شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
في زمن باتت مؤشرات الصراع تتجه نحو مزيد من التصعيد; وفي عالم تعولم بصيغة مغلقة، جعلت العولمة وكأنها النقيض الحتمي لمستقبل العالمية. في زمن اتسعت فيه الشروخ وهربت فيه المسافات شمالاً ـ جنوباً.. شرقاً وغرباً; كان متوقعاً أن يهمس العالم الثالث بكلمته، بوصفه الآخر المستباح. وكان لابد للعالم العربي والإسلامي أن يخطو خطوة أخرى إلى تبديد صورته لدى الآخر، واستنزاله إلى مواقع التعارف، بوصفه الآخر المستهدف.. كان مشروع «حوار الحضارات» مفتاح الدخول إلى المعركة بتكتيك آخر للصراع; صراع القيم والاستحقاق. إنها معركة بنكهة أخرى، لكنها تمارس بكيفية تبدو نقيضاً لصراع الحضارات. فحوار الحضارات الذي انطلق كشعار في الغرب، يعود هذه المرة لينطلق من الشرق. فمن الغرب إلى الشرق.. ومن الشمال إلى الجنوب.. ومن الغرب إلى العالم الإسلامي، تنطلق المعالجة معكوسة. ليتحول الاستشراق استعراباً.. والصراع الحضاري إلى حوار بين الحضارات، تتغير الألوان والشعارات والأفكار. وخلف كل ذلك تكمن حقيقة جوهرية، ألا وهي أن الصراع مستمر بلا انقطاع، إنْ بالصدام أو بالحوار! من هنا كان أولى استخدام عبارة; تدافع، كحقيقة وقانون تاريخيين وسما علاقات الشعوب والثقافات; إذْ التدافع أشمل من الحوار، فهو يحوي الصراع والحوار في آن معاً. حتى لا يصبح حوار الحضارات له معنى النقيض لصراع الحضارات، بل نقيضاً فقط لصدام الحضارات.
بهذا الصدد، نهضت دمشق على إيقاع هذا الجدل الإشكالي، في مؤتمر حوار الحضارات; الذي اتخذ له عنوان: «كيف ندخل سنة حوار الحضارات؟». المؤتمر من تنظيم مركز الدراسات الثقافية الإيرانية العربية، وبدا الحضور متميزاً ومختلف المناحي والاتجاهات. الأمر الذي أضفى لوناً خاصاً على المؤتمر. وتجدر الإشارة إلى أن هذه التظاهرة الثقافية جاءت في سياق المشروع الأممي، الذي أمضى على مقترح الرئيس الإيراني د. السيد محمد خاتمي، لكي يكون عام (2001) عاماً لحوار الحضارات. الأمر الذي جعل اللحظة الخاتمية ليست لحظة إيرانية فحسب، بل هي لحظة القرن الواحد والعشرين، وتحديداً على العالم العربي والإسلامي، بما تعنيه هذه اللحظة من مخاض سياسي وثقافي وحضاري، يستجدي مستقبلاً أفضل على مصير الإنسان والثقافة. ومن أجل صياغة أخرى لواقع السلم المجتمعي والعقل المنطلق بحوارية عالية ومثاقفة ممكنة. حضر المؤتمر عدد من الأسماء المعروفة على الصعيد الفكري من مثقفين ونقاد وباحثين; من سوريا شارك كل من د. غريغوار مرشو والباحث عمر كوش ود. عبد النبي اصطيف ود. يوسف سلامة ورضوان زيادة ود. ماهر الشريف.. كما شارك من مصر، د. نادية محمود مصطفى، ود. محمد السعيد إدريس. هذا بالإضافة إلى أسماء أخرى مثل: د. وجيه كوثراني ـ لبنان ـ أ. زكي الميلاد ـ السعودية ـ د. أبو يعرب المرزوقي ـ تونس ـ د. محمد الأرناؤوط ـ الأردن ـ وأنور أبو طه ـ فلسطين ـ وآفراد. دومينيك مالي من فرنسا. كان من المتوقع أن يحضر فعالية مؤتمر الحوار بين الحضارات، أسماء إيرانية، مثل أ. د. زهراء رهنورد. هذا بالإضافة إلى مدير المؤتمر المستشار د. محمد علي آذرشب، فقد استمرت فعالية المؤتمر يومين على التوالي، حيث قدمت أوراق وتعقيبات ومداخلات تباعاً.
لقد أضفى هذا التنوع الجغرافي والفكري لوناً خاصاً على أعمال المؤتمر ومجمل النقاشات التي أثيرت داخل المؤتمر وعلى هامشه، وحجم الإشكاليات التي أثيرت وبقيت معلقة بلا جواب. ما يعني أن المؤتمر نجح في إثارة جملة من الأسئلة ومراكمتها على مدى يومين من النشاط المكثف. وسوف نعمل بدورنا على عرض محتوى هذه المطارحات بروح نقدية، متوقفين عند أهم الأسئلة، مستنطقين ما لم يتسع له زمن المؤتمر. مستعرضين أهم الهموم والقضايا التي واكبت المؤتمر واستثيرت على هامشه.
ما الذي حاول د. أبو يعرب المرزوقي بلوغه، وهو يخطو بحذر في سبيل السيطرة مفهومياً على حيثيات «الحوار السوي» كما أسماه. وبعد ذلك، لنُقل; ما الذي حصل في نهاية المشوار القاسي من معاناة التأسيس والتأصيل النظري؟ حاول البروفسور أبو يعرب التمهيد لورقته بجملة من الإجراءات المنهجية والمفهومية، قصد تحرير محلّ النزاع، ليقف عند الشروط الحقيقية للحوار. فهو فيما يزعمه، يرمي إلى تجاوز «العرضي» للوقوف عند العوائق الحضارية في ذاتها. ففي منظوره أن عدم التمييز، ما بين العوائق الذاتية والعرضية، يوقعنا في لبس من الحوار بين الحضارات، مغشوش، كالذي يجري باسم الحوار الإسلامي ـ المسيحي أو العربي ـ الإسرائيلي.
وإذن، على هذا الأساس تنهض مشروعية التقسيم الإجرائي لأبي يعرب; يبحث ضرورة الحوار عقلاً وعقداً، باعتبار آفاقه ومستوياته من جهة وباعتبار قصده ومستوياته من جهة أخرى. وأيضاً رصد المقومات الذاتية لمفهوم الحوار وشروطه بحسب قصوده وظروفه.
تمثل ورقة د. أبو يعرب التي حملت عنوان «مقومات الحوار السوي بين الحضارات وشروطه» جهداً تأصيلياً طامحاً إلى إعادة تشكيل المفاهيم ورصد الغايات والمقاصد. وقد اختارت لها موقعاً أصيلاً من حيث انطلقت من رؤية إسلامية خالصة، وتوسلت أدوات ذاتية، مما أضفى عليها مزيداً من الأهمية، خصوصاً وأن مؤتمر الحوار بين الحضارات من مقتضاه تحقيق قدر كافٍ من التراكم في وجهات النظر المختلفة. إن قيمة هذه الورقة في أنها تنطلق من منظور مختلف، وتسندها آليات مختلفة وإن كانت في مقاربتها المزدوجة; سعياً من العقلي إلى العقدي ومن العقدي إلى العقلي، تتواصل مع الآخر في الدائرة البرهانية المشتركة، الملزمة للطرفين، ما يجعل «الحوار» في التصور الإسلامي الذي اجتهد أبو يعرب في استنطاق حيثياته، مسألة كونية بامتياز!. إ، الحضارات بما هي أطر وآفاق، لا تلتقي بداهة في نظر الباحث. بل كل ما في الأمر، أن اللقاء يجري بين ممثليها. فهو إذن حوار أو لقاء بين البشر. والذي يصنع مناخ الحوار السوي، بين الحضارات، هو مقدار نجاح المتحاورين الممثلين للكيانات الحضارية; سواء ممثلين يمهدون لصدام حضاري إذا ما كانوا متسلطين مغتصبين «من المتكلمين باسمها دون أهلية». أو لقاءً فعلياً بين الحضارات، إذا كانوا «غير مغتصبين لحق الكلام باسم هذه المستويات».
فالمشكلة ليست في الحضارات، بل في طبيعة الرؤية إليها، وإلى الكيانات الثقافية ذاتها. من هنا، وكما يقول أبو يعرب: «وإذن فلا إمكان للحوار بين الحضارات إذا لم يتقدم عليه الحوار ضمن كل واحدة منها بين ممثلي هذه المجالات ذوي الأهلية للحوار حول موضوعات منها وحول قيمها..».
لكننا نتساءل إزاء هذا التخريج اللافت للنظر، أليست الحضارات كتلاً تحدد منحى أفرادها وتؤطر أفهامهم وتنمي ملكاتهم؟! وعليه، فإنه لمن البديهي، أن يكون ممثلها المتماهي مع لحظات صيرورتها، ممثلاً شرعياً لا مغتصباً لها. وإذّاك نقول، أن الممثل الشرعي لحضارة اختارت سبيل المراكمة المادية والتسليع المطلق للقيم، لن يقبل إلاّ بمزيد من الهيمنة والسيطرة على الآخر، الذي لا يتراءى له إلاّ سوقاً للتصريف والاستهلاك والاستغلال. وأن المنطلق بروح إنسانية من داخل هذا المجال، هو بلا شك لا يمثل متكلمها الشرعي، بل هو في منطق صيرورتها المادية، مغتصب للكلام باسمها، مغرد خارج أسرابها. وإن كان بمعايير إنسانيتها المعذبة، ممثلاً لحضارة حالمة. هي بالأحرى ليست هذه الحضارة الراهنة. إذن، فأبو يعرب يتحدث عن ممثلين أكفاء وشرعيين; ولكن من الذي يحدد للحضارات الأخرى، متكلميها؟! أم أننا نفهم من ذلك دعوى أخلاقية، تجعل المقاربة حقاً تنحو منحى الواجب «اللَّوي» المشروط، لا منطق الواجب «الوجودي» المتعين!.
يضرب د. أبو يعرب مثالين تحريفيين لصيغ حوارية. أحدهما «فلسفي»، والآخر «علمي»; الهيغلية والوضعانية. وذلك باعتبارهما سقطتا كلتاهما في مأزق الحلولية. الأولى تجعل من الحضارات «كليات عينية ممثلة لتحقق الروح الكلي كما هو الحال في نظرية أرواح الشعوب التي صاغتها الفلسفة الهيغلية أكثر الصياغات صراحة لتفسر بها تاريخ الإنسانية». والثانية تنفي المطلق «وتطلق النسبي».
ومع أن الأمرين مختلفان في تصريف حلوليتهما إلاّ أن الجامع بينهما، فعل نفي التعالي وخلع المطلق على «الآفاق الجمعية» كما ينحو أجست كونت، أو بواسطة المحايثة برد «الأفق الكلي» إلى «الأفق الجمعي» كما تنحو الهيغلية.
فأساس «الموقفين واحد: انه تحريف الفكر الديني تحريفاً يؤدي إلى القول بالحلول، حلول الكلي في الجزئي والمطلق في النسبي سواء كان الجزئي والنسبي عامين أعنى العالم والطبيعة أو خاصين أعني المجتمع والتاريخ».
إن ما يسعى إليه أبو يعرب، هو تحرير النزاع في أصل ومنشأ النزعات الصدامية لدى الحضارات أو الصيغ الحلولية التي من شأنها أن تؤدي إلى ضروب الحوار غير السوي. وقصارى ما يمكن أن تؤدي إليه، حوار خادع كاذب، وكيانات حضارية مغلقة «لكأنها جزائر لا يتم التواصل بينها إلا من خلال تسالبها». فالنزوع الحلولي بشقيه الهيغلي والكونتي، ما هو في نهاية الأمر سوى نكوص وردّة إلى المواقف العرقية البدائية الطاعنة في القدم، تسلب الآخر إنسانيته، فتجعل معيار الإنسانية في السُّلالة والقبيلة..
وأمام هذا الواقع المأزوم لحضارات متنافية متصادمة بالضرورة، يتقدم الباحث بمخرج آخر، يحدد شكل الأفق الواجب لإنهاض عملية الحوار السّوي، وهو ما أسماه بالأفق الشهودي. مفاده أن يتعالى الأفق الكلي مع الأفق الجمعي وهو الشكل الذي يقابل الصيغتين الحلوليتين أو «الجوحوديتين»، الموحدتين بين الأفقين بالنفي أو بالمحايثة كما تقدم. وهذا الضرب من الحوار المتعالي على الأفق الجمعي يسميه أبو يعرب «الحوار الاستخلافي»; «جنس الحوار القائل بتعالي أفق الحوار على الأفق الجمعي أو الحضارة وهو جنس الحوار الوحيد الذي يمكن اعتباره سوياً. ولنطلق عليه اسم الحوار الاستخلافي لكونه يعتبر الأفق الحضاري مشدوداً بأفق يتعالى عليه فيؤمن بأن الإنسان ليس إلا خليفة».
لقد سعى الباحث مجتهداً لتصنيف ضروب الحوار، باعتبار القصد والمستوى، بمزيد من الدقة والصنعة. وذلك يظهر جلياً من خلال وقوفه عند ما أسماه بأدوات التبالغ الرمزي، باعتبارها أداة تقع في الرتبة المتقدمة على التصنيف التقليدي بين الإخبار والإنشاء. وهذا ما يعني أن الباحث يسعى إلى تأسيس الحوار، لا على معايير الخطاب أو «أجناس الخطاب» ـ على خلفية التصنيف بين الخبري والإنشائي ـ بل تأسيسه على القصد المتقدم، وهو التصنيف بين الحقيقي والمزيف; أي على معيار المطابقة. وهذا إنما ينهض على حقيقة أخرى يلفت إليه الباحث النظر، وهي أن التصنيفين المذكورين ـ الخبر والإنشاء ـ لهما نحو تداخل، إذْ لا يخلو أحدهما من الآخر. ذلك لأن الاستناد على التصنيف التقليدي: الخبر/ الإنشاء، يوشك أن يتدرج إلى نحو من الحوار الخادع. فمناط الحوار السوي، معيار الحقيقة والزيف، أو القصد المتقدم على الخبر والإنشاء; «تلكما هما قيمتا الحوار المتقدمتين على المقابلة بين الخبر والإنشاء، والمؤسستين لقيمة الحوار بخاصية التبالغ التعبيري الذي يجري خلاله ويتبين ذلك خاصة في أفضل وضعية تبين حقيقة هذه الخاصية عندما تكون مقصورة على التزييف حتى عند الصدق الموضوعي الذي يستهدف الخداع الذاتي كأن يقدم أحد أفراد الاستعلامات معلومات صادقة للعدو لطمأنته بالحصول على ثقته من أجل الغدر به».
ثمة شكلان من الحوار: الحوار التام والحوار الناقص. الأول، حوار استخلافي تصل اللُّحمة فيه بين النظري والعملي. وهو حوار يتم بين «المؤمنين» يستند فيه البحث النظري على «الاجتهاد الإجماعي»، كما يتقدم العمل فيه في مجال التطبيق على أساس «التواصي بالصبر»، أي «الجهاد الإجماعي». في حين يكون الأول حواراً فصامياً، قوامه الزيف والشّرخ بين النظري والعملي، وهو حوار يجري بين «غير المؤمنين». لكن من الممكن أن يتم هذا الضرب من الحوار ـ الحوار الناقص ـ بين المؤمنين، حينما يختل لديهم شرط التواصي بالحق والتواصي بالصبر. فالضربان من الحوار يمكنهما الجريان في الملة الواحدة أو بين الملل المختلفة. فوتيرة الحوار مراتبية; قد تنحط إلى درك «حوار التعايش» وقد ترقى إلى رتبة «حوار التعارف».
الحوار الذي يسعى الباحث إلى إعادة تأصيله وفق رؤية اجتهادية موصولة ما بين العقلي والعقدي، ليس حواراً يستند إلى باعث الضعف والتراخي; فهو حوار يقوم على إرادة القوة، من حيث هو حوار ـ يشترط مقدمات نظرية ومادية تجعل الموقف من السلم والحرب; موقفاً تمليه لغة التلاقي والحوار بين البشر ضمن أنساق حضارية مختلفة، ومن هنا فإن منطق التدافع يفرض تعايش الحوار والصراع إلى جنب، وإن كان الحوار الاستخلافي يرى إلى الحرب استثناءً على أصل السلم في وقت يرى الحوار الحلولي إلى الحرب كقاعدة وإلى السلم كاستثناء. وهذا معناه، أن القوة أو إعداد القوة شرط ضروري للسيادة. يرى أبو يعرب أن العلو في الأرض من شأن المؤمنين فقط؟ المتواصين بالحق وبالصبر. وأن الاستضعاف نقيض العلو المشروط بالإيمان. وهذا يعني أن شرط الحوار السوي، ما كان مسبوقاً بإعداد القوة في صورة إنماء مستدام، يبدأ بالجهاد الصغير وصولاً إلى الجهاد الأصغر. ومن الجهاد الكبير وصولاً إلى الجهاد الأكبر. وهو ما يجعل المقابلة أعمق وأوسع.. لا بل ما يجعل الجهاد يأخذ معنى الإنماء الاقتصادي والتقني المتواصل، لا معنى الحرب البدائية والاستنفار الوحشي الذي يستند إلى الإثا رة.
لم تشأ ورقة أبي يعرب أن تطنب زيادة في كشف المعوقات. باعتبارها رأت في تقريبها السابق ما يكفي لبيان العوائق. فالحديث عن الشروط، حديث كاشف عن العوائق من حيث أن هذه الأخيرة سلوب للأولى..
بلا شك، أن مقاربة د. أبي يعرب مثلث رؤية إسلامية اجتهادية ناضجة، تؤسس لنمط من «الحوار» يقوم على جهاد واجتهاد.. قوة وأخلاق. حوار يقوم على جعل الاجتماع تحت القيم المتعالية لا فوقها. ليكون هذا الأخير مفتوحاً على التواصي الجهادي والاجتهادي بالحق والصبر، لا أن يحل التعالي فيه بشكل ما، على نحو حلولية مستغلقة، وبذلك يكون د. أبو يعرب قد قارب منظوراً حوارياً أخلاقياً في إطار الواجب «أخلاقياً»، الممكن «تحققاً». لكن إلى أي حدّ نملك فيه الحوار؟! ومع أن الباحث أشار إلى فقدان الحوار السوي حتى داخل الملة الواحدة، فإننا ندرك يقيناً أن المهمة التي يقتضيها حوار الداخل لا تقل أهمية وخطورة عن حوار الخارج. قد يكون الباحث متفائلاً في إطار ما اجتهد فيه نظرياً، لكن الواقع ـ ونعني الواقع الداخلي ـ يحتوي قدراً من العوائق التي تحتاج إلى نظر أوسع وأعمق وأيضاً ـ أشجع وأشفى ـ من الثقة الزائدة بسلامة معطياتنا الفكرية والتاريخية. فأبو يعرب يرى مخرج الحوار السوي في أن يكون معياره متقدماً ـ من حيث مناطه «الحقيقة والزيف» ـ على أجناس الخطاب وثنائية الإخبار والإنشاء. وهو بذلك يعلق مشروعية الحوار السوي على تحقق الفصام والإثنينية، ما بين الأفق الجمعي والأفق الكلي.. ما بين الخبرة الجماعية النسبية والكلي المطلق. هذا الكلي المطلق الذي نمثله «نحن» بالضرورة!; فجعل الحوار حتى في أعلى صوره المتقدمة ـ معيارياً ـ على الإخبار والإنشاء ـ أي معيارية الحقيقة والزيف ـ محصوراً في ثنائية ثابتة، قارة; هي ذاتها منشأ العنف الأيديولوجي، وأصل الاستئصال الثقافي من حيث أن الأمر لا ينحل بمجرد أن ندرك هذه المعيارية الثنائية، إن قصة الصراع الحضاري هي قصة هذه المعيارية الحصرية. فالمشكلة إنما تبدأ حينما تصبح الذات في نزوعها «الحلولي» أو حتى في عنوانها «الاستخلافي» تستبعد في نفسها «الزيف» عن دائرة الإمكان، وترى أنها رسول الحقيقة المطلق. إن المشكلة هي في التصريف المختلف للحقيقة والزيف.. أو بالأحرى في هذا الشرخ الوهمي الناظر إلى الحقيقة ككتلة قائمة بذاتها متمنعة بطبعها عن الزيف.. على أن لكل زيف حقيقته، ولكل حقيقة قدرها من الزيف.. فثمة تلاقٍ وتفارق.. نفور واندماج.. وثمة إلباس الحق بالباطل.. والإيمان بالظلم.. فكان أحرى، بدل أن نقع في مأزق وآثار اختلاف الحقيقة، أن ننفتح على حقيقة الخلاف.. ومن ثمة قد نوافق د. أبا يعرب على مقدميَّة معيار الحقيقة والزيف; شريطة أن نفضّ هذه الثنائية المستغلقة لصالح معيارية الخلاف; فتغدو الحقيقة، حقائق، والزّيف زيوف.. ولتكون الحقيقة هي: النسبية والتكاثر والخلاف.. ويكون الزيف هو: الحصرية والحضور ومطاردة الأغيار!.
التعقيب الذي تفضل به الباحث رضوان زيادة، جاء داعماً وشارحاً لأهم الأفكار التي قاربها أبو يعرب المرزوقي. إلا أن المعقب سرعان ما يعود ليستشكل بشكل ما على تركيز الورقة على غاية الحوار وقصوده. وهذا إنما يعني في نظر المعقب حصر للحوار في صفته الغائية. وهو الحصر الذي يفقد الحوار مصداقيته، ليحوله إلى ضرب من الإلزام، «وبذلك لا يقوم الحوار لديه ولا يكون إلا بأن تتحدد غايته مسبقاً وبذلك يكون المحاضر قد نفى الحوار صفته التواصلية بما هي لقاء بين الذات والآخر وحصره في صفته الغائية التي تقوم على أساس وظيفة الإقناع والإلزام. فتحديد الغاية ينفي عن الحوار إسمه ليدخل في باب الإلزام أو الإكراه».
بذلك يتبين أن منحى الحوار كما قاربه أبو يعرب، هو منحى «الدعوة» بينما المعقب يخالفه إلى ضرب آخر من الحوار القائم على فلسفة الخلاف. والخلاف هو بخلاف الدعوة، تواصل وتلاقي غير ملزم. وليس هذا فحسب، فالمعقب يؤاخذ على الورقة سقوطها في الاختزال، من خلال التقسيم الافتراضي للحضارات على أساس ثنائية الحلولية والاستخلافية. وذلك باعتبار أن الصفة التي يتبناها المعقب عن الحضارة، صفة التركيب. ومثل ذلك أن تكون هدفية الصراع الحضاري الحتمي كامنة في تحقق القيم. وهذا يجعل القيم فاقدة قوتها أو لنقل ديناميتها الذاتية، فلا تحتاج إلى صراع وجود من أجل تحققها. أي أنها تصبح قيم الغالب. والحقيقة أن ثمة تداخل في الأطر المرجعية لدى المعقب، يتجلى تحديداً في كونه لا يفرق بين صراع الوجود وصراع القيم. والحال أنهما متحدان حلوليان لا ينفصلان إلا في الأذهان وإذا كان صاحب الورقة يرى أن الصراع الحضاري حو حقيقة تاريخية وقيمية، فذلك لأنه لا ينطلق من إطار مرجعي آخر تقويم الرؤية فيه على هذا الاتصال. إننا لا نرى في هذا الجدل سوى جدل أطر مرجعية، وليس اختلافنا في مستوى طولي واحد. ومثل هذا الاختلاف في النظر يفقد مصداقيته المعيارية، ويزيد في اتساع نطاق الإشكالية، بحيث التمركز ـ وهو رأس الحربة في الغلبة والصراعـ لا يُقاوم إلا بتمركز جديدة.. وإن الدعوة إلى الخلاف العدمي، ما هو تشطير وتهديم لهذا التمركز لكي يظهر في صورة ـ أقطاب لا نهائية ـ وربما كي يصبح المركز لي بالضرورة واقعاً في العمق، بل من شأنه أيضاًأن ينزاح إلى الخارج، المركز الذي لا يتحدد في الموقع، أو على منحى دريدا، المركز اللامركز!
صرحت د. نادية مصطفى، بأن المقاربة الفلسفية للحوار السوي عند أبي يعرب المرزوقي، كانت بمثابة ظهر لمقاربتها ذات الطابع القانوني. مع أن ما تم في التأسيس الفلسفي لأبي يعرب قد لا يلتقي بالضرورة، لا بل ربما قد يناقض في كثير من الأبعاد ما تم تحديده في ضوء العلاقات الدولية، كما قاربت ذلك د. نادية. إن الانتقال من القول الفلسفي إلى الوصف الإجرائي القانوني والسياسي، تحدده المسافة المأزقية ذاتها، الفاصلة بين سؤال «اللّو» ومسؤول «الإن». أي بين ما كان ينبغي أن يكون، وبين ما هو كائن بالفعل. فالبحث في النظري يحركه تأمل سلبي. باعتبار النظر العقلي، نظراً متمرداً، معتقل بنزوعه إلى الانطلاق والاستقلال عن الواقع. فالنظم العقلي للأشياء يناقض عموماً النظم الإجرائي لها. ما يعني أن المسافة ما بين العقلي والواقعي، هي مسافة تناقضية ما بين السلب العقلي والإيجاب الواقعي.. ما بين المتخيل وما بين المعاش. فالنقلة من ورقة أبي يعرب إلى ورقة د. نادية، ليس كما تمنت أن تكون لها ظهراً. إنها نقلة تناقضية، تنافرية. وإن كان العقل السالب الرابض بعناء خلف لغة الأشياء المؤثثة للعلاقات بين الدول، قد يتعاطف مع العقل السالب المنسجم خلف التأسيس الفلسفي للحوار السّوي، تعاطفاً يجعلهما معاً مشروع سؤال «لوّي» لا «إنِّى»! ومن هنا، فإن حيثيات النظر إلى حوار الحضارات من الوجهة القانونية والسياسية، هو نزع ونزع مختلف، ينزل بالموضوع نزولاً قهرياً من تمرد الكلمات إلى سجن الأشياء. ومن انطلاق العقل إلى حدود المتاح. ومن هنا نقول أن ورقة المرزوقي ليست ظهراً لورقة د. نادية، بل هي وجه نقيض، من حيث أن سؤال الفلسفة احتمالي; في حين سؤال القانون حصري وقطعي. من هنا تلفحنا للوهلة الأولى عبارة «يجب» و«الخصائص» الراهنة «المتاحة»، و«الأطر المحددة».. إذ، تقول د. نادية: «لكي نخطط كيف سندخل عام حوار الحضارات 2001 يجب أن نعلم وبصورة أساسية موقع حوار الحضارات من العلاقات الدولية الراهنة وحقيقته» على ضوء هذه العلاقات. وهذا هو موضوع الورقة التي حملت عنوان «حوار الحضارات في ضوء العلاقات الدولية الراهنة».
وهكذا وبابتعاد الورقة من سؤال الممكن إلى سؤال الواجب.. تكون د. نادية قد نحت بموضوع حوار الحضارات إلى منحدر آخر، هو منحدر النظام الدولي. لا نزعم أن ورقة د. أبي يعرب كانت متحررة نهائياً من إكراهات السؤال «الإنّي» ولغة الأشياء. لكننا نتحدث هنا عن إكراهات تخصصية يفرضها الإطار المرجعي. أعني التأثير الباراديغمي الذي يجعل المتفلسف ينحو منحى التأسيس الفلسفي، مراهناً عليه بصورة مطلقة. كما يجعل رجل القانون، تحتويه اللغة الإجرائية الواقعية للأشياء. التأثير الباراديغمي وارد حتى على المقاربة الفلسفية. فنفهم مما زعمته د. نادية، مجرد مغازلة ذكية للسؤال الفلسفي، ليس تكاملاً معه، وإنما إعراباً عن استحالة التجاوز للأطر واختراق مجالات الاشتغال. وهو التأثير ذاته الذي يجعل التأرجح بادياً فاضحاً حول ما إذا كان من المتعين أن ننحت منظوراً حضارياً للعلاقات الدولية أو بحث مسألة الحوار بين الحضارات في ضوء ما تمليه وتحدده العلاقات الدولية. فالفارق ـ واضح تماماً ـ بين أن ننطلق من حدود الإمكان أم من حدود الواجب. فهي تقول، فضلاً ن ما أوردناه من حديثها ـ وما يفيد سؤال الواجب ـ أي دراسة حوار الحضارات في ضوء العلاقات الدولية. وقولها، بعد ذلك بقليل: «ومن ثمة فإن الرؤية التي أقدمها في هذه الورقة تنبني على أبعاد معرفية ومنهاجية وعملية تنبثق من اهتمام الباحثة بتطوير منظور حضاري لدراسة العلاقات الدولية».
حرصت د. نادية على تقديم وصف أو بالأحرى عرض لخصائص العلاقات الدولية الراهنة. متتبعة لأطوار التحولات السياسية والاستراتيجية الكبرى التي طبعت القرن العشرين، وعن مسارات تشكل النظام العالمي الجديد وإفرازاته في نطاق العلاقات الدولية; العولمة كأبرز مثال على ذلك. وأيضاً عملية التحول في مستوى محاور الاهتمام، وتحديداً تاريخ بروز مسألة حوار الحضارات كقضية أساسية غطت على المحور السياسي والاقتصادي الذي ظل هو العامل التقليدي الغالب ذي المرتبة الأولى. فبروز العامل الاجتماعي والثقافي، لا يمثل بروزاً أوّليّاً جديداً، بل بروزاً متجدِّداً ليس إلاّ. مع أن د. نادية استدركت فيما بعد، القول بأن هذا العامل الجديد ليس مفصولاً نهائياً عن التأثير الاقتصادي والسياسي. هذه المواكبة لسيناريوهات تشكل فواعل الظاهرة «العلاقات ـ دولية» كان الهدف منه تشخيص الإطار الذي يوضع فيه محور حوار الحضارات، كفاعل جديد، في خطاب العلاقات الدولية الراهنة. فهو بالنتيجة محور أتى كرد فعل على أطروحة نهاية التاريخ، باعتبارها تكريساً للنموذج الواحد، وللهيمنة، وإن لم نقل الانتصار الحتمي للنموذج الغربي والأمريكي تحديداً. وكرد فعل أيضاً، على أطروحة صدام الحضارات الداعمة لأهمية الخيار الغربي وجدوائيته، مع الحذر الشديد، من أن الانتصار ليس حتمية أيديولوجية وتاريخية كما نلمس ذلك واضحاً من «فوكوياما»; بل حتمية صراعية تتطلب يقظة العالم «الحر» وتدابير وقائية لكبح جماح المنافس الحضاري الآخر، بما يؤسس لظاهرة ما يمكن نعته بفوبيا ـ الآخر الحضاري!.
لقد تعرضت الباحثة إلى مختلف اتجاهات الرأي في العلاقات الدولية. فلا نكاد نختلف معها في طبيعة الوصف لمسلسل تشكل الفواعل الرئيسية في النظام الدولي. ففي النتيجة، نجدنا أمام تحول جذري، فاق المنسوب التقليدي للعلاقات بين الخارجي والداخلي، بحيث أصبح الفاعل الخارجي بفعل ثورة تقنية الاتصالات والمعلومات خطير للغاية. إذْ أصبحت المسألة أكبر من كونها انتصاراً حتمياً للنموذج الغربي، بل انتهى إلى سلب إرادة المقاومة والإيمان بعدم القدرة وجدوائية الممانعة. كما دشّن ذلك غورباتشوف في مشروع البريسترويكا. ممهِّداً إلى حتمية الاندماج والانضمام أو الالتحاق بالنموذج الغربي بوصفه النموذج الكوني والحتمي. وذلك باعتبار أن النموذج الغربي والمشروع الأمريكي; انتصار تاريخي. وإن حالة الاستفراد هي بمثابة انقلاب أبيض على الثنائية القطبية ـ العارضة ـ تم التنازل عنها من دون اللجوء إلى الحرب. تقول د. نادية: «ولهذا فإن على ضوء هذين الاعتبارين يمكن القول، بأن هناك إرادة واعية وراء تحويل عملية العولمة إلى منظومة مقننة ومؤسسة. ذلك من جانب الغرب الذي يقود عملية العولمة والذي انتصر في الحرب الباردة بلا حرب واحتكر عناصر القوة الجديدة العالمية».
1ـ أن العولمة «عملية» تقاد من طرف الغرب الأمر الذي يتفرع عنه معنيان:
أـ أن العولمة «عملية»، وهي أشبه ما تكون بمهمة أو صنعة عمرانية.
ب ـ أن الغرب يقود «عملية» العولمة؟ أي قيادة تغالبية.
2ـ أن الغرب انتصر في الحرب الباردة بلا حرب.
وفي هذا المقام تحديداً نواجه نموذجاً لرؤية مثقلة بالعمومية; ولمَ لا، بشيء من المغالطة أيضاً. وهذه الأخيرة ـ المغالطة ـ لها أصل في الانبناء المفهومي لحوار الحضارات والعولمة. وأيضاً للمنظور النسبي الذي يجعل لعبة الفواعل في النظام الدولي لا تمثل كتلة متجانسة ومتناغمة على نحو أكثر وثوقية واندماجاً.
العولمة مسار وتطور و«Process» تاريخي، هناك «لعبة» خافية يمثلها بارونات وول ستريت ونيويورك وغيرهم من احتكاريي «اللعبة» الاقتصادية في التجارة الدولية. هؤلاء طبعاً لم يصنعوا العولمة أو ينتجوها، بقدر ما هم ينحدرون بمسارها إلى مزيد من الاحتكار، ليبقى الإنتاج محتكراً والاستهلاك معولماً. وما عولمة الثقافة الأمريكية سوى ضربٍ من عولمة النموذج الاستهلاكي ليعود في النتيجة إلى خدمة الاحتكار. احتكار العولمة يبدأ من احتكار الفواعل المطورة لأداء العولمة وللقوة التي ينهض عليها مسار العولمة; أعني المال، الإنتاج، الإعلام، والمعلومات. فالذي قد يصل إلى كل بيوت العالم، هو نمط الاستهلاك و الدعاية والمعلومات التي تحرض على الاتجاه صوب النموذج الاستهلاكي المعروض. ولئن كان ذلك يصل إلى قلب كل بيت في العالم، فإن معلومات الإنتاج لا يمكن انتزاعها حتى بتقنية التجسس العالية، الأمر الذي يجعل العولمة بهذه الكيفية، ظاهرة احتكارية، أي حدث مسلوب من بعد العالمية. عالمية الاستهلاك لا عالمية الإنتاج! وهذا ما يعني أن بؤرة العولمة اقتصادي وإن تمظهر اجتماعياً ثقافياً. علماً أن الإنتاج الرأسمالي يسعى إلى خلق أنماط وقيم اجتما عية وثقافية تستجيب لعملية الإنتاج. ومن الناحية الأخرى يتراءى لنا أن الغرب ليس قائداً للعولمة بهذه الصورة من العمومية. فلا يستقيم القول عن الغرب إلاّ إذا جدّدنا أصنافه واتجاهاته وتياراته ومواقعه. ولنبقَ في الإطار السياسي والاستراتيجي، حتى نميز بين الغرب الأمريكي والغرب الأوروبي. والعولمة اليوم، هي خطر يتهدد أوروبا ذاتها من الاكتساح الثقافي والاقتصادي الأمريكي. فالعولمة تقاد اليوم أمريكياً. لا، بل إذا توخينا الدقة، نقول، بأن القيادة تنطلق من أمريكا وليست كل أمريكا. إذا كان بارونات المال والإنتاج استطاعوا أن يحولوا الولايات المتحدة الأمريكية إلى نموذج مصغر عن العولمة، فإن التوجه إلى ما وراء أمريكا، يبقى هو أيضاً خياراً من داخل أمريكا.
إن القول بانتصار الغرب في الحرب الباردة بلا حرب، يحتوي تناقضاً كبيراً. فطالما هناك حرب، فلا اعتبار إن كانت باردة أم حامية. طالما أنها حرب استنزفت العالم بأجمعه، سياسياً واقتصادياً وثقافياً.. بل ما دام أن حروباً بكاملها كانت تنشب بالوكالة عن هذه الحرب الباردة، وتجد فيها التنفيس والتعويض. لقد كان انتصاراً بحرب قاسية غيرت ملامح العالم، وتركت معوقين وضحايا ومفقودين.. ولعلّ إحدى آثار هذه الحروب، دول أو مؤسسات محاصرة بوضعها ضحية التحالفات القديمة، وأخرى مفقودة تماماً وتكاد تنسى; «القدس» والأمم المتحدة والجامعة العربية وعدم الانحياز وأفغانستان..
تجرى معوقة، في شكل نُظم فاقدة لملامحها وبعض أعضائها. حيث تطالعنا نظم عرفت كيف تزاوج بين الديمقراطية والاستبداد.. بين التنمية وتقويض حقوق الإنسان.. بين الفقر والديمقراطية. ونظم تتأرجح بين الشرق والغرب. تغازلها رغبة التسليع وتستهويها نوستالجيا الأنساق النقيضة المغلقة أو الكليانية. وحالات العرج وفقدان البصر وحاسة الذوق في المنظومة السياسية المتحدرة من شجرة نسب العهد القديم، أصبح ظاهرة تضارع أهوال الإيدز ومخاطر البيئة!.
ولعل ذلك ما يميز بين أسطورة نهاية التاريخ ومفهوم الصدام الحضاري. الأطروحة الثانية واقعية إلى حدّ وضحت بأن الانتصار هو رهين تدبير الصراع. فالمسار الرأسمالي هو مسار صراعي عنفي وليس مساراً تاريخياً حتمياً.
ترى د. نادية، بأن مناط التحدي الذي يواجه الأمة الإسلامية، هو التحدي العقدي ـ الثقافي والحضاري! وفي واحدة من تلك النصوص التي تعلل فيها الغايات الرئيسية للهجمة الغربية في العصر الحديث، تقول: «لم تكن الغاية النهائية للهجمة الغربية في العصر الحديث، منذ بدايتها وفي تطورها متحالفة مع الصهيونية، لم تكن هذه الغاية النهاية تتمثل في السيطرة على الأرض والثروة فقط، ولكن ـ أيضاً ـ إسقاط النموذج واستبداله». فعملية اكتساح الأرض وامتلاك الثروة لم تكن الهدف النهائي; بل إن عملية إحكام السيطرة توسلت بأدوات ثقافية وحضارية ـ كالاستشراق والتبشير والمدارس الأجنبية ـ طبعاً، هذا لا يعني أن د. نادية تعلق الأزمة بصورة نهائية على شمّاعة التحدي الخارجي، بل لقد أشارت إلى أن ذلك تزامن مع تدهور في الأوضاع الداخلية. لكن هذا الضعف والتدهور ما كان ليدوم لولا صدمة الاستعمار والحداثة القسرية.. كان ولابد أن تنهض عملية إصلاح من الداخل.. «حقيقة كانت أوضاع القوى والعقل لدى المسلمين قد وصلت حالة من التردي مكنت الآخر من عالم المسلمين، ولكن كانت الحاجة للإصلاح والتحديث والتنوير لابد وأن تنبع أساساً من داخل النموذج لتجديده وليس لاستبداله بنموذج آخر يسعى إلى الهيمنة والسيطرة باستبعاد وإقصاء وتشويه بل وتصفية النماذج الأخرى بكل وسائل القسر والإكراه التي تنبثق عن القوة المادية».
وعلى ما تحمل هذه العناوين من رأي له منسوبه من الوجاهة; إلاّ أننا نعتقد أن حيثيات الصراع ترفض هذا النوع من التخريج المثالي، الذي يرتكز على المنطق «اللّوي» لا على البرهان «الإنّي». وهنا تبرز أهمية التمييز بين الثقافي والحضاري. فهذه الأخيرة ترمز إلى القوة وما تعنيه من اكتساح وتدمير.. إن وجود العالم الإسلامي بين كماشة التخلف الداخلي والانبعاث الحضاري الخارجي، لم يكن يسمح نهائياً بأن يتم التصحيح من الداخل. فالأمر في كلتا الحالتين يقوم على «الغلبة». فما تصفه د. نادية بأنه تدهور وتردي أوضاع القوى والعقل لدى المسلمين، هو عنوان كلِّي يحيل على أن مصاديق هذا التردي ناتجة عن استفحال أمر الغلبة والعنف في الداخل. فمن جهة تزامن ذلك مع بلوغ طبائع الاستبداد ـ كما وصفها الكواكبي وكان شاهداً على قرن الانحطاط السياسي ـ ذروتها، وتحديداً في زمن الهيمنة التركية. هذه الأخيرة التي نحت منحى هجومياً أيضاً; فكانت هزيمتها العسكرية إيذاناً ببدء هجوم الآخر واكتساحاته. كان الصراع على أشدّه; فَلِم الإصرار على السؤال «اللّوي» طالما أن السؤال «الإنِّى» يرى في الصراع، وتحديداً في تلك الحقبة، أمراً طبيعياً وحتمياً. إن ا لحرب الحضارية أو الثقافية التي خاضها الغرب ضد الشرق عموماً وضد العالم العربي والإسلامي على وجه الخصوص، لم تكن كما تراءى للباحثة، فهي نهاية مشوار هذا الصراع; أو كما تقول: «فلقد أضحت ساحة الثقافة والحضارة آخر ساحات الهجوم «علينا» وآخر خطوط دفاعنا كما أضحت الأداة الثقافية ـ الحضارية في تناغم شديد واندماج واضح مع الأدوات الاقتصادية والسياسية وذلك في غمار عمليات «العولمة»».
ولا شك في ما تحمله هذه العبارة من وصف لهذا التحول في أداء المواجهة. وهو تحول في تقديرنا كمّي وليس نوعياً. لأن المواجهة الثقافية بدأت بمعية الهجمة الاستعمارية. وإذا تبين أن العولمة أكسبت هذا الجانب قدرة أوسع على الانتشار، فهذا لا يعني أن الأمر يتعلق بتبدل في الاختيارات. ولعلّ العولمة قد ترافقت مع مستوى آخر من الهجوم الثقافي. ففي البدء كانت المؤسسات التبشيرية والثقافية لا تزال تشكل خلفية قوية للبلاد الغربية. لكن الوضع تغير في زمن العولمة، حيث أصبحت الثقافة الموجهة إعلامياً أكثر تسليعاً من السابق، وهي تعبر عن نهاية التدفق البضاعي وعن ذروة تشكل نموذج الـ Howoـeconomicus. إنها ثقافة النموذج أو standard. ثقافة الاستهلاك; ثقافة بضاعية رأسمالية بامتياز! فالحرب الثقافية اليوم في ظل العولمة هي تهديد لكل أشكال الثقافات بما في ذلك الثقافة الغربية ذاتها. فالثقافة المعولمة ليست خطراً على الثقافة العربية والإسلامية أو المسيحية فحسب، بل هي خطر على الإنسان بكل أبعاده; إنها خطر وجودي! وهذا تحديداً ما يجعلنا نختلف مع د. نادية حينما تقول: «بعبارة أخرى، فإن المرحلة الراهنة من تطور النظام العالمي، هي المرحلة التي يخوض فيها «الغرب» المعركة في مواجهة «الباقي» لاستكمال تنميط العالم ليس اقتصادياً فقط على النمط الرأٍسمالي أو سياسياً فقط على نمط الديمقراطية البرلمانية ولكن أيضاً في إطار منظومة القيم الثقافية ـ الحضارية الغربية».
فقد يكون صحيحاً أن التغيرات التي تستهدف المعطى القيمي والثقافي وسيلة لإحكام السيطرة اقتصادياً وسياسياً. لكن ما يلاحظ الآن، أن التدفق البضاعي الرأسمالي، لا يهتم بالنموذج الثقافي بقدر ما يهتم بالنموذج الاستهلاكي. فهذا الأخير ممكن أن يتجسد في كافة القوالب. ورأس المال المتنقل والراحل، قادر على التكيف مع كافة المعطيات الثقافية وخلق نماذج بضاعية من داخلها. فالمهم هو الربح وثقافة الاستهلاك. إنّ العولمة تتيح هذا النمط من التعايش الذي يفرغ كل أشكال وأنماط الثقافات من محتواها القيمي الذي من شأنه أن يخلق ممانعة ضد التدفق البضاعي. فالرأسمالية المعولمة لا تمانع في أن تنتج «سجاد» الصلاة وإبريق القوة العربي، وتحتكر السوق العربية والإسلامية، وتقيم أرقى أنواع الدعاية لهذه الأشكال البضاعية من دون حرج. ومن هنا لا أهمية بالنسبة للغرب المعولم في أن يمتد تيار الدَّمقرطة إلى ما وراء الضفة الشمالية للمتوسطي. المهم هنا دائماً، هو المصلحة، والربح، واتساع حركة السوق والإنتاج.
لقد قدمت د. نادية نقداً ملفتاً للنظر لمفهوم صدام الحضارات عند هينتنغتون، متعرضة لكل أشكال الاعتراض الممكن على هذا المفهوم. فقد رأت في هذا الأخير تحولاً جوهرياً في منظور العلاقات الدولية، من حيث ظلت ترى إليه من الحيثية المادية ـ العلمانية، في حين أن نظر هينتنغتون «للعامل الحضاري» كمحرك للحضارات «يعتبر تعبيراً جوهرياً في المنطلقات النظرية. وهو الأمر الذي يقتضي التوقف عنده والتساؤل عن مبررات هذا المنحى». ومع القول، بأن هذا التحول، هو بلا شك تحول جذري في المنظور التقليدي للعلاقات الدولية، إلاّ أنه لم يقطع مع المنظور المادي السياسي ـ الاقتصادي. ذلك لأن هينتنغتون لم يكن يتحدث عن بديل حضاري بمعنى إعادة تأثيث البُنى الثقافية أو التبشير بنموذج ثقافي معين. بل كان همه هو كيفية مراقبة التهديد الخارجي، بما يحفظ للولايات المتحدة الأمريكية والغرب مستواه من التفوق الحضاري بالمعنى السياسي والاقتصادي والعسكري. فهينتنغتون ليس مبشراً أنجيلياً، بل هو خبير شؤون استراتيجية. وينظر إلى التحديات الخارجية من منظور استراتيجي بحت. ولعلنا هنا قد وقعنا في مغالطة أمريكية تتجلى في ذلك الخلط الذي أشرنا إليه آنفاً بين الثقافة والحضارة. فهينتنغتون يتحدث عن الحضارة بوصفها هذا الكل المادي الذي تمثله الإنجازات الاقتصادية والعسكرية والصناعية الغربية، وليس عن الثقافة كمعطى روحي فحسب. فحينما يتحدث عن صدام حضارات، إنما يتحدث عن صدام مصالح وإنتاج وعسكر..
وتماماً كما أشارت د. نادية، ثمة وضوح في أطروحة هينتنغتون، عبرت عنها من خلال سؤالها: «ولهذا يتحدد السؤال: لماذا يسميها الآن هينتنغتون بمسماها الحقيقي الذي يصدق عليها من قبل؟». والواقع، هو أن هينتنغتون، استند إلى معطيات كثيرة، وعلى أقوال وتصريحات مختلفة، بنى عليها منظوره في صدام الحضارات، كاستناده إلى مقولة لأكبر أحمد ولبرنارد لويس. فترى نادية بأن «القراءة على هذا النحو لهذا الجزء من تحليل هينتنغتون قد يدفعنا إلى عدم الهجوم على مقولته في الصدام بين الإسلام والغرب».
وجدير بالذكر هنا، أن هينتنغتون، ربما كان قد تلقف مفهوم صراع أو صدام الحضارات من د. مهدي المنجرة المغربي، الذي سبق وأن طرح الموضوع، وكتب وصرح في دوريات دولية حول هذا الموضوع، وحيث كان قد أصدر أوّل كتاب له مترجم إلى العربية عشية حرب الخليج الثانية تحت عنوان: «الحرب الحضارية الأولى». فليس بعيداً أن يكون هينتتغتون تشكلت رؤيته عن هذا الموضوع من خلال ما هو مطروح. ولئن كان هينتنغتون وجد في الإعلام الأمريكي الدعاية المناسبة لاتساع صيت أطروحته حول الصدام، فإن ما طرح قبله، وتحديداً ما طرح في العالم الثالث أحرز من السبق ومن قوة التحليل ما لو وجد له مستنداً إعلامياً، لما كان لأسطورة هينتنغتون أن تفاجئ العالم. من هنا لا نرى في ما قدمه دهشة أو غرابة أو جدّة بالنسبة إلينا نحن المنتمين إلى العالم العربي والإسلامي وعموم العالم الثالث.
لقد حاولت د. نادية بعد ذلك أن تقدم مشروع حلول أو آليات تتقاطع مع مقترحات سابقة لكل من المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في مصر والمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الايسيسكو).. وهي أشبه ما تكون بتوصيات. ولا شك أن ثمة مراكمة لافتة في ورقة الباحثة، وتساؤلات ظلت معلقة حتى إشعار آخر، لكنها جديرة بالاهتمام ومزيد من البحث والمعالجة. أو كما عبر د. محمد م. الأرناؤوط معقباً: «وإذا كان ليس من السهل تلخيص أهم ما جاء في الورقة على هذا النحو، فإن الورقة باتساعها وتناولها لكثير من القضايا تفتح المجال لإثارة بعض الملاحظات».
وبالرجوع إلى تعقيب د. أ رناؤوط نقف على جملة من التساؤلات والملاحظات الإضافية.
فقد لاحظ أرناؤوط، أن الباحثة تتحفظ من مفهوم حوار الحضارات، باعتباره مبادرة غربية في الأساس. وتفضل لذلك مفهوم «التعارف الحضاري». ذلك لأن حواراً متوازناً لا يمكن أن يقوم بين كيانين متفاوتين على المستوى الاقتصادي والسياسي. لكن أرناؤوط يتساءل: «أليس هذا الخلل نفسه يشمل بدوره «التعارف الحضاري» وما هي مصلحة الطرف الآخر، أن يقبل على هذا الخيار الذي يريد منه أصحابه أن يؤدّي إلى «مشاركة الفكر الإسلامي في عملية التجديد الحضاري العالمية».
إلاّ أن ما يلفت النظر في هذا التعقيب، هو إشارة المعقب إلى الاستخدام المتعدد لمفهوم الحوار في الورقة المذكورة. فتارة تستخدم حورا الحضارات، وتارة أخرى تستخدم حوار الثقافات و«هو الذي يبدو أقرب إلى الواقع/ الممكن. فالحوار يفترض أن يكون بين حضارات، وإذا كنّا في السابق نمثل حضارة بالفعل، فإنه من الصعب القول أننا نمثل الآن حضارة في مواجهة أخرى إلاّ إذا كان القصد حضارة تستهلك و حضارة تنتج وتفرض نفسها».
وهذا بالفعل، يعيدنا إلى أصل الإشكال، حيث ثمة فارق حقيقي بين حوار الحضارات وحوار الثقافات. هذا الخلط بين الثقافي والحضاري له آثار سلبية على حيثيات العلاقة بين أشكال ثقافية متعددة، فما يشير إليه.. أرناؤوط هو بمثابة الدور المنطقي. إن حوار الثقافات ليس مجرد طرح يبدو أقرب إلى الواقع «الممكن» بل هو الواقع بالفعل. فالواقع هو فعلي ليس ممكناً. وما يجري الآن هو علاقة غير متكافئة مع حضارة منتجة وكيانات ثقافية له نحو من العلاقة بهذا الإنتاج. ونعود فنقول، نحن بخلاف كيانات أخرى متحضرة، نعيش على الاستهلاك، يتوقف وجودنا حضارياً على المنتج. ليس ثمة حضارة منتجة وحضارة مستهلكة. فالحضارة التي تكف عن الإنتاج أو إعادة الإنتاج، لا تمثل حضارة، بل مجرد حضور طبيعي أضعف أو أقل قوة; وجود ثقافي محض!. لكننا نوافق د. أرناؤوط على ملاحظته حول حوار ثقافات داخلي (إسلامي ـ إسلامي). فيقول: «وإذا كان حوار الثقافات هو الأقرب إلى الواقع الممكن فالمطلوب أيضاً حوار ثقافات بين المسلمين أنفسهم قبل أن يقوموا بالحوار مع الآخرين، فمن الصعب القول أنه لدينا ثقافة واحدة من جنوب شرق آسيا إلى شمال أفريقيا، حيث يتراوح الأمر من ثقافة لا تمانع بوصول المرأة إلى أعلى منصب سياسي (رئيس الحكومة) إلى ثقافة لا تسمح للمرأة بالحصول على رخصة لقيادة السيارة. ومن هنا فإن النماذج المختلفة للثقافات في عالم الإسلام، وخاصة فيما يتعلق بالمرأة، توفر للإعلام الغربي ما يناسبه لتقديم صور نمطية سلبية على الإسلام (نموذج أفغانستان مثلاً)».
هذا النص هو بالفعل كاشف عن الأساس المتعين إقامته للنهوض بحوار ثقافات جادة على خلفية تحاور ثقافي داخلي بين المسلمين أنفسهم، وربما كنموذج له هذا الملتقى الذي يُؤطره مركز الدراسات الإيرانية ـ العربية، الأمر الذي قد يتيح قيام تكتل اقتصادي وسياسي وعسكري عربي ـ إسلامي قد يكون مفتاحاً حقيقياً لحوار ثقافي مع الآخر. فمثل هذا الأساس يجعل الحوار يستند إلى القوة ويراهن على القوة. ومن دون القوة واستمرار الاختلالات البنيوية الداخلية والصراع الداخلي، فإن الحوار لن تقوم له قائمة.
ومعنى ذلك، أن أمة ما لا تملك مفاتيح الحوار الداخلي، كيف تتمكن من إجراء حوار مع الآخر. وحتى لو تحدثنا عن تعارف ثقافي، فالأمة التي لا تعرف نفسها ولا تزال مارس التجهيل والنسيان في حقّ أبنائها وتتنكر لبعضها البعض، ولتاريخها وجغرافيتها، هي بلا شك أعجز عن أن تقيم تعارفاً بينها وبين الآخر.
وبلا شك، فإن عنوان الأمة الإسلامية، غير كافي، طالما أن الحوار الإسلامي ـ الإسلامي يفرضه التنوع الثقافي للمجال الإسلامي. مما يقتضي تعارفاً وحواراً ثقافياً داخلياً. حوار إسلامي ـ إسلامي، وأيضاً حوار إسلامي ـ مسيحي.. باعتبار الأمة الإسلامية تتسع لوجودات ثقافية أخرى وأقليات متنوعة ومختلفة ومتعايشة. إن ثمة بلا شك فرصة أمام العالم العربي والإسلامي في أن يقدم للعالم نموذجاً حوارياً، هو أن يقيم نموذجاً داخلياً مصغراً عن حوار الثقافات، يزيد في دعمه وتعزيزه وإنجاحه.
يسعى د. وجيه كوثراني من خلال ورقته التي كانت بعنوان «حول إشكالية الخيار بين حوار الثقافات أم صراعها؟» إلى الإمساك بالعصى من الوسط. لا نعني أنها طريقة في صنع المفارقة، بل نقصد بذلك تناول الموضوع كإشكالية تتصل بقدر ما بالآخر المستقوي وبقدر ما هي أيضاً تتصل بالأنا المسترخية. وهذا معناه أن د. وجيه كوثراني سعى بخطى واعية في سبيل النقد المزدوج، وليس غريباً أن تكون المقاربة الكوثرانية تستند بكامل ثقلها على الرؤية التاريخية. ففضلاً عن أن ذلك هو مجال اشتغاله، فإن إشكالية الحوار بين الثقافات تجد مكانتها في البؤرة التاريخية، طالما هو حوار إشكالي مركب ومنفتح على تخارجات الزمن الثلاثة، الماضي، الحاضر، المستقبل. لقد استند الباحث بشكل كبير على مقررات الرؤية التاريخية «للأنال» مع أحد أهم نشطائها فريناند بروديل. ومن هنا نفهم كيف ينظر الباحث إلى مسار التحولات التاريخية بوصفها تحولات مركبة لا تحولات إرادوية. فهي بمعنى آخر تحولات تجري ضمن قوانين صارمة وتتجسد فيها بنى متماسكة. وهذا هو جوهر المنظور التاريخي البنياني لمدرسة الأنال وتحديداً، فرناند بروديل، حيث الفعل التاريخي، هو فعل حتمي وبنيوي. نقرأ في ورقة د. وجيه مقطعاً على ذات المنحى: «فالمسألة ليست مجرد خيار إرادوي لفرد أو أفراد يقررون كيف يجري فعل الثقافات أو الحضارات [...] إن سير الوقائع وخاصة على مستوى العقليات والذهنيات والأفكار، هو أمر أكثر تعقيداً وتركيباً لدرجة يصعب (حتى لا أقول يستحيل) على الباحث في التجارب التاريخية الكبرى أن يفرد العناصر، بين سلم وحرب بين حوار وصراع، بين حتميات وممكنات».
يستخلص الباحث من هذا المنظور البنيوي للتاريخ كما هو عند بروديل، مفهوم تداخل الحضارات والثقافات ضمن المجال الجغرافي المؤطر لها ـ وهنا بروديل يتحدث عن حوض المتوسط ـ معتبراً الحسّ الديني «جهاد إسلامي» أو «صليبية» غربية كمتغير في مستوى الحضارات لصالح تغير يتم عادة ببطء شديد.
ومن هنا جدير بالإشارة، وهذا ما لم يشر إليه الباحث من أن للحروب أنّى كان مصدرها، ديني أم اقتصادي أم إثني.. خارجي أم داخلي، هي إحدى أسباب زوال الحضارات واختلالها.
إن لموضوع دور «الحسّ الديني» في الحضارة أو الصراع، أهمية استثنائية، وإن لم تقف عندها الورقة الوقوف الكافي، مع أنها تمثل جانباً رئيسياً في هذا التحول الجدلي ما بين صعود الغرب كقوة رأسمالية وتردي الكيان الإسلامي وانهيار الإمبراطورية العثمانية الإسلامية. وكان الباحث قد أشار إلى هذه الأهمية، محيلاً على ماكس ويبر; «وكما نلاحظ لدى ماكس فيبر في إدراكه لدور الحس الديني في بروز التحولات الاقتصادية». فما تثيره الورقة من تساؤلات بهذا الخصوص، ينظر إلى المسارين، مسار الأنا والآخر، نظرة مزدوجة، فلإن كان الحس الديني كمتغير ساهم في تطور المشروع الرأسمالي، فإن الحس الديني نفسه بالنسبة للعالم الإسلامي بوقوعه في فقه السلطة، أدى إلى عدم نشوء هذه الرؤية التاريخية والواعية بالتحولات التي تجري حوله في العالم. وهنا وكأن الباحث يعود بنا إلى تقريرات وظيفية واختزالية أيضاً. وإنْ لم تشأ الورقة الوقوف بما يكفي لإيضاح كيفية فعل «الحس الديني» سلبياً أو إيجابياً في البنى الاجتماعية أو كيف يؤثر بالمستوى ذاته في مسارات التحولات التاريخية، فإن ذلك راجع إلى غموض التقريرات الوظيفية الوصفية الفيبرية ذاتها، حيث راهنت على الفهم La Cowprehension ـ بعيداً عن التعليل. فإذا كان ويبر يرى في «الحس الديني» أو ما ينعته بالأصول الروحية للعمل أو الروح العملية الكالفانية ما عزز من تطور الإنتاج والمراكمة، فإن هذا التمركز الكبير حول البعد الرأسمالي وأصوله الكالفانية يعد في نظر بروديل نحو من المبالغة سقط فيها ماكس ويبر. وهذا ـ وإن كان فيبر يأخذه كمسلمة ـ لا يزال موضوعاً إشكالياً; لا أقل في نظرنا نحن الذين نمثل بالنسبة إليه «الآخر»! لكن أيّاً كان التقريب المزدوج، فإن ما تخلص إليه ورقة الباحث، أن ما حصل فعلاً، هو أن المشروع الحضاري الرأسمالي، كان «في كل الأحوال والمراحل يعبر، صراحة أو ضمناً، تشجيعاً أو إعاقة، عن مصالح القوى والدول الرأسمالية ـ الصناعية المهيمنة على العالم. فكان منطق السوق والتسويق والتنافس على الأسواق يبتلع مجالات «التثاقف» وأقنية التفاعل الثقافي، وكلّ خير وجمال ونفع في مشروع الحضارة الغربية العالمية، حيث كان لا يتوظف في عملية الاغتناء الثقافي والتلاقح الحضاري، بل في ثقافة الاستهلاك والسيطرة ومعاييرها الذوقية والقيمية الأحادية الجانب».
ما هو جدير بالتوقف عنده في ورقة د. وجيه، هو تمييزه بين الثقافي والحضاري. وفي تقديرنا هنا يكمن مربط الفرس في ما اعترى مشكلة ما سمي بحوار الحضارات، حيث عدم التمييز مفهومياً بين الثقافي والحضاري يوشك أن يحدث، ليس تصدعاً على مستوى المفاهيم فحسب، بل من شأنه أن يؤسس لأيديولوجيا الصدام والنهايات بامتياز وهنا تتحفنا ورقة الباحث بنقد جذري لمقولة صدام الحضارات لصمويل هنتنغتون، من حيث أنها خلطت ما بين الثقافي والحضاري، ونظرت إلى مظاهر الممانعة والحروب الأهلية بما هي نزاعات داخلية يولدها التهميش والإحباط، باعتبارها صراعات حضارية والواقع; «أن الأشكال الصراعية التي يصفها هنتنغتون بالصدامات بين الحضارات، لا تعدو أشكالاً من الممانعة الثقافية وحركات الاحتجاج والرفض والحروب الأهلية الناتجة عن عجز الحضارة الغربية في أن تصبح عالمية مستوعبة لتنوع العالم، وذلك بسبب تطابقها مع مشروعها الرأسمالي..».
ولم يكن ما يصفه هينتنغتون بصدام الحضارات في تقدير د. وجيه سوى انبعاث للثقافات «الفرعية لحضارات قديمة كالحضارة الإسلامية ـ على سبيل المثال ـ هو صيغة من صيغ يقظة المغلوب الذي يلجأ إلى الذاكرة الجماعية الثقافية للاحتماء والاحتجاج والرفض، وأن الثقافة المقاومة أو المصادمة اليوم، والتي تصدر عن مخزون من الذاكرة الجماعية والمقدّس الديني، ليسّ «حضارة» بالمفهوم الذي يعني أنساقاً فكرية وفلسفية وإبداعية وإنتاجاً للمعرفة على المستوى الإنساني والعالمي، كما كان شأن الحضارة الإسلامية سابقاً، بل إنها نمط من ثقافة فرعية لحضارة أصبحت، في حال العرب والمسلمين، تراثاً وتاريخاً ومشروع استلهام حضارة إسلامية جديدة».
إذن، هي حروب ممانعة وصراعات إحباط، تتخذ من الموروث الثقافي التاريخي عناصر القوة لبناء خطاب الانبعاث والنهوض ليس أكثر، وليست صراعات حضارية بالمعنى المبتذل الذي وقع فيه هينتنغتون. وهي رؤية تبنيناها منذ مداخلتنا على الورقة الأولى في المؤتمر ـ للدكتور أبو يعرب المرزوقي ـ من أن الحضارة هي بكل اختصار، صناعة القوة ـ القوة المادية تحديداً ـ. فالحديث عن حضارة عربية ـ إسلامية هو بالأحرى، حديث عن ثقافة أو عن حضارة تاريخية. يعبر عن ذلك أيضاً د. وجيه: «إن العرب والمسلمين اليوم، لا ينتجون وسائل الحضارة الإنسانية الحديثة ولا علومها ولا فلسفتها. وأما العودة إلى معالم الحضارة الإسلامية إبان ازدهارها فهي عودة إلى التاريخ واسترجاعاً لذاكرة أو دراسة لمرحلة. وفي الحالتين، لا تملك «الحضارة الإسلامية» بما هي تراث، دينامية التصادم مع الحضارة الغربية الحديثة. إن الشعوب الإسلامية تبحث عن مشروع حضاري جديد لا يمكن للإسلام إلاّ أن يكون في قلبه، ولا يمكن للمعطيات الحضارية العالمية إلاّ أن تكون مادة اقتباس وتوليف وهضم له». وبالجملة، فإن ما يستعرضه هينتنغتون صوراً للصراع الحضاري، لا صلة لها بأصل مفهوم «الحضارات»، بقدر ما هي انعكاس لأزمة نظام عالمي. وكان بالأحرى، بدل أن نسميها «صراع حضارات» على طريقة هينتنغتون، أن نسميها «فوضى الأمم» على حدّ تعبير بيار لولوش Pierre Lellouche.
إلاّ أن ضرورات النقد المزدوج، تجعلنا نفتح الأعين تجاه ما يجري بشكل آخر وبمنطق مختلف تماماً على صعيد تداخل الثقافات و«انسياب الأفكار» بين الكيانات الثقافية. فالباحث هنا يميز بين مستويين من التفاعل. الأول تمثله الحروب كأدوات للسيطرة، إذ ما يجري اليوم ما هو إلاّ تنويع آخر كما جرى في التاريخ، بحيث تمثل آليات الاحتكار وتدفق الإعلاميات والإعلام شكلاً من العنف الجديد الموصول بذاكرة الهيمنة والتسلط الإمبراطوري القديم. أما المستوى الثاني، فهو ما يتعلق «بانسياب الأفكار»، الذي يتم ضمن قنوات مختلفة، عادة ما تجري بصورة هادئة وبطيئة ولا مرئية تشق طريقها كالمياه المتحدّرة من مرتفعات. ولكن رغم ذلك كان لها نحو من التأثير العميق على البنيات الثقافية والعقلية والنفسية; بل وإليها تعزى كافة التحولات الكبرى والتداخلات الوثيقة، كتلك التي تحدث عنها فرناند بروديل بخصوص ثلاثية الحضارات الكبرى للمتوسطي. ولعل النظر إلى ما جرى ويجري من الناحية الماكروية في المستوى الأول، لا من الناحية الميكراوية ـ المستوى الثاني ـ يؤدي إلى تشكل مواقف أيديولوجية موسومة بالنزعة المأساوية، مثلما انتهى الأمر بأرلوند توينبي في نظريته «التردي الرتيب للتاريخ». وهكذا نستطيع الخروج بانطباع آخر عن مفهوم الصدام أو النهايات; وهو أنها مقولات مشحونة برؤية ظاهرية ووصفية وفي كل الحالات مختلة مفهومياً. فخطاب الصدام كخطاب النهايات، هو بالتالي قراءة سيئة للأحداث والتحولات التاريخية، تستبعد الممكن وتقصي «مكر التاريخ» الهيغلية. لكننا بلا شك نرى في ما يجري اليوم محاولة لدق آخر إسفين في نعش المسالك السلمية لانسياب الأفكار بطرق سلمية تخلو من عنف الهيمنة.
وهنا فقط، تبرز أهمية الحديث عن ممانعة لا عن حوار. فالحوار هو دعوة إنسانية طيبة إذا لم تدعم بممانعة صلبة لن تفيد شيئاً. بل إن العولمة نفسها هي التعبير الخالص عن هذا النزوع الهيمني والاقصائي لتحويل العالم إلى اللّون الواحد الممل. فالمشكلة تكمن إذن في انسداد قنوات التواصل السلمية. أو يعبر عنه الباحث بقوله «أما اليوم، فإن المعضلة الصعبة التي تحتاج إلى تفكيك وحلّ، تكمن في انعدام المجاري والمسالك السلمية، أو على الأقل في انحسارها أمام التدفق الهائل للمعلومات والمعارف من جهة واحدة».
إن الدعوة التي ختم بها د. وجيه مقاربته، تفترض إحداث رؤية جديدة، بقدر ما تغوص في البحث، فهي تعمل على تخليص البحث في الإنسانيات من أهداف الدراسات الاستراتيجية ذات النزعة الهيمنية. إنها دعوة إلى إعادة إحياء دور المثقف والمراهنة على مشروعه، ضمن هذه القنوات السلمية التي تهدف إلى تغيير النفوس، لا تغيير العالم. وذلك بالتحول من نموذج الباحث ـ الخبير إلى نموذج الباحث ـ المثقف.
لا نستطيع الحديث هنا عن نهاية مأساوية لهذا المقترب الكوثراني، حيث يتمسرح الحنين السقراطي مجدداً، قاطعاً مع اللحظة الماركسية باعتبارها لبّ الحداثة الرأسمالية. فمهمة الفيلسوف السقراطي أن يغير النفس أولاً. وإن كانت مهمته عند ماركس تكمن أساساً في التغيير; تغيير العالم. والحال، أن تغيير العالم يبدأ من تغيير النفوس وتبديد الأوهام باكتساب الرؤية الموضوعية للأشياء وتصعيد خيار الممانعة الإيجابية، كشرط موضوعي، ولا أقول كعلة تامة، لتغيير العالم. فالمطلوب بخلاف ما يقررهُ الباحث هو تغيير النفس لتغيير العالم، لا شرخٌ بين المسؤوليتين.
عن تعارف الحضارات:
كان من المفترض أن يكون التعقيب الذي تقدم به أ. زكي الميلاد على ورقة د. وجيه كوثراني تعميقاً للسؤال ووقوفاً عند أهم الإشكاليات المطروحة في ورقة الباحث، لولا أ ما حصل بالفعل، هو أنها شكلت بنفسها ورقة مستقلة، تضمنت رؤية خاصة لموضوع الحوار; رؤية تنهض على خلفية تأصيلية لمفهوم اجتهادي ـ إسلامي، أطلق عليه «تعارف الحضارات»; تنويعاً على فكرة التعارف القرآنية {وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا}. وقد جاء هذا التعقيب في صورة توصيات ومقترحات، تتلخص في النقاط الآتية:
1ـ عالم الإسلام وإن افتقد القوة الحضارية، فهو يمتلك القوة الثقافية ومنظومة القيم.
2ـ أن يتم التعامل مع مشروع حوار الحضارات كفعل وليس كرد فعل.
3ـ أن يتجاوز مفهوم الحوار مسألة الخطاب مع الآخر إلى مسألة الخطاب مع الذات.
4ـ أن تتجه فلسفة الحوار إلى اكتشاف مجالات الاشتراك بين الحضارات.
5ـ يتعين أن يتحول مشروع الحضارات من ردهة التاريخ إلى أن يكون رؤية مستقبلية.
6ـ أن لا يقتصر حوار الحضارات على الجبهتين: الإسلام/ الغرب أو حضارات المتوسط كما نحا بروديل، بل لابد من استحضار الرؤى الحضارية الأخرى كالصين أو الهند مثلاً..
7ـ مشكلة غياب متخصصين في تاريخ الحضارات «فنحن ـ يقول زكي الميلاد ـ أمام قضية حوار الحضارات، لا نملك من يقدم لنا معرفة بالحضارات ومن أولى متطلبات هذه الدعوة هو اكتشاف الحضارات والتعرف عليها، والذي أطلقت عليه نظرية تعارف الحضارات».
ومن الملاحظ أن هذه المقترحات التي جاءت في صورة توصيات، على أهمية ما تحمله من مضامين ـ هي في حاجة إلى مزيد من النقاش ـ تنحو منحى ستاتيكياً، يجعل الإشكالية لا تبرح حدود المفاهيم والمحددات. أي أن الموضوع لم يُؤطر برؤية ديناميكية، تجعل أزمة الحوار ناتجة عن فواعل واقعية، وعن تحديات مسرحها الرئيسي، الشعوب والدول والنظم الإقليمية والقانون الدولي وانسياب الراسميل ونشاط الشركات العبر قومية.. وإذن، والحالة هذه، لا يمكننا الحديث عن حوار الحضارات كصيغة محايدة; بل هي فعلاً ردّ فعل عن صدام الحضارات، انطلقت من الغرب ذاته، وإن مسألة حوار الحضارات ستبقى حتى في الحدود النظرية، النقيض المفهومي لصدام الحضارات; وكونها نقيضاً، فهي تشكل مع نقيضها ثنائية جدلية بالضرورة.
لقد نبه أ. زكي الميلاد في تعقيبه على أهمية إدراك الأنا وما يشبه التواضع في رؤية الآخر. وهذا بلا شك مدخل أساسي لحوار ناجح; «فنحن كمجتمعات ودول لسنا من يعلم العالم هذه المبادئ والقيم والمثل العليا، بالأوضاع التي نحن عليها، وإنما أن نكتشف وهذا هو جوهر القضية عناصر التقدم والنهوض والمكونات الحية في الحضارات ونفهم منطلقها الداخلي وقوانينها في التقدم ومحركات التاريخ فيها».
ويبقى أن مشروع حوار الحضارات كما يراه الباحث، مشروع قطيعة مع الماضي، أي رؤية مستقبلية. وذلك تماماً كما يذهب غارودي، غير أن رؤية كهذه تناقض جوهر ما انتهت إليه ورقة د. وجيه كوثراني، من حيث التوقف عند أهمية الرؤية التاريخية. والحال، أن حواراً حضارياً لا يستحضر التاريخ وقوانينه ومناحيه لن يكون حواراً يوتوبياً فحسب، بل إنه لن يكون حواراً للمستقبل على الإطلاق، فلإن كان الباحث يؤكد على أهمية وجود متخصصين في تاريخ الحضارات للتعريف بها، فإن الطريق إلى معرفة الحضارات هو معرفة التاريخ نفسه، ففي تقديرنا أن القطيعة مع التاريخ بوجهيه، هي النقيض الطبيعي لمفهوم «تعارف الحضارات». لأن معرفة الحضارات بلا تاريخ الحضارات، معرفة واهمة، تكرس التناقض وتؤجِّل نوازع الصدام. فتعارف الحضارات لا يقوم حقيقة إلاّ على الكشف التاريخي الشجاع، وعلى الشفافية المعرفية الكاملة.
ومن ناحية أخرى، نرى في الدعوة إلى توسيع جغرافيا الحوار أمراً يتناسب مع طبيعة الحوار نفسه. لكن إذا تبين أن حصة الأسد في الحوار الإشكالي انحصرت بين الإسلام والغرب، فذلك لعمق الفجوة الثقافية وحساسيتها، وللأهمية الجيو ـ ستراتيجية للعالم الإسلامي في الحسابات الاستراتيجية الغربية. أما بخصوص فرناند بروديل، فإن حديثه عن حضارات المتوسطي إنما جاءت ضمن تقسيم إجرائي، لتاريخ يعانق الجغرافيا ويتجادل معها. لكن نتائج الدراسة المتوسطية لبروديل جديرة بتوفير رؤية تاريخية عامة عن تداخل الحضارات وتفاعلها من خلال النموذج المتوسطي نفسه. ومثل ذلك الدعوة إلى استحضار الرؤية الأخرى لحوار الحضارات، كالرؤية الصينية أو الهندية.. فالباحث، يرى في افتقادنا لتلك الرؤية إشكالاً حقيقياً. ومعنى ذلك أن مسألة الحوار هي في حدّ ذاتها موضوع إشكالي ومتعدد بتعدد الحضارات. بينما كان من المفترض أن نحدد محل النزاع، وذلك باعتبار الحوار بين الحضارات هو إشكالية ثنائية. فإما حوار أو صدام.. إما تعايش أو احتواء.. فليس ثمة أمر ثالث سوى كيفيات مختلفة لتصريف هذه الثنائية، على أن المشكل الرئيسي في العلاقات بين الأنا والآخر.. بين الشرق والغر ب.. الشمال والجنوب.. هي مشكلة واحدة; مشكلة هيمنة وسيطرة واستكبار.
تنقلنا ورقة د. محمد السعيد إدريس التي جاءت بعنوان «النظام العالمي الجديد.. تحديات أمام حوار الحضارات» إلى مستوى آخر من التقريب السياسي في نطاق العلاقات الدولية. ولئن كانت المعالجة السابقة لنادية محمود مصطفى، تعانق ـ بين الفنية والأخرى ـ أفق الممكن من الحوار على أساس التعارف وتفعيل المؤسسات الثقافية والإسلامية إقليمياً ودولياً، في سبل إنضاج صيغة للتعارف المتكافئ، فإن ورقة د. محمد السعيد إدريس التي تشاركها مجال الاشتغال، فضلت تقريباً وصفياً أكثر; سعى إلى إيضاح إكراهات المنتظم الدولي ضمن جدلية النظام الدولي والنظم الإقليمية. مركِّزاً على عامل التبعية، باعتباره الأصل في هذه العلاقة. وإن كان الأصل في تمايز النظم الإقليمية «التمايز والانقطاع». وهذا التأثير الذي تخضع له هذه النظم الفرعية، هو تأثير نسبي بحسب الأهمية الجيو ـ ستراتيجية للنظام الإقليمي. مع إمكانية في أن يكون لهذا النظام الفرعي نحو من التأثير أو شبه الاستقلال بإزاء النظام العالمي. أي أن العلاقة بين النظام العالمي والنظم الإقليمية يتميز بكثير من النسبية والاختلاف، بحسب التطورات التي تطرأ على النظام العالمي وبحسب مستوى مركزية وموقعية النظم الإقليمية. وفي ضوء هذا التمهيد العام، حاول الباحث إدريس التوقف عند خصائص النظام العالمي الجديد وتأثيرها على النظم الإقليمية. مستعرضاً معظم الاتجاهات بهذا الصدد. وبدا وكأن الباحث يرجح كون العالم عشية تفكك الاتحاد السوفياتي، واجه ظاهرة إعادة توزيع موارد القوة الاقتصادية والعسكرية. الأمر الذي يناقض مفهوم الاستفراد بالقطبية، أي نظام وفاق القوى، مشيراً أيضاً إلى أن العلاقة بين النظام العالمي (بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي واليابان) والنظام الإقليمي سوف تتسم بنوع من التدريج أو نوع من ترتيب الأولويات بحسب ما تمثله هذه النظم الإقليمية من تأثير على المصالح الكبرى لهذه الدول. ما يعني أن اهتماماً قد يتزايد بنظم إقليمية مثل الشرق الأوسط. في حين ستواجه الأقطار الأخرى الواقعة خارج المجال الحيوي للشمال إلى مزيد من التهميش. لقد حاول الباحث تفادي كون تأثير النظام العالمي على النظم الإقليمية، تأثيراً متشابهاً وثابتاً. فقد أوضح بصورة مشبعة حيثيات هذا التأثير والتأثر حيث أرجع ذلك التفاوت إلى خصائص هذه النظم الإقليمية ذاتها. ما يعني أن وجود قوة إقليمية ذات موقعية جيو ـ سترا تيجية كبيرة، من شأنه أن يؤثر على النظام العالمي أيضاً. ومن هنا ما يعرف بالإقليمية الجديدة التي تضم ثلاثة نظم:
1ـ «نظم إقليمية» مسيطرة، تضم قوى التحالف الثلاثي، الشمال الأمريكي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ونظام الاتحاد الأوروبي بقيادة ألمانيا، واليابان «كطرف ثالث يسعى ليكون قيادة إقليمية ـ آسيوية فعالة».
2ـ «نظم إقليمية مشاركة»، تضم النظم الأوروبية الشرقية والوسطى وأيضاً بعض الدول الصناعية الجديدة، مثل دول منظمة جنوب شرق آسيا وكوريا الجنوبية و..
3ـ «نظم غير مشاركة أو مهمشة» تمثل النظم الثالثية الأخرى..
ويتراءى للباحث أن هذه النظم التي تحتل المرتبة الأخيرة، سوف تواجه مزيداً من التهميش، وستستفحل مشاكلها وتتفجر داخلها صراعات ومزيد من الاختلالات.
ولعل تقسيماً كهذا قد تكون له أهمية إجرائية في تقريب مسألة حوار الحضارات، ضمن هذه الخرائط المختلفة التي تشكل كيانات متوزعة ومختلفة داخل النظام العالمي. فالنظر في مسألة الحوار تستلزم استيعاباً حقيقياً لهذه الأوضاع برمتها. فـ«هنا يعني أن النظم الإقليمية ليست عند مستوى واحد من القدرة على التفاعل مع النظام العالمي والتأثير فيه. وسوف ينعكس ذلك بالطبع على قدرتها على المشاركة بفعالية سياسياً واقتصادياً وثقافياً، ومن ثم فإن هامش تفعيل حوار ثقافي وحضاري عالمياً سوف يتوقف على دور ومكانة إقليم من هذه الأقاليم التي تنتمي إليها ثلث الثقافات والحضارات في النظام العالمي».
وتشير الورقة إلى ظاهرة ما يعرف بالإقليمية الجديدة التي أصبحت لاعباً رئيساً في النظام العالمي. ومع أن الولايات المتحدة الأمريكية وقفت منذ البداية ضد تشكل الإقليمية الاقتصادية باعتبار ذلك تهديداً للتجارة الدولية، إلاّ أنها سرعان ما تراجعت لتنظم كقائد لتكتل اقتصادي إقليمي مثل منطقة التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (N. A.F.T.A). وقد كان لهذا التحول في الموقف الأمريكي أثر أدى إلى توجهات إقليمية وتشكل تكتلات اقتصادية مختلفة. يشير الباحث إلى أن ذلك في الحقيقة لم يكن السبب الرئيسي لتكاثر التكتلات الإقليمية، بل الموقف الأمريكي هو ذاته جاء نتيجة لتطورات سياسية واقتصادية، مثل انهيار بروتن وودز وانهيار نظام الاعتماد على الدولار وبروز قوى رأسمالية جديدة والجدل الحاد الذي شهدته مفاوضات «الكَات» في جولة أورجواي. وأوضح كيف أن هذه التكتلات واجهت تحديات كبيرة، من أهمها عجزها عن استيعاب قوى اقتصادية كبرى كالهند والصين.. وأيضاً، وهذا هو المهم، أنها مثلت خطراً حقيقياً على دول الجنوب.
الورقة تعاطت مع موضوع حوار الحضارات بصورة أقلّ وضوحاً، إذْ تم التركيز على آراء واتجاهات تتصل بمسارات التحول في النظام العالمي والتحديات التي يواجهها هذا الأخير في ضوء تشكلات إقليمية مختلفة. ومع وجود جانب كبير من الأهمية لهذا العرض الذي استهدف توضيح التوزيع الإقليمي للقوى المؤثرة أو المتأثرة بالنظام العالمي، إلاّ أنه تعاطى مع مسألة الحوار وكأنها حوار بين تكتلات اقتصادية أو سياسية. وبهذا يكون الباحث قد وقع في ما نعتناه بالسؤال «الإنّي» ولم يقدم رؤية ممكنة عن قيام حوار ثقافات; وما هو موقع ومستقبل هذا الحوار ضمن هذه التحولات الاقتصادية والسياسية. نلاحظ غياباً أو تغييباً للعنصر الثقافي والحضاري في هذه المعالجة، فيما يعني أن الورقة استسلمت لتأثير كبير لإطارها المرجعي; أي، مجال العلاقات الدولية!.
يتوقف د. عبد النبي اصطيف مليّاً عند المحور الثالث من محاور المؤتمر; «حوار الحضارات في ضوء العلاقات الدولية الراهنة». حاول قدر وسعه تفكيك المحور إلى وحدات مفهومية في عملية امتلاك وجوهها ومعانيها الأخرى. فقد تراءى لديه المحور، وكأنه جملة تناقضية، تتجاوزُ داخله مفردات إشكالية. من هنا التوقف المشروع لتحديد المفاهيم وإعادة تأسيسها بالصورة الموضوعية الممكنة لها. وفي تقديري، أن ورقة د. اصطيف تكاد تمثل الوجه الآخر، المتحرر من سلطة المحور المرجعي كما وقعت فيه كل من ورقة د. نادية ود. محمد إدريس. ذلك لإثارتها الإشكال المفهومي في صميم هذا التجاور المستحيل بين «حوار الحضارات» و«العلاقات الدولية الراهنة». ومن هنا «فالحضارات بطبيعتها لا تعترف بالحدود السياسية للدول التي تنضوي تحت لوائها، ولا تقيم كبير وزن لمبدأ السيادة الذي تتمسك به هذه الدول، ولا تؤكد بأية حال وحدة أراضي الكيانات السياسية التي تنتمي إلى حظيرتها; والعلاقات الدولية تقوم أساساً بين دول ذات سيادة ووحدة أراضٍ ينبغي أن تكون موضع احترام من جانب أي طرف يدخل في علاقة مع أي منها».
إذن، الخلاف هنا في الفاعلية والقصد.. فحوار الحضارات ينهض على مركب زماني يتجه إلى الماضي وإلى المستقبل مروراً بالحاضر. فهي فاعلية مستدامة. في حين تنهض العلاقات الدولية على فاعلية آنية محتملة دائماً وفي وضع قطائعي دائم مع التاريخ. وإذا ثبت ذلك في مستوى الفاعلية، فهو أيضاً في مستوى القصود. نستطيع أن نقول استدراكاً بأن مقاصد الحوار، هي نبذ الصدام، في حين مقاصد العلاقات الدولية الراهنة تأمين المصالح الكبرى لدول الشمال لمنع تناقض المصالح وصدام الكيانات الغربية. الأول، يوسع من دائرة المشاركة، فيجعل الحوار آلية لتطويق صيغ العنف بين الشمال والجنوب. والثانية ـ وكما هو مسار تشكلها التاريخي ـ جاءت في سياق احتواء أشكال الصدام المحتملة بين دول الشمال.
لقد أشارت الورقة إلى عدد من الوجوه لمسألة «الحوار» وعن تصوراتنا الممكنة له. أحواراً باختينيا أو أفلاطونياً أو قرآنياً. أم عبر ثقافي. أم يتعين التفكير في صيغة جديدة مشتركة لنموذج حواري جديد. مع أننا نرى أن الباحث كغيره من المشاركين، لم يلتفتوا ـ وكان أحرى بالباحث الذي آلى على نفسه تحديد المفاهيم أن يتوقف عندها ـ إلى أن الحوار لا يقوم اليوم بين حضارات! كان من المتعين أن تتوقف الورقة عند مفهوم «حضارات» مثلما فعلت في مفردة «الحوار». هل هناك حقاً حضارات متساكنة متجاورة، تعيش على سبيل العزلة، وكأنها حضارات المدارات الحزينة. ماذا عن الثورة الاتصالية والمعلوماتية وانهيار المسافات المغلقة.. عن أي حضارات يتحدثون؟!.
نعم، لقد توقف الباحث بصورة سريعة ـ غير شافية ـ عند مفهوم الحضارات، لا من حيث المفهوم، بل في حدود الوصف. ذلك الوصف المتعدد للحضارة بنسبتها إلى جهات مختلفة، كاللغة والدين والأمة والعصر و.. «وهناك أمر آخر، وهو أننا ننسب الحضارات الإنسانية في محاولتنا تصنيفها إلى القارة حيناً (فنقول الحضارة الأوروبية) وإلى الجهة حيناً (فنقول الحضارة الغربية)، وإلى اللغة أو الأمة حيناً ثالثاً (فنقول الحضارة العربية أو الحضارة الصينية أو الحضارة اليابانية)، وإلى العقيدة حيناً رابعاً (فنقول الحضارة الإسلامية) وإلى الإقليم أو النهر أو الوادي خامساً (فنقول حضارة بلاد الرافدين) وإلى العصر سادساً (فنقول الحضارات القديمة أو الحضارات الحديثة) وإلى غير ذلك..».
يتساءل الباحث بعد ذلك; «هل ثمة «حضارة» صرفة نقية لا تشوبها شائبة من حضارات أو حضارات أخرى؟».
وعلى أهمية هذا التساؤل، إلاّ أننا نرى فيه قفزة بعيدة على مناط الإشكال المتصل بحقيقة «الحضارات». هل حقاً أننا نعيش بين ظهراني حضارات مختلفة؟
إن التجاوز والنسيان والقفز وراء هذا الإشكال، يجعل كل البناء يتهافت بصورة دراماتيكية. فالحديث عن وجود حضارات يلزم عنه التسليم بوجود خصائص مختلفة لهذه الحضارات. والحال، أن ما يبدو لنا حضارات، ما هو في نهاية الأمر إلاّ كيانات متماهية ومتمثلة لنمط حضاري غالب. وإذا جاز الحديث عن تميز فهو تميز ثقافي لكيانات تعيش نمطاً حضارياً موحداً، إن إنتاجاً له أو اندماجاً فيه أو استهلاكاً. أعود، فأكرر أن الحديث عن وجود حضارات في هذا العصر، هو مشكلة أخرى تُضاف إلى مشكلات الحوار الأخرى. لا، بل إن الإصرار على وجود حضارات وليس ثقافات هو أحد أهم العوائق المفهومية أمام حوار إنساني بين كافة الثقافات. هناك كيانات ثقافية متفاوتة في فعاليتها. وهي بلا شك ـ أو بعضها على الأقل ـ أمكنه يوماً تشكيل حضارة، مثل الصين أو مصر الفرعونية، أو العرب، أو فارس أو الهند أو روما.. وكان ذلك نتيجة إمساكها بعروة التفوق وإنتاج موارد القوة أم لأنها عاشت معزولة عن حضارات أخرى بفعل عقم الاتصال. فهل لنا اليوم أن نتحدث عن حضارات أم ثقافات؟.
لعل هذا هو الإشكال الذي وقع فيه هينتنغتون، وسار عليه معظم الباحثين. لقد أشار الباحث إلى وجوب تحديد مفهوم الحضارات قائلاً: «ومعنى هذا أن علينا قبل أن نمضي في أي «حوار» بين الحضارات، أن نتفق على حدود دنيا لمفهوم الحضارات الإنسانية»، ولتصنيفاتها التي تتفاوت تبعاً لتفاوت المعايير».
وكان أحرى أن يدعو إلى تحديد مفهوم الحضارات بمعناها الكلي، وهل الإنسانية تقبل بتعدد الحضارات في أفق انهيار المسافات.. وهل كان من المعقول أن يواصل المصريون التخدير والتحنيط على الطريقة الفرعونية رغم الطفرات النوعية التي شهدها البحث العلمي في الضفة الأخرى، على صعيد الطب والبيو ـ كيمياء.. أم أن الكيانات الثقافية، وتحديداً في زمن التواصل المفتوح من كل الأطراف تسعى إلى تمثل مظاهر القوة عند الآخر، متجاوزة تلقائياً مظاهر حضارتها البائدة، التي لا مكان لها سوى المتاحف. الحضارات لا تعيش على سبيل التجاور إلاّ إذا فارقت بينهما العزلة. وفي حالة الاتصال، فإن الموقف الحضاري يقتضي من كل كيان ثقافي أن يتجاوز مستحثاته الحضارية لمعانقة معطيات القوة الجديدة، إنتاجاً أو شراكة.
لقد حاول د. اصطيف من الناحية الأخرى، معالجة تلك المسافة التناقضية بين حوار الحضارات والعولمة، وهي معالجة في غاية الأهمية، تذكر بالمضمون الهيمني للعولمة مقابل المحتوى التعايشي لحوار الحضارات. فإذا كانت العولمة التي يبشر بها النظام العالمي الجديد تؤكد على «بعد تجاوزي للحدود السياسية واللُّغوية والقومية وغيرها» فإن «حوار الحضارات» هو البديل المناسب للعولمة «والرد الجنوبي أو العالم ثالثي أو الإسلامي على نبوءة صموئيل هنتنغتون في «صدام الحضارات»».
من المؤكد أن الباحث هنا يضع اليد على الفارق الجوهري بين الدعوتين، وعليه، نقول استدراكاً، بأن العولمة هي نقيض حقيقي لحوار الحضارات. ليس ذلك من حيث أنها تسعى إلى الإدماج القسري أو الشمولية النمطية، بل لأن العولمة تقصد إلى صياغة الإنسان العالمي على خلفية تدمير الحدود والهويات والخصوصيات والمحليات وهتك أسوار الممانعة الطبيعية. في حين يهدف مشروع حوار الحضارات إلى تأبيد نموذج الإنسان المختلف. وهذا يتم في ضوء تكريس مفهوم الهوية والخصوصية والممانعة. فالنموذج الأول; نموذج الإنسان الموحد. وفي الثاني، لا نتحدث عن نموذج بل عن نماذج مختلفة. فإذا كانت العولمة تسعى إلى إخضاع عالم الألوان إلى حركة القرص النيوتوني لتجعل منه وهماً للبياض ـ أو اللون الواحد ـ فإن حوار الحضارات يرمي إلى أن يكون المنشور الذي يعيد انتشار الألوان وتوزيع الاختلاف. ما يعني أن العولمة تصنع الوهم، في حين الحوار يكشف عن الواقع. ففي عالم اللون يمكننا الحديث عن هذه الحقيقة بوضوح، وهو أن الخلاف حقيقة ثاوية في صلب الوحدة. وإذا كنا على درجة من الوفاق فيما يتصل بهذا التناقض بين وهم العولمة وحقيقة الحوار، إلاّ أننا نختلف في أن الوضع الراهن يقلب المنظور رأساً ليجعل ما هو وهم، حقيقة، والعكس صحيح.
ففي حدود التنظير للممكن لا نمانع أن نتحدث عن ضرورة الحوار وبأن وجود الآخر ذو أهمية كبرى في معرفة الذات، لا بل يمكننا أن نتحدث عن أهمية قيام حوار داخلي كأساس لنهضة حوار حضاري مع الآخر ـ إذ يمكننا أن نتحدث عن حوار حضاري لا عن حوار حضارات، بما أن الموقف الحضاري يقتضي التسليم بوجود حضارة واحدة وثقافات متعددة ـ. لكن كل هذا ـ وإن بدا الباحث متفائلاً ومتساهلاً في هذا النوع من الحوار، رائياً إليها كبديل عن العولمة ـ إلاّ أن الواقع يتنكر بأوضاعه التناقضية وآلياته الاحتوائية إلى أن يكون الحوار سهلاً يسيراً، وأن تكون العولمة الواهمة صعبة. فالباحث يختم ورقته بمقاطع من محاضرة الأمير تشارلز; «إحساس بالمقدس: بناء الجسور بين الإسلام والغرب» !.
ولئن كان الباحث متفائلاً إلى درجة قصوى من هذه الناحية، فإنني أرى في ذلك مزايدة خطابية على الواقع الذي يضج بآليات الاحتواء المتناسلة في فضاء ينضح بالتهميش والاستقواء. الأمر الذي يصلنا بملاحظات المعقب، د. غريغوار مرشو. باعتبار أن حوار الحضارات بالمعنى الذي سارت به ركبان دعاة الحوار، هو ردّ فعل لصدام الحضارات. مع أننا وكما يشير د. غريغوار، لم نفاجأ بمقولة هينتنغتون، حتى تدعونا ردّة الفعل إلى اجتراح نقيض لها بهرولة. مع أن مضامين أطروحة الصدام، ظلت ثاوية في صميم المركزية الغربية. فأطروحة الصدام، لخصت هذا الذهان، بل هي ضرب من «تحصيل الحاصل والاستمرار الأكثر علنية للحرب المفتوحة على ثقافات الشعوب الخارجة عن مدار ثقافة الغرب الأخرى المهمشة». إن ما يتملك وجدان المعقب، ويجعله ينفر من هذا «التسويق» كما يصفه هو نفسه، هو حالة من الواقعية في رؤية الأشياء ـ حتى لا أقول رؤية تشاؤمية ـ الرؤية التي ترى في ما ننحته على شكل استيهامات قادر على قلب واقع الأشياء. وهنا يتساءل غريغوار «تجاه ظاهرة المطالبة بحوار الحضارات في مقابل العولمة التي عدّد الباحث مخاطرها المدمرة هل تلغي هذه المطالبة احتمالات الصراع مع الآخر؟ ثم هل الحوار استقامت آلياته بين التابع والمتبوع حتى نهلّل بسذاجة لدعوة الشراكة المعرفية مع الآخر؟».
بل إن لمفهوم الشراكة المعرفية أو التعارف التي تحدث عنها د. اصطيف، ما يكفي لاستفزاز السياق الذي يعالج به غريغوار موضوع العلاقة مع الآخر. فلإن كان اصطيف متفائلاً واثقاً وثوقاً زائداً بالآخر، فإن غريغوار يرى خلاف ذلك. وكأنه يرى إلى انقلاب الشعارات واختلاف العناوين لمكر جديد، يجعل العلاقة بين الآخر الممركز مع الأنا المستضعفة، علاقة تبعية بامتياز فغريغوار يرى في دعوة الشراكة المعرفية هذه، مشروعاً مكرراً، أي مستهلكاً، دشنته نخبنا المحلية. في حين لم يكن يمثل أكثر من لحظات من الاستتباع الدوني ومشروع ممسرح لقيم الغالب في أوطاننا المحلية. إن الإعلان عن «المقاصد الطيبة في الحوار مع الآخر الداخلي أولاً والخارجي ثانياً، لا يكفي في نظر غريغوار. بل لابد من كسر حدود الصمت والنسيان لتلك الاعتبارات الأخرى».
وحتى نفهم بأن رأي د. غريغوار لا يمثل موقفاً تشاؤمياً، وإنما يسعى إلى مزيد من الاحتياط في معالجة رهاناتنا، نقرأ في ختام تعقيبه: «في نهاية المطاف أقول ما أحوجنا اليوم إلى توسيع وحدتنا الإقليمية من خلال تجسير العلاقات الثقافية والاقتصادية مع مختلف الشعوب المستضعفة والمعذبة في الأرض مهما اختلفت أديانها وثقافاتها وأجناسها لأن بذلك تصبح المناشدة بآليات الحوار مع الآخرين من موقع الاقتداء والفعل وليس من موقع الاستجداء والانفعال».
تركيب المتناقض، والسلوب المتكررة، حينما يفتق القول فلسفياً:
من السياسي إلى الفيلسوف، يتهاوى مفهوم الحوار، من لغة المفاهيم «الممسرحة» محلياً، كما يصفها غريغوار، إلى قعر آخر، مرهون بقسوة النظر وإكراهات الصعود في سلم المعاني المثقلة بالمعايير. وهذا لا يعني أن السياسة لا تملك رصيدها من الجدل الفلسفي في كافة مناوراتها السجالية. كما لا يعني أن الفلسفة لا تتقن المكر السياسي لما يصدمها الباب المسدود، وتعانق نهايتها السيئة. لا ننكر أن ورقة د. يوسف سلامة قدمت بانوراما انتجاعية فرضت نضارتها وعمقها وسلاسة قولها الفلسفي المتقن. فهي بذلك تنقلنا إلى أقصى متعة النظر وقساوته في آن معاً. لكننا نلاحظ أن الحبكة كفّت في النهاية أن تكون فلسفية، إذْ مالت وتراخت لتعانق لغة التدبير. لقد بدأ د. يوسف سلامة فيلسوفاً بامتياز وانتهى سياسياً مؤدلجاً. ومن خطاب المنهج إلى خطاب «الخطاب»، تسافر اللغة الفلسفية في مشروع تكسير صخور الإعاقة في ضرب من الرؤية مختلف. إذْ يتعين تحقيق فعالية السلب داخلها تماهياً مع ضرب آخر من الرؤية الناجعة والفاعلة بين رؤية تنتج الاغتراب الأبدي وتوسع المسافة بين الذات الشرقية والعالم، وبين رؤية تضع الذات في صلب الوجود. تلك إذن هي حقيقة الفيصل بين ضربين من الرؤى; رؤية غربية منتجة للحضارة، ورؤية شرقية صانعة الأوهام والطوباوية السلبية. فالثنائية الأبستيمولوجية والأنطلوجية لضربين من الرؤى، توحي بأن مجال الصراع كما ينظر إليه د. يوسف، تختزل في ثنائية شرق/ غرب. تقسيماً يرى إليهما ككتلتين موحدتين وكعدم محض مقابل وجود محض. والرهان الذي يحدده د. سلامة أمام عملية تشكيل الذات الحضارية، موصول بعقلانية جدلية من الطراز الهيغلي. يقول: «إن الخبرة الأبستمولوجية والخبرة الأنطلوجية تعبران عن النشاط العقلاني للذات الذي يستهدف وضع موضوعه إذ يضع ذاته. إنهما تعبران عن فعالية الكوجيتو في تطلعه إلى تحقيق اللحام بين الذات والموضوع فيكاد يكتشف أن هذا الجهد ذاته زائد عن الحاجة لأن الموضوع هو الذات، أو لأن الذات هي الموضوع».
إن مدارا لنظر، هو الذات، لا في سعيها إلى القبض على موضوع منفلت دوماً، مستحيل على السيطرة التامة، بل في سعي الذات إلى نفسها، من أجل فهم ذاتي أمثل. فالكوجيتو في نشاطه الدؤوب لا يحقق اللحمة بين الذات والموضوع، إلاّ في حدود التعقل. وذلك نظراً لتمنع الموضوع عن الامتلاك، ولأن الذات والحال هذه تخلع على الأشياء هوية خاصة. ففهم العالم، ومن ثمة امتلاكه، ينهض على ضرورة إبادته واحتوائه ذهناً أو نظمه نظماً عقلياً. وكأننا، ونحن نتأمل هذه الفلسفة العقلية المغلقة على الذات، أمام عودة متنكرة، لكنها عنيدة إلى ضرب من الباركلية المشبعة بالروح الكانطي، المطعمة بجدل هيغلي. يقول د. سلامة: «ومن ذلك يتضح مرة أخرى أن الجدل فلسفة للذات أو تحقيق للعقل داخل العقل نفسه، ما دامت الحقيقة الإيجابية للعالم لا يتم سحقها ومحقها إلاّ داخل العقل عن طريق إعادة بناء الموضوع داخل الذهن بينما تظل الحقيقة المغتربة للموضوع تعوق تحرر الذات وتسلبه على الرغم من أن إعادة إنتاج الموضوع داخل الذهن توحي وكأن الذات قد نجحت في تنمية ذاتها إلى العقل والحرية. فهل يكون تحقيق الحرية تحقيقاً واقعياً متسقاً مع التصور الجدلي لمعنى النقد الفلسفي...».
إن السلب في مقاربة الباحث، هو العقل أو الوصول إلى معانقة الذات بسلب الغربة عن الأشياء، كي تصبح الذات هي «حقيقة الوجود». ولحظة الإيجاب، هي لحظة نفي النفي أو بتعبير الباحث، سلب السلب. وهي فعل مستمر وغير متحقق. إنه بتعبير آخر لحظة الحرية. فالسلب عقل، والإيجاب حرية: «وتحقيق العقل هو تحقيق السلب، وتحقيق الحرية هو تحقيق لليوتوبيا أو السعادة». وعلى هذا الأساس، إذا ما سلمنا بأن الموضوع، هو في نهاية الأمر واسطة لثبوت الذات لذاتها، وإذا حدث أن الذات عجزت عن امتلاك الموضوع; فإن دراسة الموضوع بما هو واسطة لثبوت الذات لنفسها أو بما هو الذات نفسه يوشك أن يعيد ملاك السيطرة للذات على موضوعها; أي على ذاتها. وهذا معناه، أن الحلّ يكمن في الطريق العكسي، من سلب السلب إلى السلب، ومن اليوتوبيا إلى السلب أو من الحرية إلى العقل. أو بتعبير الباحث: «أن هذا التقدم بالعقل لا يتحقق إلاّ بالتحول من دراسة الذات إلى دراسة الموضوع، أو بالانتقال من دراسة السلب إلى دراسة اليوتوبيا، أو بالمضي من العقلانية إلى محاولة تحقيقها في الواقع الحي من خلال إنتاج الحرية أو السعادة الذي لا سبيل إليه إلا إذا أصبح الموضع يمثل وساطة أ كثر صدقاً وحرية بين الذات وذاتها. وتظل الحرية في إطارها الجدلي حرية للفكر، أو للفكر الذي لم يستطع استيعاب الواقع وإعادة إنتاجه بشكل يرتقي به إلى حقيقة الفكر، أو بشكل يكون الفكر معه قادراً على خلع هويته على موضوعه فتزول بذلك غربة أحدهما على الآخر إن اليوتوبيا هي الموضوع من حيث أن هذا الموضوع هو ما يستهدفه شوق الذات إلى ذاتها بتوسط الموضوع».
واستطراداً نقول، إن موقف الذات من الموضوع، أو الحركة الجدلية من السلب إلى اليوتوبيا والعكس أيضاً، هو منتهى ما توصل إليه التفكير الهيغلي، وهو يوصل اللحمة ما بين الفكر والواقع، بحيث الواقعي يجسد العقلي، والعقلي يتمثل الواقعي. إن حركة الفكر من السلب، تتجه نحو اليوتوبيا. وأن الانطلاق من هذه الأخيرة ضمن مشروع جديد لحركة الفكر يوصل إلى السلب. ما يعني أن حركة الفكر من السلب إلى سلب السلب، ومن سلب السلب إلى السلب، حركة لا نهائية. حيث وانتهاظاً على هذه السلوب المتكررة تمتلك الذات هيمنتها على نفسها، متجاوزة نفسها من جديد. أي متجاوزة عجزها عن استيعاب واحتواء عالم الأشياء. إن هذا السعي المضني والمتواصل في حركة السلوب اللانهائية هي ما يجعل للجدل العقلي معنى. حيث، وكما ينحو د. سلامة، لا يمكن أبداً أن تحقق الذات تطابقها المطلق مع ذاتها أو الارتقاء بالموضوع إلى الذات. والحال، أن الرؤية الجدلية ترى إلى الواقع كبناء من المتناقضات. فلإن سلمنا بإمكانية تحقيق التطابق بين الذات والموضوع، فإننا سنقع في مأزق «الارتداد إلى ضرب من الهوية الصورية الجوفاء التي تحذف أحد الحدين، فتكون الفلسفة بذلك (مثالية أو واقعية)» بمعنى آخر، إن مناط هذه الحركة السلوبية المتكررة، هو الانفتاح على مثنوية المثال/ الواقع.. الذات/ الموضوع.. وعدم التحجر الدوغمائي على طرف منهما. إنها حالة من الانفلات المتواصل الموسوم بالمتاهة بين الموضوع والذات أو بالأحرى، هروب الذات من الذات في متاهة جدلية تكسب الحياة الاستمرارية، وتتيح لليوتوبيا نفسها أن تحرز لها تحققاتها العينية. فبمقتضى «ذلك لن تقبض الذات على ذاتها قبضاً تاماً، ستفلت من ذاتها كلما اقتربت منها، فما يفلت من الذات ليس موضوعها بل ذاتها ما دام الموضوع ليس إلاّ الذات في صورة الآخرية».
إن عالم المفاهيم ومستودع الكليات هو الذات. وهذا ما يعني أن الفكر لا نهائي. وهنا تبرز النزعة المثالية أو الهيغلية ـ لو شئت ـ عند د. يوسف سلامة، إذْ أن عالم المفاهيم «أعنى من الوقائع». والمثال حاكم على العالم. وهذا الاغتناء اللاّمحدود للفكر وللذات، هو ما يفسر أبدية الفجوة بين الذات والموضوع وتوترهما. وها هنا حيث تكمن المفارقة الكبرى، وحيث «هنا تكمن أيضاً كل مشاعر الإنسان الأليمة والمأساوية».
لعل محدودية الإنسان وتناهي العقل، ما يجعل الشرق إلى الإحاطة بالموضوع على وجه التمام يتم بقفزات. الأمر الذي يؤدي إلى شطط الفكر، من حيث أن الفكر وهو ينزع قفزياً إلى الحقيقة الكلية «يكتشف في نهاية النسق الذي ينتجه للسلب أن حقيقة السلب قائمة في (الغائية) التي استهدفها طويلاً دون أن يصل إليها إلا جزئياً».
فتظل الغربة مستحكمة قبضتها على الذات. الأمر الذي يدفع إلى تمثل تجربة أخرى، عبثاً، إذْ سرعان ما تنتهي حركة الموضوع إلى الذات، ليعاد اكتشافها مجدداً. فعبثاً «أن تحاول الوقوف على حقيقة ذاتها خارج ذاتها». هذه الحقيقة الفلسفية في نظر د. سلامة، ذات أهمية بالغة بالنسبة للأفراد والأمم، سواء بسواء. وهو تأسيس متين من شأنه أن يقوض فلسفياً من سلطة التمركز الغربي، من حيث أن بناءً جدلياً كهذا يرى إلى الحداثة كانبعاث ذاتي مستقل، أو سلب لا يكرر ما كان تاريخاً مضى ولا ما كان تجربة الآخر، إلاّ استيعاباً وامتلاكاً للآخر. إذْ هو امتلاك سرعان ما يعود إلى الذات بعد ابتلاع الموضوع واحتوائه. من هنا الثورة الحقيقية التي تمثل فعل السلب، من حيث هي «سيطرة الذات على الواقع وليس مجرد نوع من الامتثال لواقع قد تم تزييفه بعرضه على صورة ثورة حدثت أو سلب قد اقترب من غايته».
وبناءً على هذا التأسيس العقلاني، يسعى د. يوسف سلامة إلى وضع فيصل بين نمطين من الكوجيتو. الأول، استند عليه الوعي الأوروبي في بناء حضارته. مفاده التوجه إلى الوجود (أنا أفكر إذن أنا موجود); ما يؤسس لنزعة السيطرة على الواقع. فإن الكوجيتو الذي يتعين أن يستند عليه العالم المتخلف، هو اتجاه نحو إبداع الأنا. أي ما يؤسس لنزعة تدمير الواقع. ولا شك أن إنتاج الأنا من شأنه أن يفضي إلى إنتاج الواقع طالما أن الواقع في النهاية هو الأنا. إلاّ أن د. يوسف يتحدث عن وضع نحن لا نمتلك فيه هذه الذات. وإذن، فإن الباحث يعيدنا إلى لحظة ديكارتية معكوسة، تجعل الكوجيتو الأوروبي ذاته غير قادر على تحقيق انبعاثنا. فالحضارة الغربية قامت على خلفية امتلاك الذات الغربية لذاتها. لكننا نحن والحال، أننا نفتقد للذات ـ يتعين أن يتصرف الكوجيتو بصورة مختلفة تماماً، أي البدء بإبداع الذات وليس إبداع الموضوع. والصيغة التي يقترحها د. يوسف سلامة: «تحول الأنا من كونها لا أنا إلى كونها أنا هو الوجود».
إذن، الخلاف ضرورة حضارية. بل إن الخلاف تفرضه «الجيولوجيا الزمنية» التي تجعل العالمين، وإن تزامنا تقويماً، فإنهما يمثلان لحظتين متفاوتتين. يسعى د. يوسف بتأسيسه هذا أن يكشف عن خطأ الاستيلاب بوجهيه. أي تكرار ماضي الذات أو استحضار وتقليد حاضر الآخر. من هنا يأتي المخرج في صورة تركيب الأضداد سعياً إلى تشكيل هوية جديدة; تتركب من نفي الذات ونفي الآخر، وليس بين الذات والآخر. أي وصل ما هو حي في الذات بما هو حيوي عند الآخر. وعليه، يعلن د. يوسف سلامة تهافت المشاريع السابقة التي رامت التركيب على نحو آخر، ما بين التراث والمعاصرة، حيث وقع فيه مفكرو عصر النهضة والإصلاح. وهو ما يؤدي إلى حالة الاسترجاع والبقاء على عهدة الهوية الصورية، لا الهوية التي دخل عليها السلب «فأغناها وجعلها مرادفة للتجدد». فكيمياء السعادة التي سعى د. سلامة إلى إنضاجها، يكمن في ضرورة التركيب الذي يرى فيه عنصر تخليق للهوية. فأما «أولئك الذين حاولوا بصراحة التركيب بين التراث والمعاصرة، أو بين الماضي والحاضر، فإن كل ما فعلوه حتى الآن هو أن وضعوا الحدود في حالة تجاوز مصطنع، فجاء عملهم خلوا تماماً من التركيب: لقد مزجوا النشارة بالبرادة فأثبتوا بذلك أنهم لم يصلوا بعد إلى (كيمياء الفكر). فالتركيب هو القوة الكيميائية ـ ولربما السيميائية ـ التي لا تكف عن تخليق هوية جديدة للعناصر الداخلية في التفاعل دون أن تفنيها».
ومن شأن السلب حينما يدخل على الهوية أن يجعلها هوية عينية لا مجردة; تكتسح الواقع وتحطمه قصد نظمه نظماً عقلياً. كما من شأن الهوية الصورية المجردة أن تعانق العدم في نسكها وزهدها وغربتها عن عالم الأشياء; «إن اكتفاءه الذاتي بذاته وتطلعه إلى الطمأنينة الروحية لا غير قد جعله ضيفاً على العالم لا يكترث أي منهما بالآخر، فظل الذات مجردة وظل الموضوع هيولى غير متعبة ما دامت الذات لم تستهدف أن تسجل ذاتها في هذه الموضوعات».
ومع ذلك فإن د. يوسف سلامة يرى أن مجرد إدخال السلب على الهوية الصورية للشرق لا يكفي لرفع المفارقة، أو جعل الصوري متعيناً، لأن ذلك لن يأتي سوى بتحصيل حاصل أو باكتشاف «خبرة قديمة قد حصلها الآخر ومضى فيها حتى نهايتها، وهو الغرب». إذن أي مخرج يتحدث عنه يوسف سلامة للخروج من هذا المأزق الأبستيمولوجي ـ الأنطلوجي؟!.
الظاهر، أن الباحث لا يرى أي جدوى من فكرة الحوار. فالذي حدث عبر تاريخ طويل من الخبرة يؤكد على أن الصراع ظل حالة حاكمة على كافة الحضارات. ومن هنا فإن الحديث عن التحضر من جديد يستدعي تلك الحقيقة الثورية التي تجعل شرط قيام الحضارة على أنقاض أخرى يتم عبر استيعاب مقتدر لعناصر القوة في تلك الحضارة. وهكذا وبفعل السلب الذاتي والسلب الجزئي للآخر، تكتمل عناصر التركيب بين نفيين أو سلبيين و«اللاّذات» و«اللاّآخر»، فذلك حقاً وكما تراءى ليوسف سلامة «القانون الصوري لنشوء الحضارات». ولكن بلحاظ اكتمال نضج المضمون في قلب الصورة بما يؤدي إلى كشف حقيقي للمضمون. نظراً لأن العقل قد يعجز أحياناً عن هذا المضمون. ولعل ذلك هو بداية المشوار في معاناة السلب الذاتي وتشكيل الهوية المتعينة. فالفضّ «التام لهذين العنصرين على هيئة حضارة تنمو وتتكامل، فمرهون بسلسلة تحققاته التي لا توجد خارج التاريخ. وهذا ما يصلح لأن يكون نقطة ابتداء لبحث جديد».
ولا شك أن سلب الآخر، بعد سلب الذات، يستند إلى تأمل حقيقي في مآل الحضارة الغربية الآيلة إلى التفتت والانهيار، بسبب بسيط، هو أنها كفت أن تكون عقلانية. وحيث أن النزوع إلى إرادة القوة يوشك أن يحول الحضارة الغربية إلى تعدد خطابات وتنوع فضاءات لا عقلانية.
فحسب د. سلامة أن العالم الثالث يحتاج أن يترقب هذا السقوط ويستوعب تفكك وحدة الخطاب الغربي «لا من أجل اكتشاف تشتت هذه الوحدة واحتمال ضياعها فحسب، وإنما أولاً بالذات من أجل صياغة خطاب حضاري جديد يأخذ من اعتباره كل الملاحظات السابقة التي تميل إلى الافتراض بأن وحدة الخطاب الغربي الحضاري مآلها إلى التفكك». إن لحظة البدء تتراءى عند الباحث في مشروع عدم الانحياز; مشروع عبد الناصر ونهرو وتيتو.. وفي أشكال المقاومات التي ظهرت على مسرح العالم الثالث. وهذه المشاريع ليست شرطاً في قيام حوار حضارات بين الأنا والآخر المتفوق. فذلك على خلاف ما حدث في التاريخ. فبلدان العالم الثالث إن كانت «راغبة في أن تستمر في الوجود، فينبغي لها أن تتخلى عن فكرة الحوار وأن تؤسس عالماً جديداً فيها يسمح بولادة الشروط الضرورية حالياً والكافية مستقبلاً من أجل الدخول في مواجهة مع هذا الخطاب الغربي الآخذ في التفتت في صور متعددة». وأن الأرضية المناسبة لذلك، هو النهوض بمجتمع الحريات ومجتمع مدني على خلفية إقامة التوازن اللازم بين الدولة والمجتمع.
إن لهذه الروح الهيغلية التي تنطق داخل المقاربة المحكمة الانبناء ليوسف سلامة، قدرة على المناورة في صلب العقل كما في صلب الواقع. فليس غريباً من وجهة النظر الهيغلية هذا الانقلاب من العقلي إلى الواقعي.. ومن لغة العقل إلى لغة الروح.. أو عكس ذلك. لكننا نلاحظ أن هذه العقلانية المغلقة والمفتوحة جدلياً في آن، سرعان ما تؤسس لتهافتها ابستيمولوجيا وانطلوجيا، ما أن تترس بخطاب الأدلوجة. فمن الدعوة إلى السلب وسلب السلب، وهي مهمة صعبة، إلى الدعوة لاستخلاص روح المقاومة من مشاريع وثورات معينة. على أن هذه الروح المقاومة سبق وأن تراءت للباحث سلامة وكأنها إعادة اكتشاف للذات التاريخية وأنها أساس تشكل الهوية الصورية المجردة التي اتهم بها الحضارات الشرقية عنوة. ولعلّ الدور المنطقي الذي انهار بموجبه هذا الانبناء المتماسك/ المتهافت، يكمن في النهاية المأساوية لهذه المقاربة، في صورة توسل بالساسة والسياسة في العالم الثالث لترقب مشهد التفتت وانهيار الغرب; ذلك الذي صنع ولا يزال ينتج الهوية الصورية للسياسة في العالم الثالث. وبينما كان الحديث عن ما قبل «الكيف» انزاح فجأة إلى الدعوة الخطابية، إذْ يقول: «لابد لبلدان العالم الثالث من أن تعيد صياغة نظمها السياسية ونظمها الاقتصادية وبناها الثقافية من أجل أن ترتقي جميعاً لتصل بالإنسان في عالم الفقراء والمحرومين إلى مستوى المواطن الذي يستطيع أن يقول كلمة في وطنه و...» وما كانت نتيجة كهذه في حاجة إلى ذلك البناء العقلاني الشامخ; فهي اللغة السياسية اليومية لكل ناهض أو مستنهض، بل هي أمل وحلم الجميع. إنه يرى في تعدد الخطاب الغربي عنصر تفتيت وانهيار لكنه يدعو إلى أهمية الأنساق وضرورة الاختيار; «ويختار من بين الأنساق الثقافية المتعددة ـ بحرية تامة ـ النسق الذي يتعرف على نفسه فيه، على أن يكون للمواطنين الآخرين الحق الكامل في اختيار أي نسق يريدون».
ولا شك أن المنظور الذي يتبناه د. يوسف سلامة للعقل والعقلانية يوشك أن يجعل العلاقة بين العقل والحرية، علاقة متوترة أحياناً. ذلك إذا كان خطاب العقلانية واحداً، وأن الغرب كفّ أن يكون عقلانياً وإنسانياً منذ بدا ينزع إلى التفتيت وإلى حرية اختيار الأنساق المختلفة التي يصفها د. سلامة بأنها غير عقلانية. كيف يتحول هذا الواقع إلى حالة عقلانية حينما يجري الحديث محلياً. ألا يكون أصل العقل هنا تناقض مع ضرورات الحرية. لعلّ المأزق الذي وقعت فيه مقاربة الباحث ناتج عن مفهوم دوغمائي للعقل والعقلانية. وإن كان يؤسس إلى مفهوم للسلب يقطع مع مظاهر الدوغما. فيوسف سلامة يرى إلى الخلاف مظهر من مظاهر اللاعقلانية. وتلك هي الدوغما بعينها التي ما كان لها أن تستقل وتفسح المجال إلاّ بإعلان إرادة المعرفة وبالتالي إرادة القوة. فالعقل غير متناهٍ بخلاف ما يؤكد يوسف سلامة. بل إن المأزق الذي يمنع العقل من ممارسة نشاطه المتنوع، هو الحصر الذي يصيب إرادة المعرفة. إنه يتحدث عن الحضارة الشرقية ككتلة واحدة. ويتراءى له أن ما حصل فيه من نشاط هو دون السلب إذْ منتهاها إنتاج العدم والاستقالة عن العالم. وكأنّ يوسف سلامة يرى في كل هذا ا لنشاط من قيام حضارات وثقافات وحروب وقيام دول وسقوط أخرى، وفتوحات وغزوات.. جرت في الشرق، كلها مظاهر عدمية.. وكأنّ العقل منحة مستودعة توزع بالتقسيط أو بالمحاباة. متناسياً أو ربما رافضاً أن يكون العقل صانع كل هذه المظاهر المختلفة، وهو ممضي هذا التنوع الكبير.
ومع ذلك، نلاحظ أن الباحث يكيل بمكيالين في رؤيته للشرق والغرب. فهو يتحدث عن الشرق ككتلة واحدة، وحضارة واحدة ـ متدرجة ـ لا عن فضاءات وعوالم شرقية في حين يتحدث عن الغرب كاتجاهات وخطابات مختلفة. يقول: «واليوم بوسعنا الحديث عن حضارة شرقية قدسية، وعن مراحل داخل هذه الحضارات من الصين إلى الهند إلى مصر وفارس..».
ثم يقول بصدد الحضارة الغربية: «.. بحيث لم يعد بوسعنا أن نتحدث عن فضاء غربي حضاري واحد بقدر ما يمكننا التحدث عن فضاءات متعددة تعكس تنوعاً في الخطاب الحضاري الغربي غير مسبوق لايمكن تفسيره إلاّ بإرادة القوة التي تنسب إلى كل مجتمع غربي بعينه».
ففي مقاربة د. يوسف سلامة تكريس لمأزق الرؤية المعيارية الاستشراقية التي ترى إلى العلاقة بين الشرق والغرب، كعلاقة متوترة بين خيار العقل واللاّعقل. فيكون الباحث قد وقع في الدوغما من حيث لا يشعر. وتلك بالفعل، هي النهاية المأساوية للانبناء العقلاني المغلق، ونزع الميتافيزقا الممركزة!.
وعلى النقيض من ذلك تماماً، تحاول مقاربة الأستاذ عمر كوش في تعقيبه على ورقة د. يوسف سلامة، أن تفكك مادام هذا الأخير إحكامه استغلاقاً وتمركزاً. فمن ثنائية ميتافيزيقية مصرة على طيّ المسافات وردم المتاهة، إلى رؤية اختلافية تكاثرية ـ وتكوثرية، لو أردنا التعبير على طريقة د. طه عبد الرحمان ـ تفضّ الانبناء المغلق وتعانق التيه ولو إلى حين. وبالتأكيد، فإن ما يرومه عمر كوش، ليس انزياحاً بالتكاثر إلى المتاهة المأساوية ـ لو صح التعبير ـ حيث انهمار الاختلاف إلى حدّ التيه والخاووس بل هي متاهة مشروعة لاختلاف لا نهائي، يضع الهوية ذاتها في قلب صيرورة يتجادل فيها الثابت والمتحول، بشكل آخر، لا يربك المواقع، بل يسير بها بلطف إلى سعة الاختلاف الممكن. ومن هنا يرى الأستاذ كوش، بأن المفاهيم التي انبنت عليها نتائج د. سلامة، هي محلّ خلاف. وهي على كل حال تمثل نمطاً رؤيوياً قديماً، مسكوناً بثنائيته الميتافيزيقية. «فثنائية الذات والموضوع [يقول عمر كوش] تقدم مقاربة معينة عن الفكر، سيما وأن الأمر لا يتعلق بثورة أحد طرفيها على الآخر، وأن التفكير الإنساني غر مربوط بخيط مشدود بين الذات والموضوع».
إن الباحث المعقب يرى، خلافاً ليوسف سلامة، أننا لا نفتقر إلى المفاهيم; هذه التي نمتلك قدراً وافراً منها. بل نحن بالأحرى نفتقر «لناظم المفاهيم والمشيد لها، الحقل الذي تنمو فيه وتترعرع، تتأقلم وتنشال، تتأرضن ثم تعيد أقلمتها في تربة حوّلها التحليق المتعالي إلى مجرد أرض جرداء وبقايا ذكرى قوم فعلوا شيئاً ثم غابوا».
وقد لا يكون هناك أي خلاف بين سلامة وكوش في هذه النتيجة التي غدت حلم المثقف العربي وقلقه اليومي. فيوسف سلامة هو نفسه انتهى إلى هذه النهاية، حيث أن الأمر معلق على توفير هذه الأرضية التي تنهض عليها حرية الفكر أو الفكر الحر. وهذا ما يقلب منطق الأسباب ويجعل إكراهات الواقع وشبق الاحتواء السياسي وحسابات الأرض، تعوق فعالية العقل، وتنتج قلقه المستدام، فلا تغدو المفاهيم ولا مستقرها العقلي، هي الحاكمة، بقدر ما يغدو الواقع بثقل المُعاش والمَعاش صانع أوهام الذهن ومفجِّر استيهاماته.. ما يجعل العقل ذاته، والحالة هذه، مصاغ على نمطية مختلفة تماماً، بحيث يصبح العقل مستودع المفاهيم الرثّة، التي تعيد صياغة المُعاش، وبدل أن تنظمه عقلياً على غير منحاه الخاطئ، تجعل من مستقرها العقلي آلية إعادة تشكيل الواقع بمأساويته، فتصبح أزمة العقل، هي العقل نفسه بعد أن ضنّ بنفسه عن مسار اختلافه أو بتعبير طه عبد الرحمان، تكوثره أو تكاثره النافع!.
ينعى عمر كوش هذه النمطية الميتافيزيقية المغلقة التي توسلها سلامة في توزيع المواقع والملكات.. حيث التقسيم التقليدي للثنائيات الميتافيزيقية الأرسطية والهيغلية والهيدغيرية. إن ما أتى به «سلامة» ما هو في نهاية المطاف سوى منتج من منتجات «التمركزية الأوروبية التي ألصقت بالشرق صفات انتقاصية عديدة، منها: افتقاد الشرق للوجود والصيرورة، وإعطائه هالة روحية ميتافيزيقية، في مقابل امتلاك الغرب للوجود والكينونة. هكذا فإن الشرق يبدو وفق منظور كهذا كياناً واحداً موحداً وكذلك الغرب، مع أن التاريخ ليس فيه لحظة تدل على وجود شرق كهذا أو غرب كذلك».
وعليه، فأي جدوى تبقى لهذا التوظيف المزدوج لكوجيتو، في تقديرنا، هو في حدّ ذاته مأزوم بوهمه الميتافيزيقي. ذلك، لأن امتلاك ـ أو بالأحرى امتلاكات ـ الموضوع، ليس قسراً على الغرب. وكما يؤكد كوش: «مارست حضارات الشرق المختلفة [...] الفكر والفلسفة. وفكروا في الموضوع وحتى في الثالث المرفوع»!.
وحقاً، يمكننا القول استدراكاً، بأن عملية امتلاك الموضوع ليست عملية موحدة; بل هي فعل مختلف. فالحديث اليوم عن صور من الامتلاك ـ أي امتلاكات كما ذكرنا قبل قليل ـ فالاختلاف، بالنتيجة يقوض من سلطة الانبناء الميتافيزقي الحصري الذي ينهض عليه الكوجيتو بوجهيه، الديكارتي والسلامي ـ نسبة إلى يوسف سلامة ـ. لأن أزمة الحصر التي تربك مشروعية الكوجيتو الديكارتي هي ذاتها التي تقوض حصرية الكوجيتو السلامي، وأن تناقضاً في الاتجاه! ذلك لأن الخلاف، هو الثورة الحقيقية على الكوجيتو، بآثاره الميتافيزيقية. فيكون الحلّ، لا في قلب الكوجيتو، بل في نهج فريد من التفكيك والنقد والمساءلة.. وفتح العقل على تقلباته المحتملة ليختار سبيل النجاعة، ليتحول السؤال، من اللاّبدية الميتافيزيقية، إلى الاحتمال الممكن.. ومن الكوجيتو إلى التكاثر.. ومن الحصر إلى اللاّتناهي.
أحببت أن أورد آخر ورقة قدمت في المؤتمر ضمن هذا العنوان، لأصل بينها وبين الكلمة الأخيرة التي اختتم بها الأستاذ أحمد مسجد جامعي أعمال المؤتمر، بصفته مبعوثاً من وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي الإيرانية. ذلك لأنها تحمل مضموناً ورسالة من نوع آخر، كونها تمثل كلمة الدكتور دومينيك ماليه رئيس المعهد الفرنسي للدراسات العربية. فهي بهذا اللحاظ تمثل دعوة فعلية للحوار. يتوقف د. ماليه عند بعض المحطات التاريخية التي شكلت تراثاً «عريقاً في الحوار بين الحضارات»، كفن المناظرة في الأدب العربي. ومثاله المناظرة الشهيرة التي دارت بين متى بن يونس وأبي الحسن السيرافي، المناظرة الشهيرة التي أوردها أبو حيان التوحيدي في كتابه، الإمتاع والمؤانسة!.
لقد سعى الباحث من خلال ورقته إلى التعريف بالمعهد ونشاطه وتاريخه، باعتباره الأقدم من كل المراكز الدراساتية المنتشرة حول البحر المتوسط المختصة بالدراسات العربية والإسلامية. وباعتبارها تتميز بالتفاعل والاحتكاك بالبيئة محل الدراسة عن قرب. الأمر الذي يفرض على الباحث الإلمام باللغة العربية. إن مثل هذا الشكل من الحوار بين الطرفين، هو سر نجاح تلك الدراسات والبحوث التي قدمها المعهد كما يقرر ذلك دومينيك ماليه.
وفي السياق نفسه استعرض الباحث عدداً من الأمثلة حول حوار الحضارات كما تجلت في التاريخ العربي والإسلامي. ربما هناك من بين ما استعرضه «ماليه» ما يحتاج إلى مزيد من النقاش، إنْ كان يمثل ضرباً من الحوار بين الحضارات، أم أنه كان يمثل ظاهرة أو آثاراً للتواجد الاستئصالي الذي جعل الانفتاح على الغرب من قبل رواد عرب كرفاعة الطهطاوي أو طه حسين، أضحى ضرورة تقوم على أساس نفي الشرق، وتمثُّل نمطاً من الاستلحاق لا الحوار.. أي بناء النهضة العربية على أساس الكوجيتو الميتافيزيقي بتمامه وليس حتى على طريقة د. سلامة; الكوجيتو المعكوس. ومع ذلك يبقى أن د. دومينيك بحكم مهمته وأيضاً من خلال مواقفه ورؤيته يمثل الوجه الآخر للغرب; ذلك الوجه الذي ينسج رؤيته خلف أسوار التمركز الميتافيزيقي. لكن أيّاً كان تحليله، فإن ذلك لا ينفي أن ثمة وجهاً آخر واضحاً كان أو مستخفياً، هو وجه السيطرة والاحتواء ثقافياً.. الوجه التاريخي لثقافة الإدماج.
***
في ختام المؤتمر تناول الأستاذ أحمد مسجد جامعي وكيل وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي الكلمة، ليعبر فيها عن رؤية إيران كمشروع حوار الحضارات من حيث هي صاحبة الدعوة. كما عبر عن رؤية السيد محمد خاتمي رئيس الجمهورية الإسلامية باعتباره صاحب المقترح المذكور.
أشار الأستاذ أحمد مسجد جامعي إلى الأهمية التي يشغلها موضوع الحوار بين الحضارات في الأوساط الغربية أكثر من الأوساط العربية والإسلامية. معتبراً حوار الحضارات مشروعاً لكافة النخب. من هنا يتعين على هذه النخب مزيداً من الاهتمام بهذا المشروع. كما أشار إلى أن تبني الجمعية العامة للأمم المتحدة لمشروع حوار الحضارات، يعبر عن اهتمام شامل بعكس لو أن التبني كان من جهة اليونيسكو; ففي هذه الحالة كان الحوار منحصراً في البعد الثقافي دون الجانب السياسي. ثم شكر الحاضرين والمتحدثين على ما بذلوه من جهد في البحث والنقاش.
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.