شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
«إن استعارة العناصر الثقافية هي مسألة انتقائية، وهي تخضع بالضرورة لتعديلات تدخلها الثقافة المستعيرة على العناصر المستعارة»الانتربولوجي شبنغلر
إن من يتصفح مئة كتاب تاريخي لا يجد اسماً لذلك الشعب ـ اي العرب ـ في ثمانية وتسعين منها، هذا ما تقوله المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه في كتابها «شمس العرب تسطع على الغرب»، وبسبب ذلك لم تتعرف الشعوب الأوروبية على حجم المساهمة الحضارية العربية الإسلامية المهمة في تطوير الحضارة الإنسانية والمشاركة في التراكم المعرفي الذي انطلقت منه الحضارة الغربية الحديثة،وهذا الموقف الأيديولوجي السلبي الذي حاول ولفترة طويلة إنكار حقيقة التفاعل الحضاري الذي استمر قروناً عدة بين الغرب المسيحي والمشرق العربي الإسلامي عبر بوابتي اسبانيا وصقلية. حينما اعتكف الأوروبيون على ترجمة التراث العربي في مجالي الفلسفة والعلوم خصوصاً، إنما وقفت وراءه كما يقول كاتب غربي «جبال من الكراهية» وسوء الفهم والخوف من الإسلام الذي تجاوزت فتوحاته جبال البرنيه و«أوشكوا ـ أي العربـ أن يخضعوا أوروبة كلها لحكم القرآن» كما يقول المستشرق جوزيف رنيو، لولا هزيمتهم في معركة بلاط الشهداء، لكنهم تمكنوا بعد ذلك من حصار فيينا وكادوا يدكون أسوارها، لكن الحظ لم يحالفهم فاكتفوا بإنشاء كيانات إسلامية مازالت قائمة إلى الآن في أوروبا الشرقية والوسطى، بالإضافة إلى الحروب الصليبية الطويلة التي تزعمتها الكنيسة وكانت من أكثر الحروب دموية بين الإسلام والمسيحية، حيث ساد الجهل المطبق بالإسلام الذي لم يكن في نظر الكنيسة سوى كفرٍ وهرطقة ينشرها وثنيون برابرة ومتوحشون. هذا الموقف القديم أضاف له الاستشراق الكلاسيكي معطيات جديدة عندما قدم مبررات أيديولوجية مزيفة لدعم وتبرير الهجمة والهيمنة الإمبريالية الغربية على باقي الشعوب والحضارات،انطلاقاً من الاعتقاد بالتفوق العرقي العنصري والثقافي للرجل الأبيض الذي يحمل على عاتقه مهمة تبليغ وإيصال الرسالة الحضارية للعالم.
وبذلك لم يغفل الغرب اللحظة التاريخية والحضارية العربية الإسلامية فقط، وإنما أنكر مساهمة باقي الشعوب والحضارات في التراكم المعرفي الذي حققته البشرية، وهذا ما أفصح عنه بول فاليري وهو يقول لرينه غروسه: «ليس ثمة غير اليونانيين ونحن» وأكده كذلك أحد كبار مؤرخي الفلسفة الغربية المعاصرين ونقصد به برتراند رسل الذي لم يخصص حيزاً للحكمة أو الفلسفة في الشرق اعتقاداًمنه بأن الفكر الفلسفي الغربي يمكن التأريخ له منفصلاً لأنه مكتفٍ بنفسه،وقد تطور بعيداًعن حكمة الشرق.
طبعاً لقد اعترف عدد من الباحثين الغربيين وعلى رأسهم كبار المستشرقين بأن أوروبا قد تعرفت على الفكر اليوناني عن طريق الترجمة العربية لهذا الفكر، لكن هذه الاعترافات تحدثت عن حفظ هذا التراث وترجمته إلى اللغات العربية فقط، وإن أقصى ما فعله العرب هو شرح المتون الأرسطية وفهمها،وأن نهاية التفكير الفلسفي العربي توقفت عند حدود هذا الفهم مع ابن رشد كما يرى دانتي، لكن الحقيقة أبعد من ذلك، لأن عناية العرب والمسلمين بالفكر الفلسفي اليوناني تجاوزت الترجمة والتنقيح والتصحيح والاستيعاب بعد ذلك إلى النقد والتجاوز، وهذا ما ظهر مع الفارابي وابن سينا وصدر المتألهين الشيرازي الذي لم يكن ناقداً للفلسفة اليونانية فقط بل استطاع أن يتجاوز بعض الإشكاليات التي كان الفكر الفلسفي اليوناني يتخبط فيها، مثل التردد بين أصالة الوجود وأصالة الماهية، فحسم الموقف لصالح أصالة الوجود مقدماً أدلة عقلية مبتكرة وجديدة، لكن أوروبا لم تتعرف على صدر المتألهين أثناء ترجمتها للتراث الفلسفي العربي، كما هو الشأن مع الفكر الرشدي الذي أحدث انقلاباً في الفكر الغربي خلال العصور الوسطى وأدى إلى ظهور ما سمي بتيار الرشدية اللاتينية الذي ساهم في إحداث وانطلاق الإصلاح الديني في أوروبا، وكان توما الإكويني وهو أكبر فلاسفة أوروبا في القرن (13م) من المناوئين له وقد ألف كتاباًضد الرشدية، كما كشف عن معرفته بمؤلفات الفارابي وابن سينا، وبالتالي فتأثير الفكر الفلسفي العربي على أوروبا كان عميقاًوواضحاًوهذا ما أكده روجر بيكون عندما قال: «إن الفلسفة منطقة خاصة بغير المؤمنين ونحن أخذناها كلها عنهم».
هذا فيما يخص الفلسفة أما في مجال العلوم الطبيعية فقد ظلت المصادر العربية المراجع الأساسية في أوروبا لعدة قرون،وقد تحدثت المستشرقة زيغريد هونكه عن حجم ما استفاده الأوروبيون من العلم العربي في الطب والفلك والصيدلة والكيمياء والرياضيات ـوكذلك فعل غوستاف لوبون في كتابه «حضارة العرب» وماكس فانتيجو في كتابه «المعجزة العربية» وآن مري شيمل وغيرهمـ إن الدور الذي لعبه العرب بالنسبة للفكر الأوروبي كان مزدوجاً، فهم من نقل التراث اليوناني الفلسفي وحافظوا عليه بالترجمة والشرح، ثم نقلوه إلى أوروبا لكن مع إضافات كثيرة نتيجة الاستيعاب والتمثل، كما هو الشأن بالنسبة الأوروبيين الذين ترجموا التراث العربي الفلسفي والعلمي واستوعبوه وتجاوزوه بعد ذلك، وتبقى المفارقة في كون العرب لم يجدوا أية غضاضة في الاعتراف بأخذهم عن اليونان واستيعابهم لتراثهم الفلسفي وكذا تراث باقي الأمم، وقد ظل أرسطو لديهم المعلم الأول، وأطلقت عليه الكتابات العربية لقب الحكيم الإلهي، وأصبح المنطق الأرسطي القاعدة العلمية المنهجية التي تم استدعاؤها والاستفادة منها في أكثر العلوم خصوصية بالنسبة للحضارة الإسلامية ونقصد به علم الفقه، بحيث نجد كبار الفقهاء ممن رفضوا الفلسفة اليونانية يدافعون عن المنطق الأرسطي ويعتبرونه من العلوم الآلية التي لا غنى للشريعة عنها.
وفي العصور الحديثة نجد العرب يعترفون بأن نهضتهم بدأت مع الاحتكاك الأول بالغرب الاستعماري، أما بالنسبة للأوروبيين فقد تلكأوا طويلاًفي الاعتراف بفضل الحضارة العربية عليهم ومساهمة العرب والمسلمين في نهضتهم الحديثة، مع أن مظاهر التشرب والاستيعاب لعدد من عناصر الفكر العربي الإسلامي ظهرت جلية وواضحة في الانتاج الفكري الفلسفي والأدبي وكذلك في مجال العلوم الطبيعية. بحيث من الصعب إنكار ذلك أو تجاوزه، أو الإدعاء بأن ما قدمه العرب لأوروبا اقتصر على حفظ الفكر اليوناني وترجمته دون زيادةتذكر. فهذا بخلاف ما كشف عنه الانتربولوجيون والمؤرخون الغربيون المعاصرون وهم يرصدون تطور العلاقات الثقافية بين الشعوب والحضارات عبر التاريخ، فقد اكد المؤرخ الفرنسي فرناند برودل على أهمية الاقتباس أثناء لحظات التثاقف بين الحضارات والثقافات، بالإضافة إلى حتمية التداخل بين الحضارات، حيث تنتقل مجموعة من العناصر الثقافية من حضارة إلى أخرى ويتم استيعابها كاملة أو مع بعض التعديلات كي تنسجم مع البنية الثقافية الجديدة، وهذا يؤكد تهافت الرأي الغربي الذي يدعي بأن العرب كانوا مجرد نقلة للفكر اليوناني وأنهم سلموا أوروبا مشعل الحضارة منطفئاً وأنهم هم من قام بإشعاله من جديد.
وبذلك لم يتم اختزال وتجاوز اللحظة الحضارية العربية، وإنما تم إنكار مساهمة باقي الحضارات والثقافات في التراكم المعرفي الذي حققته البشرية، لأن العرب لم يستوعبوا فقط الفكر الفلسفي اليوناني، بل أخذوا من الحضارتين الهنديةوالفارسية الكثير ومن باقي الثقافات المحلية الأخرى كذلك، الكثير من العناصر الثقافية بالإضافة إلى العنصر الإسلامي، فلا يمكن أبداًإغفال ما قدمه الوحي وما حملته نصوصه المقدسة، من مفاهيم معرفية جديدة ورؤية للعالم، وقد انطلق جميع الفلاسفة المسلمين من هذه الرؤية في فهمهم ونقدهم للفلسفة اليونانية وفي محاولاتهم للتوفيق بين الرؤيتين اليونانية والإسلامية. لذلك فقد تسربت مجموعة من عناصر هذه الرؤية التركيبية الجديدة إلى الفكر الأوروبي عن طريق مؤلفات الفارابي وابن سينا وابن رشد وابن عربي وابن حزم وشعراء الأندلس، وسرعان ماظهرت تجليات هذه العناصر في الفكر الأوروبي وخصوصاً في اللاهوت والأدب.
وكما قلنا في البداية هذا الموقف الغربي الأيديولوجي من الحضارة العربية الإسلامية كانت تقف وراءه معطيات تاريخية وموضوعية لتبرير الهجوم والهيمنة الغربية على العالم، لكن مع بداية تحرر الاستشراق من هذه الخلفيات والدوافع غير العلمية، وظهور بعض علماء الإسلاميات الموضوعيين،لاحظنا كيف توالت الاعترافات بفضل الحضارة العربية وحجم مساهمتها في النهضة الحديثة، خصوصاًمع الاستشراق الإسباني الذي تجاوز عقدة عدم الاعتراف بالحضارة العربية والتواجد الإسلامي في الأندلس، وبدأ يستوعب تلك اللحظة الحضارية بالكثير من الموضوعية، ويتحدث عن الدور الوسيط الذي لعبته اسبانيا إلى جانب صقلية في نقل التراث العربي إلى أوروبا، بالإضافة إلى الحديث عن حجم التأثير العربي على الفكر والأدب الإسبانيين، وكيف تسللت الروح الحضارية العربية والإسلامية إلى الوجدان الإسباني ومازالت ثاوية في أعماقه إلى الآن.
وإذا علمنا أن من بين إحدى أهم أوجه الصراع ومظاهر العداء والكراهية اليوم بين الغرب المسيحي والعالم العربي الإسلامي تتجلى في عدم الاعتراف الغربي بفضل الحضارة العربية ومساهمتها في النهضة الحديثة، فإن توالي هذه الاعترافات من مفكرين وباحثين ومستشرقين جدد وسياسيين في الغرب، يخفف من هذا التوتر أو الحرب الباردة القائمة الآن بين الإسلام والغرب، ويفتح آفاقاً جديدة لقيام حوار حضاري شامل قد يلغي مبررات الصراع والصدام الذي يراه البعض في الغرب حتمياً في المستقبل.
موضوع تفاعل الحضارتين العربيةوالإسلامية والأوروبية الغربية، وعلاقتهما المعاصرة والصورة النمطية للإسلام في الذهن الغربي هما المحوران الرئيسيان اللذان ناقشهما مؤتمر: «التفاعل بين الحضارة العربية ـ الإسلامية والحضارة الغربية والدور الإسباني» الذي عقد في دمشق بين 11ـ13 تشرين الثاني (نوفمبر) 2000م، ونظمه معهد ثربانتس (المركز الثقافي الإسباني) بالتعاون مع السفارة الإسبانية بدمشق والوكالة الإسبانية للتعاون الدولي بمدريد ومركز الدراسات الاستراتيجية والبحوث بجامعة دمشق.
في الجلسة الصباحية الأولى وبعد كلمات الافتتاح التي ألقاها كل من د. حامد خليل مدير مركز الدراسات الاستراتيجية ومدير معهد ثربانتس السيد كارلوس فارونا. انطلقت أعمال الجلسة الأولى التي تحدث فيها في البداية د. يوسف سلامة (جامعة دمشق ـ قسم الفلسفة) حول: «دور الأندلس في انتقال الرشدية العربية إلى الرشدية اللاتينية»، في البداية يشير د. سلامة إلى نقطة مهمة جداً وهي اعتراف الحضارة الإسلامية بالجهود العلمية والفكرية للحضارات السابقة واستفادة المسلمين من المناهج العقلية والفلسفية في فهم نصوص الوحي، بل تجاوزوا ذلك إلى محاولة التوفيق بين الوحي والفلسفة، ودعا البعض منهم إلى تأويل الوحي إذا تعارض مع المبادئ العقلية التي كشفت عنها الفلسفة اليونانية، وبذلك فقد كشفت الحضارة الإسلامية كما يقول د. سلامة «عن مستوى رفيع في تبنيها للنزعة الإنسانية يكاد يكون غير مألوف في تاريخ الحضارة الإنسانية» ثم بعد ذلك تحدث عن المراكز أو نقاط التماس الحضارية التي تم فيها التلاقي والتفاعل بين الفكر العربي والفكر الأوروبي خلال العصور الوسطى، وهما طليطلة في اسبانيا وصقلية في جنوب إيطاليا.
لقد احتضنت طليطلة ألوف المجلدات المنقولة من الشرق، وكانت الترجمة فيها نشطة، وفي صقلية كذلك اهتم روجار الثاني بترجمة العلوم العربية للاستفادة منها. وعن طريق هذه الترجمات تعرف الأوروبيون لأول مرة على أرسطو وأفلوطين وابن سينا وغيرهم، وبدأت التأثيرات تظهر تباعاً في الفكر الأوروبي، لكن التأثير المهم كان لابن رشد الشارح الكبير لأرسطو، وقد لعب فيلسوف قرطبة دوراً مهماً داخل الوسط الفلسفي واللاهوتي في الغرب اللاتيني خلال القرن (13م) وهو العصر الذهبي للفلسفة المدرسية اللاتينية. يرى د. سلامة أن أول من اهتم بترجمة أعمال ابن رشد هم «فئة من يهود اسبانيا» وذلك بسبب إعجاب فيلسوفهم موسى بن ميمون بابن رشد وكتبه، ومن خلال هذا المعبر العبراني «أخذت هذه الفلسفة تتسرب إلى المدرسين اللاتين» ثم جاء ميشيل سكوت ليقوم بمهمة الترجمة على نطاق واسع بين سنوات (1217م و1230م) كذلك ترجم كتب ابن رشد إلى اللاتينية هيرمن الألماني وذلك بين أعوام (1240ـ1256م).
لقد بدأت حركة الرشدية اللاتينية ـ أي أتباع ابن رشد من الأوروبيينـ كما يرى د. سلامة منذ أن ترجم ميشيل سكوت شروح ابن رشد على مؤلفات أرسطو قبل انقضاء النصف الأول من القرن الثالث وقد تزعم هذه الحركة سيجر البرانبتي الذي نظر إلى فلسفة ابن رشد على أنها الحقيقة ذاتها.. وبدأ ينشر أفكاره الأرسطية في جامعة باريس، لكن الكنيسة هاجمت أفكاره واصدرت قرارات بتحريم ترويج أفكاره واتهمته وأصدقاءه بالهرطقة، فمنع من التدريس، ثم سجن وقتل في سجنه سنة 1284م.
لقد سيجر شهيد الرشدية في أوروبا وإن أضطر في بعض الأحيان لتأويل المذهب الرشدي تفادياًلمخاطر الإفصاح عن قناعاته الرشدية بالكامل، لكنه وكما يؤكد د. سلامة ظل رشدياً وأخذ من فيلسوف قرطبة الكثير من الآراء الفلسفية، مثل القول بالحقيقتين العقلية والدينية، قدم العالم الزماني، علم الله بالكليات دون الجزئيات، وحدة العقل الفعال.. ورغم مقتل سيجر والهجوم العنيف ضد الرشدية الذي تزعمته الكنيسة (القديس توما الاكويني، والبابا يوحنا 21)، إلا أن أنصار الرشدية والمدافعين عن آرائها تكاثروا بعد ذلك مثل: جان دي جان دان (ت 1328م)، ومارسيليو البادوفاني (ت1340)، بولص البندقي وبطرس دابانو وغيرهم.
وبشكل عام فابتداء من القرن الرابع عشر، كما يقول د. سلامة «تألف حزب عظيم لابن رشد من العلماء كان يدرس مبادئه جهرة، مايدل على أن هذه المبادئ قد انتصرت على المبادئ المناقضة لها انتصاراً عظيماً..» وصار ابن رشد صاحب السلطان المطلق في كلية بادو (ايطاليا)، والمعلم الأكبر الذي الذي لا يعارض. وهذا ما أكده بوضوج روجر. بيكون قائلاً: «وقد أنكر مشاهير العلماء الذين تقدمونا فلسفة ابن رشد واهملوها،ولكن الحكماء اليوم صاروا يجلونها باجماع..». ورغم ما تعرضت له فلسفة ابن رشد من هجومات عنيفة فقد استمر تأثيرها إلى القرن الثامن عشر بل إن بعض آرائه مازالت رائجة إلى اليوم داخل بعض الأوساط الفلسفية الغربية والعربية.
الورقة الثانية في هذه الجلسة تقدم بها د. عبد الكريم اليافي (جامعة دمشق ـ قسم الفلسفة وعلم الاجتماع) وجاءت تحت عنوان: «كالدرون وتأثيره على أوروبا» يقدم د. اليافي دليلاً آخر على عمق تأثير الثقافة العربية الإسلامية في الأدب الإسباني عبر مسرحية «الحياة حلم» للشاعر الإسباني الشهير بدرو كالدرون دي لابركا (1600ـ1681م) حيث تمثل الشاعر قصة النائم اليقظان في رواية ألف ليلة وليلة وألبسها لبوسا ينسجم مع الوجدان الشعبي والثقافة الإسبانية. لكن روحها ظلت عربية إسلامية تجلى ذلك في القيم التي تدعو لها، حيث الحياة فانية وزائلة ويجب على الإنسان ألا ينخدع بها، وإنما يغتنمها فرصة لعمل الخير لنفسه وللبشرية، وإشاعة قيم العدل والقسط بين الناس،وأن إرادة الخير هي التي تنتصر في نهاية المطاف. الورقة الأخيرة في هذه الجلسة كانت للدكتور محمد محفل أستاذ التاريخ في جامعة دمشق حول كتاب: «أسلافنا العرب» الذي قام بترجمته وهو للباحث السويسري Bojen Olsomer وعنوانه الأصلي: «Nos ANCETRES LES SARRASINS» مركزاًعلى بعض القضايا العلمية التاريخية الغامضة التي لها علاقة بموضوع المؤتمر مثل: مفهوم اسم «SARRASIN» واسم: بربر، ومور. وكذلك بعض أخبار فتح الأندلس ومدى صحة أخبار وروايات بعض المؤرخين العرب القدماء حول ملابسات الفتوحات الإسلامية للأندلس التي مازالت يشوبها الغموض في الكثير من محطاتها.
من خلال كتاب «أسلافنا العرب» يحاول د. محفل أن يكتشف الصورة التي رسمها الإنسان الغربي للإسلام والمسلمين أثناء الفتوحات الإسلامية للأندلس وبعد ذلك أي أثناء الحروب الصليبية، وذلك من خلال تتبع الدلالات اللغوية ومفاهيم اسماء: السارازين والبربر والمور والمحمديين، بالإضافة إلى رصد بعض لمحات وإضاءات عن دور الأندلس كجسر بين العرب المسلمين وأوروبة القروسطية.
أما ما يتوصل إليه د. محفل بالنسبة للمؤرخ الغربي فإن اسم سارازان كما يقول رينو هو اسم مجهول الاشتقاق ولكن يطلق على العرب الرحل عادة، وفي اللاتينية يقصد به كذلك البدو الرحل سكان الجزيرة العربية، وقيل أصل الكلمة من العربية وتعني شرقي وهو معتمد غالبية الباحثين وأرجعه بعض رجال الكنيسة إلى سارة زوج نبي الله إبراهيم (ع)، واعتبره بوجين أو لسمر مشتقاً من الكلمة العربية سرق، بمعنى لصوصية وقطع الطريق.
أما في أنشودة رولان المشهورة التي تعود إلى القرن (11م)، وهي باللهجة الرومنية، فنجد أن السارازان الذين يحاربهم هم «كفار وثنيون» والسبب في نعت المسلمين بالوثنية هو جهلهم بالعقيدة الإسلاميةـ كما يقول المؤرخ رينوـ واعتقادهم بأن المسلمين يعبدون محمداً. ويرى د. محفل أنه بعد أن تخلصت من بقايا الوثنية في أوروبا، ولم يبق للمسيحيين من عدو يقاتلونه سوى المسلمين، أصبح الإسلام والوثنية لفظين مترادفين في عرفهم. ويلاحظ أن هذا الموقف يشبه الموقف المعاصر للغرب من الإسلام ـ كما يرى د. محفل ـ بعد انهيار المعسكر الشيوعي والدعوة إلى اتخاذه العدو الجديد.
أما لفظ البربر فقد أطلق على الأقوام في شمال أفريقيا الذين امتزجوا بالساراكانز ودخلوا معاً إسبانيا، والكلمة تعني في اليونانية «غريب وهجين وبدائي» وفي اللغة العربية أخذت أحياناًدلالة كلمة أعجمي. وقد تتبع د. محفل مدلولاتها في المعاجم اللغوية والجغرافية.
الجلسة الثانية المسائية التي ترأسها السيد محمد بن سيدي المختار البخاري قُدمت فيها ورقة د. غزوى نابلسي (الجامعة اللبنانية ـ قسم الفلسفة) تحت عنوان: «انتقال المعرفة الطبية إلى أوروبا الجنوبية: مدرسة القيروان نموذجاً»، في البداية أشارت د. غزوى إلى حقيقة مهمة وهي «أن تاريخ الطب ليس تاريخاً قومياًأو وطنياً» لأن جميع الشعوب عانت من الألم والأمراض واشتركت في البحث والكشف عن العلاج، أما السبب الذي جعلها تركز في بحثها على مدرسة القيروان فلكون هذه المدرسة قد «لعبت دوراً فائق الأهمية في نهضة علوم الشفاء خلال القرن العاشر وما بعده» وشكلت مركز إشعاع حضاري عربي وإسلامي انتقلت عبره المعرفة الطبية إلى أوروبا، لقد ازدهرت هذه المدرسة في القرنين التاسع والعاشر في عهد دولة الأغالب،وبلغ ازدهارها أنها أصبحت ثالث مدرسة طبية في العالم الإسلامي بعد مدرستي بغداد وقرطبة، ومن أعلامها الكبار اسحاق بن عمران، واسحاق بن سليمان، وكتبهما ترجمت إلى اللاتينية، وأحمد بن الجزار وهو أشهرهم وقد كانت له منجزات طبية عظيمة مثل «اقتراح ضرورة فصل الطب عن الصيدلة بوصفهما اختصاصيين مختلفين» كذلك ضرورة الفصل بين بقية الاختصاصات، واكتشافه أهمية الفصل كذلك بين الفكر الطبي والممارسة الطبية. وقد ترك ابن الجزار أكثر من (30) مؤلفاً في الطب بعضها حقق وطبع والبعض الآخر مازال مخطوطاً. لكن مما لا شك فيه أن قسماًمهماً من مؤلفاته عرفت طريقها إلى أوروبا. بالإضافة إلى كتب غيره من أعلام هذه المدرسة التي لعبت دوراً مؤثراً عرفت طريقها إلى أوروبا. بالإضافة إلى كتب غيره من أعلام هذه المدرسة التي لعبت دوراً مؤثراً على الطب الأوروبي لفترة تزيد على خمسة قرون. وكان للترجمة فضل نقل الطب العربي ومعه تراكماته الإغريقية والهندية والفارسية والبيزنطية إلى أوروبا.
1ـ استوعبت هذه المدرسة المعارف الطبية في المشرق عندما قدم إليها عدد من الأطباء المشارقة.
2ـ طورت هذه المعارف الطبية وأضافت إليها الكثير خصوصاً مع ابن الجزار.
3ـ تأكد تاريخياً أن علوم هذه المدرسة قد انتقلت إلى أوروبا عبر الترجمة.
4ـ أثرت هذه المدرسة على المعرفة الطبية في أوروبا خلال خمسة قرون وظهر تأثيرها على أكثر من صعيد خصوصاًالأفكار الجديدة في العلاج لابن الجزار.
5ـ استمر تأثير هذه المدرسة إلى يومنا هذا عن طريق الاستفادة من الأعشاب في العلاج وكانت هذه المدرسة سباقة إلى الاهتمام بعدد من الأعشاب واستخدامها لعلاج بعض الأمراض المزمنة والخطيرة.
والخلاصة أن الطب العربي عرف طريقه إلى أوروبا، وأن الأوروبيين قد استفادوا من المعرفة الطبية العربية وطرق العلاج، قبل أن يتجاوزوها عندما كشف لهم البحث الطبي المستمر طرقاًجديداً، كما أنهم أدخلوا تعديلات كثيرة على بعض العناصر الثقافية الطبية العربية كي تنسجم مع موروثهم الديني والفكري لذلك لم نجدهم يعيرون الاهتمام لبعض طرق العلاج التي كانت تعتمد على العنصر الإيماني والاستفادة من القرآن والحكمة الإسلامية في التداوي والشفاء.
الورقة الثانية كانت للدكتور علي دياب (جامعة دمشق ـ قسم اللغة العربية) حول: «دور المستشرقين الإسبان في نشر التراث العربي ترجمة وتحقيقاً». إذا كان الاستشراق قد شكل حالة متطورة في عملية اكتشاف الحضارة الإسلامية، فإن وجهته في البداية وبسبب الخلفيات السياسية والدينية لم تكن علمية بل سعى ـ كما يقول د.دياب ـ إلى تفكيك الحضارة الإسلامية من الداخل عبر زعزعة الإيمان بقوة نظام الخطاب النصي للقرآن الكريم والحديث الشريف، لأن أهدافه كانت تبشيرية وهذا ما أكده المستشرق الألماني درودي بارت عندما اعتبر ان الهدف من الكثير من الكتابات الاستشراقية هو: «إقناع المسلمين عبر لغتهم ببطلان الإسلام واجتذابهم إلى الدين المسيحي...» لكن هذا الموقف سرعان ما طرأ عليه تطور إيجابي عندما نضجت لدى الكثير من المستشرقين الجدد فكرة تكامل الحضارات وأن تطور المعرفة البشرية يأتي عن طريق تراكم المعرفة. انطلاقاً من هذه الفكرة تأسست كراسي اللغات الشرقية في مجمل الدول الأوروبية، وانشغل المستشرقون بأعداد كبيرة بالحضارة الإسلامية خصوصاً. وارتفعت بعد ذلك ـ كما يقول د. دياب ـ أصوات داعية إلى ضرورة إنصاف الحضارة العربية الإسلامية عامة، وإنصاف دورها في النهضة الأوروبية خاصة، ذلك الدور الذي تم عبر الجسر الإسباني. بعدما ظلت أوروبا ومعها إسبانيا لقرون ترفض الاعتراف الصريح بمساهمة الحضارة العربية الإسلامية في هذه النهضة.
هذا الموقف الجديد الذي سيتسع على نطاق واسع في اسبانيا خصوصاً، كشف بعد الإنجازات العلمية للاستشراق عن مدى «تغلغل الروح العربية الإسلامية في قلب النسيج الحضاري الإسباني»، ودفع الاستشراق الإسباني إلى المزيد من الاهتمام بالحقبة العربية في تاريخ إسبانيا، حيث أنشئت العديد من كراسي اللغة العربية داخل الجامعات، كما تأسست بعض المكتبات والمعاهد المتخصصة لدراسة التراث العربي والاهتمام به مثل معهد آسين للدراسات العربية، والمعهد الإسباني العربي للثقافة. أما المكتبات الإسبانية فقد احتضنت الكثير من المخطوات العربية،وعلى رأسها مكتبة الإسكوريال المشهورة التي تحتضن أكثر من (1900 مخطوط عربي) كما ظهرت بعض المجلات المتخصصة مثل مجلة افريقيا ونشرة جمعية المستشرقين الإسبان، ومجلة الأندلس وغيرها مما استعرضه د. دياب.
«وبسبب هذا الاهتمام الإسباني المبكر بالتراث العربي كثر عدد المستشرقين الإسبان المهتمين بدراسة هذا التراث، وقد أحصى السيد نجيب العقيقي في موسوعته (المستشرقون) التي صدرت طبعتها الرابعة عام 1980م، أكثر من (150) مستشرقاً اسبانيا ولعل هذا العدد قد تضاعف الآن..» وللإحاطة بالجهود التي بذلها المستشرقون الإسبان في سبيل نشر التراث العربي، فقد حددها د. دياب ضمن مستويات أربع هي: المستوى الأول بيان أثر الثقافة العربية والإسلامية في الثقافة الغربية، وقد استعرض الباحث مثالين على ذلك، الأول التأثير العربي الواضح في الشعر الغنائي الأوروبي، والثاني «الدراسة المهمة التي أنجزها المستشرق الإسباني المعروف آسين بلاثيوس، ليثبت تأثير الثقافة الإسلامية في الكوميديا الإلهية لدانتي. وقد جاءت البحوث الأوروبية المتخصصة بعد ذلك لتؤكد ما توصل إليه بلاثيوس عندما «عثر العلماء على الترجمة اللاتينية والبروفنسية للنص العربي لقصة المعراج..».
المستوى الثاني: عدد الكتب التي ألفها المستشرقون الإسبان حول الثقافة العربية الإسلامية، وقد استعرض د. دياب عدداًمن العناوين المهمة، ابتداء من القرن السادس عشر الميلادي. المستوى الثالث: ترجمة النصوص العربية للغات الأوروبية. في مجالي العلوم والفلسفة. وهذا ما قامت به مدرسة طليطلة للترجمة ومترجمو طليطلة بعد ذلك. وقد استعرض د. دياب مجموعة من العناوين المترجمة، أما على المستوى الرابع فما قام به هؤلاء المستشرقون من تحقيق للمخطوطات العربية ونشرها، وهذه من أهم الخدمات التي تم تقديمها للتراث العربي والإسلامي. ولكي تكتمل صورة الدور الإسباني وحجم الاهتمام بالتراث العربي اختار د. دياب أن يسلط الضوء على منجزات إثنين من أهم المستشرقين الإسبان، الأول هو الأب آسين بلاثيوس الذي اهتم بقضية التفاعل الحضاري بين الحضارتين الإسلامية والأوروبية وتخصص في الفلسفة والتصوف، وأنجز كتابات مصدرية مهمة على شكل دراسات وترجمات وتحقيقات، أما المستشرق الثاني فهو فيدريكو كورنيس الذي أنجز بدوره الكثير من الدراسات وخصوصاً في مجال التحقيق ولا يزال يتابع دراساته حول الثقافة العربية والإسلامية.
الورقة الأولى المقدمة في الجلسة الأولى من اليوم الثاني للباحث الإسباني د. خيسوس مورينو سانث من جامعة مدريد، وحملت عنوان:«إسبانيا جسر بين الإسلام والغرب منذ القرن الثامن الميلادي»، يرى الباحث ان التوسط الثقافي المستمر لاسبانيا بين الشرق الإسلامي والغرب المسيحي الأوروبي قد جعل منها مجالاً وسيطاً. وقد كانت لهذا التوسط خصائص حاسمة خصوصاً خلال القرون الميلادية الثلاثة(11ـ12ـ13)، بل استمر بعد طر المورسكيين (العرب) ليصل إلى العصر الراهن حيث يؤكد انتاج علماء الإسلاميات المستعربين الإسبان وعدد من الأدباء والشعراء المعاصرين أن اسبانيا استطاعت أن تحقق نوعاً من الانصهار المسيحي الإسلامي.
أما بالنسبة للمراجع والدراسات المنجزة حول قضية توسط إسبانيا بين الشرق الإسلامي والغرب منذ أواسط القرن التاسع عشر وحتى الوقت الراهن، فقد ذكر الباحث خسوس أسماء مجموعة من المؤرخين والنقاد وفقهاء اللغة والأدباء الذين أبرزوا معالم هذا التوسط وكشفوا عن مظاهره وتجلياته المختلفة، مثل: أ.كوند في كتابه «سيطرة العرب على إسبانيا»(1840م)، والراهب الكاثوليكي ميغل آسين بلاثيوس الذي كشفت كتاباته «التأثير الحاسم لإسلام الأندلس في نقل الثقافة إلى الغرب» مثل: «الغيبيات الإسلامية في الكوميديا الإلهية» و«آثار الإسلام» كذلك كتاب رامون لو بث بارالت «اسبانيا حلقة بين المسيحية والإسلام». و«إسلام إسبانيا والغرب» (1965م) لكلا وديوسانت البورنوث، وغيرهم مثل: كروث هرناندث والباحثة البورتوريكية لوث لوبث بارالت التي أصدرت ثلاثة كتب حول آثار الإسلام والتصوف في الأدب الإسباني.
كذلك تحدث المؤلف عن الجامعات الإسبانية وباحثيها الذين يقومون بعملية الصهر هذه، وعدد المجلات الإسبانية التي تهتم بالتراث العربي الإسلامي وتعتني به ترجمة وتحقيقاً ونشراً. أما بخصوص نقل الثقافة العربية الإسلامية إلى أوروبا، فقد تحدث الباحث عن لحظتين مهمتين في تاريخ هذا التفاعل الثقافي بين الحضارتين الإسلامية والغربية، اللحظة الأولى «تمت خلال القرون (11ـ12ـ3) في مدرسة الترجمة في طليطلة التي نشرت الترجمات اللاتينية لكامل الفكر والعلوم العربية في أوروبا، واللحظة الثانية خلال القرن 13م وتحت رعاية الملك القشتالي ألفونسو العاشر (العالم الحكيم) التي تابع فيها جهود الترجمة، لكن الآن باللغة اللاتينية الجديدة..».
لذلك وكما يقول الباحث الإسباني خسوس، فإن الشخصيات المهمة التي عرفها عصر النهضة الأوروبية مثل ألبرتو ماغنو والقديس توما الإكويني ودانتي وغيرهم «لايمكن تصورهم دون هذا النقل الأندلسي» أما ابن رشد وابن عربي فتأثيرهما عظيم ليس فقط في اسبانيا بل في أوروبا ككل، وقد أدى تشرب فكرهما إلى ظهور عملي لأشكال وطرق أدبية وروحية إسلامية في الفكر الأوروبي العلمي والأدبي والديني، واستمر هذا التشرب للفكر الصوفي عند ابن عربي خصوصاً في القرن العشرين في عدد من الإبداعات في عدد من الإبداعات الأدبية ولدى شعراء مثل: رفائيل دييست واميليو براد وس، ولويس ثرنودا. كما يظهر التأثير الواضح لابن عربي في كتابات الأديبة المعارة ماريا ثامبرانو.
وبشكل عام فالتأثير العربي الإسلامي على إسبانيا أصبح من المسلمات التاريخيةوقداثبت الباحث امتداد هذا التاثير إلى العصر الراهن، وظهور موجة إحيائية، للتراث العربي الإسلامي في اسبانيا للاستفادة منه.
الورقة الثانية في هذه الجلسة كانت للباحثين محمد بن سيدي المختار نجاري (موريتانيا) وخوسي خابير غالييغو (اسبانيا) وجاءت تحت عنوان: «الحروب الصليبية: رؤية جديدة للماضي»، لا يقدم الباحثان عرضاً تاريخياً للحروب الصليبية، وإنما يكتفيان بطرح مجموعة من الأسئلة الذكية والاستفهامات الاستنكارية ويتركان للقارئ مهمة المقارنة بين التساؤلات والنتائج، لقد كانت الحروب المسماة صليبية لحظة تاريخية صدامية ودموية بين حضارتين متباعدتين، هذا اللقاء القاتل كما يسميه الباحثان «فقد فيه مئات الأشخاص حياتهم وبدلوا ديانتهم وخانوا وهربوا وارتكبوا المجازر وضحوا بأنفسهم». أما السؤال الرئيسي الذي تطرحه الورقة فهو حول أسباب هذا الهجوم الصليبي المباغت على الشرق؟!
الإجابات القديمة المكررة تقول بأن البابا أوربانوا الثاني أطلق «تلك الحملة الخبيثة ضد الشرق.. للدفاع عن الأماكن المقدسة وعن المسيحية في الشرق».. لكن هل تعرضت تلك الأماكن المقدسة لخطر يستدعي تجييش الجيوش الصليبية؟ وهل طلب المسيحيون في الشرق المساعدة من إخوانهم في الدين لينتشلونهم من الاضطهاد العربي؟ الجواب أن هذه الأسباب لم يكن لها واقع إلا في أذهان من وقفوا وراء الدعاية لهذه الحروب الدموية لأسباب محلية أوروبية لا علاقة لها بالشرق. لذلك فعندما وصل الصليبيون إلى الشرق لم يكتفوا بقتل المسلمين بحد السيف، وإنما عذبوا وقتلوا مسيحيين كذلك وضيقوا عليهم وفرضوا عليهم إجراءات قاسية، وطردوا من كنيسة القيامة جميع الطوائف المسيحية الشرقية، وطالبوا بتسليم صليب المسيح، وحاولوا فرض التوجه المذهبي المسيحي الغربي على مسيحيي الشرق. وهذا ما جعل الأرثوذكس يتواطأون مع المسلمين سنة (1187م) لمساعدة الجيش الأيوبي لدخول المدينة المقدسة وفتحها.
إن أهم ما قام به الصليبيون في المشرق العربي هو أنهم تمكنوا من تحطيم «الإنسجام الديني والاجتماعي والاقتصادي الذي كان قد تم التوصل إليه في المشرق» بين المسلمين والمسيحيين وباقي التيارات الدينية المختلفة. لذلك يرى الباحثان ضرورة البحث عن الأسباب الحقيقية وراء الحروب الصليبية في عشرات الإمارات الأوروبية الصغيرة المتحاربة، وفي الفقر المتفشي في طبقة الفلاحين وكثرة المهمشين والمطرودين من أراضيهم، ما جعلهم يشكلون شرائح كبيرة من المنبوذين استجابت بسرعة للدعاية الكنسية للتوجه للشرق، ليس للدفاع عن المقدسات التي لا يعرفون عنها شيئاً، وإنما رغبة في تحقيق أحلامهم في الثراء والغنى.
كذلك يمكن أن تؤدي هذه الحروب إلى «تنظيف أوروبا من بعض الملوك الفاسدين الآخذين بامتلاك قوة كبيرة والتعامل بعجرفة مع روما»، جواب آخر يقدمه الباحثان يمكنه حل لغز هذ الحروب، وهو أنها قد تكون مثلت رغبة وحملة تأديبية ضد «الهراطقة» المسيحيين في المشرق، فروما كانت تطالب بالتوحد تحت رؤيتها الدينية والسياسية. وأخيراً ألا يمكن اعتبارها وجهاً من أوجه الصراع الذي يخوضه الرجل الأبيض ضد غيره من الأجناس والحضارات، فهو وكما ظهر في إبادته للهنود الحمر والأفارقة والآسيويين لا يرى سوى نفسه كما يقول الأديب البيروي اسكورزا:«إن البيض لا يروننا».
الغرب والتمييز الثقافي.
الجلسة المسائية تحدث فيها في البداية د. أحمد برقاوي أستاذ الفلسفة في جامعة دمشق وجاءت تحت عنوان: «الفلسفة في مواجهة الفصل الثقافي الأوروبي»، يتساءل الباحث في البداية: أليس من المنطقي أن تنتج النزعة الإنسانية وحقائق علم البيولوجيا والإمبريالية وعياً بوحدة الإنسان؟ وكيف يستمر الأوروبي في ممارسة الفصل العنصري والثقافي تجاه غير الأوروبي شعوباً وحضارات؟ ففي وسائل الإعلام المختلفة نجد الغرب يرسم للآخر صورة نمطية غارقة في السلبية،أما المظاهر الإيجابية إذا وجدت خارج العالم الأوروبي الغربي فإنها لن تكون سوى صور شبحية للمثال الأوروبي.
يعتقد الأوروبي بأنه ابن ثقافة متفوقة موضوعية وثقافة إبداعية، إنها ـ كما يقول د. برقاوي ـ «حضارة الحداثة والعلم والتقنية والعقل والحرية، فيما العالم الآخر هو عالم التقليد والخرافة والاستبداد، أو يتحول العالم غير الأوروبي في أحسن حالاته إلى شبح للمثال الأوروبي..».
هذا الوعي الأوروبي بالتفوق متى نشأ؟، يغوص الباحث بعيداً في التاريخ ليجد الجواب في ملابسات الحروب الصليبية ففي تلك اللحظة التاريخية «تأسس مفهوم الغرب» ثم تطور مع الاكتشافات الكبرى للعالم واستعماره بعد ذلك لاستغلال ثرواته واستعباد شعوبه لصالح الرفاه الغربي وتقدمه. هذا الوضع الجديد كان بحاجة إلى «خطاب إيديولوجي يقدم المبرر لما تقوم به الإمبريالية من همجية» كما يقول. د. برقاوي. لذلك تحولت العنصرية وهي تواكب التطور الغربي العلمي والاجتماعي إلى نظرية في التاريخ والسياسة والثقافة، وتأسس بذلك الفصل الثقافي على الفصل العنصري، واصبحت من مسلمات الوعي الأوروبي أن التقدم والعقلانية والحداثة حالات أوروبية محضة، تنطلق من اليونان وتنتهي في الغرب حالياً، بعيداً عن الشرق وسيرورته.
أما العولمة فما هي إلا استكمال لما بدأ من قبل، حيث يتمكن الغرب من بسط سيادته الكاملة على الشعوب والحضارات باعتباره المتفوق عرقياً وثقافياً. أما كيف يتم دحض هذا الفصل الثقافي الراسخ في الوعي العام الأوروبي والغربي، فإن د. برقاوي يرى بأن هناك أشكالاًعديدة للمواجهة، لأن هذا الفصل ما هو إلا شكل من الوعي الزائف، وبإمكان الفلسفة أن تواجهه، وأن تميز في الخطاب بين ما هو علمي وما هو ايديولوجي. خصوصاً وقد تمكنت البيولوجيات من دحض «فكرة التمايز بين الأعراق». أما الإنجازات الثقافية للشعوب فيجب البحث عن أسبابها في التاريخ الثقافي لهذه الشعوب. من جهة أخرى لا يرى د. برقاوي أن مواجهة هذا الفصل الثقافي الذي يمارسه الغرب ستكون مجدية في ممارسة«فصل ثقافي مضاد يقوم به العالم غير الأوروبي»، لأن من طبيعة الثقافات أن تكون مختلفة، واختلافها لا يقود إلى الفصل الثقافي أو الوعي والشعور بتفوق شعب على آخر، وإنما الثقافات تتلاقح وتظل كل ثقافة تتميز بعالمها الخاص بها ولا سيما في حقل العادات والنظرةإلى العالم.. وكلما ازدادت الاتصالات بين الأمم ازداد المشترك بينها..
إن المشكلة تكمن في تحويل الوعي الثقافي إلى وعي أيديولوجي، وبالتالي فالرفض يجب ان يكون للحمولات الأيديولوجية لمفاهيم مثل التقدم والحداثة والعلم. وكذلك تجاوز بعض الأوهام الغربية مثل اعتقاد الأوروبي بأنه صاحب الشعلة الحضارية التي أخذها عن اليونان، أما الآخرون فلا يزالون يغرقون في الظلام الحضاري، كذلك الأمر مع وَهْم اللامساواة، أو ضرورة ان يسلك العالم درب مشيئة الإنسان الأوروبي ليوصله إلى الحضارة الغربية الراهنة حيث نهاية التاريخ.
وإذا كان الغرب قد قرر تجديد حياته الأخلاقيةوبناء صرح شراكته الثقافية والاقتصادية لمواجهة الحضارات الأخرى، فإن حوار الحضارات لا يقل أيديولوجية عن صراعها، لأن هذا الحوار مستحيل في ظل الفصل الثقافي الذي يمارسه الغرب، بالإضافة إلى أن التفاعل وانتقال الأفكار من ثقافة إلى أخرى يرتبط عادة بمقدار الاحتياج وليس بالحوار. وتبقى الفلسفة في نظر د. برقاوي هي الوسيلة الأصلية للتحرر لأنها: «لا تخضع بطبيعتها المنهجية والمعرفية لأوهام العنصرية..». الورقة الثانية في هذه الجلسة كانت للدكتور أديب خضور من جامعة دمشق ـ قسم الصحافة، تحت عنوان: «الصورة الذهنيةـ النمطية التي رسمها الإعلام الأوروبي عن العرب والمسلمين». يقدم الإعلام الغربي صورة نمطية سلبية عن العرب والمسلمين «وهذه الصورة عبارة عن قالب نمطي غير منطقي ومناقض للواقع، ولم يتشكل على أساس التجربة الصحيحة والفعالة، ولم يتكون بفعل المعرفة العلمية المجردة،بل تشكل وترسخ عبر عملية تراكمية معقدة وممتدة في التاريخ والمجتمع وأصبحت ذات تأثير قوي..» مكونات هذه الصورة وعوامل تكوينها ووسائل نشرها وإمكانية وسبل تعديل هذه الصورة هي العناوين الكبرى التي عالجتها ورقة د. خضور.
من خلال السياق العام الذي أنتج ملامح هذه الصورة النمطية التي يروج لها الإعلام الغربي، يرى د.خضور بأن الاستشراق المسيس والمسكون بخدمة المصالح السياسية والاقتصادية والدينية والثقافية، هو المنبع الذي غذى فيها بعد المصادر كافة ومنها الكتب المدرسية والأدب ووسائل الإعلام الجماهيري. ورسخ في ذهن الأوروبي فكرة التمايز والتناقض بين الشرق والغرب على المستويين الوجودي والمعرفي. وفي الوقت الذي كان يتحدث عن التفوق العنصري والثقافي الأوروبي، قدم في المقابل «أفكاراً مذهبية جامدة عن الشرق بوصفه تجريداً مثالياًولا متغيراً». أما على المستوى التاريخي فإن ظهور الإسلام وانتشاره وصولاً إلى الحروب الصليبية، فهذه الفترة التاريخية الطويلة لم تفعل سوى أن عمقت جهل وخوف الأوروبيين بالإسلام وشعوبه. أما الحقبة الاستعمارية ومع أنها أتاحت فرصة التداخل والتعرف عن قرب، إلا أن هواجس السيطرة الإمبريالية «أعاقت فهم الإسلام والثقافة العربية، وخلقت أخطاء وتشوهات وصور قائمة على قوالب ذهنية ثابتة».
بعد استعراض نماذج من الصورة النمطية التي رسمها الاستشراق للإسلام والمسلمين في الكتب المدرسية والأدب، انتقل د. خضور للحديث عن هذه الصورة في وسائل الإعلام الجماهيري، مبتدئاً بالصحافة البريطانية التي عكست استمرارية الروح الاستشراقية القديمة وأهملت الإشارة إلى التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي يعرفه العالم العربي، فمازال الشرق هامداً وفاعلاً، وقد وصل تشويه الحقائق إلى درجة رسم صورة كاريكاتورية للإنسان العربي والمسلم تنزع عنه الصفة الإنسانية، وقد ألقى الصراع العربي الإسرائيلي بظله في توجيه هذه الوسائل لخدمة الصهاينة على حساب الحق العربي. وهذا ما ظهر بشكل كبير في وسائل الإعلام الأمريكية كذلك وخصوصاً في السينما والتلفزيون. فالعربي إنسان بربري، غير متحضر مهووس جنسياً وإرهابي يكره الغرب والمسيحيين. أو ثري جاهل ينفق الملايين من عائدات النفط في شراء العقارات في الغرب مما يؤدي إلى ارتفاع أسعارها هناك. وعندما سئل ـ كما يقول د. خضورـ أحد كبار المنتجين السينمائيين عن هذه الظاهرة أجاب: «ستبقى صورة العربي على ما هي عليه حتى تنخفض أسعار البترول ويتحقق السلام في الشرق الأوسط..».
وسواء في السينما أو التلفزيون أوالصحف ـ فإن العرب ـ كما أكد مسح ميداني لآراء المراسلين الغربيين العاملين في الشرق الأوسط ـ هم أشد من يقاسي من نشر أنباء الشرق الأوسط، وذلك نتيجة لمجموعة من العوامل الذهنية الجاهزة، والضغط المناصر لإسرائيل والصهيونية في الولايات المتحدة.. وهذه الصورة لاتختلف عنها في الصحافة الألمانية، فهي سلبية بشكل عام وتروج لخطر الأصولية الإسلامية التي تهدد الغرب ومصالحه. لكن لابد من معرفة السياق الإعلامي العام وكيف تعمل المؤسسات الإعلامية والأهداف التي تخدمها والمصالح التي تدافع عنها حتى نستطيع أن نحدد طبيعة الموضوعية التي يجب أن يتحلى بها هذا الإعلام. فلا يمكن بحال أن نفصل الخطاب الإعلامي ومضامينه عن المؤسسات السياسية والمالية التي تدعمه، بالإضافة إلى البنية الثقافية للقائم بالاتصال، ففي الغرب هناك ديمقراطية وتعددية إعلامية وقد ظهرت إيجابيات ذلك في الكثير من المواقف والمحطات والأحداث التي أظهر فيها الإعلام الغربي موضوعية في النقل والتحليل والتعليق.
وتبقى المهمة ملقاة على عاتق العرب الذين يجب أن ينشؤا وسائل إعلام كفيلة بإيصال الحقائق للجمهور الأوروبي وتغيير تلك الصورة النمطية.
أولاً: ضرورة أن تبلور الدول الأوروبية ما يسميه بموقعها الجديد من العالم العربي والإسلامي ضمن استراتيجية إعلامية واضحة. ثانياً: لابد من إعادة النظر في التراث الاستشراقي وحمولاته الأيديولوجية المزيفة للحقائق، والتي لم تعد تتماشى مع التطور المعرفي والتغير الحاصل على جميع المستويات. ثالثاً: تشجيع الأوروبيين لاتخاذ مواقف أكثر موضوعية وإيجابية تجاه الصراع العربي مع الكيان الصهيوني.
هذه المطالب يمكنها كما أكد د. خضور أن تؤسس لانطلاقة جديدة تتعاطى مع معطيات الواقع بكل موضوعية وتتجاوز الإرث التاريخي الذي يقف حاجزاً أمام قيام علاقة طبيعية وحوار عربي أوروبي مثمر وإيجابي للطرفين.
الإسلام والغرب والمستقبل.
الجلسة الأخيرة التي عقدت صباح اليوم الثالث ترأسها د. أحمد برقاوي وتحدث فيها د. حامد خليل مدير مركز الدراسات الاستراتيجية في دمشق، حول موضوع: «الإسلام ومستقبل العلاقة بين الغرب والشرق» من خلال الهجوم العنيف ضد الإسلام في وسائل الإعلام الغربية يمكن أن تتكون قناعة مفادها بأن الإسلام قد بدأ يشكل عامل إعاقة أمام قيام علاقات صحية بين الغرب والشرق الإسلامي بعامة والمشرق العربي على وجه الخصوص؟ فهل هذه القناعة صحيحة ولها ما يبررها واقعياً؟ الإجابة عن هذا السؤال هو ما تكفلت به هذه الورقة، من خلال عرض تاريخي مقتضب لطبيعة العلاقة بين الغرب والمشرق العربي الإسلامي في العصور الوسطى والحديثة والمعاصرة، ثم الكشف عن صورة الغرب في المشرق العربي.
بالنسبة للفترة الأولى،فالموقف من الإسلام كانت تحدده الكنيسة الرافضة للإسلام باعتباره ديناً دموياً يمجد العنف ويدعو له، وهو ضد العقلانية، وقبل ذلك كله فهو ليس سوى انحرافعقائدي وهرطقة، وقد ترسخت هذه الصورة في الذهن الأوروبي، وهذا ما أكده السيد هارليم ديسير (مختص في مجال التفاهم بين الأعراق والأديان) في مؤتمر استوكهولم (سنة 1995م) حين قال: «إن هناك جبالاً من الكراهية والأفكار المسبقة لدى الأوروبيين». هذا الموقف استمر في العصور الحديثة بالنسبة للكنيسة. أما داخل الأوساط الفكرية العلمانية فقد تطورت النظرة إلى الإسلام وظهرت بعض المواقف الإيجابية الجديدة من الإسلام وحضارته. لكن وبسبب الإمبريالية ظل الجهل بالإسلام والكراهية سائدين في الفكر والواقع الأوروبي.
أما في الفترة المعاصرة فقد استمر العداء واتخذ منطلقات ومظاهر جديدة لأن الإسلام سيصبح العدو الجديد للغرب بدل الخطر الشيوعي، وقد صور الإعلام الغربي الأصولية الإسلامية باعتبارها خطراً يهدد مصالح الغرب وحضارته. لذلك فقد اتجهت هوليود إلى تشويه صورة الإنسان العربي المسلم، فقد أنتجت منذ 1985م قرابة 700 فيلم قدمت فيها العربي المسلم باعتباره إرهابياً دموياً، مهووساً بالجنس ومصدراً للعنف والتهديد، وجاءت نظرية هنتنغتون لتؤكد بأن «العالم الإسلامي سيشكل التحدي الرئيسي والأهم في العقود القادمة» ولا أدل على ذلك من وقوف الحركات الجهادية والأصولية في وجه المصالح الغربية وتهديدها. وهذا ما «زعزع ثقة الغربيين ـ كما يقول د. حامد ـ بأن الغرب سيظل قوة مسيطرة مثلما كان في الماضي» وأن «قوى الإسلام الأصولي المنبعث ونهوض شرق آسيا قد يشكل تهديداً حقيقياً..» لكن هناك تياراً غربياً آخر يرى الموضوع من زاوية أخرى ويعترف بأن الصورة النمطية التي يقدمها الإعلام الغربي للإسلام والمسلمين غير صحيحة ومبالغ فيها وتشكل حوافز للصراع والعدوان الذي لا يجد ما يبرره سوى الأفكار الاستعمارية القديمة،مثل التفوق العرقي والثقافي والمركزية الغربية.. وقد ارتفعت دعوات في أوروبا تدعو لتغيير الصورة، وعقدت لأجل ذلك مؤتمرات وندوات في السنوات الأخيرة، أسفرت عن قرارات إيجابية لصالح الإسلام والمسلمين المتواجدين في الغرب.
أما صورة الغرب في الشرق العربي فقد رصد د. حامد أربعة مواقف اتخذها العرب تجاه العلاقة مع الغرب. 1ـ موقف الإعجاب بقوة وحضارة وحداثة الغرب. 2ـ موقف الدعوة إلى التماهي بالغرب، 3ـ موقف الممانعة والمقاومة، الداعي إلى الاستفادة من العناصر الايجابية وترك وتجاوز السلبيات، لكن ما وقع أن جميع هذه التيارات فقدت إعجابها تدريجياً بالغرب عندما بدأت تكتشف أن قيم التقدم والحداثة مثل العقلانية والديمقراطية وحقوق الإنسان «ليست للتصدير ولا هي موجهة إلى الآخرين، وإنما المقصود بها المجتمع الأوروبي وحده..» والدليل على ذلك ممارساته الواقعية المتناقضة مع هذه القيم في تعامله مع العالم الثالث.
أما الموقف الرابع فهو الموقف الرافض للغرب والداعي لإحداث قطيعة معه لأنه عدو يتربص ويتحين الفرصة للإجهاز على العالم الإسلامي، وهذا التيار وراءه قوى دينية أو متعاطفة مع الدين، وهؤلاء يجدون في انحياز الغرب لإسرائيل ودعمه المطلق لكيانه الغاصب للأرض الفلسطينية دليلاًعلى صحة موقفهم، بالإضافة إلى ممارسات وسلوكيات أخرى فاضحة،وقف فيها الغرب ضد مصالح العالم العربي والإسلامي السياسية والاقتصادية.
بعد ذلك يخلص د. حامد إلى أن بالإمكان «إقامة علاقات وثيقة مع الغرب» لأن الدين الإسلامي ليس هو من يشكل العقبة أمام هذه العلاقات، كما أن الغرب لا يعتقد أن الإسلام كدين قادر على تدميره والقضاء عليه، وان اتخذته وسائل الإعلام كفزاعة، فإنما لأغراض تخدم المسيطرين على هذه الوسائل وهم أصحاب الشركات الكبرى والعابرة للقارات والقوميات والتي بدأت الشعوب الغربية ذاتها تنظر إليهم بحذر شديد، وأصبحوا يسمونهم «بمجتمع الـ 20% المالك لكل شيء في مقابل مجتمع الـ 80% الآخذ في الاندحار»، هذه الطبقة الجديدة في الغرب هي حسب د. حامد هي التي تقف أمام تحقيق علاقات طبيعية وشراكة سياسية واقتصادية خالية من أجواء التوتر والصراع والعداء بين العالم العربي ـ الإسلامي والغرب.
واختتمت أعمال المؤتمر بمداخلة للسيد لويس تيخادا شاكون تحت عنوان: «عملية برشلونة: النواحي الاقتصادية والسياسية» حيث تحدث عن إعلان مؤتمر برشلونة الذي عقد سنة 1995م وضم دول الاتحاد الأوروبي و12 دولة جنوب المتوسط، وقد تحدث الإعلان عن سياسة التعاون المستقبلية بين الاتحاد الأوروبي والدول العربية، لعلاج مخاطر التهميش في المجال المتوسطي وما يمكن أن ينجم عنه من ضغوط الهجرة إلى الشمال بسبب الأزمة الاقتصادية والسياسية والنمو السكاني ومشاكل الصراعات السياسية المسلحة، كما تحدث الإعلان عن اتفاقيات الشراكة بين الإتحاد الأوروبي وبلدان المتوسط.
والاتفاق على خلق مناطق تجارية حرة والاهتمام بحقوق الإنسان، مع الاعتراف بحق كل شريك في إقامة نظامه السياسي والاجتماعي والاقتصادي والقانوني بملء إرادته وحريته. أما علاقة ذلك بموضوع المؤتمر فبسبب الدور الإسباني الداعي إلى الاهتمام بالجنوب وخلق شراكة اقتصادية وسياسية وثقافية، إلى جانب دور اسبانيا في تشجيع التفاعل الثقافي والعلمي بين حضارات البحر الأبيض المتوسط.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.