شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
في أي عالم نعيش اليوم؟ أفي عالم تنفتح فيه الآفاق للناس جميعاً كي يكونوا وماكينونتهم هذه إلا كينونة مجتمعاتهم؟ أسيلتقي الناس جميعاً ومن مختلف القارات والبلدان على خط شروع واحد.. من منطلق انتشار المعارف ونماء الأفكار وتدفق المعلومات؟ أليس هذا هو العالم الهدف والمثال بمواصفاته وخواصه المتسامحة المفتوحة للجميع؟ وبعدما خرجت البشرية من حربيها الكونيتين لتحمل (النخب) السياسية والثقافية موقفاً مغايراً ، موقف يرى أن العالم المتصادم المتصارع بكتلتيه في كلتا الحربين قد دمّر كل شيء في نزعة عدوانية شرسة أفقدت أوروبا لوحدها ملايين البشر ودُمرت المصانع والمعامل والحقول والمدارس والبنى التحتية لكثير من البلدان، بل إنها دمّرت الأنا ودمّرت الضمير والفن وشوّهت الشعور واللاشعور وخلقت كوابيس مرعبة من جراء ما ارتكبت من مجازر باسم الوجود كما يقول الدكتور سامي أدهم (1) . ألم تضع هذه الأمم المتحاربة المتطاحنة حكمتها التي أشاعتها في كل مكان من أجل عالم خالٍ من أسلحة الدمار الشامل وعالم ينبذ الحروب، عالم تتحقق فيه المساواة وتتمثل فيه حقوق الإنسان في أرقى صورها بما في ذلك إعادة الحقوق لكل ذي حقوق بلا عنف ولا حروب ولا صراعات. أليس هذا العالم الذي حقّقت فيه التكنولوجيا أرقى تطوّراتها هو عالم يستوعب الجميع وتتاح فيه التكولوجيا للجميع؟ لكن ربما كان حساب الحقل ليس كحساب البيدر، فهذه الأماني العريضة في عالم منفتح تتكامل فيه الخبرات وتتحقّق الموازنة والعدالة ظلّت حلم المصلحين والفلاسفة في إيجاد عالم متكافئ تسوده قيم الخير وتُنبذ فيه الأحقاد والحروب والظلم الاجتماعي،ولذا تعالت النداءات والدعوات لإدراك حقيقة (التراجيديا) والكارثة التي ستنال الكون فيما إذا استخدم جزء من ترسانات الأسلحة الاستراتيجية في أي مجابهة. ولذا راحت الدول العظمى تبحث عن سبل جديدة للسيطرة (عن بُعد) في ظل أشكال من الاحتواء والهيمنة التي لايطلق فيها الرصاص ولا تجتاح فيها الجيوش البلدان ولا تقرع فيها الطبول ولاتطلق الأناشيد الحماسية، ولذا انفتح عالمنا اليوم على خطاب لحمته الثقة وسداه الموضوعية،خطاب يقدّم الأفكار للناس جميعاً ويضع الجديد في العلم والتكنولوجيا رهن تداول الجميع.. هذا الخطاب المتقن يتدفق بلغات العالم كلها تقريباً بنفس تلك الثقة وبنفس الموضوعية. ولذا تبلور خطّ شروع مشترك بين المتلقين فهم جميعاً يتمتعون بحقّهم في السماع والرؤية والقراءة،ومن منطلق هذا الحق نمت مشكلة البحث عن مصادر المعلومات التي تغذّي هذا الطلب المتزايد الذي أصبحت المجتمعات في حاجة إليه يوماً بعد يوم مع تطور الحياة وتزايد أعداد السكان والحاجة المتزايدة للتعليم وما يرافقها من حاجة للإعلام وهو ما أسمته الأمم المتحدة بـ (مجاعة المعلومات) عندما رفعت اليونسكو تقريرها في العام 1957 إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة والذي لفتت فيه الأنظار إلى حدوث (مجاعة في المعلومات)وأوضحت فيه أن ثلثي سكان العالم يعوزهم الحد الأدنى من المعلومات (2) .
وسط هذا نشأ الإعلام في العالم العربي كغيره من العالم النامي نشأة إما تقليدية ليس إلا، أو لاثبات الاستقلال السياسي بعد التخلص من سيطرة الاستعمار على أرض الواقع (3) ، وسط هذه الصورة وجدت أغلب بلدان العالم الثالث نفسها إزاء تراجعها الفاضح أمام جدليات الاتصال الجماهيري واستحقاقاتها التكنولوجية والمعلوماتية والبشرية،وجدت نفسها أمام هزال أداتها الاتصالية واتكاليتها المثيرة للرثاء والعجب واتّكائها على (الآخر) على القوى الصانعة للعملية الاتصالية،المنتجة، والمصدِّرة.. ويوماً بعد يوم أصبحت محكومة بالتفاهم مع هذا الواقع من منطلقات (الحريات) الليبرالية المتنوّعة، حرية تدفق رأس المال، حرية التجارة، حرية التدفّق الاتصالي المعلوماتي،الحرية الفردية وغيرها.. ولأنّ هذه البلدان لاتملك تربة لانبات الأشجار الليرالية الغربية وإنمائها وازدهارها، لذا وجدت نفسها أمام مشكلات حقيقية في نباء بيوت زجاجية وبلاستيكية غربية لظهور ونموّ هذا الإنجاز العالمي الجديد.. ولم تكن فاعلية الاتصال ولا تكنولوجياته لتنمو يوماً وتترعرع في قفص أو بيت زجاجي، لذا لم يكن من حل الاجتماعات والندوات التي عقدتها وتعقدها بلدان العالم الفقيرة والنامية للتداول في محنة واقعها الاتصالي فكان أول اجتماع خاص بتطوير وسائل الاتصال والنهوض بواقعها بالنسبة لآسيا والشرق الأقصى قد عقد في بانكوك (تايلاند) في يناير كانون الثاني/ 1960 ثم تلته سلسلة من الاجتماعات (4) كان رائدها آنذاك هو معالجة مشكلة التدفق الإخباري الغربي والنهوض بإنشاء وكالات اقليمية ووطنية، في أمريكا اللاتينية عقد اجتماع مماثل بعد ذلك بسنة واحدة أي في سنة 1961، وفي أفريقيا عقد الاجتماع بعد ذلك بعامين أي سنة 1963 وسط هذا كانت أزمة (المعلومات) تتفاقم في ظل وجود أكثر من 120 وكالة أنباء في العالم بينما تتركّز السيطرة وامتلاك قدرة وإمكانية التدفق الإخباري على بضعة وكالات عملاقة لاتزيد على عدد أصابع اليد الواحدة وتنتج يومياً أكثر من نصف مليون كلمة يضاف لذلك سيطرة بضعة دول على ما يقرب من 90% من قنوات البث الفضائي عبر الأقمار الصناعية. وبعد هذا صرنا أمام ذلك التناغم الجبار بين تكنولوجيا الاتصال والمعلومات. ولم تكن هذه التحوّلات مجرد مستحدثات وابتكارات لجعل العالم أكثر سعادة بل قادت إلى نمط استهلاكي محموم يسعى (للاندماج) في الجديد والتعطش واللهاث وراءه في نظرة كلية قوامها تخليق نمط (للتلقي) مبني وبإحكام على ركائز (نفسية/ اجتماعية/ فكرية). وفي ظل هذاالواقع تم تجاوز موقف كان بالأمس القريب موضع جدل في أوساط خبراء الاتصال في بلدان العالم الفقير والنامي وهو ما عرف بـ (الحق في الاتصال) حيث كانت مجتمعاتنا العربية من بين مجتمعات البلدان الفقيرة ـ النامية هي المعنية في كونها في الأغلب الأعم لاتتعاطى مع المفهوم المعاصر لحرية التدفق الحرّ للمعلومات المقترن بالحق في الاتصال بينما يخفي هذا الواقع هيمنة فاضحة من قبل الدول الكبرى وذلك ما عبّر عنه البيان الختامي لمؤتمر هلسكني للأمن والتعاون في أوروبا الذي انعقد منتصف عام 1973 حيث أوصى (باعداد مقترحات لتسهيل نشر جميع أنواع المعلومات بمزيد من الحرية وعلى أوسع نطاق) ومن هنا عرف درو ما سمّي بـ(اللجنة الدولية لدراسة مشكلات الإعلام (5) International Commision for the Study of Communication Problems . ولقد كان منطلق هذه اللجنة التي ترأسها الخبير (شون ماكبرايد) وعرفت بلجنة (ماكبرايد) وضمت نخبة من أهم خبراء الاتصال والإعلام في العالم،نقول أن منطق هذه اللجنة كان قائماً على ركيزتين أساسيتين هما:
1) الاستناد إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948 الذي جاء فيه مايلي: «لكل فرد الحق في حرية الرأي والتعبير ويشمل هذا حرية اعتناق الآراء دون تدخل واستقصاء المعلومات والأفكار وتلقّيها ونقلها من خلال أية وسائل وبغض النظر عن الحدود».
2) القرار /59/ الصادر عن الأمم المتحدة عام 1964 والذي نصّ على ما يأتي: «حرية الإعلام حق إنساني أساسي والمحك لكافة الحريات التي تكرّس الأمم المتحدة نفسها له، وتتطلب حرية الإعلام كعنصر أساسي لايستغني عن الاستعداد والقدرة على استخدام امتيازاتها دون إساءة استعمال وتتطلب كنظام أساسي الإلتزام بالسعي لخلق الحقائق دون تحامل ونشر المعرفة دون نوايا خبيثة». (6) .
ومن هذه المنطلقات قدّمت لجنة ماكبرايد توصيات هامة تهدف إلى رفع (الحيف) الاتصالي الذي لحق بأغلب سكان الكرة الأرضية الذين يشكلون ما مجموعه ثلاثة أرباع الكتل البشرية والذين يعانون من موازين غير متكافئة في اسماع أصواتهم إلى الآخر، وفي امتلاك الهوية الوطنية الاتصالية والحفاظ عليها ولذا كان من أبرز توصيات لجنة ماكبرايد ما يأتي:
1) ينبغي تلبية احتياجات الاتصال في المجتمع الديمقراطي عن طريق التوسّع في بعض الحقوق مثل الحق في الحصول على المعلومات والحق في إعطاء المعلومات والحق في الحياة الخاصة والحق في المشاركة في الاتصال العام وجميعها عناصر لمفهوم جديد هو (الحق في الاتصال) وأثناء نشوء ما يمكن أن يسمى بالعصر الجديد للحقوق الاجتماعية فإننا نقترح المضي في استكشاف جميع متضمنات الحق في الاتصال (7) .
2) أن تتّخذ جميع البلدان التدابير اللازمة لتوسيع مصادر المعلومات التي يحتاج إليها المواطنون في حياتهم اليومية. ولابد من إعادة النظر في القوانين واللوائح المعمول بها بهدف الحد من القيود والأحكام التي تفضي بسرّية المعلومات وغير ذلك من العوائق التي تعرقل ممارسات الإعلام (8) .
3) ينبغي إلغاء الرقابة أو إجراء السيطرة التعسفية على الإعلام وفي المجالات التي يتعين فيها فرض قدر معقول من القيود لابد أن تتحدد تلك القيود بحكم القانون،وأن تخضع لمراجعة القضاء وأن تكون متّفقة مع المبادئ التي يكرّسها ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدان الدوليان الخاصان بحقوق الإنسان وغيرها من الوثاق التي أقرّها المجتمع الدولي (9) .
4) ينبغي توجيه اهتمام خاص للعقبات والقيود التي تنجم عن تركيز ملكية وسائل الإعلام عامة كانت أو خاصة (10) .
كما نصت مادة الاندماج والمشاركة في تقرير ماكبرايد على ما يأتي:
«حتى يتمكن المرء من الاتصال في المجتمع المعاصر لابد أن تكون تحت تصرّفه أدوات اتصال مناسبة،توفر أشكال التكنولوجيا الجديدة للأفراد كثيراً من أدوات الحصول على المعلومات» (11) .
وكمانلاحظ في هذه التوصيات أنها قد حدّدت مفهوم الحق في الاتصال ومكوّناته الأساسية كونه ينطوي على مجموعة من الحقوق فضلاً عن أنها نبّهت إلى مسألة احتكار المعلومات والتكنولوجيا الاتصالية والعقبات أمام امتلاكها على مستوى الأفراد أو مستوى مجتمعات العالم النامي/ الفقير. لقد قرعت لجنة ماكبرايد ناقوس الانذار أمام عالم يتّجه نحو تكتّل القوى الاتصالية الفاعلة فيه وكشفت البون الشاسع بين الواقع الاتصالي المحلي للبلدان الأقل حظّاً في التطور والنمو بين بلدان العالم الأكثر نمواً وتطوراً . ولعل مجمل هذه الجوانب المهمة التي اتّصفت بصفة التوصيات والنتائج إنما سارت باتجاه رفع الحيف والهيمنة التي سادت وتسود العلاقة بين من يمتلك الإعلام (وسائلاً وتقنيات وطاقات بشرية) وبين من لايمتلك من ذلك إلا في حدود، وربما كانت هذه الرؤى في مجملها قد غيّبت ما هو غير منظور من مفاهيم (الدولة) الذي تتخذه أنظمة الغرب باعتبار (الإعلام) وموازناته ركناً أساسياً من أركان التكامل الاقتصادي ـ الاجتماعي ـ السياسي الذي تسعى من خلاله إلى تدعيم سياساتها ومكانتها الدولية وهو أمر بالغ الحساسية كان ومازال من الصعب الوصول منه إلى محصلة تخدم بلدان العالم النامي والفقير. وفي كل حال نجد أن الأقطار العربية في عموم تجاربها كانت مطالبة هي الأخرى بإسماع صوتها فيما يخص هذه المسألة المهمة في الاتصال وتداول المعلومات ولذا عمدت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم إلى دعوة خبراء الإعلام العربي،لوضع تصوّر عربي لموضوعات الحق في الاتصال وذلك في سنة 1982، ولقد كان من محصلات هذه المناقشات لاسيما وأنها جاءت على خلفية مقررات لجنة ماكبرايد، انها حددت المحاور الأساسية التي يتحرك في ضوئها مفهوم الاتصال في البلدان العربية ومن ذلك (12) :
* فلسفة الاتصال
* ديمقراطية الاتصال
* توازن الاتصال
* بنية الاتصال
وكان خلاصة ما تمّ تأشيره من مشكلات الاتصال في الوطن العربي في عموم أقطاره يمكن إجماله في ما يأتي:
1ـ تركيز وسائل الإتصال في كل قطر على الشؤون المحلية وعلى إبراز الشخصية الذاتية للدولة العربية الواحدة في الغالب.
2ـ عدم التوزيع المتساوي للترددات المقررة لكل دولة بما يكفل عدم التداخل فيما بينها وبين دول العالم الثالث وعدم تكامل المحطات الأرضية.
3ـ نقص بنوك المعلومات ومراكز البحوث الإعلامية ومعاهد التدريب.
4ـ عدم كفالة حرية العاملين في ميدان الاتصال وبالتحديد في المجال الصحفي والثقافي.
5ـ قلة التبادل البرامجي إذ أنه بالرغم من أننا نعيش في عصر التكتلات الدولية في المجال السياسي والاقتصادي والإعلامي فإنّ هنالك نقصاً في حجم التبادل البرامجي (13) .
إن هذه المؤشرات مجتمعة لاتبتعد كثيراً عن القاسم المشترك الذي ميّز ويميّز مجمل التجارب الاتصالية لبلدان العالم النامي والفقير إذ أنها تؤكدّ المعطيات الأكثر بروزاً والتي تطبع هذه التجارب وتسبب فيما تعانيه من تباين صارخ فيما بينها وبين المتحقّق الاتصالي على صعيد كتلة العالم الأكثر تقدماً . وفي واقع الأمر إن هذه المشكلات الاتصالية ظلت تنتظر حلولاً عملية تسعف الواقع الاتصالي العربي وترتقي به في فترة مبكرة لاسيما وأنّ مجمل القرارات والتوصيات وتأشير جوانب الخلل والإخفاق إنما يعود إلى سنوات خلت لم يكن فيها العالم قد تبلور إلى التشكيلة الدولية القائمة الآن في ظل انهيار المعسكر الاشتراكي الشيوعي وبروز ظاهرة القطبية الدولية الواحدة التي نعيشها الآن فيما يسمى بالنظام العالمي الجديد وعصر العولمة.
وإذ كانت اجتماعات اليونسكو التي دافعت طويلاً عن حق بلدان العالم النامي والفقير في الاتصال وطرحت بالأرقام والوقائع ما تعيشه هذه البلدان من مشكلات بنيوية جدّية فيما يتعلق بموضوع الاتصال وكذا اجتماعات لجنة الإعلام العربي، نقول، إذا كانت كل هذه الاجتماعات قد نبهت إلى المخاطر الجمّة المترتبة على سياسة الهيمنة وعدم التكافؤ والتدفّق الاتصالي من جانب واحد، فإنّ ما نبهت له سرعان ما استفحل وتفاقم في ظل التسارع العجيب الذي شهده العام خلال العقدين الماضيين في ميادين تكنولوجيا الاتصال وتكنولوجيا المعلومات على السواء.
ولذا صار التصارخ في المناداة في الحق في الاتصال لايجد له ميداناً ممهداً ولا أرضية مناسبة لأسباب عملية تجسِّم القدرات التكنولوجية الاتصالية المعلوماتية لطرف وبدائية تلك القدرات لدى طرف آخر. ولذا فإن هذا الاختلال بل الشرخ الحاد الذي نعيشه اليوم تعكسه الاحصائيات والوقائع التي تبرز امتلاك (الوسائل) الفاعلة المتجدّدة وبالتالي امتلاك القدرة على الانتشار والتأثير السريع في مقابل التراجع الملحوظ الذي تعيشه بلدان العالم النامي والفقير.
إنّ هذه النظرة لاتعدم وجود جهود على مستوى بلدان محدّدة تهدف إلى اللحاق بالقطار المعلوماتي الاتصالي وتحديث الوسائل والأساليب والكوادر التي من شأنها إبقاء تجربة هذا البلد أو ذاك على الخارطة الاتصالية المعلوماتية الدولية. ان هذه المعطيات التي تؤكد دوماً وجود وكالات أنباء لاتزيد على أصابع اليد الواحدة وتعود ملكيتها إلى بلدان غربية متقدّمة صناعياً وتكنولوجياً ومعلوماتياً وتؤكدّ كذلك تبلور شبكات فضائية عملاقة تحتفظ بأسرار وتقنيات الفضاء، هذه المعطيات هي التي تدفع إلى التساؤل عن الواقع الذي تعيشه بلدان العالم الأقل حظّاً في النمو في الموازنة بين حقّها في الاتصال وامتلاك وسائل الاتصال واسماع صوتها إلى العالم وبين عدم اكتراث الكارتلات الاتصالية الضخمة بهذا الواقع وإمعانها في تعميق الفجوة الاتصالية المعلوماتية التكنولوجية ولربما كان هذا الواقع مدعاةً لما هو أهم وأكبر وهو مسألة الحفاظ على الهوية الوطنية والقومية والدينية.
إن هذا التسارع الذي نعيش فصوله في (تناسل القنوات الاتصالية المعلوماتية)ـ إن جاز التعبير ـ يدفع قدماً لا إلى طرح مسألة الحق في الاتصال بل الحق في الحفاظ على الهوية، ومن الملاحظ أنّ الذي يعنى بتهديد الهوية هو ما عرف بثقافة النمط الواحد.. هذا النمط الذي يتدرّج متصاعداً ليتحول من فاعلية اتصالية إلى فاعلية تداولية، بمعنى أن ثقافة النمط الأمريكي مثلاً تتبلور قدماً من كونها ثقافة اتصالية خاضعة لوجهة نظر وموقف وقرار (حارس البوابة) إن كان رقيباً أو مسؤولاً إعلامياً محلياً إلى كونها ثقافة تداولية مألوفة ومعتادة ومسلَّم بها!، ولربما سيكون ملفتاً للنظر إنّ هذه المشكلة هي ليست مشكلة بلداننا العربية والنامية والفقيرة، بل هي مشكلة بلدان أخرى أكثر حظاً في التطور..وفي هذا الصدد تقول باحثة عربية: «إن صانعي السياسة في الدول الغربية وبعد انتشار البث التلفزيوني بالأقمار الصناعية بدأوا يشعرون بالمخاوف التي شعرت بها الدول النامية قبل ذلك بعشر سنوات من طغيان المضمون الأمريكي الذي قد يؤثر على استقلالهم الثقافي» (14) .
ان تفوّق هذا الخطاب (التداولي) في ظل قصور الخطاب المحلّي وعجزه عن اللحاق والمنافسة مع الخطاب الآخر قد خلق خلخلة في سلسلة السياقات السائدة في تلقي الرسالة الاتصالية لدى المواطن العادي وما موجة الثقافة الاستهلاكية وأفلام الخوارق والكوارث والخيال العلمي وأغاني الروك ومسلسلات المجتمع المخملي واليانصيبات إلا حلقات متصلة من النمط التداولي. ويرى عالم الاتصال الشهير (شيلر) أن وسائل الإعلام هي امتداد للامبراطورية الأمريكية التي بدأت تنتشر عالمياً بعد الحرب العالمية الثانية حيث وجدت مجالاً مفتوحاً في الدول الحديثة الاستقلال في العالم الثالث، ويستشهد على ذلك بالسيطرة الثقافية الأمريكية بالبرامج التلفزيونية التي غزت بها أمريكا معظم دول العالم بحيث أنها جعلت الدول تأخذ موقف الدفاع عن هويتها الثقافية في مواجهة الغزو الثقافي الأمريكي (15) .
إن مسألة التعامل بإيجابية وحيوية مع هذا الخطاب الذي يتوغل قدماً في بنى القيم والسلوكيات الفردية يدفع قدماً إلى نزع القشرة الخارجية لذلك الخطاب أي مصدره وايديولوجيته باتجاه التفاعل معه والانجذاب إليه ولربما كان هذا المدخل هو الذي يقود إلى تفهم القلق على الهويات الوطنية إزاء ما هو آت. وفي هذا الصدد يشير (بريجنسكي) في كتابه (بين عصرين) إلى «ضرورة خوض المعركة الايديولوجية على كل الساحات بدءاً من حقوق الإنسان ووصولاً إلى تصدير نمط الحياة الأمريكية (الجينز والديسكو والتكنولوجيا والعادات الأمريكية) وذلك من خلال استثمار تكنولوجيا الاتصال والاستفادة القصوى من ريادة أمريكا في مجال نظم الاتصالات وشبكات المعلومات ذلك لأن 65% تقريباً من الاتصالات في كل العالم تصدر في هذا البلد وانها الأكثر نشاطاً في تعزيز نظام الاتصالات العالمي عن طريق الأقمار الصناعية» (16) .
ان هذه المعطيات تؤكد أن مواصفات العالم المنفتح والموضوعي والقائم على مبادئ التوازن والعدالة والموضوعية والذي هو حالة الطموح والمثال التي أشرنا إليها في مدخل هذه الدراسة،نقول أن هذه المعطيات تنأى بعيداً إلى مفاهيم جرى تداولها والانجذاب إليها مثل (حوار الحضارات) و(حوار الثقافات) إلى صيغة براغماتية ضاغطة وقوية هي صيغة (مصادرة الثقافات) بمعنى ابتسار الثقافات المحلية وعزلها تدريجياً ، وحصرها في أطر تعاملات رسمية ومدرسية أكثر منها حيوية وفاعلة ويومية ولذا صارت مسألة استهداف الهوية الثقافية ليست مسألة قابلة للتسويغ وحسن الظن، بمعنى أن دعوات (ما بعد الحداثة) ودعوات التنوير الظاهرية غير المتعمقة تتطلب تسامحاً وموضوعية وصبراً على اشتغال الخطاب الأجنبي القادم عبر القمر الصناعي!، فأي صبر هذا الذي يتيح المزيد من الزمن فيما الآخر يطوّر إمكاناته ويجدّد وسائله وينمي كوادره فيما نحن نتذرع بالصبر والنوايا الحسنة!
من المؤكد أن رد الفعل الآني أو الرافض أوالمتشنّج إزاء سياقات حياتية صارت تسود تعاملات البشر في أرجاء الكرة الأرضية، هذا النوع من ردود الفعل لن يكون له نصيب في التحقق حال الوصول إلى رأي مفاده رفض هذا الخطاب والحيلولة دون تدفّقه. وفي هذا الصدد يذهب صلاح الدين حافظ إلى أنّ «قدرة الدول الصغرى والشعوب الفقيرة هي من الهشاشة ما يعرّضها للاستقطاب الحاد ما بين التبعية الكاملة والانعزال الكامل» (17) ولعل هذه الثنائية المريرة (التبعية/الانعزال) التي أشار إليها الأستاذ حافظ هي قطب الرحى ومحور الإشكالية الاتصالية العربية اليوم. فالتبعية ليست فرضية ولا وهماً ولاتنبّؤاً بل هي حقيقة قائمة متحققة تسود مساحة واسعة من بلدان العالم النامية والفقيرة وهي الحقيقة التي نافح للتخلص منها حشد من الإعلاميين والمفكرين والساسة دون أن يستطيعوا بدعواتهم هذه صدّ الموج العارم من المستحدثات والتقنيات والتطورات حتى إذا ما انتشرت الأطباق اللاقطة للبث التلفزيوني على سطوح المنازل والمباني في العالم العربي والعالم النامي عموماً وزرع الفضاء بعشرات الأقمار وأنشئت بالمقابل عشرات بل مئات التوابع الأرضية صرنا أمام إحساس بأن طرح مسألة (التبعية) يبدو طرحاً إشكالياً عميقاً ، لأن هذه التبعية قد حفرت مداميكها في الواقع الاتصالي وأكدت وجودهاواستثمرت هذه (الخاصية والميزة) أبشع وأوسع استثمار.. ولذا صارت مشكلة التعامل مع (الطيف) الكهرومغناطيسي والراديوي القادم في شكل طوفان كبير هي مشكلة تتعلق الان بسؤال الهوية وجدل الهوية وجدل الثقافة وتعقيداتها.
الهوامش:
(1) د. سامي أدهم. ما بعد الحداثة. مجلة كتابات معاصرة. بيروت. العدد 18، حزيران/ يونيو 1993، ص22.
(2) فتحي الابياري. الإعلام العالمي. دار المعرفة الجامعية. القاهرة. ط1/1985، ص30.
(3) جون ميرل ورالف لوينشتاين. الإعلام وسيلة ورسالة. ترجمة: د. ساعد الحارثي. دار المريخ، الرياض. ط1/1989، ص2.
(4) فتحي الابياري. الإعلام العالمي. (مصدر سابق) ص27.
(5) المصدر نفسه. ص76.
(6) المصدر نفسه. الصفحة نفسها.
(7) شون ماكبرايد. أصوات متعددة وعالم واحد، نحو نظام عالمي جديد للإعلام والاتصال أكثر عدلاً وكفاءة، اليونسكو، 1981، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع. الجزائر. ط1/1981. التوصية رقم (55) ص548.
(8) المصدر السابق. التوصية رقم (56) ص549.
(9) المصدر السابق. التوصية رقم (58) ص550.
(10) المصدر السابق. ص551.
(11) المصدر السابق. الصفحة نفسها.
(12) د. محمد مصالحة. دراسات في الإعلام العربي. مركز التوثيق الإعلامي لدول الخليج العربي، بغداد. ط1/1984، ص53.
(13) المصدر نفسه. ص74.
(14) د. جيهان أحمد رشتي. الآثار الثقافية للاتصال عبر الأقمار الصناعية. المجلة العربية للثقافةـ اصدار المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم. تونس. العدد 19، أيلول 1990، ص145.
(15) د.ياس خضير. الاستراتيجية الأمريكية. مجلة شؤون سياسية. دار الجماهير للصحافة. بغداد/1994، العدد 2، ص45.
(16) بريجنسكي: بين عصرين ـ الاستراتيجية الأمريكية في العصر التكنوتروني. ترجمة وتقديم: د. محجوب عمر. ط2، العربي للنشر والتوزيع،القاهرة، 1988، ص14.
(17) صلاح الدين حافظ. السياسة الإعلامية والتدفق الإعلامي. بحث ألقاه في ندوة عمّان حول الإعلام والاتصال، 1994ـ ص10.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.