل مكاسب العرب، وتنهي أسباب الاستقرار السياسي والاجتماعي في كل الدول العربية.

وخلاصة القول: إننا ندعو جميع العرب بكل انتماءاتهم وأيديولوجياتهم، للتمسّك بفكرة الدولة لديهم، لأنه بدونها سنبقى كانتونات متحاربة ومتنازعة ومكشوفة لإرادات الأعداء ومخططاتهم الشيطانية.

العرب وتحديات العنف والطائفية

تعيش المنطقة العربية بكل دولها وشعوبها أزمتين أساسيتين:

الأولى: انتشار ظاهرة العنف ببعديه السياسي والديني، وهي ظاهرة خطيرة وتؤدّي وفق ميكانيزمات عملها إلى تخريب النسيج الاجتماعي والدخول في دورة الدم المسفوك بدون وجه حق. كما أن هذه الآفة تفضي إلى تخريب حالة الاستقرار السياسي العميق. ولعل أبرز مخاطر العنف في الحياة الاجتماعية والسياسية العربية، هو دخول هذه الآفة في المعترك السياسي.

والثانية: هي بروز الطائفية بكل حمولتها التمزيقية والتقسيمية في المنطقة العربية. بحيث أضحى الجميع يتحدّث عن العناوين واليافطات الطائفية، بوصفها هي عناوين الحامل الديني والاجتماعي والسياسي الذي يطالب بالتغيير والتحوّل الديمقراطي.

وكلنا يعلم أن كل النزعات الطائفية هي نزعات تمزيقية في الأمة. ولجوء تعبيرات المجتمع لهذه العناوين يعكس فيما يعكس أزمة عميقة تعيشها المجتمعات العربية كلها؛ إذ تلاشت أو اضمحلت عناوين ويافطات الانتماء السياسي الحديث، واستُبدلت بعناوين طائفية عصبوية، تزيد من حالة التوتر الاجتماعي، وتعيد إنتاج أزمات المجتمعات العربية بإحن ومشاكل ذات طابع تاريخي مليء بالأحقاد والإرث الدامي للعلاقة بين الطوائف الإسلامية في حقب التخلّف الحضاري.

والصعوبة تكون مضاعفة حينما تتحالف قوى العنف والتعصّب مع القوى الطائفية التي لا ترى استقرارها السياسي والاجتماعي إلَّا باجتثاث القوى الطائفية المقابلة.

فالأحقاد الطائفية تصنع مبرّرات ومسوّغات استخدام العنف في الحياة العامة، وهي ذاتها -أي الأحقاد الطائفية- هي التي تغطّي فعل العنف الهمجي الذي يدمّر الإنسان والمجتمع والبنية التحتية للحياة الكريمة بكل تفاصيلها.

كما أن بروز هذه المشاكل ومتوالياتها الأمنية والسياسية والاجتماعية، هي التي تربك الساحة الاجتماعية، وتضيع فرص التحوّل الديمقراطي في المنطقة العربية.

لذلك ثمّة ضرورة ثقافية واجتماعية وسياسية لتحليل ظواهر العنف واللجوء إلى الطائفية؛ لأن التحليل العميق لهذه الظواهر هو الذي يوصلنا إلى معالجات حقيقية وجادّة لهذه الآفات التي بدأت بالبروز في الحياة العامة، وأدخلت جميع المجتمعات العربية في تهديد مباشر لأمنها ووحدتها الوطنية واستقرارها السياسي العميق.

وكل الأطراف المعنية بمتابعة هذه الظواهر بحاجة، لبناء تفسير علمي - موضوعي لظواهر العنف والطائفية التي برزت في المشهد العربي.

لأننا نعتقد أن استيطان هذه الظواهر في الاجتماع العربي المعاصر، سيضيع على المنطقة العربية فرصة التحوّل الديمقراطي الذي يستهدف بناء حياة سياسية جديدة في المنطقة العربية خالية من العنف الذي يدمّر كل مكسب ويحوّل السياسة إلى فضاء لممارسة التوحش بكل صنوفه.

والطائفية بوصفها هي سلاح تفجير التناقضات الداخلية في الاجتماع العربي المعاصر، كما أنها تدخل الجميع في أتون صراعات وحروب عبثية لا طائل من ورائها.

فالمستقبل السياسي للعرب يكون مزدهرًا بمقدار ما يتخلّص من ظواهر العنف والطائفية.

وستضيع كل فرص العرب في المدنية والتحوّل الديمقراطي حينما تتحكّم هذه الظواهر في مساره ومصائره.

من هنا فإننا نعتقد أن من أهم الأزمات والمشاكل التي تواجه العالم العربي اليوم، هي مشكلة العنف، وبالخصوص العنف الديني الذي يقتل ويفجّر ويدمّر كل شيء يقف في طريقه.

ومشكلة الطائفية التي تفرّق بين المواطنين على أسس واعتبارات طائفية ومذهبية. وهذه المشكلة تهدّد استقرار وأمن كل المجتمعات التي تعيش حالة من التنوّع والتعدّد المذهبي.

وأمام هذه الأزمات ومتوالياتها الخطيرة على أكثر من صعيد ومستوى، من الضروري الوقوف أمام هذه المشاكل عن طريق النقاط التالية:

1- رفع الغطاء الديني والاجتماعي عن كل الممارسات العنفية والطائفية؛ لأن فعالية هذه الأزمات تكون حيوية حينما تُغطّى دينيًّا واجتماعيًّا. ونعتقد أن رفع الغطاء الديني والاجتماعي سيجنّب كل المجتمعات التي تعاني من هذه الأزمات الكثير من الاحتمالات السيئة، التي يمكن وصفها بأنها احتمالات كارثية؛ لأن العنف الديني يمارس القتل والتفجير في سياق مبرّرات دينية. وإن هذه المبرّرات الدينية لا يمكن أن تتوقّف؛ لذلك هي بمثابة الزخم الشرعي الذي يمدّ صنّاع القتل والتفجير بكل المبرّرات والمسوّغات التي تبرّر له قيامه بعمله العنفي.

لذلك إذا لم تسارع كل النخب الدينية والاجتماعية بممارسة موقفها الناقد من كل الممارسات العنفية والطائفية فإن هذه الممارسات ومفاعيلها الأمنية والسياسية والاستراتيجية ستهدّد بشكل جدّي أمن واستقرار أكثر المجتمعات العربية التي تعاني من مشكلة العنف والطائفية.

2- بناء حقائق السلام والتسامح وصيانة حقوق الإنسان وجودًا ورأيًا، والابتعاد عن كل نزعات التعصّب الأعمى وكراهية المختلف والشعور بامتلاك الحق والحقيقة. فمواجهة العنف والطائفية لا يمكن أن يتحقّق بالرغبات المجرّدة والمواعظ الأخلاقية، وإنما هو بحاجة إلى كل الحقائق المضادّة في الواقع الاجتماعي والوطني.

3- تجسير العلاقة بين المختلف وتوفير كل أسباب التفاهم والتلاقي بين المختلفين. فليس قدرنا أن نتحارب ونتواجه مع بعضنا البعض، وإن تصميمنا ينبغي أن يتّجه صوب كل المبادرات التي تعزّز كل فرص التلاقي والتفاهم بين المختلفين.

«إن لجوء السلطة إلى ممارسة القهر السياسي ليس تعبيرًا عن القوة -أو عن فائض القوة- لديها كما قد يظن، وإنما هو بالعكس تعبير عن مقدار ما تعانيه من عجز في القوة. وهذا معناه، من وجه آخر، أن معيار قوة الدولة ليست ماديًّا فحسب وفي جميع الأحوال (أو في المقام الأول) إلَّا إذا عُني الوجه المادي من القوة ما ليس ذا صلة بالعنف وأدوات العنف مثل القوة الاقتصادية والخدمية والرعائية وما في معناها من السجايا التي تكون بها دولة ما قوية في أعين مواطنيها وجديرة باحترامهم وولائهم لها. بل إن معيار القوة شامل سائر العناصر التي تكون بها شوكة الدولة وهيبتها ومهابتها؛ إذ القوة هنا هي مجموع القدرات الشرعية التي تملكها الدولة ويسلم لها بها المجتمع (بما فيها العنف الشرعي)، وقد تكون جوانبها المادية الأقل أهمية إن كان معناها ينحصر فقط في نطاق ما هو أمني. بل إننا لا نتزيَّد ولا نُغالي حين نذهب إلى القول: إن القوة الحقيقية للدولة هي القوة غير المادية، هي قوتها الأخلاقية وقوتها الإنجازية، وهي هي التي تحقّق بها الدولة الاستقرار السياسي والأمن الاجتماعي وتضمنهما»[1].

القابلية على الطائفية

في سياق الجهد الفكري والمعرفي الذي بذله المفكّر الجزائري مالك بن نبي، على فحص وتحليل ظاهرة الاستعمار، ولقد أبدع ابن نبي حينما صاغ مفردة ومفهوم (القابلية على الاستعمار)، وأن هذه القابلية هي التي تُهيِّئ الأرضية والمناخ السياسي والاجتماعي للقبول الفعلي بالحركة الاستعمارية. وإنه لا يمكن مواجهة الاستعمار مواجهة فعلية وحقيقية بدون إنهاء حالة القابلية للاستعمار في نفوس وعقول الناس. ولقد اعتبر هذا المفهوم مثابة المفتاح السياسي لفهم الكثير من الظواهر والممارسات التي رافقت الاستعمار في العديد من البلاد العربية والإسلامية. وانطلاقًا من مضمون هذا المفهوم الذي صاغه ابن نبي، نتمكّن من فهم العديد من الظواهر التاريخية والاجتماعية والسياسية في البلدان العربية والإسلامية. ولو تأمّلنا في كل الظواهر السياسية التي سادت في المنطقة العربية نتمكّن من فهمها بشكل دقيق من خلال العدّة النظرية والمفهومية التي صاغها ابن نبي حين الحديث عن القابلية للاستعمار. بحيث أضحت هذه العدّة النظرية بمثابة خريطة الطريقة لفهم العديد من الظواهر السياسية والاجتماعية في الفضاءين العربي والإسلامي. وفي سياق ابتلاء المنطقة العربية والإسلامية اليوم بظاهرة الطائفية وقدرة هذه الظاهرة الخطيرة على تمزيق كل المجتمعات والشعوب، لن تتمكن من دحر خطر هذه الظاهرة أو الحد من غلوائها من دون العمل على تفكيك حالة القابلية الموجودة في النفوس والعقول للانخراط في الفعل والممارسة الطائفية. ولا يمكن على المستوى الواقعي من مواجهة الطائفية بكل صورها وأشكالها إلَّا بإنهاء وتفكيك ظاهرة القابلية إليها والخضوع إلى مقتضياتها. ولو تعمّقنا في ظاهرة الممارسات الطائفية، لوجدنا أن أكثر المتورّطين بهذه الممارسات يحملون القابلية النفسية والثقافية للانخراط في كل الممارسات الطائفية. وإن هذه الممارسات لن يتمكّن أحد من إنهائها إلَّا بتفكيك ظاهرة القابلية النفسية والثقافية للانخراط في السلوك والممارسات الطائفية. ولكي تتّضح كل أبعاد هذه القابلية، سنحاول أن نوضح هذه الأبعاد من خلال النقاط التالية:

1- واهم من يعتقد أنه يدافع عن حقوقه وذاته الاجتماعية حينما ينخرط في الفعل والممارسة الطائفية؛ لأن الخضوع للفعل الطائفي هو أحد مصادر تضييع الحقوق. ومن ينخرط في الممارسة الطائفية بدعوى الدفاع عن الذات وحقوقها، هو يوفر المناخ المؤاتي لإنهاء أو تدمير كل خطوط الدفاع عن الذات وحقوقها ومصالحها. الطائفية مرض خطير في كل أحوالها وظروفها، ولا يمكن أن تدافع عن مجتمع بإسقاطه في مرض الطائفية. فالأمراض لا تدافع عن الحقوق والمصالح. لذلك نهيب بكل الإفراد والمجتمعات الذين يطمحون إلى الدفاع عن حقوقهم ومصالحهم، لعدم الوقوع في رذيلة الطائفية؛ لأن هذه الرذيلة تدمّر كل ممكنات الانعتاق من كل هذه الأمراض التي تدمّر كل المناخ الصحي الذي يحفظ الحقوق والمصالح للجميع. ومن يعتقد أنه حينما يخضع للمقولات الطائفية هو يدافع عن حقوق جماعته ومصالح مجتمعه، هو يزيّف وعي الجميع. من يريد أن يدافع عن جماعته ومجتمعه عليه أن يطهر نفسه وعقله من كل جراثيم الطائفية.

2- من هنا تتأكّد الحاجة النفسية والمعرفية للانعتاق من كل الممارسات الطائفية، سواء كانت هذه الممارسات تنتمي إلى حقل الطائفية الناعمة أو تنتمي إلى حقل الطائفية الصلبة أو الخشنة. والمجتمع الذي يخضع لكل المقولات الطائفية هو يمارس التدمير الذاتي ويساهم بشكل مباشر في تنمية كل عوامل الفرقة والتشظي في حياته الداخلية. الطائفية مرض خطير ووجود غلبة لهذا الطرف أو ذاك، أو وجود ممارسة طائفية من هذا الطرف أو ذاك، ينبغي أَلَّا يُشجع أحدٌ على الوقوع في مهاوي الطائفية. فلنعمل بوعي وحكمة لتطهير نفوسنا وعقولنا من كل جراثيم الطائفية، ومن خلال عملية التطهير نتمكن من تحصين واقعنا الاجتماعي والثقافي من الوقوع في مهاوي الطائفية. ونقولها بصراحة تامة: لا تعالج المشاكل الطائفية بصنع مشكلات مماثلة ومقابلة للطرف الذي يؤجّج الأزمات الطائفية. الطائفية بكل رموزها وزخمها التمزيقي لا تدافع عن حق أو مجتمع. ومن يعتقد أنه لا يمكن وقف صعود هذه القوة أو تلك بإشغالها بالأزمات الطائفية، هو يعمل بدون وعي على توسيع دائرة الحريق في الأمة والمجتمعات العربية والإسلامية.

3- بعيدًا عن التلاوم المتبادل وتوزيع تُهم: مَنْ بدأ ومارس الطائفية؟ ومن ذهب إليها كردّة فعل؟ نقول: بعيدًا عن هذا التلاوم الذي يؤكّد المنطق الطائفي ولا يتحرّر منه؛ تعالوا معًا نبرأ إلى الله سبحانه وتعالى من كل الممارسات الطائفية، ونقف معًا على أرضية احترام التنوّع الموجود في الأمة مع صيانة عزّة الأمة ووحدتها الداخلية. فالطائفية قيد على الجميع، ولا يمكن أن نعتقد أن القيود تحقّق انتصارات أو مكاسب. وجود ممارسات طائفية ينبغي أَلَّا يدفعنا إلى الخضوع إلى المنطق الطائفي، بل على العكس ينبغي أن يدفعنا إلى التعالي على كل الجراحات المذهبية والطائفية. بهكذا ممارسة نفكّك كل عناصر القابلية النفسية والثقافية للخضوع للمنطق الطائفي. وإن التساهل مع الحرائق الطائفية سيدمّر كل عوامل الوحدة والتماسك في كل مجتمعاتنا العربية والإسلامية. وعليه فإن كل من يريد أن يحافظ على وحدة وطنه ومجتمعه، عليه أن يعمل نفسيًّا وثقافيًّا لتحرير مجتمعنا من كل سمات القابلية للتطرّف والطائفية. فهو سبيلنا للتحرّر من كل موبقات الطائفية ومتوالياتها المدمّرة لكل أسباب الاستقرار السياسي والاجتماعي.

والطائفية كممارسة تمييزية بين المواطنين، ليست وليدة الطائفة، وإنما وهي وليدة بنية الدولة في العالم العربي، حيث إنها بنية طاردة لبعض مكوّنات مجتمعها؛ لذلك فإن بنية الدولة والاستبداد السياسي هما المسؤولان عن نشوء ظاهرة الطائفية في أيّ مجتمع من المجتمعات. والطائفة كمكوّن ديني وتعبير قيمي، هي بريئة من هذه الظاهرة التي تمزّق المجتمعات وتقضي على مستوى الانسجام الداخلي بين المجتمعات. «فظاهرة الطائفية السياسية التي تشغل الناس في الحاضر، ليست ظاهرة أزلية، ولا هي ملازمة للعرب أو الشرقيين. وفي الدولة العربية ما بعد الاستقلال، كانت الطائفية، وحتى القبلية والجهوية حيث لم توجد طوائف، كامنة في بنية الدولة الهشة بنيويًّا، (القوية) ظاهريًّا. فقد سهّلت هذا الهشاشة البنيوية على نخب سياسية ودول إقليمية استدعاءها ضد النظام القائم أو في الدفاع عنه؛ لأن التفسير الطائفي لنظام الأشياء في الدولة ولبعض خطواتها وإجراءاتها كان قائمًا في وعي الناس، سواء أكان مكبوتًا أن معبّرًا عنه في المجال الخاص. وفي حُمَّى الصراع، كانت أيديولوجيا المظلومية الطائفية والجهوية تستحضر تبريريًّا في ذهن الحكام والمحكومين. أما شعار (الوحدة الوطنية) الذي عرفته مرحلة الاستعمار، فلم يكن وهمًا بل تعبيرًا حقيقيًّا عن تطلّعات فئات اجتماعية ومصالحها، ولكنه أصبح يموّه الإحساس بالهشاشة الاجتماعية والوطنية»[2].

العرب الشيعة والمسألة الطائفية

لأسباب وعوامل سياسية ومجتمعية عديدة، لم تتمكّن المجتمعات العربية التعامل مع التنوّع المذهبي الذي تعيشه على نحو إيجابي. حيث إن أغلب المجتمعات العربية، التي تعيش حقائق التنوّع والتعدّد، تعاني من مشكلة حقيقية تتجسّد في عدم قدرة هذا المجتمع من التعامل على نحو ايجابي مع حقائق التعدّد التي تحتضنها. وفي تقديرنا، إن العوامل الأساسية التي تنتج هذه الظاهرة أهمها الآتي:

1- طبيعة الأنظمة السياسية السائدة في أغلب دول المنطقة العربية؛ لأن أغلب هذه الأنظمة لا تعترف إلَّا برأيها وأيديولوجيتها، وكل رأي مختلف أو أيديولوجية مغايرة، فإن الموقف الأساسي منها هو الخصومة والتهميش وممارسة التمييز ضد أهلها.

2- الرؤية الدينية المتطرّفة التي تتعامل مع ذاتها، بوصفها هي القابضة على الحق والحقيقة، ودونها من الرؤى الدينية تتّهم في شرعيتها ويطلق عليها العديد من الأوصاف ومن أبرزها الهرطقة الدينية، وبالتالي فإن أصحاب هذه الرؤية الدينية مآلها الإبعاد وممارسة الاستثناء معها في أغلب جوانب ومجالات الحياة.

3- طبيعة الثقافة السياسية السائدة في المنطقة العربية، وهي ثقافة في أغلب جوانبها، معادية لكل حقائق التعدّد والتنوّع. وبالتالي فإن طبيعة التكوين الثقافي السياسي لأغلب أبناء النخبة السياسية، لا ترى خيرًا في التعدّد والتنوّع، وتتعامل مع بعض حقائقه ومتطلباته بوصفها مناقضة للوحدة الاجتماعية والوطنية. وعليه فإن المطلوب هو التعامل مع هذه الحقائق بوصفها حقائق مضادّة للمشروع الأيديولوجي أو السياسي الذي تحمله النخب السياسية السائدة. ولا فرق جوهري بينها على هذا الصعيد، سواء كانت هذه النخب تتبنّى الرؤية الدينية أو تتبنّى الرؤية القومية. فكل الأنظمة السياسية ذات الصبغة الدينية، سقطت في امتحان التعدّدية، ولم تتعامل مع حقائق التنوّع في مجتمعها على نحو إيجابي. كما أن الأنظمة القومية – التقدمية سقطت في ذات الامتحان، ولم تتمكّن من بناء نموذج إيجابي في طريقة التعامل مع حقائق التنوّع في مجتمعها. أنظمة سياسية مارست الطائفية والتمييز الطائفي، على خلفية مذهبية متطرّفة أو معادية لكل حقائق التعدّد والتنوّع في مجتمعها. وأنظمة سياسية أخرى مارست التمييز الطائفي على خلفية احتكار السلطة والثروة. وعلى ضوء هذا الاحتكار هي تمارس عملية الطرد لبعض مكوّنات مجتمعها. ولعل من أبرز مبرّرات الطرد الانتماء إلى مذهب أو مدرسة فقهية أو سياسية تشكّل خطرًا على أمن البلد واستقراره السياسي. وعلى ضوء هذه الحقائق، لم يتمكّن العرب في أغلب دولهم، من بناء نموذج حضاري في طريقة التعامل مع حقائق التعدّد المذهبي الموجودة في المجتمعات العربية.

والإخفاق المتراكم في طريقة التعامل مع حقائق التعدد المذهبي، أنتج مشكلة سياسية عميقة في الاجتماع العربي المعاصر يمكن تسميتها بالمشكلة الطائفية.

ولو تأمّلنا في تجربة العرب الشيعة في أغلب دولهم العربية لوجدنا أن هذا المكوّن يعاني من مشكلة التمييز الطائفي الذي يمارس عليه لاعتبارات سياسية تتعلّق بطبيعة التكوين السياسي للدولة أو من مقتضيات الاستبداد والاستفراد والاستئثار بالسلطة والثروة.

وعليه فإن العرب الشيعة في أغلب دولهم العربية المعاصرة، يتمّ التعامل معهم بوصفهم مواطنين من الدرجة الثانية أو الثالثة.

وإن جلّ ما يتطلّعون إليه -على هذا الصعيد- هو مساواتهم مع بقية المواطنين، ورفع كل أشكال التمييز الطائفي عن واقعهم ومجتمعهم. وهذا الواقع الطائفي متعدّد الوجوه والأشكال، يفرض على كل من يدرس واقع العرب الشيعة من الاقتراب من تحليل ونقد الواقع الطائفي في المنطقة العربية.

وانطلاقًا من هذا سنعمل على مقاربة هذا الموضوع من خلال العناوين التالية.

فالطائفية في جوهرها ليست وليدة حالة التعدّد الفقهي والمذهبي، الذي نظر إليه الماضون من العلماء والمؤرخين والفقهاء بوصفه نتاج طبيعي لمبدأ الاجتهاد. فما دمنا نجتهد وفق الضوابط الشرعية المقرّرة، فالمحصلة الطبيعية لمبدأ الاجتهاد وجود آراء وقناعات متعدّدة في الموضوع الواحد. وتعدد المدارس الفقهية في التجربة التاريخية الإسلامية، هو وليد مبدأ الاجتهاد؛ لذلك فإن تعدّد المدارس الفقهية هو نتاج حيوية الواقع الإسلامي والعلمي للمسلمين، وما نسميه الطائفية ليس لها أية صلة بحالة التعدّد والتنوّع، وإنما هي نتاج خيارات مجتمعية، أفضت في الأخير إلى بروز هذه المعضلة في الواقع الإسلامي. والمهمّة المعاصرة للمسلمين جميعًا التفكير في معالجة هذه المعضلة، دون الأضرار أو التشنيع بقيمة التعدّد والتنوّع الذي تزخر به مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة.

ونعتقد أن التمسّك بجوهر الإسلام ومناقبيات الأخلاقية والسلوكية، هو الكفيل بمعالجة كل المشاكل والتوترات والأزمات التي تعانيها مجتمعاتنا العربية والإسلامية تحت عنوان ويافطة الطائفية.

والعرب الشيعة كغيرهم من المسلمين، يتحمّلون مسؤولية مباشرة في معالجة هذه المعضلة التي تهدّد استقرار كل الدول والمجتمعات. ونرى أن العرب الشيعة بإمكانهم القيام بالأدوار التالية:

1- تعزيز خيار التواصل والانفتاح على بقية المسلمين بمختلف مدارسهم الفقهية. فالعرب الشيعة في كل مجتمعاتهم ليس لديهم مشروع خاص، وإنما مشروعهم هو مشروع أوطانهم. والمشاكل التي يعانوها لا يمكن أن تعالج بمعزل عن معالجة مشاكل الوطن المختلفة، لذلك فإن السبيل إلى معالجة مشاكلهم ومآزقهم هو في إنهاء الحواجز التي تفصلهم عن بقية المسلمين، وهي بالمناسبة حواجز لا تتعلق بقناعاتهم الذاتية والمذهبية، وإنما تتعلّق بخياراتهم المجتمعية.

فالانفتاح وتجسير العلاقة مع بقية المسلمين مهما كانت الصعوبات، هو أحد الخيارات الاستراتيجية المعنية بتذويب كل المشاكل في العلاقة بين جميع المسلمين بكل تعدّدهم الفقهي والمذهبي والاجتماعي.

