شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
سؤال الانحطاط..
ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟
زكي الميلاد
-1-
سرد وتوصيف
اكتسب كتاب العالم الهندي الشيخ أبو الحسن علي الحسني النّدوي (1333-1420-هـ/ 1914-1999م) الموسوم بعنوان: (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟) أهمية كبيرة فاقت التوقّعات في المجال العربي، مسجّلًا أثرًا قويًا يمكن أن يؤرّخ له في تاريخ تطوّر الفكر الإسلامي المعاصر الممتد من منتصف القرن العشرين حتى نهايته، متخطّيًا نصف قرن من الزمان، وبقي محتفظًا بأثره حتى بعد الولوج إلى القرن الحادي والعشرين.
صنّف الشيخ الندوي هذا الكتاب ما بين سنتي 1944-1945م، وصدر في القاهرة سنة 1950م، وكان عمره آنذاك قد جاوز الثلاثين عامًا، ويعدّ باكورة مؤلفاته باللغة العربية، سبقته تأليفات تعليمية ألّفت لأبناء المسلمين الذين يدرسون اللغة العربية في المعاهد الدينية بالهند، تحددت في ثلاثة تأليفات هي: (قصص النبيين للأطفال) و(القراءة الراشدة) و(مختارات من أدب العرب).
تحدث الندوي عن الأجواء النفسية التي أحاطت به عند تأليف هذا الكتاب، مبيّنًا كيف إنه كان مترددًا ومتخوفًا كونه جديدًا في مجال التأليف باللغة العربية، ومتناولًا موضوعًا عدّه ضخمًا بالنسبة لمن هو في مثل سنه، ولأنه يقطن بلدًا بعيدًا عن مركز اللغة العربية وآدابها وثقافتها، ولم يقدر له أيُّ سفر خارج بلده الهند قبل تأليف كتابه، فسفرته الأولى حصلت سنة 1947م لأداء فريضة الحج، أي بعد ثلاث سنوات على تأليف الكتاب.
وفي ظلال هذه الأجواء النفسية، رأى الندوي أن ما أقدم عليه كان بمثابة مغامرة علمية لم يكن متهيِّئًا لها ولا مرشحًا، معتبرًا أن من الجسارة تناول هذا الموضوع، مقدرًا أنه بحاجة إلى قلم أكبر من قلمه، وعقل أوسع من عقله، وتجربة أطول من تجربته، مصورًا أنه أقدم على هذه الخطوة ولم يكن مخيَّرًا وإنما كان مسيَّرًا، مستشعرًا هاجسًا في ضميره أوحى له قائلًا: لا بد من وضع كتاب في هذا الموضوع.
عندها شعر الندوي -حسب قوله- برغبة غامضة ملحَّة لم يستطع مغالبتها، وكأن سائقًا يسوقه إلى الكتابة عن هذا الموضوع، مرجِّحًا أنه لو استشار العقل واعتمد على تجارب المؤلفين وسُلَّم درجاتهم العلمية لأحجم عن هذه الفكرة وعدل، ولو ذكر ذلك لأحد من العقلاء العلماء أو الكُتَّاب الفضلاء لأشاروا عليه بالعدول عن خوض هذه المعركة العلمية العقلية، فكان من الخير -حسب تقديره- أنه لم يستشر أحدًا، متوثّقًا بكلام للدكتور محمد إقبال (1294-1357هـ/ 1877-1938م) ذكره قائلًا: «ليس من الخير أن تستشير عقلك دائمًا، فنح عقلك جانبًا في بعض الأمور، فإن العقل يصور لك الخوف في معارك خطيرة، ويشير عليك الابتعاد عن مثل هذه التجارب المريرة»[1].
بعد أن أتمَّ الندوي تأليف كتابه ساوره شك متسائلًا مع نفسه: هل ينال هذا الكتاب تقديرًا في البيئات العربية والإسلامية البعيدة؟ وذلك لكونه يعيش بعيدًا عن مركز الثقافة العربية، وعن مركز العلوم الإسلامية الأصيل، راغبًا بنشر كتابه في بلد عربي، مؤثرًا مصر على غيرها من البلدان العربية.
وسعيًا لتحقيق هذه الرغبة أرسل الندوي قائمة محتويات كتابه إلى الدكتور أحمد أمين (1295-1373هـ/ 1887-1954م) رئيس لجنة التأليف والترجمة والنشر في مصر، ورئيس الإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية، الذي نالت مؤلفاته إعجابًا عند الندوي خصوصًا إسلامياته التاريخية المعروفة، وقد درسها دراسة عميقة على حدِّ وصفه، معلقًا على آرائه بالموافقة غالبًا، وبالنقد والاختلاف أحيانًا، معجبًا بأسلوبه واصفًا له بالمركز الذي يجري مع الطبع، متمنيًا أن يصدر كتابه من مؤسسة لجنة التأليف التي يشرف عليها الدكتور أحمد أمين، منطبعًا في ذهنه أن ما يصدر من هذه المؤسسة له قيمة علمية كبيرة في الشرق العربي.
أقدم الندوي على هذه الخطوة من دون أن يعلم ما سيكون عليه مصير تلك الأوراق المرسلة التي تعطي فكرة إجمالية عن الكتاب، كونها جاءت من مؤلف مجهول ليس له أثر علمي ولا شافع من أحد ولا مزكٍّ، وبعد فترة من الوقت فوجئ الندوي باستلام خطاب من أحمد أمين يطلب منه نموذجًا من الكتاب، فأرسل إليه قطعة منه حوت قائمة موضوعاته والعناوين الجانبية الدالة على محتوياته، فكان لها وقعٌ حسنٌ عند أمين متصاحبٌ مع تخوّف صوَّره الندوي في صورة أن يكون هذا الكتاب الصادر من قلم عالم ديني نشأ وتثقَّف بعيدًا عن العالم الغربي، أن يغلب عليه الطابع الديني واللغوي شأنه شأن علماء الأزهر والمعاهد الدينية القديمة!
بدا هذا التخوُّف للندوي حين تساءل أحمد أمين: هل استفاد المؤلف من المراجع الأجنبية؟ فجاء جواب الندوي بالإيجاب، مرسلًا له ثبتًا بالمراجع الإنجليزية، فاطمأن أمين من هذه الجهة، مخبرًا بأن اللجنة قرَّرت طبع الكتاب، مبديًا إعجابه من الناحيتين الأدبية والمعنوية، فكان هذا اليوم الذي تلقَّى فيه الندوي رسالة الموافقة بالنشر من أعظم أيام العمر فرحًا وسرورًا، بقي في ذاكرته ولم يَنْسَهُ أبدًا.
وما إن صدر الكتاب حتى فوجئ الندوي مصدومًا من الكلمة القصيرة التي قدَّم بها أحمد أمين لكتابه، فلم تكن في نظر الندوي بتلك القوة التي توقَّعها من كاتب إسلامي كبير حسب وصفه، فقد وجده متحفِّظًا شديدًا في إبداء انطباعه عن الكتاب ومؤلِّفه.
وتخفَّفت هذه الصدمة عند الندوي وتراجعت مع مرور الوقت، قالبًا صورة الانطباع، رافعًا تبعة ذلك عن أمين، واضعًا التبعة على نفسه، معترفًا بفضل أمين في نشر الكتاب ووصوله إلى الأوساط العلمية المتنوِّرة التي لا تعير كتابًا يصدر من مؤسسة دينية شيئًا من العناية والاهتمام حسب تقدير الندوي.
وحين راجع الندوي نفسه محاولًا تفهُّم موقف أمين، تنبَّه لثلاثة وجوه محتملة: الوجه الأول رأى فيه الندوي أن ليس كل من يقدّم لكتاب يكون متحمّسًا لموضوعه بدرجة حماس المؤلف. الوجه الثاني رأى الندوي أن التبعة تقع عليه لأن ما تأمله في أمين كانت مجرد آمال بعيدة، ظانًّا أنه حمَّله ما لم يتهيَّأ له فكريًّا وعلميًّا. الوجه الثالث رأى فيه الندوي أن أمينًا باعتباره من أساتذة الجيل الجديد ومن كبار المؤلفين والأدباء حسب وصفه، ربما خاف أن يُعطي المؤلف ما لا يستحق، كونه لا يعرفه معرفة شخصية، ولم يتحقّق من مستواه العلمي.
وبخلاف انطباع أمين وعلى العكس منه تمامًا، جاء انطباع العالم الأزهري الدكتور محمد يوسف موسى (1317-1383هـ/ 1859-1963م) رئيس جماعة الأزهر للتأليف والترجمة والنشر، الذي ما إن تعرَّف إلى كتاب الندوي حتى رغب بإعادة نشره باسم جماعة التأليف في الأزهر، مستأذنًا من أحمد أمين ناشر الطبعة الأولى، ومتّفقًا مع الندوي مرحبًا ومسرورًا، فصدرت هذه الطبعة الثانية سنة 1951م، محتوية على ثلاث تقديمات مصرية لثلاثة أسماء لامعة ومعروفة، هي: الدكتور محمد يوسف موسى، والأديب سيد قطب (1324-1386هـ/ 1906-1966م)، والشيخ الأزهري أحمد الشرباصي (1336-1400هـ/ 1918-1980م)، وغابت عن هذه الطبعة وجميع الطبعات المتتالية الكلمة التقديمية لأحمد أمين التي لم يكن الندوي راضيًا عنها.
ظهرت الطبعة الثالثة من الكتاب سنة 1953م، وكان الندوي حينها في جولة على بلدان الشرق الأوسط، فلم يتمكَّن من أن يضم إليها زيادات كان يفكّر فيها ويشعر بحاجة الكتاب إليها، فقد تعرَّف إلى مصادر جديدة، وجدت عنده بعض الآراء الجديدة فألحقها بالطبعة التي صدرت من دار القلم بالكويت سنة 1959م، وهي الطبعة التي عدَّها الندوي أنها أكثر ضبطًا وإتقانًا، وأحسن تنقيحًا وتهذيبًا من الطبعات السابقة.
-2-
الأطروحة والمنهج
انطلق الندوي في أطروحته معتبرًا أن انحطاط المسلمين وفشلهم وانعزالهم عن قيادة الأمم، وانسحابهم من ميدان العمل والحياة، لم يكن حدثًا من نوع ما وقع وتكرّر في التاريخ من انحطاط الأمم والشعوب، وانقراض الحكومات والدول، وانكسار الملوك والفاتحين، وتقلّص ظل المدنيات، فما أكثر ما وقع مثل هذا في تاريخ كل أمة، لكن حدث انحطاط المسلمين كان حدثًا غريبًا لا مثيل له في التاريخ كله.
وتأكيدًا لعظمة هذا الحدث يرى الندوي أن انحطاط المسلمين لا يخصّ العرب وحدهم، ولا يخصّ الأمم والشعوب التي دانت بالإسلام، بل هي -في نظره- مأساة إنسانية عامة لم يشهد التاريخ أتعس منها، ولو عرف العالم حقيقة هذه الكارثة ومقدار خسارته، لاتَّخذ من اليوم الذي حدث فيه ما حدث يوم عزاء ورثاء، يوم نياحة وبكاء، ولتبادلت أمم العالم وشعوبه التعازي، ولبست الدنيا ثوب الحداد، باعتبار أن هذا الانحطاط في تصوّر الندوي هو انحطاط رسالة هي للمجتمع البشري كالروح، وبمثابة انهيار دعامة قام عليها نظام الدين والدنيا.
أقام الندوي أطروحته على أساس فكرة الصراع التاريخي بين الإسلام والجاهلية، متخذًا من الجاهلية مفهومًا مركزيًّا في بنية أطروحته الحضارية، متتبعًا في هذه الأطروحة من الناحية التاريخية ثلاثة عصور زمنية عبرت من الأزمنة القديمة وامتدت إلى الأزمنة الحديثة، متطلعة إلى أزمنة مستقبلية واعدة.
تحدّدت هذه العصور التاريخية الثلاثة حسب تصوّر الندوي بهذا النحو: العصر الجاهلي، والعصر الإسلامي، والعصر الأوروبي، عن العصر الجاهلي يرى الندوي أن الإنسانية كانت في حالة احتضار، معتبرًا أن القرنين السادس والسابع الميلاديين كانا من أحطِّ أدوار التاريخ، انحدرت فيه الإنسانية، ولم تكن على وجه الأرض قوة تمسّك بيدها وتمنعها من التردي، فقد أصبحت الديانات العظمى فريسة العابثين والمتلاعبين، ولعبة المحرفين والمنافقين، وفقدت روحها وشكلها، كما أن هذا العصر كان مسرحًا للحكم الجائر المستبد خاضعًا لملكيات مطلقة، نسي الإنسان فيه خالقه، فنسي نفسه ومصيره وفقد رشده.
أما العصر الإسلامي، فقد تحدَّث عنه الندوي قائلًا: ظهر المسلمون وتزعَّموا العالم، وعزلوا الأمم المريضة من زعامة الإنسانية، وساروا بالإنسانية سيرًا حثيثًا متّزنًا عادلًا، وقد توفّرت فيهم الصفات التي تؤهِّلهم لقيادة الأمم، وتضمن سعادتها وفلاحها في ظلهم وتحت قيادتهم.
هذه الصفات حدَّدها الندوي في أربع، هي:
أولًا: أن المسلمين هم أصحاب كتاب منزل وشريعة إلهية، فلا يقنّنون ولا يشترعون من عند أنفسهم.
ثانيًا: أن المسلمين لم يتولّوا الحكم والقيادة إلَّا بعد تربية خلقية وتزكية نفسية، بخلاف غالب الأمم والأفراد من الماضي والحاضر.
ثالثًا: لم يكن المسلمون خَدَمَة جنس معين، ولا رسل شعب أو وطن يسعون لرفاهيته ومصلحته وحده، ولم يخرجوا ليؤسّسوا إمبراطورية عربية ينعمون في ظلها ويرتعون، إنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده.
رابعًا: أن أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا جامعين بين الديانة والأخلاق والقوة والسياسة، وبفضل تربيتهم الخلقية والروحية السامية، وجمعهم بين مصالح الروح والبدن، واستعدادهم المادي الكامل، وعقلهم الواسع، أهَّلهم أن يسيروا بالأمم والإنسانية إلى غايتها المثلى الروحية والخلقية والمادية[2].
وتدعيمًا لهذا التصوُّر يرى الندوي أن ظهور المدنية الإسلامية بروحها ومظاهرها، وقيام الدولة الإسلامية بشكلها ونظامها في القرن الأول، مثَّل فصلًا جديدًا في تاريخ الأديان والأخلاق، وظاهرة جديدة في عالم السياسة والاجتماع، انقلب به تيار المدنية، واتجهت به الدنيا اتجاهًا جديدًا.
بعد ذلك اتَّجه الندوي إلى العصر الأوروبي متحدّثًا عن الحضارة الغربية طبيعتها وتاريخها، مستغرقًا في بيان ماديتها، معتبرًا أن دين أوروبا اليوم الذي يملك عليها القلب والمشاعر ويحكم على الروح هو المادية لا النصرانية، متتبعًا مظاهر الطبيعة المادية في أوروبا ومثبتًا لها، متنقلًا في الحديث من أوروبا المادية إلى أوروبا في طريق الانتحار، والحاصل عند الندوي «أن الغربيين لما فقدوا الرغبة في الخير والصلاح، وضيّعوا الأصول والمبادئ الصحيحة، وزاغت قلوبهم وانحرفت، واعتلَّت أذواقهم، لم تزدهم العلوم والمخترعات إلَّا ضررًا»[3].
خلاصة القول الجامع عند الندوي لصورة أوروبا وعصرها، قرّره في نص مرجعي مهم قائلًا: لأسباب تاريخية عقلية «تحولت أوروبا النصرانية جاهلية مادية، تجردت من كل ما خلفته النبوة من تعاليم روحية، وفضائل خلقية، ومبادئ إنسانية، وأصبحت لا تؤمن في الحياة الشخصية إلَّا باللذة والمنفعة المادية، وفي الحياة السياسية إلَّا بالقوة والغلبة، وفي الحياة الاجتماعية إلَّا بالوطنية المعتدية، والقومية الغاشمة، وثارت على الطبيعة الإنسانية، والمبادئ الخلقية، وشغلت بالآلات، واستهانت بالغايات، ونسيت مقصد الحياة، وبجهدها المتواصل في سبيل الحياة، وبسعيها الدائب في الاكتشاف والاختبار، مع استهانتها المستمرة بالتربية الخلقية وتغذية الروح، وجحودها بما جاءت به الرسل، وبإمعانها في المادية، وبقوتها الهائلة مع فقدان الوازع الديني، والحاجز الخلقي، أصبحت فيلًا هائجًا، يدوس الضعيف، ويهلك الحرث والنسل»[4].
من هذا البيان أراد الندوي أن يصل إلى نتيجة تمثّل جوهر أطروحته ولبَّها، مفادها أن لا صلاح للعالم ولا فلاح إلَّا بالإسلام، معتبرًا أن العالم شرقًا وغربًا أصبح في أزمة روحية وخلقية واجتماعية واقتصادية تطلب حلًّا سريعًا وعاجلًا، مقدّرًا أن الحل الوحيد يتمثل في تحول القيادة العالمية، وانتقال دفة الحياة من اليد الأثيمة الخرقاء إلى يد بريئة حاذقة حسب وصف الندوي، قاصدًا بذلك التحول من دفة أوروبا التي تقودها المادية والجاهلية، إلى دفة العالم الإسلامي الذي يقوده سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) برسالته الخالدة ودينه الحكيم، وبذلك يتغير وجه التاريخ، ويتحول مجرى الأمور، مطالبا العالم الإسلامي أن يمنّي نفسه بهذا المنصب الخطير.
نهوضًا بهذا الدور القيادي على مستوى العالم، دعا الندوي إلى نهضة العالم الإسلامي في ظل زعامة العالم العربي، واضعًا رجاء العالم الإسلامي ونهضته في العالم العربي وزعامته، متوثقًا بهذا الرجاء، مستندًا إلى حقائق ومعطيات أبان عنها قائلًا: «والعالم العربي بمواهبه وخصائصه وحسن موقعه الجغرافي وأهميته السياسية يحسن الاضطلاع برسالة الإسلام، ويستطيع أن يتقلَّد زعامة العالم الإسلامي، ويزاحم أوروبا بعد الاستعداد الكامل، وينتصر عليها بإيمانه وقوة رسالته ونصر من الله، ويحول العالم من الشر إلى الخير، ومن النار والدمار إلى الهدوء والسلام»[5].
هذا من ناحية الأطروحة، أما من ناحية المنهج فيرى الندوي أنه استحدث منهجًا فكريًّا تخطَّى به الحدود المرسومة، مفارقًا به المنهج التقليدي الذي فرض على المؤلفين والكُتَّاب العرب والعجم، فاصلًا بين منهجين في طريقة النظر لعلاقة المسلمين بالعالم، بين المنهج الذي ينظر إلى المسلمين من خلال العالم، والمنهج الذي ينظر إلى العالم من خلال المسلمين.
المنهج الأول يقدّم العالم على المسلمين، ويتّخذ من العالم قياسًا وعدسة في النظر إلى المسلمين أحوالهم ومستقبلهم، بينما المنهج الثاني يقدّم المسلمين على العالم، ويتّخذ من المسلمين قياسًا وعدسة في النظر إلى العالم أحواله ومستقبله.
هذه الفكرة المتعلقة بالمنهج، أبان عنها الندوي سنة 1981م، أي بعد ما يزيد على ثلاثة عقود من الزمان على صدور كتابه، وجاءت في سياق تطور رؤيته لفكرة الكتاب وأطروحته، وحصلت نتيجة لما حققه الكتاب من نجاحات حفزت الندوي على متابعته ومراجعته، وإعمال النظر فيه بين وقت وآخر تعديلًا وتصويبًا وإضافة، أسهمت في الالتفات إلى هذه المفارقة المنهجية.
كشف الندوي عن هذا المنهج ومفارقاته، مقررًا له في نص مهم، يعد نصه المرجعي الشارح لمنهجه، لذا سنعرض له كاملًا لأهميته المنهجية، حيث دوّن قائلًا: «كان الناس قد اعتادوا في ذلك العصر، وقبل العصر الذي ألف فيه هذا الكتاب، أن ينظروا إلى المسلمين من خلال التاريخ العالمي، أو ينظروا إلى المسلمين كشعب عادي وكأمة من أمم كثيرة، ولكن تشجّع مؤلف هذا الكتاب وتخطّى هذه الحدود المرسومة، وخرج من الإطار التقليدي الذي فرض على المؤلفين والكتَّاب في العرب والعجم، فأراد أن ينظر إلى العالم من خلال المسلمين، وشتان بين النظرتين، نظرة ينظر بها إلى المسلمين من خلال العالم ومن خلال الحوادث التي جرت في العالم، ومن خلال التطورات التي حدثت في التاريخ، المسلمون شعب من الشعوب، يخضعون لما يجري في العالم في إطار عام واسع، فكان المنهج الفكري العام وأسلوب البحث الدائم، ماذا خسر المسلمون بسبب الحادث الفلاني؟ وبسبب انقراض الحكومة الفلانية، ماذا خسر المسلمون بسبب نهضة الغرب الحديثة؟ ماذا خسر المسلمون بسبب الثورة الصناعية الكبرى التي حدثت في الغرب؟ ماذا خسر المسلمون بانقراض الخلافة العثمانية؟ وماذا خسر المسلمون بفتح الغرب لكثير من قلاع الإسلام والمسلمين؟ ماذا خسر المسلمون بفقرهم في الاقتصاد، وفي السياسة، وفي القوة الحربية؟.
كان ذلك الطريق المرسوم التقليدي الذي اعتاده الناس، ولكن الله سبحانه وتعالى ألهمني وشرح صدري لأن أكتب في موضوع: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ كأن المسلمين هم العامل العالمي المؤثّر في مجاري الأمور في العالم كله، ليس في بقعة جغرافية محدودة، أو منطقة سياسية خاصة. هل المسلمون حقًّا في وضع يمكن أن يقال: إن العالم قد خسر شيئًا بانحطاطهم، هل المسلمون على مستوى يجوز أن يقال: إن العالم قد خسر شيئًا بتقهقرهم، وبتخلّفهم عن مجال القيادة العالمية؟ إنني أخاف وأخشى أن كثيرًا من الكتَّاب الإسلاميين الذين كانت لهم مواقف جليلة، وكانت لهم سوابق عديدة، لم يفكروا هذا التفكير، إن تشويه التاريخ الإسلامي والنظر إليه من زاوية ضيقة، ومركَّب النقص الذي أصيب به الجيل الجديد المثقف، كان يعوق كثيرًا من الباحثين عن أن يربطوا قضية المسلمين بقضية العالم وبقضية الإنسانية، أين المسلمون من القيادة العالمية؟ المسلمون فقراء، المسلمون ضعفاء، المسلمون محكومون من الغرب، المسلمون خاضعون للثورات الحديثة، فهل يصح أن يربط مصير العالم أو مصير الإنسانية بمصير المسلمين وواقعهم؟ لا! إن كثيرًا من الناس لم يكونوا يصدّقون في ذلك الحين أن المسلمين لهم من الأهمية والخطر والتأثير، ومن المكانة ما يؤهِّلهم لهذا البحث، ويُسوِّغ لمؤلف أن يؤلف كتابًا، فيبحث عن مدى خسارة العالم الإنساني والعالم المعاصر بانحطاط المسلمين، إن الموضوع كان خطيرًا، وكان البحث فيه شبه مجازفة ومغامرة علمية، ولكن الله سبحانه وتعالى أعان على ذلك»[6].
هذه تقريبًا هي خلاصة قول الندوي عن أطروحته ومنهجه كما شرحها بعد ثلاثة عقود من صدور كتابه.
-3-
إعجاب وتقدير
حقّق كتاب الندوي نجاحًا كبيرًا، ونال شهرة واسعة، وكسب إعجابًا مميزًا، وترك تأثيرًا قويًا، وشهد متابعة نشطة، وتوالت طبعاته بين فترات متقاربة ولم تتوقف، متنقلة بين بلدان عربية عدة، منها: مصر والكويت وسوريا ولبنان، وتوالت كذلك ترجماته إلى لغات عدة، منها: الأردية والفارسية والتركية والإنجليزية وغيرها، وبقي الكتاب محتفظًا بحضوره الفكري والديني في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر.
ظهر أثر الكتاب مبكرًا، وشقَّ طريقه سريعًا، وعرف مباشرة منذ خروجه من المطبعة، وتلمَّس الندوي بنفسه هذا الأثر حين وصل إلى مصر سنة 1951م، بعد مضي شهرين أو أكثر على صدور كتابه، فوجد ما لم يتوقعه، متحدثًا عن ذلك قائلًا: إن «الكتاب قد شقَّ طريقه إلى الأوساط العلمية والدينية، وحلَّ منها محلًّا لم يكن يتوقعه المؤلف بل يحلم به، وقد قرئ في نطاق واسع من المثقفين والمعنيين بقضية الإسلام وصحوة المسلمين... وكان الكتاب خير معرِّف للمؤلف الزائر الجديد، وممهِّدًا للثقة به والحديث معه»[7].
ومن شدة هذا الأثر ووضوحه، ظل الندوي يتحدث عنه مغتبطًا، ويشير إليه مندهشًا في مفتتح مقدمات طبعات الكتاب المتوالية، ففي مقدمة الطبعة الرابعة الصادرة سنة 1959م، صوَّر الندوي أن الإقبال على كتابه كان عظيمًا تخطَّى قياس المؤلف ورجاءه، متممًا كلامه قائلًا: «وتناولته طبقات الأمة وبعض قادة الفكر بالدراسة والبحث، وأشار المربُّون والمعلِّمون على الشباب بمطالعة هذا الكتاب»[8].
وتكرّر مثل هذا الانطباع في مقدمة الطبعة الثامنة الصادرة سنة 1969م، التي افتتحها الندوي قائلًا: إنه لم يكن يتوقع حين صدرت الطبعة الأولى من الكتاب «أن تتلوها هذه الطبعات المتكررة الكثيرة، وأن ينال هذا القبول والانتشار في العالمين العربي والإسلامي، وأن تتخطفه الأيدي، وتتنافس في نشره المكتبات الكثيرة التي تُعنى بالكتاب الإسلامي، وأن ينقل إلى عدة لغات وتكرر فيها الطبعات... وهو دليل على وجود القبول الطيب، والتجاوب الروحي مع الفكرة التي يحملها هذا الكتاب، والغاية التي يدعو إليها»[9].
من كلمات الندوي ونصوصه، نتلمس أربعة عوامل أسهمت في النجاحات التي حققها الكتاب، وهي:
العامل الأول: له علاقة بجهة الموضوع، فقد رأى فيه الندوي أنه كان طريفًا ومبتكرًا، وأشار إلى ذلك في مقدمة طبعة سنة 1981م قائلًا: «كان من أسباب استرعاء هذا الكتاب انتباه كثير من الناس وإثارته لدهشة الكثير منهم، أن الموضوع كان طريفًا مبتكرًا: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟! هل للمسلمين صلة وثيقة بالمصير الإنساني وبالأوضاع العالمية، حتى يجوز أن يقال: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟! أو ماذا سيربح العالم ويجنيه من الفوائد، بتقدم المسلمين وتسلمهم لقيادة البشرية؟»[10].
العامل الثاني: له علاقة بجهة الزمان، إذ يرى الندوي أن الكتاب جاء في وقته، وأشار إلى ذلك في مقدمة طبعة سنة 1959م، مفسّرًا ما وصفه بالإقبال النادر الذي حظي به كتابه قائلًا: إن «هذا الكتاب جاء في أوانه، وصادف رغبة غامضة واتجاهًا مبهمًا في النفوس، وأنه يتجاوب مع شعور كثير من المفكرين والمثقفين في العالم العربي، ويلتقي مع أفكارهم وآرائهم ودراستهم»[11].
العامل الثالث: له علاقة بجهة المكان، إذ يرى الندوي أن صدور الكتاب في بلد مثل مصر، ومن طرف جهة مثل لجنة التأليف والترجمة والنشر في القاهرة، أسهم في وصول الكتاب إلى الأوساط العلمية والأدبية، معتبرًا أن صدور الكتاب من لجنة التأليف تحديدًا «كان السبب في وصول هذا الكتاب إلى الأوساط العلمية المتنورة التي لا تعير كتابًا يصدر عن مؤسسة دينية شيئًا من العناية والاهتمام»[12].
العامل الرابع: له علاقة بجهة الاحتضان، فقد حظي كتاب الندوي باحتضان فكري ومعنوي من جهتين دينيتين مصريتين معروفتين، جهة دينية سياسية هي جماعة الإخوان المسلمين، وجهة دينية علمية هي جماعة الأزهر، الاحتضان الأول تمثَّل في دعم سيد قطب الذي كتب تقديمًا للطبعة الثانية من الكتاب، وتمثَّل الاحتضان الثاني في دعم الدكتور محمد يوسف موسى الذي تبنَّى الطبعة الثانية من الكتاب ونشرها باسم جماعة الأزهر للنشر والتأليف مدوّنًا فيها تقديمًا باسمه.
وقد أوضح الندوي احتضان جماعة الإخوان المسلمين لكتابه، معتبرًا أن توقيت صدور الكتاب جاء في أوانه ومكانه، ناظرًا لحالة الإخوان ومتأسيًا لمصابهم بعد اغتيال مؤسسهم الشيخ حسن البنا (1324-1368هـ/ 1906-1949م)، وحلِّ جماعتهم، فكان الجرح عميقًا وداميًا حسب وصفه، مصوّرًا أن كتابه جاء «مسليًا معزيًا، بل كسلاح علمي يدافعون به عن فكرتهم، وشحنة جديدة وزادًا ومددًا، فقرؤوه في المعتقلات، وقرَّروه في منهج الدراسة والمطالعة، واستشهدوا ببعض عباراته في المحاكم، واستقبلوا مؤلفه بحماس وحب»[13].
وتوثّق هذا الاحتضان مع سيد قطب الذي وصفه الندوي بالكاتب الإسلامي الكبير، معتبرًا أن قطب كان «في مقدمة من رحب بكتابه، وعني به، وشجّع تلاميذه وإخوانه على مطالعته... وكتب تلك المقدمة القوية التي زادت في قيمة الكتاب وقوته»[14].
وعن احتضان جماعة الأزهر، فقد تجلَّى متمثلًا في شخص الدكتور محمد يوسف موسى الذي وصفه الندوي بالأستاذ الفاضل والعالم المؤمن، وعدَّه من كبار المعجبين بكتابه المنوّهين به، المحفزين على قراءته، وكتب مقدمة قال عنها الندوي: قد تجلّى «فيها إخلاصه وحبه، واستجابته للفكرة، حلَّى بها جيد الكتاب»[15].
وأما عن أثر الكتاب وتأثيره النفسي والفكري، فيمكن الإشارة لثلاثة انطباعات مصرية لها أهمية اعتبارية، انطباعين منها يرجعان إلى وقت مبكر وتحديدًا إلى سنة 1951م مع صدور الطبعة الثانية من كتاب الندوي، والانطباع الثالث جاء بعدهما متأخرًا نصف قرن من الزمان.
هذه الانطباعات الثلاثة هي:
الانطباع الأول: أشار إليه الدكتور محمد يوسف موسى في تقديمه لكتاب الندوي، واصفًا المؤلف أنه أحد دعاة الإسلام من الطراز الأول في هذا العصر، متطرقًا إلى ما شهده الكتاب من حفاوة قائلًا: لقد تقبَّله القرَّاء بقبول حسن، وخصُّوه بحفاوة لم يظفر بها كتاب ظهر عن الإسلام آنذاك، مقتربًا من حاله كاشفًا عن افتتانه بالكتاب وغرامه به قائلًا: «وأشهد لقد قرأت الكتاب حين ظهرت بطبعته الأولى في أقل من يوم، وأغرمت به غرامًا شديدًا، حتى لقد كتبت في آخر نسختي وقد فرغت منه: إن قراءة هذا الكتاب فرض على كل مسلم يعمل لإعادة مجد الإسلام، وكل هذا قبل أن أعرف المؤلف الفاضل، فلما سعدت بمعرفته والحديث معه مرات عديدة، فهمت كيف ولماذا فتنت بالكتاب»[16].
زيادة على ذلك ميّز الدكتور موسى كتاب الندوي وما حواه من الخير، متخطيًا نطاق الزمن الحديث مرتدًا إلى نطاق الزمن القديم بطريقة لا تخلو من مبالغة، لعله كان قاصدًا لها ومتنبِّهًا، قائلًا: «إني –علم الله- لست أذكر فيما قرأت من القديم والحديث كتابًا حوى من الخير ما حواه هذا الكتاب، ولا كتابًا وضع أيدينا على دواء ما نشكو منه من أدواء وأمراض، كما فعل هذا الكتاب، ولا كتابًا نفذ كاتبه إلى روح الإسلام، وأخلص ويخلص في الدعوة له، ويقف كل جهوده على هذه السبيل كهذا الكتاب»[17].
الانطباع الثاني: أشار إليه سيد قطب في تقديمه لكتاب الندوي، وجاء متوافقًا لحد كبير مع انطباع الدكتور موسى، فقد اعتبر قطب أن كتاب الندوي من خير ما قرأ في هذا الاتجاه في القديم والحديث سواء، وعدَّه نموذجًا ليس للبحث الديني والاجتماعي فحسب، بل نموذج كذلك للتاريخ كما ينبغي أن يكتب من الزاوية الإسلامية، وكما يجب أن يتناوله المسلمون مستقلّين عن التأثّر بالطريقة الأوروبية التي ينقصها -في نظر قطب- ذلك التناسق المتجلّي في كتاب الندوي، وذلك التحقيق، وتلك العدالة.
وقد ميّز قطب الكتاب من جهتين، جهة البحث الديني، وجهة البحث التاريخي، وعدَّه نموذجًا من هاتين الجهتين، فمن جهة البحث الديني يرى قطب أن الخصيصة البارزة لكتاب الندوي كلّه هي: الفهم العميق لكليات الروح الإسلامية في محيطها الشامل، ومن جهة البحث التاريخي يرى قطب أن الكتاب يعرض الوقائع التاريخية والملابسات الحاضرة عرضًا عادلًا مستنيرًا، ويتحاكم في القضية التي يعرضها كاملة إلى الحق والواقع والمنطق والضمير، فتبدو كلها متساندة في صفه، وفي صف قضيته بلا تحمُّل ولا اعتساف في مقدمة أو نتيجة[18].
الانطباع الثالث: أشار إليه الدكتور محمد رجب البيومي (1923-2011م) أستاذ الأدب والنقد في جامعة الأزهر ورئيس تحرير مجلة الأزهر سابقًا، أشار إليه في مقالة دوَّنها عن كتاب الندوي نشرتها مجلة ثقافة الهند سنة 2001م، بعنوان: (نظرة في كتاب: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟)، جاءت على أثر وفاة الندوي، تذكَّر البيومي حينها كتابه واصفًا له بالشهير، كاشفًا عن انبهاره به، وما تركه من أثر عميق في وجدانه، متحدثًا عنه بطريقة وجدانية بالغة الدلالة قائلًا: «فما أذكر أن كتابًا ملك عليَّ مشاعري، واستثار الأعماق الدفينة من وجداني كهذا الكتاب، فقد كنت أقرأ مبهور الأنفاس، مضطرم المشاعر، وكنت أقطع القراءة لحظات لأصعّد آهة مكظومة، أو أجفف دمعة حائرة في الجفن، إذ إن الكاتب الكبير -وكان حينئذٍ في صدر شبابه- قد ملك من الأسلوب المنطقي المؤيّد بالحجج، ما دلّ على رسوخ كبير في موضوعه، وهو موضوع العالم جميعه قديمًا وحديثًا، شرقًا وغربًا، لأن الشمول المحيط بتاريخ العالم قبل الإسلام وبعده قد فتح أمامي صفحات واسعة، أرى فيها تسلسل التاريخ المطرد من مصبّه إلى منبعه، وكيف كان الإسلام ضوءًا مشعًّا غمر العالم كله بنوره، بعد أن كان يموج في ظلمات دامسة ما لها من انقشاع... وقد كدت أتّهم نفسي في شدة إعجابي بهذا الكتاب المبدع، ولولا أن الإعجاز وقف على كتاب الله وحده، لقلت: إنه الكتاب المعجز».
هذه ثلاثة انطباعات دالة للغاية، وغير عادية على الإطلاق بيانًا وأشخاصًا، لعلها من أقوى الانطباعات التي تكوَّنت عن كتاب الندوي في ساحة الأدب العربي المعاصر، ونادرًا ما يحظى كتاب في المجالين العربي والإسلامي، بمثل ما حظي به كتاب الندوي من تقدير وتبجيل وتعظيم.
-4-
مواقف مغايرة
على الطرف الآخر تشكَّلت تجاه كتاب الندوي انطباعات مغايرة، جاءت من كتَّاب عرب أكاديميين، عُرفوا بنزعتهم البحثية والنقدية متمثّلين صفة النقد الأكاديمي لظواهر الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، وكانوا متحرّرين من ضغط الروابط العاطفية والوجدانية المنفعلة بالدين والهوية والتراث والتاريخ.
في هذا النطاق يمكن الإشارة لثلاثة مواقف وقفتُ عليها، أعرض لها بحسب تعاقبها الزمني، هي:
الموقف الأول: أشار إليه الدكتور فهمي جدعان في سياق حديثه عن أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، متحدثًا عن الندوي قائلًا: إنه ألف بالعربية كتابًا في أوائل الخمسينات، قدّمه إلى قراء العربية سيد قطب، كان له رواج واسع في أوساط المتدينين العرب، متوقفًا عند رؤية الندوي عن العالم الإسلامي، لافتًا الانتباه إلى أمرين، مبديًا تحفُّظُا تجاهما، الأمر الأول: أن الندوي تكلَّم عن العالم الإسلامي كما لو كان متّحدًا ومتجانسًا فعلًا، الأمر الثاني: أن الندوي تكلَّم عن العالم الإسلامي كما لو كان يمثّل قوة حقيقية تقابل بقية الإنسانية، معتبرًا أن الندوي لا يتردد في التصريح بأن المسلمين على علاتهم مدعوون لأن يكونوا أوصياء على الإنسانية، وقادة العالم، والبديل الشرعي لجاهلية الغرب[19].
جاء هذا الموقف من الدكتور جدعان عابرًا وسريعًا من جهة، مقتضبًا وناقصًا من جهة أخرى، فلم يكن جدعان قاصدًا توسعة الحديث عن الندوي وكتابه، لذا فإن هذا الموقف بتمامه لا يعبّر عن كامل رؤية جدعان، وليس صائبًا قول جدعان: إن سيد قطب هو من قدّم كتاب الندوي إلى قرَّاء العربية. والصواب أن من قدَّمه في الطور الأول هو أحمد أمين الذي أشرف على الكتاب في طبعته الأولى مدوّنًا كلمة باسمه، وفي الطور الثاني قدَّمه الدكتور محمد يوسف موسى الذي نشر الطبعة الثانية ومقدّمًا لها، أما سيد قطب فقد شارك بمقدمة للكتاب أسهمت في شهرته والتعريف به.
الموقف الثاني: أشار إليه الدكتور رضوان السيد وتحدّد في مقاربتين، المقاربة الأولى تطرّق إليها الدكتور السيد في كتابه: (سياسيات الإسلام المعاصر)، وجاءت في سياق الحديث عن المسألة الثقافية في العالم الإسلامي، والمقاربة الثانية تطرَّق إليها السيد في كتابه: (الصراع على الإسلام)، وجاءت في السياق نفسه، متأطّرة بالحديث عن الحضارة والعلاقات بين الحضارات ومكانة المسلمين في العالم، واصفًا الندوي أنه يمثّل رؤية مثقف إسلامي غير حزبي.
اتفقت المقاربتان من جهة السياق وافترقتا من جهة الأشخاص، في المقاربة الأولى جرت من ناحية الأشخاص بين الندوي من جهة، وبين شكيب أرسلان وأحمد فتحي زغول (1279-1332هـ/ 1863-1914م) من جهة أخرى، إذ يرى الدكتور السيد أن تساؤل الندوي جاء معبّرًا عن تحوُّل وصفه بالانكماشي في طريقة فهم المسألة الحضارية الكبرى، وذلك حين وجّه الندوي النظر إلى ناحية مختلفة تمامًا عن تلك الناحية التي نظر إليها من قبلُ أرسلان وزغلول.
هذه المقاربة تحدَّدت في نصٍّ أبان عنه السيد قائلًا: «تصبح المتغيرات التي طرأت على فهم المسألة الحضارية الكبرى واضحة في ضوء كتاب أبي الحسن الندوي منتصف الخمسينات بعنوان: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ ففي حين كانت المسؤولية أيام شكيب أرسلان وأحمد فتحي زغلول عن انحطاط المسلمين، وتقدم الغربيين عليهم تقع على عاتق المسلمين؛ فإن الندوي يوجّه النظر هنا إلى ناحية مختلفة تمامًا من نواحي أو جوانب هذه الإشكالية: إسهام المسلمين القدامى في حضارة العالم، وانحراف الحضارة العالمية عن المسار الصحيح نتيجة توقّف الإسهام الإسلامي في بنائها وتطوّرها. ورغم الإيجابية البادية لأول وهلة في هذا المنحى، والمتمثّلة في تنبيه المسلمين إلى الدور العالمي الذي ينبغي أن يعودوا للقيام به؛ فإن آثار الانكماشية الإسلامية واضحة في الموضوع والمعالجة: الغرب مسؤول مسؤولية كبرى عن انحطاط المسلمين، إنها مسؤولية تكاد تعادل مسؤولية المسلمين أنفسهم. ثم إن الخروج من الانحطاط عند الندوي لا يتمثّل بالتعلّم والتنظيم بل بالعودة إلى الإسلام وقيمه وأحكامه. وفضيلة العودة لا تتمثّل في إقدام المسلمين على التأثير والمشاركة في حضارة العالم من جديد، بل إلى قدرتهم عندها على العيش في ظل حضارتهم ودينهم، مستغنين عن الغرب والتغريب، ومزدهرين بحيث يتحوّلون إلى نموذج يُحتذى من جانب الآخرين، ويستطيعون التحرّر من سيطرة الشرق والغرب»[20].
المقاربة الثانية جرت بين الندوي من جهة، وبين أبي الأعلى المودودي (1321-1399هـ/ 1903-1979م) وسيد قطب من جهة أخرى، تمحورت حول طبيعة الموقف تجاه الحضارتين الغربية والإسلامية، إذ يرى السيد أن هناك توافقًا بينهم وتفارقًا، توافقًا في المنحى العام، وتفارقًا في الأبعاد والاستنتاجات.
من جهة الأبعاد شرح السيد رأيه قائلًا: «لا يختلف أبو الحسن علي الحسني الندوي عن المودودي في فهمه للحضارة الأوروبية أو الغربية، وعلائقها الصراعية مع الإسلام، لكنه بخلافه يركز في كتابيه[21] الصادرين في مطلع الخمسينات بالعربية في القاهرة، على الأبعاد التاريخية والتحليلية للحضارتين الإسلامية والغربية، ومن أجل ذلك فإن صورته هذه هي التي سادت بين الإسلاميين المعاصرين، في حين تركّز تأثير المودودي وقطب على الجوانب الجدالية والنضالية للعلاقة بين المجالين الحضاريين»[22].
ومن جهة الاستنتاجات يرى السيد أن الندوي «يتّفق مع المودودي وقطب -قدّم قطب للطبعة العربية الأولى من كتابه: ماذا خسر العالم؟ صدر عام 1950م- في صورتيهما عن الحضارة الغربية، والأخرى الإسلامية؛ فقد اختلف عنهما منذ البداية في استنتاجاته، فهو لا يرى أن المسلمين منحرفون عقديًّا، كما أنه لا يرى في مؤلفاته الأولى ضرورة قيام دولة عقائدية لتطبيق النموذج الحضاري الإسلامي. فالخصوصية الحضارية الإسلامية تطعمت بجهود وبحوث المصلحين المسلمين في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وبنتيجة ذلك فإن المسلمين يعيشون في هذا العصر وليس خارجه، وبوسعهم إن احتفظوا بتقاليدهم وجددوها أَلَّا يدخلوا في الجاهلية الأوروبية، وهي أخلاقية وسلوكية أكثر ممَّا هي اعتقادية، وأن يقيموا حضارة مستقلة، وتنمية مستقلة، بالاشتراك مع الحضارات غير الأوروبية والأمم غير الغربية، التي تعاني من استيلاء الغربيين ما يعانيه المسلمون أنفسهم وربما أكثر»[23].
الموقف الثالث: أشار إليه الدكتور عبدالإله بلقزيز متحدّدًا في أمرين، الأول جاء في سياق مقاربة بين قطب والندوي، والثاني جاء في سياق مفارقة باينت ما بين معرفة الندوي بتاريخ أوروبا، وبين تقديره لدور المسلمين في العالم مع علمه بانحطاطهم.
بشأن الأمر الأول: يرى بلقزيز أن الندوي أسعف سيد قطب في الإلحاح على بناء ذلك التمايز الماهوي بين المجتمعين الجاهلي والمسلم، إذ لا يخامر بلقزيز الشك «في أن مفهوم الجاهلية القطبي ندوي المصدر، فقد سبق الندوي قطبًا إلى تشغيل هذا المفهوم في كتاباته، وتأثّر به الأخير تأثّرًا واضحًا، كان احتفاؤه بكتاب الندوي من علائمه»[24].
وما لم يروه بلقزيز أن قطبًا أبدى استحسانًا قويًّا لاستعمال الندوي كلمة الجاهلية، متوقّفًا عند هذه الكلمة وملتفتًا لها كما لو أنه يتنّبه إليها لأول مرة، مؤكّدًا على صوابيتها ودقّتها الدلالية، موضحًا ذلك قائلًا: «ولعله ممّا يلفت النظر تعبير المؤلف دائمًا عن النكسة التي حاقت بالبشرية كلّها منذ أن عجز المسلمون عن القيادة بكلمة الجاهلية، وهو تعبير دقيق الدلالة على فهم المؤلّف للفارق الأصيل بين روح الإسلام، والروح المادي الذي سيطر على العالم قبله، ويسيطر عليه اليوم بعد تخلّي الإسلام عن القيادة، إنها الجاهلية في طبيعتها الأصلية، فالجاهلية ليست فترة من الزمن محدودة، ولكنها طابع روحي وعقلي معيّن، طابع يبرز بمجرّد أن تسقط القيم الأساسية للحياة البشرية كما أرادها الله، وتحلّ محلها قيم مصطنعة تستند إلى الشهوات الطارئة، وهذا ما تعانيه البشرية اليوم في حالة الارتقاء الأولى، كما كانت تعانيه من قبلُ في أيام البربرية الأولى»[25].
وبشأن الأمر الثاني: يرى بلقزيز أن الندوي يعرف تاريخ أوروبا الوسيط والحديث معرفة دقيقة تنمُّ عن سعة اطّلاع، لكن المفارقة في نظر بلقزيز أن الندوي مع هذه المعرفة الدقيقة سرعان ما يقفز في الهواء، وينسى كل ما قاله عن انحطاط المسلمين في عصر أوروبا الظافر، فإذا به يفرد للمسلمين دورًا إنقاذيًّا كبيرًا، تتمُّ فيه تصفية الجاهلية ليس في ديار المسلمين فحسب بل في العالم كله!
أثارت هذه المفارقة عند بلقزيز تعجُّبًا، رأى فيها انشطار الوعي والمعرفة واختلال التوازن ما بين انحطاط المسلمين من جهة، وما للمسلمين من دور إنقاذي في العالم من جهة أخرى!
في هذه المفارقة تعجَّب بلقزيز من الندوي. ومن جهتي فقد تعجَّبت من بلقزيز حين اعتبر أن الندوي يعرف تاريخ أوروبا ليس الحديث فحسب وإنما الوسيط أيضًا، وليست معرفة عادية أو بسيطة وإنما معرفة دقيقة تنمُّ عن سعة اطّلاع. وفي ظني أن بلقزيز لم يكن دقيقًا في هذه الدقة التي ميَّز بها معرفة الندوي، ولو كان الندوي بهذه الدقة في المعرفة لكانت له رؤية لأوروبا غير الرؤية التي بسطها في كتابه، وهكذا من جهة رؤيته إلى العالم الإسلامي!
هذه ثلاثة مواقف نقدية تغايرت مع أطروحة الندوي، غلب عليها الطابع العام، تقصَّدت ملامسة المنهج، وتجنَّبت مناقشة التفاصيل، والأقرب أنها لا تعبّر عن كامل رؤية هؤلاء النُّقَّاد الثلاثة لأفكار الندوي وأطروحته التي بسطها في كتاب الانحطاط.
-5-
ملاحظات ونقد
بعدما تحدَّدت أطروحة الندوي ملامحها وعناصرها، وتكشَّفت بعض الانطباعات المتشكّلة حولها الموافقة والمخالفة، بقيت الإشارة إلى بعض الملاحظات النقدية التي أودُّ لفت الانتباه إليها، وهي:
أولًا: ينتمي كتاب الندوي إلى نسق من الكتابات الإسلامية المعاصرة تقوم فلسفته على تعزيز ثقة المسلمين بدينهم وثقافتهم وتاريخهم وحضارتهم، وتكريس المفاصلة والمفاضلة على باقي الديانات والثقافات والمدنيات الأخرى المغايرة، الشرقية والغربية، القديمة والحديثة، الضعيفة والقوية، المندثرة والمستمرة، سعيًا لتأكيد الاستعلاء العقيدي، وطلب الوصاية الحضارية على العالم والمجتمع الإنساني.
ومن هذه الناحية، يعدُّ كتاب الندوي كتابًا نموذجيًّا ورائدًا في هذا النسق الفكري، وقد عرف بهذه السمة وتميّز بها، وذكرها له كل من تعرَّف إليه ممَّن يلتقون معه في هذا النسق الفكري، فقد أشار إليها الدكتور محمد يوسف موسى مبرزًا لها ومؤكّدًا عليها قائلًا: «لقد أحس صديقنا الفاضل أبو الحسن ما نحسّه جميعًا في حسرة بالغة، وألم شديد، وهو ما ارتضته الدول الإسلامية لنفسها من السير في المؤخّرة وراء العالم الغربي، تميل إلى ما يميل، وتقبل حكمه فيما يعرض له من شؤونها، وترضى ما يقرّه من قيم حسب موازينه الخاصة به؛ وكان من هذا أن فقد العربي والمسلم بعامة ثقته بنفسه وجنسه ودينه ومعاييره، وقيمه العالية التي كان يحرص عليها أجداده وأسلافه الأماجد، ويحلّونها من أنفسهم المكان العليّ المرموق، وهذه علَّتنا التي يجب أن نطبَّ لها، وفي ذلك تتركّز مشكلتنا، أو مشاكلنا التي يجب علينا أن نجد الحل الناجع لها من صميم ديننا وتاريخنا وتراثنا الروحي العقلي الخالد، وإلى هذا كله نظر مؤلف كتاب: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟، وإليه جميعه عنَّى نفسه وعمل جهده»[26].
وتطرق سيد قطب كذلك إلى هذه السمة، دالًّا عليها في مفتتح تقديمه لكتاب الندوي، قائلًا: «ما أحوج المسلمين اليوم إلى من يرد عليهم إيمانهم بأنفسهم، وثقتهم بماضيهم، ورجاءهم في مستقبلهم، وما أحوجهم لمن يرد عليهم إيمانهم بهذا الدين الذي يحملون اسمه ويجهلون كنهه، ويأخذونه بالوراثة أكثر ممَّا يتَّخذونه بالمعرفة. وهذا الكتاب الذي بين يدي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟، لمؤلفه السيد أبي الحسن علي الحسني الندوي، من خير ما قرأت في هذا الاتجاه في القديم والحديث سواء»[27].
هذا النسق الفكري ترك أثرًا حسنًا في نفسية الإنسان المسلم المعاصر، لكنه جعله في المقابل متعلِّقًا بآمال ووعود لا يرى لها أثرًا حقيقيًّا في حياته، ولا يتمكَّن من تحقيقها على المدى القريب، ولا أفق لها على المدى المستقبلي المنظور، الوضع الذي جعل الإنسان المسلم يعيش منفصلًا عن الواقع الموضوعي، كما لو أنه يعيش في وادي والعالم في وادٍ آخر، يسلِّي نفسه بتلك الآمال والوعود من دون أن يرى تحوُّلًا حقيقيًّا يدفع بنهضة العالم الإسلامي وينتقل به من وضعية التراجع والتأخّر إلى وضعية النهوض والتقدّم.
من السهل صف الكلمات عن الآمال، وإشباع النفوس بالوعود الدينية أو التاريخية أو المستقبلية، لكن التحدي الحقيقي ليس هنا، وإنما في القدرة على تحريك عجلة النهوض والتقدم، وخلق التغيير الفعلي الذي ينعطف بوضعيات المسلمين نحو مسلكيات المدنية والحضارة.
ثانيًا: اتَّخذ الندوي من كلمة الجاهلية مفهومًا تفسيريًّا في رؤية العالم وفي النظر إلى الحضارة الأوروبية، متجلِّيًا ذلك في تعدُّد استعمالات هذا الوصف، وتكثيف تداوله، والتعبير عنه بشكل بارز، واسمًا تارة نهضة أوروبا بالجاهلية، وتارة واسمًا فلسفتها بالجاهلية، وتارة واسمًا حركتها بالجاهلية، وتارة واسمًا غايتها بالجاهلية، وتارة واسمًا نظامها بالجاهلي، وتارة واسمًا عصرها بالجاهلي، وهكذا تتعدّد استعمالات هذه الكلمة وتتنوّع.
وامتد هذا الاستعمال عند الندوي إلى المسلمين، موجّهًا نقدًا لهم، معتبرًا أنهم «قد أصبحوا في الزمن الأخير في كثير من نواحي الأرض، حتى في مراكز الإسلام وعواصمه حلفاء للجاهلية الأوروبية وجنودًا متطوعين لها، بل صار بعض الشعوب والدول الإسلامية يرى في الشعوب الأوروبية التي تزعّمت حركة الجاهلية منذ قرون، ونفخت فيها روحًا جديدة.. ناصرًا للمسلمين، حاميًا لدمار الإسلام المستضعف، حاملًا لراية العدل في العالم قوَّامًا بالقسط، ورضي عامة المسلمين بأن يكونوا ساقة عسكر الجاهلية، بدل أن يكونوا قادة الجيش الإسلامي»[28].
وتدعيمًا لهذا الموقف وتثبيتًا له، يرى الندوي أن الرسالة التي حملها المسلمون في فتوحاتهم الأولى هي الرسالة نفسها بتمامها التي ينبغي على المسلمين حملها اليوم لإنقاذ العالم من براثن الجاهلية، لكونها منطبقة على القرن العشرين كانطباقها على القرن السادس الميلادي، فهذه الرسالة حسب قول الندوي: «رسالة لا تحتاج إلى تغيير كلمة وزيادة حرف، فهي منطبقة تمام الانطباق على القرن العشرين، انطباقها على القرن السادس المسيحي، كأن الزمان قد استدار كهيئته يوم خرج المسلمون من جزيرتهم لإنقاذ العالم من براثن الوثنية والجاهلية»[29].
وقد ذكرنا من قبل استحسان سيد قطب لاستعمال الندوي لهذه الكلمة التي لفتت نظره، مؤكّدًا على دقتها الدلالية، متوثّقًا من انطباقها على عالم اليوم، معتبرًا أننا نعاصر الجاهلية في طبيعتها الأصلية، هذا الاستحسان من سيد قطب مهَّد الطريق لانتقال كلمة الجاهلية من الأدب الندوي إلى الأدب القطبي، فقد تمسّك بها قطب وشدّد عليها، جاعلًا منها كلمة مركزية في قاموسه الأدبي والفكري.
من الواضح أن الندوي كان قاصدًا في استعمال هذه الكلمة، متنبّهًا لها، ومرتكزًا عليها توصيفًا وتحليلًا وتفسيرًا، ولم تكن مجرد كلمة عادية أو عابرة كغيرها من الكلمات التي لا وزن لها ولا ثقل، فلا حاجة عندئذٍ للتوقُّف عندها ومساءلتها، بل لا بد من التوقّف عندها باعتبارها من الكلمات المفتاحية، ومن العلامات الدالة ثقافيًّا في كتاب الندوي وأدبه.
أراد الندوي من وصف الجاهلية تقبيح صورة الحضارة الأوروبية في أذهان المسلمين، محرّضًا على هجرانها، وقطع الصلة بها، داعيًا إلى القطيعة معها، فلا يمكن التواصل مع حضارة توصف بالجاهلية، كما لا يمكن لهذه الحضارة أن تتواصل مع من يصفها بهذا الوصف الموغل في التقبيح، فليس هناك وصف أكثر حِدَّة من هذا الوصف وتنفيرًا وتقبيحًا، الذي تتأكّد دلالته في العقل الإسلامي وتشتد كونه يُذكِّر بعصر ما قبل الإسلام الموصوف في الأدب الإسلامي بالعصر الجاهلي.
والأشد من ذلك أن وصف الحضارة الأوروبية بالجاهلية، ليس فقط يقطع طريق التواصل معها وإنما يكرّس الصدام، فهذا الوصف بطبعه وطبيعته وصف صدامي، ويحرّض بشدة على الصدام، ولا يطلق إلَّا بدافع الصدام.
ومن هذه الجهة يلتقي هذا الوصف مع نسق النظريات الصدامية، التي جلبت معها نزعة التشاؤم في العلاقات بين الحضارات، ومنها نظرية صدام الحضارات التي اشتهر بها الباحث الأمريكي صمويل هنتنغتون (1927-2008م).
الأمر الذي يعني أن الندوي بهذا الوصف برغبة أو بدون رغبة، بإدراك أو بدون إدراك، يدفع الحضارات نحو الصدام، ويضع الحضارة الإسلامية في صدام مع الحضارة الأوروبية، وهذه إشكالية خطيرة في العلاقات بين الحضارات.
ثالثًا: حدث تطوّر في رؤية الندوي ظهر ما بين كتابيه المعروفين سؤال الانحطاط، وكتاب: (الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية)، إذ تغيّرت فيهما وتبدّلت بدرجة ما صورة الموقف تجاه الحضارة الأوروبية التي نعتها بتوصيفات معينة ومشدّدة في كتاب الانحطاط، وتغيّرت صورة هذه التوصيفات في كتاب الصراع.
كشف عن هذا التطوّر تخلِّي الندوي كلّيًّا عن استعمال وصف الجاهلية في كتاب الصراع، الوصف الذي كان مفضّلًا لديه ومقدّمًا في كتاب الانحطاط، ومرتكزًا عليه في تكوين المعرفة بالحضارة الأوروبية، وقد عرف بهذا الوصف لشدة تمسّكه به، وعُدَّ منتسبًا لهذا النسق الفكري الموصوف بالتشدّد، فبعد أن كان هذا الوصف مفضّلًا في كتاب الانحطاط، إذا به يغيب كليًّا عن كتاب الصراع.
تنبّهتُ لهذه الملاحظة، فتتبعتُها فاحصًا في كتاب الصراع من بدايته إلى نهايته، ولم أجد لها أثرًا في نعت الحضارة الأوروبية، وحلَّت مكانها توصيفات عدّة ليس من بينها ذلك الوصف.
جميع التوصيفات التي حضرت كانت هادئة ومألوفة وبعيدة عن التشنّج والتوتّر، ووردت بصيغتين من ناحية التركيب الوصفي، الأولى بصيغة التركيب الثنائي متمثّلة بتوصيفات منها: (الحضارة المعاصرة، الحضارة الجديدة، الحضارة الحديثة، الحضارة العارمة، الحضارة المادية). والثانية وردت بصيغة التركيب الثلاثي متمثّلة بتوصيفات منها: (الحضارة المادية الثائرة، الحضارة المادية الآلية، الحضارة المادية الإلحادية).
حين حضر وصف الجاهلية في كتاب الانحطاط كان الندوي متنبّهًا له وقاصدًا، وحين غاب هذا الوصف في كتاب الصراع كان الندوي كذلك متنبّهًا له وقاصدًا، فلم يحضر هذا الوصف في الكتاب الأول عن تنبّه وقصد، وغاب في الكتاب الثاني عن غير تنبّه وقصد.
بل إن الندوي في الكتاب الثاني كان أكثر تنبّهًا وقصدًا، فقد جاء منه هذا الموقف المتغيّر معبرًا عن حالة من التأمّل والتراكم والمراجعة، مع ذلك تقصَّد الندوي أَلَّا يفصح عن هذه الملاحظة، فلم يشر إليها في مقدمات الطبعات المتتالية لكتاب الصراع.
التفت الدكتور خالد زيادة في كتابه: (تطوّر النظرة الإسلامية إلى أوروبا) إلى أن تعديلًا قد طرأ على رؤية الندوي لأوروبا مقارنة ما بين كتابيه المذكورين، لكن زيادة كان ناظرًا إلى جانب آخر، مبتعدًا عن ملاحظة التغيّر في التوصيفات، والتخلّي عن وصف الجاهلية، متجهًا بنظره نحو الرؤية العامة عند الندوي وطريقة تناوله لمسألة العلاقة بين العالم الإسلامي والغرب.
فقد وجد الدكتور زيادة أن الندوي «قد احتفظ بالفكرة الرئيسية القائلة بالصراع بين الإسلام والغرب، إلَّا أن بعض التعديل قد طرأ على طريقته في تناول المسألة، فبعد خمسة عشر سنة نشر كتابًا عن الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية، حيث تبيَّن له بشكل أوضح من السابق أن العالم الإسلامي قد أصيب فعلًا بتأثيرات الحضارة الغربية»[30].
لهذا الاعتبار يمكن القول: إن كتاب الانحطاط جاء معبّرًا عن طور مبكّر في رؤية الندوي تجاه الحضارة الأوروبية، وجاء كتاب الصراع معبّرًا عن طور آخر حدثت فيه بعض التغيّرات الطفيفة، لكنها تغيّرات كان لا بد من ملاحظتها والتنبّه لها والتوقّف عندها، حتى تتّضح كامل الرؤية عند الندوي، ومن أجل معرفة كيف حدث هذا التغيّر في مسار الرؤية، والعبور من طور إلى طور آخر هو أكثر نضجًا واعتدالًا من الطور السابق!
وكما أن كتاب الانحطاط مرَّ بأطوار من التغيّرات والتجدّدات على مستوى البيان وعلى مستوى المعنى، شرحها الندوي في مقدمات طبعات الكتاب المتتالية، فإن كتاب الصراع كذلك مرَّ بأطوار من التغيّرات والتجدّدات على مستوى البيان وعلى مستوى المعنى، شرحها الندوي في مقدمة الطبعة الأولى، مبيّنًا ثلاثة أطوار لها طبيعة كمية وكيفية، بدأت في طورها الأول على شكل مقالة مسهبة حسب وصف الندوي، نشرها سنة 1962م، وفي طور ثانٍ تحوّلت مادة المقالة إلى مادة كتاب نشر سنة 1963م بعنوان: (موقف العالم الإسلامي تجاه الحضارة الغربية).
وفي الطور الثالث حدث أهم تحوّل نوعي نقل الكتاب من هيئة معينة إلى هيئة أخرى، تبدَّت معها صورة الكتاب كمًّا وكيفًا. فقد أتيح للندوي السفر إلى أوروبا، ورأى هناك مركز هذه الحضارة ومعقلها عن كثب، وشاهدها في بيتها وعقر دارها.
واستفاد الندوي من هذه الرحلة في الاطِّلاع على بعض المصادر الحديثة، فوضع زيادات لكتابه وصفها بالقيِّمة والمهمَّة، جاءت من ناحية الكم ضعف ما كان عليه الكتاب في طبعته السابقة.
وجد الندوي معها تغيّرًا في صورة الكتاب وكأنه أصبح كتابًا جديدًا، دفع به لتغيير عنوانه من العنوان السابق، إلى عنوانه الجديد: (الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية) صدر سنة 1965م.
أما المفارقة الجوهرية التي فارقت بين الكتابين، فقد تحدّدت في أن الندوي أقام كتاب الانحطاط على أساس أحادية الموقف، متّخذًا من الجاهلية موقفًا تامًّا ونهائيًّا تجاه الحضارة الأوروبية، بينما كتاب الصراع أقامه الندوي على أساس تعددية الموقف، متطرّقًا إلى ثلاثة مواقف رئيسة تشكّلت في ساحة المسلمين المعاصرين تجاه الحضارة الأوروبية، متناولًا لها تفصيلًا وتحليلًا.
وبيانًا لهذه المواقف الثلاثة، أطلق الندوي على الموقف الأول وصف الموقف السلبي، متحددًا حسب شرحه في رفض العالم الإسلامي الحضارة الأوروبية وما جاءت به رفضًا تامًّا، واقفًا تجاهها موقف المعارض الثائر، أو موقف المعتزل الحائر، لا يقتبس منها شيئًا، ولا ينتفع من تجاربها في ميادين العلوم، ولا يسمح بتحصيل علومها ومعارفها.
وقد أظهر الندوي نقدًا صريحًا لهذا الموقف، معتبرًا أنه ينتج تخلّفًا شديدًا عن ركب الحياة وتقدّمها، ويقطع صلة الوصل عن باقي العالم، ويكشف عن ضيق في العقل، ويعدّ جناية على الإسلام، وسوء تفسير للدين الذي يحث على استعمال العقل، والتفكر في الكون، واقتباس الصالح النافع أينما كان مصدره.
أما الموقف الثاني فقد أطلق عليه الندوي وصف موقف التقليد والاستسلام، متحدّدًا حسب شرحه في الخضوع الكامل للحضارة الأوروبية، وتقبل كل ما جاءت به تقليدًا واستسلامًا، بما في ذلك عقائدها الأساسية، ومناهجها الفكرية، وفلسفتها المادية، ونظمها الاقتصادية والسياسية، التي نشأت في بيئة بعيدة ومغايرة لبيئة العالم الإسلامي.
أمام هذين الموقفين الرافض لهما، تساءل الندوي باحثًا عن موقف بديل قائلًا: ما هو الموقف الثالث الذي يجب أن يقفه العالم الإسلامي تجاه الحضارة الغربية؟ ناظرًا إلى أنه لا يمكن تحديد موقف العالم الإسلامي تجاه الحضارة الغربية، حتى نعرف طبيعة الأمة الإسلامية ومركزها في هذا العالم، ثم نعرف موقفها من هذه الحياة التي على أساسها تتشكّل المجتمعات والمدنيات[31].
مع هذه المفارقة الجوهرية بين الكتابين إلَّا أنهما يشتركان في إطار فلسفة جامعة بينهما، تتحدّد في تأكيد فلسفة الصراع مع الحضارة الأوروبية، فالندوي يتبنَّى فكرة صراع الحضارات بين الحضارتين الإسلامية والغربية، ويدفع بقوة نحو هذه الفكرة في كلا الكتابين، لكنها تجلَّت بوضوح أكبر في الكتاب الثاني الذي اتَّخذ من الصراع مفهومًا مركزيًّا ونموذجًا تفسيريًّا تطبَّع به الكتاب واصطبغ من بدايته إلى نهايته، فقد افتتحه الندوي قائلًا: «إن هناك صراعًا فكريًّا بل معركة فكرية في عبارة أصح، في جميع الأقطار الإسلامية في هذا الوقت، نحن نستطيع أن نسميها صراعًا ومعركة بين الأفكار والقيم الإسلامية والأفكار والقيم الغربية، وهي المعركة الحامية الحاسمة الحقيقية التي يخوضها العالم الإسلامي اليوم، وهي التي ستقرّر مصيره، وهي معركة تتضاءل أمامها جميع المعارك التي يغالي في تصويرها أو تهويلها الكتَّاب والمؤلفون، فكل معركة غير المعركة الكبرى التي ننوّه بها، إما معركة محلية أو معركة فرعية أو معركة وهمية»[32].
على ضوء هذا البيان، يتأكّد أن كتاب الانحطاط لا يعبّر عن كامل رؤية الندوي، فلا ينبغي الاكتفاء به ولا الانحصار عليه، وإنما لا بد من العودة إلى كتاب الصراع حتى تتكشف الرؤية من جهة تطوراتها وتحولاتها، فروقاتها ومفارقاتها، أطوارها وأزمنتها.
ومن يتعرَّف إلى الكتابين بسهولة يتلمَّس الصلة الوثيقة بينهما، وتأكيدًا لهذه الصلة نقل الندوي انطباعًا متشكّلًا عند بعض يرى أن كتاب الصراع هو أشبه بحلقة ثانية متمّمة لكتاب الانحطاط.
رابعًا: حضر في كتاب الانحطاط إقبال الشاعر وغاب إقبال الفيلسوف، حضرت نصوص إقبال الشعرية وغابت نصوص إقبال الفكرية والفلسفية، حضر وصف إقبال بالشاعر وغاب وصف إقبال بالمفكر والفيلسوف، هذه المفارقة في انقسام الصورة بين إقبال الشاعر وإقبال الفيلسوف كان الندوي قاصدًا لها ومتنبّهًا، مظهرًا توافقًا وإعجابًا وتأثّرًا بإقبال الشاعر الذي هاجم الحضارة الغربية بعنف شديد رافضًا لها، ساخطًا عليها، محذّرًا منها، في المقابل أظهر الندوي تحفّظًا واختلافًا وتباينًا مع إقبال الفيلسوف الذي جادل الفلاسفة الغربيين وناقشهم بشكل علمي هادئ في كتابه: (تجديد التفكير الديني في الإسلام)، ملتزمًا بمقتضيات الجدل الفلسفي، ومبتعدًا عن ذهنية التفاصل والاستعلاء.
هذه المفارقة أبان عنها الندوي في كتابه: (روائع إقبال) الصادر سنة 1960م، عندما أبدى تحفّظًا على محاضرات إقبال التي عرض فيها أفكاره الفلسفية، وشرحها في كتابه: (تجديد التفكير الديني في الإسلام) موجّهًا نقده لإقبال قائلًا: «وقد كانت له في محاضراته التي ألقاها في مدراس أفكار فلسفية وتفسيرات للعقيدة الإسلامية لا نوافقه عليها، ولا أعتقد كما يعتقد كثير من الشباب المتحمّسين أنه لم يفقه الإسلام عالم مثله، ولم يحط بعلومه وحقائقه غيره... وكانت في شخصيته الكبيرة النادرة جوانب ضعف لا تتفق مع عظمته العلمية، وعظمة رسالته وشعره، لم يجد وقتًا كافيًا وجوًّا ملائمًا لإكمالها وتسديدها. إن جل ما أعتقده أن إقبال شاعر أنطقه الله ببعض الحكم والحقائق في هذا العصر، أنطقه الله الذي أنطق كل شيء، أنطقه كما أنطق الشعراء والحكماء قبل عصره، وفي غير عصره»[33].
تفتح هذه المفارقة هامشًا نقديًّا يتركّز في جانبين، جانب يتّصل بشأن العلاقة بين الشعر والفكر، وجانب آخر يتّصل بشأن طبيعة الرؤية بين الندوي وإقبال تجاه الحضارة الأوروبية.
بشأن الجانب الأول، لا شك أن موضوع الحضارة الأوروبية هو موضوع فكري في الأساس، مجاله ومرجعه الفكر وليس الشعر، وعلى هذا الأساس فإن حقيقة موقف إقبال تجاه الحضارة الأوروبية مستنده المرجعي إلى الفكر وليس إلى الشعر، فلا يقدم الشعر في مثل هذا المورد على الفكر مع وجود الفكر، كما لا يلغى الشعر مع وجود الفكر، فالعلاقة بينهما هي علاقة تراتب يتقدم فيها الفكر على الشعر، في مورد يقتضي فيه التقديم.
ولم يغب هذا الجانب عن إدراك الندوي الذي تنبَّه له وبخصوص إقبال تحديدًا، مقدّمًا أفضلية الفكر على الشعر في رؤيته النقدية تجاه الحضارة الأوروبية، متحدثًا عن هذا الأمر قائلًا: «وقد كان انتقاده واستعراضه للحضارة الغربية وأسسها ومناهج تفكيرها في محاضراته العلمية التي ألقاها في مدراس، ونشرت بعنوان: تجديد الفكر الديني في الإسلام، أعمق وأكثر تركيزًا بطبيعة الحال، لأن جو البحوث الفلسفية غير جو الشعر والأدب»[34].
مع هذا التنبُّه من الندوي، إلَّا أنه في كتاب الانحطاط استند إلى نصوص إقبال الشعرية تجاه الحضارة الأوروبية، مغيّبًا كليًّا نصوصه الفكرية والفلسفية التي اعتبرها أنها أكثر عمقًا وتركيزًا من الشعر.
وبشأن الجانب الثاني المتّصل بطبيعة الرؤية بين الندوي وإقبال تجاه الحضارة الغربية، فعند المقارنة بينهما يمكن الكشف عن بعض المفارقات الفارقة، منها أن الندوي ارتكز في بناء رؤيته على التحليل التاريخي بينما ارتكز إقبال في بناء رؤيته على التحليل الفلسفي. من جانب آخر أن الندوي كان أميل إلى التبسيط في عرض الرؤية بينما إقبال كان أميل إلى التعقيد في عرض الرؤية. من جانب ثالث أن رؤية الندوي تنزع نحو القطيعة والصدام مع الحضارة الغربية بخلاف رؤية إقبال التي لا تنزع نحو القطيعة والصدام. من جانب رابع أن رؤية الندوي هي أقرب إلى الحس العاطفي بينما رؤية إقبال هي أقرب إلى الحس العقلي، لهذا فإن الندوي بحسه العاطفي كان أقرب إلى إقبال الشاعر وأبعد من إقبال الفيلسوف.
وما ننتهي إليه أن رؤية إقبال تجاه الحضارة الغربية، هي أكبر نضجًا وعمقًا وأفقًا من رؤية الندوي.
خامسًا: تنبَّه الندوي في كتاب الانحطاط إلى اسم شكيب أرسلان ناقلًا عنه بعضًا من نصوصه الواردة كتعليقات على كتاب: (حاضر العالم الإسلامي) تأليف الكاتب الأمريكي لوثروب ستودارد (1883-1950م)، ومادحًا له قائلًا: هو الخبير الثقة فيما يتعلّق بالترك فضلًا عن العرب لطول مكثه في تركيا، وكان عضوًا في مجلس الأمة[35].
تنبّه الندوي إلى أرسلان وأظهر معرفة به، لكنه لم يأتِ على ذكر كتابه الشهير: (لماذا تأخّر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم؟) الصادر سنة 1930م، الذي هو في صلب وصميم موضوع كتابه الانحطاط.
كان يفترض من الندوي أن يقوده موضوع كتابه إلى كتاب أرسلان لما بينهما من وشائج وثيقة، فهما يشتركان في موضوع البحث، ويلتقيان في الدعوة إلى نهضة العالم الإسلامي، هذا الافتراض من الممكن التبرير له ابتداء لكون الندوي كان في بلد بعيد عن مركز اللغة العربية وآدابها وثقافتها، وكانت المراجع العربية قليلة آنذاك، لكن من غير الممكن التبرير له تاليًا مع سعي الندوي لمواكبة كتابه تجديدًا وتحديثًا!
تتأكّد هذه الملاحظة عند معرفة أن أرسلان خصص في كتابه فقرة تحدّث فيها عن أسباب انحطاط المسلمين في العصر الأخير، مستعملًا التسمية نفسها التي اختارها الندوي عنوانًا لكتابه، وقضية لموضوعه، ومادة لبحثه، الأمر الذي يعني أن الندوي غيّب أقرب كتاب إلى كتابه، ولا نعلم على وجه التحديد هل هو غياب من دون علم ولا قصد، أم تغييب بعلم وقصد، وعلى كلا الحالتين فإن هذا الغياب أو التغييب قد ترك بنسبة أو بأخرى فراغًا في بنية كتاب الندوي، وأحدث نقصًا، وترك أثرًا على مستوى النص من جهة، وعلى مستوى الرأي من جهة أخرى.
من وجه آخر، إن أرسلان تحدّث في كتابه عن انحطاط المسلمين مستعملًا هذه التسمية في فقرة بارزة ومميّزة، لكنه اختار أن يبرز في عنوان كتابه تسمية أخرى مفضّلًا كلمة التأخّر، بينما فضّل الندوي أن يبرز في عنوان كتابه كلمة الانحطاط، الكلمة التي تحفَّظ عليها البعض لشدتها، وأشار لمثل هذا الرأي الدكتور محمد رجب البيومي الذي أزعجته كلمة الانحطاط، مؤثرًا عليها كلمة أخف منها، مقدمًا بدلًا منها إحدى كلمتين: الانحدار أو التأخّر، شارحًا رأيه قائلًا: «والانحطاط لفظ اختاره الكاتب ليعبر عن المأساة الأليمة الموجعة التي يحملها في نفسه من جراء تأخر المسلمين، وقد أزعجني هذا اللفظ على صحة معناه وموافقته للواقع الملموس، فكنت أوثر أن يخفف من وقع مدلوله فيكون عنوان الكتاب: ماذا خسر العالم بانحدار المسلمين، أو بتأخرهم؟»[36].
أما الفارق الجوهري والبنيوي ما بين الكتابين والتساؤلين، فيتحدَّد في أن كتاب أرسلان ينتمي إلى روح عصر الإصلاح العربي والإسلامي الذي كان قريبًا منه، ومتّصلًا به، ومنخرطًا فيه، والمسكون بهاجس التأخّر والتقدّم، في حين أن كتاب الندوي ينتمي إلى روح ما بعد عصر الإصلاح الذي كان قريبًا منه، ومتّصلًا به، ومنخرطًا فيه، والمسكون بهاجس الهوية والتراث.
سادسًا: وضع الندوي آمالًا كبيرة على العالم العربي، وباستطاعته في نظره أن يتقلد زعامة العالم الإسلامي ويزاحم أوروبا بعد الاستعداد الكامل، لكن هذه الآمال جاءت في غير مكانها، وكانت مجرد آمال ووعود لا ترتكز على مؤشرات وتحليلات ومعطيات علمية وموضوعية.
ليس هذا فحسب، بل إن صورة العالم العربي قد انقلبت كلِّيًّا، فالصورة التي يقدمها عن نفسه اليوم في أحد جوانبها، هي أشبه ما تكون بصورة العصور الوسطى في أوروبا، الموصوفة هناك بعصور الظلام والانحطاط، والتي سادت فيها وتكرَّست الانقسامات والنزاعات والحروب بين المذاهب والطوائف والجماعات الدينية والعرقية والإثنية، وانبعثت فيها وتعمّقت نزعات القطيعة والإقصاء والإلغاء، وارتفعت فيها واشتدت لغة العنف والقسوة والكراهية، وتراجعت فيها وتقلصت قيم العلم والعقل والجمال.
هذه الوضعيات جعلت من تلك العصور مضرب مثل على شدة التخلّف والانحطاط، وبقيت في الذاكرة الإنسانية تنبّه الناس على العصور التي ينبغي كراهيتها والتخلّص منها، والعمل على طمسها ومحوها بطريقة لا يسمح لها بالعودة مرة أخرى، لأنها خربت العمران، وأفسدت الأخلاق، وسلبت من الحياة متعة العيش وجماليتها.
لكن هذه العصور التي انتهت وتلاشت في أوروبا، بدت وكأنها آخذة في الظهور والانبعاث في مجتمعات العرب والمسلمين، ولعلها بصورة أشد وأقبح ممَّا كانت عليه من قبل في أوروبا، فقد بدأنا نشهد انقسامات ونزاعات حادَّة وخطيرة بين أتباع مذاهب وطوائف المسلمين، وصل الحال إلى حدِّ التكفير، والتساهل في التكفير، وبات هناك من يكفّر بالذنب، وهناك من يكفّر المعين، إلى جانب من يكفّر بلا ضوابط وبلا موانع، وإخراج الناس من الدين والملة، والتفتيش عن عقائدهم، وإعلان ضلالتهم.
ومن المؤسف جدًّا أن يكون العالم العربي في القرن الحادي والعشرين، وفي عصر العولمة وثورة المعلومات وما بعد الحداثة، يتيح إمكانية المقارنة بين وضعياته ووضعيات العصور الوسطى المظلمة في أوروبا، ولعل العالم العربي من بين جميع عوالم العالم الذي يتيح مثل هذه المقارنة المؤسفة، والكاشفة عن مدى بعدنا عن العالم وتقدّمه، وكيف أننا نتراجع ولا نتقدّم، وهذا يعني أننا أمام أخطر وأسوأ وضع وصلنا إليه، ولم نعد نعرف كيف نواجه هذا الانحدار؟ وكيف نخرج من هذه العصور المظلمة؟
[1] أبو الحسن علي الحسني الندوي، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟، دمشق: دار القلم، 2015م، ص5.
[2] أبو الحسن علي الحسني الندوي، المصدر نفسه، ص127-131.
[3] أبو الحسن علي الحسني الندوي، المصدر نفسه، ص235.
[4] أبو الحسن علي الحسني الندوي، المصدر نفسه، ص267.
[5] أبو الحسن علي الحسني الندوي، المصدر نفسه، ص299.
[6] أبو الحسن علي الحسني الندوي، المصدر نفسه، ص7-8.
[7] أبو الحسن علي الحسني الندوي، المصدر نفسه، ص11.
[8] أبو الحسن علي الحسني الندوي، المصدر نفسه، ص15.
[9] أبو الحسن علي الحسني الندوي، المصدر نفسه، ص13.
[10] أبو الحسن علي الحسني الندوي، المصدر نفسه، ص7.
[11] أبو الحسن علي الحسني الندوي، المصدر نفسه، ص15.
[12] أبو الحسن علي الحسني الندوي، المصدر نفسه، ص11.
[13] أبو الحسن علي الحسني الندوي، المصدر نفسه، ص11.
[14] أبو الحسن علي الحسني الندوي، المصدر نفسه، ص11-12.
[15] أبو الحسن علي الحسني الندوي، المصدر نفسه، ص12.
[16] أبو الحسن علي الحسني الندوي، المصدر نفسه، ص18.
[17] أبو الحسن علي الحسني الندوي، المصدر نفسه، ص21.
[18] أبو الحسن علي الحسني الندوي، المصدر نفسه، ص23.
[19] انظر: فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، عمان: دار الشروق، 1988م، ص292.
[20] رضوان السيد، سياسيات الإسلام المعاصر مراجعات ومتابعات، بيروت: دار الكتاب العربي، 1997م، ص40.
[21] يقصد كتاب: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ وكتاب: الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية.
[22] رضوان السيد، الصراع على الإسلام الأصولية والإصلاح والسياسات الدولية، بيروت: دار الكتاب العربي، 2004م، ص129.
[23] رضوان السيد، المصدر نفسه، ص157.
[24] عبدالإله بلقزيز، الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2004م، ص202.
[25] أبو الحسن علي الحسني الندوي، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟، ص25.
[26] أبو الحسن علي الحسني الندوي، المصدر نفسه، ص18.
[27] أبو الحسن علي الحسني الندوي، المصدر نفسه، ص23.
[28] أبو الحسن علي الحسني الندوي، المصدر نفسه، ص271.
[29] أبو الحسن علي الحسني الندوي، المصدر نفسه، ص275.
[30] خالد زيادة، تطور النظرة الإسلامية إلى أوروبا، بيروت: معهد الإنماء العربي، 1983م، ص183.
[31] أبو الحسن علي الحسني الندوي، الصراع بين الفكرة الإسلامية والفكرة الغربية في الأقطار الإسلامية، الكويت: دار القلم، 1983م، ص205.
[32] أبو الحسن علي الحسني الندوي، المصدر نفسه، ص7.
[33] أبو الحسن علي الحسني الندوي، روائع إقبال، دمشق: دار وحي القلم، 2014م، ص18.
[34] أبو الحسن علي الحسني الندوي، المصدر نفسه، ص66.
[35] أبو الحسن علي الحسني الندوي، ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟، ص211.
[36] انظر: محمد رجب البيومي، نظر في كتاب ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟، مجلة ثقافة الهند، 2001م، العدد 208.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.