تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

نقد إدريس هاني لنظرية مقاصد الشريعة

كمال قاسيموف

نقد إدريس هاني لنظرية مقاصد الشريعة

تفكيك الأيديولوجيا المقاصدية

الدكتور كمال قاسيموف*

* باحث في مركز الدراسات الاستراتيجية لرئاسة الجمهورية - أذربيجان.

 

 

«وجد هذا الانبعاث في موافقات الشاطبي خير معين وخير مصدر لانطلاق فكر مقاصدي عقلاني، ولا محيد عنه في عصر يفرض على أصحاب المشاريع النهضوية والأيديولوجية قدرًا من الخطاب العقلاني، حيث اشتدت فيه أزمة العقل العربي والإسلامي. وظهرت من المشاريع التي شاء لها أصحابها إيجاد مخرج حقيقي من مأزق انسداد باب الاجتهاد بانسداد باب العلم والعلمي معًا عند من شرع للعمل بالظنون مطلقًا وقول بالتصويب، وانفلات ناصية من بين أيديهم، وذلك عبر طرائق اجتهادية، لصيقة بما سبق تمأسسًا وتأصيلًا كالفكر المقاصدي»[1].

 

 

مدخل

في نظرنا وقبل كل شيء، إنّ إدريس هاني هو المفكر الناقد؛ الناقد الحضاري والفكري اللَّاذع مع حضور رؤية معرفية عميقة ومتعددة الأبعاد. ترتبط فلسفته بمنهجه النقدي ارتباطًا وثيقًا، كما أنّ منهجه النقدي يؤسس فلسفته. وهو ناقد للفكر العربي المعاصر، والأيديولوجيات والعلوم الإسلامية، والخطابات الدينية والسياسية، والسرد التقليدي لتاريخ الفكر الإسلامي الديني والفلسفي.

وكما قال المفكر السلوفيني سلافوي جيجك ذات مرة: إن الفلسفة لا تحل المشاكل. وحل المشاكل ليست وظيفة الفلسفة ولكن وظيفتها هي إعادة تعريف المشاكل، لإظهار كيف أنّ ما نعتبره مشكلة هو في الحقيقة مشكلة زائفة.

والفيلسوف هو شخص يشغل نفسه بالنقد بدلًا أن يحاول الإجابة عن الأسئلة من خلال خلق نظرية[2]. وحسب رأينا، فإنّه يناسب إدريس هاني هذا النوع من تعريف الفيلسوف. ولأنه بدلًا من أن يدّعى الحقيقة المطلقة أو يقدم النظريات التامة بصورة الحقائق العلمية التي تطمح إلى شرح وتفهيم كل الظواهر والمسائل من منظورها، فإنّ هانيًا يطرح الأسئلة النقدية ويجرؤ على التشكيك في المسائل والقضايا التي أصبحت تعتبر دوغمائيات عادية غير قابلة للنقد في عالمنا الإسلامي لسنوات عديدة.

ومن بين الموضوعات التي تدخل في دائرة اهتمامات إدريس هاني هي الأيديولوجيات الحديثة وكيفية قراءة وتأويل واستخدام التراث الإسلامي الكلاسيكي من قبل المفكرين العرب المعاصرين. وتجدر الإشارة أنه بغض النظر عن الموضوع الذي يكتب عنه هاني، هو كثيرًا ما يتناوله في ضوء منهجه النقدي.

ويتميز منهجه هذا بالاجتهاد التحليلي الذي يهدف إلى فهم وتقييم الأوضاع السياسية والفكرية في العالم العربي الإسلامي من خلال حفر ودراسة ونقد الخطابات والمعارف المتداولة في المجتمع، والعلاقة بين السلطة والمعرفة والمثقفين، والصراعات الأيديولوجية وراء كل المشاريع الفكرية في العالم العربي، وحدودها وأبعادها ورهاناتها. وفي الوقت نفسه، يحاول منهجه أن يبين كيف تجرى عملية ربط وإلحاق التراث الإسلامي بالأيديولوجيات العربية الإسلامية المعاصرة.

ويرى إدريس هاني أنه يجب النظر إلى التراث الإسلامي في سياقه التاريخي والاجتماعي والثقافي، وتحليله خارج الأطر الأيديولوجية. وفي الوقت نفسه، هو كثيرًا ما يؤكد أن من الصعب جدًّا دراسة التراث وراء الهيمنة الأيديولوجية في المجتمع العربي المعاصر وفي المجالات الأكاديمية العربية. ومع ذلك، هو المقتنع بأن الدراسة التحليلية النقدية وتقديم وجهة النظر المختلفة هما ضروريتان دونهما لن يكون المسلمون قادرين على فهم الماضي والحاضر وتصحيح الأخطاء.

يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أنه عندما يدعو أ. هاني إلى الدراسة النقدية الموضوعية السياقية للتراث هو خلافًا لكثير من المؤلفين المعاصرين، لا يتبع منهج المستشرقين. ومنهجه ولغته يختلفان عن منهج ولغة الاستشراق أو الدراسات الشرق الأوسطية المعاصرة. وهو قبل كل شيء المفكر العربي الاسلامي الذي يحلل ويناقش مشاكل مجتمع وعالم وهو جزء منهما.

وإذا كان المستشرق يبحث في الإسلام والمجتمعات الإسلامية من خارج العالم الإسلامي، فهاني جزء لا يتجزأ من هذا العالم ويعيش مشاكله وأزماته. ولذلك، وهو مطالب بالدراسة النقدية للتراث لا يسعى إلى تحقيق الأهداف الأكاديمية البحتة فقط، بل يحاول أن يحقق أهدافًا ذات طابع عملي وتطبيقي. ووفقًا له، ليس إلَّا التفكير النقدي الجريء حول التراث والنقد للأيديولوجيات السائدة في العالم العربي والاسلامي يمكن أن يساعدنا على الخروج من الأزمة الأيديولوجية والاجتماعية والسياسية التي نعاني منها منذ مدة طويلة.

وكما سبقت الإشارة، فإنّ أعمال هاني هي متعددة الأبعاد والأوجه، وبالإضافة إلى قضايا الفكر العربي الإسلامي المعاصر، هو يكتب عن مسائل الكلام والمذاهب، واللّاهوت الشيعي والسني، ولكن في هذه الدراسة الموجزة، نحن نقتصر على بحث في تحليل إدريس هاني لقراءة وتأويل نظرية مقاصد الشريعة للعالم الأندلسي أبي إسحاق الشاطبي في الفكر العربي الإسلامي المعاصر. وعلى وجه الخصوص، في أعمال المفكرين المغاربة المعروفين: محمد عابد الجابري وطه عبد الرحمن. ويتناول هاني هذا الموضوع بشكل مفصَّل، في الفصل الرابع من كتابه: «المعرفة والاعتقاد».

وقبل أن يتطرق إلى موضوع المقاصد، يقول هاني: إننا إذا أردنا التجديد الجذري والتطور المعرفي يجب أن نقوم بالنقد بجرأة، ودون أيِّ تحامل، خارج الأفكار المسبقة[3]. وهذا النقد هو الطريق الوحيد الواقعي إلى الخروج من الأزمة التي يعاني منها الفكر الإسلامي بشكل عام والفكر الفقهي بشكل خاص.

وكما يذكر هاني أن المشروع النقدي الذي يميل إليه «يساعد على تجاوز النمط من الرؤية الاختزالية والميكانيكية لمشكلتنا وحلولنا»[4]. وهو يدعو إلى ممارسة الاجتهاد النقدي الذي يفكّك الأطر والهواجس الأيديولوجية.

وليس من قبيل الصدفة أن استرعى موضوع مقاصد الشريعة انتباه هاني. ومنذ نهاية القرن التاسع عشر حاول إصلاحيو عصر النهضة أن يقدّموا الأفكار والمفاهيم التي يمكن أن تساعد المجتمعات الإسلامية على التحرر من الهيمنة الثقافية والاقتصادية والسياسية للغرب.

ومنذ ذلك الحين، أصبحت نظرية مقاصد الشريعة هي واحدة من الآليات الرئيسية التي لا يتم استخدمها من قبل دعاة الإسلام الإصلاحي في عصرنا الحديث لتجديد نظرية ومنهجية أصول الفقه فحسب، بل يتم توظيفها لتجديد النظم الاقتصادية والثقافية والسياسية في المجتمعات المسلمة. واليوم، يتم استخدام هذه النظرية مع نظرية المصالح المرسلة على نطاق واسع لتطوير الاقتصاد الإسلامي والمصرفية الإسلامية، والسياسة العامة، والأخلاق والتعليم.

وجوهر النظرية هي فكرة أن هناك مقاصد وغايات عالية وراء الأحكام الإسلامية وتحقيقها سينفع المسلمين في الحياة الدنيوية والأخروية، والقصد هنا المقاصد العامة والخاصة التي استخرجها العلماء من نصوص الإسلام.

ولكن موضوع هاني الأساسي هو ليس بحثًا في المقاصد من حيث هي النظرية الفقهية، يعني أنّه يقوم بتحليل نظرية مقاصد الشريعة ليس من وجهة نظر الفقيه أو أهل الشّرع بل من وجهة نظر الفيلسوف الناقد الذي يدرس ويحلل ويفكّك الفكر المقاصدي والمقاربات المقاصدية في الخطاب العربي المعاصر[5]. وهو يري المقاربات المقاصدية المعاصرة كمشروع أيديولوجيا «يعد بحلول ومخارج للفكر وللفقه»[6].

والخلاصة، يؤكد أ. هاني أن «غاية ما تصبو إليه محاولتنا، هي مقاربة نقدية عامة للخطاب المقاصدي، تهدف إلى وضع هذا الفكر وقواعده ومزاعمه في إطاره المعرفي، وتجريده من أسباب التهويل الدخيلة، المشوشّة على متانة أصوله وأبعاده الاجتهادية»[7].

وفي بداية نقده يشير هاني إلى أنه من الصّعب أن نجد فيما طرحه دعاة المقاصد الحدثاء جديدًا، سوى إعادة عرض ما كان في آثار العلماء القدماء وعلى رأسهم الشاطبي. وفقًا له، منذ الشاطبي ما استطاع أحد أن يطور الأبعاد المنهجية لهذه النظرية. ولم يقدم الجابري ولا طه عبد الرحمن فكرًا جديدًا لنظرية المقاصد.

ويلاحظ هاني، وهو على حق في ملاحظته، لجوء جميع مفكري النهضة إلى مفاهيم المقاصد. وهو يسمي هذه الظاهرة «انبعاثًا لافتًا للفكر المقاصدي». وعلى سبيل المثال، في أعمال محمد عبده، يمكن أن نرى الملامح العامة والعابرة للمقاصد. ولكن تلاميذه تطرّقوا إلى الأبعاد المختلفة لهذه النظرية ونقاشوها بالتفصيل.

والواقع أن خصائص نظرية مقاصد الشريعة تعطى إمكانية تجاوز منهجية القياس المحدودة، وتسهيل عملية إناطة الأحكام في سياق التحديات والمشاكل التي يفرضها عصر الحداثة، ولذلك استجابت هذه النظرية لأهداف ومشاريع المصلحين[8].

ومع ذلك، يستثني أ. هاني الفقيهين المغربي والتونسي الشيخ محمد طاهر بن عاشور وعلال الفاسي، ويشير إلى أن ابن عاشور قد وسّع دائرة المقاصد وأدخل فيها المقاصد الضرورية الجديدة مثل الحرية (وكذلك المساواة، وحرية الاعتقاد). أما كتابات علال الفاسي عن المقاصد فهي كتابات تأسيسية في المرحلة الحديثة في تاريخ المغرب.

وأشاد أ. هاني بدور علال الفاسي الخاص. وحسب رأيه، فإن التحليل النقدي للنظرية المقاصدية يكون ناقصًا أو وحيد الطرف إذا تمت المقاربة لها أو أسلوب التعامل معها من وجهة نظر الفقيه فقط أو من وجهة نظر الفيلسوف فقط. وليس غير علال الفاسي من كان يملك الخبرتين: خبرة الفقيه وخبرة المفكر. ولذلك هو لا يقترح قراءة ممتعة للشاطبي فقط، بل استطاع أن يقدم النظرة النقدية لنظريته. وفي نظر هاني، بشكل عام، بعد علال الفاسي وابن عاشور شطّت نظرية المقاصد، وأصبحت غير مثمرة وفي نهاية المطاف، اكتست غطاء أيديولوجيا[9].

وإضافة إلى ما سبق ذكره، حسب موقف هاني، يوجد مشتغلون على المقاصد من المعاصرين، ومن بينهم الجابري وطه عبد الرحمن، نادرًا ما يتناولون نظرية المقاصد نقديًّا[10].

وما قام به هؤلاء المفكران المغربيان هو إعادة عرض فكرة الشاطبي دون تجاوز الاجتهاد المقاصدي التقليدي، أو حسب عبارة هاني، هي «محاولة اجتهادية من داخل المذهبية الشاطبية المقاصدية نفسها»[11].

بالإضافة إلى ذلك، كلاهما قاما بقراءة نظرية مقاصد الشريعة للشاطبي من منظور ومن خلال مشروعيهما الفكريين اللذين تحوَّلا إلى أيديولوجيا شاملة تكيّف الحقائق والأفكار والتراث لخطاباتها.

وحتى مع ذلك، في رأي هاني، فإن مقاربات الجابري وطه عبد الرحمن تجلب الاهتمام وتصلح للنقد لأنها تحمل بُعدًا استشكاليًّا. وخصوصًا أنه -كما يقول هاني- غير مقارباتهما لا يوجد سوى بعض الأفكار التوضيحية التي قام بها بعض محققي كتاب الموافقات.

وهاني يقدّر محاولات كلا الباحثين بالإنصاف مشيرًا إلى أن «فيها من جرأة البحث ونباهة الاطلاع ما يفوق الكثير من أنصار المقاصد التقليديين في العالم العربي»[12].

نقد القراءة الشاطبية لناقد العقل العربي

بدأت نظرية المقاصد وتصنيفها تتطور بعد عهد الصحابة، ولكن المقاصد بشكلها الذي نعرفه الآن لم تتبلور حتى جاء الأصوليون المتأخرون، أي خلال القرن الخامس إلى الثامن من الهجرة. ومن أبرز مؤيدي فكرة المقاصد في العالم الإسلامي في القرون الوسطى كان أبا إسحاق الشاطبي (توفي في 790هـ).

وقد افتتح الشاطبي الجزء الخاص بالمقاصد من ضمن كتابه الموافقات بآيات من القرآن الكريم يقصد منها إثبات أن لله غايات في خلقه، وفي إرسال الرسل، وفيما أنزله من الشريعة، ثم اعتبر المقاصد «أصول الدين وقواعد الشريعة وكليات الملة»[13]

وتفسيره المفصل لنظرية المقاصد واعتماده على فكرة أولويات المقاصد التي تعبّر أن الكليات وخاصة الضروريات لا يمكن أن تحكم عليها الأحكام الجزئية، وأن المقاصد يمكن تحديدها وإثباتها باستخدام منهج الاستقراء، (وهو كان يعتبر الاستقراء منهجًا قطعيًّا وليس ظنيًّا)، لقي صدى وقبولًا كبيرًا لدى المفكرين المسلمين الحدثاء، وهم يذكرون اسم الشّاطبي في دراساتهم وكتبهم كثيرًا وتكرارًا ويعتبرونه مجدّدًا لعلم الأصول لأن أفكاره تتناسب مع مشاريعهم التجديدية للإصلاح الاجتماعي والفكري والديني.

وكما يقول هاني: أصبح كتاب الموافقات للشاطبي، الذي تَمَّ إهماله مدة طويلة، «بمثابة المسوغ الذي أسس عليه أنصار الفكر المقاصدي من الحدثاء المعاصرين مشروعية دعواهم؛ لأنهم وجدوا فيه مخرجًا سالكًا من الانسداد الأعظم الذي أصاب الفكر بقدر ما أصاب الفقه الإسلاميين»[14].

وواحد من هؤلاء المفكرين المعاصرين الذين رجع إلى النظرية المقاصدية للشاطبي، وحاول أن يقرأها قراءة جديدة هو المفكر المغربي الشهير محمد العابد الجابري.

لقد أحدث المشروع الفكري للجابري نقاشًا واسعًا في العالم العربي، وهو مشروع يتكوّن من أربعة أجزاء: «تكوين العقل العربي» 1984م، «بنية العقل العربي» 1986م، «العقل السياسي العربي» 1990م، «العقل الأخلاقي العربي» 2001م.

يمثل هذا المشروع قراءة جديدة للتراث العربي، وجوهره هو: قبل وقوع العالم العربي تحت نير استعمار الدول الأوروبية كان موجودًا فيه نظام معرفي معين أو إبستمية معينة -نظام من المعارف والأفكار والآراء والمفاهيم والمبادئ للثقافة العربية الاسلامية- وداخل هذه الإبستمية تشكّل ما سمّاه الجابري «بالعقل العربي».

ويعطي الجابري عدة تعريفات لهذا المصطلح، وإذا أردنا أن نلخص ذلك، نقول: إنها المبادئ والتصورات والعلوم والنظريات التي تشكّلت داخل الثقافة العربية وأصبحت مشتركة لكل من يعتبر نفسه عربيًّا أو جزءًا من الثقافة العربية؛ ومن خلالها ومنظورها يستوعب ويدرك العرب العالم والأشياء وينشؤون المعاني، والفلسفة، والآدب، والعلوم.

وحسب الجابري، تشكّل أو تكوّن «العقل العربي» في «عصر التدوين» (القرن الثاني الهجري)، حيث تَمَّ تأطير وكتابة قواعد اللغة العربية والبلاغة وأصول الفقه وعلم الحديث والتفسير، والكلام والفلسفة[15].

ومن خلال تحليل الثقافة العربية المكتوبة وصل الجابري إلى فكرة أن هناك ثلاثة نظم معرفية أو بنى: وهي البيان والعرفان والبرهان.  والبيان في نظر الجابري صار منتشرًا ومتداولًا بسبب العلوم والمعارف (مثل اللغة، والفقه وأصوله وعلم الكلام)، أنتجها أجيال من فقهاء المسلمين ورجال الدين والنحاة. وهو مبني على منهجية «قياس الشاهد على الغائب والفرع على الأصل، الذي ما وجد تطورًا وبعد مرور الزمان أدّى إلى التفكير المختزل الميكانيكي المغلق القائم على «الانفصال واللّاسببية»[16].

أما العرفان فهو نظام معرفي ومنهج في اكتساب المعرفة ورؤية للعالم الذي يجمع التيارات الصوفية، الإسماعيليين، الشيعة، الكيميائيين، الإشراقيين. ومصدره خارج الثقافة العربية، تسرب من الثقافة الهرمسية والتأثيرات الغنوصية السابقة على الإسلام.

وفي نظر الجابري، كانت النخبة الفارسية تمارس الصراع الأيديولوجي في الخلافة العباسية، واستخدمت الزرادشتية وتراث المانوية والمزدكية لأهدافها السياسية. ويعتبر الجابري تأثير المنهج المعرفي العرفاني أشد ضررًا لأسس الفكر والمجتمع العربي الإسلامي.

وعلى سبيل المثال، ينتقد الجابري أبا حامد الغزالي؛ لأنه -حسب رأيه- أدخل العناصر العرفانية والصوفية في العلوم الإسلامية، ويوجّه نقدًا لابن سينا بسبب إدماجه الفلسفة الإسلامية بالأفكار الغنوصية تحت تأثير الفكر الإسماعيلي.

ونحن لن نطيل في الحديث عن نقد الجابري لتعاليم الصوفية والغنوصية في الإسلام، ولكن نشير إلى أنه اعتبرها دخيلة، غريبة عن الثقافة العربية والإسلام، ومضرة بعقلانية «العقل العربي».

ويحتل النظام المعرفي الثالث –البرهان– في المشروع الفكري للجابري ذاته أهمية خاصة. لقد تشكّل النظام البرهاني أساسًا في المغرب العربي كنتيجة للثورة الثقافية في المغرب وفي الأندلس، وهو ما أدّت إليه سياسة ابن تومرت.  وهذه الثورة ولدت ابن طفيل، ابن رشد، ابن باجة، ابن حزم، الشاطبي وابن خلدون.

ويرى الجابري أنه في الوقت الذي كان يتم فيه توظيف الفلسفة والأرسطية والعقلانية في المشرق العربي لإزالة التناقض بين العقل والنقل ولاستخدامهم بمثابة الوسيلة الأيديولوجية، في المغرب العربي تَمَّ فصل الفلسفة عن اللَّاهوت وكانت الفلسفة في المغرب تنشغل بالمسائل المختلفة تمامًا.

ويؤسّس النظام المعرفي البرهاني الفلسفة والعلوم العقلية مثل المنطق، والفلسفة اليونانية الأرسطوطاليسية والرياضيات، و«يعتمد قوى الإنسان المعرفية الطبيعية من حس وتجربة ومحاكمة عقلية في اكتساب معرفة بالكون ككل وكأجزاء»[17]

وإضافة إلى ذلك، يرى الجابري أنه وقعت «قطيعة معرفية» بين المشرق والمغرب. وفي هذا السياق، يكتب الجابري عن الدور الخاص لابن رشد وتعاليمه المبنية على العقل والتجربة، وتمثّل مظهرًا لافتًا للبرهان. وانتقد ابن رشد المنهج المعرفي للمشرق بدقة وقام بشرح فلسفة أرسطو وبنقد ابن سينا في محاولته حل المسائل الدينية باستخدام الفلسفة، وفي انحرافه عن المبادئ الفلسفية والمنطق. وقام بنقد الغزالي، لأنه «لم يدرس الفلسفة في أصولها»، واستوعبها من تفسير ابن سينا، ونشر الأشعرية في المجتمع الإسلامي الذي كان سببًا من أسباب انقسامه[18].

وبالإضافة إلى ابن رشد، يذكر الجابري «البرهانيين» ابن حزم والشاطبي، ورفض الأول القياس الفقهي وأبطله، وبنى منهجيته الفقهية الخاصة على القراءة العقلانية للنص. والثاني جدَّد أصول الفقه بتأسيس نظرية مقاصد الشريعة.

وفي نظر الجابري، قام الشاطبي بمشروعه «تأصيل أصول علم الشريعة» بإعادة بناء إبستمولوجيا الفكر العربي الإسلامي على أسس عقلانية برهانية قوية. وهو اتّبع المنهجية المتمثلة في ضرورة اعتبار مقاصد الشرع وحاول أن يثبت أن «الشرع لم يكلّف الناس بما كلّفهم به من واجبات في العبادات والمعاملات من دون مقاصد معينة، وكل حكم جزئي من أحكام الشريعة يحمل معه معنى الكلي، أي قصد الشرع منه»[19].

وحسب الجابري، أخذ الشاطبي هذه الفكرة عن ابن رشد، «الذي وظَّفها في مجال العقيدة، ونقلها إلى مجال الأصول، ودعا إلى ضرورة بناء الأصول على مقاصد الشرع بدل بنائها على استثمار ألفاظ النصوص الدينية... وبذلك هو دشن قطعية إبستيمولوجية حقيقية مع طريقة الشافعي وكل الأصوليين الذين جاؤوا بعده»[20].

ومن ثم، حسب الجابري أنه وللخروج من الأزمة التي وقع فيها المجتمع العربي نحتاج إلى «قطيعة معرفية» مع المفاهيم والتصورات عن التراث والمناهج العلمية التقليدية (يعني مع النظم المعرفية العرفانية والبيانية). ويجب إعادة فهم وقراءة التراث الإسلامي من منظور جديد. ومع إحداث القطعية المعرفية، يجب على الفكر العربي المعاصر أن يستوعب ويتضمن كل ما في التراث من الأفكار النقدية والمنهجية العقلانية (وقبل كل شيء – التراث الفلسفي والفقهي المغربي البرهاني).

ويعتقد الجابري أننا نحتاج إلى هذه القطعية المعرفية من أجل تحقيق الديمقراطية والعدالة والتغلب على القبلية والتقسيم واللَّاعقلانية. ونظرية مقاصد الشريعة للشاطبي تحتل مكانًا خاصًّا وهامًّا في هذا المشروع الإصلاحي.

وكما نرى، فإن كثيرًا من هذه الأفكار قد اقتبسها الجابري من المدرسة البنيوية الفرنسية، وخصوصًا أنه كثيرًا ما يعتمد في كتاباته على نظرية «القطيعة المعرفية» للعالم الفرنسي غاستون باشلار.

بعد هذه الوقفة الموجزة لملامح مشروع الجابري ولمكان الشاطبي فيه، نقوم ببحث في النقد التحليلي الذي وجَّهه إدريس هاني تجاه مشروع الجابري وقراءته للشاطبي. ومن البداية، ينقد هاني محاولة تطبيق مفهوم «القطيعة المعرفية» للعالم الفرنسي غاستون باشلار على التراث الإسلامي ويشكِّك في فعاليته. وحسب رأي هاني «وقع المثقف العربي الحديث في آفة الإسقاط، وبإسقاطه يجعل من المعرفة سلطة تبريرية لا تأسيسية»[21].

وهكذا ينظر هاني إلى النظرية المعرفية للجابري التي تحدَّثنا عنه أعلاه: «وهذا الإسقاط الأيديولوجي الزائف للنظم المعرفية على وقائع تطور المعرفة التراثية، ليس مجرد إسقاط معيب من الناحية المنهجية، بل إنه حكم قائم على ضروب خفية وغير خفية من المماثلة المذمومة جابريًّا، وهي ملحمة الأشباه والنظائر»[22].

وما يهم هاني هو خصوصية قراءة الشاطبي والمقاصد في واحدة من أهم المشاريع «التي عُنيت بنقد العقل العربي، كما عُنيت بمشروع النهضة العربية»[23].

ويقول هاني: إن الشاطبي «يحضر في مشروع الجابري حضورًا مميّزًا كواحد من ممثّلي المدرسة الرشدية – الأرسطية من خلال التعليل المقاصدي ذي الطابع البرهاني في نظر ناقد العقل العربي»[24]. بمعنى آخر، جعل الجابري مقاصد الشاطبي الاستمرارية الطبيعية للرشدية المغربية التي أدَّت إلى القطعية بين المغرب والمشرق.

وفي هذا السياق، يتساءل: كيف تعاطى إذن ناقد العقل العربي مع الشاطبي ومقاصديته؟ وقبل أن يجيب عن هذا السؤال، يقوم هاني بتفكيك مخطط «ابن حزم، ابن رشد، الشاطبي» الذي رسمه الجابري، ويسمّي هاني هذا المخطط «الصياغة الجابرية المتخيلة للتراث العربي»[25]. وفي رأيه، فمن المستحيل فصل تراث المشرق عن تراث المغرب، وكما لا يمكن فصل العلماء وتراثهم الفكري والمنهجيات ونظريات المعرفية التي تَمَّ تأسيسها في المشرق والمغرب عن بعضها البعض: «وبينما كان من الصعوبة بمكان انتزاع ابن طفيل من الإرث السينوي، أو انتزاع ابن حزم من الإرث الظاهري المشرقي، أو انتزاع ابن رشد نفسه من الإرث المشرقي، فإننا نجدنا أمام محاولة كبيرة لصياغة متخيل تراثي يكون فيه الشاطبي الأصولي المناصر للتعليل الشرعي أقرب إلى ابن حزم كبير المناهضين للتعليل الشرعي منه إلى الغزالي المقاصدي»[26].

وبالتالي، المشكلة -في رأي هاني- تكمن في الصياغة الجابرية التي لا تتوافق مع الواقع التاريخي. ويشير هاني إلى أن نظرية مقاصد الشريعة تبلورت على أساس الأفكار الفقهية للغزالي، وليس ابن حزم، الذي رفض القياس مطلقًا. وهذا في الوقت الذي تعتبر إعادة تأويل القياس وتوسيع إمكانياته المنهجية، واحدةً من أهم جوانب نظرية مقاصد الشريعة.

والشاطبي بنى نظريته المقاصدية على أساس التعليل والمصلحة المرسلة والمفاهيم الأخرى التي تحدَّث عنها الغزالي في آثاره المتعلّقة بأصول الفقه. وكان الغزالي قد أشار إلى المقاصد بكل وضوح عندما كتب أن «مقصود الشرع في الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم ، فكل ما يتضمّن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة، ودفعها مصلحة»[27].

والشاطبي كثيرًا ما يرجع إلى هذا التعريف للمقاصد في كتابه «الموافقات»[28]، وإضافة إلى ذلك، يشير هاني إلى أنّ الشاطبي كان «غزاليًّا بامتياز» عندما أكّد أن لا ينطبق التعليل على العبادات، بمعنى أن أحكام العبادات ليست موضوعًا للمقاصد[29]

وعلى هذا يطرح هاني السؤال النقدي: «هل كان الشاطبي الأصولي المؤمن بالقياس حتى النخاع أقرب إلى ابن حزم الظاهري الرافض للقياس مطلقًا، أم إلى ابن رشد الفيلسوف صاحب «تهافت التهافت» الذي قوَّض فيه مدَّعى الغزالي خصيم الفلاسفة، وقد كان موقف الشاطبي سلبيًّا من الفلسفة، لنقل: موقفًا غزاليًّا من الفلسفة وأيضًا موقفًا غزاليًّا من المقاصد»[30].

هذا من جهة، ومن جهة أخرى يبين هاني الجانب الآخر للمسألة عندما يقول: إن «ابن رشد يصف القائلين بالسماع من دون العقل (أي القياس) بالحشوية، وإذا كان ابن حزم من أكبر المحاربين للقياس، فلن يكون في نظر ابن رشد إلَّا نصيرًا لهذه الحشوية. وكيف يلتقي ابن حزم الظاهري الناقم على القياس مع الشاطبي الذي بنى مقاصده على مذاهب التعليل وتحقيق المناط؟»[31].

ويلاحظ هاني أن الجابري يريد أن يتجاهل مساهمة الغزالي في مثل التفكير النقدي، والشك المنهجي وفكرة العادة و«يدعونا إلى أَلَّا نعير أيَّ اهتمام لأمثال الغزالي حتى لو ورد من المعاصرين من ربط بعض آرائه كالشك والقول بالعادة بديكارت وهيوم»[32].

وهاني يدحض هذه المحاولة الجابرية، ويؤكِّد أن «الشك المنهجي المنظَّم وفكرة العادة للغزالي لا تمثّل لحظه إبداعية فحسب في التراث الفلسفي الإسلامي بل هي –العادة– الفكرة الرئيسة التي أقام الشاطبي على أساسها آراءه في المقاصد»[33].

بعبارة أخرى، فكرة المقاصد نجمت عن التعليل الأصولي للغزالي ومضمون التعليل لا يتجاوز المنظور الكلامي الأشعري. وكان الشاطبي أشعريًّا في عقيدته مثل الغزالي.

وذهب الشاطبي، مثل العلماء الأشاعرة الآخرين، إلى أن السبب هو ما يحصل المسبب عنده لا به؛ لأن الله قد جعل العادة في العالم أن يحدث المسبَّب عند السبب بلا تأثير منه. وقال: إن «مشروعية الأسباب لا تستلزم مشروعية المسببات وإن صح التلازم بينهما عادة»[34]، فهذا يعني إنكار أيِّ تأثير للأسباب على المسببات.

وبناء على ما سبق، يؤكِّد هاني أن لا وجود لأفكار ولا لمفاهيم فلسفية جديدة في المغرب العربي لم يتحدث عنها المشرق العربي والإسلامي. ولكن استطاع علماء المغرب أن ينسّقوا وينظموا المعارف التي أنتجت في المشرق أساسًا. وفي نظر هاني، تتميّز التجربة المغربية بالاستشكال والتنسيق لا بالأصالة والتفكير[35].

وفي هذا السياق لا يوافق هاني أطروحة الجابري كما في هذه العبارة: «إذا أردنا أن نجمل في كلمات جانب التجديد والإبداع في منهج الشاطبي وجب القول: إنه يتمثّل في تطوير ثلاث خطوات منهجية: الخطوتان الأوليتان سبق أن مارسهما قبله كل من ابن حزم وابن رشد، وهما الاستنتاج (أو القياس الجامع) والاستقراء. أما الخطوة الثالثة فقد برزت عند ابن رشد خاصة، وتتمثّل في التركيز على ضرورة اعتبار مقاصد الشرع»[36].

ويقوم هاني بتفنيدها متأكّدًا أن هذه الشرذمة (يعني المدرسة المغربية) ليست الوحيدة التي مارست الاستقراء والاستنتاج. أولًا، يقول هاني بأن الشاطبي نفسه يصرّح في «الموافقات» أنه استند إلى أخبار وعلوم وتراث ومفاهيم السلف أو العلماء القدماء السابقين، وبنى نظريته على أساس كل التراث الفقهي الإسلامي سواء المشرقي أو المغربي. وهذه النظرية نشأت نتيجة تطوّر مفهوم المصالح المرسلة وهي تحضر في آثار الفقهاء ما قبل ابن رشد[37].

وعلاوة على ذلك، يسجّل هاني تعليقًا ممتعًا تجاه أطروحة الجابري الأخرى التي يقرّر فيها بأن من الجوانب المهمة لنظرية المقاصد الشاطبية هي فكرة أن «الشارع عندما وضع الشريعة للناس وضعها بالصورة التي يمكنهم بها فهمهما عنه. والشريعة الإسلامية نزلت بلسان العرب وقصد الشارع من وضعها بلسانهم إفهامهم على معهودهم منه ما هو عليه من الأمية»[38].

ولهذا السبب لا يجوز ولا يعقل أن نبحث في النص والمصادر الإسلامية (القرآن والسنة) أعلى من مستوى الأمية التي كان عليها العرب. وفي نظر الجابري، عندما يقول الشاطبي بأن الشارع قصد وراعى أمية العرب، هو يريد بذلك صد وردع كل محاولات للتأويل الباطني العرفاني  للقرآن والسنة.

وفي هذا الصدد، يلاحظ هاني أن الجابري ناقض نفسه وأطروحته «من خلال كتابه الأخير «المدخل إلى القرآن الكريم»، عندما نفى الأمية عن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في الوقت الذي «كانت أميته عنصرًا أساسيًّا في مبنى المقاصد الشاطبية كما في مبنى ناقد العقل العربي»[39].

وبالتالي، يطرح هاني سؤالًا: على أيِّ مدى يحق للجابري عندما ينفي أصالة الغزالي ويصرّ على أصالة وإبداع ابن رشد؟ وهنا يدعو هاني القرّاء لإلقاء نظرة نقدية متشكّكة على ابن رشد وأطروحة الجابري.

وهذا طبعًا، ليس لأجل تقليل أو إهمال مقام ابن رشد، بل يستعمل هاني منهجه النقدي الذي ينحصر في طرح الأسئلة النقدية، والتشكيك في الأطروحات التقليدية والأفكار والشخصيات التي أصبحت محاطة بالأساطير المختلفة.

وفي هذا السياق، يقول هاني بأن ابن رشد كان شارحًا لمتون أرسطو، وجهوده في مجال الفلسفة هو التحقيق والتوثيق وليس التجديد والإبداع. أما الغزالي فقد ساهم مساهمةً كبيرة في تطوير الفلسفة الإسلامية بالشك المنهجي وبتأويل مفهوم العادة[40].

في نظر هاني، هذا الاهتمام وتوظيف الشاطبي ونظريته المقاصدية هو مؤشّر إلى ظاهرة أخرى متعلّقة بأزمة الفكر العربي الإسلامي المعاصر: وهي رغبة في حل مشاكل الحاضر بالماضي. وهذا يعنى أن المثقفين المعاصرين يبحثون عند الشخصيات التاريخية وفي أثارهم وكتبهم عن أجوبة وحلول للقضايا الاجتماعية والفكرية والاقتصادية الحديثة.

وبالاضافة إلى ذلك، فإن تاريخ الإسلام يقرأ كتأريخ الأفراد والشخصيات. وبعبارة أخرى، يتم درس وفهم وسرد التاريخ الإسلامي الفكري والاجتماعي كتاريخ ابن رشد، وابن خلدون وابن تيمية والغزالي والشاطبي... إلخ، دون نظر للتاريخ في سياقه الاجتماعي والسياسي والثقافي، ومع إهمال أن كل هؤلاء الأشخاص كانوا جزءًا من الحركات والاتجاهات المعينة للمجتمع وأن هناك علاقة جدلية بين المجتمع والفرد.

وهنا يستخلص هاني استنتاجًا هو أن المفكّرين الإسلاميين يشتركون مع المستشرقين، وربما بشكل غريب ومعقد، في قراءة التراث الإسلامي ويستخدمون الخطاب والسرد نفسهما اللذين تَمَّ إنشاؤهما وتأسيسهما من قِبَل المستشرقين.

ويصف هاني هذه الظاهرة «بالنزوع إلى قراءة الماضي بأثر رجعي، وهذه القراءة في الوقت نفسه تحمل تأثيرًا لبعض المقاربات الفيلولوجية التي مرد عليها الاستشراق على قاعدة الأشباه والنظائر والمقايسات الاختزالية التي دأب عليها هذا النمط من الصناعة التأريخية الاستشراقية. ومنذ ذلك الحين، بدأنا نُجَزِّئ في التراث العربي الإسلامي كما لو كان موضوعًا للتبعيض، أو كما لو أن التاريخ العربي والإسلامي لم يكن ليظهر في جدله التاريخي الكلي. بل لم يكن سوى تأريخ لأعلام لم تكن في حينها تمثّل ما تمثّله اليوم في آثار المحدّثين بصورة تكاد تفوق الخيال»[41].

وما يحاول أن يقوله هاني هو أنّه هنا يغيب ويضيع الموضوع والسياقات الاجتماعية والعمليات التاريخية المعقّدة ويحتل مكانها الأشخاص، وبدلًا أن يتم تحليل وتقديم الحضارة الإسلامية العربية في صورة وسياق الظواهر الفكرية الاجتماعية متعددة الأبعاد مثل الأشعرية والاعتزال والمشاء، أصبح حديثهم، يعني حديث أو خطاب كثير من المثقفين الإسلاميين الحدثاء، حول الخلدونية، والرشدية، والتيمية، والشاطبية. وفي هذا يقتدون بالمنهج الغربي الذي يصنع خطابًا بهذا الشكل: الديكارتية نسبة إلى ديكارت، والهيغلية نسبة إلى هيغل وإلخ.

ويسمّي هاني هذا السرد التاريخي بشخصنة التراث، وأصله انتقل إلى الخطاب الإسلامي المعاصر من آثار الاستشراق ذي المنحى الفيلولوجي وتحوّل إلى عقيدة الأشباه والنظائر. وكما يقول هاني: «حيث أعيد توليد الشخوص التاريخية على أساس هذا التبعيض. وسيكتشف كل ذلك كما لو كان حدث لأول مرة في التاريخ؛ ابن خلدون في نصِّ روزنتال، أو ابن رشد في نصِّ رينان، قبل أن يحتفل لهما بعيد الميلاد الجديد مفكّرون ونقّاد معاصرون ، سرعان ما شطّوا بمقايساتهم، لتشمل آخرين، حيث سندهم في ذلك إسقاطات وتعسفات كان ضررها على التقييم التاريخي والنقد الإبستمولوجي كبيرًا»[42].

وفي رأينا يتطرّق هاني إلى مشكلة في غاية الأهمية، والخطاب الذي وضعه الاستشراق الأوروبي يشرح ويصف الإسلام لنفسه من حيث المفاهيم المتداولة والمقبولة في الثقافة الأوروبية. وانطلاقًا من ذلك، يقسّم ويصنّف الخطاب الاستشراقي الإسلام إلى «الإسلام التقليدي» أو «الأرثوذكسي» و«غير التقليدي» أو «الراديكالي» و«الإسلام العقلاني» و«غير العقلاني».

وكل هذه التصنيفات بدون أي نظرة نقدية، تتنقل إلى الخطاب الإسلامي المعاصر، والاستشراق هو نمط تفكير مبني على أساس تمييز وجودي ومعرفي بين «الشرق» و«الغرب». ومنذ نشأته يقوم الاستشراق بتصميم وتصوير شرقه المتخيَّل.

وقد أنتج الاستشراق الخطاب الشامل مزودًا بالأدوات المنهجية والمفهومية المنظمة الذي لا يشرح تاريخ الإسلام والمجتمعات المسلمة ومشاكلها وتحدياتها وأهدافها فحسب، بل يحددها ويعرض حلولًا لها. وما هو المهم أنَّ في محاولتهم المتعددة لمقاومة الخطاب المهيمن، يتبنّى المثقفون الاسلاميون، وغالبًا دون وعي، مفاهيم وأفكار هذا الخطاب ويصبحون جزءًا منه.

وفي هذا الصدد، يرى هاني الخطورة في محاولات «الخطاب الاستشراقي لاختزال الحضارة الإسلامية في شخوص، الذي يقدّمهم كضحايا للتراث الإسلامي نفسه باعتبار محنتهم التي ضخموها، هي محنة ضد كل ما هو عقلاني وما هو مضارع للتراث العقلاني اليوناني»[43].

ومثلًا يتم تقديم محنة ابن رشد وغيره من العلماء والفلاسفة والفقهاء كنتيجة مناضلتهم لأجل العقلانية، في الوقت الذي حدثت كل هذه المحن ليس بسبب مواقفهم من العقل أو العقلانية بل بسبب «اصطفافات سياسية في تراثنا العربي الاسلامي»[44].

وابن رشد من منظور هذا الخطاب الاستشراقي، «هو الوحيد من استطاع أن يخرق الجهل العربي والإسلامي ليقبض على خميرة البرهان الأرسطي، لينقله إلى أوروبا العصر الوسيط، نقل التراث الأرسطي وليس الفكر الإسلامي»[45].

وفي نظرنا، عندما يقول هاني: إن المفكّرين المسلمين المعاصرين، وغالبًا حتى دون أن يشعروا بذلك، كثيرًا ما ينتجون المعرفة في إطار الخطاب الاستشراقي، هو على حقٍّ إلى حدٍّ كبير.

وعلى سبيل المثال، يصف محمد أركون المعتزلة بالعقلانيين الذين حاربوا من أجل حرية الفكر في الإسلام. ويكاد تظهر المعتزلة في كتاباته بصورة أبطال عصر التنوير الأوروبي في الوقت الذي يمثّل ويجّسد الحنابلة حرافة وحرفية وتعصبا دينيا وجمودا فكريًا.

وبالمثل، يرى نصر حامد أبو زيد وجورج طرابيشي سبب الأزمة الفكرية والاجتماعية والسياسية في العالم الإسلامي في أصول الفقه الذي أسّسه محمد بن إدريس الشافعي. والمفكّر الآخر –علي مبروك- يربط سبب التطرّف في المجتمعات الإسلامية الحديثة وغياب العقلانية بالخطاب الأشعري والأشعرية.

والقاسم المشترك بين خطابات هؤلاء المفكّرين هو اختزال سبب الأزمة والتخلّف في الشخص المعيّن في التاريخ الإسلامي، وهذا دون دراسة وتحليل أو إشارة إلى القضايا الاجتماعية والاقتصادية المعقدة. وهكذا بالضبط، وفي السياق نفسه، وفقًا لهاني، يحضر الشاطبي ونظريته في نصوص الجابري.

إذن، يرى هاني قراءة مقاصد الشريعة ومكان الشاطبي في مشروع الجابري من منظور وفي سياق كل ما سبق ذكره. وهو يشير إلى أن الجابري يتجاهل الأصول الحقيقية لفكر الشاطبي لكي يخضع نظريته لمشروع تقطيع الجغرافيا الحضارية لمشرق متعرفن لا عقلاني ومغرب متعقلن[46].

وهذا يعني أن في المشروع الفكري لناقد العقل العربي يتم توظيف الشاطبي ونظريته لأهداف أيديولوجية مع إهمال تصورات الشاطبي عن المقاصد وأسسها الفكرية. ويقول هاني: إن قراءة الجابري للمقاصد هي «محاولة أيديولوجية بامتياز استندت إلى كثير من تقنيات الحجب والإظهار حسب ما يطلبه النسق الحزمي الرشدي المزعوم، وحسب ما تقتضيه وظيفة القطع بين المغرب والمشرق معرفيًّا»[47].

ويجب ألَّا ننسى أن نظرية المقاصد في مشروع الجابري هي واحدة من المفاهيم الأساسية التي يمكن أن تُحدث قطيعة معرفية مع المنهجية القديمة، والعرفان المشرقي والبيان الميكانيكي المختزل، وتكون خطوة مهمة لدخول العرب في عصر النهضة الجديدة.

ولكن، حسب هاني، ما نشاهد هو تجاهل جذور هذه النظرية المرتبطة بتراث هؤلاء الأعلام الذين يقيم الجابري دورهم سلبيًّا في تاريخ الفكر الإسلامي مثل الغزّالي. من ثم، يرى هاني أن مثل كثير من ممثلي الفكر الإسلامي الحديث، لم يستطع الجابري أن يتجاوز التصورات والمفاهيم التي أحدثها الخطاب الاستشراقي، أو يجد السبيل لكي يخرج من هيمنته الأيديولوجية.

الإشكالية مع الاستشكال:
نقد نظرية المقاصد الأخلاقية لطه عبد الرحمن

ينظر المفكر طه عبد الرحمن إلى نظرية المقاصد كنظرية أخلاقية، وبعبارة أخرى، هو يبحث في المقاصد ويقرأ موافقات الشاطبي في سياق علم الأخلاق، ولا يفصل في مشروعه الفكري الأخلاق من المقاصد والمقاصد من الأخلاق. وحسب رأيه، مقصد الشريعة الأساسي هو ليس تحقيق المصلحة، كما ظنّ أغلب الفقهاء، بل المقصد الحقيقي هو تحقيق الصّلاح[48].

ويقوم طه عبد الرحمن بإعادة قراءة المفهوم الذي ينحصر في الفكرة حيث إن مقاصد الشريعة تحقّق بوسائل مختلفة مصالح العباد في الدنيا والأخيرة. وهو يعتقد أن المصلحة أو المصالح ليست غرضًا أو مقصدًا، بل المقصد الأساسي هو تحقيق المسلك أو السلوك الأخلاقي؛ لأن في نظره مقاصد الشريعة تتحقّق من خلال المسلك الإنساني الأخلاقي الصحيح.

وهكذا يعبّر عن فكره الدكتور عبد الرحمن قائلًا: «وإذا قيل أن علم المقاصد ينظر في مصالح الإنسان والمراد إذن هو أنه ينظر في المسالك التي بها يصلح الإنسان، تحقيقًا لصفة العبودية لله»[49]. ويقول في المكان الآخر: إن «المصالح التي تعتبرها الشريعة هي المواضع المعنوية التي يحصل الإنسان فيها صلاحه، وظيفته الأساسية وظيفة أخلاقية صريحة، إذ حد الصلاح أنه قيمة أخلاقية، بل هو رأس القيم الأخلاقية، وحد الأخلاق أنها تبحث في الصّلاح»[50].

من ثم، القراءة الجديدة التي ابتكرها طه عبد الرحمن تقترح توسيع النظرية الأخلاقية الإسلامية. وهو يستند إلى استكشاف ثلاثة معانٍ سيميائية من مصطلح «المقصد». وهذه المقاربة اللغوية تعطيه إمكانية تحديد ثلاثة أبعاد لكلمة المقصد في سياق نظرية المقاصد وعلم الأخلاق.

وطبعًا، قد ناقش العلماء الإسلاميون المقاصد من الناحية اللغوية سابقًا. ولكن عبدالرحمن يضيف إلى هذه المناقشة إطارًا أخلاقيًّا ومعنويًّا جديدًا. وهو هكذا يقدّم نظريته المقاصدية الأخلاقية؛ يحتمل لفظ المقصد ثلاثة معانٍ مشتركة: معنى المقصود ضد معنى اللغو، ومعنى القصد ضد معنى السهو، ومعنى المقاصد ضد معنى اللهو. وعلى أساس هذا التفصيل، يكون القصد إما تحصيل فائدة مقابل اللغو، أو تحصيل نية مقابل السهو أو النسيان، أو تحصيل غرض مقابل اللهو[51].

وهكذا، يكون العمل والقصد والغرض ركائز ثلاث، بنى عبد الرحمن على أساسها نظريته الأخلاقية. في هذه النظرية العمل مرتبط بالنية والنية تحمل قيم معينة، وكل عمل أخلاقي مرتبط بنية، وكل نية لها علاقة بقيم أخلاقية. وفي النتيجة نحن نرى المخطط: القيم المرتبطة بالنية، والنية توفّر أو تنتج العمل، والوصلة الرئيسية في هذه السلسلة هي القيم.

وفي نظر عبد الرحمن مقاصد الشريعة هي مدرك معقول (يعني يدركها الإنسان بالعقل من النص) يتصل بالقيمة العملية. وعندما يحقّق الإنسان مقاصد الشرع هو يقوم بالعمل أو بالسلوك الأخلاقي[52]. وهناك العلاقة الجدلية بين القيمة العملية التي تحقق المقاصد، والمقاصد الأخلاقية التي يمكن تحقيقها خلال القيمة العملية فقط.

ومن جانب آخر في رأي عبد الرحمن «الشرع وضع المقصودات من أجل تحصيل الأخلاق»، ومن الجانب الآخر «مقصودات أحكام التشريع تنزّلت على معاني الأخلاقية للممارسة المكية، علمًا بأن هذه الممارسة اختصت ببناء الصورة الأخلاقية للإسلام»[53].

أخذًا بعين الاعتبار كل ما سبق، يعتقد عبد الرحمن أن كل أحكام الشريعة نزلت لتحقيق المقاصد التي تتكامل وتتلازم مع طبيعة أو فطرة الإنسان الأخلاقية، والأحكام الشرعية ناهضة بتقويم الأخلاق[54].

ويؤكّد عبد الرحمن على اهتمام الفقهاء اهتمامًا خاصًّا بالعمل والنية، ولكنهم لم يقوموا بدراسة منظمة لدور القيم في النظم الفقهية الإسلامية. وبعبارة أخرى، فإن الفقهاء لم يبيّنوا علاقة متكاملة بين القيم الأخلاقية والأحكام الفقهية، وأهملوا الأوصاف والجوانب الأخلاقية للعملية الفقهية، وما أظهروا كيف تتشكّل الأحكام من منظور القيم لكي تحقّق المقاصد الأخلاقية المعينة[55].

وفي نظر هاني رغم انتقاد طه عبد الرحمن النظرية المعرفية للجابري وإبرازه نقاط ضعفها وتناقضاتها في قراءته للشاطبي والمقاصد، فهو نفسه، مثل الجابري، يستخدم أفكار الشاطبي لأجل تعزيز مشروعه الفكري الأخلاقي والمنطقي.

وليس من المستغرب أن يتعامل هاني مع الرؤية الكلية الأخلاقية التي يقدمها عبدالرحمن تجاه المقاصد بالشك والنقد. من البداية يلاحظ هاني أن تصور طه عبد الرحمن للإنسان بوصفه كائنًا أخلاقيًّا، هو في نهاية المطاف «تعريف كانطي بامتياز»[56]. وتشمل الأخلاق -في نظر عبد الرحمن- القيم العقلية والنفعية، ومفاهيم مثل الخير والشر والصدق والخطأ والحسن والقبح والمصلحة والمفسدة. وبهذا التوسيع يريد عبد الرحمن أن يرقى بالأخلاق إلى منزلة الأنطولوجي.

ويوافق هاني إلى حدّ ما على هذه الفكرة جزئيًّا، ولكن يشير إلى مركزية العقل في التصور الإسلامي والفلسفي. وفي نظر هاني الأخلاق هي تابع للعقل، بل هو «تجلٍّ من تجلياته». يعني هاني يعتبر العقل هو الذي يستحق هذه المنزلة الأنطولوجية التي منحها طه عبد الرحمن للأخلاق. لأن العقل هو الذي يكمل ويتطور ويشكل الأخلاق. وبالتالي، الحديث النبوي ينقل أن «العقل هو أعظم ما خلق الله وأول ما خلق الله به يثيب وبه يعاقب، وهو تعبير عن مركزيته وشأنيته العظمى، وأنه هو محط القيم الكبرى»[57].

وفي هذا السياق يقدم هاني تعليقًا مثيرا للاهتمام، حيث يقول بأن طه عبد الرحمن مثله مثل العديد من المفكرين الإسلاميين الحدثاء الآخرين، يقدم مقابل فلسفة الحداثة الغربية، محاولة لبناء الفلسفة الأخلاقية الإسلامية المعاصرة.

وفي رأينا هذا التعليق يحتوي الحقيقة، لأنه عندما ينقد المفكرون والفلاسفة الإسلاميون الحداثة كثيرًا ما يتحدثون عن الأخلاق والقيم الأخلاقية الإسلامية، كأن النقد الإسلامي هو دائمًا خارج منطق العقل ويمكن أن يكون أخلاقيًّا أو عاطفيًّا فقط.

وبهذا الصدد، يؤكّد هاني أن النقد الأخلاقي للحداثة يمكن أن يكون عقلانيًّا، وأنّ اختزال هذا النقد في الخطاب الأخلاقي هو في الحقيقة يضر بهذا النقد ويقيّد إمكانيته[58].

وبعد ذلك، يُلقي هاني ظلالًا من الشك على سرد عبد الرحمن نفسه واستشكاله للقضية. يقترح هاني أولًا أن ننظر نظرة نقدية إلى فكرة أن الفقهاء لم يولوا اهتمامًا مطلوبًا لمسألة الأخلاق أو الجانب الأخلاقي في الفقه.

وفي هذا السياق، يطرح هاني سؤالًا: «هل من مقدور الفقهاء أن يخرجوا الأخلاق من الفقه؟». ويجيب هاني: إن هذا الاستشكال قد يكون صحيحًا إذا نظرنا فيه من ناحية «دعوى أهل التصوف والعرفان، وموقفهم السلبي من الفقهاء، واتهامهم بالجملة بخروجهم عن مقتضى اعتبار أسرار الشريعة وروح الأحكام». ومثلًا أبو حامد الغزالي، وهو من كبار المقاصديين، ألَّف كتاب «إحياء علوم الدين» «كرد فعل على جمود الفقهاء وخلو الممارسة الفقهية من الروح»[59].

ولكن السياق الذي يقدم طه عبد الرحمن من خلاله استشكاله يحتاج إلى تدقيق. أولًا، يقول هاني بأنّ القضايا التي تناقش وتشتغل عليها نظرية المقاصد هي القضايا الفقهية البحتة التي نشأت بمثابة محاولة للتّجاوز على أوجه القصور في منهج القياس، وهذا يمكن أن نرى بوضوح في أعمال الغزالي والطوفي مثلًا. فروح الأحكام وأسرارها في الخطاب المقاصدي متعلّق بالفقه وليس بالأخلاق. بمعنى أن الإشكال المقاصدي هو فقهي بحت. ولا مجال للخلط بين السرد المقاصدي للفقهاء وبين الكتابات في مقاصد أهل العرفان والتصوف، لأن أهدافهما في المقاصد تختلف اختلافًا كبيرًا[60].

وإضافة إلى ذلك، يلاحظ هاني أنه من الصعب جدًّا فصل الأخلاق عن الفقه، وخصوصًا عندما يتعلّق الأمر بالنظام الإسلامي الفقهي والشريعة الإسلامية. وهو يشير إلى ما أكَّده طه عبد الرحمن في كتابه «سؤال الأخلاق» من أن هناك تداخلًا وانسجامًا بين الدين والأخلاق، ولا يمكن بأيِّ شكل من الأشكال انفصالهما عن بعضهما.

وهنا يتساءل هاني حول إذا ما كانت الأخلاق غير منفصلة عن الدين كيف يقدر الفقهاء أن يخرجوا الأخلاق من الفقه؟ وهكذا يرى هاني وجود إشكالية على الاستشكال الذي قام به طه عبد الرحمن.

وبعد ذلك ينتقل هاني إلى المرحلة الأخرى من نقده لقراءة المقاصد عند طه عبدالرحمن، تنحصر هذه المرحلة في نقد الموقف السلبي لطه عبد الرحمن تجاه ترتيب أو تصنيف المقاصد التقليدي.

ومن المعروف أن الفقهاء قسّموا المقاصد إلى ثلاثة مستويات وهي: الضروريات والحاجيات والتحسينيات، ثم قسّم الفقهاء الضروريات إلى خمسة وهي: حفظ الدين، والنفس، والمال، العقل، النسل. ولكن في نظر طه عبد الرحمن، يحتاج الترتيب التقليدي إلى تصحيح وإعادة نظر. أولًا، هو يقول بأنّ الأصوليين أدرجوا مكارم الأخلاق في «قسم التحسينيات من مقاصد الشريعة بمعناها الثالث أي المصالح، وهذا باطل».

وإنزال «مكارم الأخلاق» على مستوى المصالح التحسينية، في نظر طه عبد الرحمن، يشير إلى أن الفقهاء يتصوّرون مكارم الأخلاق «كمجرد كماليات من الممكن الاستغناء عنها، والمكلف يمكن يأخذها أو يردها». وفي نظر طه عبد الرحمن، تم بناء هذا الترتيب أو التقسيم «على أساس اعتبارات مادية صرف»[61].

وثانيًا، يؤكد عبد الرحمن أن «الحصر لا يقوم بشرط التباين، والعنصر واحد من هذه العناصر ليس مباينًا لما عداه من العناصر الأخرى، مثل حفظ النفس وحفظ العقل»[62]. ونحن لا نطيل في الحديث عن خصائص التصنيف أو التقسيم الجديد الذي يقدّمه طه عبدالرحمن. ومع ذلك، نذكر لبّ تقسيمه الجديد وهو على النحو التالي: القيم التي تسمح للإنسان استيعاب وإدراك إنسانيته ينبغي أن تكون من الأولويات في تقسيم المقاصد.

وهكذا، فالقيم الأخلاقية أو قيم الخير والشر، يجب أن تكون موجودة على أعلى مستوى في التصنيف؛ لأنها تسهم في تحسين البشر وتقويم هيئته الخلقية وأخلاقه وتساعده على فهم معنى العبودية لله. وفي تقسيم طه عبدالرحمن قيم النفع والضرر أو «المصالح الحيوية» تسبق قيم الحسن والقبح أو «المصالح العقلية» وقيم الصلاح والفساد أو «المصالح الروحية»[63].

وفيما يتعلق بإنزال «مكارم الأخلاق» على مستوى المصالح التحسينية، الذي يعيب فيها طه عبد الرحمن على الفقهاء، يرى هاني أن الشاطبي -مثل أغلبية الفقهاء- كان يميز بين الفرائض ومكارم الأخلاق تمييزًا واضحًا.

وهذا التمييز في نظر هاني ليس نتيجة اجتهاد الفقهاء، بل هو يستمد من النصوص نفسها. وأما الفرائض فهي الأحكام الضرورية في الشريعة، وأما مكارم الأخلاق فهي مجال الإخلاص والمباحات.

ويؤكد هاني أن الفقهاء تطرّقوا إلى هذه المسألة بكل عقلانية وبرجماتية؛ لأنّه لو تم توسيع وتشميل مكارم الأخلاق على كل مجالات الفقه أو حياة المجتمع ولو هي أصبحت فرضًا، «لخرب العمران». وبهذا السبب يقول هاني: «ميَّز الشرع بين الفرائض والأخلاق بمعناها المعاملي الاستحبابي»[64].

وبالتالي، لا يرى هاني إشكالية مع التقسيم التقليدي للمقاصد، أولًا هذا موضوع الاجتهاد، وحتى بعض العلماء ما وافقوا على التقسيم الخماسي وأدخلوا بعض المقاصد حيث أصبح عددها يفوق الخمسة. ويذكر هاني العلماء مثل الطوفي من القدامى والطاهر بن عاشور من المتأخّرين، وغيرهم الذين أضافوا المقاصد الجديدة وقاموا بتوسيع دائرة المقاصد في سياق التغيرات الاجتماعية[65].

ويسمّي هاني محاولة طه عبد الرحمن في الاستشكال على مسألة التقسيم بالاستشكال الممنطق[66]. وهو يشير أن هناك تداخلًا وعلاقات متبادلة بين الضروريات والحاجيات والتحسينيات وليس هذا التدرج تدرجًا صارمًا مغلقًا، التحسينيات نفسها يمكن أن تدخل في دائرة الضروريات أو تكملها وتحسنها.

ويتعجب هاني من أن طه عبد الرحمن لم يستند إلى وجهة نظر الشاطبي في هذا الموضوع. والشاطبي نفسه يرى ترابطًا متداخلًا بين مراتب المقاصد وعلاقة جدلية بين الضروري والتحسيني.

وكذلك ينتقد هاني طرح طه عبد الرحمن في قوله بعدم وجود تباين بين عناصر التقسيم: وعلى سبيل المثال، حفظ العقل وحفظ النفس هما شيء واحد. ولا يسلّم هاني بهذه الفكرة ويرى تباينًا واضحًا بين حفظ العقل وحفظ النفس. وحفظ النفس يعني حفظ الحياة، في الوقت الذي حفظ العقل يمكن أن يكون تحريضًا على العلم أو رفعًا للجهل وما إلى ذلك. وهنا لا يعني أن العلم ورفع الجهل يحفظ الحياة بالضرورة[67].

متابعًا نقده لتأويل وقراءة نظرية المقاصد عند طه عبدالرحمن، يقدّم هاني ملاحظة أخرى مثيرة للاهتمام: «واحدة من أهم استشكالاتنا على طريقة الدكتور طه عبد الرحمن أنه حاول حصر المقاصد في فقه المالكية»[68]. ويلفت هاني انتباه القراء لمحاولة طه عبد الرحمن تقديم وتوصيف المقاصد وأفكار الشاطبي الفقهية على صورة الخاصية المميزة للمذهب المالكي.

ويستشهد هاني بقول طه عبدالرحمن نفسه: «ولا مذهب فقهي أحرص على هذا التوجّه العملي من المذهب الذي كان ينتسب إليه الشاطبي، ألا وهو المالكية. وقد تميّز مذهب المالكية على بقية المذاهب الأخرى باتخاذ عمل أهل المدينة مصدرًا تشريعيًّا متميزًا لما اختصّت به دار الهجرة من شرف الممارسة النموذجية للتشريع الإسلامي... كما توسّلت المالكية أكثر من غيرها في استعمال قواعد ومبادئ خاصة بالقصود»[69].

وكما نرى، فقد أدخل طه عبد الرحمن خصائص أصول الفقه المالكي كاعتبار عمل أهل المدينة مثلًا، في نظريته الأخلاقية للمقاصد وربطها بفكرة أن المقصد الأساسي للشريعة هو تحقيق المسلك أو السلوك الأخلاقي، ومقاصد الشريعة تتحقق من خلال المسلك الإنساني الأخلاقي الصحيح، وإذا كان الأمر كذلك، فإنه في اعتبار عمل أهل المدينة يتجسد المقصود الشرعي بمثابة قاعدة للسلوك وفيه المضامين الدلاية أو المعاني الشرعية تصبح موجهًا للسلوك والعمل.

ويبني هاني دحضه لهذه الأطروحة على أساس الدليل، حيث إن معظم المذاهب الإسلامية يرجعون إلى نظرية مقاصد الشريعة، بطريقة أو بأخرى، أو يستخدمون هذه النظرية في عمليتهم الفقهية. والمقاصد هي القاسم المشترك الذي توافق عليه فقهاء جميع المدارس الفقهية، سواء المالكية والحنفية والشافعية والسنة والشيعة. وحتى الفقهاء الذين رفضوا القياس والمصلحة المرسلة توصلوا إلى المقاصد والمصالح بالطرائق الفقهية الأخرى.

ويؤكّد هاني أن المقاصد هي محل إجماع، وحسب عبارته «لا يوجد من الفقهاء من يرفض وجود علّة وراء كل حكم، حتى لو تعلّق الأمر بعلة التسليم للمشرع بمقتضى العبودية المحضة»[70]. ويرى هاني أن الخلاف حول موضوع المقاصد كان صغرويًّا وليس كبرويًّا و«كل العقلاء سلَّم بالمقاصد»[71].

وثانيًا يعارض هاني أطروحة أن الشاطبي شكّل نظريته مستندًا إلى مفاهيم المذهب المالكي، أو أن أصل نظريته المقاصدية يستمد من المذهب المالكي. ويقول هاني: إنه يكفي للتدليل على عدم صحّة هذا الادعاء، هو الإشارة إلى قول الشاطبي نفسه في كتابه «الموافقات».

ويورد هاني حكاية رؤية الشاطبي التي ذكرها في كتابه المذكور حيث يقول له فيها أحد الشيوخ المحترمين بأنه كتب كتابًا مميّزًا وفّق فيه بين مذهب ابن قاسم (المالكي) وأبي حنيفة (الحنفي). ويقول هاني: إن هذه الرؤية تثبت مرة أخرى أن نظرية المقاصد للشاطبي هي محاولة توفيقية أكثر مما هي متمذهبة خالصة[72].

وبالإضافة، يذكر هاني أن طه عبد الرحمن نفسه يشهد على أن الشاطبي اتبع الجويني والغزالي في موضوع المقاصد وتأثّر بأفكارهما في القياس والمصلحة والمقاصد. غير أنه نسي أنّ هؤلاء الأعلام كانوا على المذهب الشافعي وليس المالكي[73].

يواصل هاني نقده ويؤكّد أن عمل أهل المدينة لا يدل على «العمل المقابل للنظر المجرد، بمعنى أن اعتبار العمل والحث عليه والتمييز به هنا فيما يقابل من لا يعتبر العمل»[74]. ويذكر هاني أن مقصود المالكية في اعتبار عمل أهل المدينة هو أن المدينة هي أرض عاش فيه أكثر الصحابة الكبار علمًا وعملًا، والعلماء من التابعين وتابعيهم. وأهل المدينة رأوا وتوارثوا ونقلوا أعمال النبي والصحابة من جيل إلى جيل. وبالإضافة، يؤخذ بعمل أهل المدينة في المذهب المالكي بعد «فقد الدليل من المدركات الأولى كالقرآن والسنة بوصفه قيدًا للإجماع»[75].

وفقًا لذلك، يرى هاني أن الأطروحة التي تدّعي أن منهج اعتبار عمل أهل المدينة قاد الشاطبي إلى فكرة أن المقصود الشرعي هو مدرك عقلي عملي يتحقق بالعملية القيمية الأخلاقية، هي أطروحة غير مقنعة تمامًا.

وفي سياق ما سبق ذكره، يثير هاني مسألة مهمة متعلّقة بقضية اختزال المقاصد والمصلحة داخل المذهب المعين. وهو يقوم بنقد وتفكيك هذه الظاهرة التي يسميها هاني «بأقلمة النظر الفقهي». ويقول هاني: «فإننا نجد في الكوفة من كان أقرب إلى الرأي منه إلى السنة وأبعد عن الرأي، وفي المدينة من كان أقرب إلى الرأي منه إلى السنة والنص»[76].

يضرب هاني أمثلة مختلفة من تاريخ المذاهب الإسلامية لكي يثبت هذه الفكرة. ومثلًا يرى بأنّ الشعبي كان من أهل الحديث وهو من الكوفة، وكان ربيعة من أهل الرأي وهو في المدينة، والإمام الصادق هو من مؤسسي فقه الكوفة، وهو كان من أساتذة مالك بن أنس في المدينة في الوقت نفسه[77].

وما يمكن أن نستنتج من قول هاني أن كل المدارس سواء من المدينة أو الكوفة بُني نظامها الفقهي وأصولها على المصادر المشتركة المتداخلة. وعلى سبيل المثال، كانت تمارس مدرسة العراقيين أو الكوفة الرأي عن طريق القياس والاستحسان، وكانت تمارس مدرسة المدينة الرأي عن طريق ما سمّي بالمصلحة.

وما يمكن أن نلاحظ هنا، هي محاولة هاني إبطال الفكرة الاستشراقية القديمة: أن التضاد بين أهل الرأي وأهل الحديث أو مدرسة المدينة ومدرسة الكوفة يقاس بتضاد ومناقضة بين عقلانيين وحرفيين أو ليبيراليين وتقليديين. وهاني ضد الرؤية الضيقة والثنائية لتاريخ الفكر الفقهي الإسلامي، كما هو ضد التعميم المفرط الذي يفرض أنماطًا اختزالية تبسيطية للتراث والتاريخ. وكذلك هو يعارض الإسقاطات الاستشراقية ويقوم بتفكيكها ونقدها. وحسب رأيه، كانت المناهج الفقهية الإسلامية متداخلة ومتكاملة والنظريات التشريعية التي تشكّلت وتبلورت في المذهب المحدد كانت تؤثّر في ممثلي أو متبعي المذاهب الأخرى. والأفكار والمناهج الفقهية كانت تنتقل من المذهب إلى المذهب وكانت هناك علاقة جدلية بين المذاهب. ونذكر، مثال الطوفي الذي قدم المصلحة على الدليل الخاص من النص وخالف مذهبه الحنبلي، أو الغزالي الذي قام بتوسيع منهجية القياس بفكرة المصلحة المرسلة وهو كان شافعيًّا، وهناك أمثلة كثيرة أخرى.

وإضافة إلى ما سبق، تجدر الإشارة إلى أن اختزال المقاصد داخل المذهب المالكي أو نسبة هذه الفكرة إلى المالكية، اللذين تحدث عنهما هاني، يمكن أن نشاهده عند عديد من الفقهاء والمفكرين الإسلاميين المعاصرين. وحتى يمكن أن نلاحظ الخطاب الإسلامي الحديث الذي يقدم المالكية كمدرسة فقهية أكثر عقلانية وقابلة للتكيف مع الظروف المتغيّرة الجديدة، خاصة بسبب استخدامها المصالح والمقاصد.

وكمثال، الشيخ أحمد الريسوني، يصف المذهب المالكي «كأكثر المذاهب عناية بمقاصد الشريعة ورعاية لها»[78]. وفي كتاباته يمثّل المذهب المالكي نظامًا فقهيًّا مبنيًّا على آراء وأعمال أهل المدينة. ولكن قائلًا يقول: إن المالكية هي المدرسة الفقهية الأكثر عقلانية، وبالتالي الأنسب للوقت المعاصر، وقائلًا: إن العقلانية تنحدر من ممارسات أهل المدينة نفسها، يريد الريسوني بذلك تقديم وتعزيز الفكرة أن المذهب المالكي هو أقرب المذاهب إلى النموذج النبوي، وبالتالي إلى روح وقيم الإسلام.

وكما نرى، الموضوعات التي يفتحها هاني والقضايا والمسائل التي يستشكل فيها، هي في الحقيقة، كلها ظواهر متداولة منتشرة في الساحة الفكرية والأيديولوجية الإسلامية المعاصرة.

وبالرغم من التعارض مع الخطاب المقاصدي لطه عبد الرحمن، وإبراز نقاط الاختلاف معه، يؤكّد هاني أن المقاربة الطهائية يمكن أن تعتبر تطويرًا لبعض جوانب فكرة المقاصد، خصوصًا فيما يتعلّق بنسبية المصالح وتعريفها بمثابة قيم.

ويعترف هاني أن الخطاب الفلسفي والفقهي الإسلامي المعاصر يميل إلى تصور المقاصد في مفهوم القيمة. وهذه هي وجهة النظر المعاصرة التي تجعل الحديث عن المقاصد حديثًا عن القيم. وهاني نفسه لا يعارض هذه الفكرة بشرط ألَّا تصبح الأيديولوجية التي تخضع الحقائق التاريخية وتفرض أو تشمّل خطابه لكل الأنظمة الفكرية الأخرى وتقدم نفسها كحقيقة واحدة فريدة.

ويضيف هاني أن نظرية طه عبد الرحمن «هي أيضًا تطوير لمقاصد الشاطبي، حيث لا أحد استطاع أن يوجد تصورًا بين مفهوم المصالح ومفهوم الفطرة الذي فهم في سياق المقصود اللغوي لا المقصد الأخلاقي. وهذه من أهم تطويرات طه عبد الرحمن لمقاصد الشاطبي»[79].

الخاتمة

وبناء على كل ما سبق ذكره، يصل هاني إلى النتائج التالية:

ينبغي، قبل كل شيء على المفكرين المسلمين الحدثاء الذين يشغلون أنفسهم بتطوير وتجديد الفكر الفقهي الإسلامي التغلب على الرؤية المتمذهبة والتأطيرية والأيديولوجية.

وبعبارة أخرى، عليهم أن يتجنّبوا السرد الأيديولوجي لفكرة مقاصد الشريعة والقراءات المغرضة لها. لأنّ هذه النظرية هي، في الحقيقة، نتيجة تطور الفكر التشريعي الإسلامي الذي ساهم فيه ممثّلو جميع المذاهب الإسلامية. ولا يمكن أن نتحدث عن أفضلية علماء المغرب على علماء المشرق في موضوع المقاصد. وإن في تأسيس وتطوير هذه النظرية تشارك علماء المشرق والمغرب سوية.

وكما يقول هاني في هذا الصدد: «كان على المقاصديين الجدد أن يقولوا: إن المقاصد أكبر من أن يختص بها مذهب من دون آخر. فيوسّعوا من فلسفتها، ويخرجوها من أطر ما اختصت بها المذاهب. حيث يمكننا القول: إن في المالكية مقاصديين وغير مقاصديين، وكذا في سائر المذاهب والمدارس الفقهية يوجد المقاصديون وغيرهم»[80].

وثانيًا، إذا أراد الفكر الإسلامي المعاصر إعطاء تقييم تاريخي حقيقي لنظرية المقاصد، وفهم قصورها وحدودها وإمكانياتها المنهجية، يجب أن يقرأ هذه النظرية في سياقها التاريخي وخارج الإطار الأيديولوجي. وهذه القراءة تشترط امتناعًا عن الصورة المثالية التّمدّحية للشاطبي والتقييم النقدي لجميع جوانب نظريته. وفي النتيجة، ستتيح هذه القراءة إمكانية التجاوز على أوجه القصور والنقصان في نظرية الشاطبي المقاصدية نفسها.

وفي هذا السياق، يشير هاني إلى القصور الكامن في نظرية الشاطبي التالية: وكما ذكرنا سابقًا، كان الشاطبي أشعريًّا، وبعض مفاهيم عقيدة الأشعرية تؤدي إلى مصاعب والتباسات في تطور نظرية المصلحة أو المقاصد. وكمثال نذكر فكرة أن العقل غير قادر على تحديد الخير والشر، الحسن والقبح، بصورة مستقلة. وإن الوحي هو المصدر الوحيد الذي يحدد ما هو خير وما هو شر، وما هي مصلحة الإنسان وما هو ضرر بنسبة له في حد ذاته. والأحكام تكون مشروعة إلَّا إذا تم استخراجها من الوحي الذي نزل من السماء. والشاطبي نفسه كان يعتقد أن المقاصد موجهة إلى تحقيق مصالح الناس، ولكن الشريعة هي التي تحدد المصالح ولا يتم تحديدها من قبل العقل والنزوع الإنساني.

ولكن فيما يتعلّق بالتأويلات والقراءات الحديثة لنظرية مقاصد الشريعة، التي يسميها هاني بتعريف دقيق «البراغماتية الجديدة»، فهي لا تأخذ بعين الاعتبار الجينالوجيا والإمكانات الإبستمولوجية لهذه النظرية. والحقيقة هي أن خلافًا لرجال الدين وعلماء العصور الوسطى، يعتقد الإصلاحيون الإسلاميون المعاصرون أنه يمكن استنباط مقاصد الشريعة بالعقل.

وبعبارة أخرى، من خلال التأمل في نصوص القرآن والسنة، يستطيع الفقيه تحديد مقاصد الشرع، وهذا بدون استدلال من الدليل الخاص من النص، وبدون تقييد وتخصيص هذه المقاصد بأي نص معين. لأنهم، في النهاية، يعتبرون هذه المقاصد أو القيم «الحجية».

وهذه القراءات الجديدة كثيرًا ما وقعت في أخطاء تاريخية، وقامت بإسقاط الفلسفات المعاصرة على المفاهيم والعلوم الإسلامية، واستخدمت المقاصد في صراعاتها الأيديولوجية مع إهمال أسسها وأصولها وأبعادها المنهجية.

وعلى هذا الأساس، يؤكد هاني أن «الدعوة إلى الفكر المقاصدي تحت تأطير النزعة الكلامية والموقف الأشعري السلبي من الحسن والقبح العقليين والتعليل في شكله المنطقي والفلسفي، هي دعوة بلا مضمون»[81]. ويضيف أن «الشاطبي اعتبر أن قصد التكليف وقصد الوضع لا يجتمعان في قصد المشرع والواضع. إذ ليس للمكلف أكثر من قصد التكليف، أصبح واضحًا أن ما يؤدي إليه هذا الرأي هو أن المقاصد من اختصاص المشرع وما قيمة المقصد إن كان غير مكلف به وغير مقدور عليه، وما قيمة العلم به»[82].

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يرى هاني أنه دون حل المشاكل المعرفية والمنهجية والفلسفية العديدة المتعلقة بنظرية المقاصد، هي، على الرغم  من كل القراءات الجديدة، لا يمكن أن تكون فعالة ومثمرة، ولا يمكن أن يحقق المهام والآمال التي يعلق عليها المفكرون المعاصرون.

وكما نشاهد، هاني يبقى وفيًّا لمنهجه النقدي ويستعمله بشكل مرتب وواضح عندما يضع تحت مجهر الشك والنقد ليس الإسقاطات الأيديولوجية التي أحاط الخطاب الإسلامي المعاصر المقاصد بها، بل أبعاد وجوانب نظرية الشاطبي نفسها. وعلى سبيل المثال، يظهر ذلك في نقده اللَّاذع لفكرة أن الشارع وضع الشريعة على أساس مراعاة ما عليه العرب من أمية، وأنهّ لا يجوز إعطاء النصوص المعاني التي لا تتوافق ولا تتناسب مع كون العرب أمة أميّة.

وإذا كان مثلًا الجابري يقيّم مفهوم أمية العرب هذا تقييمًا إيجابيًّا للغاية، ويفهمه كفكرة أن المقاصد تراعي أمية العرب بمثابة محاولة الشاطبي لصد الطريق لكل التأويلات الباطنية العرفانية، فهاني يخالف الجابري في هذه المسألة إطلاقًا، ويقوم بنقد وتفكيك هذا المفهوم وتفسير الشاطبي للأمية.

ويعتبر هاني أن «الشاطبي هنا يستدمج إحدى أهم العناصر الأيديولوجية التي تأسس عليها النظام البياني العربي الرسمي، ألا وهي سد الطريق، نهائيًّا، أمام (التأويل)، والتقيد بالمعاني التي يحملها ظاهر النصوص. إنه بالتالي، موقف جاء، ليس لإحداث قطيعة مع هذا العصر أو إعادة التأسيس، لتكريس هذه النزعة الظاهرية»[83].

وحسب موقف هاني، مفهوم الأمية يقيّد تعليل وإمكانية استنباط واستقراء المقاصد نفسها؛ لأن كل ما لا يتوافق مع أمية العرب وأفهامهم، حسب هذا المفهوم، لا يمكن أن تعتبر مقصدًا من المقاصد الشرع. وفي رأي هاني، إن المقاصديين المعاصرين الجدد كثيرًا ما يتجاهلون ويهملون هذه المشكلة النظرية في فكرة المقاصد للشاطبي أو يحاولون أن يعطوها تلوينًا آخرَ مناقضًا لتعريف الشاطبي لها.

وفي النهاية، يطرح هاني سؤالًا يستفز التفكير: «هل كان الشاطبي مقاصديًّا»؟ وكأن يدعو هاني بهذا السؤال الفجائي كثيرًا من المقاصديين الجدد أو ممثلي تيار الإصلاح الإسلامي إلى أنه وقبل إسقاط مفاهيمهم وفلسفتهم ونظريتهم الفقهية من منظور التصورات الأخلاقية القيمية المعاصرة على شخصية الشاطبي ونظريته المقاصدية، عليهم أن يفكروا كيف كان الشاطبي نفسه يفهم ويمارس نظريته في زمانه التاريخي.

وأخذًا بعين اعتبار كل ما سبق ذكره عن قصور نظرية المقاصد للشاطبي، يجيب هاني عن سؤاله أن «الأطر التي وضعها الشاطبي لا تتقدّم بالمقاصد»[84]. وبمثابة المثال يورد هاني فتوى يحيى بن يحيى الليثي، «إذ إنه لما دخل على بعض السلاطين –عبد الرحمن بن الحكم– فسأله عن الوقاع في شهر رمضان فقال: عليك صيام شهرين متتابعين. فلما خرج راجعه بعض الفقهاء وقالوا له: القادر على إعتاق الرقبة كيف يعدل به إلى الصوم، والصوم وظيفة المعسرين، وهذا الملك يملك عبيدًا غير محصورين؟ فقال لهم: لو قلت له: عليك إعتاق رقبة لاستحقر ذلك وأعتق عبيدًا مرارًا، فلا يزجره إعتاق الرقبة، ويزجره صوم شهرين متتابعين».

وحسب قول هاني، رأى الشاطبي أن يحيى بن يحيى الليثي ظنّ أن «مقصد الشرع من الكفارة هو الزجر. والملك لا يزجره العتق بقدر ما يزجره الصيام». وكما هو معروف، اعتبر الشاطبي هذه الفتوى أنها باطلة واستدل على إجماع العلماء الذين ما أفتوا بهذه الطريقة. يلاحظ هاني، أنه انحصر اختلاف الفقهاء حول هذه الفتوى أساسًا في القول بالترتيب والتخيير.

ولكن هانيًا يرى إشكالية أساسية في المسألة الأخرى في قول الشاطبي أن كلام يحيى بن يحيى الليثي مخالف للإجماع. ويقول هاني: لو كان الشاطبي يعتبر المقاصد حقًّا لأخذ بفتوى ابن الليثي؛ لأن فتواه أقرب إلى المقاصد من موقف الشاطبي. وفي رأي هاني، حتى لو وقع ابن الليثي في الخطأ، كان على الشاطبي أن يرد عليه بالفتوى المقاصدية أو من منظور المقاصد وليس مستندًا أو لاجئًا إلى الإجماع.

وفي هذا الصدد، يصرّ هاني على أنّه كان أحرى بالشاطبي أن يبيّن أن في العتق والإطعام لمصالح هي أكثر أولوية ونفعًا للناس من الصوم بمدة شهرين متتابعين. ويلخص هاني قوله بالعبارة التالية: «غاية القول: إن المباني التي تَمَّ بها تنسيق مقاصد الشرع وفلسفتها عند الشاطبي تعارض المقاصد بالجملة»[85].

وتجدر الإشارة هنا إضافة إلى أفكار هاني أنه حتى في فتاواه وآراؤه الفقهية ما طبق الشاطبي المقاصد وبقى متبعًا إجماع المذهب المالكي[86].

إذن، تتلخَّص معالجة هاني في مستويين: في نقد الفكر المقاصدي الجديد والخطاب الذي تشكّل حول المقاصد في الفكر الاسلامي المعاصر، وفي نقد الفكر المقاصدي عند واحد من أساطين هذا الفكر - الإمام الشاطبي.

وقبل أن ينتهي من بحثه يقوم هاني بتأملات حول مشكلة تحديد ضوابط معتبرة (قيمية) للمقاصد لكي «لا تصبح طريقًا إلى الفوضى»[87]. ويقول هاني: «فالغاية من بحث المقاصد هو فعل التشريع نفسه، كما لو قلنا: من أدرك المقصد أمكنه التشريع، فيكون الإشكال لا في مبدأ التشريع بل في إمكان بلوغ المقاصد الواقعية. لعل هذا ما أدّى إلى وجود فوضى في تقدير المصالح عند القدامى، إلى درجة بارزوا بها أئمة الدين أنفسهم. ومثالنا على ذلك ما كان من شأن موقفين على تمام التناقض في تقدير المصلحة من خروج الإمام الحسين إلى كربلاء»[88].

والمصلحة، في رأي هاني، هي ترتبط بالشخص وبالأحوال، هي نسبية وقابلة للانقلاب. ولكن القيم لا يمكن أن تتغيّر، بل تتغيّر المصالح.

وهذه ملاحظة هاني يمكن أن تصبح موضوعًا للنقاش والبحث العلمي للمقاصديين الجدد وللخطاب الإسلامي المعاصر، خصوصًا في سياق النزاعات والحروب والانقلابات التي تجرى في العالم الإسلامي في الوقت الراهن، وعجز الفقهاء عن تقييمها من منظور المقاصد والكليات، وعن تقديم الرؤية الفقهية الواضحة لهذه الأحداث الاجتماعية والسياسية.

ويصرح هاني أن مذهب المقاصديين الحدثاء يختص بالمصالح غير المنضبطة بقواعد واضحة، وهذا يؤدِّي إلى الصراعات المذهبية والفتن. وهذه المشكلة يعتبرها هاني من أكبر تجليات أزمة العقل العربي الإسلامي.

وإذًا، يؤكِّد هاني على الرغم من أن المفكّرين المعاصرين يدخلون في دائرة المقاصد قيم الحرية والكرامة والاستقلال والعدالة وما شابه، فإنه لم تحدث ثورة في الفكر الأصولي ولم يظهر فقه جديد.

وفي سياق ذلك، يقول هاني: إن الأمر يتطلَّب تحرير المقاصد من الهيمنة الأيديولوجية والمذهبية والكلامية والفقهية وتقديمها في مجال أوسع باعتبارها نظرية فقهية يمارسها كل العقلاء دون اختزال مذهبي أو أيديولوجي. ويدعو هاني إلى إعادة النظر والتفكير في «نسقنا ومبانينا وقواعدنا الفكرية وآفاق تفكرينا واختياراتنا وامتلاك الجرأة في نقد أحوالنا، وتحقيق الثورة على ما لم يعد نافعًا من آليات اجتهادنا، ومن ذلك الثورة على فكرنا المقاصدي»[89].

 

 


 

 



[1] إدريس هاني، المعرفة والاعتقاد: المقاربة عبر مناهجية في أنساق الفكر الإسلامي، بيروت: مركز الخضارة للتنمية الفكر الإسلامي، 2012، ص 262-263.

[2] Slavoj Zizek. Some Politically Incorrect Reflections on Violence in France & Related Matters [http://www.lacan.com/zizfrance.htm]

[3]إدريس هاني، المعرفة والاعتقاد، ص 256-257.

[4] المرجع السابق.

[5] إدريس هاني، المعرفة والاعتقاد، ص254.

[6] المرجع السابق.

[7] المرجع السابق.

[8] المرجع السابق، ص259-261.

[9] المرجع السابق، ص262.

[10] المرجع السابق، ص259.

[11] المرجع السابق، ص260

[12] المرجع السابق، ص261.

[13] جاسر عودة، مقاصد الشريعة دليل للمبتدئ، لندن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2001، ص51.

[14] إدريس هاني، المعرفة والاعتقاد، ص261.

[15] محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، بيروت: مركز الدراسات الوحدة العربية، 2009، ص56-71.

[16] إدريس هاني، خرائط أيديولوجية ممزقة: الأيديولوجيا وصراع الأيديولوجيات العربية والإسلامية المعاصرة، بيروت: الانتشار العربي، 2006، ص198.

[17] محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، بيروت: مركز الدراسات الوحدة العربية، 2009، ص383-384.

[18] محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي، بيروت: مركز الدراسات الوحدة العربية، 2009، ص319.

[19] محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، بيروت: مركز الدراسات الوحدة العربية، 2009، ص 542.

[20] المرجع السابق، ص 540.

[21] إدريس هاني، المعرفة والاعتقاد، ص 254.

[22] المرجع السابق، ص 266.

[23] المرجع السابق، ص 267.

[24] المرجع السابق.

[25] المرجع السابق.

[26] المرجع السابق.

[27] أبو حامد الغزالي، المستصفى من علم الأصول، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1997، ص 416-417.

[28] إدريس هاني، المعرفة والاعتقاد، ص267-268.

[29] المرجع السابق، ص335.

[30] المرجع السابق، ص269.

[31] إدريس هاني، محنة التراث الآخر. [http://alhiwaraldini.com/ar/category/download-book/]

[32] إدريس هاني، المعرفة والاعتقاد، ص 270.

[33] المرجع السابق، ص 271.

[34] المرجع السابق، ص 341.

[35] المرجع السابق، ص. 269-270.

[36] محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، ص 539.

[37] إدريس هاني، المعرفة والاعتقاد، ص 272.

[38] محمد عابد الجابري، بنية العقل العربي، ص 544-545.

[39] إدريس هاني، المعرفة والاعتقاد، ص 274-275.

[40] المرجع السابق، ص 270-271.

[41] المرجع السابق، ص 263-264.

[42] المرجع السابق، ص 264.

[43] المرجع السابق، ص 264-265.

[44] المرجع السابق، ص 264.

[45] المرجع السابق، ص 265.

[46] المرجع السابق.

[47] المرجع السابق، ص 275.

[48] طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، بيروت: المركز الثقافي العربي، 2012، ص 102-103.

[49] طه عبد الرحمن، مشروع تجديد علمي لمبحث مقاصد الشريعة، مجلة المسلم المعاصر، العدد 103، عدد خاص بمقاصد الشريعة، 1422/2002م، ص42.

[50] طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، بيروت/ الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط.2، ص 103.

[51] المرجع السابق، ص 98؛ إدريس هاني، المعرفة والاعتقاد، ص 278.

[52] طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، ص 99.

[53] المرجع السابق، ص 100.

[54] المرجع السابق.

[55] المرجع السابق، ص 99.

[56] إدريس هاني، المعرفة والاعتقاد، ص 286.

[57] المرجع السابق، ص 290.

[58] المرجع السابق.

[59] المرجع السابق، ص 281-282.

[60] المرجع السابق، ص 282.

[61] طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، ص 112.

[62] المرجع السابق، ص 111.

[63] المرجع السابق، ص 113-114.

[64] إدريس هاني، المعرفة والاعتقاد، ص 291-292.

[65] المرجع السابق، ص 297.

[66] المرجع السابق، ص 298.

[67] المرجع السابق، ص 298-300.

[68] المرجع السابق، ص 314.

[69] المرجع السابق، ص 315؛ طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، ص 99، 101.

[70] إدريس هاني، المعرفة والاعتقاد، ص 314.

[71] المرجع السابق.

[72] المرجع السابق، ص 316-317.

[73] المرجع السابق، ص 317-318.

[74] المرجع السابق، ص 319.

[75] المرجع السابق.

[76] المرجع السابق، ص 320.

[77] المرجع السابق.

[78] أحمد الريسوني، نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، هرندن: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2007، ص 81.

[79] إدريس هاني، المعرفة والاعتقاد، ص 304.

[80] المرجع السابق، ص 323-324.

[81] المرجع السابق، ص 338.

[82]المرجع السابق،ص 358.

[83]إدريس هاني، محنة التراث الآخر. [http://alhiwaraldini.com/ar/category/download-book/]

[84] إدريس هاني، المعرفة والاعتقاد، ص 362.

[85] المرجع السابق، ص. 366.

[86] Wael Hallaq. Islamic Legal Theories. An introduction to Sunni usul al-fiqh. New York: Cambridge University Press, 1997, p. 207 - 208.

[87] إدريس هاني، المعرفة والاعتقاد، ص 312.

[88] المرجع السابق، ص 306.

[89] المرجع السابق، ص. 366-367.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة