شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
لاشك أن حجم وكثافة التحولات العالمية على جميع المستويات، وتسارع دول العالم الثالث المحموم لركوب قطار العولمة، والتأثيرات السلبية التي بدأت تظهر على شكل اختلالات اقتصادية واجتماعية وثقافية حادة، نتيجة الإصلاحات الهيكلية التي يتطلبها الإندماج في الإقتصاد العالمي الرأسمالي، كل ذلك جعل دول العالم الثالث وعلى رأسها الدول العربية تمر بمرحلة انتقالية حرجة، تتطلب من صناع القرار السياسي، والفاعلين الاقتصاديين والنخب الفكرية، الشروع في بلورة رؤية واقعية ـ علمية، تتعاطى مع هذه التحولات المتسارعة بإيجابية، للاستفادة منها من جهة، ولرسم الخطط والسياسات التي تقلل من مخاطرها وتداعياتها السلبية. بالإضافة إلى استشراف المستقبل.
من أجل تحقيق هذا الهدف، وفي سبيل صياغة مجموعة من التوصيات والخلاصات العملية لوضعها أمام صناع القرار العربي، يأتي تنظيم المؤتمر السنوي الرابع للمركز العربي للدراسات الاستراتيجية، والمؤتمر السنوي الأول لمركز الدراسات والبحوث الاستراتيجية بجامعة دمشق، ليحلل ـ كما يقول الرئيس اليمني السابق علي ناصر محمد (رئيس المركز العربي) في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر ـ التحولات العالمية على المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ودور المرأة العربية، وليدرس الآثار والتداعيات التي تطرحها هذه التحولات علينا، والسياسات التي تبنتها الدول العربية للتعامل معها. وعلى هذا فإن محور عمل المؤتمر يتركز على تحديد معالم مستقبل الوطن العربي، في ضوء التحولات الدولية وآثارها المحتملة على بلادنا، انطلاقاً من مقومات الأمن القومي العربي وثوابته وضروراته..
نُظم المؤتمر بالتعاون مع الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، وتحت شعار: «التحولات العالمية ومستقبل الوطن العربي في القرن الحادي والعشرين». وذلك بين 10ـ12 نيسان (أبريل) 2000م. وكان المركز العربي للدراسات الاستراتيجية الذي تأسس سنة 1995م (ومقره بدمشق) قد نظم ثلاثة مؤتمرات سابقة عالجت جميعها قضايا الوضع العربي والتحديات الواقعية والمستقبلية، كان آخرها مؤتمر بيروت: «نحو مشروع للنهضة العربية في القرن الحادي والعشرين» عقد سنة 1998م. (انظر مجلة الكلمة عدد 20 صيف 1998م).
انعقد المؤتمر في جامعة دمشق وحضر الجلسة الافتتاحية قرابة (800) شخصية فكرية وسياسية، على رأسهم الأمين العام المساعد لحزب البعث العربي الاشتراكي عبد الله الأحمر ممثلاً لرئيس الجمهورية، والرئيس علي ناصر محمد، ود. عبد الغني ماء البارد رئيس جامعة دمشق، ود. حامد خليل مدير مركز الدراسات والبحوث الاستراتيجية في جامعة دمشق. وعدد من الوزراء والسفراء، ونخبة من رجال الفكر والمعرفة (قرابة 200 مشارك) من سورية ولبنان والأردن ومصر والعراق وقطر والإمارات العربية واليمن، بالإضافة إلى تونس والمغرب.
وقد ألقى كل من الرئيس علي ناصر محمد وعبد الله الأحمر ود. سعود الزبيدي مستشار الأمين العام لجامعة الدول العربية، كلمات في الجلسة الافتتاحية، أشادوا فيها بأهمية موضوع المؤتمر والظروف الحساسة التي تعيشها الأمة العربية، ودعوا المشاركين للخروج بتوصيات تساهم في بلورة رؤية مستقبلية للوطن العربي في القرن الحادي والعشرين تتم الاستفادة منها لمعالجة التحديات العالمية الراهنة.
وعلى غرار المؤتمرات السابقة تقاسمت البحوث والأوراق المقدمة، محاور ثلاثة رئيسية هي: المحور السياسي، المحور الاقتصادي ثم المحور الثقافي.. الاجتماعي. ومن خلال هذه المحاور الثلاثة استطاع الباحثون أن يعالجوا مجموعة من القضايا تصب في الكشف عن مجمل التحولات التي عرفها العالم، كما تقدم مقترحات لما يتعين على دول العالم العربي القيام به للتخفيف من ضغوطات العولمة، التي أصبحت بمثابة النفق المظلم الذي يتعين على قطار التنمية العربية دخوله، في الوقت الذي تتضاءل فيه فرص التنبؤ بما سيقع داخل هذا النفق، وحجم الأرباح والخسائر المستقبلية.
الورقة الأولى تقدم بها د. حسن نافعة رئيس قسم العلوم السياسية (جامعة القاهرة) وجاءت تحت عنوان: «تحولات السياسة العالمية واتجاهات تطورها المستقبلية». استعرض الباحث أهم الأحداث والتطورات التي عرفها العالم بدء بسقوط جدار برلين (9 نوفمبر 1989)، واحتلال العراق للكويت (2 آب (أغسطس) 1990م) وصولاً إلى انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك المنظومة الاشتراكية، وإعلان نهاية الحرب الباردة، حيث بدأ الحديث عن تشكل نظام عالمي جديد «تلعب فيه الأمم المتحدة ـ كما يقول د. نافعة ـ الدور الأكبر في حل المشكلات والأزمات الدولية، وفقاً لمبادئ القانون والشرعية الدولية..».
لكن تطور الأحداث على الساحة الدولية كشف عن مفارقات جديدة، لأن النظام العالمي الجديد مختلف في بنيته، لكنه في نظر الباحث ليس جديداً في مضمونه، وقد تولت قيادته الولايات المتحدة الأمريكية بدل الأمم المتحدة. وهكذا فإن شعار «النظام العالمي الجديد» سرعان ما بدأ في التواري وقد فقد «جاذبيته الأيديولوجية» ليحل محله شعار «أكثر غموضاً» هو شعار العولمة، ومعه بدأ الحديث عن «حتمية جديدة» تنادي بضرورة التحاق جميع الدول بـ «قطار العولمة» وإلا «تركت وحيدة على طريق مقفر، وتحولت ـ كما يقول د. نافعة ـ إلى دينصورات مصيرها الحتمي هو الانقراض، ومكانها هو متاحف التاريخ». وهذا البعد الأيديولوجي للعولمة هو ما جرى التركيز عليه في العالم العربي، بحيث نُظر إلى العولمة باعتبارها مذهباً غربياً جديداً، وبدأ النقاش حول قبوله أو رفضه. في الوقت الذي لم يكن فيه شعار العولمة، وبغض النظر عن اختلاف التعريفات، سوى وضعاً «للمرحلة الراهنة من مراحل تطور العلاقات الدولية». في أبعادها المختلفة، ففي البعد الاقتصادي بدأ الحديث عن تشكل نظام كوني تتجه فيه حركة التجارة ورؤوس الأموال والإنتاج والخدمات نحو التفاعل الحر، وكأنها تتم داخل سوق واحدة بلا حدود..
وفي البعد الاجتماعي والثقافي برزت أنماط جديدة من العلاقات والصراعات، نتيجة توحيد أنماط الاستهلاك الاقتصادي والإعلامي، وتأثير ذلك على العقول والهويات والخصوصيات الثقافية والحضارية المحلية، الشيء الذي جعل الحديث عن صراع الثقافات والحضارات يقفز فجأة إلى السطح باعتباره من أهم ردود الفعل ونتائج هذه العولمة. أما في الجانب السياسي فهناك تحولات مهمة تتعلق بالمهام الجديدة للدول القومية وعلاقتها بالشركات والمؤسسات الدولية أو العابرة للقارات والجنسيات.
هذه التحولات والتطورات التي طرأت على العلاقات الدولية والوضع العالمي، لايمكن فهم طبيعتها في نظر د. نافعة «إلا إذا فهمت في سياق تطورها التاريخي»، لأن العولمة ليست ظاهرة طارئة، وإنما ترتبط بالتطور العلمي والتكنولوجي المتراكم منذ قرون. لذلك لابد من تجاوز «أوهام الحتميات»، لكي نفهم حقيقة ما يقع من تحولات عالمية. وتحت عنوان «من الدولة القومية إلى القرية الكونية» تحدث د. نافعة عن انتصار الدولة بمفهومها التقليدي القديم، رغم التحديات الخطيرة التي واكبت تاريخ قيام هذه الدولة واستمراريتها، مثل التحدي الاستعماري والعنصري والطبقي. والآن بدأت تحديات جديدة «توحي أو تتنبأ مرة أخرى باضمحلال دور ومكانة الدولة القومية»، نجدها في مقولة صراع الحضارات التي روج لها الأمريكي صامويل هنتنغتون، فالصراع أو التعاون لن يكون بالنسبة له بين دولة ذات سيادة، كما أن المصالح الوطنية أو القومية التقليدية لن تتحكم في توجيه الصراع الذي «سيكون بين حضارات كبرى وحول قضايا مثل الهوية والقيم والانتماءات الثقافية والحضارية». أما التحدي الثاني فهو نتيجة العولمة، لأن العلاقات الدولية الآن بدأت توجهها الشركات والمؤسسات العالمية «العابرة للدول وللقوميات وللحدود السياسية والجغرافية». لكن مهما قيل عن هيمنة هذه الشركات ودفعها العالم باتجاه عولمة تقلل من مهام الدولة القومية إلا أن د. نافعة يؤكد على أن الدولة ستظل «هي الأساس وهي الإطار السياسي والاجتماعي والمؤسسي الذي لاغنى عنه لتنظيم وتوجيه التفاعلات الدولية ولفترة طويلة قادمة..» وإذا كانت الدولة القومية عاجزة عن إيجاد الحلول للمشكلات الجديدة مثل: التخلف والأمن والتلوث، لأن هذه المعضلات تتجاوز الإطار الوطني والقومي «لكن البديل ـ يؤكد د. نافعة ـ لايكمن في آلية جديدة للهيمنة باسم «العولمة»، ولكن ببناء مؤسسات عالمية ديمقراطية تعكس طموحات وتطلعات كل الدول والشعوب..».
كما تحدث الباحث مطولاً عن حركة النظام العالمي وكيف اتجه من نظام متعدد الأقطاب إلى نظام القطب الواحد، مؤكداً على أن هيمنة دولة واحدة لايمكن إلا أن تكون مؤقتة، متسائلاً عما إذا «كان النظام الحالي سيتحول إلى نظام تقليدي متعدد الأقطاب؟، أم أن آليات «العولمة» ستفرز نظاماً كونياً غير مسبوق في سماته وخصائصه؟».
وأخيراً وقبل أن يتحدث عن مستقبل التنظيم الدولي في ظل العولمة تحدث د. نافعة بإسهاب عن التنظيم الدولي بين العالمية والعولمة، حيث استعرض مفهوم عالمية التنظيم الدولي الذي اقترن بإنشاء كل من عصبة الأمم ومنظمة الأمم المتحدة، وباقي المنظمات الاقتصادية والثقافية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، والجات، أو اليونسكو ومنظمة العمل الدولية، وكيف أن هذه المؤسسات خضعت لتجاذبات الحرب الباردة بين القطبين، وللهيمنة الأمريكية بعد ذلك، ما جعل الاستفادة الديمقراطية من هذه المنظمات مازالت بعيدة المنال بالنسبة لدول العالم الثالث. كما تحدث عن بنيتها المؤسسية وعملية صنع القرار فيها.
أما بالنسبة للمستقبل، فإن الباحث يرى أنه «كان من المفترض أو المأمول على الأقل أن تتحول المنظمات الحكومية العالمية، وخاصة في عصر الأمم المتحدة إلى أداة لتغيير النظام الدولي، ودفعه للانتقال المتدرج من حالة «حالة الطبيعة» إلى «حالة التجمع»، من خلال عقد اجتماعي دولي تبرمه الحكومات ويلتزم به الجميع، غير أن موازين القوى الدولية وتفاعلاتها في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية حالت دون تحقيق ذلك الطموح..».
لقد أحالت ظاهرة العولمة ـ كما يؤكد د. نافعة ـ التنظيم الدولي الحكومي إلى التقاعد، وأعادت توزيع الأوزان النسبية للفاعلين في النظام الدولي لصالح الشركات العابرة للقوميات، وأعادت ترتيب الكثير من الأولويات. وهناك إشكالات مهمة أخرى تحتاج إلى إعادة نظر، مثل إعطاء الاعتبار وتوسيع صلاحيات المنظمات الغير حكومية، والديمقراطية داخل المنظمات العالمية، وإيجاد صيغة جديدة لتفعيل العلاقة بين التنظيم العالمي والتنظيم الإقليمي.
إن الخيار المطروح الآن حسب د. نافعة، لم يعد خياراً بين احتمال قيام أو عدم قيام «حكومة عالمية» وإنما أصبح الخيار بين نوع الحكومة المطلوبة في زمن العولمة؟!
عقب على هذه الورقة الدكتور مطانيوس حبيب من جامعة دمشق (كلية الاقتصاد)، الذي قدم بحثاً مفصلاً ناقش فيه مجمل ما جاء في هذه الورقة وأشار إلى أهمية بعض الملاحظات منها التأكيد على أن العالمية (وليس العولمة) أصبحت قانوناً عاماً يتعمم فعله تدريجياً مع تطور مستوى القوى المنتجة وتقدم ثورة الاتصالات، فلا تستطيع إرادة الأقوياء ولا مقاومة الضعفاء وقف فعله، بل لابد من الاستعداد له على كافة المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية الخ. وأعتقد جازماً ـ يقول د. مطانيوس ـ أننا إذا لم نستفد من تجارب العالم وندعم علاقات المصلحة الاقتصادية بين بلداننا العربية سنكون مهددين بالذوبان في تيار العولمة الاقتصادية وفقدان هويتنا القومية الحضارية. والسؤال الذي يطرح نفسه بشدة اليوم وبحسب د. مطانيوس، والذي على الفكر السياسي الاستراتيجي الإجابة عليه قبل فوات الأوان هو: هل أفول شمس الهيمنة الأمريكية وبروز قوة أو قوى أخرى مسيطرة جديدة سيتطلب حروباً جديدة؟ أم أن الولايات المتحدة بتأثير زيادة الوعي الإنساني إلى جانب توازن الرعب النووي ستسمح بتقاسم مراكز القوة، دون الحاجة إلى حروب جديدة؟ هذا برأيي ما يشكل جوهر التغيرات في السياسة الدولية، وأكثرها إلحاحاً. ففي ضوء ردة فعل الولايات المتحدة قد يتحدد مصير البشرية؟!
الورقة الثانية في هذا المحور جاءت تحت عنوان: «آفاق تأسيس استراتيجية سياسية عربية مشتركة» وتقدم بها الدكتور حامد خليل مدير مركز الدراسات والبحوث الاستراتيجية بجامعة دمشق، في البداية تحدث د. خليل عن إمكانية واستعداد العرب للتعاون في الشأن السياسي أكثر من استعدادهم للتعاون في الشأن الاقتصادي، وذلك لعدة اعتبارات ذاتية فيýأغلبها، كما أن التفكير في هذه الاستراتيجية له مقومات كامنة في الواقع العربي الراهن، وهذا ما يعزز ويدفع باتجاه التفكير في وضعها، أما المقصود بهذه الاستراتيجية السياسية فهي كما يقول د. خليل «وضع خطة مشتركة بعيدة المدى لضمان سيادة الأمة بكافة أقطارها على نفسها، واستقلالية قرارها، وحماية أمنها، وتبوء موقع في السياسة العالمية يتناسب مع حجمها البشري والجغرافي والاقتصادي». لكن هناك معوقات تقف في وجه تأسيس هذه الاستراتيجية وهي كما قسمها بعض الباحثين تنقسم إلى معوقات خارجية وداخلية، أما الخارجية فمعروفة لأن القوى العالمية تدافع عن مصالحها، وتسلك جميع السبل للحفاظ عليها وضمانها وذلك بمساعدة بعض القوى المحلية التي تتقاطع مصالحها الشخصية مع تلك القوى العالمية، وهذه القوى بشكل عام هي الحاكمة في العالم العربي وهي التي تكرس حالة التخلف الحضاري «بتغييب الديمقراطية ـ كما يقول د. خليل، والحجر على الحوار الفكري بين الناس، والتفرد بالسلطة بصيغتها التسلطية، وتهميش الشعب، وخنق كل محاولة للإبداع». بالإضافة إلى ذلك عدم وجود أية استراتيجية عربية موحدة أو مشتركة، وإنما هناك تحالفات إقليمية هشة تتأثر بأتفه العوامل المحلية والخارجية، بخيث تضعف فاعليتها وكأنها غير موجودة، وأهم عامل خارجي مؤثر وفاعل في تغيير رقعة الشطرنج هذه، هو الوجود الإسرائيلي ودخوله في صلب المعادلات والصراعات العربية ـ العربية وإشراكه في عملية حفظ واستقرار الأنظمة العربية، ولاشك ـ يقول د. خليل ـ أن التلويح بما أسمته الصهيونية «بالأصولية» بوصفها الهاوية التي ستبتلع كل شيء، والخطر الأكبر الذي سيتهدد الجميع على قدم المساواة واستجابة بعض القوى العربية لوهم تضخيم هذا الخطر، إنما هي من بين أهم عناصر الاختراق السياسي المذكور..
إن المسوغات كثيرة بحيث أصبح تأسيس استراتيجية سياسية عربية حاجة ماسة وضرورية لأن عدم وجود هذه الاستراتيجية وغيابها، «جعلا العرب ينتقلون من هزيمة إلى أخرى ومن انكسار إلى آخر، ومن حالة ضعف إلى حالة أكثر ضعفاً..». أما بخصوص الغايات التي تسعى هذه الاستراتيجية لإنجازها فإنها كثيرة، وبعضها على أهميته لايمكن الحديث عنه الآن، لأن إنجازه صعب لعدة اعتبارات كون «الحكام العرب لم يستوعبوا بعد مسألة التخلي عن السلطة والثروة، والاندماج عوضاً عن ذلك في النسيج المجتمعي لبلدانهم». لذلك فالغاية الأولية والممكنة التي نعتقد ـ يقول د. حامد خليل ـ أنها تمثل ضرورة تاريخية لضمان استمرار الوجود السياسي العربي على نحو فاعل في نظام العولمة القائم الآن.. هي أن يكون للعرب جسم سياسي صلب تتناسب قوته مع إمكانياته البشرية والمادية الضخمة.. وأن يكون لهذا الجسم بالإضافة إلى القوة، حضور فاعل في إثراء الثقافة العالمية، والمشاركة في التقدم العلمي والمساهمة في تطوير التكنولوجيا. دون أن يعني ذلك تحويل الأقطار العربية إلى دولة واحدة، وإنما إلى كيان وحدوي نظري على شاكلة الوحدة الأوروبية على سبيل المثال..
وإذا ما تم الاتفاق على أن هذه الغاية قد تصلح كمرجعية لتأسيس هذه الاستراتيجية فإن مسوغاتها كثيرة، ذكر الباحث منها ثمانية نقاط، تتلخص في العمل على التحرر من التبعيتين السياسية والاقتصادية، وإيقاف النزاعات العربية العربية، و«جعل الأقطار العربية منطقة واحدة يكون لها دور في إثراء الحضارة العالمية، وإقامة تنمية إقتصادية وعلمية وتكنولوجية حقيقية تكون متحررة من كافة أشكال التبعية».
أما بخصوص إمكانية تأسيس هذه الاستراتيجية فإن الباحث ليس متشائماً بل يرى أن الواقع العربي مع كثرة الانتكاسات التي عرفها ومازال يتخبط فيها، إلا أن مظاهر التمرد والممانعة ظهرت مؤخراً من بعض الحكام العرب، أما بالنسبة للشعوب فهي لاتجد مناسبة إلا وتعبر فيها عن رفضها لكل هيمنة عالمية «وهي على استعداد إذا ما توافرت لها الشروط الملائمة للاضطلاع بدورها التاريخي في مقاومة هذا الخط وإجهاضه والاندفاع باتجاه تجاوز حالة الحطام القائمة»، كذلك يوجد عمق إسلامي يمكن توظيفه والاستفادة منه، لذلك يرى د. خليل أن اللحظة التاريخية مؤاتية جداً لإنجاز هذه الاستراتيجية.
وعن حديثه عن المكونات الأساسية لهذه الاستراتيجية اقترح الباحث أن ترتكز على مجموعة من المبادئ والمقومات أهمها:
ـ العمل على حل نزاعات الحدود بين معظم الأقطار العربية.
ـ منع التفرد بأي قرار يتخذه أحد الأقطار العربية له علاقة بالمصالح القومية العربية.
ـ وضع خطة متكاملة لتطوير البحث العلمي العربي، وإحداث مراكز تكنولوجية عربية مركزية متقدمة، والعمل على إعادة العقول العربية المهاجرة وزجها في عملية البحث العلمي والتكنولوجي.
ـ العمل على إقامة تحالف عربي ـ إسلامي، حقيقي يقوم على أساس تحقيق دعم إسلامي للمشروع العربي.
لكن هذه الاستراتيجية لن يكتب لها النجاح دون المشاركة الشعبية، المتمثلة في المؤسسات الأهلية والأحزاب والتيارات الرافضة للتبعية، والنقابات وغيرها من فعاليات المجتمع الأهلي. كما يقترح د. خليل «تشكيل لجنة قومية عليا للتخطيط ـ يتعين عليها القيام بعدة مهام» ذكرها ملخصة في ستة نقاط..
الدكتور كامل أبو جابر وهو وزير خارجية الأردن سابقاً ورئيس المعهد الديبلوماسي في الأردن، عقب على ورقة د. خليل، متفقاً معه حول معوقات رسم استراتيجية عربية موحدة. مؤكداً أن وضع هذه الاستراتيجية لابد أن ينطلق من «بناء مجتمع أو مجتمعات عصرية تعتمد العقلانية لا الفردانية في اتخاذ القرار» بالإضافة إلى اعتماد المرحلية التي تجعل الأنظمة الحاكمة تطمئن لمستقبلها السياسي في إطار هذه الاستراتيجية العربية الموحدة بتشجيع المشاريع الاقتصادية والتنموية المشتركة وتقوية الاتصالات بين الدول العربية، للوصول في نهاية المطاف إلى نوع من الشراكة أو التكاملية على المستويات كافة على شاكلة ما وقع في الاتحاد الأوروبي.
الورقة الأولى في هذا المحور قدمها الدكتور منير الحمش رئيس الدائرة الاقتصادية في مركز الدراسات والبحوث الاستراتيجية بجامعة دمشق. وجاءت تحت عنوان: «التحولات والمتغيرات الاقتصادية العالمية وتأثيرها على الدول العربية». بالنسبة للدكتور الحمش أهم هذه التحولات والمتغيرات على المستوى العالمي، ظاهرة العولمة الجديدة، التي تتميز بالنسبة لدعاتها بظهور أسواق جديدة عالمية في مجال الخدمات والأعمال المصرفية والتأمين والنقل، وكذلك أسواق مالية، جديدة ظهرت إلى جانب ذلك جهات فاعلة جديدة من قبيل الشركات المتعددات الجنسيات، منظمة التجارة العالمية، شبكات منظمة من المنظمات غير الحكومية، وتكتلات اقتصادية إقليمية مثل الاتحاد الأوروبي، رابطة دول جنوب شرق آسيا، منطقة التجارة الحرة لدول أمريكا الشمالية، وغيرها من التكتلات الإقليمية الأخرى مثل مجموعة: السبعة، العشرة، مجموعة الاثنين والعشرين، مجموعة السبعة والسبعين. كما ظهرت قواعد ومعايير جديدة مثل انتشار سياسة اقتصادية عالمية «تتسم بقدر من الخصخصة والتحرير»، واتفاقات جديدة متعددة الأطراف للخدمات وللملكية الفكرية والاتصالات أكثر إلزاماً للحكومات الوطنية من أي اتفاقات سابقة. كذلك الاتجاه نحو الديمقراطية ومراعاة حقوق الإنسان، والعمل من أجل أهداف تنموية، والاهتمام أكثر بالبيئة العامة. كما تطورت وسائل الإتصال وظهرت أدوات جديدة أسرع وأرخص ثمناً، مثل الانترنت وشبكات الاتصال الإلكتروني المتعددة الخدمات.
وقد رافق هذه التحولات على المستوى العالمي مجموعة من الظواهر أهمها ـ حسب الباحث ـ انفجار الثورة المعرفية الهائلة وتنامي دور الشركات العالمية في المعاملات الاقتصادية الدولية، فقد بلغ «إجمالي إيرادات الشركات الخمسمائة الأكبر (11.4) تريليون دولار عام 1997م، ولندرك ضخامة هذا الرقم ـ يقول د. الحمش ـ نقارنه بإجمالي الصادرات العالمية البالغ (6.6) تريليون دولار بنفس العام. وتشير الإحصاءات إلى أن كبرى الشركات متعدية الجنسية تجاوزت قيمة مبيعاتها الناتج المحلي لكثير من البلدان في عام 1997م». وقد أدى ذلك إلى ارتفاع نسبة النمو في الدول الصناعية وزيادة الفوائض المالية، مع تراجع فرص الاستثمار المريحة جعلت أصحاب رؤوس الأموال يتجهون للمضاربة بالعملة في أسواق الأسهم والسندات. مما أثر على حركة التشغيل وإيجاد فرص جديدة للعمل. وقد ظهر ذلك في تزايد معدلات البطالة في دول الاتحاد الأوروبي حيث وصلت النسبة (12.2%) سنة 1997م و(5%) في الولايات المتحدة الأمريكية.
وبشكل عام زادت هذه التحولات في اتساع «الفجوة بين الشمال والجنوب، وأصبح التفاوت صارخاً بين الدول الغنية والفقيرة. (20%) الأغنى في العالم تبلغ حصتهم من الناتج المحلي الإجمالي العالمي (86%). أما (20%) الأفقر فلا تزيد حصتهم عن (1%)... وهذا الاستقطاب والتهميش لايقتصر على علاقة الشمال والجنوب، بل إن تمركز الثروة والفقر أصاب مجتمعات الشمال ذاتها. نلمس ذلك من خلال الأرقام التالية:
ـ يمتلك (1%) من سكان الولايات المتحدة (39%) من الثروة في البلاد.
ـ تفوق ثروة (358) شخصاً من أصحاب المليارات في العالم الدخل السنوي لـ (45%) من السكان الأكثر فقراً في العالم أي (2.6) مليار نسمة..».
طبعاً تعرضت العولمة لانتقادات كثيرة باعتبارها ليست سوى «أمركة للعالم» لأنها لاتخدم في النهاية سوى مصالح الشركات الأمريكية العملاقة. كما تعرضت لصدمات كثيرة أهمها الأزمة التي أصابت بلدان جنوب شرق آسيا. فقد أعلنت (435) شركة ماليزية إفلاسها. وفي إندونيسا يقدر أن 40 مليون نسمة إضافيين أي (20%) من عدد السكان قد سقطوا في هوة الفقر بسبب هذه الأزمة.
أما بخصوص الاستحقاقات والتحديات المطروحة على الاقتصاد العربي فإن الدكتور الحمش يقدم معطيات كثيرة يمكن من خلالها الكشف عن الوضع الاقتصادي العربي، ومن ثم يمكن الحديث من خلالها عن المستقبل.
أولاً «ليس هناك اقتصاد عربي واحد، وقد توزعت الاقتصادات العربية حتى منتصف الثمانينات إلى دول تأخذ بهذا القدر أو ذاك من التخطيط المركزي، ودول تحكمها علاقة السوق.. لكن الفجوة بعد ذلك تقلصت لأن السياسات الاقتصادية العربية بدأت تأخذ منحى «يقربها أكثر من اقتصاد حرية السوق مع المحافظة على قدر من تدخل الدولة يتفاوت من بلد إلى آخر، ويصل في بعض البلدان العربية تطبيق سياسات الانفتاح إلى حد خصخصة القطاع العام، والانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، وتوقيع اتفاقات الشراكة الأوروبية، في حين تأخذ دول عربية أخرى بأسلوب التدرج وعدم المغالات في الانفتاح..».
هناك مجموعة من التحديات حسب د. الحمش تواجه الدول العربية، أهمها التخطيط لسياسات تنموية اقتصادية واجتماعية تحقق النمو المطلوب، وتقف في وجه التحولات العالمية الضاغطة، وكذلك مسالة العلاقات الاقتصادية والتجارية والمالية بين الدول العربية وبينها وبين العالم الخارجي.
بالنسبة للتنمية والسياسات الاقتصادية يرى د. الحمش، أن عمليات الاندماج في الاقتصاد العالمي وتطبيق وصفات صندوق النقد والبنك الدوليين، جعلت أداء الاقتصاديات العربية يتراجع منذ منتصف الثمانينات وحتى نهاية 1999م، «بحيث أصبح الوزن النسبي للاقتصادات العربية في الناتج العالمي والتجارة الدولية عام 1997م، أسوأ بكثير من الوضع في منتصف الستينات. (سنة 1965 كان الناتج المحلي الإجمالي لمجموع الدول العربية لايزيد عن (1.4%) من الناتج العالمي، وشكلت الصادرات العربية نحو (4.1%) من الصادرات العالمية)».
إن سياسة التأهيل للاندماج في الاقتصاد الرأسمالي العالمي، قد زادت من تعقد المشكلات الاقتصادية، وفاقمت الأوضاع الاجتماعية، «فبينما كانت معدلات النمو في الفترة ما بين (1985م ـ 1990م) تبلغ 5% من المتوسط، انخفضت عام 1991م إلى ما دون الصفر (-2.3%)، ثم وصل معدل النمو عام 1998 إلى (-2.5%). أما نصيب الفرد العربي من الناتج المحلي الإجمالي، فقد انخفض عام 1990 إلى (1842) دولاراً، بعد أن كان عام 1975 (2327 دولار)»، مع تفاوت في مستويات التنمية بين الدول العربية. وبينما يبلغ نصيب الفرد من الناتج الإجمالي في الإمارات العربية (15300 دولار) سنة 1987م، فإنه ينخفض ليصل (513 دولاراً) سنوياً فقط في موريتانيا. وبشكل عام هناك «حوالي 70 مليون نسمة يعانون من الحرمان والفقر البشري» في العالم العربي، في المقابل جاء في تقرير التنمية البشرية لعام 1998م، أن في البلدان العربية (11) شخصاً من بين أغنى (255) شخصاً في العالم ويملك هؤلاء الأحد عشر شخصاً 78 مليار دولار، وهي تعادل الناتج المحلي الإجمالي لكل من مصر والمغرب التي يبلغ عدد سكانهما معاً أكثر من 88 مليون نسمة».
لقد قادت السياسات الاقتصادية في الدول العربية ـ كما يؤكد د. الحمش ـ خاصة تلك التي تم اتباعها في إطار اقتصاد حرية السوق، إلى تنامي الفقر واتساعه، وإشاعة البطالة، في حين انحسرت الطبقة المتوسطة وانحدر مستوى شريحة كبيرة منها..»
أما بخصوص المستقبل فإن د. الحمش ليس متفائلاً بل يرى بأن الصناعات التحويلية لن تتمكن من النمو أمام الانفتاح المتزايد والانخراط في السوق العالمية، كماýأن صناعات أخرى لن تصمد أمام المنافسة. لذلك يرى أن ليس أمام الدول العربية إذا أرادت أن يكون لها مكانها في العالم سوى العودة إلى أصول العمل العربي المشترك، واستكمال ما بدأ في إقامة منطقة للتجارة الحرة، باتجاه إقامة تكتل اقتصادي قومي قوي، يستطيع أن يقف في مواجهة التكتلات الإقليمية الأخرى. وأمام تنامي التحديات، فإن الخيارات أمام العرب أضحت محدودة، فإما النهوض معاً وإما الضياع في متاهات العولمة الاقتصادية والثقافية..
الأستاذ أديب نعمة الذي عقب على ورقة د. الحمش. تحدث عن إشكاليات تعريف العولمة وانتقد الاقتصار على البعد الاقتصادي، معتبراً العولمة «ظاهرة ذات طابع مركب وشامل»، وعندما يتم تناولها بالتحليل من زاوية الفكر التنموي فهذا الفكر «هو بدوره فكر مركب يندمج فيه الاقتصاد والاجتماع والثقافة والسياسة». وأكد على ضعف عناصر الخيارات البديلة في العالم العربي، ما يجعلنا في وضع المتلقي. أما البديل بالنسبة له فيكمن في صياغة مشروع تنموي عربي شامل تندمج فيه بشكل خلاق عناصر التقدم والحداثة، وعناصر العدالة الاجتماعية مع الديمقراطية السياسية والمشاركة الشعبية والاعتراف بالمجتمع المدني كشريك كامل الحقوق في العملية التنموية..
الورقة الثانية في هذا المحور أعدها الأستاذ ياسين سعيد نعمان رئيس مجلس النواب اليمني السابق، وجاءت تحت عنوان «الخصخصة ومتطلبات التنمية والتوزيع والعدالة الاجتماعية»، لكن ولتعذر حضوره لأسباب صحية فقد ألقاها بدلاً عنه الدكتور محمود عبد الفضيل الأستاذ في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، تحدث نعمان في البداية عن تطور مفهوم الخصخصة «الذي شهد جملة من التغييرات ذات الدلالة.. امتدت من فوق مساحة واسعة من الوظائف التي استهدفها بدء من وظيفته التي تعهد بها كفاءة التشغيل عبر إدارة المشروعات العامة وانتهاء بإحلال الملكية الخاصة محل الملكية العامة.. أما المعنى أو المفهوم الذي يراد تطبيقه في البلاد النامية، فهو التحول إلى الملكية الخاصة عن طريق بيع المشروعات بكاملها إلى القطاع الخاص. وهذه الخصخصة تعني ـ حسب نعمان ـ «القضاء على الملكية العامة وإعادة توزيع الثروة لصالح أصحاب رؤوس الأموال..». وهذا التحول بالنسبة لدعاة الخصخصة ينطلق من اعتبار الكفاءة في التشغيل من ناحية، واستجابة من ناحية أخرى لحاجة البلدان النامية للاندماج الكامل في السوق الرأسمالية العالمية. وهذا ما جعل نقل الملكية العامة ـ كما يقول نعمان ـ إلى القطاع الخاص أحد العناصر الرئيسية لبرنامج الإصلاح الاقتصادي الذي استقرت عليه المؤسسات الدولية خاصة البنك وصندوق النقد الدوليين. ويبدو أن الإصلاح وكأنه يتم بإرادتين مقموعتين: الأولى إرادة نخب الحكم والمقموعة من قبل المؤسسات الدولية التي تلوح في وجهها بالإصلاح السياسي كلما تباطأت في تطبيق وصفاتها، والثانية الإرادة الشعبية المقموعة من قبل النخب كلها تململت من جراء ما يصيبها من معاناة بسبب التطبيق الحرفي لتلك الوصفات».
إن المضي في تطبيق سياسة الخصخصة دون مراعاة البعد الإنساني ـ الذي لايمكن أن تتحقق تنمية حقيقية دونه ـ سيكون لها تأثيرات سلبية في المدى الطويل، كما أكد نعمان، لذلك لابد من الاهتمام بالبعد الإنساني وحمايته «باعتباره جزء مندمجاً في هذه العملية برمتها».
إن دعاة الخصخصة ـ كما يرى نعمان ـ يعتبرونها شرطاً ضرورياً لنجاح خطط الإصلاح الاقتصادي، لكنهم لم يتحدثوا عن «كيفية تحديث وتجديد القاعدة الاقتصادية الانتاجية من أجل المنافسة في ظل ضعف التراكمات الداخلية وحاجتها إلى زمن طويل لبناء منظومة متكاملة من العناصر الضرورية في مجال الإدارة والتنظيم وتدريب القوى العاملة الماهرة..»، حتى يتم استيعاب المشاكل والاختلالات الاقتصادية والاجتماعية، التي تنشأ عن الخصخصة. لذلك يقترح نعمان أن يتم معالجة دور القطاع الخاص في التنمية الاقتصادية بمراعاة مجموعة من المعطيات الخاصة بكل بلد، مثل مستوى التطور ودرجته واستعداد القطاع الخاص الوطني لأداء وظيفته. أما بخصوص القطاع العام في العالم العربي، فقد أكد ياسين سعيد نعمان بأنه تحمل «العبء الأكبر من تمويل عملية التنمية الاجتماعية في مجال التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، وإقامة البنية التحتية والهياكل الأساسية للاقتصاد..» كما لعب هذا القطاع دوراً مهماً في خلق ونمو والمحافظة على الطبقة الوسطى.
وإذا ما تتبعنا مسيرة الخصخصة منذ بداية الثمانينات سنجد الأهداف الاقتصادية المتوخاة ـ كما يقول نعمان ـ تعثرت للأسباب نفسها التي واجهت التنمية في هذه البلدان أثناء سيطرة القطاع العام.. لذلك يعتقد بأن سياسة الخصخصة في المدى المنظور على الأقل لن تشكل «قوة دفع حقيقية للاقتصادات الوطنية لهذه الدول، بل إن ما سيترتب عليها من سلبيات سيلتهم الايجابيات ما لم نأخذ بعين الاعتبار ما يلي:
ـ أن تسير في طريق الخصخصة التلقائية أو الهيكلية، باعتبارها إصلاحاً لوظيفة الدولة.. مع توزيع العبء مع القوى المستقلة في الحياة الاقتصادية والمنظمة...
ـ الربط المحكم بين الفعالية والعدالة الاجتماعية في كل مراحل هذه العملية واعتبارهما هدفين متلازمين.
ـ أن تسير عملية الخصخصة جنباً إلى جنب مع الإصلاحات الاقتصادية والمالية والإدارية الأخرى».
وفي مداخلته تعقيباً على ورقة نعمان، اعتبر د. عبد الفضيل أن النظام الدولي الجديد يأخذ شكل الثالوث: «تحرير اقتصادي، خصخصة، عولمة»، وكل شعار يفضي إلى الآخر، والنتيجة «الاندماج القسري في الاقتصاد العالمي والدخول في «مدارات العولمة». وأشار إلى أن الخصخصة على النحو الذي نشهده في العديد من الأقطار العربية «تهدف إلى تقليص وتهميش دور الدولة وتفكيك أوصالها». كما أن عمليات الخصخصة عملت «باتجاه تلبية شروط تحرير التجارة»، ولم تراعي الحاجة الداخلية للإقتصاد المحلي، ولم تهتم بجذب الرأسمال العربي لاستثماره. ودعا د. عبد الفضيل إلى الاهتمام بالكفاءة الاجتماعية،لاستيعاب الشروخ والتصدعات الاجتماعية الناجمة عن الإصلاح الاقتصادي والخصخصة، لأن قوة الأمم في نظره تقاس بدرجة «التماسك الاجتماعي»، وليس بازدياد درجة الانفصامات الاجتماعية..».
وبشكل عام فإن «مصدر كل الشرور في مسيرة الاقتصاد العربي ـ يقول د. عبد الفضيل ـ منذ منتصف السبعينات وحتى الآن يكمن في ذلك الحلف «غير المعلن» القائم بين البيروقراطية الفاسدة في كواليس الحكومة وقطاع الأعمال العام، من ناحية وبين عناصر «الرأسمالية» والطفيلية والمتريعة (نسبة إلى الريع) التي توجد بقوة بين أعطاف قطاع الأعمال الخاص من ناحية أخرى..».
ولم تكن هذه هي المداخلة الوحيدة بل تتابعت المداخلات في هذا المحور لكل من د. علي الزبيدي الذي رأى أن الخصخصة مفروضة على العالم العربي، كذلك د. موسى الضرير الذي اعتبرها ذات أهداف سياسية، وأن العالم العربي لايحتاج إلى خصخصة وإنما إلى استثمارات جديدة يقوم بها كل من القطاع الخاص والعام جنباً إلى جنب. ودعا إلى أخذ الحذر والحيطة، وأخذ العبرة من تجارب الخصخصة الآسيوية وكذلك تجارب مصر في هذا المجال. أما د. عارف دليلة، فدعا إلى إصلاح القطاع العام لتحويله إلى قطاع حيوي فاعل وليس تخصيصه. كما انتقد د. غسان إبراهيم سياسة الخصخصة وأشار إلى أن الباحث نعمان تحدث طويلاً عن الخصخصة ولم يول الاهتمام الكافي للعدالة والتوزيع الصحيح.
الورقة الأولى في هذا المحور أعدها د. عبد الإله بلقزيز الأستاذ بجامعة محمد الخامس (الرباط) تحت عنوان: «إشكالية العلاقة بين عولمة الثقافة ومتطلبات الخصوصية القومية». بعد النقاش القاسي للكتابات العربية حول العولمة باعتبارها «انطباعية سريعة، وشعارات معبأة في كل وقت وحين» يستعرض د. بلقزيز، المتغيرات التي عرفها حقل الثقافة في زمن العولمة، وكيف تأثر هذا الحقل بوسائل وتقنيات الاتصال الرقمية والإلكترونية، بحيث تعرض المجال الثقافي لغزو كثيف من طرف هذه التقنيات المتطورة. وقد ترتب عن هذا الوضع مجموعة من التحديات، وفرض على المجال الثقافي العالمي إجراءات تنسجم مع ثقافة القوى المهيمنة على العولمة، وتتجه نحو اختزال التعدد الثقافي العالمي وتدفع به نحو التقولب في نمط ثقافي وحيد على الطريقة الأمريكية، وهذه العولمة أو الأمركة الثقافية، هي ـ بحسب الباحث ـ «عدوان مزدوج: عدوان على الخصوصية الثقافية لكل مجتمع وشعب وأمة، وهي عدوان بنفس الوقت على الكونية الثقافية الجامعة بين سائر الثقافات».
أمام هذا الوضع أكد د. بلقزيز أهمية البحث عن صيغ بديلة للعلاقة بين الثقافات العالمية تُحترم فيها الخصوصيات الثقافية والحضارية، وتشجع الممانعة الثقافية، وتقف في وجه الأمركة الثقافية التي تسعى لابتلاع الثقافات المحلية المتنوعة لأن «الكونية أو العالمية الثقافية غير قابلة للكينونة إلا في سياق شراكة ثقافية متوازنة بين الأمم والثقافات».
د. أحمد برقاوي الذي عقب على ورقة د. بلقزيز اعتبر موضوع الورقة ذو أهمية نظرية وعلمية، لكنه انتقد معالجة الباحث المتسرعة للموضوع، ما جعل أهمية الموضوع لاتظهر كما هو مطلوب. كما اعترض على الانتقادات التي وجهها بلقزيز للكتابات العربية حول العولمة الثقافية، وأشار إلى أن مجموعة من البحوث المهمة والعميقة حول الموضوع كانت قد ألقيت في مؤتمر «صراع الحضارات أم حوار الثقافات» الذي عقد في القاهرة سنة 1997م. كما انتقد خلو الورقة من الحديث عن الأمن الثقافي، مؤكداً على كون الأمن الثقافي المنشود لايتحقق إلا عبر مقاومة كل أشكال الاستبداد والقهر السائدة في الوطن العربي، بدء بالإستبداد السياسي، مروراً بالاستبداد الثقافي، وانتهاء بالاستبداد الاقتصادي..
الورقة الثانية في هذا المحور خصصت لدراسة والكشف عن أثر التحولات العالمية على التركيب الاجتماعي في الوطن العربي، أعدها د. أحمد بعلبكي الأستاذ في الجامعة اللبنانية، لكنها لم تناقش بسبب تعذر مشاركته في المؤتمر.
الورقة الأخيرة أعدتها الدكتورة أماني قنديل المدير التنفيذي للشبكة العربية للمنظمات الأهلية، تحت عنوان «انعكاسات العولمة على المجتمع المدني: دمج أم إقصاء»، في البداية تساءلت الباحثة عن سبب قلة الكتابات حول الموضوع مع كثرة الكتابة حول العولمة. مع أن الموضوع يفجر مجموعة من الأسئلة مثل: هل العولمة تحمل تهميشاً للمجتمع المدني والمزيد من الدمج؟، وما هي الفرص والمخاطر التي تحيط بالمجتمع المدني في إطار العولمة؟، وما هي الأدوار الجديدة للمجتمع في إطار هذا الوضع؟، وما هي أبرز التحديات الثقافية والسياسية التي يتوقع أن يواجهها المجتمع في العشرين سنة القادمة؟
هذه الأسئلة شكلت المحاور التي عالجت د. قنديل الموضوع من خلالها، ضمن عناوين ثلاثية هي: 1ـ المنطلقات، 2ـ انعكاسات العولمة على المنظمات الأهلية، 3ـ هل يمكن للمجمع المدني مواجهة مخاطر العولمة؟.
بالنسبة للمنطلقات اعترفت الباحثة بصعوبة صياغة تعريف دقيق للعولمة، نظراً لتعدد التعاريف وتأثرها بالانحيازات الأيديولوجية، لكن هناك ـ كما تقول ـ أربع عملياتýاساسية للعولمة يتفق حولها الباحثون، وهي: المنافسة بين القوى العظمى، الابتكار التكنولوجي، انتشار عولمة الانتاج، والتبادل والتحديث، كما أن هناك عمليات تكشف عن جوهر العولمة وهي: 1ـ انتشار المعلومات وشيوعها بين الناس، 2ـ تذويب الحدود بين الدول، 3ـ زيادة عمليات التشابه بين الجماعات والمجتمعات والمؤسسات. وهذه المعطيات أو العمليات، لها دلالتها الخاصة بالنسبة للمجتمع المدني بشكل عام والمنظمات الأهلية بشكل خاص.
لقد تعمق الوعي بالذات، وبدأ يتشكل مجتمع مدني عالمي ونخبة عالمية تنطلق من قيم ومبادئ واحدة مثل الديمقراطية، والاهتمام بحقوق الإنسان، والتنمية الاجتماعية الشاملة. وأصبحت «شبكات Net work لها سمة عالمية.. وجوهر هذه المنظمات واحد، فهي غير ربحية، تسعى للنفع العام، ولا توزع الأرباح على مجالس إداراتها، ومستقلة ذاتياً، وتمثل قطاعاً ثالثاً بين الحكومة والقطاع الخاص..».
وبشكل عام هناك أربع اقتراحات لتعريف العولمة، 1ـ الاقتراب الاقتصادي (العولمة الاقتصادية)، ومن مظاهره «أن العالم تحتكره (200) شركة عملاقة عبر قومية (متعددة الجنسيات)، منها (172) شركة في خمس دول فقط (الولايات المتحدة الأمريكية، اليابان، فرنسا، وألمانيا وبريطانيا). وهذه الشركات مستمرة في إحكام قبضتها على الاقتصاد العالمي»، 2ـ الاقتراب الثقافي، ويشير إلى كون الثقافة أصبحت سلعة عالمية تسوق كباقي السلع، 3ـ الاقتراب السياسي. ثم أخيراً اقتراب يركز على البعد الاجتماعي، حيث بدأ يبرز دور المجتمع المدني ومؤسساته الأهلية وحركاته الاجتماعية.
إن العولمة كما أكدت الباحثة «لحظة مليئة بالمخاطر الثقافية والسياسية والاجتماعية الكبرى، ولها انعكاسات عميقة على مفهوم الدولة والعدالة الاجتماعية، ولابد أن تتم معالجة المخاطر إلى جانب الفرص التي تقدمها هذه العولمة. أما بخصوص انعكاساتها على المنظمات الأهلية، فقد تحدثت د. قنديل عن الدعم الذي تلقاه المنظمات الغير حكومية لجعلها تقوم بدور تنموي يواكب أو يخفف من الآثار السلبية للعولمة، ظهر ذلك في الخطاب العالمي الذي بدأت تكرسه مؤتمرات الأمم المتحدة التي عقدت خلال السنوات الأخيرة. وهي تروج لما سمي بالثقافة المدنية Civic Culture»، التي «تؤكد بالأساس على احترام قواعد الديمقراطية وحقوق الإنسانية، وما يرتبط بذلك من قيم التسامح والحوار وقبول الاختلاف، والمؤسسية، والشفافية والمحاسبة..». ومن مظاهر شيوع هذه الثقافة كثرة المنظمات الأهلية التي أنشئت خلال العقدين الأخيرين، «ففي مصر مثلاً كان هناك منظمة واحدة عام 1983م (المنظمة العربية لحقوق الإنسان)، وبدأ عام 2000م وعلى الساحة 26 منظمة أو مؤسسة مدنية تتبنى قضايا حقوق الإنسان، وتدافع عن حقوق الفئات المغبونة..». وعليه فإن تأسيس الشبكات العالمية والإقليمية، والمنظمات المحلية كما ترى د. قنديل «هو أحد الانعكاسات المهمة للعولمة على المجتمع المدني.. ويقدر عدد المنظمات غير الحكومية متعددة الجنسيات بحوالي 15 ألف منظمة متعددة الجنسية، ثم تأسيس 90% منها في العقدين الأخيرين من القرن العشرين».
وأهم ما يميز هذه المنظمات عولمة قوانينها وأهدافها، وهذا بدوره ينعكس على المجتمع المدني، ويثير عدة إشكاليات هي مدار البحث في عدد من المؤتمرات والندوات، لذلك ترى الباحثة أن التحرك من جانب المجتمع المدني لمواجهة مخاطر العولمة يجب أن يكون في عدة اتجاهات ومستويات أهمها:
1ـ مواجهة المنظمات غير الحكومية لأنماط الفقر الجديدة، بتأسيس شبكات الأمان وخلق فرص عمل ونقل المهارات.
2ـ الانخراط في دور تنموي شامل.
3ـ استثمار إيجابيات العولمة لدعم الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.
4ـ مواجهة الهيمنة الرأسمالية.
5ـ الإلتزام بمبدأ تحقيق العدالة الاجتماعية..
بعد هذه الجولة في رحاب الأوراق، والبحوث المقدمة، لايحق لنا أن ندعي بأن إحاطة الباحثين بالوضع العالمي كانت ضعيفة أو متواضعة، بل نستطيع أن نؤكد بأن وصف هذه التحولات العالمية ومظاهرها قد استحوذ على مجمل ما جاء في هذه الأوراق دون استثناء، مع تكرار الدعوة والتنبيه للمخاطر والسلبيات الواقعة فعلاً أو المحتملة، لكن حبذا لو تم الحديث بنفس الحجم عن مستقبل الوطن العربي وعن التأثيرات الأولى التي بدأت تظهر فعلاً خلال هذه التحولات العالمية، ليس هناك إحصائيات أو أرقام تكشف عن الوضع العربي في مجالاته المختلفة وخصوصاً في المجال الاقتصادي، فهل يمكن من خلال العموميات أو إيراد إحصائيات تتعلق باقتصاديات دول جنوب شرق آسيا أن نعرف الوضع الاقتصادي العربي، هذا الشح في الإحصائيات العربية هل مرده إلى ضعف البحوث وسرعة إنجازها أم أن هذه الإحصائيات غير متوفرة؟ وهنا نسأل ما هي وظيفة هذه المراكز البحثية إذن؟
لقد جاءت البحوث متخمة بوصف التحولات العالمية، لكنها في المقابل احتوت على مادة هزيلة بخصوص الوضع داخل العالم العربي ومستقبل دوله السياسي والاقتصادي والاجتماعي، مع أن المفهوم من شعار المؤتمر هو رصد مستقبل العالم العربي في ظل هذه التحولات.
هذا القصور أو الهزال الذي أصاب مجمل البحوث المقدمة في هذا الجانب قد لايرجع فقط إلى سرعة الإنجاز «المحتملة»، وإنما وحسب ما لاحظناه في أكثر من مؤتمر، تابعناه وكتبنا حوله في المجلة، أن الأسماء المشاركة هي نفسها تتكرر في أكثر من مؤتمر وكأن العالم العربي لايوجد فيه سوى كوكبة مكونة من عشر أو أكثر قد يزيدون قليلاً أو ينقصون، هؤلاء يطلب منهم في كل مؤتمر أن ينجزوا بحوثاً ويعالجوا مواضيع تتشابك وتتداخل فيما بينها، لذلك لانجد فروقاً كبيرة بين البحث الذي قدمه المفكر نفسه في هذا المؤتمر والبحث الذي كان قد قدمه قبل سنة في مؤتمر أو ندوة أخرى، ولدينا الأدلة على ما نقول ولو شئنا لذكرنا أمثلة وأسماء، لكن غرضنا هو إبداء هذه الملاحظة عساها تصل المشرفين على تنظيم المؤتمرات الفكرية في العالم العربي، فيغيروا هذه السياسة التي تعتمد على تفضيل الأسماء المشهورة دون اعتبار أن هؤلاء قد تستنفذ طاقاتهم فلا يقدمون أي جديد يذكر، اللهم إلا إعادة صياغة أفكارهم القديمة بأسلوب جديد.
ملاحظة أخرى تتعلق هذه المرة بالمقترحات التي قدمت في المحور السياسي، نعتقد أن المثقفين في العالم العربي وأهل العلم قد تمرسوا بما فيه الكفاية في مجال النقد والاحتجاج على هذا الواقع العربي المتردي سياسياً، فلم يعد أحد يشك في ذلك حتى من بيدهم مقاليد السلطة نراهم وفي أكثر من دولة عربية يتحدثون الآن عن الفساد وضرورة التغيير، لكن، أما آن لعدد من المثقفين العرب أن يتحرروا من أحلامهم حول الوحدة السياسية العربية، لسنا متشائمين ولا متفائلين زيادة عن اللزوم، ولكن معطيات الواقع لم تعد تتحمل مثل هكذا حلم!؟ لسنا مضطرين للإجابة عن لماذا وكيف؟ لأن الموضوع أكل الدهر عليه وشرب، وعلينا أن نتقدم بمقترحات واقعية قريبة المنال، يمكن فعلاً الاستفادة منها، على ألا تكون إنشاء منظمات أو مؤسسات أو لجان عربية جديدة كما اقترح د. حامد خليل، لأن ذلك حتى لو تحقق، فلن يؤدي في النهاية إلا إلى إرهاق الميزانيات العربية بمصاريف جديدة لموظفين جدد لاعمل لهم ولا فاعلية ترجى من وراء المؤسسات أو الهيئات التي يشرفون عليها، ولدينا في الجامعة العربية خير مثال لمن أراد المثال؟
وكما قلنا سابقاً لم تقدم البحوث الاقتصادية خاصة تلك التي تحدثت عن الخصخصة في العالم العربي إحصائيات في هذا المجال ولم تتعرض للتأثيرات الحاصلة أو المحتملة إلا باقتضاب شديد، مع أن سياسة الخصخصة بدأت منذ أكثر من عقد من الزمن في عدد من الدول العربية.
كما لم تتحدث عن مخاطر تسلل الرأسمال العالمي المشارك، أو الذي تطالب الحكومات العربية بمشاركته بحجة تشجيع الاستثمار، خصوصاً في قطاع الخدمات الضرورية، كالاتصال والصحة والتعليم، حيث بدأت الأسعار ترتفع لتصل مستوى مثيلاتها في الدول الصناعية، لكن هل ارتفعت الأجور داخل الدول العربية موازاة لذلك؟ هناك مصالح اقتصادية تتقاسمها الشركات المتعددة الجنسيات مع الوسطاء التجاريين الذين ينشئون بدورهم شبكات مصالح ينخرط فيها رجال الحكم والسياسة، وهذا الأخطبوط يحكم قبضته على الاقتصاد الوطني، لذلك نتفق مع د. غسان إبراهيم، حينما انتقد ورقة ياسين سعيد نعمان التي تحدثت عن الخصخصة طويلاً لكنها لم تهتم بجانب العدالة الاجتماعية.
ملاحظة أخيرة كنا قد أشرنا إليها في متابعات سابقة، وهي: ما فائدة هذه المؤتمرات والندوات والبحوث المنجزة والمقدمة، إذا لم تعرف طريقها نحو مراكز اتخاذ القرار في العالم العربي؟ هناك شعور بالإحباط لدى هذه النخب الفكرية التي تعد وتنجز هذه البحوث والدراسات لأنها على يقين من أن مقترحاتها وآرائها المقدمة ليست سوى صيحة في واد سحيق، لا صدى لها في خطط أو سياسات اقتصادية أو اجتماعية في الحاضر أو المستقبل. فهذه البحوث والدراسات ينجزها مثقفون ومفكرون بارزون على الساحة العربية، ويتداولونها بينهم داخل أروقة المؤتمرات وتتابع الصحف والمجلات بعض فعالياتها، ثم يحال كل ذلك إلى رفوف النسيان؟!
لن نتورط في قول «يجب» أو «ينبغي»، لأن عدداً كبيراً من الأسئلة في العالم العربي أصبحت بحاجة إلى إعادة صياغة جديدة، ترتكز على: منطلقات ومفاهيم، مغايرة لما تم اجتراره لحد الآن، وأكثر انسجاماً مع الواقع والحقيقة؟!.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.