تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الفكر العربي المعاصر وتجديد النظر في قضايا المرأة

زكي الميلاد

[1] قضايا المرأة.. سجالات ومعارك

من يؤرخ لقضية المرأة في مجتمعات العالم العربي والإسلامي في القرن الأخير، بسهولة يكتشف أنه تاريخ متلاحق من السجالات والاحتجاجات والمناقشات الساخنة. التي لم تنتهي أو تتوقف إلى هذا الوقت،‏ومع دخول العالم للقرن الحادي والعشرين.
وقد اشتركت في تلك السجالات مختلف النخب والجماعات الفكرية والسياسية التي ظهرت في هذه المنطقة،‏وبدرجات عالية من الاندفاع والانفعال. الوضع الذي يكشف عن حساسية هذه القضية،‏وأهميتها وخطورتها في منظورات تلك النخب. كما يفسر الجانب الكمي في الاشتغال الواسع بهذه القضية،‏الذي ولّد تراكمات دون أن يكون لها أثر كيفي ونوعي في تطوير واقع المرأة، أو تجديد النظر بدرجة كبيرة حول قضاياها.
المنظور السجالي في التعامل مع قضايا المرأة،‏إذا كان قد كرس جانب النقد ورفع من وتيرته، إلا أنه كرس من جهة أخرى قطيعة معرفية بين منظورات النخب والجماعات المتعارضة في رؤيتها الفكرية والاجتماعية والسياسية، وفصلها عن بعضها، وأغلق عليها هوامش الانفتاح وإمكانيات التواصل. لذلك كان الجميع مسكوناً بذهنية الصدام،‏والتعامل مع القضية على انها معركة لابد من الانتصار فيها،‏وبالتالي لابد من مسوغات تبرر لكل طرف مشروعية معركته من خلال توصيفات وتسميات، فهي عند النخب العلمانية واليسارية معركة من أجل التنوير والنهضة والتقدم، وعند النخب الإسلامية معركة من أجل الأخلاق والطهارة والفضيلة.
وقد ظلت قضية المرأة تراوح مكانها في معمعة تلك السجالات،‏وإذا كانت قد شهدت بعض التقدم إلا أنه في تقدير الجميع يعتبر محدوداً ويتحرك بصورة بطيئة. ولم يستطع كل طرف تفهم هواجس وخلفيات الطرف الآخر،‏بين طرف شديد الاندفاع ينطلق من مرجعية فكرية غربية،‏وبين طرف شديد المحافظة ينطلق من مرجعية فكرية إسلامية. فالاندفاع الشديد كان يولد معه مخاوف الإنفلات وهيمنة النموذج الغربي وتفكك العائلة وتراجع القيم والأخلاق، والمحافظة الشديدة كادت تقف مانعاً امام تعليم المرأة‏وتنمية قدراتها الفكرية، وبالتالي حجبها عن المشاركة الاجتماعية أو التعاطي مع الشأن العام.
كما أن هذا المنظور السجالي كان سبباً في النمط التكراري الذي اتصفت به الكتابات حول المرأة عند تلك النخب والجماعات. وضعف من جهة أخرى الجهد التأسيسي المتقوّم بالبحث العلمي المسند بالأدلة والبراهين، والمندفع نحو الكشف والإبداع. لأن التفكير السجالي لا يكون معنياً ومندفعاً ‏نحو الكشف والإبداع بقدر ما يكون معنياً ومندفعاً نحو مواجهة الخصم ومحاججته بالنقد والنقض والدمغ. فالتفوق في هذه الحالة ليس بالكشف والإبداع وإنما بالنقد والمحاججة،‏لذلك تختلف الأدوات والطرائق المنهجية في عمليات البحث. والطابع السجالي ينطلق تارة من وقائع وسلوكيات ونماذج، وتارة من أفكار ونظريات وكتابات، فإما هو سجال مع الواقع، وإما هو سجال مع الأفكار.
ومن عيوب المنظور السجالي أيضاً ، توظيف النقد بطريقة لا تخلو من التعسف في النظر والتعامل مع الآخر المختلف، في مقابل الاحتماء بالذات وعدم الاعتراف والإقرار بالنواقص والثغرات، بل الإفراط أحياناً في الدفاع عن الذات وتزكيتها وتنزيهها ما أمكن، حتى لا يستفيد كل طرف من شهادة الآخر، باعتبار أن الاعتراف والإقرار في القانون هو سيد الأدلة. الأمر الذي يعطل وظيفة النقد الترشيدية وفاعليته في التجديد والتطوير، فمن جهة يتوجه النقدýإلى الآخر من غير الالتفات إلى الذات. ومن جهة أخرى عدم الانفتاح على نقد الآخر باعتباره في موقعية الخصم الذي لا ينبغي الاعتراف له بفضيلة. مما جعل كل طرف ينغلق على أدواته وطرائقه في البحث والنظر، والإكتفاء بخبراته وتجريباته،‏دون الاستفادة من خبرات الآخر وتجريباته.
ومع كل التحولات والمتغيرات التي شهدتها المجتمعات العربية والإسلامية، خصوصاً في النصف الثاني من القرن العشرين،‏وتأثرت بها أوضاع المرأة بصورة كبيرة،‏إلا أن الطابع السجالي ظل مهيمناً على منهجية التعامل مع قضايا المرأة،‏نتيجة سيادة هذا النمط من التعامل لفترة طويلة،‏بحيث كان من الصعب تجاوزه،‏أو الخروج عليه إلا في حالات نادرة. فتحددت واصطبغت به تراكمات هذا الحقل، وتأثرت به الطرائق والمنهجيات. والكتابات الراهنة ظلت متأثرة بتلك التراكمات والمنهجيات،‏بحيث أصبحنا وكأننا لا نستطيع التعامل مع قضايا المرأة إلا بطريقة سجالية. وهي الطريقة التي لا تمتلك إمكانات القدرة على التجديد والتطوير. لأن طبيعة الحالة السجالية لا تكون معها حدود القضايا واضحة،‏وقد تضيع الأمور الجوهرية،‏ولا يتشكل فيها بناءات وتأسيسات. وما لم تتجاوز الكتابات والمنهجيات المعاصرة ذلك النمط السجالي بتراكماته، فإنها سوف تظل تكرر خطاباتها وتراوح مكانها،‏ولن يكون لها تلك الفاعلية المفترضة في تغيير وإصلاح أوضاع المرأة،‏التي لا تتغير بالتأكيد،‏بالانفعال أو الاشتباك أو التصادم،‏وإنما بالاجتهادات والبناءات المتوازنة والرشيدة.


[2] قاسم أمين وتحرير المرأة

مع مطلع القرن العشرين شهدت المنطقة العربية،‏معركة فكرية شديدة التداعيات،‏هي أولى معارك هذا القرن،‏تلك المعركة التي فجرها «قاسم أمين» [1279ـ1326هـ/1863ـ1908م] بكتابه الشهير، الذي صدر سنة 1899م بعنوان «تحرير المرأة» وأعقبه بكتاب آخر هو «المرأة الجديدة» سنة 1900م. والكتابات التي أرخت أو اقتربت من تلك الفترة،‏حاولت الاهتمام بتصوير تلك المعركة،‏بتوصيفات تظهر جانب الأهمية والمبالغة والتأثيرات الواسعة.‏فحسب توصيف الدكتور «محمد عمارة» وهو الذي جمع الأعمال الكاملة لقاسم أمين،‏يقول: «عندما أصدر قاسم أمين كتاب تحرير المرأة سنة 1899م، أحدث ضجة كبرى في المجتمع المصري والمجتمعات الشرقية، بل لعله أحدث أكبر وأهم معركة فكرية قامت في الشرق من حول كتاب في القرن الذي ظهر فيه» (1) .
وفي نظر «البرت حوراني»، بأن الكتاب المذكور أثار عاصفة (2) . أما الدكتور «غالي شكري» فقد وصف معركة الكتاب بضجة عاتية (3) . وهكذا تتشابه التوصيفات، حتى في الكتابات الأخرى.
وما إن صدر ذلك الكتاب حتى توالت عليه الردود العنيفة والقاسية،‏التي أحسب أن مؤلفه ما كان يتوقعها بتلك الصورة،‏فقد صدرت كما يقول «محمد عمارة» «صحف متخصصة تفرغت تقريباً ‏للجدل في موضوع الكتاب بالتأييد،‏أو المعارضة والتفنيد» (4) . ومن أبرز الكتب التي ردت عليه،‏مع أنها كثيرة يصعب حصرها، كما يقول الدكتور «فهمي جدعان» (5) . منها: كتاب «عبد المجيد خيري» «الدفع المتين في الرد على حضرة قاسم أمين» القاهرة، 1899م. وكتاب «محمد أحمد حسنين البولاقي» «الجليس الأنيس في التحذير عما في تحرير المرأة من التلبيس» القاهرة، 1899م. وكتاب الشيخ «مصطفى صبري» «قولي في المرأة» القاهرة،‏1344هـ. كتابان لطلعت حرب هما: «تربية المرأة والحجاب» و«القول الأخير في المرأة والحجاب». كتاب «محمد فريد وجدي» «المرأة المسلمة» القاهرة،‏1912م.
أما الذين كانت لهم مواقف إيجابية أو هادئة من داخل الوسط الديني فكانوا أقلية جداً ، أبرزهم: الشيخ «محمد عبده» [1266ـ1323هـ/1849ـ1905م]،‏والشيخ «محمد رشيد رضا» [1282ـ1354هـ/1865ـ1935م]، صاحب مجلة «المنار» التي تناولت كتاب «قاسم أمين» بالمدح والتقريظ أكثر من مرة،‏وصنفته مع كتاب «رسالة التوحيد» للشيخ «محمد عبده» وكتاب «سر تقدم الانجليز السكسونيين» الذي ترجمه «فتحي زغلول» من أهم الأعمال الفكرية في ذلك العصر (6) .
إلى جانب الشيخ «عبد القادر المغربي» [1284ـ1375هـ/1867ـ1965م] الذي نشر مقالات سنة 1906 و1911م في الصحف المصرية،‏دافع فيها عن آراء قاسم أمين في كتابه «تحرير المرأة». وهؤلاء كما هو واضح كانوا يمثلون نهجاً إصلاحياً وينطلقون من رؤية نهضوية في تغيير الواقع المصري،‏وهو النهج الذي تبلور في مرجعية الشيخ «محمد عبده» الفكرية. حيث كان موقفه من الكتاب هو الصمت مع ما تعرض إليه من إحراجات بعض الخصوم،‏الذين رفعوا له سؤال للاستفتاء باعتباره كان مفتياً في ذلك الوقت،‏وإمعاناً في الإحراج قاموا بطبع السؤال ووزعوه على الجمهور في صورة كتاب مفتوح إلى المفتي،‏لكن الشيخ «عبده» ظل على موقفه ملازماً للصمت.. وتقدمت مجلة «المنار» للدفاع عنه وشرحت أسباب اعتذار الشيخ «عبده» من الإجابة على ذلك الاستفتاء،

ومن تلك الأسباب:
1ـ إن الاستفتاء جاء على خلاف المعهود،‏بأن وزع على الجمهور.
2ـ إن الجواب عليه يستلزم قراءة الكتاب، في حين أن المفتي مثقل بالأعمال.
3ـ إن الفتوى لا يفهمها الناس إلا إذا قرأوا الكتاب،‏وهو ما يؤدي إلى نشر ضرره إذا كان ضاراً ؟
4ـ إن فتوى الإمام ستكون على المذهب الحنفي الذي عينته الحكومة ليفتي على أساسه في حين أن بعض المذاهب قد أباحت كشف المرأة لوجهها ويديها وجواز معاملة الرجال في غير خلوة. وهذا كل ما يطلبه الكتاب من إبطال الحجاب. ثم ختمت «المنار» بالقول كل هذا يدلنا على أن السائل أخطأ في السؤال، وإنه لا يلقى جواباً (7) .
وهذا الموقف من الشيخ «عبده» فسره البعض مثل «محمد عمارة» على إنه من قرائن العلاقة الإيجابية بينه وبين كتاب «قاسم أمين» لكي ينتصر لرأيه مع القائلين بأن الشيخ «عبده» شريكاً في تاليف كتاب «تحرير المرأة»، في الفصول التي عرضت لرأي الشرع في قضايا الحجاب والزواج والطلاق وتعدد الزوجات،‏وساق «عمارة» العديد من القرائن والأدلة في محاولة منه لإثبات صحة رأيه، وقد شرحها بشكل مفصل في المجلد الأول من كتاب الأعمال الكاملة للإمام «محمد عبده» وأعاد تكرارها في كتابه عن الأعمال الكاملة لقاسم أمين. وأضاف إليها دليلاً ‏اعتبره جديداً ‏توصل إليه كما يقول بعد ترجمة كتاب «قاسم أمين» «المصريون» عن اللغة الفرنسية،‏المنشور سنة 1894م في الرد على كتاب الفرنسي «دوق داركور» «مصر والمصريين»، وهو الكتاب الذي كشف كما يقول «عمارة» عن صفحة كانت مجهولة لدارسي «قاسم أمين» في مراحل تطوراته الفكرية، حيث توقف أمام سؤال اعتبره هاماً ، ولابد من الإجابة عليه،‏وهو: لماذا كان التطور الفكري عند «قاسم أمين» أساساً ‏وبالدرجة الأولى في تحديد رأي الشرع الإسلامي من القضايا التي كانت مثارة يومئذ بين الباحثين في قضايا المرأة والأسرة وشؤونهما؟ وبالتحديد في قضايا الحجاب والطلاق وتعدد الزوجات؟ ويستكمل «عمارة» مشروعية سؤاله بقوله: إننا لا نلحظ تطوراً ‏فكرياً بارزاً في آرائه الأخرى، مثل آرائه في الأدب واللغة والسياسة والاجتماع والاقتصاد.. الخ.
والذي لاحظناه كما يضيف «عمارة» هو أن التطور الملحوظ كان أن يقتصر على الآراء التي حواها كتاباه «المصريون» و«تحرير المرأة» باعتبارها رأي الشرع الإسلامي في قضايا الأسرة. ما يريد «عمارة» التوصل إليه هو أن الآراء التي طرحها «قاسم أمين» في كتابه «تحرير المرأة» اعتبرها مناقضة للآراء الشرعية التي عرضها في كتابه «المصريون» فمن أين درس «قاسم أمين» الشرع الإسلامي حتى يتوصل إلى تلك الآراء؟ لذلك كما يقول لابد من التوصل بأن الفصول التي وردت في «تحرير المرأة» عن رأي الشرع في تلك القضايا إنما هي للأستاذ الشيخ «محمد عبده» شارك بها مع قاسم أمين في تأليف هذا الكتاب (8) ..
وقد ناقش في هذه الأدلة «غالي شكري» التي اعتبرها استدلالات قوية من خارج وداخل النصوص، لكنها مجتمعة كمايقول، لا ترتفع عن مستوى القرينة إلى مستوى الدليل (9) .
وهذا يعني أن هناك قضيتان حول الكتاب، قضية حول النص، وأخرى حول صاحب النص، إلى جانب وجهات نظر أخرى متعارضة حول خلفيات ودواعي تأليف الكتاب (10) .
ومع هذه المعركة التي فتحها كتاب «تحرير المرأة» تكرس المنظور السجالي في منهجية النظر لقضايا المرأة،‏والتي أوقعت بقاسم أمين إلى أن يكون سجالياً ‏هو الآخر في منظوراته التي عبر عنها في كتابه «المرأة الجديدة». بل يمكن القول إن «قاسم أمين» كان سجالياً في كل كتاباته حول المرأة،‏مع اختلاف في طبيعة الدافع، ففي كتابه «المصريون» كان سجالياً في دفاعه عن المرأة المصرية مع الآخر المختلف في الثقافة والجغرافيا والتاريخ، وفي كتابه «تحرير المرأة» كان سجالياً في مواجهة الوضعيات السائدة آنذاك في البيئات المصرية والشرقية عموماً ، على مستوى الأفكار والذهنيات،‏وعلى مستوى التقاليد والعوائد. وهكذا في كتابه «المرأة الجديدة» الذي كان واضحاً ‏عليه الطابع السجالي باعتباره جاء رداً ‏على الانتقادات الغاضبة والعنيفة من الوسط الديني المصري حول كتابه «تحرير المرأة».
ومنذ ذلك الوقت والمعركة حول قضايا المرأة قائمة ومستمرة بين النخب والجماعات المتغايرة في مرجعياتها الفكرية. وانتقلت من مصر إلى مجتمعات عربية أخرى، ففي لبنان فتحت «نظيرة زين الدين» [1908ـ1976م] معركة أخرى سنة 1928م، حينما أصدرت كتابها «السفور والحجاب» الذي دافعت فيه عن حق المرأة في السفور، وأن الحجاب يورث نصف الأمّة الشلل،‏وربطت القضية بالتقدم والتمدن حيث اعتبرت أن «الأمم التي نبذت الحجاب أمم راقية في العقل والمادة،‏رقياً ليس للأمم المتحجبة مثله» (11) . فرد عليها «مصطفى الغلاييني» سنة 1928م، بكتاب حمل عنوان «السفور والحجاب المنسوب إلى الأنسة نظيرة زين الدين». وحصلت بينهما مشادة أخذت طابع كما يصفها «فهمي جدعان» «الفضيحة الأدبية» (12) .
ثم عادت الكاتبة «زين الدين» وصنفت كتاباً على الرد بعنوان «الفتاة والشيوخ: نظرات ومناظرات في السفور والحجاب وتحرير العقل وتحرير المرأة والتجدد الاجتماعي في العالم الإسلامي» نشرته المطبعة الأميركانية في بيروت سنة 1929م.
وفي تونس نشر «الطاهر حداد» [1317ـ1353هـ/1899ـ1935م] كتاباً ‏بعنوان «امرأتنا في الشريعة والمجتمع» سنة 1930م، اعتبره «فهمي جدعان» الذي تتبع الكتابات النقدية حول المرأة،‏من أجرأ الانتقاديين الاجتماعيين النسويين بإطلاق. فقد تخطى صراحة «ابن الخوجة» و«قاسم أمين» و«باحثة البادية» و«نظيرة زين الدين»، ودفع دعاواه إلى حدود رأي بعض نقاده على أنها تخرجه صراحه من حظيرة الإسلام (13) . فقد دعا إلى تغيير الأحكام المتعلقة بالمرأة، على اعتبار أنها من الأحكام التي يشملها التغيير وفقاً لقانون التغيير الاجتماعي،‏ولضرورات التوفيق بين الشريعة الإسلامية والحاجات المعاصرة،‏كتغيير نظام الإرث، واستبدال عقوبة الزنا بإجراءات حديثة،‏ومنع تعدد الزوجات.. إلى غير ذلك. ووجه نقداً ‏عنيفاً للفقهاء وعلماء الدينن وحملهم مسؤولية جمود الفقه ونظام القضام في الإسلام، والقول بانتهاء أمد الاجتهاد. فرد عليه الشيخ «محمد صالح بن مراد» من علماء الزيتونة بكتاب شديد القسوة حمل عنوان «الحِداد على امرأة الحَداد» صدر في تونس سنة 1931م. وبسبب هذه الآراء حرم «الطاهر حداد» من الحصول على شهادة في الحقوق، وطرد من قاعة الامتحان بأمر ملكي، وذلك بعد أن بلغت الحملة عليه غاية قوتها واتساعها (14) .
والكتابات السجالية التي جاءت بعد ذلك، أعادت تكرار واجترار الأفكار السابقة عليها،‏واكتسبت منها الجرأة والاندفاع والاحتماء.
وهناك ملاحظات نقدية على هذا النسق من الكتابات منها:

أولاً : في المنهج. لقد انطلقت تلك الخطابات أو الأغلب منها من مرجعية الثقافة الأوروبية، واتخذت من المرأة الأوربية نموذجاً لها، ومن التطور والتقدم الذي شهدته أوروبا على مراحل متعاقبة قانوناً في التغيير الاجتماعي والتمدن الحضاري. فهذا هو المنهج الذي إتبعه «قاسم أمين» في كتابه «تحرير المرأة» إذ ينطلق من المفهوم الدارويني للتطور كقانون علمي، ليس في نطاق الظواهر الطبيعية فحسب، بل يطبقه على الظواهر الإنسانية. فالمرأة في أوروبا وصلت إلى قمة تقدمها عبر أطوار ومراحل متعاقبة ومتكاملة، وهكذا هو حال المرأة المصرية والشرقية عليها أن تقطع مراحل أساسية للوصول إلى درجات عالية من التمدن والتقدم. أما كتابه «المرأة الجديدة» فقد اتخذ من المرأة الأوروبية نموذجاً ، حيث أظهر محاسنها وتمدنها. وقد أعلن بوضوح كبير عن هذه الرؤية في الأسطر الأولى من هذا الكتاب‏إذ يقول: «المرأة الجديدة هي ثمرة من ثمرات التمدن الحديث، بدأ ظهورها في الغرب علىýأثر الاكتشافات العلمية التي خلصت العقل الإنساني من سلطة الأوهام والظنون والخرافات، وسلمته قيادة نفسه، ورسمت له الطريق التي يجب أن يسلكها.. ثم أكمل عمله بأن نسخ معظم ما كان الرجال يرونه من مزاياهم التي يفضلون بها النساء،‏ولا يسمحون لهن بأن يساوينهم في كل شيء» (15) .
وعن مرجعيته الفكرية فقد تحدث «محمد عمارة» عن تحولاته الفكرية،‏ووجد بعد صدور كتابه «تحرير المرأة» مقارنة بكتابه السابق عليه بخمس سنوات «المصريون» «إن الذي كان يرد على قاسم أمين في تحرير المرأة،‏هو قاسم أمين في «المصريون».. ذلك أن قاسم أمين قد قدم في تحرير المرأة الآراء التي كان ينقضها ويفندها في ـ المصريون ـ، وعندما نقرأ كتابه ـ المصريون ـ‏يخيل إلينا أن الذين يتحدثون ويبرهنون ويجادلون هم خصوم قاسم أمين،‏وبالذات فيما يتعلق بالحجاب والطلاق وتعدد الزوجات» (16) .
وبعد صدور كتابه «المرأة الجديدة» ظهر التحول واضحاً على فكر «قاسم أمين» بانحيازه للثقافة الأوروبية. وهذا ما توصل إليه الباحثون والمؤرخون الذين وجدوا في صدور هذا الكتاب إمكانية المقارنة لفهم وتحليل تطور المرجعية الفكرية لقاسم أمين. لذلك يرى «ألبرت حوراني» بأن لهجة «قاسم أمين» في كتابه «المرأة الجديدة» «قد تغيرت كثيراً ، فهو هنا أكثر جدلاً ، كما أن أساس البحث فيه قد تحول تحولاً ‏تاماً . فكأنما انهارت تحت صدمة الغضب واجهة البنيان الإسلامي،‏فظهر من ورائها بنيان فكري مختلف تمام الاختلاف عنها. لم يعد قاسم أمين هنا يستند إلى نصوص القرآن الكريم‏والشريعة مع تفسيرها بما يعتبر التفسير الصحيح،‏بل إنه أصبح يستند إلى العلوم والفكر الاجتماعي في الغرب الحديث.. وما الإتيان على ذكر هربرت سبنسر أكثر من مرة في كتابه إلا تعبيراً حياً ‏عن هذا التحول» (17) .
أما «فهمي جدعان» فهو يأسف على هذا التحول في فكر «قاسم أمين» حيث يعتبر صدور كتابه «المرأة الجديدة» نتيجة الأثر السيء في نفس الرجل،‏مع ما تعرض إليه من انتقادات عنيفة وقاسية،‏ويحمل الفكر الديني التقليدي كما يصفه «جدعان» قدراً ‏من المسؤولية في ذلك. وفي تقييمه لهذا الكتاب يقول «جدعان» «لايملك الباحث المدقق إلا أن يأسى لما يعكسه من وقوع انتقامي في أحضان الليبرالية الغربية البرجوازية» (18) .
ثانياً : في الزمان. لقد جاءت تلك الخطابات والأفكار في زمان كان من الصعب التحكم في مناخاته بالشكل الذي يساعد على التقدم بأوضاع المرأة،‏بعيداً ‏عن المؤثرات الخارجية ومنظومات الأفكار الأجنبية. فقد كانت مصر والبلدان العربية خاضعة لسيطرة الاستعمار الأوروبي‏بهيمنة شاملة،‏وبعقلية تراقب الأفكار والاتجاهات، وترصد التطورات والتحولات بعناية فائقة. مما يفسر طبيعة الهواجس والمخاوف التي تولدت عند الأوساط الدينية، من قضية المرأة. وقد تحدث «قاسم أمين» عن قوة اتساع النفوذ الأوروبي وآلياته في السيطرة، فخصص فصلاً عن أوروبا في كتابه «المصريون» قال فيه: «إن أمام مصر عقبة رهيبة هي أوروبا. لقد أخذ تأثير أوروبا يتزايد في مصر منذ عصر سعيد، حتى أصبح له في عصر إسماعيل سيطرة حقيقية علينا. إذ باتت كل أفعالنا ولفتاتنا خاضعة للأوامر الصادرة عن مجالس وزراء باريس ولندن وبرلين، وأضحى وزراؤنا يميلون مرة إلى اليمين، ومرة إلى اليسار،‏خاضعين دائماً ‏لأوروبا.. إن أوروبا استخدمت دائماً ‏هذه السيطرة ضد مصر» (19) .
أما في كتابه «تحرير المرأة» فقد اعتبر أن «تمدن الأمم الغربية يتقدم بسرعة البخار والكهرباء، حتى فاض من منبعه إلى جميع المسكونة، فلا يكاد يوجد فيها شبر إلا وطأه بقدمه،‏وكلما دخل في مكان استوى على منابع الثروة فيه،‏من زراعة وصناعة وتجارة، ولم يدع وسيلة من الوسائل إلا استعملها فيما يعود إليه بالمنفعة، وإن أضر بجميع من حوله من سكان البقاع الأصليين.. وهو في الغالب يستعمل قوة عقله،‏فإذا دعت الحال إلى العنف واستعمال القوة لجأ إليهما» (20) .
وقد لاحظ «غالي شكري» أن هناك تشويشاً فكرياً ‏عند «قاسم أمين»، هذا ما خلصه إليه في نهاية تقييمه عنه،‏إذ يرى «أن قاسم أمين لم يمنح الفكر العربي الحديث رافداً ‏منهجياً مستقيماً ‏من المنبع إلى المصب، كما فعل الفكر الغربي. إنه يتأثر بفكرة التطور عند سبنسر، وبالمكتشفات الفسيولوجية في العلوم،‏وبالاختيارات الديمقراطية لأنظمة الحكم، وبمظاهر التمدن الغربي وهي مؤثرات ليست متناقضة جذرياً لأنها ثمرات الفكر البرجوازي الغربي، ولكنها مؤثرات متباعدة السياق المنهجي عن بعضها بعضاً . والحقيقة أن هذا التشويش الفكري عند قاسم أمين، هو ثمرة التوحد مع خطوات البرجوازية المحلية وهمومها ومشكلاتها وقضايا نهضتها، فلأنها برجوازية متخلفة وناشئة وتنمو في أحضان غيرها،‏فإن جراحها تعددت وتطلبت أكثر من دواء في أكثر من موضع» (21) .
ثالثاً : في الأسلوب لقد برهنت التجريبات والاختبارات في المجتمعات العربية والإسلامية على أن قضايا المرأة بوجه خاص، بحاجة إلى معالجات هادئة وتدريجية وإنمائية. بخلاف ما كانت عليه تلك الكتابات والخطابات التي اتصفت بالانفعالية والسجالية والاندفاع. ولقد مثل «قاسم أمين» نموذجاً ‏واضحاً على ذلك،‏فقد تسارعت انتقالاته الفكرية حول قضايا المرأة حسب الوضعيات والمناخات التي اصطدم بها. فمن دفاع عن حجاب المرأة في كتابه «المصريون»، إلى تقييد الحجاب وتحديده وفق الشريعة الإسلامية، في كتابه «تحرير المرأة»، إلى تبنيه ودفاعه عن النموذج الغربي للمرأة في كتابه «المرأة الجديدة». ويرى الدكتور «رضوان السيد» «إن الشيخ رشيد رضا الذي رحب بكتاب تحرير المرأة، اتخذ موقف الصمت بعد صدور كتاب المرأة الجديدة، فلم يذكر الكتاب بخير أو شر.. ثم عمد قبل وفاته بقليل إلى إصدار كتابه نداء للجنس اللطيف، أوائل 1934م، فيما يشبه أن يكون رداً ‏على كتابات قاسم أمين قبل ثلاثين عاماً » (22) .


[3] من أين نؤرخ لقضايا المرأة؟

تتعمد الكتابات العربية المعاصرة، في أن تؤرخ لقضية المرأة من كتاب «قاسم أمين» «تحرير المرأة» وتدافع عن ذلك بمحاولات لا تخلو من تحيزات، كما نراها عند «محمد عمارة» الذي يحاول أن يعطي حق الريادة لقاسم أمين في مقابل «أحمد فارس الشدياق» [1804ـ1888م]، ولمصر في مقابل تركيا العثمانية. فبعد أن يتحدث عما يسميه «خلاف قائم بين عدد من الذين عرضوا بالتأريخ لذلك الحدث الذي حاول به هؤلاء المفكرون والمصلحون أن يتخطوا بالمرأة نطاق حريم العصور المظلمة، إلى أعتاب ورحاب الاستنارة واليقظة.. فهناك من يرى أن فضل الريادة في هذه الدعوة إلى تحرير المرأة معقود لقاسم أمين. ومؤدى هذا الرأي أن الدعوة إلى تحرير المرأة لم تعرفها مجتمعاتنا الشرقية،‏ومصر بالذات، قبل تاريخ صدور كتاب تحرير المرأة في سنة 1899م. وهناك من يرى أن الأتراك العثمانيين كانوا أسبق من المصريين في سلوك هذا السبيل، وأن الآستانة ‏قد ارتفعت فيها هذه الصيحة قبل القاهرة، وأن صحيفة الجوائب. قد شهدت دعوة صاحبها أحمد فارس الشدياق إلى تحرير المرأة قبل أن يولد قاسم أمين. ويعللون سبق الأتراك إلى هذا الميدان بكثرة اختلاطهم بالأجانب،‏وسبقهم في الإطلاع على أسباب التمدن الحديث» (23) . ولأجل أن لا تكون الأسبقية للشدياق وبالتالي إلى تركيا العثمانية، لذلك يحاول «عمارة» أن يبحث عن من هو أسبق من «الشدياق» لكي يثبت ريادة مصر، فيتوصل إلى «رفاعة الطهطاوي» [1216ـ1290هـ/1801ـ1873م]، وحسب رأيه «إذا نحن نقبنا في الفكر العصري الذي شهدته مصر في ظل تلك الدولة الحديثة ومجتمعها، وجدنا الدعوة غير المباشرة إلى تحرير المرأة وتعليمها معلنة في كتاب رفاعة الطهطاوي «تخليص الابريز في تلخيص باريز»، وتاريخ تأليفه سابق على أكتوبر 1830م، وطبعته الأولى قد صدرت سنة 1834م، وترجم إلى التركية في ذلك التاريخ..‏ثم يأتي كتابه المرشد الأمين لتربية البنات والبنين،‏الذي كتبه في بداية السبعينات، بتكليف من ديوان المدارس كي يدرس في مدارس البنات، حاوياً لكثير من الآراء ووجهات النظر التي يمثل مجموعها أول بناء فكري شبه متكامل يكرسه مفكر عربي لقضية تحرير المرأة في عصرنا الحديث.. وهكذا تسبق مصر،ويسبق المصريون الأتراك في الدعوة إلى تعليم المرأة وتغيير أوضاعها.. ويسبق الطهطاوي الشدياق وغيره في ارتياد هذا الميدان» (24) .
أما الريادة التي يعطيها «عمارة» لقاسم أمين، فيرى أن الميزة التي «ينفرد بها عن كل من عداه من المفكرين والمصلحين الذين أسهموا بسهم في هذا السبيل.. فكل من عدا قاسم أمين كان حديثهم عن تحرير المرأة والنهوض بها أمراً من أمور كثيرة تناولوها. أما قاسم أمين فهو الوحيد من بين كل هؤلاء الذي وهب كل جهوده وجميع آثاره تقريباً ‏لهذه الدعوة، حتى لقد ذهب علماً عليها، ورمزاً ‏لها.. فإذا لم تكن ريادته ريادة سبق. وإذا لم يكن سبقه سبق زمان وتاريخ فإن له الريادة في تكريس كل جهده الفكري لهذه القضية قبل غيره من قضايا الإصلاح» (25) وقد استشهد «عمارة» برأي للدكتور «محمد حسين هيكل» [1305ـ1375هـ/1888ـ1956م] في أن «أول صيحة لهذا التحرير هي صيحة قاسم أمين في كتابيه تحرير المرأة والمرأة الجديدة» (26) .
أما «بوعلي ياسين» الذي نشر كتاباً رصد فيه تطورات الكتابة العربية حول حقوق المرأة منذ عصر النهضة، حيث يرى في كتاب «تحرير المرأة» أنه يؤرخ لمرحلة جديدة في نظرة عصر النهضة إلى المسألة النسوية،‏ويعده أهم وأشهر كتاب عربي صدر في عصر النهضة حول حقوق المرأة (27) .
أمام هذه القضية هناك بعض الملاحظات الأساسية:
أولاً : قبل قاسم أمين كانت هناك محاولات مهمة ومبكرة في الدعوة لإصلاح أوضاع المرأة والتقدم الاجتماعي بأحوالها. لكنها محاولات لا يراد لها أن تكون في المقدمة،‏ويعطى لها حق الريادة، ولا يأتي الحديث حولها إلا عرضاً وللتذكير بها فقط.
ولعلها تصنف على الفكر الديني،‏لذلك لا يشملها الاهتمام كما ينبغي. خصوصاً ‏وأن الذين أرخوا لحركة الأفكار وتاريخيتها وتحولاتها في المنطقة العربية،‏الأغلب منهم كانوا من توجهات علمانية ويسارية،‏فلم يعتنوا بالكتابات الإسلامية أو يبرزوا قيمتها المعرفية.
وقد تتبع «فهمي جدعان» محاولات الإسلاميين في العالم العربي الذين كانت لهم كتابات إصلاحية حول قضايا المرأة،‏قبل «قاسم أمين» وأكد على قيمتها،‏واعتبر كتابات «زينب فواز» [1262ـ1332هـ/1846ـ1914م]، من أبرز الأعمال النسائية عند نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وهي أعمال قد انتشرت في معظم الأقطار العربية الإسلامية. ونشر «حمزة فتح الله» كتاباً ‏سنة 1890م في القاهرة، بعنوان «باكورة الكلام على حقوق النساء في الإسلام». إلا أن ما كتبه «محمد بن مصطفى ابن الخوجة» [1281ـ1333هـ/1865ـ1917م] حسب ما يرى «جدعان» يعكس أكثر من غيره الصورة النظرية العامة لحدود قضية المرأة في تلك المرحلة،‏وكان حريصاً ‏على نشدان المدنية في كتاباته، إذ نشر سنة 1895م كتاب «الاكتراث في حقوق الإناث»، وسنة 1907م نشر كتابه الآخر بعنوان «اللباب في أحكام الزينة واللباس والاحتجاب» وإن بعض أفكار «قاسم أمين» الأولى تذكر بأفكار «ابن الخوجة» للتشابه بينهما (28) .
ثانياً : مرت على «قاسم أمين» انتقالات سريعة ومندفعة أحياناً في أفكاره حول المرأة،‏الملاحظة التي لا تحتاج إلى أدلة عليها لشدّة وضوحها. ففي الوقت الذي دافع فيه «قاسم أمين» عن نظام الحجاب بالشكل الذي كان سائداً في عصره، كما أوضح ذلك في كتابه «المصريون» سنة 1894م، ثم عاد وانتقد ذلك النظام من الحجاب في كتابه «تحرير المرأة» سنة 1899م، وطالب بتقييده وفق حدود الشريعة الإسلامية التي أباحت للمرأة كشف الوجه واليدين. أما في كتابه «المرأة الجديدة» سنة 1900م، فقد اعتبر المرأة الأوروبية نموذجاً لتمدن المرأة المصرية والشرقية. وهكذا نلمس هذا التغير والانتقال حتى في رؤيته لمسائل الطلاق وتعدد الزوجات.
فقاسم أمين لم يكن واحداً في فكره، بل كان متعدداً ‏ومختلفاً ‏ومتناقضاً أيضاً . وحين تؤرخ الكتابات العربية لقضية المرأة من «قاسم أمين» فعن أي مرحلة هي تؤرخ؟ وعن أي طور من أطوار «قاسم أمين» الفكرية؟ فهذا ما ينبغي أن يتحدد، ويفصل فيه!
ثالثاً : إن توقف أو تراجع التجديد والكشف والإبداع منذ بداية القرن العشرين، كان سبباً أساسياً في جمود الفكر العربي على حالة شديدة النمطية، وهي الحالة التي تواترت وترسخت في الكتابات العربية اللاحقة. فأصبح ما يمكن أن نطلق عليه بعمليات تنميط الفكر من خلال التركيز والتشديد على بعض الأسماء، وإهمال لأسماء أخرى، إما لأنهم لم يستكشف جهدهم الفكري، وإما لأن هذا الجهد لم يرتبط بمعارك فكرية،‏يعرف من خلالها، وتكون سبباً في توجه الاهتمام إليه، كالذي حصل مع البعض. وهذا ما يفسر الأسماء المحدودة التي تتكرر دائماً في أدبيات الفكر العربي المعاصر،‏التكرار الذي كرس حالة النمطية الجامدة. وبشكل من الأشكال يصدق هذا الكلام على «قاسم أمين» وعلى غيره أيضاً .
رابعاً : كان يفترض أن يرتبط تاريخ الدفاع عن قضايا المرأة،‏بالمرأة ذاتها لا بالرجل، لرفع ما يمكن وصفه بوصاية الرجل على المرأة،‏واستبداده في التعامل معها، وحتى لا يكون هو المخول بقضاياها وكأنها قاصرة وغير قادرة في الدفاع عن قضاياها. ولأنها من الممكن أن تكون الأقدر على فهم إشكالياتها،‏ولاشك أنها أقرب ما تكون إلى عالمها الداخلي ومنطقها الفكري. وغالباً ما يحدث أن يجري تناول قضايا المرأة بين الرجال،‏وتكون المرأة هي الغائب بينهم. وهذا ما يظهر واضحاً على كثير من المؤلفات والكتب التي تناولت موضوعات المرأة،‏لكنها خاطبت الرجل،‏وكان هو المقصود بالمجادلة والمناظرة والمحاورة،‏وكأن مشكلة المرأة هي في الرجل، أو هو الذي يفترض أن يواجه هذه المشكلة، وليست المرأة، أو لأنه صاحب القدرة والهيمنة وبيده القرار والسلطة.‏ولم تسلم من هذه الإشكالية كتابات «قاسم أمين» التي خاطبت عالم الرجال وليس عالم المرأة.
والذي يبرر لنا موضوعية هذه الملاحظة، هو إمكانية أن يؤرخ لقضايا المرأة من المرأة نفسها،‏والتي سبقت «قاسم أمين» في الدفاع عن حقوقها وتصوير مشكلاتها،‏وفي المطالبة بتحسين أوضاعها وأحوالها في البيت والمجتمع،‏وفي حقل التعليم والعمل،‏وفي الالتزام بواجباتها وحقوقها. والأسم الذي يبرز في هذا المجال هو السيدة «زينب فواز» من جنوب لبنان. وحسبما يرى «جميل قاسم» فإن أعمالها وكتاباتها تضع التأريخ لقضية المرأة في نصاب جديد، فالرسائل الزينبية الداعية إلى مساواة المرأة بالرجل، في العلم والعمل والسياسة، سابقة لدعوة قاسم أمين‏وعائشة تيمور، كما ترى الأديبة اللبنانية إميلي نصر الله،‏والباحثة اللبنانية فوزية فواز، وثلة من المؤرخين المصريين. ويجمع هؤلاء على أن صوتها كان الأول في الدعوة إلى النهضة والتحرير.. حيث باتت تلقب بحجة النساء ودرة الشرق هاجرت إلى مصر وهناك أظهرت نشاطاً ‏ثقافياً ‏وأدبياً ‏بارزاً ، حيث نشرت العديد من المقالات والكتابات في أشهر الصحف المصرية آنذاك مثل «المؤيد» و«الأهالي» و«المهندس» و«الهلال» و«المقتطف» و«اللواء» و«أنيس الجليس» و«رائد النيل» و«لسان الحال». ويحتمل «جميل قاسم» أن يكون «قاسم أمين» قد تأثر بكتاباتها ومقالاتها حول حقوق المرأة ونهضتها، دون ان يبرهن على ذلك. وذكرتها «مي زيادة» في كتاباتها، وأشار إليها معاصرها «ابن الخوجة الجزائري». في المقابل نرى موقف الإقصاء والإلغاء الذي قد ينطلق من دوافع ايديولوجية غير موضوعية، كالتي عبر عنها «بوعلي ياسين» في كتابه «حقوق المرأة في الكتابة العربية منذ عصر النهضة» فبعد أن يعترف لها بالريادة والأسبقية كأول صوت نسائي عربي يطالب بحقوق المرأة في العصر الحديث، يعقب على ذلك بقوله: «إنما ضمن أوسع الحدود التي يسمح بها الفهم التقليدي للإسلام، دون جهد تجديدي معتبر مع وعيها بانتمائها العربي،‏فإن عصبيتها كانت إسلامية خالصة. ولم تكن لديها أية تصورات أو مطالب سياسية مخالفة للنظام السائد في مصر والإمبراطورية العثمانية» (29) . لذلك فإن هناك حاجة لتجديد النظر في كتابة تاريخ نهضة المرأة منذ بداية القرن العشرين في الفكر العربي المعاصر.

[4] تحرير المرأة بين منظورين

لقد وجدت الخطابات العربية المعاصرة في عنوان كتاب «قاسم أمين» «تحرير المرأة» نموذجاً تفسيرياً لتحليل مشكلة المرأة،‏ومدخلاً ‏لتكوين فهم نقدي شديد الجذرية والصرامة،‏وشعاراً ‏ساحراً لحركات تدعو لإصلاح أوضاع المرأة والدفاع عن حقوقها ومساواتها أمام الرجل في القوانين المدنية والدستورية. وأخذ «قاسم أمين» يوصف في تلك الخطابات بنصير حقوق المرأة، وبمحرر المرأة. لكنه في نظر «ألبرت حوراني» «لايستحق هذا اللقب. فهو لا يقترح مثلاً ‏أن تمنح المرأة حقوقاً ‏سياسية. إلا أنه مع إقراره بأن ما من سبب مبدئي يحول دون ذلك،‏فهو يعتبر أن المرأة المصرية بحاجة إلى وقت طويل من التثقيف الفكري قبل أن تصبح جديرة بالاشتراك في الحياة العامة» (30) .
والحقيقة أن تلك الخطابات تمسكت بعنوان الكتاب، أكثر من قناعتها بمضامينه،‏وإنحازت إلى المؤلف، اكثر من انحيازها لأفكاره. خصوصاً بعد النزاع الفكري الذي فجره الكتاب مع بعض الأوساط الدينية. لأن قاسم أمين لم يخرج في كثير من آرائه عن أفكار الشيخ «محمد عبده» بالذات في المسائل المتصلة بالشريعة الإسلامية. لذلك فإن «ألبرت حوراني» يصف «قاسم أمين» في هذا الكتاب بالمحافظ، ويرتب على ذلك سبباً آخر لعدم استحقاق «قاسم أمين» لقب نصير المرأة، لأنه كما يقول مثل «محمد عبده يخاطب الذين لا يزالون يؤمنون بالإسلام، فيستند في كل موقف يتخذه إلى القرآن أو الحديث فلا مجال للأخذ والرد» (31) .
ومع أن «قاسم أمين» أطلق على كتابه «تحرير المرأة» إلا أنه لم يستخدمه كمصطلح أو كمفهوم في نص كتابه،‏واستخدم بدلاً ‏عن ذلك مفهوم الإصلاح الذي أشار إليه في المقدمة بقوله: «قد طرقت باباً من أبواب الإصلاح في أمتنا» (32) . وحدد ما يريده ويقصده من مفهوم «تحرير المرأة» بمفهوم الإصلاح أيضاً في الخاتمة،‏إذ يقول: «إن ما نريد إدخاله من الإصلاح في حالة النساء، ينقسم إلى قسمين: قسم يختص بالعادات وطرق المعاملة والتربية. والقسم الثاني: يتعلق بدعوة أهل النظر في الشريعة الإسلامية والعارفين بأحكامها إلى مراعاة حاجات الأمة الإسلامية وضروراتها فيما يختص بالنساء» (33) . ويرى «فهمي جدعان» بأن كتاب «المرأة الجديدة»، «هو الذي يستحق أن يحمل عنوان تحرير المرأة،‏لأنه هو الذي تدور كل أفكاره وصفاته على مفهوم الحرية والتحرر. أما كتاب تحرير المرأة نفسه فلم ترد فيه كلمتا الحرية والإطلاق إلا مرات قليلة جداً ، وهو أجدر بأن يكون كتاباً في تربية المرأة مؤسساً على منهج الإصلاح الذي تميز به محمد عبده ومدرسته» (34) .
وحتى حينما تحدث «قاسم أمين» عن مفهوم «تحرير المرأة» في مقدمة كتابه «المرأة الجديدة» حدده تاريخياً ‏ومرجعياً بالإسلام، وحسب قوله: «المطلع على الشريعة الإسلامية يعلم أن تحرير المرأة هو من أنفس الأصول التي يحق لها أن تفتخر به على سواها، لأنها منحت المرأة من اثني عشر قرناً ‏مضت الحقوق التي لم تنلها المرأة العربية إلا في هذا القرن وبعض القرن الذي سبق، حتى إنها لا تزال محرومة من بعض الحقوق، وهي الآن مشتغلة بالمطالبة بها» وختم كلامه في نهاية هذه المقدمة بمفهوم الإصلاح «فهل يجدر بنا في هذا العصر أن نغفل مقاصد شرعنا،‏ونهمل الوسائل التي تؤهل المرأة إلى استعمال هذه الحقوق النفيسة،‏ونضيع وقتنا في مناقشات نظرية لا تنتج إلا تعويقنا عن التقدم في طريق إصلاح أحوالنا؟» (35) .
ومن بعد «قاسم أمين» تغير مفهوم «تحرير المرأة» وارتبط كلياً بمرجعية الثقافة الأوروبية ونموذجها في المرأة،‏وأصبح شعاراً ‏للجماعات والنخب غير الدينية،‏يستخدم بطريقة تصادمية مع قيم الشريعة الإسلامية وأحكامها. فحين يدعو «سلامة موسى» [1305ـ1377هـ/1888ـ1958م] إلى تحرير المرأة باعتبار كما يقول أن «ابرز ما يفصل الشعوب العربية والغربية هو حال المرأة بينهما» وحسب رأيه فإن عبارة «تحرير المرأة» تحتمل طائفة من المعاني «فهي تعني تحريرها من الجهل بالتعليم، وتحريرها من التقاليد بإلغاء الحجاب ثم مساواتها بالرجال في الحقوق الدستورية والمدنية» وحين يتساءل عن العوامل التي عملت على تحرير المرأة،‏فالعامل الأول حسب نظره هو «الاحتكاك بالحضارة الأوروبية في أشخاص الجاليات الغربية التي تقيم، أو كانت تقيم،‏منذ أكثر من سبعين سنة في مدننا الكبرى مثل القاهرة والاسكندرية وبورسعيد. فإنها بعيشتها،‏وأزياء نسائها،‏ونشاطهن في الأعمال الحرة، أوجدت قيماً ‏وأهدافاً ‏جديدة أخذ بها المجتمع المصري» (36) .
وبمناسبة مرور مئة عام على صدور كتاب «تحرير المرأة» نظم المجلس الأعلى للثقافة في مصر مؤتمراً حاشداً حضره عدد كبير من النساء والرجال،‏ومن أقطار عربية مختلفة،‏عقد في 23ـ28 تشرين الأول/ أكتوبر 1999م. ولعل أهم نتيجة خرج بها المجتمعون، هي أن سنوات القرن العشرين لم تكن كافية لإنجاز ما كانت تصبو إليه المرأة العربية،‏لذلك طالبت بعض المتحدثات بقاسم أمين آخر لهذا العصر، ودعت أخرى إلى إنشاء جائزة باسم «قاسم أمين» تمنح سنوياً إلى رجل تحرر ذهنه من التصورات البالية تجاه المرأة. في حين انتقدت بعض الحاضرات الربط الذي وصفته بالتعسف بين تحرر المرأة العربية وصدور كتاب «قاسم أمين» «تحرير المرأة»، ورأت أن هذه القضية تحتاج الآن إلى تنقيتها من التأثيرات الغربية. وكان الهدف من عقد هذا المؤتمر هو إجراء مراجعة شاملة لمسيرة حركة تحرير المرأة العربية خلال قرن، ودراسة الإنجازات التي حققتها والعقبات التي واجهتها،‏بالإضافة إلى استشراف نظرة مستقبلية للقرن الحادي والعشرين.
وقد أكد هذا المؤتمر، أن نمط التفكير السجالي مازال مسيطراً ‏على الذهنيات العربية، التي لم تستطع تجاوز الهواجس التقليدية القديمة في النظر إلى قضايا المرأة،‏وكأن أوضاعها لم تشهد تغيراً خلال نصف قرن. وكان في تقييم بعض النسوة أن المؤتمر لم يقدم نقاشاً حقيقياً ‏يستند على معرفة ما طرأ على المجتمعات العربية من تبدلات وتغيرات، وهذا ما ذهبت إليه الكاتبة المصرية «دلال البزري» التي انتقدت ما أسمته الإصرار على تناول الأوضاع الجديدة للنساء العربيات من منظور نسوية الستينيات ذي الطابع العوائقي على حد وصفها.
أما عن رؤية الأدبيات الإسلامية لمسالة «تحرير المرأة» فيرى الشيخ «محمد مهدي شمس الدين» إن هذا الشعار «يتضمن إقراراً ‏بأن ثمة وضعاً ‏غير عادل وغير إنساني تعاني منه المرأة،‏وهذا الوضع يتعلق بموقعها الإنساني أو بمركزها الحقوقي أو بهما معاً .. ومطلقو هذا الشعار والعاملون في حركة تحرير المرأة لا يعنون أن المرأة مسترقة يمارس عليها من قبل الرجل والمجتع استعباد بالمعنى القانوني. فهي من الناحية القانونية النظرية حرة، لكنها لا تتمتع بآثار الحرية في الاعتراف بشخصيتها الإنسانية المكافئة للرجل، ومن ثم الاعتراف بكرامتها. ولا تتمتع بآثار الحرية في المجال الحقوقي، فهي في المجال الأول منتقصة الكرامة، وفي المجال الثاني منتقصة الحقوق.. وهذا الوضع ليس من خصوصيات المجتمعات المسلمة فحسب،‏بل هو حالة سائدة في المجتمعات الأخرى المسيحية والغربية وغيرها.. وإن ما تعرضت له المرأة المسلمة من امتهان في الكرامة وانتقاص في الحقوق، لم يكن نتيجة لنظرة الإسلام وأحكام الشريعة الإسلامية، بل كان نتيجة لاهمالها وتجاوزها» لذلك يدعو الشيخ «شمس الدين» المجتمعات الإسلامية إلى تصحيح وضع المرأة المسلمة بتحريرها من الأعراف والتقاليد التي ترتبت عليها قيود غير مشروعة،‏وإعادة الإعتبار إلى المرأة المسلمة باعتبارها إنساناً مكرماً ، وباعتبار ما لها من دور عظيم الأهمية في تكوين المجتمع وتحصينه وفي تقدمه وازدهاره (37) .
أما السيد «محمد حسين فضل الله» فهو يتفهم طبيعة الأوضاع التي انبثق منها شعار «تحرير المرأة» وحسب رأيه «لعل شعار تحرير المرأة في طبيعته،‏ناشئ من الواقع السيء الذي كانت المرأة تعيشه، في أجواء التقاليد والعادات المتخلفة التي تضطهد إنسانيتها، وتعاملها كما لو كانت مجرد شيء من أشياء الرجل التي صنعت للاستمتاع، من دون أن يكون لها أي دور فاعل في الحياة. حتى الأمومة التي هي رسالتها في مضمونها الإنساني، لا ينظر إليها من قبل المجتمع المتخلف، إلا في دائرة الخدمة التي تؤديها لأولادها بعيداً ‏عن عملية التوعية والتربية والتوجيه،‏لأن مسألة تعلم المرأة ليست واردة في حسابهم،‏باعتبار أن ذلك ليس حاجة في علاقتها بالزوج والولد والبيت وهكذا تمتد المسألة،‏في هذا التقليد الاجتماعي، لترى في تشريع الحجاب أساساً ‏لإبعادها عن كل أجواء العمل المادي،‏والنشاط الاجتماعي والموقف السياسي،‏والثقافة العامة، لأن الحجاب، كما يقولون يشمل المعنى الداخلي،‏والمضمون الحركي للشخصية،‏كما يشمل الجانب المتصل بتغطية الجسد. كل ذلك أعطى للواقع، في حركة المرأة في الحياة،‏معنى الإنسان المقهور الذي لا يعيش حركية إنسانيته،‏واستقلال إرادته بل هو ظل للآخرين، وصدى لأصواتهم، وأداة استهلاكية لحاجاتهم وغرائزهم،‏الأمر الذي جعل القضية تنطلق في معنى الثورة،‏ومضمون التحرير،‏لاتصالها بالتغيير الذي يختزن في داخله حركة حرية الإنسان ليكون تجريره جزءاً ‏من تحرير الإنسان في الجوانب التي تضطهد فيها إنسانيته،‏لتعود المرأة إنساناً صاحب رسالة،‏ومخلوقاً متعدد الأبعاد،‏يتحرك في عقله وعاطفته وإرادته وطاقاته،‏ليضيف إلى الحياة شيئاً ‏جديداً » (38) . وفي تقييمه لهذه القضية يرى السيد «فضل الله» «إن المشكلة في الكثيرين من دعاة الحرية وخصومها،‏أنهم ينطلقون من ملاحظات سريعة في الواقع،‏ومن دراسة نماذج معينة للإنسان،‏ومن سطحية في مواجهة المشكلة والحل، الأمر الذي يجعلهم يستعجلون الحكم على الأشياء إيجاباً ‏أو سلباً في آفاق المطلق الغارق في الضباب..‏لذلك لابد من التوقف أمام شعار حرية المرأة،‏لنطرح السؤال الكبير: ما هي الأمور أو الأوضاع التي ينبغي للمرأة أن تتحرر منها؟ وما هو مفهوم الإسلام للحرية مقارناً بمفهوم دعاة حرية المرأة؟ وهل تقف حرية الإنسان في حدود معينة تتقاطع فيها مصالحه وقضاياه وأهدافه؟ أو أنها تتحرك في اتجاه المطلق من دون حدود أو قيود؟» (39) . والنتيجة التي يخلص إليها السيد «فضل الله» «أن الحرية المسؤولة هي التي تلتقي بالمعنى الإنساني للإنسان في حركة أبعاده المتنوعة التي تتوازن فيها الخصائص والأدوار في النطاق الفردي والاجتماعي، وليست هي التي تلتقي بالأهواء الذاتية التي تستغرق الإنسان في شهواته وغرائزه ومزاجياته بعيداً عن مسؤولياته في واقع الحياة» (40) .
ولعل الأستاذ «عبد الحليم أبو شقة» كان قاصداً استعمال مصطلح «تحرير المرأة» في عنوان كتابه «تحرير المرأة في عصر الرسالة» لكي يلفت النظر إلىýأن أعظم تحول حصل في تاريخ المرأة كان مع انبعاث الإسلام، الذي أعاد للمرأة توازن شخصيتها واعترف لها بحقوقها،‏وصياغة كرامتها. وأراد من هذا الاستعمال أن يربط مفهوم تحرير المرأة بالمرجعية الإسلامية.
وفي سنة 1967م‏نشرت السيدة «بنت الشاطئ» كتاباً بعنوان «المفهوم الإسلامي لتحرر المرأة» وفي وقت آخر دعت بعض الكاتبات إلى ضرورة صياغة حركة جديدة لتحرير المرأة تنطلق من مرجعية الإسلام.
فالأدبيات الإسلامية المعاصرة تدرك ضرورة إصلاح وتغيير أوضاع المرأة،‏وتدعو إلى تعليم المرأة،‏ليس في حدود التعليم الابتدائي كما دعا إلى ذلك «قاسم أمين» في كتابه «تحرير المرأة» بل إلى أعلى مستويات التعليم العالي، وإشراكها في النشاطات الاجتماعية وحتى السياسة،‏وإعطائها كامل الحقوق المدنية والدستورية. وذلك على أساس الإلتزام بالمرجعية الإسلامية. وتنتقد هذه الأدبيات بشدّة النزعة التغريبية لمفهوم «تحرير المرأة» بما قد يلازمها من انفلات وتجاوز لمنظومة القيم والأخلاق.


[5] لماذا المعركة ضد الحجاب!

لقد حاولت بعض الأدبيات العربية أن تقدم تفسيرات موغلة في السلبية والنقد لظاهرة الحجاب عند المرأة، وذلك لكي تبرر مقاومتها الشرسة لهذه الظاهرة. ولم يكن مفهوماً الإفراط في المبالغة لتصوير هذا السلوك،‏والإسراف في الدفاع عن ظاهرة السفور. والطريقة التي تعاملت بها تلك الأدبيات تصور وكأنها تخوض معركة تحتاج منها لاستعمال أقوى ما لديها من الأسلحة. فتارة يوصف حجاب المرأة بأنه سلوك متخلف وضد التقدم والتمدن، وتارة يوصف بالرجعية والظلامية، وتارة يفسر برغبة الرجل في استعباد المرأة واستملاكها، وأخرى يفسر بتعطيل دور المرأة وشلّ طاقاتها. إلى غير ذلك من أوصاف وتفسيرات. والمعركة التي بدأت مع مطلع القرن العشرين حول ظاهرة الحجاب لم تتوقف أو تتراجع حتى مطلع القرن الحادي والعشرين، مع مفارقة في طبيعة حركية سلوك الظاهرة، ففي النصف الأول من القرن العشرين،كان الاندفاع باتجاه السفور خصوصاً في مصر وبلاد الشام مع تزايد دعوات تحرير المرأة،‏وظهور أولى المجلات النسائية في بلاد المشرق العربي التي ربطت التمدن بالسفور، بالإضافة إلى المناخ العام الذي كان بالتأكيد مشجعاً ومحرضاً على هذا السلوك،‏حين كانت البلاد العربية تحت سيطرة الاستعمار الأوروبي، في المقابل أظهرت الأوساط الدينية تخوفاتها الشديدة من تلك الظاهرة، التي وجدت حالها في موقف الدفاع عن الذات، مما يفسر السلوك المتشدد الذي تعاملت به تلك الأوساط تجاه المرأة، بالشكل الذي جعل البعض يتحفظ حتى على تعليمها،‏بسبب ما قدمته تلك الأدبيات من اقتران التعليم بالتحرر والتمدن بالسفور. أما في النصف الثاني من القرن ذاته فقد تغير سلوك الظاهرة،‏وانقلبت صورتها،‏فأصبح الاندفاع نحو الحجاب الظاهرة التي لفتت الانتباه في سرعة حركتها،‏واتساع امتدادها، وتزايد الاقتناع بها عند مختلف الأوساط والطبقات بتصنيفاتها وتقسيماتها المتنوعة، خصوصاً في العقدين الأخيرين. فلم يعد الحجاب يصنف طبقياً على الفئات الفقيرة دون الفئات الثرية، أو تعليمياً على الفئات غير المتعلمة بما في ذلك التعليم العالي، أو حضرياً على الفئات الريفية دون الفئات المدنية..‏إلى غير ذلك من تصنيفات وتقسيمات.
والذي لا جدال فيه اليوم،‏أن الحجاب لم يعد معوقاً ‏أمام تعليم المرأة‏ بمستوياته العالية والمتقدمة،‏ولا معوقاً أمامها في ميادين العمل والمشاركة الاجتماعية. فقد أصبح الحجاب ظاهرة بارزة ومألوفة في كل مرافق حياة المجتمع والدولة. الظاهرة التي برهنت على تهافت المقولات القديمة التي كان أصحابها يتبجحون بها،‏مثل اقتران التمدن بالسفور. ولم تمض هذه الظاهرة دون أن تستثير حفيظة بعض النخب والجماعات التي حاولت أن تفتح معركة جديدة تجاه هذه الظاهرة،‏حيث وجدت فيها حسب فهمها لها تهديداً ‏للمكاسب والمنجزات التي حققتها المرأة خلال القرن الأخير منذ أن دخلت عصر التحرر والتمدن. وهي الجدلية التي حاولت التشكيك في صحتها،‏ونقدها «دلال البزري» حيث قدمت وصفاً ‏لما أسمته بذهنية الحداثيين والحداثيات، وهي بلا شك أقرب إلى فهم هذه الذهنيات،‏في موضوع نشرته بصحيفة الحياة اللندنية،‏بعد مؤتمر تحرير المرأة،‏فقد اعتبرت إن هؤلاء «مصرون على تشخيصهم لفكر الإسلام السياسي بانتشار الحجاب فحسب. فلا يكترثون إلى كون الحجاب كثر في المجال العام،‏وليس خلف الأسوار. فالمحجبات لم يعدن كما كن منذ عقدين، إذ غزون كل الأمكنة تقريباً ، واعتمدن أنظمة ومهناً وأنماط حياة جديدة على نظيراتهن السالفات. هذا الخليط من الأزمنة داخل المرأة المحجبة يود الحداثيون تجاهله، لأن الحجاب وحده يكفي بالنسبة إليهم لتحديدهم الزمن. فيما هذا الخليط يحتاج إلى النظر». فلماذا هذا الغلو والتطرف في مقاومة الحجاب؟ وأين هي الحرية التي باسمها يدافعون عن حقوق المرأة؟ ولماذا يصمت الحداثيون والحداثيات إذا تعلق الأمر بامرأة تدافع عن حقها في التعليم إذا حرمت منه بسبب الحجاب؟ تحت مبررات شديدة التهافت كالدفاع عن القيم العلمانية،‏ورفض التمييز الديني،‏كما يحدث في تركيا وفرنسا ودول أوروبية أخرى، وحصل أيضاً في مصر، مع مدرسة فرنسية في الاسكندرية،‏هي مدرسة «شامبليون» في شهر أيلول/ سبتمبر 2000م، حيث فصلت طالبة في الصف الإعدادي الأول، بعد رفضها خلع الحجاب،‏فاضطرت أسرتها عبر محامي لها أن تبرز أحكاماً ‏قضائية في فرنسا نفسها،‏تؤكد على عدم منع الطالبات من ارتداء الحجاب، باعتباره من الحريات الشخصية،‏ولا يشكل تعطيلاً للعملية التعليمية،‏أو تهديداً للأمن.
أما الذي حصل مع السيدة «مروة قاوقجي» في تركيا التي حرمت من موقعها كنائب في البرلمان المنتخب من الشعب،‏ومن كامل حقوقها المدنية والدستورية،‏لا لسبب إلا لأنها ملتزمة بالحجاب فهذا من أشد صور البؤس والقمع والاضطهاد. وفي هذا الموقف مثلت «مروة قاوقجي» مثال الشجاعة والطهارة والفضيلة،‏وفضحت زيف ما يطلق عليه بقيم الديمقراطية والعلمانية والحداثة.
مع العلم أن «قاسم أمين» لم يكن ضد الحجاب أو داعية للسفور لا أقل في كتابه «تحرير المرأة» فقد كان صريحاً ‏وهو يقول: «ربما يتوهم ناظر أنني أرى الأن رفع الحجاب بالمرة،‏لكن الحقيقة غير ذلك،‏فإنني لا أزال أدافع عن الحجاب، وأعتبره أصلاً ‏من أصول الآداب التي يلزم التمسك بها،‏غير أني أطلب أن يكون منطبقاً ‏على ما جاء في الشريعة الإسلامية» وانتقد من جهة أخرى النساء الغربيات،‏بقوله «والذي أراه في هذا الموضوع هو أن الغربيين قد غلوا في إباحة التكشف للنساء إلى درجة يصعب معها أن تتصون المرأة في التعرض لمثارات الشهوة،‏ولا ترضاه عاطفة الحياء» (41) .
والذي انتقده «قاسم أمين» هو حجب المرأة وليس حجابها، بمعنى عزلها ومنعها عن اكتساب العلم والمشاركة في الحياة العامة.
ما نخلص إليه: لقد كانت أمام الفكر العربي المعاصر تجربة قرن،‏يفترض أن يكون قد اختبر فيه أطروحاته ومفاهيمه حول المرأة،‏أو تشكلت لديه قياسات ومعايير من خلال تجريباته وملاحظاته التطبيقية، ليست بالضرورة تبرهن على قطعية تلك الأفكار وصحتها التامة،‏بقدر ما تؤكد على ضرورة مراجعتها وإعادة النظر فيها،‏بعد أن تغير الوضع العام للمرأة واختلف كلياً ‏عما كان عليه في بداية القرن. والأفكار والمفاهيم التي انطلق منها الفكر العربي باندفاع وثورية في بداية القرن،‏اكتشف نتائج مغايرة لها مع نهاية القرن. فلم يعد الإطار المرجعي الغربي هو الأقدر على استنهاض المرأة وتحريرها، بعد أن برهن الإطار المرجعي الإسلامي قدرته الفائقة والمتجددة،‏ليس فقط على النهوض بالمرأة والتقدم الاجتماعي بأوضاعها،‏وإنما بحمايتها وصيانتها،‏وليس بالانقلاب على الهوية وتغريبها،‏وإنما بالتمسك بالهوية وأصالتها. فتحرير المرأة ليس بالتخلي عن الحجاب،‏والتمدن ليس طريقه السفور، فهذه أفكار ساذجة وتضليلية.
والمشكلة المعرفية أن النخب العربية بذلت جهداً واسعاً في الإطلاع على الفكر الغربي وفلسفاته،‏ونظرياته وتشريعاته وقوانينه، في المقابل لم يعرف عن هذه النخب القدر الكبير من الاهتمام بالتعرف على التشريع الإسلامي وفلسفاته ونظرياته وأصوله وقواعده وتشريعاته. وهذا ما ينبغي أن يقترب منه الفكر العربي المعاصر،‏ويدرك هذه الحقيقة بوعي ثاقب ورشيد. خصوصاً ‏وأن الفكر الإسلامي المعاصر يحاول أن يقدم اجتهادات جديدة ويطور من إمكاناته الفكرية ومنهجياته في البحث والنظر والتفكير.

الهوامش

1) قاسم أمين الأعمال الكاملة. د. محمد عمارة،‏القاهرة: دار الشروق، ط2، 1989م، ص54.
2) الفكر العربي في عصر النهضة. ألبرت حوراني، ترجمة: كريم عزقول، بيروت: دار نوفل،‏1997م، ص175.
3) النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث. د. غالي شكري، القاهرة:‏الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1992م، ص202.
4) قاسم أمين الأعمال الكاملة. مصدر سابق، ص54.
5) أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث. د. فهمي جدعان، عَمان: دار الشروق، ط3، 1988م، ص126.
6) قاسم أمين الأعمال الكاملة. ص126.
7) المصدر نفسه. ص127. نقلاً ‏عن مجلة المنار، العدد 6، شباط/ فبراير 1901م.
8) المصدر نفسه. ص65.
9) النهضة والسقوط في الفكر العربي الحديث. مصدر سابق، ص194.
10) للاطلاع على هذا الجانب من الموضوع يمكن الرجوع إلى كتاب: قاسم أمين الأعمال الكاملة، ص117ـ133.
11) السفور والحجاب. نظيرة زين الدين، بيروت: مطبعة قوزما، 1928م، ص109.
12) أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث. مصدر سابق، ص491.
13) المصدر نفسه. ص492.
14) المصدر نفسه. ص587.
15) قاسم أمين الأعمال الكاملة. ص420.
16) المصدر نفسه. ص55.
17) الفكر العربي في عصر النهضة.‏مصدر سابق، ص175.
18) أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث. ص470.
19) قاسم أمين الأعمال الكاملة. ص300.
20) المصدر نفسه. ص374.
21) النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث. ص210.
22) عصر النهضة العربية..‏الأسئلة الكبرى والإجابات الحائرة. د. رضوان السيد،‏مجلة الفكر العربي،‏بيروت، العدد 39ـ40، حزيران‏ـ‏يونيو/ تشرين الأول ـ أكتوبر 1985م، ص4.
23) قاسم أمين الأعمال الكاملة. ص13.
24) المصدر نفسه. ص14.
25) المصدر نفسه. ص15.
26) المصدر نفسه. ص13. نقلاً ‏عن كتاب: تراجم مصرية وغربية. د. محمد حسين هيكل، القاهرة: مطبعة مصر، ص152.
27) حقوق المرأة في الكتابة العربية منذ عصر النهضة. بوعلي ياسين، دمشق: دار الطليعة الجديدة، ط1، 1998م، ص11ـ43.
28) أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث. ص465ـ466.
29) حقوق المرأة في الكتابة العربية منذ عصر النهضة. مصدر سابق، ص59.
30) الفكر العربي في عصر النهضة. ص174.
31) المصدر نفسه. ص174.
32) قاسم أمين الأعمال الكاملة. ص321.
33) المصدر نفسه. ص411.
34) أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث. ص471.
35) قاسم أمين الأعمال الكاملة. ص422ـ423.
36) قضية المرأة. تحرير وتقديم: محمد كامل الخطيب، دمشق: وزارة الثقافة، 1999م، ج2، ص425ـ429.
37) مسائل حرجة في فقه المرأة. كتاب الستر والنظر. الشيخ محمد مهدي شمس الدين، بيروت: المؤسسة الجامعية للنشر، 1994م، ج1، ص45ـ50.
38) تأملات إسلامية حول المرأة. السيد محمد حسين فضل الله،‏بيروت: دار الملاك، ط6، 1997م، ص26.
39) المصدر نفسه. ص28.
40) المصدر نفسه. ص32.
41) قاسم أمين الأعمال الكاملة. ص350.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة