شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يتحدد العقل بكونه موهبة إدراك الحقيقة وجودياً ومعرفياً . كما يحدد انطلاقاً من وظيفته فهو قوةالفكر، وآلة إدراك العلم. وتأتي العقلانية كاشتقاق، لتعني قيام العقل بضمانة أعماله لوسائله وأدواته، لأجل صياغة تصورات وأفكار وتفسيرات ونظرات تجاه موضوع ما، ولتحويله إلى مفهوم معقلن. وبهذا يكون من نطلق عليه «عقلاني» هو ذلك الشخص الذي يؤكد قدرات الإنسان العقلية تأكيداً خاصاً ولديه إيمان بقيمة العقل والمحاجة العقلية وأهميتهما. ولعل سقراط الأثيني هو من حاز على سبق الصدارة في تأكيده على قيمة المحاجة العقلية وأهميتها، وجعلها الشرط المسبق لكل بحث فكري جاد. وردد عدم الرضا بجاهزية أي فكر أو رأي مقبول. وذهب إلى القول «بأنه يجب علينا أن نتابع المحاجة إلى حيث ترشدنا، .. وحياة لا تمتحن غير جديرة بالعيش». ولم يكن ذلك مجرد شعار، بل سجله كموقف دافع عنه سقراط بوجوده كله إلى أن لقي حتفه سنة (399 ق.م)، بعدها جاء أرسطو بنظرية الطبيعة الإنسانية، مؤكداً على مبدأ العاقلية (الملكة العقلية)، التي تميز الإنسان على بقية المخلوقات من جماد وحيوان، وأن سعادة الإنسان السامية تكمن في النظر وممارسة قدرات العقل النظرية الخالصة. تتالت بعد ذلك إنماءات ذلك المفهوم في استدراكات الحقل الفلسفي التاريخي، في سجالية تتحرك في بعدها المنظومي المؤتلف في نسقه العام حيناً ، والمختلف بتعددية تتوخى فاعلية الإثبات والإنكار الفلسفيين، ومن ثم القطيعة والتجاوز، لتتراكم بفعل ذلك منظومات المعرفة الإنسانية في عقلها ومعقولها، وليسجل الإنسان بمعرفته العقلانية موضوعية الحضور الأمثل.
ان للقراءة المختلفة في النسق المعرفي المحدد، القدرة على التأسيس لدلالات إشكالية متعددة داخل ذلك النسق وخارجه، وتفتح من إمكانية الرفد المتعدد على مستوى قراءته وتأويله، وإعادة ترتيب مضانه وغاياته، وبذلك يسجل العقل المختلف حضوره المنفعل من خلال مقروئيته المنفتحة على النسق (النص)، بإنتاج معنىً جديد يُضاف إليه.
وبذلك تكون القراءة فعل استجابة لإنصات متأمل لتفاصيل خطاب ما، مهما كانت منطلقاته وغاياته، ولتأكيد ملاحظته ومراجعته ونقده، وكسر جموده، ووهم هيمنته وسيادته القارة في ماضوية خامدة، مما يفضي دائماً إلى محاصرة ذلك الخطاب ذاته. فخطاب الاختلاف تصاعدي في زمنية حضوره الخاص والعام، تلك الزمنية التي لابد وأن تتأسس على مبدأ هوية خطاب الذات والآخر والوعي بهما، فذلك الوعي هو ما يحقق مجال الاختلاف ويموضعه داخل السياق المعرفي والتاريخي.
وتتخذ قراءتنا النقدية للتراث منحى تمايزياً عن القراءات الأخرى، ذلك التمايز الذي يؤسس لصيغ قراءة نقدانية متجاوزة من حيث خلفياتها النظرية وأدواتها الإجرائية الرابطة لمدلولات قصدية الوعي النقدي عند الباحث، والتي يفترض أن تصل إلى المحايثة مع القراءات التي تجاوزها. من هنا جاءت قراءتنا لبحث زميلنا الكاتب والباحث إدريس هاني في العدد (25) من مجلة الكلمة، والذي جاء بعنوان «بين ابن رشد والغزالي، جدلية العقلانية في الفلسفة العربية الإسلامية» لتساجله وتختلف معه في إسقاطه لمفهوم العقلانية ضمن معالجته لمجمل العلاقة الفكرية بين ابن رشد والغزالي، والتي كانت لاشك تحتوي على تباعد في النظر العقلي لمضمون الجهد الفلسفي المقروء عند كليهما، والذي سعى الغزالي من جهته إلى الانقضاض عليه بخصومة لا مثيل لها جملة وتفصيلاً ، وبالتالي تهميشه وإلغائه، فيما سعى ابن رشد لتحييد جهده الفلسفي نحو الترجمة والشرح المدرسي فقط، دون الأخذ بذلك الجهد إلى أبعاد اشتغالات ابن رشد الأخرى، والذي درج نحوها بشكل تقليدي نحا فيها نحو التقليد والإقتراب من الغزالي نفسه، خصوصاً في تعامله مع الفرق الكلامية ومدارسها حيث كان حكمه مجافياً لحقيقة مقولاتها، التي عنت بالمسألة العقلانية على نحو مفارق وجوهري، أذكت فيه روح الحوار والجدل والمناظرة على نحو عقلاني يعنى بمسائل الخلافيات بشكل هادئ يأخذ فيه بالمحاجة العقلية، والأمر الثاني الذي اقترب فيه ابن رشد مع الغزالي، هو الأصل النظري لعلم الأصول الذي لم يأتِ ابن رشد فيه بالجديد، من هنا ربما تأتي الصعوبة في نسبة صفة العقلانية أو انطباقها على كل منهما.
أكد الإسلام منذ بواكير حضوره في حياة العرب، على بدء فعل القراءة الجوهرية لنظام الوجود بأسره، باستدلالات معقولية العقل، مؤكداً على أن هدفية بعث الأنبياء والرسل، إنما تكون دائماً لغرض «إثارة دفائن العقول» سواءً على المستوى الداخلي للإنسان لأساسيات منطقه العقلي واستدلالاته الأولية، أو على المستوى الخارجي في علاقته بالآخر الإنساني، الذي تتجلى صورته القريبة في الهداية الرسالية والنبوية، في الاعتقاد بالدين الإسلامي أولاً ، وثانياً المعرفة الجوهرية لحقيقة التجربة الإنسانية ككل، والذي وصل إليها لحد الآن، والذي لا يزال يغوص في حفريات معرفته، وحيث «الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فليأخذها» فصارت حركة العلم والفكر والحقيقة هي معارج في علو همة الإنسان المسلم، وهي بالتالي الدليل على علو إيمانه، والذي يمضي من خلال تلك الهمة، لفعل الفهم والإدراك لنظام سببية الوجود وعلائقه الممتدة، وليشعر باطمئنان عقلي رزين بأن رحلته الإيمانية تركن إلى وثوقية رحلته العقلية نحن الحق والحقيقة.
وكان هذا التأسيس رشداً حقيقياً ، يجلي للإنسان المسلم مشروعية البحث الذي لا يتوقف، في جانبي المعرفة الإنسانية النظرية منها والعملية أيضاً ، فما ان امتد الإنسان المسلم في حركته للدعوة إلى تعاليم الدين الإسلامي الجدي، حتى بان له ماهية تلك الثقافات والحضارات التي سبقته في الحضور، والتي كان القرآن وجه الإنسان المسلم لكي يقرأها ويتدبر سبل صعودها وهبوطها، ولتنفتح التجربة الإسلامية على عمق التجربة الإنسانية في شتى مهامها، ولتنفذ إلى غايات عملية التعارف بين الأمم والحضارات ـ بعد أن تشكلت مبادئ الهوية الإسلامية ـ فالإسناد الشرطي لغايات حركة الإنسان المسلم وفتوحاته ـ بعد ذلك التأسيس العقيدي والشرعي ـ باتت تتغيا مهاماً إنسانية أرفع، فكما ورثت الأمة حمل شعلة الرسالة المحمدية الخاتمة، فلابد وأن ترث خيرات المكنون البشري لدى تلك الحضارات، وتوغل النظر في حكمه وعلم ومعرفة وتجارب جميع الأمم التي اتصلت بها، وانفتحت عليها،فتعلمت وترجمت ونقلت ما تحتاج من صنوف العلوم النظرية والعلمية، دون خوف أو تردد، فالإنسان يحتاج إلى الإنسان كي يباريه ويساجله، وكذلك الديانات والحضارات، «فالعلم ينبت بين اثنين»، كما يقول الأوائل. فلم يقصر أسلافنا من الاهتمام البين بكل ذلك، فنشأت بينهم حلقات في العلوم المتخصصة، والتي منها علم الكلام، مدعماً بعمق فلسفي ناشئ، كان معينه الأولي بعض الإخبار النبوي المعمق لتعاليم الدين المتعالية، والتي كانت موجهة إلى ذوي العقول الأكفاء، والتي ساهم أئمة الإسلام في بسط طروحاتها المعتبرة، على خواصهم وتلامذتهم الذين أتقنوا ذلك الفن الرفيع. وكذلك من خلال الترجمة، أو من خلال الدرس المباشر على يد حاملي تلك العلوم في الديانات والحضارات الأخرى، فبسقت شجرة الحكمة، وتشكلت مدارسها، وتشعبت تلك المدارس إلى فرق ومذاهب شتى. ولا غرو في ذلك، مادام الغرض العلمي حاملاً في طياته بعداً أخلاقياً ، هدفه الحقيقة وتمثلها بما يخدم الإسلام وأهله.
لكن الذي حصل وفي ظل الانقسامات البينية، على مستوى الخلافة الأولى، وحكم بني أمية، وبني العباس وغيرهم، وما رافق ذلك من تجاذبات حزبية وسياسية، وانقسامات مذهبية وفرقية داخل المذاهب نفسها، كل ذلك أثر بالضرورة على إنتاجية الوعي الديني والفكري أيما تأثير، وأفرغ الجهد العلمي والعملي، لتثبيت أحقية كل سلطة وكل حزب وكل جماعة وكل مذهب بل وكل فرقة، وكان نصيب الأسد في ذلك الجهد لصالح السلطان وسلطته، فمُيعت القضايا الجوهرية في اشتغالات العلماء والمفكرين لصالح النظام الحاكم وأيديولوجيته، فإذا كان الحاكم محباً للعلم وأهله، ارتفع بذلك صوت العلم وحقائقه الناهضة بالإسلام وحضارته، وإذا كان عكس ذلك، نُكل بالعلم وأهله، وأُطفئت مشاعله، وخمد نور العقل في أدلته ومبتنياته وأحكامه بل وربما استخدم العقل وأدلته وأحكامه ضد العقل والعقلاء، في تكبيل حرية الإرادة والعقل. خصوصاً إذا كان ذلك العقل المعارض من الخصوم السياسيين فيكون التنكيل أدهى وأمر، فكثيراً ما تم استخدام المتمكنين من بعض العلوم العقلية في التاريخ الإسلامي ضد الخصوم ممن يمتلكون وجهة نظر تريد الإصلاح في المجتمع الإسلامي، وإحقاق العدل والمساواة وحرية الرأي، وإبراز الوجه المشرق للحياة المثلى في المجتمع الإسلامي. إلا أن اصحاب النفوس الوضيعة، والأغراض الذاتية والمصلحية الضيقة والمتدنية، والذين لا يعيرون أيما اهتمام لمصلحة المجتمع والأمة، كثيراً ما بالغوا في توظيف تلك الأغراض، وبقدرات غير قليلة في فهمهم للبعد الديني وعلومه، للنيل من غرمائهم الأيديولوجيين. ومما يؤسف له صار هذا البعد الوصفي التاريخي للصراع داخل مدينة العرب والإسلام سائداً في أغلب ذلك التاريخ. إلا ما ندر وهذا لا يعني ـ وبحياد موضوعيـ أنه وبالرغم من حدة الصراعات التي أنهكت العقل الإسلامي وأغراضه، إلا أننا نجد ان جهداً علمياً لابأس به كان ناجزاً في معارف عديدة، بحيث لو أخلصت له النوايا بشكل أكبر لكان شأن المسلمين ومدنيتهم غير ذلك.
ومما يؤسف له حقاً ، أن مناخ الصراع وتوظيفاته الايديولوجية على المستوى التاريخي، بات مستنسخاً ضمناً في استغراضاتنا الأيديولوجية المعاصرة، فيتم تأصيلها بانتقائية مفرطة ولا نقدية، بمعنى أن تسيد مناهج الماضين وأشخاصه وبالتالي ركائزهم المعتلة موضوعياً ، ضمن خصوصيتهم التاريخية، والسيسو ـ ثقافية. صحيح أنه يجب أن لا نغفل أي جهد علمي أو فكري مهما كان مناخه المذهبي أو غير ذلك، شرط أن يكون هادئاً وغير متوتر وليس ارتدادياً متقلباً . أما أن يكون إقصائياً لا يدخر جهداً في نفي الآخر وتعريضه للمهانة والمحن، وكل أصناف ذهنية الإلغاء، فهذا مما يصعب احتماله على مستوى قواعد البحث العلمي العام، وخصوصاً مبحث تاريخ الأفكار.
العنف هو استغلال للقوة وانفلاتها. وعالم الأفكار قوة، فإذا ما أسندتها قوة ما مهيمنة، وما لم تكن تلك الأفكار تحمل في مضمونها ذلك البعد القيمي الأخلاقي، فإنها ستتشظى بضدية لا حد لها تجاه الآخر. لأن حقيقة العنف توحي بفكرة تخطي القوانين الطبيعية والتشريعية والعقيدية المشتركة مع الآخر. فالعنف سعي دائم نحو الإخلال وبث البلبلة في الحيز الوجودي للآخر. وهو مس بنظام الآخر. إنه القمع في شتى صوره، مباشراً وغير مباشر مركزاً وغير مركز مادياً أو معنوياً ، هدفه التحطيم والقضاء على وجود الآخر وتمزيقه في الزمان والمكان الإنسانيين في البعد الواقعي وحتى الرمزي ذي الصفة التاريخية.
في البدء كان الصراع، وتثبيت حقيقة الذات الفردية والجمعية، في مستوياتها العديدة مذهبياً وسياسياً وحتى علمياً ، فإما أن تكون مع أو ضد، والغاية أولاً وأخيراً هي أحقية الرأي الواحد في السيادة والهيمنة وتمثلهما بالعسف والتنكيل، فيما خلا نزر يسير من هيئة روحية وعلمية وعقلانية، تمثلتها ذوات التزمت بالخطوط العريضة لتعاليم الدين الحنيف، فشخصت مصلحتها على ضوء صلاح الأمة ككل، فدعت إلى نبذ العنف والضلال عن هدي الرسالة.
من هذه المقدمة التي نريد أن نؤكد من خلالها على أن حقيقة ما جرى ومازال يجري في تاريخ المسلمين، يستند إلى ذلك «الرأسمال الرمزي» الضاغط حضورياً في السيرورة التاريخية لنظام الأشياء في حياة المسلمين، ومازال ذلك «الرأسمال الرمزي» يعاد انتاجه بنفس الطريقة السالفة، بإسقاط الماضي على الحاضر جملة وتفصيلاً ، حتى من قبل أصحاب المناهج العلمية، المحرزين للموضوعية. وبذلك يصبح أغلب الباحثين يغلبون الإيديولوجي على العلمي والمعرفي، وإلا كيف يكون التكرار والاجترار في طبيعة النتائج التي يخلصون إليها..؟ إذ لا تأتي بالجديد إلا نادراً .. فضلاً عن كون أغلبها ينتهي ارتجاعياً على أساس، (قال الأولون أو المسلمون قبل ذلك). فهم من أسس كل مذهب وكل علم ومعرفة وكل ايديولوجية. (وهم رواد كل مدرسة قديمة أو حديثة، الماركسية والاشتراكية لها آباء ومؤسسون وميادين تاريخية لا يفهم طبيعتها إلا أتباع تلك المذاهب وتلك الأيديولوجية، وكذلك القوميون واللبراليون والحداثيون وغيرهم)، كل يجد في التراث حظه، وسنداً وذخيرة لما يدعو له، وما يريد تحقيقه، فتكونت ها هنا سلطات أخرى بدعوى المعرفة، قمعت كثيراً من دارسي التراث. ممن لا يرون ولا يظهروا إلا ما يريدون إظهاره وما يحقق لهم دعماً ومدداً ، فكثر «المسكوت عنه» وغيبت حقائق كثيرة، على مستوى الشخصيات وافكارهم ومذاهبهم.
من هنا صار لزاماً علينا التذكير بضرورة تغيير مستويات البحث الإجرائي، الذي يتخذ من أسئلة البحث الموضوي، الذي يعيد انتاج الجانب المشرق من التراث، ولفظ الخيلاء الزائفة، وفضح مناطق الخلل الفكري والحدثي التاريخي، بما يعيننا على تجاوز الأزمة التاريخية التي لا تزال تعصف بوجودنا وكياننا. ولا يكون ذلك إلا بابتكار عقل نظري وعملي جديد، يفي بالتعبير عنا، عن قولنا، وتصوراتنا وأسئلتنا وأشيائنا ونظمنا وحقيقتنا الوجودية، لا الافتتان بالماضي أو الحاضر الذي أنتجه الآخر، وإنما له الاستفادة من كليهما بما يخدم عصرنا، ولا يكبله.
بعد ذلك تأتي المساجلة مع زميلنا الباحث الجاد «إدريس هاني» في دراسته المذكورة التي جاءت لتجترح مفهوم الجدل الفلسفي في مكنونه المعاصر تعريفاً بالقول: إن الجدلية تعتمد على التصنيف الذي ينظم لعبة التثبيت والإنكار، ويقيم شرعية للتقديم ويضمن الموضوعية وتحريك المفاهيم ـ على حسب تعريف الفيلسوف الفرنسي فوكو ـ فتكون الجدلية بذلك تتناغم مع أحكام العقل ومعقوليته والذي يقوم أساسه على الرشد في الحكم والتفسير والتأويل بصورة عقلانية تستهدف الاستعمال الأمثل للموارد الإنسانية في الحقيقتين النظرية والعملية.
لكننا قد نختلف جزئياً في مدى انطباق «الجدل» على فكر الغزالي، الذي عانت الثقافة العربية الإسلامية منه، أيما معاناة فالشيزوفرينيا الفكرية الطافحة بسماجة السفسطة والتي تتأكد في كل تجربته الفكرية بانتحالية فكرية قل نظيرها في تاريخ الفكر الإسلامي، بعد أن أشرفت على تلك التجربة وصولية وانتهازية سياسية من نوع خاص جداً وفريد، التي دعمت تلك الشخصية الممتلئة بالخصومة لكل الأغيار، باستثناء السلاطين الذين استخدموه. ويحار المرء كيف يمكن الدخول إلى عالم رجل كهذا من باب العقلانية وهو أحد المؤسسين للعنف الفكري والمذهبي وحتى السياسي، بجميع مستوياته، بدءاً بالعوام الذين دعا إلى إلجامهم عن الكلام، وانتهاءً بالفلاسفة الذين عناهم بالتهافت..!! ومما يثير الدهشة المعرفية على نحو سالب، كيف أن بعض الباحثين العرب المعاصرين، لايزالون يقفزون على الحقيقة العلمية، ويقيمون صروحاً بحثية لإعادة زخرفة فكره «1»، ناسين أو متناسين ما جناه أمثاله على التفكير الحر والعقلاني فيمن سبقته وكذلك الذين جاؤوا بعده، وإليكم بعض الذي يمكن قوله في هذا المجال.
في العام 488 هجرية فر الغزالي من بغداد مولياً ، بعد أن أصدر أبرز كتبه (فضائح الباطنية) و(مقاصد الفلاسفة) و(تهافت الفلاسفة)، مخلفاً أسرته وراءه وأمضى بعيداً أحد عشر عاماً بين الحجاز والشام ومصر عاش في المقابر والسراديب والخلوات، قبل أن يعود ليدرس في المدرسة النظامية «في نيسابور» عاصمة إقليم خراسان. وكان الغزالي قد ذكر في كتابه (المنقذ من الضلال) بأن ذلك الفرار كان نتيجة للشكوك التي داهمته في تلك المرحلة من عمره، كان عمره حينها 38 سنة، والحقيقة عكس ذلك تماماً فالذي حصل أن تجاذبات الوضع السياسي بين السلاجقة والعباسيين آنذاك،هو الذي كان وراء ذلك الفرار، والذي كان الغزالي يحاول التقرب إلى من يكون له الأمر منهم، فهو من (أعوان من غلب). فكان يطلب النفوذ والشهرة،كما كان يقول في كتابه «المنقذ من الضلال» (تفكرت في نيتي في التدريس فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها الجاه وانتشار الصيت) (2) ، ثم قال في نفس الكتاب (وكنت في ذلك الزمان أنشر العلم الذي به يكتسب الجاه) (3) . وليته اكتفى بهذا القدر من استهداف الجاه وانتشار الجاه، بل ذهب بعيداً ، وبعدما اغتيل ولي نعمته السابق السلطان السلجوقي «نظام الملك»، لجأ إلى الخليفة العباسي الشاب «المستظهر» «ذو الستة عشر عاماً ، وكان خليفة، شكلياً يتلاعب به الحكام الأتراك السلاجقة، فأصدر محاباةً له كتاب (فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية) واصفاً هدف ذلك الكتاب قد جاء بناء على حد قوله (أما بعد، فإني لم أزل مدة المقام بمدينة السلام [بغداد] متشوقاً إلى أن أخدم المواقف المقدسة النبوية الإمامية المستظهرية، ضاعف الله جلالها ومد الله ظلالها، بتصنيف كتاب في علم الدين أقضي به شكرالنعمة وأقيم به رسم الخدمة وأجتني بما أتعاطاه من الكلفة ثمار القبول والزلفة.. حتى خرجت الأوامر الشريفة المقدسة النبوية المستظهرية بالإشارة إلى الخادم [ويقصد الغزالي نفسه] في تصنيف كتاب الرد على الباطنية.. فرأيت الامتثال حتماً والمسارعة إلى الإرتسام حزماً ) (4) ، هكذا يضفي الغزالي صفة «القداسة والنبوية» على الحكام الذين يتقرب زلفة لهم، مسيداً لحكمهم بسفططة الفكر، وببلاغة القول المشوه للحقيقة.
في عام 490هـ بدأ الغزو الصليبي ضد الأمة الإسلامية، وكان الغزالي منعزلاً آنذاك عن العالم في المنارة المغلقة بدمشق، وتالياً في كهف الصخرة ببيت المقدس، لافاً رأسه بالثياب لمشاهدة جلال الربوبية كما جاء في كتابه الذائع الصيت (إحياء علوم الدين). والذي ألفه في تلك الفترة الحرجة من تاريخ الأمة الإسلامية، بعد أن استولى الصليبيون على بيت المقدس، والذي لم نر ذكراً لذلك الأمر في كتابه ذاك، ولا حتى ذكر موضوع الجهاد، الذي أولاه كتاب تلك المرحلة جل اهتمامهم. بل نراه في ذلك الكتاب ينشغل كعادته بإثارة الزوابع والفتن المذهبية والفكرية، بالكتابة ضد المعتزلة والفلاسفة والفرق الباطنية وغيرهم، ناسفاً كل مشروع فكري أومذهبي، لصالح رأيه الذي يعتقد هو بأنه أحيا به علوم الدين بعد أن قتلها الآخرون. وداعياً في كتابه ذاك إلى ثقافة الهزيمة والإنكسار. فهو القائل «إذا عجزنا عن الغنيمة، رضينا بالسلامة في الهزيمة» (5) . بل دعا إلى أكثر من ذلك إذ طالب فيه الإنسان للإنسحاب [الهزيمة] من الدنيا. ولقد أفرد الغزالي باباً كبيراً في كتابه الإحياء أسماه (كتاب ذم الدنيا) يقول في مفتتحه «أكثر القرآن مشتمل على ذم الدنيا وصرف الخلق عنها ودعوتهم إلى الآخرة، بل هذا مقصود الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولم يبعثوا إلا لذلك» (6) ويذكر رواية [لا يشير الغزالي إلى اي مرجع لهذه الروايات] يقول فيها «أن الله لما أهبط آدم إلى الأرض قال له: أبن للخراب، ولد للفناء» (7) وبهذا ينفي الغزالي أن يكون هدف الرسالات والنبوات هداية البشر لما فيه خير الدنيا والآخرة، بل ويعتبر من يقول بذلك هم المغفلون، الذين لولاهم لانقطع البشر جميعاً من الدنيا [المذمومة] وهاكم ما يقوله حجة الإسلام الغزالي «صاحب العقل والحكمة العملية» عن أولئك الحمقى والمغفلين ممن يجتهدون لإعمار الأرض، وهم المسخرون لخدمة أمثاله من الأذكياء والمختارين الذين انهزموا في الدنيا ومن بلائها بالزهد الكاذب، لكي تكون الدنيا مطية لأرباب نعمته من الحكام والسلاطين. يقول الغزالي عن أولئك المغفلين: «باعثهم عليه حرص جمع المال، فيتعبون طول الليل والنهار في الأسفار، ونصيبهم منها جمع المال، الذي يأكله لا محالة غيرهم، إما قاطع طريق، وإما سلطان ظالم، ولكن جعل الله تعالى في غفلتهم وجهلهم نظاماً للبلاد ومصلحة للعباد، بل جميع أمور الدنيا انتظمت بالغفلة وخسة الهمة، ولو عقل الناس وارتفعت همتهم لزهدوا في الدنيا، ولو فعلوا ذلك لبطلت المعايش، ولو بطلت لهلكوا ولهلك الزهاد» (8) أي تناقض عقلي أكثر من هذا، وكيف يثق بمثل هذا الفكر الذي يصيب المرء بالذهول لما يقرأه.
وفي كتاب «الإحياء» نفسه يفرد باباً منه في فضيلة الخمول. يقول في بعض أحاديثه، بأن طريق الجنة معبد لكل ضعيف مستضعف (9) .ذلك العامي الذي يجب أن لا يجرؤ على الكلام أو السؤال وبالتالي الإعتراض عمن يريد استضعافه وقهره، فأفرد له كتابه القهري (إلجام العوام عن الكلام) وبعد أن ألجم الفلاسفة والمعتزلة والفرق الباطنية، بكتبه (مقاصد الفلاسفة وتهافت الفلاسفة والمستظهري.. وفيصل التفرقة..) ها هو يسعى إلى لجم جميع جمهور المسلمين بالقول: «والسكوت عن السؤال واجب على العوام، لأنه بالسؤال معترض لما لا يطيق وخائض في ما ليس أهلاً له، فإذا سأل عارفاً ، عجز العارف عن تفهيمه.. والعامي إذا طلب بالسؤال عن هذه المعاني، يجب زجره ومنعه وضربه بالدرة [الكرباج]» (10) «فإذا فرضنا عامياً مجادلاً لحوحاً .. قلنا هذا مريض مال عن طبعه عن صحة الفطرة وسلامة الخلقة الأصيلة، فينظر في شمائله، فإن وجدنا اللجاج والجدل غالباً إلى طبعه، لم نجادله وطهرنا وجه الأرض منه.. فالفطرة الصحيحة الأصيلة معدة لقبول الإيمان دون المجادلة وتحرير الأدلة » (11) ويذهب في كتابه (الاقتصاد في الاعتقاد) إلى ضرورة استخدام ما يمكن تسميته [بجدل السيف) بدلاً من الدليل والبرهان «أكثر الكثرة أسلموا تحت ظلال السيوف، فالله [معاذ الله] يفعل بالسيف والسنان ما لا يفعل بالبرهان واللسان» (12) كيف يجرؤ بقول هذا الكلام عن الله سبحانه، والله يقول في كتابه الكريم {وجادلهم بالتي هي أحسن} أليس هذا تأصيلاً لشرعة العنف التي يمارسها الذين يؤمنون بفكر أمثال الغزالي.
ثم ألم يقرأ الباحث إدريس كتاب الغزالي «التبر المسبوك في نصائح الملوك» ما يقوله عن المرأة، لكي يبين لنا عقلانيته وفلسفته المحققة..! والذي يصنف فيه النساء المكرمات في القرآن الكريم بأنهن والرجال مخلوقون من نفس واحدة، في تعاليم الرسول الأكرم (ص) بأنهن شقيقات الرجال، إلا أنهن عند الغزالي ينقسمن عنده إلى عشرة أصناف حيوانية تبدأ بالخنزيرة ويعرفها بأخس تعريف، إلى أن يتنهي به مطاف التصنيف إلى الغنمة..!
وهنا قد يقول قائل وبناء على التصنيف التحقيبي لمؤلفات الغزالي، بأن الغزالي ألف في مرحلتين مفترقتين من الناحية الفكرية. فإنه بعد تلك المرحلة المضطربة من حياته التي وصفها هو في كتابه (المنقذ من الضلال) قد قام بالاهتمام بالعلوم العقلية، فإن ما ألفه في مرحلته الثانية، لا يعدو أن يكون استيفاء لأغراض ظنون الغزالي وأوهامه، حيث سعى بكل ما أوتي من جهد تأليفي، أن يغلق الطريق على تلك العلوم وتعلمها وانتشارها بنقضها وتجريح من يتبناها. أو على الأقل تعلمها عن طريقه وعلى طريقته وذلك فيما ألف من كتب في الفلسفة والمنطق والتصوف وعلم الكلام وأصول الفقه، كل ذلك بغير اعتبار علمي يذهب لصالح تلك العلوم في نقدها والإضافة إليها. بل وأراد من خلالها توجيه ضربة قاصمة يدين فيها دعاة المنهج العقلي وحريته.
ثم إن القول الذي عناه الباحث إدريس هاني في (ص38) بأن الغزالي «نهج أسلوباً نقدياً استند إلى دربة الجدل وقوة الاستيعاب ومسلك التفكيك والتقويض.. وهو بحق كان أقرب إلى فيلسوف (مشاكس) منه إلى مجرد صوفي صاحب موقف سلبي من الفلسفة». إن هذا القول يبدو مجافياً لحقيقة ما جرى في جل كتابات ومواقف الغزالي التي يقرها هو نفسه في كتابه الشهير «المنقذ من الضلال» الذي نرجع الباحث إدريس إليه. كما أننا لم نر لحد الآن من أقر بأن الغزالي ينهج نهجاً فلسفياً يستحق من خلاله لقب [فيلسوف]، بل وكثيراً ما شكك دارسو الفلسفة في ذلك. فهذا الدكتور عاطف العراقي في كتابه المدرسي الأخير «الفلسفة العربية، مدخل جديد» يفرد الفصل الثامن من كتابه لسؤال يتساءل فيه عن الغزالي هل يعد فيلسوفاً ؟ ويجيب بأنه ليس إلا متكلماً أشعرياً وصوفياً ، وكل أفكار الغزالي لا تخرج عن كونها تعبيراً عن الاتجاه الأشعري والصوفي (ص191).
وإذا كان هناك من صوابية ما تتفق مع آراء الفلاسفة وتؤكد استيعابه لمقولات الفلاسفة الذين سبقوه، فليس ذلك على التحقيق سوى انتحال أو اقتباس لمقولاتهم وخصوصاً من الفيلسوفين الفارابي وابن سينا.
إن تمثيلات الغزالي اللاعقلانية العنيفة تكاد تكون منبثة في جميع مؤلفاته، خصوصاً تلك التي تمثلت في الرد على الآخر ولقد استهجن محقق كتاب (تهافت الفلاسفة) د. سليمان دنيا بالقول في تقديمه لتحقيقه «إن السباب ليس فلسفة، ولا يصلح أن يكون لوناً من ألوانها، حتى على سبيل المجاز» (13) . كما يأخذ على ابن رشد مجاراة الغزالي في ذلك الأسلوب، فالغزالي يشنع من جهته الفلاسفة بقوله عنهم «فأية رتبة في عالم الله أخس من رتبة من يتجمل بترك الحق المعتقد تقليداً بالتسارع إلى قبول الباطل تصديقاً ، دون أن يخبره تحقيقاً ، والبله من العوام بمعزل عن فضيحة هذه الهواة، فليس في سجيتهم حب التكايس بالتشبه بذوي الضلالات، فالبلاهة أدنى إلى الخلاص من فطانة بتراء، والعمى أقرب إلى السلام من بصيرة حولاء. فلما رأيت هذا العرق من الحماقة نابضاً على هؤلاء الأغبياء، انتدبت في تحرير هذا الكتاب، رداً على الفلاسفة القدماء، مبيتاً تهافت عقائدهم، وتناقض كلمتهم فيما يتعلق بالإلهيات، وكاشفاً عن غوائل مذهبهم وعوراته، التي هي على التحقيق مضاحك العقلاء، وعبرة عند الأذكياء، أعني ما اختصوا به عن الجماهير والدهماء، من فنون العقائد والآراء» (14) .
أما ابن رشد وبذات النقد الاستخفافي بالآخر وبرأيه، نراه يتخلى عن بهاء عقلانيته التي يضفيها عليه المعجبون به، الساكتون عن جنبة النزعة الذاتوية عند ابن رشد لصالح رأيه ومذهبه ودولته، فجاء رده على نفس الأسلوب والنسق، وبعد أن اشترك في الاستخفاف بالعوام، ينهال على الغزالي ومن قال قوله من الجهلاء بالقول: «لا يبعد أن يعرض مثل هذا للجهال من العلماء، وللجمهور من الخواص، كما يعرض ذلك في المصنوعات، فإن الصناع إذا أرادوا صفات كثيرة من مصنوعاتهم على العوام، وتضمنوا الأفعال العجيبة عنها، هزئ بهم الجمهور، وظنوا أنهم مبرسمون [يهذون] وهم في الحقيقة الذين ينزلون منزلة المبرسمين من العقلاء والجهال من العلماء، وأهل النظر... فالكلام في هذه الأشياء مع الجمهور هو بمنزلة من يسقي السموم أبدان كثير من الحيوانات، التي تلك الأشياء سموم لها» (15) .
لقد كان بحق صاحب نظرية «تفاضل طباع الناس في التصديق»، مؤسساً بذلك لمفهوم القطيعة بين المثقف والمجتمع، موغلاً في منادمة النخبة المنقطعة عن جمهورها، فخاصة ابن رشد هم أصحاب الفطرة الفائقة في القدرة على تعلم وإتقان المعرفة الحقة، والتمكن من تأويل الشريعة المنزلة، أما الجمهور فينبغي أن يُستبعد عن ذلك، وأن لا تذاع في أوساطه تلك المعارف وآراء حامليها، مؤكداً على أن النخبة المقصودة هم الفقهاء الذين استخدموا العلوم العقلية للوصول إلى مقاصد الشريعة ليس إلا، فهم كالأطباء الذين يداوون سقم الأجساد، والفقهاء يداوون سقم النفوس، وأما الذين يستخدمون المنهج العقلي لتحقيق مقاصد الإنسان المتعددة في المعاش فلا شأن لفكر ابن رشد بها..! (16) . نجد ذلك مقرراً بتفاصيل قصدية فكرية محافظة يوسع الرأي فيها مادامت مقصورة في العلوم الشرعية وأصولها، والعلوم النظرية والفلسفية والكلامية وجدالها، ويضيقها في الشأن العام ومشكلاته، ولا يذكر عنه أي مؤلف عني بالإجتماع السياسي وهمومه، وهو المملوء بتلك العلوم التي تعينه على ذلك، فهو العارف بجمهورية افلاطون وبالأحكام السلطانية وبالمسائل الكلامية والفقهية التي عنيت بمسألة الخلافة..!
المفكر العربي المعاصر د. حسن حنفي، يرى من جهته [وبتوفيقية غريبة بعض الشيء من الناحية العلمية والفلسفية] بأن ابن رشد كان يعيش الاشتباه والتوتر بين ثنائيات عدة، وكلاهما صحيح، لأن التوتر ـ على حد قول د. حنفي ـ موقف انفعالي ووجودي مصاغ صياغة عقلية، فالتحليلات العقلية، والاختيارات المذهبية، والبدائل النظرية، والجدل بين التيارات الفكرية كلها تحاول الإبقاء على أكبر قدر ممكن من التوتر بين القطبين ولا يعني الاشتباه أي موقف توفيقي بين طرفين متناقضين بغية التوسط وعجزاً عن الحسم وإرضاء للجميع في نهاية سعيدة، لا غالب ولا مغلوب، لا منتصر ولا مهزوم، بل إقرار بواقع ثقافي وموقف حضاري وتعددية منهجية (17) .
هل يحتاج المرء وهو يقرأ مثل هذا النص للدكتور حنفي، إلى كثير من إمعان في النظر، أو جهد في السؤال، عن لماذا كل هذا الإقرار بتميز توفيقية ابن رشد المتوترة والمقرة بالواقع الثقافي.؟! ربما هو ذات الهم الإيديولوجي المصاحب لتركيبة الفكر العربي المعاصر، والذي درج على تسويغ مقولاته الفكرية من خلال تأصيل تاريخية تلك المقولات، ورفع شأنها المعاصر، من خلال رفع حظ مثيلاتها المنهجية في التراث وإن لم تتطابق موضوعاتها. فتميز توفيقية ابن رشد ها هنا يعني بالضرورة تميز توفيقية د. حنفي المعاصرة.
أما الدكتور طه عبد الرحمن فلا يزال يؤكد على ضعف إنتاج ابن رشد، ويقول: «وليس أدل على ذلك الضعف إلا التقليد في مجال الفلسفة،فقد شهد المتقدمون والمتأخرون بأن ابن رشد مقلد لأرسطوطاليس، بل وليس في فلاسفة الإسلام من هو أشد منه تقليداً لفلاسفة اليونان» (18) . فيما ذهب الباحث المتخصص في فكر ابن رشد الدكتور محمد المصباحي في كتابه الأخير عنه (الوجه الآخر لحداثة ابن رشد) إلى التأكيد على جرأة ابن رشد على صعيد العقل النظري، فيما هو محافظ على صعيد العقل العملي، فلم يترك لنا عملاً هاماً في الأمور العملية، كما فعل خصمه أبو حامد الغزالي. كما ذهب الباحث الناقد الدكتور محمد مفتاح إلى القول عن ابن رشد، بأنه أحد المتأغرقين، والذي لا يعدو أن يكون ملخصاً وشارحاً أكثر مما كان مؤلفاً ومتصرفاً ومؤولاً (19) .
فالنزعة العامة للفلسفة العربية هي اعتماد الاتجاه المحافظ، ونعني بهذا أنها فهمت العقل ووظائفه في حياة الإنسان كأداة لخدمة أو تقليد نظام ثابت أو تبرير نظام ديني اجتماعي، ولم تفهمه كأداة تنوير عام وتغيير مستمر لأوضاع وأنظمة قائمة في اتجاه بناء أوضاع وأنظمة أفضل فأفضل، أو كأداة تحرير للإنسان من كل ما يعيق تقدمه نحو التفتح الكامل لكيانه الفردي والنوعي في الدنيا (20) . فهل يمكننا أن نقول أن ابن رشد قد انتصر للموائمة المرجوة بين الفلسفة والدين، أو بين الحكمة والشريعة، كما عني ذلك الباحث إدريس هاني..؟! وبعد أن جعل ابن رشد العقل جملة وتفصيلاً خادماً لمذهب ونظام اجتماعي وسياسي بعينه، ومسلطاً سوط العقل بغلظة على الأغيار أياً كانوا فلاسفة متكلمين فقهاء وغيرهم.. ممن لا يلتقون في النظر العقلي والنظري معه.
هكذا هو ديدن تاريخية الفكر العربي الإسلامي، قديمه ومعاصره، في سجاليته المدججة بالأيديولوجية، من قبل ومن بعد، لا تريد لذاتها العربية الإسلامية أن تتحقق في بعد التعددية المتضايفة، بتعالق الضابط الموضوعي فيما بينها وفق نظام يمتلئ بالمعرفي، ويكرس القيمي الاعتباري، ويحسب الاختلاف رحمة، في الاعتراف بالتراكم العلمي، والتبادل والتكامل لصالح الأمة وحضارتها المنشودة.
الهوامش:
1) قام الباحث العراقي الدكتور ميثم الجنابي بدراسة موسعة في أربعة أجزاء، حاول فيها إعادة قراءة فكر الغزالي من جديد، على ضوء المنهج العقلاني المعاصر..!
2) أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال، حققه وقدم له: د. جميل صليبا، د. كامل عياد، دار الأندلس، بيروت، ص134.
3) نفس المصدر ص160.
4) فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية، أبو حامد الغزالي، الطبعة الحلبية، ص2.
5) بداية الهداية وتهذيب النفوس، أبو حامد الغزالي، طبعة الحلبي، ص32.
6) إحياء علوم الدين، الغزالي، دار القلم، بيروت، ص190.
7) نفس المصدر، ص192.
8) نفس المصدر، ص214.
9) نفس المصدر، ص259.
10) إلجام العوام عن الكلام، الغزالي، المطبعة المنيرية، ص12.
11) نفس المصدر، ص58.
12) الاقتصاد في الاعتقاد، الغزالي، طبعة مصر، ص7.
13) تهافت الفلاسفة، ابن رشد، تحقيق: د. سليمان دنيا، دار المعارف مصر، ص21.
14) نفس المصدر، ص23، 24.في العقلانية والاختلاف
يتحدد العقل بكونه موهبة إدراك الحقيقة وجودياً ومعرفياً . كما يحدد انطلاقاً من وظيفته فهو قوةالفكر، وآلة إدراك العلم. وتأتي العقلانية كاشتقاق، لتعني قيام العقل بضمانة أعماله لوسائله وأدواته، لأجل صياغة تصورات وأفكار وتفسيرات ونظرات تجاه موضوع ما، ولتحويله إلى مفهوم معقلن. وبهذا يكون من نطلق عليه «عقلاني» هو ذلك الشخص الذي يؤكد قدرات الإنسان العقلية تأكيداً خاصاً ولديه إيمان بقيمة العقل والمحاجة العقلية وأهميتهما. ولعل سقراط الأثيني هو من حاز على سبق الصدارة في تأكيده على قيمة المحاجة العقلية وأهميتها، وجعلها الشرط المسبق لكل بحث فكري جاد. وردد عدم الرضا بجاهزية أي فكر أو رأي مقبول. وذهب إلى القول «بأنه يجب علينا أن نتابع المحاجة إلى حيث ترشدنا، .. وحياة لا تمتحن غير جديرة بالعيش». ولم يكن ذلك مجرد شعار، بل سجله كموقف دافع عنه سقراط بوجوده كله إلى أن لقي حتفه سنة (399 ق.م)، بعدها جاء أرسطو بنظرية الطبيعة الإنسانية، مؤكداً على مبدأ العاقلية (الملكة العقلية)، التي تميز الإنسان على بقية المخلوقات من جماد وحيوان، وأن سعادة الإنسان السامية تكمن في النظر وممارسة قدرات العقل النظرية الخالصة. تتالت بعد ذلك إنماءات ذلك المفهوم في استدراكات الحقل الفلسفي التاريخي، في سجالية تتحرك في بعدها المنظومي المؤتلف في نسقه العام حيناً ، والمختلف بتعددية تتوخى فاعلية الإثبات والإنكار الفلسفيين، ومن ثم القطيعة والتجاوز، لتتراكم بفعل ذلك منظومات المعرفة الإنسانية في عقلها ومعقولها، وليسجل الإنسان بمعرفته العقلانية موضوعية الحضور الأمثل.
ان للقراءة المختلفة في النسق المعرفي المحدد، القدرة على التأسيس لدلالات إشكالية متعددة داخل ذلك النسق وخارجه، وتفتح من إمكانية الرفد المتعدد على مستوى قراءته وتأويله، وإعادة ترتيب مضانه وغاياته، وبذلك يسجل العقل المختلف حضوره المنفعل من خلال مقروئيته المنفتحة على النسق (النص)، بإنتاج معنىً جديد يُضاف إليه.
وبذلك تكون القراءة فعل استجابة لإنصات متأمل لتفاصيل خطاب ما، مهما كانت منطلقاته وغاياته، ولتأكيد ملاحظته ومراجعته ونقده، وكسر جموده، ووهم هيمنته وسيادته القارة في ماضوية خامدة، مما يفضي دائماً إلى محاصرة ذلك الخطاب ذاته. فخطاب الاختلاف تصاعدي في زمنية حضوره الخاص والعام، تلك الزمنية التي لابد وأن تتأسس على مبدأ هوية خطاب الذات والآخر والوعي بهما، فذلك الوعي هو ما يحقق مجال الاختلاف ويموضعه داخل السياق المعرفي والتاريخي.
وتتخذ قراءتنا النقدية للتراث منحى تمايزياً عن القراءات الأخرى، ذلك التمايز الذي يؤسس لصيغ قراءة نقدانية متجاوزة من حيث خلفياتها النظرية وأدواتها الإجرائية الرابطة لمدلولات قصدية الوعي النقدي عند الباحث، والتي يفترض أن تصل إلى المحايثة مع القراءات التي تجاوزها. من هنا جاءت قراءتنا لبحث زميلنا الكاتب والباحث إدريس هاني في العدد (25) من مجلة الكلمة، والذي جاء بعنوان «بين ابن رشد والغزالي، جدلية العقلانية في الفلسفة العربية الإسلامية» لتساجله وتختلف معه في إسقاطه لمفهوم العقلانية ضمن معالجته لمجمل العلاقة الفكرية بين ابن رشد والغزالي، والتي كانت لاشك تحتوي على تباعد في النظر العقلي لمضمون الجهد الفلسفي المقروء عند كليهما، والذي سعى الغزالي من جهته إلى الانقضاض عليه بخصومة لا مثيل لها جملة وتفصيلاً ، وبالتالي تهميشه وإلغائه، فيما سعى ابن رشد لتحييد جهده الفلسفي نحو الترجمة والشرح المدرسي فقط، دون الأخذ بذلك الجهد إلى أبعاد اشتغالات ابن رشد الأخرى، والذي درج نحوها بشكل تقليدي نحا فيها نحو التقليد والإقتراب من الغزالي نفسه، خصوصاً في تعامله مع الفرق الكلامية ومدارسها حيث كان حكمه مجافياً لحقيقة مقولاتها، التي عنت بالمسألة العقلانية على نحو مفارق وجوهري، أذكت فيه روح الحوار والجدل والمناظرة على نحو عقلاني يعنى بمسائل الخلافيات بشكل هادئ يأخذ فيه بالمحاجة العقلية، والأمر الثاني الذي اقترب فيه ابن رشد مع الغزالي، هو الأصل النظري لعلم الأصول الذي لم يأتِ ابن رشد فيه بالجديد، من هنا ربما تأتي الصعوبة في نسبة صفة العقلانية أو انطباقها على كل منهما.
أكد الإسلام منذ بواكير حضوره في حياة العرب، على بدء فعل القراءة الجوهرية لنظام الوجود بأسره، باستدلالات معقولية العقل، مؤكداً على أن هدفية بعث الأنبياء والرسل، إنما تكون دائماً لغرض «إثارة دفائن العقول» سواءً على المستوى الداخلي للإنسان لأساسيات منطقه العقلي واستدلالاته الأولية، أو على المستوى الخارجي في علاقته بالآخر الإنساني، الذي تتجلى صورته القريبة في الهداية الرسالية والنبوية، في الاعتقاد بالدين الإسلامي أولاً ، وثانياً المعرفة الجوهرية لحقيقة التجربة الإنسانية ككل، والذي وصل إليها لحد الآن، والذي لا يزال يغوص في حفريات معرفته، وحيث «الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فليأخذها» فصارت حركة العلم والفكر والحقيقة هي معارج في علو همة الإنسان المسلم، وهي بالتالي الدليل على علو إيمانه، والذي يمضي من خلال تلك الهمة، لفعل الفهم والإدراك لنظام سببية الوجود وعلائقه الممتدة، وليشعر باطمئنان عقلي رزين بأن رحلته الإيمانية تركن إلى وثوقية رحلته العقلية نحن الحق والحقيقة.
وكان هذا التأسيس رشداً حقيقياً ، يجلي للإنسان المسلم مشروعية البحث الذي لا يتوقف، في جانبي المعرفة الإنسانية النظرية منها والعملية أيضاً ، فما ان امتد الإنسان المسلم في حركته للدعوة إلى تعاليم الدين الإسلامي الجدي، حتى بان له ماهية تلك الثقافات والحضارات التي سبقته في الحضور، والتي كان القرآن وجه الإنسان المسلم لكي يقرأها ويتدبر سبل صعودها وهبوطها، ولتنفتح التجربة الإسلامية على عمق التجربة الإنسانية في شتى مهامها، ولتنفذ إلى غايات عملية التعارف بين الأمم والحضارات ـ بعد أن تشكلت مبادئ الهوية الإسلامية ـ فالإسناد الشرطي لغايات حركة الإنسان المسلم وفتوحاته ـ بعد ذلك التأسيس العقيدي والشرعي ـ باتت تتغيا مهاماً إنسانية أرفع، فكما ورثت الأمة حمل شعلة الرسالة المحمدية الخاتمة، فلابد وأن ترث خيرات المكنون البشري لدى تلك الحضارات، وتوغل النظر في حكمه وعلم ومعرفة وتجارب جميع الأمم التي اتصلت بها، وانفتحت عليها،فتعلمت وترجمت ونقلت ما تحتاج من صنوف العلوم النظرية والعلمية، دون خوف أو تردد، فالإنسان يحتاج إلى الإنسان كي يباريه ويساجله، وكذلك الديانات والحضارات، «فالعلم ينبت بين اثنين»، كما يقول الأوائل. فلم يقصر أسلافنا من الاهتمام البين بكل ذلك، فنشأت بينهم حلقات في العلوم المتخصصة، والتي منها علم الكلام، مدعماً بعمق فلسفي ناشئ، كان معينه الأولي بعض الإخبار النبوي المعمق لتعاليم الدين المتعالية، والتي كانت موجهة إلى ذوي العقول الأكفاء، والتي ساهم أئمة الإسلام في بسط طروحاتها المعتبرة، على خواصهم وتلامذتهم الذين أتقنوا ذلك الفن الرفيع. وكذلك من خلال الترجمة، أو من خلال الدرس المباشر على يد حاملي تلك العلوم في الديانات والحضارات الأخرى، فبسقت شجرة الحكمة، وتشكلت مدارسها، وتشعبت تلك المدارس إلى فرق ومذاهب شتى. ولا غرو في ذلك، مادام الغرض العلمي حاملاً في طياته بعداً أخلاقياً ، هدفه الحقيقة وتمثلها بما يخدم الإسلام وأهله.
لكن الذي حصل وفي ظل الانقسامات البينية، على مستوى الخلافة الأولى، وحكم بني أمية، وبني العباس وغيرهم، وما رافق ذلك من تجاذبات حزبية وسياسية، وانقسامات مذهبية وفرقية داخل المذاهب نفسها، كل ذلك أثر بالضرورة على إنتاجية الوعي الديني والفكري أيما تأثير، وأفرغ الجهد العلمي والعملي، لتثبيت أحقية كل سلطة وكل حزب وكل جماعة وكل مذهب بل وكل فرقة، وكان نصيب الأسد في ذلك الجهد لصالح السلطان وسلطته، فمُيعت القضايا الجوهرية في اشتغالات العلماء والمفكرين لصالح النظام الحاكم وأيديولوجيته، فإذا كان الحاكم محباً للعلم وأهله، ارتفع بذلك صوت العلم وحقائقه الناهضة بالإسلام وحضارته، وإذا كان عكس ذلك، نُكل بالعلم وأهله، وأُطفئت مشاعله، وخمد نور العقل في أدلته ومبتنياته وأحكامه بل وربما استخدم العقل وأدلته وأحكامه ضد العقل والعقلاء، في تكبيل حرية الإرادة والعقل. خصوصاً إذا كان ذلك العقل المعارض من الخصوم السياسيين فيكون التنكيل أدهى وأمر، فكثيراً ما تم استخدام المتمكنين من بعض العلوم العقلية في التاريخ الإسلامي ضد الخصوم ممن يمتلكون وجهة نظر تريد الإصلاح في المجتمع الإسلامي، وإحقاق العدل والمساواة وحرية الرأي، وإبراز الوجه المشرق للحياة المثلى في المجتمع الإسلامي. إلا أن اصحاب النفوس الوضيعة، والأغراض الذاتية والمصلحية الضيقة والمتدنية، والذين لا يعيرون أيما اهتمام لمصلحة المجتمع والأمة، كثيراً ما بالغوا في توظيف تلك الأغراض، وبقدرات غير قليلة في فهمهم للبعد الديني وعلومه، للنيل من غرمائهم الأيديولوجيين. ومما يؤسف له صار هذا البعد الوصفي التاريخي للصراع داخل مدينة العرب والإسلام سائداً في أغلب ذلك التاريخ. إلا ما ندر وهذا لا يعني ـ وبحياد موضوعيـ أنه وبالرغم من حدة الصراعات التي أنهكت العقل الإسلامي وأغراضه، إلا أننا نجد ان جهداً علمياً لابأس به كان ناجزاً في معارف عديدة، بحيث لو أخلصت له النوايا بشكل أكبر لكان شأن المسلمين ومدنيتهم غير ذلك.
ومما يؤسف له حقاً ، أن مناخ الصراع وتوظيفاته الايديولوجية على المستوى التاريخي، بات مستنسخاً ضمناً في استغراضاتنا الأيديولوجية المعاصرة، فيتم تأصيلها بانتقائية مفرطة ولا نقدية، بمعنى أن تسيد مناهج الماضين وأشخاصه وبالتالي ركائزهم المعتلة موضوعياً ، ضمن خصوصيتهم التاريخية، والسيسو ـ ثقافية. صحيح أنه يجب أن لا نغفل أي جهد علمي أو فكري مهما كان مناخه المذهبي أو غير ذلك، شرط أن يكون هادئاً وغير متوتر وليس ارتدادياً متقلباً . أما أن يكون إقصائياً لا يدخر جهداً في نفي الآخر وتعريضه للمهانة والمحن، وكل أصناف ذهنية الإلغاء، فهذا مما يصعب احتماله على مستوى قواعد البحث العلمي العام، وخصوصاً مبحث تاريخ الأفكار.
العنف هو استغلال للقوة وانفلاتها. وعالم الأفكار قوة، فإذا ما أسندتها قوة ما مهيمنة، وما لم تكن تلك الأفكار تحمل في مضمونها ذلك البعد القيمي الأخلاقي، فإنها ستتشظى بضدية لا حد لها تجاه الآخر. لأن حقيقة العنف توحي بفكرة تخطي القوانين الطبيعية والتشريعية والعقيدية المشتركة مع الآخر. فالعنف سعي دائم نحو الإخلال وبث البلبلة في الحيز الوجودي للآخر. وهو مس بنظام الآخر. إنه القمع في شتى صوره، مباشراً وغير مباشر مركزاً وغير مركز مادياً أو معنوياً ، هدفه التحطيم والقضاء على وجود الآخر وتمزيقه في الزمان والمكان الإنسانيين في البعد الواقعي وحتى الرمزي ذي الصفة التاريخية.
في البدء كان الصراع، وتثبيت حقيقة الذات الفردية والجمعية، في مستوياتها العديدة مذهبياً وسياسياً وحتى علمياً ، فإما أن تكون مع أو ضد، والغاية أولاً وأخيراً هي أحقية الرأي الواحد في السيادة والهيمنة وتمثلهما بالعسف والتنكيل، فيما خلا نزر يسير من هيئة روحية وعلمية وعقلانية، تمثلتها ذوات التزمت بالخطوط العريضة لتعاليم الدين الحنيف، فشخصت مصلحتها على ضوء صلاح الأمة ككل، فدعت إلى نبذ العنف والضلال عن هدي الرسالة.
من هذه المقدمة التي نريد أن نؤكد من خلالها على أن حقيقة ما جرى ومازال يجري في تاريخ المسلمين، يستند إلى ذلك «الرأسمال الرمزي» الضاغط حضورياً في السيرورة التاريخية لنظام الأشياء في حياة المسلمين، ومازال ذلك «الرأسمال الرمزي» يعاد انتاجه بنفس الطريقة السالفة، بإسقاط الماضي على الحاضر جملة وتفصيلاً ، حتى من قبل أصحاب المناهج العلمية، المحرزين للموضوعية. وبذلك يصبح أغلب الباحثين يغلبون الإيديولوجي على العلمي والمعرفي، وإلا كيف يكون التكرار والاجترار في طبيعة النتائج التي يخلصون إليها..؟ إذ لا تأتي بالجديد إلا نادراً .. فضلاً عن كون أغلبها ينتهي ارتجاعياً على أساس، (قال الأولون أو المسلمون قبل ذلك). فهم من أسس كل مذهب وكل علم ومعرفة وكل ايديولوجية. (وهم رواد كل مدرسة قديمة أو حديثة، الماركسية والاشتراكية لها آباء ومؤسسون وميادين تاريخية لا يفهم طبيعتها إلا أتباع تلك المذاهب وتلك الأيديولوجية، وكذلك القوميون واللبراليون والحداثيون وغيرهم)، كل يجد في التراث حظه، وسنداً وذخيرة لما يدعو له، وما يريد تحقيقه، فتكونت ها هنا سلطات أخرى بدعوى المعرفة، قمعت كثيراً من دارسي التراث. ممن لا يرون ولا يظهروا إلا ما يريدون إظهاره وما يحقق لهم دعماً ومدداً ، فكثر «المسكوت عنه» وغيبت حقائق كثيرة، على مستوى الشخصيات وافكارهم ومذاهبهم.
من هنا صار لزاماً علينا التذكير بضرورة تغيير مستويات البحث الإجرائي، الذي يتخذ من أسئلة البحث الموضوي، الذي يعيد انتاج الجانب المشرق من التراث، ولفظ الخيلاء الزائفة، وفضح مناطق الخلل الفكري والحدثي التاريخي، بما يعيننا على تجاوز الأزمة التاريخية التي لا تزال تعصف بوجودنا وكياننا. ولا يكون ذلك إلا بابتكار عقل نظري وعملي جديد، يفي بالتعبير عنا، عن قولنا، وتصوراتنا وأسئلتنا وأشيائنا ونظمنا وحقيقتنا الوجودية، لا الافتتان بالماضي أو الحاضر الذي أنتجه الآخر، وإنما له الاستفادة من كليهما بما يخدم عصرنا، ولا يكبله.
بعد ذلك تأتي المساجلة مع زميلنا الباحث الجاد «إدريس هاني» في دراسته المذكورة التي جاءت لتجترح مفهوم الجدل الفلسفي في مكنونه المعاصر تعريفاً بالقول: إن الجدلية تعتمد على التصنيف الذي ينظم لعبة التثبيت والإنكار، ويقيم شرعية للتقديم ويضمن الموضوعية وتحريك المفاهيم ـ على حسب تعريف الفيلسوف الفرنسي فوكو ـ فتكون الجدلية بذلك تتناغم مع أحكام العقل ومعقوليته والذي يقوم أساسه على الرشد في الحكم والتفسير والتأويل بصورة عقلانية تستهدف الاستعمال الأمثل للموارد الإنسانية في الحقيقتين النظرية والعملية.
لكننا قد نختلف جزئياً في مدى انطباق «الجدل» على فكر الغزالي، الذي عانت الثقافة العربية الإسلامية منه، أيما معاناة فالشيزوفرينيا الفكرية الطافحة بسماجة السفسطة والتي تتأكد في كل تجربته الفكرية بانتحالية فكرية قل نظيرها في تاريخ الفكر الإسلامي، بعد أن أشرفت على تلك التجربة وصولية وانتهازية سياسية من نوع خاص جداً وفريد، التي دعمت تلك الشخصية الممتلئة بالخصومة لكل الأغيار، باستثناء السلاطين الذين استخدموه. ويحار المرء كيف يمكن الدخول إلى عالم رجل كهذا من باب العقلانية وهو أحد المؤسسين للعنف الفكري والمذهبي وحتى السياسي، بجميع مستوياته، بدءاً بالعوام الذين دعا إلى إلجامهم عن الكلام، وانتهاءً بالفلاسفة الذين عناهم بالتهافت..!! ومما يثير الدهشة المعرفية على نحو سالب، كيف أن بعض الباحثين العرب المعاصرين، لايزالون يقفزون على الحقيقة العلمية، ويقيمون صروحاً بحثية لإعادة زخرفة فكره «1»، ناسين أو متناسين ما جناه أمثاله على التفكير الحر والعقلاني فيمن سبقته وكذلك الذين جاؤوا بعده، وإليكم بعض الذي يمكن قوله في هذا المجال.
في العام 488 هجرية فر الغزالي من بغداد مولياً ، بعد أن أصدر أبرز كتبه (فضائح الباطنية) و(مقاصد الفلاسفة) و(تهافت الفلاسفة)، مخلفاً أسرته وراءه وأمضى بعيداً أحد عشر عاماً بين الحجاز والشام ومصر عاش في المقابر والسراديب والخلوات، قبل أن يعود ليدرس في المدرسة النظامية «في نيسابور» عاصمة إقليم خراسان. وكان الغزالي قد ذكر في كتابه (المنقذ من الضلال) بأن ذلك الفرار كان نتيجة للشكوك التي داهمته في تلك المرحلة من عمره، كان عمره حينها 38 سنة، والحقيقة عكس ذلك تماماً فالذي حصل أن تجاذبات الوضع السياسي بين السلاجقة والعباسيين آنذاك،هو الذي كان وراء ذلك الفرار، والذي كان الغزالي يحاول التقرب إلى من يكون له الأمر منهم، فهو من (أعوان من غلب). فكان يطلب النفوذ والشهرة،كما كان يقول في كتابه «المنقذ من الضلال» (تفكرت في نيتي في التدريس فإذا هي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل باعثها الجاه وانتشار الصيت) (2) ، ثم قال في نفس الكتاب (وكنت في ذلك الزمان أنشر العلم الذي به يكتسب الجاه) (3) . وليته اكتفى بهذا القدر من استهداف الجاه وانتشار الجاه، بل ذهب بعيداً ، وبعدما اغتيل ولي نعمته السابق السلطان السلجوقي «نظام الملك»، لجأ إلى الخليفة العباسي الشاب «المستظهر» «ذو الستة عشر عاماً ، وكان خليفة، شكلياً يتلاعب به الحكام الأتراك السلاجقة، فأصدر محاباةً له كتاب (فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية) واصفاً هدف ذلك الكتاب قد جاء بناء على حد قوله (أما بعد، فإني لم أزل مدة المقام بمدينة السلام [بغداد] متشوقاً إلى أن أخدم المواقف المقدسة النبوية الإمامية المستظهرية، ضاعف الله جلالها ومد الله ظلالها، بتصنيف كتاب في علم الدين أقضي به شكرالنعمة وأقيم به رسم الخدمة وأجتني بما أتعاطاه من الكلفة ثمار القبول والزلفة.. حتى خرجت الأوامر الشريفة المقدسة النبوية المستظهرية بالإشارة إلى الخادم [ويقصد الغزالي نفسه] في تصنيف كتاب الرد على الباطنية.. فرأيت الامتثال حتماً والمسارعة إلى الإرتسام حزماً ) (4) ، هكذا يضفي الغزالي صفة «القداسة والنبوية» على الحكام الذين يتقرب زلفة لهم، مسيداً لحكمهم بسفططة الفكر، وببلاغة القول المشوه للحقيقة.
في عام 490هـ بدأ الغزو الصليبي ضد الأمة الإسلامية، وكان الغزالي منعزلاً آنذاك عن العالم في المنارة المغلقة بدمشق، وتالياً في كهف الصخرة ببيت المقدس، لافاً رأسه بالثياب لمشاهدة جلال الربوبية كما جاء في كتابه الذائع الصيت (إحياء علوم الدين). والذي ألفه في تلك الفترة الحرجة من تاريخ الأمة الإسلامية، بعد أن استولى الصليبيون على بيت المقدس، والذي لم نر ذكراً لذلك الأمر في كتابه ذاك، ولا حتى ذكر موضوع الجهاد، الذي أولاه كتاب تلك المرحلة جل اهتمامهم. بل نراه في ذلك الكتاب ينشغل كعادته بإثارة الزوابع والفتن المذهبية والفكرية، بالكتابة ضد المعتزلة والفلاسفة والفرق الباطنية وغيرهم، ناسفاً كل مشروع فكري أومذهبي، لصالح رأيه الذي يعتقد هو بأنه أحيا به علوم الدين بعد أن قتلها الآخرون. وداعياً في كتابه ذاك إلى ثقافة الهزيمة والإنكسار. فهو القائل «إذا عجزنا عن الغنيمة، رضينا بالسلامة في الهزيمة» (5) . بل دعا إلى أكثر من ذلك إذ طالب فيه الإنسان للإنسحاب [الهزيمة] من الدنيا. ولقد أفرد الغزالي باباً كبيراً في كتابه الإحياء أسماه (كتاب ذم الدنيا) يقول في مفتتحه «أكثر القرآن مشتمل على ذم الدنيا وصرف الخلق عنها ودعوتهم إلى الآخرة، بل هذا مقصود الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولم يبعثوا إلا لذلك» (6) ويذكر رواية [لا يشير الغزالي إلى اي مرجع لهذه الروايات] يقول فيها «أن الله لما أهبط آدم إلى الأرض قال له: أبن للخراب، ولد للفناء» (7) وبهذا ينفي الغزالي أن يكون هدف الرسالات والنبوات هداية البشر لما فيه خير الدنيا والآخرة، بل ويعتبر من يقول بذلك هم المغفلون، الذين لولاهم لانقطع البشر جميعاً من الدنيا [المذمومة] وهاكم ما يقوله حجة الإسلام الغزالي «صاحب العقل والحكمة العملية» عن أولئك الحمقى والمغفلين ممن يجتهدون لإعمار الأرض، وهم المسخرون لخدمة أمثاله من الأذكياء والمختارين الذين انهزموا في الدنيا ومن بلائها بالزهد الكاذب، لكي تكون الدنيا مطية لأرباب نعمته من الحكام والسلاطين. يقول الغزالي عن أولئك المغفلين: «باعثهم عليه حرص جمع المال، فيتعبون طول الليل والنهار في الأسفار، ونصيبهم منها جمع المال، الذي يأكله لا محالة غيرهم، إما قاطع طريق، وإما سلطان ظالم، ولكن جعل الله تعالى في غفلتهم وجهلهم نظاماً للبلاد ومصلحة للعباد، بل جميع أمور الدنيا انتظمت بالغفلة وخسة الهمة، ولو عقل الناس وارتفعت همتهم لزهدوا في الدنيا، ولو فعلوا ذلك لبطلت المعايش، ولو بطلت لهلكوا ولهلك الزهاد» (8) أي تناقض عقلي أكثر من هذا، وكيف يثق بمثل هذا الفكر الذي يصيب المرء بالذهول لما يقرأه.
وفي كتاب «الإحياء» نفسه يفرد باباً منه في فضيلة الخمول. يقول في بعض أحاديثه، بأن طريق الجنة معبد لكل ضعيف مستضعف (9) .ذلك العامي الذي يجب أن لا يجرؤ على الكلام أو السؤال وبالتالي الإعتراض عمن يريد استضعافه وقهره، فأفرد له كتابه القهري (إلجام العوام عن الكلام) وبعد أن ألجم الفلاسفة والمعتزلة والفرق الباطنية، بكتبه (مقاصد الفلاسفة وتهافت الفلاسفة والمستظهري.. وفيصل التفرقة..) ها هو يسعى إلى لجم جميع جمهور المسلمين بالقول: «والسكوت عن السؤال واجب على العوام، لأنه بالسؤال معترض لما لا يطيق وخائض في ما ليس أهلاً له، فإذا سأل عارفاً ، عجز العارف عن تفهيمه.. والعامي إذا طلب بالسؤال عن هذه المعاني، يجب زجره ومنعه وضربه بالدرة [الكرباج]» (10) «فإذا فرضنا عامياً مجادلاً لحوحاً .. قلنا هذا مريض مال عن طبعه عن صحة الفطرة وسلامة الخلقة الأصيلة، فينظر في شمائله، فإن وجدنا اللجاج والجدل غالباً إلى طبعه، لم نجادله وطهرنا وجه الأرض منه.. فالفطرة الصحيحة الأصيلة معدة لقبول الإيمان دون المجادلة وتحرير الأدلة » (11) ويذهب في كتابه (الاقتصاد في الاعتقاد) إلى ضرورة استخدام ما يمكن تسميته [بجدل السيف) بدلاً من الدليل والبرهان «أكثر الكثرة أسلموا تحت ظلال السيوف، فالله [معاذ الله] يفعل بالسيف والسنان ما لا يفعل بالبرهان واللسان» (12) كيف يجرؤ بقول هذا الكلام عن الله سبحانه، والله يقول في كتابه الكريم {وجادلهم بالتي هي أحسن} أليس هذا تأصيلاً لشرعة العنف التي يمارسها الذين يؤمنون بفكر أمثال الغزالي.
ثم ألم يقرأ الباحث إدريس كتاب الغزالي «التبر المسبوك في نصائح الملوك» ما يقوله عن المرأة، لكي يبين لنا عقلانيته وفلسفته المحققة..! والذي يصنف فيه النساء المكرمات في القرآن الكريم بأنهن والرجال مخلوقون من نفس واحدة، في تعاليم الرسول الأكرم (ص) بأنهن شقيقات الرجال، إلا أنهن عند الغزالي ينقسمن عنده إلى عشرة أصناف حيوانية تبدأ بالخنزيرة ويعرفها بأخس تعريف، إلى أن يتنهي به مطاف التصنيف إلى الغنمة..!
وهنا قد يقول قائل وبناء على التصنيف التحقيبي لمؤلفات الغزالي، بأن الغزالي ألف في مرحلتين مفترقتين من الناحية الفكرية. فإنه بعد تلك المرحلة المضطربة من حياته التي وصفها هو في كتابه (المنقذ من الضلال) قد قام بالاهتمام بالعلوم العقلية، فإن ما ألفه في مرحلته الثانية، لا يعدو أن يكون استيفاء لأغراض ظنون الغزالي وأوهامه، حيث سعى بكل ما أوتي من جهد تأليفي، أن يغلق الطريق على تلك العلوم وتعلمها وانتشارها بنقضها وتجريح من يتبناها. أو على الأقل تعلمها عن طريقه وعلى طريقته وذلك فيما ألف من كتب في الفلسفة والمنطق والتصوف وعلم الكلام وأصول الفقه، كل ذلك بغير اعتبار علمي يذهب لصالح تلك العلوم في نقدها والإضافة إليها. بل وأراد من خلالها توجيه ضربة قاصمة يدين فيها دعاة المنهج العقلي وحريته.
ثم إن القول الذي عناه الباحث إدريس هاني في (ص38) بأن الغزالي «نهج أسلوباً نقدياً استند إلى دربة الجدل وقوة الاستيعاب ومسلك التفكيك والتقويض.. وهو بحق كان أقرب إلى فيلسوف (مشاكس) منه إلى مجرد صوفي صاحب موقف سلبي من الفلسفة». إن هذا القول يبدو مجافياً لحقيقة ما جرى في جل كتابات ومواقف الغزالي التي يقرها هو نفسه في كتابه الشهير «المنقذ من الضلال» الذي نرجع الباحث إدريس إليه. كما أننا لم نر لحد الآن من أقر بأن الغزالي ينهج نهجاً فلسفياً يستحق من خلاله لقب [فيلسوف]، بل وكثيراً ما شكك دارسو الفلسفة في ذلك. فهذا الدكتور عاطف العراقي في كتابه المدرسي الأخير «الفلسفة العربية، مدخل جديد» يفرد الفصل الثامن من كتابه لسؤال يتساءل فيه عن الغزالي هل يعد فيلسوفاً ؟ ويجيب بأنه ليس إلا متكلماً أشعرياً وصوفياً ، وكل أفكار الغزالي لا تخرج عن كونها تعبيراً عن الاتجاه الأشعري والصوفي (ص191).
وإذا كان هناك من صوابية ما تتفق مع آراء الفلاسفة وتؤكد استيعابه لمقولات الفلاسفة الذين سبقوه، فليس ذلك على التحقيق سوى انتحال أو اقتباس لمقولاتهم وخصوصاً من الفيلسوفين الفارابي وابن سينا.
إن تمثيلات الغزالي اللاعقلانية العنيفة تكاد تكون منبثة في جميع مؤلفاته، خصوصاً تلك التي تمثلت في الرد على الآخر ولقد استهجن محقق كتاب (تهافت الفلاسفة) د. سليمان دنيا بالقول في تقديمه لتحقيقه «إن السباب ليس فلسفة، ولا يصلح أن يكون لوناً من ألوانها، حتى على سبيل المجاز» (13) . كما يأخذ على ابن رشد مجاراة الغزالي في ذلك الأسلوب، فالغزالي يشنع من جهته الفلاسفة بقوله عنهم «فأية رتبة في عالم الله أخس من رتبة من يتجمل بترك الحق المعتقد تقليداً بالتسارع إلى قبول الباطل تصديقاً ، دون أن يخبره تحقيقاً ، والبله من العوام بمعزل عن فضيحة هذه الهواة، فليس في سجيتهم حب التكايس بالتشبه بذوي الضلالات، فالبلاهة أدنى إلى الخلاص من فطانة بتراء، والعمى أقرب إلى السلام من بصيرة حولاء. فلما رأيت هذا العرق من الحماقة نابضاً على هؤلاء الأغبياء، انتدبت في تحرير هذا الكتاب، رداً على الفلاسفة القدماء، مبيتاً تهافت عقائدهم، وتناقض كلمتهم فيما يتعلق بالإلهيات، وكاشفاً عن غوائل مذهبهم وعوراته، التي هي على التحقيق مضاحك العقلاء، وعبرة عند الأذكياء، أعني ما اختصوا به عن الجماهير والدهماء، من فنون العقائد والآراء» (14) .
أما ابن رشد وبذات النقد الاستخفافي بالآخر وبرأيه، نراه يتخلى عن بهاء عقلانيته التي يضفيها عليه المعجبون به، الساكتون عن جنبة النزعة الذاتوية عند ابن رشد لصالح رأيه ومذهبه ودولته، فجاء رده على نفس الأسلوب والنسق، وبعد أن اشترك في الاستخفاف بالعوام، ينهال على الغزالي ومن قال قوله من الجهلاء بالقول: «لا يبعد أن يعرض مثل هذا للجهال من العلماء، وللجمهور من الخواص، كما يعرض ذلك في المصنوعات، فإن الصناع إذا أرادوا صفات كثيرة من مصنوعاتهم على العوام، وتضمنوا الأفعال العجيبة عنها، هزئ بهم الجمهور، وظنوا أنهم مبرسمون [يهذون] وهم في الحقيقة الذين ينزلون منزلة المبرسمين من العقلاء والجهال من العلماء، وأهل النظر... فالكلام في هذه الأشياء مع الجمهور هو بمنزلة من يسقي السموم أبدان كثير من الحيوانات، التي تلك الأشياء سموم لها» (15) .
لقد كان بحق صاحب نظرية «تفاضل طباع الناس في التصديق»، مؤسساً بذلك لمفهوم القطيعة بين المثقف والمجتمع، موغلاً في منادمة النخبة المنقطعة عن جمهورها، فخاصة ابن رشد هم أصحاب الفطرة الفائقة في القدرة على تعلم وإتقان المعرفة الحقة، والتمكن من تأويل الشريعة المنزلة، أما الجمهور فينبغي أن يُستبعد عن ذلك، وأن لا تذاع في أوساطه تلك المعارف وآراء حامليها، مؤكداً على أن النخبة المقصودة هم الفقهاء الذين استخدموا العلوم العقلية للوصول إلى مقاصد الشريعة ليس إلا، فهم كالأطباء الذين يداوون سقم الأجساد، والفقهاء يداوون سقم النفوس، وأما الذين يستخدمون المنهج العقلي لتحقيق مقاصد الإنسان المتعددة في المعاش فلا شأن لفكر ابن رشد بها..! (16) . نجد ذلك مقرراً بتفاصيل قصدية فكرية محافظة يوسع الرأي فيها مادامت مقصورة في العلوم الشرعية وأصولها، والعلوم النظرية والفلسفية والكلامية وجدالها، ويضيقها في الشأن العام ومشكلاته، ولا يذكر عنه أي مؤلف عني بالإجتماع السياسي وهمومه، وهو المملوء بتلك العلوم التي تعينه على ذلك، فهو العارف بجمهورية افلاطون وبالأحكام السلطانية وبالمسائل الكلامية والفقهية التي عنيت بمسألة الخلافة..!
المفكر العربي المعاصر د. حسن حنفي، يرى من جهته [وبتوفيقية غريبة بعض الشيء من الناحية العلمية والفلسفية] بأن ابن رشد كان يعيش الاشتباه والتوتر بين ثنائيات عدة، وكلاهما صحيح، لأن التوتر ـ على حد قول د. حنفي ـ موقف انفعالي ووجودي مصاغ صياغة عقلية، فالتحليلات العقلية، والاختيارات المذهبية، والبدائل النظرية، والجدل بين التيارات الفكرية كلها تحاول الإبقاء على أكبر قدر ممكن من التوتر بين القطبين ولا يعني الاشتباه أي موقف توفيقي بين طرفين متناقضين بغية التوسط وعجزاً عن الحسم وإرضاء للجميع في نهاية سعيدة، لا غالب ولا مغلوب، لا منتصر ولا مهزوم، بل إقرار بواقع ثقافي وموقف حضاري وتعددية منهجية (17) .
هل يحتاج المرء وهو يقرأ مثل هذا النص للدكتور حنفي، إلى كثير من إمعان في النظر، أو جهد في السؤال، عن لماذا كل هذا الإقرار بتميز توفيقية ابن رشد المتوترة والمقرة بالواقع الثقافي.؟! ربما هو ذات الهم الإيديولوجي المصاحب لتركيبة الفكر العربي المعاصر، والذي درج على تسويغ مقولاته الفكرية من خلال تأصيل تاريخية تلك المقولات، ورفع شأنها المعاصر، من خلال رفع حظ مثيلاتها المنهجية في التراث وإن لم تتطابق موضوعاتها. فتميز توفيقية ابن رشد ها هنا يعني بالضرورة تميز توفيقية د. حنفي المعاصرة.
أما الدكتور طه عبد الرحمن فلا يزال يؤكد على ضعف إنتاج ابن رشد، ويقول: «وليس أدل على ذلك الضعف إلا التقليد في مجال الفلسفة،فقد شهد المتقدمون والمتأخرون بأن ابن رشد مقلد لأرسطوطاليس، بل وليس في فلاسفة الإسلام من هو أشد منه تقليداً لفلاسفة اليونان» (18) . فيما ذهب الباحث المتخصص في فكر ابن رشد الدكتور محمد المصباحي في كتابه الأخير عنه (الوجه الآخر لحداثة ابن رشد) إلى التأكيد على جرأة ابن رشد على صعيد العقل النظري، فيما هو محافظ على صعيد العقل العملي، فلم يترك لنا عملاً هاماً في الأمور العملية، كما فعل خصمه أبو حامد الغزالي. كما ذهب الباحث الناقد الدكتور محمد مفتاح إلى القول عن ابن رشد، بأنه أحد المتأغرقين، والذي لا يعدو أن يكون ملخصاً وشارحاً أكثر مما كان مؤلفاً ومتصرفاً ومؤولاً (19) .
فالنزعة العامة للفلسفة العربية هي اعتماد الاتجاه المحافظ، ونعني بهذا أنها فهمت العقل ووظائفه في حياة الإنسان كأداة لخدمة أو تقليد نظام ثابت أو تبرير نظام ديني اجتماعي، ولم تفهمه كأداة تنوير عام وتغيير مستمر لأوضاع وأنظمة قائمة في اتجاه بناء أوضاع وأنظمة أفضل فأفضل، أو كأداة تحرير للإنسان من كل ما يعيق تقدمه نحو التفتح الكامل لكيانه الفردي والنوعي في الدنيا (20) . فهل يمكننا أن نقول أن ابن رشد قد انتصر للموائمة المرجوة بين الفلسفة والدين، أو بين الحكمة والشريعة، كما عني ذلك الباحث إدريس هاني..؟! وبعد أن جعل ابن رشد العقل جملة وتفصيلاً خادماً لمذهب ونظام اجتماعي وسياسي بعينه، ومسلطاً سوط العقل بغلظة على الأغيار أياً كانوا فلاسفة متكلمين فقهاء وغيرهم.. ممن لا يلتقون في النظر العقلي والنظري معه.
هكذا هو ديدن تاريخية الفكر العربي الإسلامي، قديمه ومعاصره، في سجاليته المدججة بالأيديولوجية، من قبل ومن بعد، لا تريد لذاتها العربية الإسلامية أن تتحقق في بعد التعددية المتضايفة، بتعالق الضابط الموضوعي فيما بينها وفق نظام يمتلئ بالمعرفي، ويكرس القيمي الاعتباري، ويحسب الاختلاف رحمة، في الاعتراف بالتراكم العلمي، والتبادل والتكامل لصالح الأمة وحضارتها المنشودة.
الهوامش:
1) قام الباحث العراقي الدكتور ميثم الجنابي بدراسة موسعة في أربعة أجزاء، حاول فيها إعادة قراءة فكر الغزالي من جديد، على ضوء المنهج العقلاني المعاصر..!
2) أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال، حققه وقدم له: د. جميل صليبا، د. كامل عياد، دار الأندلس، بيروت، ص134.
3) نفس المصدر ص160.
4) فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية، أبو حامد الغزالي، الطبعة الحلبية، ص2.
5) بداية الهداية وتهذيب النفوس، أبو حامد الغزالي، طبعة الحلبي، ص32.
6) إحياء علوم الدين، الغزالي، دار القلم، بيروت، ص190.
7) نفس المصدر، ص192.
8) نفس المصدر، ص214.
9) نفس المصدر، ص259.
10) إلجام العوام عن الكلام، الغزالي، المطبعة المنيرية، ص12.
11) نفس المصدر، ص58.
12) الاقتصاد في الاعتقاد، الغزالي، طبعة مصر، ص7.
13) تهافت الفلاسفة، ابن رشد، تحقيق: د. سليمان دنيا، دار المعارف مصر، ص21.
14) نفس المصدر، ص23، 24.
15) نفس المصدر، ص26، 27.
16) فصل المقال..، المطبعة الكاثوليكية،بيروت، ص54.
17) مجلة عالم الفكر، الكويت، العدد الرابع، 1999م، الاشتباه في فكر ابن رشد، ص120.
18) جريدة القدس العربي، لندن، العدد 3410، 28 /أبريل/ 2000م.
19) مشكاة المفاهيم، النقد المعرفي والمثاقفة، د. محمد مفتاح، المركز الثقافي العربي، ط1، 2000م، ص15.
20) التفكير والهجرة، د. ناصيف نصار، دار النهار، بيروت، ط1، ص38.
15) نفس المصدر، ص26، 27.
16) فصل المقال..، المطبعة الكاثوليكية،بيروت، ص54.
17) مجلة عالم الفكر، الكويت، العدد الرابع، 1999م، الاشتباه في فكر ابن رشد، ص120.
18) جريدة القدس العربي، لندن، العدد 3410، 28 /أبريل/ 2000م.
19) مشكاة المفاهيم، النقد المعرفي والمثاقفة، د. محمد مفتاح، المركز الثقافي العربي، ط1، 2000م، ص15.
20) التفكير والهجرة، د. ناصيف نصار، دار النهار، بيروت، ط1، ص38.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.