2- استمرار نهج الاعتدال العقدي والثقافي والسياسي. فلا مجال للوصول إلى الغايات والأهداف الوطنية برافعة الغلو والتطرف. ونعتقد أن هذه الرافعة تزيد من محن ومآزق الجميع. فمهما كانت موجة التطرّف التي تجتاح الكثير من مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فإن من الضروري لكل العرب الشيعة من التمسّك والتشبث بخيار الاعتدال في الدوائر العقدية والسياسية والثقافية.

3- المعضلة الطائفية في كل المجتمعات العربية والإسلامية، لا يمكن أن تعالج بوسائل مذهبية؛ لأن هذه الوسائل تعزّز تلك النزعة الطائفية تبقى المواطنة المتساوية والقاعدة الوطنية والمدنية هو سبيل كل المجتمعات لمعالجة المعضلة الطائفية. فالوسائل المذهبية تبقي الجدل والسجالات في مربعها الأول، أما الاستناد إلى القيم المدنية والتي من ضمنها المواطنة المتساوية، فهي تنقل الجدل إلى مربع مختلف، يتساوى فيه الجميع، ويوفّر هذا المربع القدرة على معالجة هذه المعضلة دون الأضرار بوحدة أوطاننا ومجتمعاتنا.

«وقد تتدهور الطائفية لتصبح شكل من إشكال العنصرية بوصفها تركيبًا اجتماعيًّا ثقافيًّا لتكريس الاختلاف وجعله أساسًا لبناء السياسات والتمييز بين البشر على أساس الفوارق المركبة اجتماعيًّا»[3].

في نقد التحليل الطائفي

تكثر في أزمنة انفجار الهويات الفرعية -أي هويات ما قبل المواطنة الجامعة والدولة الحديثة- الأحكام الكاسحة على هذه الهويات الفرعية وكأنها حالة ثقافية وسياسية واحدة ومتّحدة. فالهويات الفرعية ليست على المستويين الثقافي والسياسي، رأيًا واحدًا، وموقفًا واحدًا، وإنما هي كأيّة بيئة اجتماعية، تتّحد في بعض العناوين، وتختلف في عناوين أخرى. وهذه هي الحقيقة الوحيدة في داخل كل هوية فرعية موجودة في أي بيئة اجتماعية.

والتعامل مع أهل هذه الهويات الفرعية، وكأنها حزب سياسي أو مجموعة ثقافية منسجمة وتستهدف أهداف وغايات مشتركة، يشكل مجافاة صارخة للواقع من جهة، ومن جهة ثانية، يساهم في تأجيج التوترات بين جميع المكوّنات وأهل الهويات الفرعية.

والأدهى من ذلك، والذي يُثير الكثير من الغرابة والاستهجان في بعض الأحيان، حينما نحلّل الأحداث والتطوّرات السياسية والاجتماعية انطلاقًا من وحدة الماهية والرأي والموقف لمجتمعات الهويات الفرعية؛ لأن هذه التحليلات المستندة على الوحدة السياسية للطوائف والقبائل والعشائر وكل هوية فرعية أخرى، تتعامل مع هذه الوجودات الاجتماعية بسطحية، وبتجاهل لحقيقة تعدّد الخيارات الثقافية والسياسية لكل المجموعات البشرية؛ لذلك فإن نتائج التحليل في أغلبها تزيد من الهواجس، وتمعن في التقسيم العمودي والأفقي للمجتمع، وتعيد كل أعباء التاريخ وأحداثه إلى اللحظة الراهنة مع بهارات جديدة، تزيد من الإحن والأحقاد ومسوغات الفرقة والتشظي بين أهل الوطن الواحد.

لذلك فإننا نعتقد أن التفسير الطائفي أو الطوائفي للأحداث، هو تفسير لا يتمكّن من استيعاب كل جوانب الحدث ومتوالياته، كما أنه لا يوصلنا إلى قراءة عميقة ودقيقة لكل الأحداث والتطورات. صحيح أن العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه يشهد اليوم عملية استقطاب طائفي ومذهبي حادّ، وتأتي الأحداث السياسية والتطوّرات الأمنية في أكثر من بلد عربي وإسلامي، لتغذّي عملية الاستقطاب، وتزيدها حدّة واشتعالًا وعمقًا، ولكن لا يمكن الاستسلام لمقتضيات الاستقطاب الطائفي الحادّ، ونخضع كل أدواتنا الثقافية والعلمية والتحليلية إلى سياقها التاريخي والاجتماعي؛ لأن هذا الخضوع يدخل المنطقة العربية برمتها في أتون حروب طائفية – عبثية، لا أفق لها إلَّا دمار الجميع، والقضاء على كل أسس وموجبات الاستقرار السياسي والاجتماعي في كل بلدان المنطقة.

لذلك نحن نحذّر من الاستسهال في استخدام المنطق الطائفي والمذهبي، في النظر إلى أحداث المنطقة وتطوّراته المتعدّدة، ووجود طرف مذهبي أو طائفي له قناعاته الفكرية والسياسية لا يبرّر لأيّ أحد إطلاق نعوتات أو أحكام قيمة كاسحة على جميع من ينتمون إلى الإطار المذهبي والطائفي.

وبلغة أكثر شفافية وصراحة، إن اختلاف دول المنطقة مع دول وأطراف شيعية في المنطقة، ينبغي أن لا يدفع هذه الأطراف إلى إطلاق أحكام أو أوصاف بحق الشيعة في كل مناطقهم وبلدانهم. وإن غض النظر أو التساهل مع المواد والبرامج الإعلامية والدينية، والتي تطلق أحكامًا قاسية ضد عموم الشيعة العرب، ينذر بمخاطر ينبغي تلافيها، بعدم التعميم، وإنهاء الخطابات الطائفية التي تتعامل مع الشيعة بوصفهم عدو الأمة، وأن فيهم ما فيهم على المستويات العقدية والأخلاقية والاجتماعية.

إننا ومن موقع حرصنا على أوطاننا ومجتمعاتنا، نرفض هذه الخطابات وهذا السلوك، وندعو عقلاء الأمة من جميع الأطراف إلى الانتباه إلى مخاطر هذا التوجّه على الأمن والاستقرار في كل دول المنطقة. فالشيعة في منطقة الخليج هم جزء أصيل من أوطانهم، وبذلوا الكثير عبر التاريخ من التضحيات في سبيل عزّة أوطانهم، ويرفضون كل نزعات فحص الدم مع كل حدث سياسي يجري في المنطقة، كما يرفضون إطلاق نعوتات وأوصاف سيئة بحق مذهبهم وقناعاتهم المذهبية. والأوطان لا تُبنى إلَّا بعلاقة إيجابية بين جميع أطرافه ومكوّناته.

وبناء العلاقة الإيجابية بين جميع الأطراف، هي مسؤولية الجميع، ولكن من الضروري القول في هذا السياق: ضرورة العمل على تحييد المكوّنات الوطنية من حالة الاستقطاب الطائفي التي تشهدها المنطقة.. وعملية التحييد تعني:

1- رفض التحليل الطائفي للأحداث السياسية، وعدم التعامل مع هذه المكوّنات، وكأنها على رأي واحد في كل مسائل السياسة وشؤون الحياة.. فهم مجتمع كبقية المجتمعات فهم متعدّدون ومتنوّعون على مستوى قناعاتهم الفكرية وخياراتهم السياسية والثقافية.

2- ثمّة علاقة جدلية بين الانتماء الوطني والانتماء المذهبي أو الديني أو القومي.

وطبيعة الخيارات السياسية والثقافية والاجتماعية، هي التي تحدّد إلى حدّ كير طبيعة العلاقة بين الانتماء الوطني والانتماء المذهبي والديني والقومي. فكل إنسان بصرف النظر عن نوعية انتمائه، يعتزّ بوطنه ويدافع عن مكتسباته، ويسعى لتحسين واقع حياته ومعيشته فيه (أي في الوطن) كما أن كل إنسان يعتزّ بقناعاته الدينية والمذهبية، ولا يرون ثمّة تناقضًا بين الاعتزاز بالانتماء الوطني والاعتزاز بالانتماء الآخر؛ لذلك ثمّة تكاملًا واقعيًّا وحقيقيًّا بين دوائر الانتماء التي يعيشها الإنسان في الوجود الاجتماعي والوطني.

ولا مقايضة بين هذه الانتماءات؛ لأن كل دائرة من دوائر الانتماء تلبّي حاجة أصلية من حاجات الإنسان المادية والمعنوية.

فالمطلوب ليس طرد الناس من انتماءاتهم الدينية أو المذهبية أو القومية، بدعوى الانتماء الوطني أو العكس، أي طرد الناس من انتماءهم الوطني بدعوى الانتماء الديني أو المذهبي أو القومي. فالمطلوب هو بناء صيغة توافقية وتكاملية بين هذه الانتماءات بحيث يعتزّ بهما جميعًا، ويفي بمتطلبات الانتماء إليهما.

فالانتماء الوطني انتماء أصيل ونهائي، ولا يمكن تعويضه بأيّ انتماء، كما أن الانتماء الآخر هو انتماء أصيل وليس بديلًا عن دوائر الانتماء الأخرى. والأوطان جميعًا لا تُبنى على الانتماء الواحد والبسيط، وإنما تُبنى على مجموعة من دوائر الانتماء المتداخلة والمتكاملة في آن.. تبدأ بالانتماء إلى أسرة وعائلة مرورًا بالانتماء إلى وطن ودين ومذهب وتنتهي إلى الانتماء الإنساني. فالناس صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق.

3- على المستوى الوطني ندعو مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني إلى تفعيل دوره وتطوير مبادراته في سياق الحوار بين تعبيرات المجتمع السعودي، في لحظة عصيبة على الجميع، حيث الاستقطابات الطائفية والسياسة الحادّة.

فتفعيل الحوار، والقيام بمبادرات جديدة ونوعية في هذا السياق، يساهم في تقديرنا في الحدّ من غلواء التطرّف ونزعة الاستقطاب الطائفي، التي تنعكس بشكل أو بآخر على مجتمعنا.

فالحوار هو سبيل جميع المكوّنات للحفاظ على مجتمعهم وسلامة وطنهم. إننا في الوقت الذي نعبّر عن تضامننا مع كل الشعوب المطالبة بحريتها وإصلاح أوضاعها، نرفض أن نتحمّل مسؤولية أعمال غيرنا وخياراتهم السياسية والثقافية.

في نقد الطائفية

ثمّة سباق محموم ومريب في آن في الساحات العربية والإسلامية التي يتواجد فيها تعدّديات دينية ومذهبية، فجميع الأطراف المذهبية اليوم تتحدّث عن مظلومية قد لحقت بها، وتعمل في ظلّ هذه الظروف لإنهاء هذه المظلومية والقبض على حقائق الإنصاف التي افتقدتها منذ فترة زمنية طويلة.

وهذا المنطق لا يقتصر على فئة دون أخرى، بل هو يشمل جميع الفئات والمكوّنات.

والذي يثير الهلع والخوف على حاضر ومستقبل هذه المجتمعات والأوطان، هو شعور الجميع أن حقّه المغتصب موجود لدى الطرف والمكوّن الآخر، فالجميع يطالب الجميع، والكل يشعر بالظلم من الكل. ونحن هنا لا نود التدقيق في هذه الادّعاءات ومدى صوابيتها وأحقيتها، وإنّ ما نودّ التأكيد عليه وإبرازه أن هذا السباق المحموم نحو الصراعات الطائفية والفتن المذهبية لا يستثني أحدًا. فالطرف الغالب والمسيطر يعمل على إدامة سيطرته، دون الالتفات إلى حقوق الأطراف والمكوّنات الأخرى.

والأطراف المغلوبة تشعر أن هذا الزمن بتحوّلاته المتسارعة هو الزمن النموذجي للمطالبة بالإنصاف والحقوق، وكل طرف يعمل عبر وسائل عديدة لإبراز أحقيته، وأن حقوقه المستلبة هي موجودة لدى الطرف والمكوّن الآخر، ممّا يوفّر للسجالات المذهبية والفتن الطائفية أبعادًا أخرى، تمسّ الاستقرار السياسي والاجتماعي في كل المجتمعات التي تحتضن تعدّديات وتنوّعات دينية ومذهبية. ونحن نعتقد أن استمرار عمليات التحريض الطائفي، ودفع الأمور نحو الصدام بين أهل الطوائف والمذاهب، هو مضر للجميع ولا رابح من ورائه؛ لأن الحروب الطائفية لها دينامية خطيرة، لا يمكن لأيّ طرف أن يتحكّم فيها؛ لهذا فإننا نرى أن اللعب بالنار الطائفية من المخاطر الجسيمة التي تلقي بشررها على الجميع.

وفي سياق نقد الطائفية في مجتمعاتنا، وضرورة العمل على إيقاف الفتن الطائفية المقيتة نود التأكيد على النقاط التالية:

1- من الضروري التفريق بين حالة التمذهب الكلامي والفقهي وبين النزعة الطائفية، فمن حق الجميع في الدائرة الإسلامية والإنسانية أن يلتزم بمدرسة عقدية أو فقهية؛ لأن عملية التمذهب الفقهي هي من خواص كل إنسان.

ولا يحق لأيّ إنسان أن يعارض خيارات الإنسان الآخر (الفردية)، وهذا الحق ينبغي أن يكفل للجميع، بصرف النظر عن نظرتنا وموقفنا من الحالة المذهبية التي تمذهب بها هذا الإنسان أو ذاك؛ لأن الإنسان بطبعه ميّال ونزّاع إلى تعميم قناعاته ومرتكزاته العقدية أو الفلسفية، ولكن هذا الميل والنزوع لا يشرّع لأيّ إنسان أن يمارس القسر والفرض لتعميم قناعاته وأفكاره.

فالتمذهب حالة طبيعية في حياة الإنسان، وهي من خواصّه كفرد في الوجود الإنساني، ولكن إذا تطوّرت عملية النزوع والميل لتعميم القناعات إلى استخدام وسائل العنف بكل مستوياتها، حينذاك تتحوّل حالة التمذهب الطبيعية والسوية إلى نزعة طائفية مقيتة ومرفوضة.

فرفضنا للنزعات الطائفية لا يعني بأيّ حال من الأحوال رفضنا لحالات التمذهب والالتزام القيمي لكل إنسان. فمن حق الإنسان (أيّ إنسان) أن يلتزم برؤية ومنظومة فكرية ومذهبية معينة، ولكن ليس من حقّه أن يقسر الناس على هذا الالتزام وهذه الرؤية؛ لأن عملية القسر والعنف في تعميم قناعات وعقائد الذات هي ذاتها النزعة الطائفية، التي تشحن النفوس والعقول بأغلال وأحقاد اتجاه الطرف المذهبي أو الطائفي الآخر.

لهذا فإننا نعتقد -وعلى ضوء هذه الرؤية التي تميز بين حالة التمذهب والحالة الطائفية- أن التعددية الدينية والمذهبية في أيّ مجتمع ليس مشكلة بحدّ ذاتها، بل هي معطى واقعي إذا تم التعامل معه بحكمة وبوعي حضاري يكون عامل إثراء لهذا الوطن أو ذاك المجتمع.

وإن المشكلة الحقيقية تبدأ بالبروز حينما تفشل النخب السياسية والثقافية من التعامل الإيجابي مع حقائق التعدّد الديني والتنوّع المذهبي.

و«الطائفية ظاهرة اجتماعية وسياسية واشكالية لا علاقة ضرورية لها بتعدّد الديانات والمذاهب والطوائف، وإن كانت قابلة للتطوّر والتفعيل في شروط معينة في البنيات المتعدّدة دينيًّا ومذهبيًّا، لكن ليس ثمّة علاقة حتمية بين الأمرين. فإذا لم توجد طوائف متعدّدة، ومع توفّر العوامل نفسها، قد تتحوّل العشيرة، أو الناحية، أو أيّة جماعة تستند إليها السلطة في الولاء والتعاطف إلى (طائفة)، أيّ إلى كيان اجتماعي - سياسي في إطار الولاء للنظام مثلًا، في مقابل تحوّل المعارضة إلى (طائفة) باستنادها إلى جماعة أو جماعات هوية في معارضتها للنظام، وهذا كلّه في سياق الصراع على الدولة وفيها»[4].

2– إن النزوع إلى تفسير الأحداث والتطوّرات السياسية والاجتماعية والثقافية في مجتمعاتنا وفق النسق الطائفي والمذهبي، يساهم في خلق المزيد من التوتّرات والتشنجات.

إذ يعمد البعض -ووفق رؤية أيديولوجية مغلقة- إلى التعامل مع المجتمعات المذهبية وكأنها مجتمعات ذات لون واحد ورأي واحد، وتسعى جميعها من أجل أجندة واحدة، فيتم التعامل مع هذه المجتمعات وكأنها حزب شموليًّا لا يمكن أن تتعدّد فيه الآراء أو تتباين فيه المواقف. ومهما حاولت لإعادة الأمور إلى ميزانها الموضوعي على هذا الصعيد فإنك تُقابل بالاتهامات وسوء الظن الذي يسوّغ لصاحب التحليل أو الموقف الأيديولوجي الذي لا يتزحزح حتى ولو كانت الحقائق مناقضة لهذا الموقف.

فنحن كآحاد -بصرف النظر عن عقائدنا ومذاهبنا- ننتمي إلى جماعات وانتماءات متعدّدة بدون شعور بأن هذه الانتماءات مناقضة لبعضها البعض. فانتماءات الإنسان المتعدّدة تتكامل بعضها مع بعض. وإذا كان أبناء الوطن الواحد متمايزون في دائرة من دوائر الانتماء المتعدّدة، هذا لا يعني أن جميع مصالحهم متناقضة أو أنهم أعداء أبديون بعضهم لبعض. وعلى ضوء تجارب العديد من المجتمعات المتعدّدة، نصل إلى هذه الحقيقة وهي: أن استخدام العنف القولي أو الفعلي ضد المخالف أو المختلف لا ينهي ظاهرة التنوّع المذهبي من الوجود الاجتماعي، بل يزيدها تصلُّبًا ورسوخًا.

3– لعل من المفارقات العجيبة التي يحتاج إلى المزيد من الفحص والتأمل، هو أن الأفراد أو الجماعات المتشدّدة مذهبيًّا والمغالية طائفيًّا، والتي تعلن صباح مساء أهمية الحفاظ على الأمة ووحدتها ورفض المؤامرات الأجنبية التي تستهدف راهن ومستقبل الأمة.. فهي جماعات توغل في عمليات الخصومة والعداوة مع المختلف المذهبي، دون أن تسأل نفسها أن إيغالها في هذه الخصومة هي الثغرة الكبرى الذي ينفذ منها أعداء الأمة.

فالأطراف والإرادات الطائفية المتصادمة التي تدفع الأمور بكل الوسائل لإدامة التوتر الطائفي هي المسؤولة عن توفّر المناخ لتأثيرات ونجاح الأجنبي في مؤامراته على الأمة الإسلامية؛ لأن الشرخ الطائفي هو من نقاط الضعف الكبرى في جسم الأمة، والذي من خلالها ينفّذ خصوم الأمة، ويديموا ضعفها وتراجعها الحضاري والسياسي. وإن كل من يساهم في تعميق الشرخ الطائفي في الأمة، مهما كانت نيته ودوافعه، هو يساهم بشكل موضوعي في توفير القابلية لكي يتمكّن الأجنبي في إنجاح خططه ومؤامراته على راهن ومستقبل الأمة.

لهذا فإننا ينبغي أَلَّا نتساهل في أمر الفتن الطائفية أو نتعامل معها بعقلية منغلقة تساهم بدورها في عمليات التأجيج والتحريض.

إننا -ومن منطلق مبدئي- نرفض عمليات التحريض الطائفي، ونعتبر هذه العمليات -مهما كان صانعها- من الأمور التي تمهّد الطريق للقوى الأجنبية للسيطرة على مقدرات المسلمين وثرواتهم. فالفجور في الخصومة واستسهال الطعن في عقائد الناس وسوء الظن بالآخرين كلها تقود -إذا سادت العلاقة بين مكوّنات الأمة والمجتمع- إلى الاهتراء والتآكل الداخلي ممّا يسهّل عملية السيطرة الأجنبية إما بشكل مباشر أو غير مباشر.

وفي خاتمة المطاف نقول: إن الأزمات الطائفية بكل مستوياتها لا تربح أحدًا، وإن جميع الأطراف هم متضرّرون من تداعيات هذه الأزمات.

وإننا جميعًا مسؤولون ومطالبون للعمل من أجل وأد الفتن الطائفية ومعالجة موجباتها وآثارها، ولا خيار أمامنا جميعًا إلَّا أوطاننا، ونسج علاقات إيجابية بين مختلف مكوّنات الوطن والمجتمع.

و«نحن نميّز بين الطائفية الاجتماعية والطائفية السياسية، على الرغم من التداخل بينهما في المجتمعات التقليدية ما قبل الحديثة، حيث لا تنفصل العناصر السياسية عن العناصر الاجتماعية في الجماعات الأهلية، حيث تكون السياسة بما هي سياسة شأنًا سلطانيًّا أو ملكيًّا فحسب. وفي حالة المجتمع التقليدي لا معنى للفصل بين طائفة سياسية واجتماعية، وحتى بين طائفية وطائفة، ولا وجود لطائفة بوصفها أيديولوجيا منفصلة عن البنية الاجتماعية ذاتها. لقد أصبحت ظاهرة الطائفية السياسية ممكنة في المجتمعات الحديثة التي لم تنجز فيها سيرورة الحداثة علمنة الوعي الاجتماعي، أو -على الأقل- لم تتراجع فيها أهمية الروابط الأهلية لمصلحة الروابط التعاقدية على مستوى المجتمع المدني، ولا لمصلحة العلاقة بالسلطة والدولة»[5].

تفكيك الخطر الطائفي

في زمن الاصطفافات الطائفية والمذهبية الحادّة، وفي زمن التراشق والتلاسن والحروب المفتوحة بين الجماعات البشرية، التي تشكّلت من خلال انتمائها التاريخي.. في هذا الزمن المليء بالأحقاد والإحن، يتم تسويق النظرات والمواقف النمطية، التي تعمّم الرأي والموقف على الجميع، دون الالتفاف إلى مسألة التباينات والفروقات والخصوصيات بين أفراد كل مجموعة بشرية.

ولعل أهم ميزات القراءات والمواقف النمطية على الآخرين، أنها تطمس -بحالة قسرية- المشتركات ومساحات التوافق والتداخل، ويتم التعامل مع الآخر بوصفه آخرَ بالمطلق. والآخر بالمطلق في الدائرة الإسلامية والإنسانية قد يكون نادرًا بندرة الكبريت الأحمر؛ لأن مستوى التداخل الثقافي والإنساني بين البشر أصبح عميقًا ويوميًّا، بحيث إن بعض ما لدينا ونعتبره من مختصاتنا، هو في حقيقة الأمر قد يكون من الآخر الذي نمارس بحقه فعل النبذ والطرد والاستئصال. وهذه المقولة تنطبق على جميع الأطراف، فبعض ما لدى كل طرف هو من الطرف الآخر. وهذا بطبيعة الحال، لا يعيب أحدًا، ولا يفتئت على أحد، وإنما هو من طبائع الأمور والحياة الإنسانية المركبة والمتداخلة في كل دوائر الوجود الإنساني.

وبالتالي فإن الرؤية النمطية التي تطلق آراء ومواقف بالجملة على المختلف والمغاير لا تنسجم وحقائق الأمور؛ لذلك ثمّة قصور حقيقي تعانيه النزعات النمطية في إدراك جوهر المشاكل والأمور العالقة بين مكوّنات اجتماعية متعدّدة ومتنوّعة؛ لأن هذه النزعات بطبعها نزعات اختزالية، تعتني بتسويق التباين والتشظي والتذرر، وتعمل على بناء الحواجز النفسية والعملية بين المختلفين وتحول دون التلاقي والتفاهم وتوسيع المشتركات. فكل نزعة نمطية في أيّة دائرة من دوائر الاختلاف في الوجود الإنساني، هي تعمل على طمس المشتركات والتوافقات سواء التاريخية أو الراهنة، وتستدعي وتضخّم كل التباينات والفروقات مهما كان حجمها أو دورها الفعلي في إيجاد حالة التباين سواء في الرأي أو الموقف.

لذلك فإن الخطوة الأولى في مشروع تجسير العلاقة بين المكوّنات المذهبية في الأمة، هي في تجاوز كل مقتضيات الرؤية النمطية؛ لأنها رؤية تؤبّد الأحقاد والفروقات، وتسوّغ لجميع الأطراف ممارسة الفرقة وتنمية التباينات الأفقية والعمودية.

وكسر الآراء والمواقف النمطية والثابتة تجاه بعضنا البعض يتطلّب الالتفات إلى النقاط التالية:

1- إن المكوّنات الاجتماعية والمذهبية ليست حالة جامدة، ثابتة، وإنما هي مكوّنات تعيش الصيرورة الإنسانية، وتكثر فيها الآراء والقناعات المختلفة وثمّة مسارات ثقافية وسياسية عديدة تجري في فضائها الاجتماعي؛ لذلك لا يصح التعامل مع واقع هذه المكوّنات بوصفها مكوّنات غير قابلة للتطوّر والتحوّل سواء على المستوى الثقافي أو السياسي. وهذا الكلام ينطبق على جميع المكوّنات. فنحن لا نتحدّث عن أفراد، وإنما عن كتلة بشرية ذات خصوصيات ثقافية واجتماعية محدّدة، إلَّا أنها كتلة ليست متجانسة في كل شيء، وليست شبيهة بنظام الحزب الواحد، وإنما كأيّة كتلة اجتماعية تتشكّل من روافد اقتصادية وثقافية وسياسية متنوّعة. وبالتالي فإن كسر المنظار النمطي لكل الملفات هو الذي يحرّر الجميع من الحمولات التاريخية السلبية، التي يحملها كل طرف عن الطرف الآخر. فنحن جميعًا لسنا مسؤولين عن أحداث التاريخ والحقبة الماضية، والباري عزّ وجلّ سيحاسبنا عن راهننا، لأننا نتحمّل مسؤولية مباشرة فيه. يقول تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ، فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ، فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ}[6]، وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ، وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}[7].

فـ«معظم البناءات الفكرية التي يبنيها كل من طرفي السنة والشيعة بعضهم عن بعض يمثّل صورًا مخيالية لا تجد لها على أرض الواقع أيّ أساس حقيقي. وهذا يعود إلى أزمة متأصّلة في الانتماء والهوية يعاني منها كل من الطرفين..»، لا أحد يعيش قلقًا طائفيًّا سوى من يجد ذاته في طائفة أو يحصر انتماءه وشعوره بها «من جهة، وإلى أزمة حداثية ما زال معظم شعوب المشرق العربي يرفض الإقرار بها من جهة ثانية، وهو الأمر الذي يؤدّي إلى أن بناء الصور الطائفية لا يتمّ وفق الاستناد إلى حقائق ما، بل وفق الشروط التأزمية المتحكمة بالبنى الذهنية المخيالية المتوارثة جميعًا لهما. وهذا هو سر أن السنة والشيعة حينما يتصارعون، كما هو جارٍ حاليًّا، يعيدون لا رسم وجودهم فحسب، بل كذلك إعادة اختراع صراعات ينسبونها إلى التاريخ: سواء في سبيل امتلاكه، أو لدعم صراعات الحاضر بواسطة ذاكرات ميثولوجية مخترعة»[8].

2- لا توجد على المستوى الواقعي حلول سحرية لمعالجة مشكلة التوتر الطائفي والمذهبي، الذي بدأ يجتاح المنطقة العربية والإسلامية، ولكن ثمّة خطوات ضرورية، تساهم في ضبط التوترات الطائفية، وإدارة التنوّعات المذهبية بطريقة إيجابية، لا تدمّر الأوطان والمجتمعات. ومن هذه الخطوات هو العمل على إعلاء قيمة أخرى مشتركة تنظم العلاقة، وتكون هي مصدر الحقوق والواجبات. وهذه القيمة هي قيمة (المواطنة) بكل ما فيها من واجبات ومسؤوليات وحقوق. فكل المجتمعات الإنسانية التي كانت تعيش حالة تنوّع ديني أم مذهبي أم إثني، لم تتمكّن من إدارة هذا التنوّع على نحو إيجابي إلَّا بإعلاء من قيمة المواطنة، بوصفها هي العنوان العريض الذي يجمع الجميع بكل تلاوينهم الدينية والمذهبية. وأحسب أنه لا خيار حقيقي أمام المسلمين جميعًا لضبط نزاعاتهم المذهبية، إلَّا بالمواطنة الجامعة، التي تضمن حقوق الجميع، وتصون خصوصيات الجميع، دون الإضرار بالحياة المشتركة في مختلف دوائر الحياة.

3- ثمّة ضرورات وطنية وقومية ودينية في زمن الفتن الطائفية، أن يرتفع صوت المطالبين بوأد الفتن الطائفية، والساعين صوب خلق حالة تفاهم عميق بين المسلمين بمختلف مدارسهم الفقهية والمذهبية، فلا يصح أن تبقى الساحة الإسلامية أسيرة الصوت المتطرّف والداعي إلى التأجيج وإحياء الخلافات المذهبية؛ لأن هذه الأصوات المتطرّفة هي التي توفّر باستمرار مبرّرات الاحتراب والاقتتال الطائفي.

بينما في الواقع الإسلامي ثمّة أصوات كثيرة، تدعو إلى الاعتدال والوسطية وتحارب كل أشكال الاحتراب بين المسلمين، ولها دورها المشهود في وأد الكثير من الفتن. إن هذه الشخصيات ولضرورات ملحة وطنية ودينية، معنية اليوم بتزخيم عملها الوحدوي والتفاهمي والتقريبي، كما أنها معنية برفع الصوت ضد كل الممارسات الطائفية وأشكال الاحتراب المذهبي.

إن تراجع الأصوات الإسلامية المعتدلة والوسطية في هذه الحقبة الحساسة، التي تعيشها الأمة الإسلامية، هو الذي يفسح المجال، لكي يرتفع الصوت المتطرّف، الذي يغذّي الأحقاد بين المسلمين.

لذلك ومن أجل حقن دماء المسلمين، ومن أجل منع الحروب العبثية بين المسلمين، ثمة حاجة قصوى لكي يتبوأ خطاب الاعتدال الإسلامي موقعه اللائق في توجيه العالم الإسلامي، وبناء حقائق التفاهم والوحدة في واقع المجتمعات الإسلامية المعاصرة.

«ولا نعتقد أن ثمّة حلًّا لمسألة الطائفية خارج الدولة والمواطنة الديمقراطية، ومفهومهما، سواء أقامت المواطنة على أساس التعدّدية الثقافية واللغوية والقومية، أم على أساس اندماجي. كانت الدولة هي الحل التاريخي للحروب الدينية في أوروبا، ولكن الانتماء العابر للطوائف يتضمّن بعدًا هوياتيًّا، قوميًّا أو وطنيًّا أو كليهما، وتحتاج المواطنة إلى هيمنة منظومة قيمية تشكّل أساسًا لها ولدستورها. وهو في الحالة العربية لا بد من أن يجمع بين القيم الإنسانية الكونية التي تقوم عليها الديمقراطية الليبرالية والميراث التاريخي العربي الإسلامي. هذا هو التحدي»[9].

متى تنتهي النزاعات الطائفية؟

ثمّة ضرورات وطنية وإسلامية عديدة لإخراج المنطقة العربية من أتون الصراعات والنزعات الطائفية والمذهبية، والتي تنعكس سلبًا على استقرار المجتمعات والأوطان، واستمرارها يفضي إلى تدمير كل مرتكزات وأسس الاستقرار السياسي والاجتماعي. وإن العمل على إعادة النزاعات الطائفية القديمة يفاقم من الصراعات، ويدخل المناطق المشتعلة بالنزاعات الطائفية في مرحلة جديدة من النزاع الذي يتوسّل بكل وسائل الخصام والصراع. ويبدو في سياق الصراعات الطائفية التي تشهدها المنطقة أن هذا الصراع وصل إلى أقصاه، ولم تعد هناك وسيلة للصراع لم تستخدم؛ لذلك فإننا نعتقد أن هذا الصراع وصل إلى مداه النهائي، وإن اللحظة مؤاتية للتفكير في مبادرات وحلول ممكنة وواقعية لإنهاء هذه الصراعات الطائفية، التي دمّرت على المستويين النفسي والواقعي كل شيء طيب في هذه المنطقة.

وإن غياب مبادرات الحلول يعني استمرار الصراع في سياق وتائر اجتماعية متعدّدة ولكنها بلا أفق سياسي واجتماعي متاح.

ولقد أبانت كل تجارب الصراع الطائفي أنها هي التي تدمّر النسيج الاجتماعي، وتقضي على أسباب الوئام الاجتماعي في كل المجتمعات والأوطان، وتدخل الجميع في دهاليز الحروب التي لا رابح فيها أو من ورائها. فهي -أي هذه الحروب- تدمّر بلا هدف، وتمزّق بلا أفق، وتشحن النفوس بدون غاية نبيلة، وتدخل جميع الأطراف في مرحلة الصراعات التي لا تبقي حجرًا على حجر، ولا تترك علاقة اجتماعية سليمة وبعيدة عن تأثيرات ومتواليات هذه الصراعات التي لا تنتهي. وعليه فإننا نعتقد أن النزاعات الطائفية في المنطقة دخلت في مرحلة تهديد الدول واستقرار المجتمعات، ولا سبيل لضمان أمن واستقرار الدول والمجتمعات، إلَّا بمعالجة جادّة لملف النزاعات الطائفية التي تجري في أكثر من بلد عربي.

وكل تجارب المنطقة العربية في هذا السياق تثبت أنه مهما قوي طرف من الأطراف إلَّا أنه لا يمتلك القدرة على استئصال الطرف الآخر. وطبيعة النزاع والصراع تجعل كل هذه الأطراف متمسّكة بذاتها المذهبية والطائفية، ولديها القدرة على الدفاع عن ذاتها، ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال إنهاء وجود هذه الطائفة أو تلك.

ولم يحدّثنا التاريخ حتى في زمن صراع الطوائف الدينية في الغرب أن طائفة من الطوائف تمكّنت من إنهاء وجود الطائفة الأخرى. كل هذه الطوائف حاربت بعضها بعضًا، وقتلت ودمّرت وانتصرت في بعض الحروب على أشلاء آلاف الضحايا، إلَّا أنه لم يسجّل لنا التاريخ اندثار طائفة من الطوائف. فكل الطوائف حافظت على ذاتها، وحمت وجودها، وتمكّنت الخروج من انكساراتها وهي أكثر قدرة وتصميمًا على مواجهة كل المخاطر. ومن يراهن أنه بإمكاناته وقدراته المتعدّدة قادر على إنهاء وجود طائفة من الطوائف فإن مآله المزيد من الحروب التي لا تصل إلى نتيجة، وسفك الدم الذي يوغل الصدور، ويؤسّس لأحن تاريخية لا تنتهي.

لذلك فإن الحروب والنزاعات الطائفية لا يمكن أن تنتهي مهما كانت قوة أيّ طرف على هزيمة الطرف الآخر؛ لأنه وببساطة شديدة كل هذه الطوائف هي حقائق اجتماعية وتاريخية وثقافية، ولا يمكن لهذه الحقائق أن تندثر مهما كانت عناصر القوة التي يمتلكها الطرف المهاجم أو شانّ الحروب والنزاعات.

فالنزاعات الطائفية والمذهبية تضرّ بكل المكوّنات العربية والإسلامية، واستمرارها يزيد من محن العرب والمسلمين، ولن ينهي موضوعات الخلاف أو التباين في وجهات النظر.

وعليه من الضروري التفكير الدائم في وجود مبادرات سياسية واجتماعية وثقافية لتبريد كل النزاعات الطائفية والمذهبية في المنطقة. وإذا لم تتمكّن هذه المبادرات من إيجاد حلول حقيقية وواقعية للنزاع أو التباين الحادّ في القناعات والمواقف، فهي -في أقل التقادير- قادرة على إيجاد مناخ إيجابي يقلّل على المستويين النفسي والاجتماعي من انفجار هذه التباينات على المستويات الأمنية والسياسية والاجتماعية.

ونرى إذا أردنا كعرب ومسلمين، التخلّص التام من أمراض الحروب والنزاعات الطائفية والمذهبية، فعلينا الاهتمام بالنقاط التالية:

1- بناء العلاقة بين المكوّنات الدينية والمذهبية على قاعدة المواطنة المتساوية، وبعيدًا عن أحن التاريخ ومعاركه؛ لأن استمرار العلاقة على قاعدة الهوية الدينية أو المذهبية، فهذا يعني إعادة إنتاج التباين والخلاف الذي تأسّس في حقب تاريخية سحيقة، ولا يُفضي إلى تجاوز هذا التباين والخلاف، وإنما يفضي إلى إنتاج هذا الخلاف والتباين مع بروز أيّة مشكلة سياسية أو اجتماعية.. والدول والمجتمعات التي تمكّنت من تجاوز النزاعات الطائفية والمذهبية، هي تلك الدول والمجتمعات، التي صاغت العلاقة بين مكوّناتها وأطيافها، على قاعدة المواطنة المتساوية، التي لا تفرّق بين مواطن وآخر، ولا تعيد إنتاج خلافات التاريخ والعقيدة. فالدول الغربية وخلال عقود تتجاوز العشرة عقود عانت وعاشت مرحلة الحروب الدينية والطائفية وذهب ضحية هذه الحروب الآلاف من الأوروبيين، ولم يتمكّن الأوروبيون من تجاوز أحن هذه الحروب وتناقضات هذه الطوائف، إلَّا ببناء العلاقة الداخلية ومنظومة الحقوق والواجبات على قاعدة المواطنة التي تتسع لجميع المواطنين بصرف النظر عن أديانهم ومذاهبهم. ونحن في العالم العربي لن نتمكّن من تجاوز النزاعات الطائفية والحروب المذهبية إلَّا بهذا الخيار، الذي يعلي من قيمة المواطنة، ويجعلها هي الضابطة الوحيدة للعلاقة سواء على المستوى الفردي أو المستوى الجماعي. وهذا بطبيعة الحال، ليس حلًّا سحريًّا وسريعًا، وإنما هو من الحلول الواقعية والقادرة على إخراج الجميع من مربع الاتهامات الطائفية إلى أفق المواطنة، التي توحّد الجميع على قاعدة دستورية وقانونية تضمن حقوق الجميع، وتصون خصائص الجميع بعيدًا عن الانتصار لرأي أو لمكوّن على حساب بقية المكوّنات.

2- الاهتمام بإبراز الحل المدني للمشكلات الدينية والمذهبية التي تعاني منها بعض المجتمعات العربية؛ لأن استمرار الحلول على قاعدة المحاصصة المذهبية والطائفية حتى في مستوياتها الاجتماعية والثقافية، فهو يؤسّس لمناخ قابل للانفجار في أيّ وقت، كما أنه يديم التوترات الدينية والمذهبية في القاع الاجتماعي. أما اللجوء إلى الخيار المدني، بحيث يكون هذا الخيار هو السائد في العلاقة بكل مستوياتها، فإنه يؤدّي إلى مناخ اجتماعي وثقافي مختلف. وجوهر هذا الخيار المدني هو عبارة عن رفض إنتاج الخلافات والتناقضات التاريخية سواء كانت الدينية أو المذهبية، وإخراج الوجود الاجتماعي من كل الحساسيات والصراعات التي تتغذَّى من خلافات التاريخ والعقيدة. ويضاف إلى هذا الاستفادة من كل التجارب الإنسانية المدنية، التي تعمل على إنصاف الجميع بدون تمييز بين مواطن وآخر، وتعلي من القيم المدنية التي تحترم الإنسان في وجوده وحقوقه المادية والمعنوية، وتجعله هو المعيار والناظم في آن. فلا علاج فعّال وحقيقي للمشكل الطائفي والمذهبي في المنطقة العربية إلَّا بالخيار المدني، الذي لا يلغي حقائق الأديان والمذاهب، وإنما يحترمها، ويضبط أهلها بالقانون والمواطنة الواحدة والمتساوية. حين نتمكّن من بناء هذه الأطر والسياقات الاجتماعية والثقافية التي تؤكّد هذا المسار والخيار، فإننا سنتمكن من الإنهاء الأبدي لكل المشكلات الدينية والمذهبية، التي تهدّد الاستقرار السياسي والاجتماعي.

بمعنى أننا لا نمتلك حلولًا فعّالة لهذه النزاعات، من داخل السياقات الدينية والمذهبية، إلَّا الحل الأخلاقي والوعظي، وهذا الحلّ لا يتمكّن بكل حمولته وآفاقه من إنهاء المشاكل الطائفية والمذهبية. ويبقى الحلّ القادر على تقديم وصفة متكاملة لهذه النزاعات هو الحلّ المدني المستند إلى المواطنة الواحدة والمتساوية، وهو يأتي من خارج السياقات الدينية والمذهبية، ولكنه قادر على خلق ثقافة تتّسق مع الأصول الدينية والمذهبية، وقادرة على ضبط كل النزاعات الغرائزية، التي إذا انفجرت تدمّر كل بنية الاستقرار في مجتمعاتنا وأوطاننا. نريد أن نعالج النزاعات الطائفية والمذهبية في فضائنا العربي والإسلامي معالجة حضارية، لا تعمل على استئصال حقائق الأديان والمذاهب، وإنما تعمل على توظيف هذه الحقائق بعيدًا عن التوظيف السياسي الذي يحوّل الأديان والمذاهب إلى مادة مشتعلة في الصراعات السياسية والاجتماعية.

«وفي الدولة المعاصرة تطرح الطائفية السياسية مسألة الطوائف في إطار الصراع السياسي والأيديولوجي، والتنافس للسيطرة على الدولة، بوصفها مصدر القوة والثروة، ولا سيما في بلدان تشكّل فيها الدولة المشغل والمستثمر والمستهلك الأكبر.

وبناء على تعريفها، تطرح الزعامات الطائفية توجّهاتها الطائفية التي تمثّل مصالح الطائفة المدعاة، ردًّا على ما يفهم أنه تهديد لهوية الجماعة وإضعاف أو تفكيك لها أو لا، أو حماية للفرد من عسف السلطة والجماعات الأخرى ثانيًا، أو ضمانًا لحصة الجماعة من الثروة أو الجاه أو السلطة ثالثًا، وهكذا يصبح انضواء الفرد في كنف مصالح الطائفة هذه، والطائفية التي تدافع عنها، السبيل الأضمن والأكثر أمنًا للعيش في المجتمع.

وفي حالة طائفية الأغلبية، غالبًا ما تستخدم التعابير والمصطلحات الديمقراطية لتبرير حصة الجماعة في الدولة في خلط بين الأكثرية الديمقراطية في الأمة، أي أكثرية المواطنين المتغيّرة، وبين طائفة الأغلبية، وهي أغلبية بالولادة. ويتصوّر الطائفيون هذه الأكثرية ويصوّرونها حالة ثابتة هي هوية الدولة ذاتها، بغض النظر عن رأي الأفراد الذين تتألّف منهم وأفكارهم»[10].

قراءة في المسألة الطائفية

أولًا: ثمّة مسافة بين حقيقة التعدّد الديني والمذهبي في مجتمعاتنا، وبين النزعات الطائفية. ويجدر بنا هنا أن لا نعيد جذر الطائفي إلى الطائفة بل الطائف، وهو في بعض دلالاته ما يوسوس له بخطرات الشيطان على حدِّ تعبير الشيخ حسين شحادة. وورد تحذير قرآني من هذا الطائف وخطورة مسّه على البصر والبصيرة. قال تعالى {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}[11]، وتبدأ الإشكالية الطائفية بالبروز حين تتعدّد هوّياتها الأفقية والعمودية مع غياب وضع سياسي حاضن لها.

ثانيًا: هناك مقولات وأيديولوجيات ونظريات فكرية وسياسية في المجال الإسلامي تعاملت مع المجتمعات بوصفها سديمًا بشريًّا واستخدمت آليات قسرية وقهرية لدحر الخصوصيات الثقافية والاثنية لصالح الفكرة الشوفينية.

وبفعل هذه العملية القسرية برزت على السطح مشكلة التعدّدية الدينية والمذهبية والعرقية والقومية في المنطقة العربية والإسلامية. ودائمًا هناك حقيقة شبه ثابتة على هذا الصعيد (هويات فائضة = مواطنة منقوصة).

فالمشكلة ليست وليدة التعدّدية بكل مستوياتها أو التمايز الديني والمذهبي، وإنما وليدة سياسات التمييز والإقصاء والنبذ والإلغاء. فالصراعات والنزاعات لا تنشأ بسبب وجود الاختلاف والتنوّع، وإنما تنشأ من العجز عن إقامة نسق مشترك يجمع الناس ضمن دوائر ارتضوها.

وعلى المستوى السياسي المباشر لكون بنية الدولة بنية عصبوية ضيقة وهناك فئة محدودة تحتكر السلطة والقوة والثروة، فهي -أي الدولة- بطبيعة الحال لا تكون دولة الجميع وإنما دولة البعض. وتمارس الدولة عملية الطرد لبقية المكوّنات والتعبيرات عناوين مختلفة، من ضمنها العنوان الطائفي والمذهبي. فالطائفية كمشكلة هي وليدة بنية الدولة التي لا تتّسع لجميع المواطنين، ووليدة الخيارات السياسية المتبعة. لذلك فإننا نعتقد أن طبيعة المشكلة الطائفية في المنطقة هي ذات طبيعة سياسية، ويستخدم السياسي - الديني لتسويغ وتغطية نزعاته الإقصائية والنبذية والتمييزية. ممّا يفضي إلى تشكيل ما يمكن تسميته بالتخادم المتبادل بين السياسي والديني، ولكن تبقى الهيمنة للسياسي في إدارة عملية التوظيف والتخادم.

وفي تقديرنا، إن دولة البعض بصرف النظر عن أيديولوجيتها، هي بالضرورة صانعة للتمييز وتربية الفوارق بين المواطنين. وعليه فإننا نعتقد -على المستوى الوطني- أن مشكلة التمييز مشكلة عامة وليست خاصة بالشيعة، وإنما تمارس على مكوّنات عديدة من المجتمع السعودي.

فالمشكلة التي نعانيها ليست وليدة التمايز، بل هي نتاج التمييز، وليست وليدة التعدّد، بل نتاج الخيارات السياسية المتبعة في إدارة حقيقة التعدّد.

ثالثًا: الطائفية تمارس في المجتمع على نحوين:

1- الطائفية الغالبة التي تمارس التمييز والإقصاء والتهميش، وهي وليدة السياسي كما أوضحنا أعلاه.

2- الطائفية المعكوسة أو المغلوبة التي تؤدّي إلى الانكفاء والانعزال والتمترس المرضي حول الذات.

وأهم سمات الطائفية المغلوبة هي:

1- توسيع دائرة المقدس

2- التمسّك بخيار الانكفاء والعزلة

3- الرهاب من التجديد والإصلاح

وفي تقديرنا، نحن كمجتمع لن نتمكن من إنهاء مفاعيل الطائفية الغالبة على واقعنا إلَّا بتحرير مجتمعنا من مفاعيل الطائفية المغلوبة.

رابعًا: مسارات معالجة المشكلة الطائفية:

1- المسار السياسي: كما أوضحنا أعلاه بأن جذور المشكلة الطائفية ليست دينية وإنما سياسية، ولا يمكن أن تعالج إلَّا بالتمثيل السياسي والشراكة المنصفة في السياسة والاقتصاد. ولكون المجتمع بأسره يعاني من هذه المشكلة؛ لذلك فنحن نرى صعوبة أن يعالج الشيعة مشكلتهم وحدهم، وإنما هم بحاجة إلى جهد وطني عابر للمذاهب والمناطق.

فالتمييز الطائفي الواقع على الشيعة لا يمكن أن يعالج إلَّا في ظل مشروع إصلاح وطني متكامل.

2- المسار الثقافي: ثقافة الانكفاء تضرّ بنا وتخنقنا، وثقافة إبراز الخصوصيات بشكل فاقع وعدائي يوتّر الأجواء؛ لذلك فإن المطلوب على هذا الصعيد:

• تعزيز ثقافة الانفتاح والتواصل.

• توسيع الدوائر المشتركة وعدم تطييف بعض القضايا الوطنية (قضايا المرأة نموذجًا).

• بناء وتأسيس مشروعات وطنية مشتركة.

3- المسار الذاتي: وأقصد به الاستمرار في بناء القوة الذاتية للمجتمع في سياق البناء والتنمية. وهو مسار يشمل مختلف الأنشطة الدينية والثقافية والحقوقية والخيرية والاجتماعية.

خامسًا: على المستوى الوطني هناك ملفان إذا تحرّكا تحرّكت عجلة الإصلاح في الوطن (ملف المرأة – ملف الأقليات)، ولكون المرأة من الأقليات نستطيع القول: إذا تحرّكت عجلة المرأة في المجتمع تحرّكت عجلة الإصلاح والتغيير، فهي بوابة الإصلاح والتغيير على أكثر من صعيد، وثمّة ثلاثة تحديات رئيسية تواجه المرأة في مجتمعنا:

1- التحدي الذاتي: وأقصد به العناصر التالية: إخلال الموازنة بين التطلعات والجهود، الاهتمامات القشرية، ضعف الثقة بالذات وقدراتها.

2- التحدي الاجتماعي: وأقصد به الأعراف والتقاليد الاجتماعية الكابحة والمانعة للمرأة من النشاط، الموازنة بين الالتزامات الأسرية ومتطلّبات العمل العام، وجود المشاكل والحساسيات البينية.

3- التحدي السياسي: حيث إن طبيعة الأنظمة الشمولية وتغوّل المؤسسة الدينية يشكّل تحديًا حقيقيًّا للمرأة، وهي أكثر الشرائح الاجتماعية تضرّرًا.

وأمام هذه التحديات ينبغي العمل على:

1- تنمية الذات وقدراتها.

2- التعاون لبناء الأطر والمؤسسات (فالتعاون لا يكون بين الضعفاء، بل هو ضرورة بين الأقوياء).

3- تطوير العلاقة الثقافية والاجتماعية مع المحيط.

سادسًا: حين التأمّل في الأطلس الأنثربولوجي، نكتشف حجم التنوّع والتعدّد بكل أبعاده وآفاقه. فهناك (4635) طائفة في الهند وتتكلّم بما لا يقل عن (1652) لغة ولهجة.

وفي آسيا وهي أكبر قارّات العالم من حيث عدد السكان يعيش (3.5) مليار نسمة ويتوزعون على أكثر من (2000) أثنية وينطقون بأكثر من (2000) لغة.

وفي أفريقيا -التي يناهز عدد سكّانها (750) مليونًا- توجد (54) دولة، وفي مقابلها (2200) إثنية تتكلّم بمثل هذا العدد من اللغات، وهكذا بقية القارات والمناطق. وعلى المستوى الوطني مجتمعنا متنوّع ومتعدّد على أكثر من صعيد، وأمام هذه الحقيقة كيف ينبغي أن تكون العلاقة بين هذه المكوّنات والتعبيرات.

هناك ثلاث خيارات جرّبتها المجتمعات الإنسانية، وهي:

1- الحروب والمغالبة والعمل على استئصال المكوّن الآخر، وقد أثبتت التجربة أن هذا دونه خرط القتاد كما يقولون. فالحقائق التاريخية الاجتماعية حقائق عنيدة، ولا يمكن استئصالها.

2- الانكفاء والانعزال وبناء الكانتونات الخاصة. وهذا يناقض طبيعة التداخل وبناء الأوطان واستقرار المجتمعات.

3- يبقى الخيار الثالث، وهو خيار التعايش، وهو يعني النقاط التالية:

• ضرورة فكّ الارتباط بين واقع الاختلاف الديني أو المذهبي وانتهاك حقوق المختلف. فالاختلاف لا يشرع لأيّ طرف انتهاك حقوق الطرف الآخر المعنوية والمادية.

• الموازنة الفذّة والواعية بين حق الاختلاف وضرورة المساواة في الحقوق وفرص الحياة.

• ليس مطلوبًا من أيّ طرف مغادرة قناعاته أو التنازل عن ثوابته، وإنما المطلوب هو الاحترام المتبادل.

و«إن مشكلة ما يسمّى (الأقليات) في العالم العربي وفي كل مكان هي مشكلة (الأكثرية). ولا يوجد للأقليات حلّ منعزل عن حلّ مشكلات الأغلبية. إذًا، لا يمكن تحرير الأقليات إلَّا بتحرير الأغلبية من العقلية والمشاعر الأقلياتية، ونعني بها الطائفية. وهي المشاعر وأحكام القيمة والأخلاق التي يحكمها شعور أقلياتي بالغين عند الأكثرية نفسها، وهو مزاج مغترب عن الدولة ومنفصل عن شروطه الواقعية، ومتخيّل عصبوي تبخيسي عن الآخر. وشرط تحرير الأكثرية والأقلية هو تحرّرهما من هذا التقسيم. الطائفية في الأصل أقلياتية، ولكن تصرّف الأكثرية كطائفة يكرّس آليات صنع الطوائف وإعادة إنتاجها، ويحوّل شعور الأقلية بأنها مهدّدة إلى شعور واقعي، وبهذا يكرّس طائفيتها.

وعندما تتطابق الأكثرية السياسية مع الأكثرية الطائفية، أو العكس، تتولّد أقليات وأكثريات طائفية -بالمعنى السياسي للكلمة- بعد أن كانت لا تكاد تتجاوز كونها واقعة اجتماعية. ويحصل ذلك في عصرنا عندما تعجز طبقة اجتماعية واسعة عن تحقيق مواطنيتها في الدولة، وتفشل في تغيير الدولة والتغيير مع هذا التغيير. وعلى خلاف نشأة الأمم وتطوّرها، لا تنكفئ الأكثرية إلى حلّ مشكلتها على صعيد المجتمع السياسي، بل على صعيد المجتمع. فالأكثرية الاجتماعية حين تصبح أقلية سياسية في الدولة تنكفئ إلى المجتمع حيث يمكنها ممارسة السلطة غير الرسمية التي تملكها والناجمة عن كونها أكثرية دينية أو مذهبية»[12].

الربيع العربي والانبعاث الطائفي

دائمًا التحوّلات السياسية والاجتماعية الكبرى يرافقها بعض المظاهر أو النتائج السلبية والسيئة. وهي ليست وليدة ذاتية إلى تلك التحوّلات، وإنما هذه التحوّلات أزالت القشرة الخارجية التي تحول دون بروز هذه الظواهر المجتمعية السلبية والسيئة. ووجود هذه الظواهر لا يعني إطلاق أحكام قيمة سلبية من تلك التحوّلات؛ لأن كل التحوّلات الإنسانية سواء كانت سياسية متعلّقة بتغيير معادلات سياسية كبرى قائمة أو متعلّقة بالفضاء الاجتماعي ومراكز القوة فيه، سواء كانت القديمة أم الجديدة، تفضي إلى وجود مناخ جديد يوفر الإمكانية لبروز (وليس تأسيس) بعض النتوءات الاجتماعية والسياسية. وبروز هذه النتوءات لا يعني اتخاذ موقف سلبي من التحوّلات أو رفضها ابتداءً ومسارًا ومآلًا. وإنما هذا أشبه بقانون اجتماعي حينما تتحرّك مياه الأنهار بغزارة، تفيض عن حدود النهر وقد تؤسّس لأقنية مائية مؤقّتة جرّاء التدفق الهائل للمياه. وما شهدته دول الربيع العربي من بروز تناقضات اجتماعية سواء كانت جهوية أو دينية أو مذهبية هو أشبه شيء بتلك المياه التي تجاوزت الحدود. ولكن وجود هذه المياه لا يساوي رفض النهر ومياهه المتدفّقة، وإنما يساوي التحرّك لبناء أقنية وأطر للاستفادة من كل المياه، تمنع خسارته وتدفقه خارج الحدود.

فالمجتمعات الإنسانية قاطبة بصرف النظر عن أيديولوجياتها وأنظمتها الاقتصادية والسياسية، تعيش تناقضات داخلية عديدة ومتنوّعة وذات جذور متباينة ومتفاوتة. فهناك تناقضات اقتصادية - طبقية، وتمايزات دينية ومذهبية، وتنافسات سياسية وأيديولوجية ومناطقية، إضافة إلى عناوين أخرى، إلَّا أن كل هذه التناقضات والتباينات في ظل الأنظمة الديمقراطية التداولية هناك إمكانية لتصريف هذه التناقضات والتباينات في أقنية التنافس والتداول الديمقراطي، فيستطيع هذا المجتمع بفعل هذه الأقنية من إدارة تناقضاته وتبايناته بطريقة سلمية، ديمقراطية، تمنع انفجارها السياسي والاجتماعي الحادّ والعنيف. بمعنى أن الأنظمة السياسية الديمقراطية لا تتمكّن من إلغاء تناقضات المجتمع وتبايناته الأفقية والعمودية، وإنما تتمكّن من بناء أطر وأقنية لتصريف هذه التناقضات بطريقة سلمية، تداولية، توفّرها قيمة الديمقراطية. وكلما ترسّخت هذه القيمة في أيّة بيئة اجتماعية يعني تطوّر قدرة هذه البيئة الاجتماعية على معالجة أزماتها الاجتماعية ومشاكلها السياسية بعيدًا عن خيار العنف سواء المادي أو المعنوي.

فالديمقراطية لا تساوي أن يكون الناس بلا صراع أو تدافع أو تباين، وإنما هي مهمّتها الأساسية توفير مناخ سلمي - حضاري لتصريف كل موضوعات الصراع أو قضايا التدافع أو مسائل التباين بطريقة سلمية، تحافظ على الوحدة الوطنية وتحول دون انحدار الناس على عناوينهم الفرعية الضيقة وذات الإحن التاريخية المتبادلة؛ لأن جميع حقوق كل المجموعات البشرية مصانة على قاعدة مشتركة هي قاعدة الانتماء الوطني والمواطنة الجامعة.

أما في ظل الأنظمة السياسية غير الديمقراطية وغير التداولية، فإنها تفتقد إلى قنوات مؤسسية سلمية لتصريف تناقضات هذا المجتمع وتبايناته المختلفة.

وبفعل الطبيعة الشمولية والاستحواذية للنظام السياسي، لديه آليات عمل قسرية تحول دون بروز هذه التباينات على السطح. والمتأمّل إلى هذا المجتمع من الخارج، يحسبه مجتمع متجانس وموحّد وبعيد عن العيوب الكثيرة التي تعاني منها بعض المجتمعات، حيث الصراع السياسي مقيم في أرجاء المجتمع. ولكن حينما يتفكّك هذا النظام الشمولي، كما جرى في بعض دول الربيع العربي، فإن كل التناقضات والتباينات المكبوتة والمقموعة تبدأ بالبروز بطريقة فوضوية، صدامية. فهذه التناقضات ليست وليدة التحوّلات، وإنما هذه التحوّلات أزاحت الحواجز والعقبات التي تحول دون بروز هذه التناقضات.

والمسؤول الأول عن هذا البروز الصدامي والفوضوي لتباينات المجتمع الدينية والمذهبية والقومية والعرقية والجهوية، هو الاستبداد السياسي الذي كان يحول دون صياغة أقنية سلمية حضارية لإدارة تناقضات المجتمع بطريقة تفضي إلى تطوّر الحياة السياسية والمدنية ودون الإضرار بالنسيج الاجتماعي لكل فئات ومكوّنات المجتمع.

كما أن الذي يساهم أيضًا في انخراط كل فئات المجتمع في هذه الفوضى والنزعة الصدامية باسم الحقوق الذاتية المهضومية، هو غياب تقاليد العمل المدني الحر والتنافس السلمي بين جميع المكونات. لأن كل مكونات المجتمع قبل التحوّلات السياسية، هي أشبه شيء بالسديم البشري الواحد والذي يكرّر كالببغاء قناعات واحدة في ظل الكبت والقهر. وحينما سقط الكبت والقهر يفتقد المجتمع لأدنى التقاليد المؤسسية الضرورية التي تدير تناقضات المجتمع بطريقة سلمية وعلى قاعدة الوحدة الاجتماعية والاندماج الوطني.

وفق هذه الرؤية نحن ننظر إلى كل الانبعاثات الطائفية المقيتة التي رافقت التحوّلات السياسية التي جرت في أكثر من بلد عربي.

فهذه الانبعاثات ليست من جرّاء بدائية مجتمعاتنا أو غياب الثقافة السياسية الديمقراطية لديها، وإنما هي من جراء مسلسل الاستبداد الذي تحكّم في مصائر العباد عقودًا طويلة. كما أن هذه الانبعاثات ليست وليدة حالة التنوّع الموجودة في كل المجتمعات والأمم، وإنما هي وليدة التعامل السياسي والاجتماعي الخاطئ مع حالة التنوّع. لذلك حينما تنهار هذه المعادلة بفعل ممارسة ثورية أو شعبية واسعة، فإن الجميع يعيش مرحلة سيولة على مستوى القناعات والخيارات.

وهذه المرحلة هي التي تنبعث فيها المسائل والعناوين الطائفية بطريقة صدامية. وهذا الانبعاث وفق هذه الرؤية سيكون مؤقتًا، وطبيعة وعي وخيارات النخب السياسية والاجتماعية الجديدة، هو الذي سيحدّد عمر هذا الانبعاث المؤقّت. فإذا كانت النخب تمتلك وعي وطني عميق، وتتعامل مع حقائق التنوّع والتعدّد بعقلية حضارية، استيعابية، فإن معالجة هذه الانبعاثات الطائفية سيكون سريعًا وسيحافظ المجتمع على تجانسه الاجتماعي والوطني. أما إذا كان وعي النخب مختلفًا وتتعامل بنزعة نبذية وإقصائية مع كل حقائق التنوّع وتعمل على بناء وحدة مجتمعها ووطنها عن طريق قهر تعبيرات المجتمع والوطن، فإن عمر هذه الانبعاثات سيطول، ممّا سيهدّد النسيج الاجتماعي والوطني.

لذلك ثمّة ضرورة وطنية ماسّة في كل الدول التي طالتها التحوّلات السياسية وتحتضن تعدّديات دينية أو مذهبية أو قومية أو قبلية للالتفات إلى النقاط التالية:

1- العمل السريع على إعادة بناء الثقة بين مختلف تعبيرات المجتمع، سواء الدينية أو المذهبية أو القومية أو ما أشبه.

لأنه حينما تتعزّز جسور الثقة بين تعبيرات المجتمع تزداد فرص التعايش والاستقرار، وتتوفّر الاستعدادات لدى جميع الأطراف للوقوف ضد انزلاق المجتمع صوب الاقتتال الطائفي والأهلي.

2- بناء الأطر والمؤسسات السياسية الجديدة على قاعدة أن الوطن يتّسع للجميع، وأن جميع المواطنين في الحقوق والواجبات سواء، وأن بإمكان أيّ مواطن -بصرف النظر عن أصوله الدينية والمذهبية والقومية والقبلية والعرقية إذا امتلك الكفاءة والقدرة- أن يتبوّأ أيّ موقع ومنصب.

3- تعاضد وتعاون الجميع ضد خيار العنف وممارسته في الصراعات السياسية والاجتماعية؛ لأن شيوع هذا الخيار سيدمّر الجميع. وحينما يستخدم العنف -بصرف النظر عن دوافعه- فإنه سيقضي على الجميع ومكاسبهم. لذلك ثمّة حاجة وضرورة لبناء إجماع وطني عميق في كل الدول العربية ضد العنف وممارسته.

فلنتوحّد ضد الفتنة الطائفية

في إطار النفخ الطائفي والشحن المذهبي المحموم تأتي كل التصريحات والمقولات التي يطلقها دعاة الفتن من كل الأطراف، بغرض تعزيز فرص الفتن الطائفية في الواقع الإسلامي المعاصر. والإنسان لا يستطيع أن يدافع عن قناعاته بإثارة الفتن لأنه لا فائدة منها إلَّا المزيد من تأجيج الفتن الطائفية وشحن النفوس والعقول تجاه الداخل الإسلامي.

وفي سياق هذه التصريحات والتصريحات المضادّة -التي هي من جوهر واحد، وهو الانخراط المتسارع في مشروع الفتنة الطائفية التي تحضر إلى هذه الأمة من أقصاها إلى أقصاها- نودّ التأكيد على النقاط التالية:

1- إننا نرفض وبشدّة كل المقولات والتصريحات الطائفية، من أيّة جهة صدرت، ونعتبر أن دفع الأمور نحو الصدام المذهبي بين المسلمين هو من أكبر الجرائم التي ترتكب بحق المسلمين جميعًا، وأن وطننا العزيز من أقصاه إلى أقصاه ليس مكسر عصا لأحد، لذلك نرفض وبشدة أيّة محاولة تستهدف تصدير بعض أشكال الفتن الطائفية، كما نرفض أيّة محاولة للتعدّي على هذا الوطن. فوطننا نفديه بالغالي والنفيس، ونرفض كل محاولات إقحامنا في مشروعات هذه الفتن والتشظيات الطائفية، سواء صدرت هذه المحاولات من شخصيات وجهات سنية أو شخصيات وجهات شيعية. فالأوطان لا يساوم عليها، ونرفض أيّ شكل من أشكال المساس بها. وهذا الكلام ليس مزايدة على أحد، وإنما هو جزء من فهمنا لقيمنا وواجباتنا ومسؤولياتنا تجاه مجتمعنا ووطننا في آن.

وعليه فإننا ندعو كل أبناء وطننا من مختلف مواقعهم الفكرية والاجتماعية، إلى الوقوف بحزم ضد كل محاولات زرع الفتن الطائفية بين أبناء مجتمعنا، وعدم التساهل مع كل أشكال إذكاء روح الانقسام المذهبي في وطننا.

2- إن المخطط الذي يستهدف إسقاط الأمة جمعاء في أتون الحروب المذهبية الكامنة والصريحة كبير ومتعدّد الأشكال والأساليب والجوانب؛ لذلك فإننا بحاجة اليوم إلى مشروع إسلامي متكامل، تشترك فيه جميع المؤسسات والمعاهد والقوى والفعاليات لإفشال هذا المخطط، والحؤول دون سقوط الأمة أو بعض أطرافها في أتون هذه الفتن العمياء، التي لا يربح منها إلَّا أعداء الأمة.

والخطير في هذا الأمر أن صناع الفتن ليسوا على شكل واحد، أو نمط محدّد، وإنما هم يتلوّنون ويتعدّدون، ويأتون من أجل تنفيذ مخططهم الجهنمي من أبواب متفرّقة ووسائل متنوّعة؛ لذلك فإننا نرفض أن ننجرّ إلى مشروع الفتنة الطائفية، ونعتبر أن الانجرار إلى هذه الفتن هو أكبر خدمة تقدّم إلى أعداء الأمة، كما أنها تساهم في حرق تاريخ أيّ إنسان الديني والوطني والأخلاقي.

وإن كل التصرّفات الشائنة التي يقوم بها بعض السنة أو بعض الشيعة، ينبغي أن تكون موضع إدانة صريحة وواضحة؛ لأن الظلم مرفوض والافتئات على الحقوق والكرامات مرفوض، ولا يمكن أن نعالج هذه الممارسات بالقيام بمثلها تجاه الطرف الآخر، وإنما بإدارة هذه المشاكل والبحث عن حلول ناجعة بعيدًا عن نزعات التشظي الطائفي والمذهبي.

والواقع الإسلامي اليوم، مليء بكل الصور والحقائق، التي تبرّر لأيّ إنسان ومن أيّ موقع مذهبي كان، للانزلاق صوب المساهمة المباشرة في إذكاء الفتنة والتوتر المذهبي.. ولكن دائمًا وأبدًا النار لا تُطفأ بنار مثلها.

لذلك فنحن جميعًا بحاجة إلى وعي عميق بمخاطر هذه الفتن على الجميع، وبعمل مستديم من أجل تفكيك كل العقد وعناصر التوتر التي تذكي أوار الاحتقان الطائفي بكل صوره وأشكاله.

3- علماء الأمة ومؤسساتها الدينية والشرعية، تتحمّل مسؤولية كبرى، للمساهمة الفعّالة في وأد الفتنة الطائفية التي بدأت تطلّ برأسها النتن في أكثر من بلد عربي وإسلامي. فكما أن هناك قوى وفعاليات علنية وخفية، تعمل ليل نهار من أجل إسقاط الأمة في أتون الاحتراب الطائفي، ينبغي أن تكون هناك قوى وفعاليات -وعلى رأسها علماء الأمة ومؤسساتها الدينية- تعمل من أجل إفشال هذا المخطط الجهنمي الذي يستهدف الأمة في حاضرها ومستقبلها، والتعاون من أجل تعزيز قيم الأخوة والتعايش السلمي بين جميع مكوّنات الأمة.

وفي هذا السياق نحمّل جميع هذه المؤسسات الدينية مسؤولية رفع الغطاء الديني والشرعي عن كل التصريحات والممارسات التي تستهدف بثّ الكراهية بين المسلمين أو تأزيم العلاقة بين تعبيراتها المذهبية.

فحينما يقف علماء الأمة أمام مقدّمات الحروب المذهبية فإن قدرة الأمة على إفشال مخططات الفتنة تكون فعّالة، أما إذا صمت علماء الأمة، وتمادى صانعوا الفتنة من كل الطوائف والأطراف فإن مخاطر السقوط في مستنقع الحروب المذهبية سيكون كبيرًا؛ لذلك من الضروري عدم التساهل مع كل التصريحات والممارسات التي تسوّغ الاحتراب الداخلي بين المسلمين.

4- إننا ندعو أهل الاعتدال والوسطية والتلاقي من كل الطوائف والمذاهب إلى فتح جسور اللقاء والتلاقي والتفاهم والتعاون من أجل إرساء حقائق هذه القيم في الفضاء العام للمسلمين.

فلا يكفي اليوم أن نلعن ظلام الفتنة والاحتراب المذهبي ونرفضه، وإنما نحن بحاجة إلى التعاون والتعاضد لتنقية الساحات الإسلامية من جراثيم التطرّف والغلو ونزعات الإلغاء والإقصاء. هذا من جهة، ومن جهة أخرى ينبغي العمل المؤسسي في كل الفضاءات الوطنية والاجتماعية لتعزيز قيم الوحدة والتفاهم والتلاقي؛ لأن الاحتراب الطائفي يدمّر الجميع، وينهي كل أشكال الاستقرار السياسي والاجتماعي، ولا سبيل لوأد مشروع الفتن الطائفية إلَّا بالوعي بمخاطرها والوقوف ضدها، وفضح مآلاتها، والعمل على تشبيك العلاقة بكل مستوياتها بين مكوّنات الأمة، وإنه آن الأوان منا جميعًا لرفع الصوت ضدّ كل أشكال بثّ الكراهية بين المسلمين، وتحضير المسرح الاجتماعي والسياسي للحروب المذهبية في جميع بلدان العرب والمسلمين.

فتعالوا جميعًا نحمي أوطاننا وأمننا الاجتماعي والسياسي برفض مشروع الاقتتال الطائفي في الأمة.

الخاتمة

نصل بعد هذا البحث إلى أن النزعة الطائفية مهما تفشّت في أيّ بلد، فإنها تدمّر على أسس الاستقرار والسلم الاجتماعي. ولا حلَّ فعّال لهذه الظاهرة إلَّا إحياء وتفعيل مبدأ المواطنة. بحيث تكون العلاقة بين الأفراد والجماعات قائمة على أسس المواطنة، وتكون هي الفيصل حينما يختلف الناس على أساس طائفي أو عنصري. وعليه نستطيع القول: إن كل الانتماءات ما دون المواطنة الحديثة هي عامل سلب في مسيرة المجتمعات. ولا علاج فعّال لهذه إلَّا بالمواطنة التي تحمي جميع المواطنين بصرف النظر عن أصولهم ومنابتهم القومية والمذهبية والعرقية والدينية. والمجتمعات التي حافظت على تنوّعها الاجتماعي هي المجتمعات التي أعلت من مبدأ المواطنة، وجعلت هذا المبدأ وحده مصدر الحقوق والواجبات. لهذا كله نتمكّن من القول: إن المجتمعات المتنوّعة لا يمكن حمايتها إلَّا بإعلاء مبدأ المواطنة. فهي طريق الخروج من كل الإحن التي تضرّ بالسلم الاجتماعي؛ لذلك فإن تعزيز الوحدة الوطنية في كل المجتمعات المتنوّعة لن يكون إلَّا بخيار المواطنة. فلا خيار لكل المجتمعات المتنوّعة إلَّا بتعزيز خيار المواطنة، بحيث تكون وحدها هي مصدر الحقوق والواجبات.

 

 

 



[1] عبدالإله بلقزيز، الدولة والمجتمع - جدليات التوحيد والانقسام في الاجتماع العربي المعاصر، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، الطبعة الأولى، 2008م، ص 69.

[2] عزمي بشارة، الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، 2018م، ص20.

[3] عزمي بشارة، الطائفة، والطائفية، الطوائف المتخيلة، مصدر سابق، ص27.

[4] عزمي بشارة، الطائفة، والطائفية، الطوائف المتخيلة، مصدر سابق، ص38.

[5] عزمي بشارة، الطائفة، والطائفية، الطوائف المتخيلة، مصدر سابق، ص64.

[6] سورة النحل، الآية 36.

[7] سورة الجاثية، الآية 21 - 22.

[8] جريدة الحياة، صفحة 21، العدد 18384/ الأحد 4/ 8/ 2013م.

[9] عزمي بشارة، الطائفة، والطائفية، الطوائف المتخيلة، مصدر سابق، ص387.

[10] عزمي بشارة، الطائفة، والطائفية، الطوائف المتخيلة، مصدر سابق، ص493.

[11] سورة البقرة، الآية 201.

[12] عزمي بشارة، الطائفة، والطائفية، الطوائف المتخيلة، مصدر سابق، ص495.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة