تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

القول الفلسفي من الاتباع إلى الإبداع

محمد همام
الكتاب: القول الفلسفي.. المفهوم والتأثيل
الكاتب: الدكتور طه عبد الرحمن
الناشر: المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء.
سنة النشر: الطبعة الأولى، 1999م.


ـ 1 ـ

يندرج كتاب «القول الفلسفي: كتاب المفهوم والتأثيل» في سلسلة مشروع الدكتور طه عبد الرحمن الذي عنونه بفقه الفلسفة، إذ صدر الكتاب الأول بعنوان «فقه الفلسفة: الفلسفة والترجمة». ومدلول فقه الفلسفة عند الدكتور طه عبد الرحمن هو: «أن العلم بالفلسفة لايحصل بطريق الفلسفة من حيث هي مجال لكثرة السؤال، وإنما يحصل بطريق العلم من حيث هو مجال لإحكام السؤال عن الفلسفة»، وقد وضع الدكتور طه لهذا العلم اسم «فقه الفلسفة» إذ فضله على غيره من الأسماء، لإيجابه النظر في النص الفلسفي على مقتضى سلوك واضعه، عناية بالجانب العملي، ولنزوله مرتبة في العلوم تضاهي مرتبة الفقه شرفاً، يقول: «ونهضنا بتحديد موضوعه، وهو الظواهر الخطابية والسلوكية للفلسفة، وبتحديد منهجه، وهو جمع متكامل من آليات إجرائية مستمدة من آفاق علمية مختلفة، كما نهضنا ببيان فائدته، وهي الحصول على ملكة التفلسف والوصول إلى الإبداع الفلسفي، وببيان فلسفته، وهي التأمل النقدي في مختلف مكوناته العلمية مع التوسل بقيم مخصوصة تحدد رؤيته وتدوم على تصويبها».
ولما كان فقه الفلسفة، في ضوء ما تقدم، هو نظر في الخطاب الفلسفي بما يقتضيه من ترجمة وأقوال ومضامين، كما ينظر في السلوك الفلسفي بما يوجبه من هيئات وأفعال وصفات تخالف أو توافق هذه الترجمات والأقوال والمضامين، فقد قسم الدكتور طه مشروعه إلى أربعة أقسام هي: الترجمة والفلسفة، والعبارة الفلسفية أو القول الفلسفي، والمضمون الفلسفي، والسيرة الفلسفية.
وبعدما عرض المؤلف نظرته للترجمة، وقدم لها تصوراً متكاملاً في كتاب «فقه الفلسفة: الفلسفة والترجمة»، أخرج الجزء الثاني من مشروعه الفلسفي «القول الفلسفي» وينقسم إلى ثلاثة كتب: كتاب المفهوم والتأثيل، وكتاب التعريف والتمثيل، وكتاب الدليل والتخييل، وصدر لحد الآن الكتاب الأول الذي نحن بصدد عرضه وقراءته. ومفهوم «التأثيل» في الكتاب يستعمله طه عبد الرحمن بمعنى خاص، ولايشترك في استعماله مع استعمال غيره إلا في المدلول اللغوي لهذا اللفظ وهو «التأصيل» (ص14).
وفي التمهيد حاول المؤلف الإجابة عن سؤال محوري ظل يؤرقه في كثير من بحوثه وهو «كيف تحرير القول الفلسفي؟».
وتأتي مشروعية هذا السؤال «التحرري» عند طه عبد الرحمن لما رأه ولمسه من استغراق القول الفلسفي العربي في التقليد، فالمتفلسف العربي لايصوغ الألفاظ إلا ما صاغه غيره ولا يستعمل من الجمل إلا ما استعمله غيره، ولايضع من النصوص إلا ما وضعه.. وغاب عن ذهن هذا المتفلسف حقيقة اختصاص كل أمة بمذاهب في الاصطلاح والتركيب والبيان. وهذا أمر لم يغب عن أذهان العلماء المتقدمين، فابن سبعين الصوفي مثلاً في كتابه «بد العارف» سبق أن انتقد ابن رشد الفيلسوف على تقليده أرسطو في كل شيء، حتى لو قال: إن القائم قاعد في زمان واحد، لقال به واعتقده! وما قيل في ابن رشد قديماً يقال في متفلسفة اليوم من العرب، فهم «يؤولون» إذا أوَّل غيرهم، و«يحفرون» إذا حفر و«يفككون» إذا فكك.. أصاب في ذلك أم أخطأ، فقد تجد الواحد منهم ينتقل بين مذاهب شتى، من التوماوية إلى الوجودية إلى الشخصانية إلى المادية الجدلية.. كما لو أن أرض الفكر لم تكن واسعة فيتفسحوا فيها (ص12).
وتطرق الدكتور طه في التمهيد إلى ثلاث نقط محورية هي: رفع التقليد عن القول الفلسفي، والرد على أهل التقليد في القول الفلسفي، وجوانب الاجتهاد في القول الفلسفي «انظر تجد» الذي اقترحه لمقولة ديكارت.
ففي رفع التقليد عن القول الفلسفي عمل الدكتور طه على دحض فكرة «الانخراط في الحداثة العالمية» و«الاستجابة للشمولية الفلسفية». واكتشف ما يعتري هذه المقولات من زيف وتناقض، فهي تعبر عن ضيق تصور وانحصار رؤية لإمكانات الإنسان ولأطراف عقله وآفاق مصيره. ثم إن مدعيها إنما يتذرعون بهذا لتزيين كسل عقلهم، وشلل إرادتهم، فالانخراط في الحداثة بالنسبة لأولئك إن هو إلاّ تقليد ومحاكاة وانمحاء في الغير! إن مقولة «الاستجابة للشمولية الفلسفية» تتأسس عند د. طه بالنسبة لأصحابه، على تصور خاطئ يرون من خلاله أن المفاهيم والأحكام الفلسفية بلغت النهاية في الشمول، حتى تجاوزت العلم والدين!
وسوء التفلسف الذي ابتليت به أمتنا، هو الذي أرق الدكتور طه منذ مدة، وشغل وقته، فهو يتعجب: كيف لأمة جاءت بغير علم واحد وبغير معرفة واحدة لايقدر فلاسفتها على أن يقولوا قولاً فلسفياً لم يقله غيرهم، ولا أن يسمعوه ما لم يطرق سمعه، فاكتفوا بالأخذ عنه والحفظ والتلقين، بضاعة مردودة إلى أهلها. وعليه فإن التصدي لآفة التقليد الفلسفي، لن يتحقق إلا بالوقوف على أسرار القول الفلسفي عند أهله المجتهدين لا عند ناقليه المقلدين. والوقوف عند تلك الأسرار لايتحقق بطريق التفلسف، بل بطريق العلم، حتى يصبح النظر في الفلسفة كما ينظر العالم في الظاهرة، رصداً ووصفاً وشرحاً.
إن مفهوم الفلسفة بنظر الدكتور طه عبد الرحمن، ليس قولاً وحسب، بل هو قول مزدوج بالفعل، وخطاب مزدوج بالسلوك. والبحث في الفلسفة على هذا المقتضى هو الذي يسميه «فقه الفلسفة» لما يفيده لفظ «فقه» بتفرد، من الجمع بين إفادة العلم وإفادة العمل.
واستعمل المؤلف لفظ «القول» من منطلق خصوصية القول الفلسفي، إذ ليس كل لفظ لفظاً فلسفياً، إنما اللفظ الفلسفي بحق هو المفهوم! ولا لفظ سواه. كما يستعمل الدكتور طه «المفهوم الفلسفي» و«اللفظ الفلسفي» في معنى واحد. كما أنه لايعتبر كل جملةٍ جملةً فلسفية، وإنما الجملة الفلسفية هي التعريف، والنص الفلسفي هو الدليل، فالقول عنده إذن: مفهوم وتعريف ودليل. ووضع لهذا القول مراتب إشارية.
وعليه وقف الدكتور طه على أن القول الفلسفي الواحد فيه من العبارة بقدر ما فيه من الإشارة، أو قل عبارته تتوسل بإشارته. وهذا الأمر لم يدركه بعض المتفلسفة المحدثين من العرب، إذ اعتقدوا أن القول الفلسفي المنقول إليهم إنما هو عبارة محضة، فلما طلبوها وقعوا في الأخذ بإشارته، مما قطع عنهم طريق الإبداع الفلسفي.
وتجاوز آفة التقليد إذن يتم بتعقيب مظاهر الإشارة في القول الفلسفي المنقول، ومدى تأثيرها في عبارته. ولما يعلم المتفلسف بهذه المظاهر والآثار، استبدلها بما عنده من إشارة تضاهي تلك! وعليه نهض الدكتور طه بمهمة تقصي المظاهر والآثار الإشارية في مراتب القول الفلسفي: المفهوم والتعريف والدليل، موضحاً صفاتها وكيفياتها وضوابطها، وأعطى لكل إشارة مصطلحاً خاصاً، فإشارة المفهوم إضمار وهو «القوام التأثيلي» وإشارة التعريف اشتباه وهو «القوام التمثيلي» وإشارة الدليل مجاز وهو «القوام التخييلي».
ووضع الدكتور طه مراتب زمانية للقول الفلسفي، مؤكداً أن كل نوع من أنواع الإشارة المذكورة يطابق لوناً من ألوان الزمان المعلومة، فالإضمار للماضي والاشتباه للحاضر، والمجاز للزمن المستقبل. هذا التقسيم أبطل، من خلاله، الدكتور طه مقولة أن الفلسفة تخترق الزمان والمكان كما لو كانت تنافس التنزيل. كما أبطل اعتقاداً فاسداً تم ترسيخه ومؤداه أن معاني الفلسفة لاتبلى ولا تفنى، حتى قيل فيها من حيث الزمن «الفلسفة الخالدة» ومن حيث المكان «الفلسفة الكونية». وانتهى الدكتور طه، إثر ذلك إلى أن الزمان هو الذي يخترق الفلسفة فالأجدر بنا إذن أن نطلب في كل قول فلسفي لا ما يطويه من عموم الحكم، وإنما ما يطويه من خصوص السبب، أي بحسب مقام الكلام لأنه الدليل على زمانه، ولانسعى إلى تجريد القول الفلسفي من سببه، كما يفعل المقلدة من المتفلسفين. وبناء على هذا فإن الفيلسوف الأصيل الحامل لشحنات الإبداع والعطاء، هو الذي يأتي قوله الفلسفي بأزمانه التي هو ابنها، فيحمل مفهومه أثراً من ماضيه، ويحمل تعريفه عيناً من حاضره، ويحمل دليله أفقاً من مستقبله (ص16). وهذا ما يوصل، حقيقة، إلى ما يسميه الدكتور طه بتحرير القول الفلسفي، تحرير هو رفع لقيد التبعية لمنقول فلسفي، والانتقال إلى مأصول فلسفي يورث الاستقلال والإبداع، أو بمعنى آخر: ترك كتابة هي عين الرق إلى كتاب هي عين الحرية، إذ الحرية كتاب والكتابة حرية! والفيلسوف الحق لايكون إلا حراً طليقاً ولو وضعوا في عنقه الأغلال وعلى فمه الأقفال، وحريته هي وجوده أي «اكتب تكن»!


ـ 2 ـ

إن الانخراط في الكتابة الفلسفية الحرة اقتضى من الدكتور طه عبد الرحمن تأثيل مفاهيم، وضعها وضعاً، وفق مقتضيات المجال التداولي العربي الإسلامي. ورد د. طه على من اتهمه بأنه يمحو الفلسفة أو يقتلها. وأكد أنه يمحو بالفعل الفلسفة التي محت تفلسفنا وانمحى فيها وجودنا، أي الفلسفة المعوجة التي لايستقيم بها تفكيرنا. إن طه عبد الرحمن يطلب، من خلال مشروعه، «فلسفة حية لاموت معها، تكون معانيها مبثوثة في قلوبنا، لا في قلوب سوانا، وفلسفة مستقيمة لا اعوجاج فيها، تكون أصولها مركوزة في تاريخنا، لا في تاريخ غيرنا».
وسعى الدكتور طه إلى الرد على بعض أهل التقليد في القول الفلسفي ممن انتقدوا مشروعه، وخاصة كتابه الأول «فقه الفلسفة: الفلسفة والترجمة»، وخص بالتحديد علي حرب في كتابه «الماهية والعلاقة» (إصدار 1998)، ومحمد سبيلا في مقاله «متى يعود زمن الإبداع الفلسفي؟» (مجلة «مدارات فلسفية» عدد: 1ـ1998).
ويعتبر الكتاب أن التقليد دخل على الفلسفة العربية الإسلامية من الترجمة، لاقترانهما، حتى لا فلسفة معترفاً بها بيننا بغير ترجمة. من هنا عمل الدكتور طه في كتابه الأول «الفلسفة والترجمة» على نحت تصور جديد للترجمة، وجعلها في مراتب ثلاث:
1ـ الترجمة التحصيلية، وتتمسك بحرفية اللفظ، وغايتها التعلم من النص الأصلي والتلمذة على صاحبه، ولها مساوئ عدة كتوريث الخطأ في المعنى والتركيب..
2ـ الترجمة التوصيلية، وتتمسك بحرفية المضمون دون حرفية اللفظ. والمتعاطي لها غالباً ما يكون قادراً على استيعاب النص الأصلي بما يكفيه. ويقصد به ممارسة التعليم. وقد تُوقِع هذه الترجمة صاحبها في تهويل بعض المضامين بما يشعر المتلقي بالعجز إزاءها، فلا يعترض عليها بله أن يضع ما يضاهيها!
3ـ الترجمة التأصيلية، وهي الأولى عند الدكتور طه عبد الرحمن، وهي تتصرف في المضمون كما تتصرف في اللفظ، وغاية صاحبها رفع عقبات الفهم الزائدة عن الضرورة من طريق المتلقي، ثم إقداره على التفاعل مع المنقول بما يزيد في توسيع آفاقه ويزوده بأسباب الاستقلال في فكره.
ويرتب الدكتور طه هذه الأنواع للترجمة حسب الأهمية، عكس ما ذهب إليه غالبية المترجمين العرب قديماً وحديثاً، أي جعل التأصيلية في المقدمة ثم التوصيلية وفي الأخير التحصيلية، إذ لما نترجم نصاً بطريقة تأصيلية نجعله موافقاً للعادات اللغوية والمعرفية للمتلقي، مما يجعله قادراً على الإطلاع على المضامين التي تخالف عاداته المعرفية بطريقة توصيلية، ثم ننتقل إلى الترجمة التحصيلية التي يتبين من خلالها الطرق التعبيرية التي تمَّ بها بناء هذه المضامين في الأصل، ويكشف عن أسرارها اللسانية.
وقدم الدكتور طه نموذجاً تطبيقياً لتصوره الثلاثي للترجمة من خلال ترجمة «الكوجيطو الديكارتي»، إذ نقله من مقولة «أنا أفكر إذن أنا موجود» المعروفة إلى مقولة «انظر تجد» وفق الترجمة التأصيلية. وردَّ الدكتور طه على منتقديه بطريقته الاستدلالية المعهودة، فرصد خروجهم عن خمس قواعد معرفية ومنهجية.
1ـ مخالفة القاعدة النحوية باعتبار «انظر تجد» جملة أمرية وهي جملة شرطية.
2ـ مخالفة القاعدة الخطابية، باستنكار المنتقدين لاستعمال صيغة الخطاب في ترجمة طه التأصيلية، مع العلم أن هذه الصيغة في الكلام هي بحق أخص صيغة باللغة العربية.
3ـ مخالفة القاعدة التناظرية بتجاهل الأدلة القوية التي وضعها الدكتور طه لترجمته التأصيلية، مما جعل نقد أولئك يقع في خطأين اثنين: خطأ الغصب بالسكوت عن جملة الأدلة مع أن كل دعوى أقيم عليها دليل، تعين الاعتراض على دليلها، لاعليها، حتى إذا بطل دليلها بطلت. وخطأ الخبط، ناتج عن السكوت عن أدلة الترجمة التأصيلية ومعاييرها، مما يفتح الكلام بغير رقيب، وهذا لايسهم في بناء المعرفة ولا الإيصال إلى الحق!
4ـ مخالفة القاعدة التداولية، حين نسبوا الترجمة «انظر تجد» إلى الجمود والرجوع إلى الماضي. وفي المقابل ادعاء معاصرة لاتستقيم على قواعد لساننا. فلا يمكن أن تقوم معاصرة فينا، ولغتنا في واد وفكرنا في واد آخر، بحيث قد يجتمع فساد التعبير مع سلامة التفكير.
إن الترجمة التأصيلية التي قدمها الدكتور طه تفتح من الإمكانات الاستشكالية والاستدلالية ما لاقبل للصيغة المتداولة بها مما يدفع عنها صفة الجمود. أما صفة «المُضي» فنقاشها يقتضي الدخول في سجال إيديولوجي افتضحت نواياه، وظهر فساده، معرفة ومنهجاً فارتفع الدكتور طه عن ذلك. وحلل مقولة الماضي، من حيث الوقائع ومن حيث القيم. ودعا منتقديه، من المقلّدة، إلى التصالح مع الماضي، والتعامل معه من غير شذوذ ولا إسراف، وتجاوز الأوهام التي غرسها «ديكارت» وغيره، وهو أنه تمكن من أن يمحو من قلبه كل شيء، حتى لم يبق فيه أي شيء إلا الذي محا كل شيء ألا وهو فكره! بل إن «ديكارت» برأي الدكتور طه عبد الرحمن، لم يشك مرة في قيمة المسيحية التي هي فكره، إن في مضمونه أو في طريقته. وفي هذا رد على الذين انتقدوا الدكتور طه، بدعوى إغراقه «الكوجيطو» في الإيمان، وكأنه، أي الكوجيطو، كان إلحادياً. وفي هذا انتقاص من قيمة الفلسفة، وسوء فهم لطبيعتها، إذ ظنوا أنها تنصر بإنكار الإيمان على أهلها. وهذا ما يفسر حساسية الكثير من المقلدة من التراث وقيمه الدينية على الخصوص. إن الإيمان العظيم، في تصور د. طه عبد الرحمن، يورث التفلسف العظيم، والتفلسف العظيم يثبت الإيمان العظيم. إن الإنسان بإيمانه فيلسوف من غير أن يتفلسف، فماذا لو تفلسف؟ لقد انحطت الفلسفة، بنظر الدكتور طه، يوم خاصمت الإيمان وجحدت كل عظيم سواها. وقد خيَّل «ديكارت» للمقلدة أنه ترك إيمانه، فلبَّس عليهم، ولما اتبعوه ذهب ظاهر إيمانهم وبقي خالص إيمانه! إذ الأصل في «الكوجيطو» هو وجود الإيمان لا فقدانه. ثم إن مقولة «انظر تجد» لاتتعلق بوجود الإيمان أو عدمه، وإنما إبصار الشيء والظفر به.
ولقد اشتغل الدكتور طه في كتابه بهمِّ التأصيل أو قل التأثيل، إذ هو أولى من التقليد، فقد بنى مشروعه التأثيلي على حقائق ثلاث:
1ـ أن قيم الماضي التي تنتج أفضل من قيم الحاضر التي لاتنتج.
2ـ العمل بقيم الماضي المنتجة أولى من العمل بقيم الحاضر غير المنتجة.
3ـ التحقق بالاجتهاد في ما مضى من القيم أولى من التمسك بالتقليد في ما استجد من القيم.
والتأصيل عند الدكتور طه عبد الرحمن اجتهاد. كما أن التأصيل على خطئه أفضل من التقليد الذي يعتبره المقلدة تحديثاً على صوابه، لأن فضله عليه هو فضل الاجتهاد على التقليد.
5ـ مخالفة القاعدة الفلسفية، فقد اعترض محمد سبيلا على ترجمة د. طه للكوجيطو بناء على ضرورة حفظ ضمير المتكلم المنفصل في الترجمة العربية المعروفة، مدعياً أن الإجماع قد حصل في هذه القضية. وقد نقض د. طه عبد الرحمن هذا الإدعاء من خلال كشف أربعة أخطاء وقع فيها وهي:
الخطأ التاريخي: فلا وجود للإجماع الفلسفي، فكانط وهيغل وهوسرل لايمثلون مجموع الفلاسفة المحدثين، بل إن التيارات التي هيمنت على الفلسفة الغربية الحديثة هي التي تزعمها: ماركس ونيتشه وفرويد، وكلها تلتقي في تقويض مفهوم الذات وترسيخ «موتها» وبالتالي هدم «الكوجيطو». وإدعاء الإجماع الفلسفي حول صيغة المتكلم، يتأسس عند محمد سبيلا على مقولتين أثبت الدكتور نقيضهما: وهما مقولة «التاريخ ذاكرة لاتنسى» وحقيقتها «التاريخ نسيان يتذكر» والمقولة الثانية «التاريخ صدق وعدل» وحقيقتها «التاريخ فيه الكذب وفيه الظلم»! فتاريخ الفلسفة الحديثة كغيره من التأريخات فيه النسيان والكذب والظلم، فيه نسيان من مثل طمس دور «فرانسيس بيكون» وتأثيره في ديكارت. وفيه كذب كنسبة الفكرة التي يدور عليها «الكوجيطو» أي إثبات وجود الذات إلى ديكارت وحده، في وقت تكلم عنها فلاسفة ومفكرون قبله، من أوجه أخلاقية أو نفسية أو قانونية أو دينية أو وجودية، من سقراط إلى العصر الوسيط، وكذا في الفلسفة الإسلامية، وسموا ذلك بأسماء كثيرة: «النفس»، «الروح»، «العقل»، «الباطن».. أما ظلم التاريخ فيتجلى في التهويل من شخصية «ديكارت» حتى أصبحت أسطورة، وأصبح الواحد ممن تسموا بالحداثيين لاينتزع حق الحداثة لنفسه إلا إذا لوى لسانه بمقولات من مقولات هذه الأسطورة.
الخطأ الاستدلالي: من خلال بطلان حجة الإجماع في الفلسفة، فلا الفيلسوف الواحد يصلح دليلاً على صحة القول الفلسفي، ولا الجماعة منهم تصلح دليلاً عليه.
الخطأ الاستشكالي: ذلك أن الإقبال على الإجماع الذي ادعاه محمد سبيلا، يعتبره د. طه مخالفة للمقتضى الثاني للفلسفة بعد العقل وهو الاختلاف في الرأي! ثم إن الإجماع في الفلسفة علامة على نقصان التفلسف وليس الزيادة فيه. إن الخطأ الاستدلالي، بشقيه المنطقي والفلسفي، الذي وقع فيه سبيلا يجعله خارج الفلسفة من جانبها المنهجي والمضموني، إذ اتبع طريق أهل القانون في الاستدلال، وطريق أهل العلم في الاستشكال.
لقد أخطأ إذن، الباحث محمد سبيلا في فهم مدار «الكوجيطو» وفكرته، فربطه بالذات، في حين مداره الحقيقي «الوجود»، أي أنه لايثبت الذات بقدر ما يثبت وجودها، فوقع، إذن في تشويه هذه المقولة وإخراجها عن سياقها الفلسفي الذي أراده «ديكارت» إن سلمنا جدلاً بضرورة التقليد والترجمة التحصيلية. أما الدكتور طه عبد الرحمن فقام بعملية تحويل في ترجمة مقولة «ديكارت»، فخرج بذلك عن الترجمة التقليدية المألوفة، ووفر للمتلقي العربي إمكانية التفلسف في «الكوجيطو» بحسب مقوماته التداولية متبعاً منهجاً مفصلاً في أطواره ومقيَّداً في أحكامه.
الخطأ اللغوي: ذلك أن الباحث محمد سبيلا أخطأ في فهم الضمير في عبارة «ديكارت» باللاتينية «Cogito، er go sum»، والعبارة الفرنسية «Je pense، donc je suis» إذ احتذاؤه بظاهر العبارة الفرنسية أخرجه عنها من وجهتين: دلالية وتركيبية. فزعم أن مدار العبارة هو ضمير المتكلم المنفصل. إلا أن حقيقة العبارة ليس فيها، برأي د. طه عبد الرحمن، أي ضمير منفصل، بل ليس فيها حتى ضمير متصل، يمكن تمييزه عن باقي الفعل كما نجده في العربية.
إن الترجمة التي قدمها الدكتور طه عبد الرحمن للكوجيطو «انظر تجد» تحمل معاني الاجتهاد، في إطار الترجمة التأصيلية، وهي التي تفتح آفاق تفلسف جديدة للمتلقي العربي، من غير أن يعني هذا إنكار دور مراتب الترجمة الأخرى. ولكن طالب الفلسفة يلزمه أولاً تلقي النصوص الفلسفية عبر الترجمة التأصيلية حتى تحصل له الملكة الفلسفية، ثم تتلوها الترجمة التوصيلية ليدرك الفروق بين المضامين الفلسفية، فيقتبس منها ما شاء ويصرف ما شاء بحسب طاقته وحاجته، ثم الترجمة التحصيلية ليدرك الفروق بين التعابير الفلسفية فيقيس على ما شاء ويطرح ما شاء، ويكون في كل هذا، بتعبير د. طه، مخيراً لا مكرهاً، يقظاً لا غفلاً ومجدداً لا مقلداً!


ـ 3 ـ

وفي الحديث عن أركان التأثيل المفهومي عمل د. طه على تبين علاقةالعبارة الإشارية التي يختص بها القول الفلسفي، مقارنة بالقول العلمي والأدبي. وانتقد المفاهيم الفلسفية العربية السائدة، المفتقدة للقوام التأثيلي المطلوب، ذلك أنه تم وضعها في مقابل مفاهيم منقولة، دون التفريق بين ما هو عباري يتوجب نقله، وما هو إشاري يخير في نقله، فنقل الكل على أنه عبارة!
لقد عمل د.طه عبد الرحمن على تأصيل، أو قل تأثيل، مفاهيمه، من منطلق أن المفهوم فيه جانب عباري وآخر إشاري. وسعى المؤلف إلى أن يكون كلامه عن النأثيل كلاما علميا من باب «فقه الفلسفة» وليس «فلسفة الفلسفة». وعليه اجتهد من أجل تأثيل نوعين من المفاهيم: مفاهيم من وضعه، يضع مدلولاتها الاصطلاحية وينمي قوتها الإجرائية. وأخرى من وضع الغير يعمل على تزويد مدلولاتها العبارية بجانب إشاري على قدر ما تطيق، حتى أنها قد تظهر أحيانا عند د.طه بغير ما تظهر به عند الغير، ذلك أن الدلالات الإشارية تثمر في العربية تصوراً تخاطبياً تداوليا للمفهوم لا نظير له في لغات أخرى.
إلا أن تزويد المفهوم الفلسفي المنقول بإشارة جديدة وفق المجال التدوالي الخاص للمترجم، كما يقترحه د.طه، يطرح بعض التساؤلات الحرجة، ذلك أن هذا التزويد قد يحدث اضطراباً وخلطاً، بل وتناقضاً في المفهوم ذاته، بحسب كل مترجم أو فيلسوف، لاختلاف الرؤى المعرفية، والتفاوت في نسبة التشبع بالتراث أو استيعابه، ومدى التفاعل الخلاق مع ثقافة المجال التداولي الخاص!
ويعمل د.طه في كتابه «المفهوم والتأثيل»، على إثبات دعوى أن القول الفلسفي ليس قولاً عبارياً خالصاً ولا قولاً إشارياً خالصاً، وإنما هو قول يجمع بين العبارة والإشارة على وجوه مختلفة. وذكر مبادىء العبارة وهي: مبدأ الحقيقة، ومبدأ الإحكام، ومبدأ التصريح. أما مبادىء الأشارة فهي نقيضها أي: مبدأ المجاز، ومبدأ الإضمار. وكل مبدأ من هذه المبادىء يتفرع فروعا بحسب مقتضياته ودلالته.
وعلى الجملة، يتبين من التعريفين اللذين وضعهما د.طه للبيان العباري والبيان الإشاري أنهما طريقتان في الكلام متباينان، فما يصدق على أحدهما لا يصدق على الآخر، فحيث تكون العبارة ذات معنى حقيقي، تكون الإشارة ذات معنى مجازي، وحيث تدل الأولى في مختلف استعمالاتها على معنى ثابت، تدل الثانية في هذه الاستعمالات على معان متقلبة، وحيث تصرح الأولى بجميع أجزائها، تضمر الثانية بعضها.
وأبطل د.طه ادعاء أن العبارة إشارة، سواء من جهة مضمونها، وهو رأي الفيلسوف الألماني «فريدريش نتشه»، أو من جهة صورتها، وهو موقف اللساني الأمريكي المعاصر «ميكائيل ريدي»، فنتشه، بنظر د.طه، يقوم بتوسيع لمضمون الإشارة من وجهين كلاهما مردود، أولهما توسيع عمودي يجعل الإشارة علاقة تقوم بين كل مستويين متباينين، أيا كانا، فيقع في الخلط الفاسد، والثاني توسيع أفقي يجعل الإشارة تحتمل الدلالة على نقيضها، وهو العبارة، فيقع في الابتذال. أما «ريدي» فقد أصاب حيث أخطأ «نتشه» لكن موقفه من التداخل بين العبارة والاستعارة لا يقوم حجة كافية لدرء التضاد بينهما كما أكده د.طه.
وعمل أيضاً د. طه عبد الرحمن على إبطال دعوى أن الإشارة عبارة، كما يذهب إلى ذلك فيلسوف اللغة الأمريكي المعاصر «دونالد دافيدسن» في مقالته «مدلول الاستعارة». ذلك أنه يرى أن المعنى العباري يغني عن المعنى الإشاري مما يفضي به إلى تفريق ما كان حقه الجمع كالمعارضة بين الدلالة والتداول، وتضييق ما كان حقه التوسيع كقصر المعنى الحقيقي على شرط الصدق، وتجريد ما كان حقه الوصل كعزل المعنى الحقيقي عن افتراضاته المقامية.
والقول الفلسفي، بناء على ذلك، قد يرجح أولاً فيه أحد البيانين بحسب رتبته، فإن كان قولاً فلسفياً علمياً رجحت العبارة، وإن كان قولاً فلسفياً أدبياً رجحت الإشارة، وإن كان قولاً فلسفياً طبيعياً، فلا رجحان، وهذا الرجحان إما أن يكون مقبولاً، عندما تتفاوت العبارة والإشارة في القول الفلسفي بموجب اشتغال فني يخالف الفلسفة الطبيعية لمجال المتلقي التداولي وإما أن يكون مردوداً عندما تتفاوت العبارة والإشارة في القول الفلسفي بموجب اشتغال فني يخالف الفلسفة الطبيعية لمجال المتلقي التداولي (ص117). وقد وضح د. طه ذلك من خلال وقوفه على القول الفلسفي العربي في بعديه الطبيعي والصناعي.


ـ 4 ـ

وفي الفصل الثاني تكلم د. طه عن التأثيل والإشارة وأوضح أنه سيسلك في بحث المفهوم الفلسفي طريقة فقهاء الفلسفة وليس منهج الفلاسفة، من غير أن يعني هذا إقامة تعارض بين «التفقه» و«التفلسف»، ولكن جعل الأول خادماً لفلسفة المفاهيم. وبناء على هذا سعى د. طه إلى إخراج المفهوم الفلسفي العربي من جموده وتعطله نتيجة النقول التحصيلية، من خلال الوقوف على الأسباب اللغوية التي يتوسل بها في إنشاء واستثمار المفاهيم الفلسفية في أصولها، إذ من خلال هذه الأسباب اللغوية يتوصل إلى المقاصد الفلسفية مما يلائم المجال التداولي للفيلسوف. ثم إن فقه المفهوم الفلسفي يساعد على تبين نسبية المفاهيم وخصوصيتها، مما يبطل إدعاء بلوغها النهاية في الشمولية مما يروج له المقلدة.
وكشف الأسباب اللغوية التي توضع وتستثمر بها المفاهيم الفلسفية يقتضي تحديد العلاقة الموجودة بين المفهوم الفلسفي ولفظه المستعمل. وعكس النظرية التقليدية التي تعتبر المفهوم الفلسفي مجرداً، فقد أكد د. طه عبد الرحمن أن هذا المفهوم لايمكن تجريده من البنية اللفظية الخاصة التي جاء عليها، ولا حتى من قرينة الاستعمال التي يتصل بها (ص120).
وارتباط المفهوم باللفظ يورث خاصية الانفهام، أي أن يكون المفهوم منفهماً من صيغته اللفظية، أما خاصية الاستعمال فتورثه «الانتساب»، أي أن واقع المفهوم يصطلح عليه وفق مبادئ مجاله التداولي، وعليه فالأصل في المفهوم الفلسفي أن يكون منفهماً من صورته اللفظية ومنتسباً إلى مجاله التداولي. وأكثر من هذا فإن الانتساب التداولي شرط في حصول الانفهام من اللفظ، ذلك أن لغة الفيلسوف هي تلك التي يجدها في مجاله التداولي. وبالجملة فالأصل في المفهوم الفلسفي هو الانفهام التداولي، وهذا ما يجعل المفهوم الفلسفي، عكس المفهوم العملي، لا يتمحض فيه الإصطلاح ولايصفو للعبارة، إذ لايمكن أن يكون تصوراً خالصاً مثل مانجد في التصور العلمي، إذ يشوب مدلوله الإصطلاحي مدلول يضاد عبارته وهو الإشارة. إلا أنه وكما لايستقل بالمفهوم الفلسفي المدلول العباري فيكون مدركاً تصورياً، فكذلك لايستقل به المدلول الإشاري، فيكون مدركاً وجدانياً، «وإنما يشترك فيه هذان المدلولان على أقدار مختلفة، مع وجود فارق في مراتب العلوم، في حين تتزايد وتيرة الإشارية فيه بارتقائه في مراتب الفنون» (ص126).
وانتقل د. طه بعد هذا، إلى توضيح منزلة الجانب الإشاري للمفهوم الفلسفي من جانبه العباري. وأكد أن الجانب العباري هو الذي يشترك فيه المتفلسفة على اختلافهم، أقواماً وألسنة، وهذا ما جعل المقلدة يدعون الشمولية للمفاهيم الفلسفية، من غير تنبه إلى أن المعنى الفلسفي لايقبل الرد إلى مدلوله الإصطلاحي فحسب، وإلا كان قصوراً علمياً، بل هو مردود أيضاً إلى جانب غير اصطلاحي، وهو الإشارة، أي جملة آثار تداولية ينقلها الفيلسوف إلى المفهوم، مما يثبت في هذا المفهوم أسباب الخصوصية، فتمتزج خصوصية الإشارة بشمولية العبارة في المعنى الفلسفي، وهو امتزاج إغناء وثراء للمفهوم الفلسفي، إذ ما يتولد من الشيئين في حال الإزدواج لايتولد منهما على حال الانفراد. ولما كانت المميزات التداولية التي يحصل بها الوصل هي المجال التداولي للفيلسوف، والمفاهيم الفلسفية التي يتم وصلها بهذا المجال هي أصول الخطاب الفلسفي، فوظيفة الجانب الإشاري ربط الجانب العباري بأصول المجال التداولي لواضعه أو مستثمره. وهذا الوصل بالأصل، هو ما يطلق عليه عادة «التأصيل» فتكون وظيفة الإشارة في المعنى الفلسفي النهوض بتأصيل عبارته.
واختار د. طه لوظيفة الإشارة عوض «التأصيل» اسم «التأثيل» لوصف حقيقة «وجود الإشارة في المعنى الفلسفي على مقتضى التداول». ثم إن لفظ التأثيل يسد مسد لفظ «التأصيل» في الغرض منه، ويفيد أكثر منه «الإكثار والتنمية» إذ يقال: «أثل ثروته» أي كثرها ونماها. كما أن كثرة الاستعمال للفظ «التأصيل» ساهم، بنظر د. طه في دخول الابتذال عليه. ولما كان دور الإشارة تأثيلياً، فقد حدد د. طه المبادئ التي يقوم عليها القول الإشاري وهي: مبدأ الإضمار، ومبدأ الاشتباه، ومبدأ المجاز، وحصل بذلك على ثلاثة أنواع من الإشارة: الإشارات الإضمارية، والاشتباهية، والمجازية. واعتبر الإشارات الإضمارية هي النوع التأثيلي من هذه الأنواع الممكنة للإشارة. وعليه، فحد تأثيل المفهوم الفلسفي عند د. طه عبد الرحمن، هو تزويد الجانب الإصطلاحي منه بالمضمرات التي تربطه بالمجال التداولي لواضعه أو لمستثمره (ص131).
وتنقسم العناصر التأثيلية المضمرة في وضع المفهوم الفلسفي واستثماره إلى قسمين: عناصر تأثيلية مضمونية وعناصر تأثيلية بنيوية:
أولاً: العناصر التأثيلية المضمونية هي جملة المضمرات الدلالية التي تتأصل بها الإمكانات الاستشكالية للمفهوم الفلسفي. ويقسم د. طه التأثيل المضموني إلى: تأثيل لغوي أو ما يسميه «علم التأثيل اللغوي» أو «التأثيليات اللغوية»، وهو ما كان يعرف عند العرب باسم «المعنى اللغوي» ويقابله مصطلح Etymology ، وهو العلم الذي ينظر في أصول المعاني وأزمانها وأطوارها أو تاريخها. والمقصود بالتأثيل اللغوي هو أن الفيلسوف عادة ما يفتح استشكاله لمفهوم ما بالاستناد إلى معناه اللغوي إن إيجاباً أو سلبياً، أي دلالته السابقة.
ومن أنواع التأثيل المضموني أيضاً «التأثيل الاستعمالي»، وهو لجوء الفيلسوف إلى الاستعمال السابق للمفهوم، وهو أمر لم ينتبه إليه البلاغيون برغم اهتمامهم بتأثير القرائن السياقية والمقامية في الكلام. وضرب د. طه أمثلة كثيرة للتأثيل الاستعمالي مثبتاً حاجة الفيلسوف إلى تأثيل مفاهيمه بواسطة سابق الاستعمالات، مما يفيده في توسيع أفق المفهوم الاستشكالي، إذ تحمل هذه الاستعمالات السياقية والمقامية الفيلسوف على تعميق النظر في مفهومه وتنويع وجوه مقاربته.
ويعتبر التأثيل النقلي آخر أنواع التأثيل المضموني، وهو بنظر المؤلف: وضع الفيلسوف لمفاهيمه واستثمارها بناء على الدلالات والاستعمالات الحسية، ناقلاً لها من دائرة المحسوس إلى دائرة المعقول (ص141). وعرض د. طه أمثلة على التأثيل النقلي للمفاهيم، كأمهات مفاهيم منهج الفلسفة نحو «النظر» و«التأمل»، فهناك نظر بعين الرأس، ونظر معقول، وهو نظر بعين القلب، وتأمل محسوس وهو تشديد النظر إلى الشيء، وتأمل معقول، وهو إعادة النظر في الشيء.
وخلص د. طه إلى أن الأصل في التمكن الاستشكالي هو التأثيل المضموني هذا الأخير الذي يوفر للمفهوم أسباب الاتساع والامتداد سواء وضع أصلاً في لغته أو نقل عن غيرها. ونتيجة هذا كله تحرر المفهوم من اتباعيته الاستشكالية وتبعية الفلسفة للغة المنقول منها.
ثانياً: أما العناصر التأثيلية البنيوية فهي: جملة المضمرات العلاقية التي تتأصل بها الإمكانات الاستدلالية لهذا المفهوم (ص134)، أي أن هذا النوع من التأثيل يعمل على توسيع الأفق الاستدلالي للمفهوم، بناء على إدماجه في علاقات تمتد جذورها في التداول الذي يختص بالفيلسوف.
وينقسم التأثيل المضموني إلى ثلاثة أقسام: التأثيل الاشتقاقي، والتأثيل التقابلي، والتأثيل الاحتقالي أو الحقلي:
1/ فالتأثيل الاشتقاقي هو: الاستناد في بيان المدلول الإصطلاحي للمفهوم الفلسفي إلى المضمرات اللازمة عن صيغته الصرفية، بما يجعله مستوفياً لشروط التداول اللغوي للمشتغلين به وينمي قوته الاستدلالي على مقتضى التشقيق. ومعلوم أن الدلالة الاشتقاقية هي جملة الإشارات المضمرة التي تستمد من الصيغ الصرفية التي تبنى بها الألفاظ. وميز د. طه بين الاشتقاق في اللغة العربية الذي يعتمد الأوزان وبين غيره من الألسن الفلسفية الأخرى المعتمد على الزيادات.
2/ والتأثيل التقابلي هو: الاستناد في بيان المدلول الاصطلاحي للمفهوم الفلسفي إلى المضمرات غير المباشرة اللازمة عن توسط نظائره، أضداداً كانت أو أمثالاً، توسطاً يقوم بشرائط التداول اللغوي والمعرفي للمشتغلين به، وينمي قوته الاستدلالية التشقيقية (ص150). ويحقق التأثيل التقابلي للفيلسوف أغراضاً استدلالية كثيرة كرفع التعارض وتحقيق الاتساق ودفع الاعتراض بممارسة النقد، وتحقيق المخالفة للجمهور والفلاسفة.
3/ أما التأثيل الاحتقالي، وهو مأخوذ من الحقل أي البقعة المزروعة، ومما له علاقة بالإثمار والإنتاج، فيقصد به د. طه عبد الرحمن: تزويد المفهوم الفلسفي بحقل مفهومي يضرب نطاقاً على مفاهيم مخصوصة ينتج بعضها من بعض بعلاقات استدلالية مضمرة تنمو على مقتضى شرط التداول المعرفي للمشتغلين بهذا المفهوم (ص156). فلا بد لكل مفهوم أن يتخذ له حقلاً من المفاهيم، وألا يخرج عن كونه مفهوماً، فالاحتقال، إذن شرط في المفهومية. هذه الأخيرة التي تتحقق من خلال الاستفهام عن المفهوم الفلسفي!


ـ 5 ـ

وميز د. طه بين الحقل المفهومي عند اللسانيين المعاصرين، والحقل المفهومي عند الفلاسفة المبدعين. وعليه، فالفيلسوف الذي لايؤثل مفاهيمه، فلن تكون فلسفته إلا مضطربة المفهوم، ونابية المضمون، ومستكرهة عند السامع، أو بالعبارة العربية فلسفة قلقة. وقلق القول، كما يقول د. طه، من قلق القائل! ثم إن مفاهيم غير مؤثلة لن تكون إلا مجتثة. إن مفهوم التأثيل، عند د. طه عبد الرحمن، يقترن مدلوله بمدلول «الشجرة»، فالتأثيل لغة هو أن يجعل للشيء أصلاً ثابتاً يبنى عليه. و«الأثل شجر مستقيم، باسق، طويل العمر، جيد الخشب» والكلام أشبه بالشجرة، قال تعالى: {ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء} فالتأثيل يفيد الاستقامة والعلو والدوام، كما يفيد معنى الثبات.
وبغياب منهج التأثيل عن التجربة الفلسفية العربية أصيبت هذه الأخيرة بآفة الاجتثاث والجمود والتقليد. وقد لايريد المتفلسف هذا الاجتثاث ولايقول به، ومع ذلك تجده يعترض على التأثيل ويأباه. وعمل د. طه على دفع الاعتراضات على التأثيل، كالاعتراض البلاغي كما ورد عند الكاتب والبلاغي المعاصر «جان بولهان»، والاعتراض الفلسفي كما هو عند فيلسوف العلم «جيل غاستون غرانجي»، أما الاعتراض الثالث فيسميه د. طه اعتراض الاعتراضات، ولم يرجع فيه إلى كاتب بعينه أو إلى مفكر بعينه، وإنما استنبطه من عموم الممارسة الفلسفية.
وفي المقابل اعتبر د. طه الفلسفة الغربية مؤثلة وراسخة ومتمكنة، إذ نشأت عن قرائح الغرب، وتوسلوا فيها بأسباب ضاربة في مجالاتهم التداولية المختلفة. كما نقد د. طه، بحدة، فلاسفة الإسلام الذين ذهلوا عن أهمية التأثيل اللغوي، مما سبب للفلسفة الإسلامية حالة عدم استقلال في المسار الفكري، وكذا إبداع إشكالات واستدلالات خاصة بها. وتناول د. طه موقف فلاسفة الغرب من التأثيل اللغوي، فوقف مع أفلاطون ومساءلته للتأثيل، وقدم أمثلة عديدة على ذلك، كرأس مفاهيمه الفلسفية ألا وهو مفهوم «الماهية» (ص205). ومفهوم «المثال»، ومفهوم «الوضع». وخلص إلى أن ميلاد الفلسفة الصناعية اقترن بالسؤال التأثيلي الصريح، وما كان الوعي بالحاجة إلى هذا السؤال ليتحقق لو لم تتقدمه ممارسة واسعة للتأثيل، جعلها تواجه صعوبات وآفات أصبحت معها إثارة السؤال بصددها أمراً ضرورياً، فأبى «أفلاطون» أن ينهض بهذا السؤال عن التأثيل من غير أن يتوسل فيه بأسباب التأثيل (ص211). كما عرض د. طه الممارسة التأثيلية في الفلسفة الحديثة، واتخذ «ديكارت» نموذجاً لذلك، وهو الذييعتبر التأثيل لازماً ومشروعاً ومقبولاً، وينبه بصريح العبارة إلى أنه سيستعمل مفاهيمه الفلسفية في معان غير المعاني التي صارت تدل بها عند معاصريه، متوسلاً في ذلك، بمدلولاتها الأصلية في اللغة اللاتينية، فينشئ خطاباً ملتئماً ظاهره عبارة واضحة وحقيقته إشارة خفية. ومثَّل د. طه بتأثيل ديكارت لمفاهيم: «الحدس»، و«الوضوح» و«الحقيقة».
وعن موقف فلاسفة الإسلام من التأثيل اللغوي، وقف د. طه عند أطوار تقلب المفهوم الفلسفي العربي واعتبرها أربعة هي:
1/ طور النشوء، يمثله كتاباً «رسالة الحدود» لجابر بن حيان، و«رسالة الحدود والرسوم» للكندي.
2/ طور التجديد، ويمثله «كتاب الحروف» للفارابي، و«مفتاح العلوم» للخوارزمي الكاتب، و«رسالة الحدود» لابن سينا، و«المقابسات» لأبي حيان التوحيدي.
3/ طور الاستقرار، وتمثله كتب الغزالي المنطقية: معيار العلم، والقسطاس المستقيم، وأيضاً تفاسير وشروح وتلاخيص ابن رشد، و«كتاب المبين» للآمدي.
4ـ طور الاستقصاء، ويمثله «كتاب التعريفات» للشريف الجرجاني، و«الكليات» لأبي البقاء، و«كشاف اصطلاحات الفنون» للتهانوي.
وقد لاحظ د. طه انعدام التأثيل في المفهوم الفلسفي العربي، ذلك أن العلاقة بين المدلول الاصطلاحي والمدلول اللغوي فيه، أو المناسبة الدلالية، ظلت قلقة مما منع النهوض بالمهفوم الفلسفي نهوضاً موصولاً بمقتضيات التداول العربي.
وعليه، عمل د. طه على تقويم المفهوم الفلسفي العربي، وانتقد افتقاده إلى التأثيل، كما انتقد النظرية التجزيئية التي يستند إليها موقف «فلاسفة الإسلام» من وضع المفاهيم الفلسفية، وأبطل النظرية التجريدية التي يستند إليها موقفهم من استثمار هذه المفاهيم في الاستشكال الفلسفي، مما مكنه من الوقوف على الأخطاء المنكرة التي تطرقت إلى بناء المعجم الفلسفي العربي، فقد استعمل أولئك الفلاسفة ألفاظاً عربية على وجوه في الدلالة لاتمت بصلة إلى وجوهها التي تستعمل بها عند الجمهور، إدعاء أن هذا أملته الحكمة الفلسفية، فنقلوا كثيراً من المعاني اللغوية للألفاظ اليونانية ونسبوها إلى الفلسفة، وهي على الحقيقة لاتزيد عن كونها أعراضاً خاصة بلغة اليونان ولاتتعدى إلى غيرها، أعراضاً كان الأجدر بهم أن يصرفوها صرفاً، وإلا فلا أقل من أن يبذلوا وسعهم في الاحتراز منها، فكانوا إذ ذكروا المقابل العربي للفظ اليوناني، لم يكتفوا ببيان معانيه في اللسان العربي، بل حشروا ضمنها أيضاً معاني هذا اللفظ في اللسان اليوناني، لغوية كان أو اصطلاحية، وقد يحدث لهم أن يهملوا المعاني الأصلية للمقابل العربي، ويقصروا همهم على نحله معاني اللفظ اليوناني (ص237).


ـ 6 ـ

ولتحقيق المفهوم الفلسفي المتمكن تمكنا استدلالياً عرض د. طه «قانون المقابلة» الذي يكتسب ثلاث قوى: «قوة الإقناع» و«قوة الإبداع» و«قوة الاتساع». وقد توسل د. طه بمفهوم المقابلة في دراسة الإصطلاح الفلسفي وضعاً واستثماراً. والمقابلة قانون خطابي يقوم بعمليتين أساسيتين هما: «توجيه الكلام» و«ترتيب الكلام»، وهي أيضاً قانون أصلي يقوم به صفتان أساسيتان وهما: «أن يكون حقيقة طبيعية لا صناعية»، وأن يكون أساساً ينبني عليه غيره، ولاينبني على غيره، وهي قانون شمولي، يتصف بصفتين هما: «أن تنضبط به كل جوانب اللفظ»، و«أن ينفذ في مختلف ميادين المعرفة».
وبعد أن فصل د. طه القول في التأثيل اللغوي والتأثيل التقابلي، من حيث الخصائص والآليات، وكذا المظاهر والآفات، اختار نماذج من رجالات الفلسفة يتحقق فيها هذا النوعان من التأثيل تحققاً يؤكد صحة دعاوى د. طه في ما يتعلق بالقوام التأثيلي للمفهوم الفلسفي. وقد بنى اختياره للنماذج على معايير ثلاثة:
1ـ أن يكون الفيلسوف المختار قد جمع في ممارسته بين التأثيلين اللغوي والتقابلي.
2ـ أن يكون هذا الفيلسوف قد تحقق بأقوى ممارسة لتأثيل المفاهيم الفلسفية.
3ـ أن يكون هذا الفيلسوف قد ارتقى من رتبة الإتيان بمفاهيم فلسفية مؤثلة إلى رتبة استشكال المفاهيم الفلسفية واتخاذها هي نفسها موضوعاً لتأمله (ص283). من هنا اختار د. طه الفيلسوف الوجودي الألماني «مارتن هيدغر» والفيلسوف الاختلافي الفرنسي «جيل دولوز». فعمل د. طه على وضع مقابلات خاصة من صنعه مؤثلة للمفاهيم الفلسفية التي تناول أصولها التأثيلية عند كل من «هيدغر» و«دولوز»، مثبتاً أن اللسان العربي أوسع من أن يضيق عن أداء أشد المفاهيم الفلسفية الحديثة تأثيلاً.
ووقف د. طه عند أسباب الممارسة التأثيلية عند «هيدغر» وحصرها في:
أـ مبدأ الرجوع إلى الأصول: إذ يرى أن لاسبيل إلى خروج الفلسفة الغربية من ضلالها إل برجوعها إلى الأصول الأولى التي قامت عليها عند أوائل الفلاسفة الذين تقدموا على «أفلاطون» كـ «بارمندس» و«هرقليطس»، فذهب يستنطق الكلمات ويفسرها أعمق التفاسير، ويستنبط منها معاني حاملة لآثار من الإشارات الشعرية، مادامت تلك النصوص الإغريقية مقتطفات من الأشعار.
ب ـ مبدأ التمسك بالأصالة: فللوصول إلى مدلولات تلك النصوص الأصلية لابد من النزول بالقلب فيها وإلقاء السمع إليها، حتى تنطق ألفاظها، بما كمُن فيها من معان خفية طواها النسيان أو غابت عن الأذهان.
ج ـ مبدأ إيمانية اللغة.
د ـ مبدأ شعرية الفكر.
وعرض د. طه بعد ذلك، المظاهر التأثيلية التي تجلت بها معاني «هيدغر» الفلسفية، واعترض عليه في إدعائه الأفضلية للسانين اليوناني والألماني، ذلك أن «هيدغر» قال في كتابه «مدخل إلىما بعد الطبيعة»: «ذلك أن هذه اللغة (اليونانية) وهي، مع اللغة الألمانية، من حيث إمكانات التفكير، أقوى اللغات جميعاً وأكثرها، في نفس الوقت، تحققاً بالفكر». بل يذهب إلى حد قصر الفلسفة على اليونان والغرب. وقد اتبعه في نزعته المركزية المتحيزة، والألمانية على الخصوص، فلاسفة أُخر من أمثال «ليبنثز» و«هيغل»، كما جاراه أولئك الذين جاؤا من بعده، أتباعاً أو شرَّاحاً، ولو من غير الألمان من أمثال «ديريدا» و«ليوطار» (ص296).
وقدَّم د. طه أمثلة على التأثيل اللغوي عند «هيدغر» كالمفهوم اليوناني «Logos اللوغاس» والمفهوم الألماني «Ereignis الإيراغنس». كما قدم أمثلة على التأثيل التقابلي عند «هيدغر»، كالتقابلات الوفاقية (ص326ـ342) والتقابلات الطباقية (ص342ـ372).
وخلص المؤلف إلى أن «هيدغر» يرى في طريق الإشارة التأثيلية ركناً من أركان الممارسة الفكرية ولا غنى عن انتهاجه لمن أراد أن ينهض بتقويم الاعوجاج الذي أصاب الفلسفة منذ زمن بعيد (ص372).
أما «جيل دولوز» فإنه يرى مهمة الفلسفة أصلاً، في وضع المفاهيم، فقد سلك هو نفسه منهج النظر الفلسفي، مع التعامل التأثيلي مع مفاهيمه، مستثمراً، على أبلغ وجه، معانيها اللغوية وإمكاناتها التقابلية، حتى كاد أن يأتي من هذا التعامل ما يشابه ما أتى به «هيدغر» في تفكره المفهومي من الدرجة الأولى، ولو أن «جيل دولوز» لايطلعنا على طريقته فيه كما يطلعنا «هيدغر» على تفاصيل طريقته (ص375). ويرى «جيل دولوز» أن التوظيف للإمكانات الدلالية والتعبيرية للسان الطبيعي وسيلة لاغنى للمفاهيم الفلسفية عنها، مما يعزز القوام الإشاري للمصطلح الفلسفي.
واختار د. طه بعض المفاهيم الفلسفية التي جاء بها «دولوز» أمثلة، وضَّح من خلالها الكيفيات التي ينبغي بها نقل الجوانب الإشارية لهذه المفاهيم إلى اللسان العربي، مع بسط الإشكالات المختلفة التي يمكن أن يثيرها النقل العربي. وانتقد د. طه بحدة الترجمات العربية لكتاب «Qu' est ce que la philosopie» لـ «دولوز» و«غاتاري» التي قام بها مطاع صفدي وفريقه. واعتبر هذه الترجمة عقبة أخرى في طريق الوصول إلى الإبداع الفلسفي، فقد أخطأت مقصدها التبليغي، وخاضت وماجت في أقوال لا عبارة فيها ولا إشارة تحتها.
ومن المفاهيم التي زاوج فيها «دولوز» بين المدلول الإصطلاحي والمدلول اللغوي أو بنى فيها مضمون الأول على مضمون الثاني، أو على الأقل استمد بعض السمات الإجرائية لهذا من السمات الأصلية لذلك، مما يثبت المنحى التأثيلي اللغوي في فلسفة «دولوز»، من هذه المفاهيم التي وقف عليها د. طه، وهي ذات طابع محوري في مشروع «دولوز»، ومعلق بعضها ببعض هي: plan d'immanence Concept philosophique، CONCEPT. كما أوضح أنواع التقابلات المفهومية عند «دولوز» لرصد منهج التأثيل التقابلي عنده، ولممارسة نقد تأثيلي لمقابلاتها العربية (ص413ـ427).
لقد أثبت د. طه عبد الرحمن، سواء في تناول قضية تأثيل المفاهيم عند «هيدغر» أو عند «دولوز»، تمكناً مدهشاً من اللغتين الألمانية والفرنسية، أما العربية فمن باب أولى. فطريقته في الكتاب من حيث الإحكام والرصانة والتجول في بحر العربية الممتد، بحثاً عن المقابلات أو نحتاً للمفاهيم لايكاد يحتاج إلى دليل، لكل متتبع للمشروع الفكري لهذا الفيلسوف المبدع.
وجماع القول، فقد عبر د. طه عبد الرحمن، من خلال كتاب «القول الفلسفي: المفهوم والتأثيل»، على قدرة إبداعية كبيرة في إنشاء المفاهيم أو استثمار مفاهيم الغير بحرية وبحسب الحاجة، وأدخلنا من خلال هذا الكتاب إلى مصنع المفاهيم الفلسفية، أو المصنع المفهومي للفيلسوف بتعبيره، ليوقفنا على تفاصيل العمليات التقنية التي يقوم بها في تصنيع وتشغيل مصطلحاته ومفاهيمه، منتجاً خطاباً فكرياً متميزاً ومستقلاً، فيه من تشقيق الأقوال بقدر ما فيه من توليد الآراء.

* باحث من المغرب.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة