تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

كيف ننظر لمستقبلنا الحضاري في عالم متغير؟

عبد الواحد علواني
الكتاب: المسألة الحضارية: كيف نبتكر مستقبلنا في عالم متغير؟
الكاتب: زكي الميلاد.
الناشر: المركز الثقافي العربي ـ‏بيروت.
الصفحات: 144 من القطع الكبير
سنة النشر: ط1، 1999م


(1)


يتناول الباحث والكاتب زكي الميلاد المسألة الحضارية، متزوداً من ثقافته الإسلامية الواسعة، ومن متابعته الحريصة للأطاريح الفكرية المعاصرة، ويحشد للمسألة عدداً كبيراً من الرؤى والآراء، مقارنة ونقداً وبحثاً وإضافة، وهو في كتبه العديدة يمارس منهجاً مقارباً، إلا أنه في كتابه هذا يصول ويجول بحرفية الباحث، وإبداع المفكر، ليمهد بقوة من خلال الفصول الأولى، لنظرية تتبدى ملامحها من خلال قراءة متفحصة للواقع الإسلامي، والمنهج القرآني في علاج الأزمات التي تنتاب البشرية عامة، وعالم الإسلام خاصة. ويقدم أطروحة هي غاية في التميز والرقي، وتأتي مساهمته في وقت يتم فيه تداول العديد من الأطاريح المراوغة والبراجماتية والسياسية، التي حفلت بها السنوات الأخيرة من عقد التسعينات في القرن المنصرم.
وقبل الدخول في أفكار الكتاب، لا بد من إلقاء نظرة على الواقع المعاصر الذي أفرز هذا الاهتمام لدى الباحث الميلاد. فعقد التسعينات كان حقيقة متسارعاً ومتبدلاً ومدهشاً، أسقطت فيه نظريات وأوهام، وحلت محلها نظريات أثارت الجدل، ونمت الاستعلائية وتفاقم الغرور الغربي إلى أقصى حد وهو يحكم قبضته على العالم كله. فيما يدعى بالقطبية الواحدة، حيث كما يبدو أن الغرب وعلى قمة هرمه أميركا، كان يتزود من الصراع مع الكتلة الشرقية، من فلسفة سباق التطوير الذي كانت أبرز ملامحه سباق الهيمنة المدعو بسباق التسلح. وفق تفاضل على أساس القوة بصيغة نيتشوية. ومع انحلال الجبهات وتضعضعها وتآكلها الذاتي، وجد العالم الرأسمالي نفسه وحيداً في الميدان دون انتصار حقيقي نابع من وسائل مواجهة حقيقية. فأسرع بعضهم على غرار فوكوياما لتحويل الأمر إلى انتصار للنموذج الرأسمالي، وعلى بقية الشعوب أن تحاول اللحاق بركب هذا النموذج. هذه الرؤية كانت بمثابة إعلان للموت، فليس هناك بعد القمة من تاريخ، مات التاريخ ولتتوقف المحركات عن الهدير فليس من مجال للمنافسة، ومع تنبه بعض المفكرين الأقل عنجهية إلى خطورة هذا الطرح الذي ينقل الصراع إلى داخل ال نظام الغربي من خلال تفاقم التناقضات الداخلية، كان لا بد من طرح آخر يبقي الصراع في حدوده العليا مع عدو خارجي يدفع الداخل إلى تلطيف التناقضات في مواجهة عدو يتربص بالنظام العالمي الذي يمثل أقصى ما يمكن أن تفرضه الرأسمالية على العالم أجمعه. وتم طرح نظريات جديدة تستشرف الآفاق المحتملة لمناوأة خارجية قد تعصف في غفلة من السادرين في انتصارهم المزعوم، فتعيد القلق إلى السلطة التي استحكمت بالعالم. وكان أبرزها ما طرحه صامويل هنتنغتون في محاضرته الشهيرة حول صدام الحضارات. والتي قام بتحويلها إلى نظرية شاملة من خلال كتاب يتوسع في طرح الاحتمالات ويؤكد على أهمية الجدية في معالجة هذه الاحتمالات. ولا يمكننا أن نستبعد مطلقاً النبرة التحذيرية التي تحملها هذه النظرية التي شكلت ذريعة مؤثرة وطاغية وحاضرة لما بدأه الغرب بشكل فعلي من مواجهة واستعداء للعالم الإسلامي خاصة.
شكلت الأطاريح الحديثة والتي أنتجتها الأدوات الأميركية تحديداً دوائر جدل عالمية دارت على مدى عقد تقريباً حول هذا الأمر. ومع الخلفيات المؤسفة لها، فإننا لا نستطيع أن ننكر أنها حركت الجمود والإيديولوجيا، ليقوم الواقع الإسلامي بمحاولة جادة، لإعادة الانتشار بالنسبة للفعاليات والأدوات التي تحاول عبرها اللحاق بالركب العالمي، وقد تنوعت الردود والإرهاصات الفكرية فالبعض نسج على منوالها والبعض أقام دونها الحدود المتوهمة. ولكن حفلت جهود الفكر الإسلامي المعاصر بالعديد من الأطاريح التي تظهر تميزها. وهنا نود أن نسجل ملاحظة خاصة تتعلق بالوعي في مواجهة هذه الأطاريح، إذ أن من الملاحظ أن أهم الردود المختلفة انطلقت من أرضية عقيدية، لا من أرضية قومية أو ليبرالية أو علمانية. وكأنها كانت تؤكد ما طرحه هنتنغتون حول أهمية العقيدة، وفي نفس الوقت كانت ترد على مقولة الصدام والصراع، بمقولات تبحث عن علاقة أكثر تميزاً وتواصلاً، وخير مثال على ذلك ما طرحه السيد محمد خاتمي في دعوته إلى حوار الحضارات.
ومع أن العالم برمته رحب بفكرة حوار الحضارات، إلا أن الاختلاف على الأسس والأدوات بقي واضحا وجلياً، وخاصة مع إصرار الطرف الأقوى على التمسك بالهيمنة. فتحولت الجهود إلى البحث عن أسس عادلة تكفل العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات.


(2)

والكتاب الذي نتناوله هنا يرمي إلى طرح رؤية إسلامية لمسألة العلاقة بين الحضارات، ويقيم الباحث الميلاد رؤيته بالاستناد إلى الآية الكريمة: ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباَ وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير). ليجعل من التعارف أساسا للعلاقة بين الحضارات.
يبدأ الباحث كتابه بعنوان عريض ( المسألة الحضارية) وهذا العنوان في رأيي فضفاض إلى حد ما، فما يطرحه الباحث قيم ولا شك ولكنه لا يمكن بأي حال أن يلم بجماع القول وتفصيله ونهايته، فهو إسهام في المسألة الحضارية، وتحت العنوان العريض نجد عنواناً جانبياً (كيف نبتكر مستقبلنا في عالم متغير) يؤكد ما ذهبنا إليه في تحليل العنوان العريض إذ إنه يشي بوصفة حاسمة وقاطعة ستحل الأزمة الحضارية وأزمة العلاقة بين الحضارات لنتفرغ لبناء مستقبلنا، وهذا ما يؤكده الباحث في مقدمته عندما يقول: (فالتاريخ يبدأ الآن، فكيف نبتكر مستقبلنا في عالم متغير)ص6. وحقيقة أن ما يشي به العنوان، يدحضه الجهد التواصلي المفتوح للباحث من خلال المتن ومن خلال كتاباته وأفكاره بشكل عام.
في الفصل الأول يحاول الميلاد أن يؤكد ضرورة وضع تقويم حضاري جديد لعالمنا المعاصر، ويلخص الأدوات في التمكن من عقلية المؤرخ للتاريخ والباحث في حركة الحضارات وسير الأمم والشعوب ص11، وهذا الأمر شكل أساساً فكرياً للعديد من الاتجاهات التي تؤكد على ضرورة النظر إلى العاقبة للتعرف على جدوى الفعل الحضاري، ولكن لا ينسى الباحث أن يربط البحث بالعملية النقدية من خلال الاستشهاد بمقولة تؤكد على الجهد النقدي من أجل الإعداد لتحولات فكرية واجتماعية كبرى ص12، ويرفض الباحث النظرة التفكيكية التي تركز ـ برأيه ـ على تحليل الأجزاء منفصلة، ولا تعطي أهمية لترابطها، فيتهمها بالقصور ص12 ، وهي حقيقة ستكون قاصرة إذا لم تهتم بالربط بين التفريعات والأجزاء، ولكن لا يمكن لأي نظرة حتى النظرة التفكيكية أن تهمل الترابط، فالمنهج التفكيكي يميل إلى تجزئة الموضوعات، ولكنه لا يهمل التأثيرات والترابط العضوي بين التفريعات، وهو لا يعني فصل الحدث أو الكلمة أو اللحظة التاريخية أو الظاهرة من سياقها العام بشكل نهائي. ويتابع الميلاد قراءته لعدد من الأفكار حول شكل العلاقات في عالمنا المعاصر، ثم يقوم بنقدها نقدا عميقاً يؤكد اتجاهه الإسلام ي التنويري والوعي الذي يبديه عدد كبير من الكتاب الإسلاميين الذين يقرؤون العالم بعين متبصرة ومتبحرة، فيركز ملاحظاته في نقاط سبعة أساسية:
1ـ الغرب مصدر معظم الأفكار، وبالمقابل لا توجد مساهمات من حضارتنا على نفس الدرجة من الأهمية أو الحضور.
2ـ والقليل من الأفكار المنتجة من قبلنا لا تساندها إرادات فاعلة.
3ـ مازالت الدول النامية متخلفة عن بلورة نماذجها الخاصة.
4ـ التركيز على قضية بناء الإنسان
5ـ أحادية التصور في الحلول المقدمة.
6ـ حاجة العالم إلى ثورة جديدة يعود فيها إلى القيم!؟
7ـ قضية العلاقة بين الإسلام والغرب.
ولا شك أننا نتفق مع الأستاذ الميلاد في معظم ملاحظاته، مع بعض التحفظ على الملاحظتين الخامسة والسادسة، فمن جهة لا يمكن اختزال الحلول بوضعها في خانة أحادية التصور، وخاصة بعد حرب الخليج الثانية وتداعيات ما يسمى بعملية السلام مع الكيان الصهيوني، لقد استشعر معظم الباحثين الرعب من جراء عولمة لن تكون بالتأكيد كسماء تمطر شهداً وعسلاً، لذلك فإن معظم الباحثين والمفكرين، ومنهم الأستاذ الميلاد يطرحون آراءهم بنوع من التمكن وتعدد الزوايا، مع فهم أكثر دقة للعصر وأقطابه، المهيمن منها والتابع، والجدلية القائمة داخل كل إطار.
أما فيما يتعلق بالملاحظة التالية فأسجل استغرابي! كيف نكون بصدد ثورة جديدة إذا كنا سنعود للقيم؟ فأولاً لا يمكن أن يكون هناك مجتمع بدون قيم، وثانياً أن القيم ليست جامدة، فهي متحولة ومتطورة شأنها شأن أي أمر آخر، وإن كنا نرمي الانطلاق من أسس ثابتة تمثل المحرك الداخلي لقيمنا، وحقيقة أشعر إن مخاوفنا من فقدان قيمنا تنطلق أساساً من نظرتنا التقليدية اتجاهها. وكذلك فإن مفهوم الثورة أصبح مفهوماً جامداً يدل على تحولات سريعة لا تأخذ وقتها في النضج، ولذلك فإنها تنحرف، ولا يمكن أن تسلس قيادها للطريق الصحيحة، وقد أكدت التجربة أن التخطيط طويل المدى هو الأقدر على تثبيت الأقدام للمشاركة في صناعة العالم والتاريخ.
في الفصل الثاني يتناول الباحث مسألة تحدي العولمة، وبعد طرح فهمه وفهم الباحثين والمفكرين للعولمة، يطرح الباحث الميلاد مقولته الأساسية حول العلاقة بين الأمم والشعوب، حيث يؤكد على التعارف في سبيل تواصل فاعل وفهم عميق، وهو بذلك يمهد لما سيطرحه لاحقاً تحت عنوان: تعارف الحضارات، الرؤية التي تمثل العمود الفقري لهذا الكتاب.
ويعود الباحث في الفصل الثالث إلى النظريات المعاصرة الأكثر حضوراً، ويركز على نقد ساخر لسطحية أطاريح فوكوياما، ونقد متميز لأطاريح هنتنغتون، فيلتقط بذكاء النقاط الأساسية ويعقب عليها تقويماً وتحليلاً ليبين قيمتها، ويظهر جلياً الجهد الكبير والجدية الواضحة للباحث في التمهيد لما يعتزم طرحه كنظرية بديلة، فينتقل من الجهد النقدي إلى الجهد الفلسفي إلى حد ما، ويصيغ نظرية جديدة يستنبطها من قراءته، ويقيم أودها من فهمه للنصوص الأساسية وملاحظاته للواقع المعاصر.


(3)

تنكشف غاية الكتاب كل الانكشاف مع الفصل الرابع المعنون بـ (تعارف لحضارات، الطريق الثالث)، فبعد تمهيد نقدي لاتجاهين الأول يشمل: صدام الحضارات الأطروحة التي تكرس الصراع، وحوار الحضارات، التي تطمح بعيداً دون امتلاك الأدوات الأساسية، ونتفق مع الميلاد فيما يذهب إليه هنا، فالأطروحة الأولى لا تخلو البتة من حرب معلنة يراد لها أن تكون أكثر خبثاً فمن خلال التواصل يتم فرض إرادة الطرف المهيمن على الطرف المستضعف، في إطار تواصل ومشاركة مزعومة لا تختلف عما سمي في الأنظمة الكولونيالية بالانتداب والوصاية. وكذلك فإن حوار الحضارات لا يمكن أن يقوم بين أطراف تتباين مواقعهم وقوة إراداتهم، وفي ظل نظام عالمي لا يحفل بالعدل والمساواة. والاتجاه الآخر الذي يشير إليه الميلاد هو النظام العالمي الجديد متعدد الأقطاب، وهو يميز بينهما بأن الثاني محض سياسي بينما الأول يمزج الثقافة بالسياسة ص58.
ويشير الباحث إلى تنامي النقد الذاتي في الغرب، وأظن أن شعورنا بهذا التنامي يعود إلى أننا أصبحنا أكثر اطلاعاً على هذا النقد، وأصبح النقد أكثر شفافية عما مضى إلا أنه ليس أمراً جديداً بل هو ما يميز الحضارة الغربية منذ أواسط القرن السابع عشر، فالنقد كان حاضرا بأشكاله الفلسفية والاجتماعية والثقافية والسياسية، ولكنه أصبح أكثر علواً وتأثيراً، وتداخل مع الطابع الإعلامي المتنامي للعصر، فالرأي العام لم يعد بالإمكان تجاهله وباتت غايات السياسي أكثر انكشافاً وأقل تأويلاً ومواربة، وهذا الأمر يستند إلى بنية معقدة للنظام العالمي الجديد الذي يصر أقطابه على تسميته بهذا الاسم ليوحي بنوع من الانتظام والجدة والعالمية. ولعل في الانتخابات الأميركية الأخيرة لسنة 2000م دلالات عميقة على سقوط المزيد من أوراق التوت، فنظام الانتخابات المستند إلى مبدأ المجمعات الانتخابية لم يلق مثل هذا النقد والاهتمام منذ أمد طويل وأزعم بأن نقده لم ينتج عن الارتباك الحاصل في الانتخابات، بل ربما يكون الإرباك ناتجاً عن طرح هذا الموضوع على بساط البحث من قبل شريحة أوسع من المثقفين والسياسيين وإلى حد ما الشارع.
والنقد الذاتي كان ميزة أساسية لهذه الحضارة مما وسمها بطابع التجديد المستمر والتجريبية الواسعة وعلى جميع الصعد، وإن كان هذا النقد مبنيا على قاعدة المركزية الغربية التي تفسر العالم في ضوء مصالح ضيقة للعالم الغربي تحديداً.
في القسم الرابع من الفصل الرابع ص70 يعلن الباحث عزمه على نحت مصطلح (تعارف الحضارات) والتأسيس له معرفياً، انطلاقا من الآية القرآنية:( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباَ وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير). وهو يبحث في مضامين هذه الآية الكريمة تأسيساً قرآنياً لأطروحته، فيشير إلى ما يلي:
1ـ تغير الخطاب القرآني من سياق مخاطبة الخاص ( يا أيها المؤمنون) في الآيات السابقة لهذه الآية، إلى سياق مخاطبة العام( يا أيها الناس) إضافة إلى ما تحمله صيغة النداء من تنبيه ودعوة.
2ـ نفي التفاضلات الطبقية والعرقية والقومية من خلال (خلقناكم من ذكر وأنثى).
3ـ التنوع والتعددية من خلال (وجعلناكم شعوباً وقبائل).
4ـ مرجعية التقوى في قياس التفاضل بين الناس.
ثم يقوم الباحث الميلاد بحفر معرفي حول الآية المذكورة، ويمارس جهداً تفكيكياً وهو يستخرج الدلالات التي يبني رؤيته عليها وعملية البناء واضحة عنده ويسميها (مرتكزات). ومن خلال تسعة عشر مرتكزاً.
وحقيقة يظهر الباحث الميلاد قدرة طيبة في استخلاص نظرية يمكن تطويرها وهي أكثر إنصافاً وعدلاً وفاعلية ووئاماً، وتتيح سبيلاً نحو فهم أفضل يتيح بناء علاقات سوية بين الأمم والشعوب، وهذه الرؤية تستحق بنظري المزيد من الجهود المعرفية والتداول الفكري في سبيل بلورة مشروع حضاري صالح، يمهد للقيام بتواصل مثمر، بل يمكن عقد المزيد من الحلقات والندوات البحثية على مستويات مختلفة في سبيل اكتناه الرؤية الأكثر قرباً من الإنسان بشكل عام وبما ينسجم مع رسالة الإسلام الموجهة إلى العالم بأكمله. وهذا ما يتفق مع ما يقوله الميلاد في سياق بحثه، إذ يطالب بالاهتمام بالأفكار المنتجة محلياً وعدم الاكتفاء بالانبهار بما يأتي من الخارج ومن الغرب تحديداً ص80.
وحتى لا نستغرق في أحلامنا، فلن نجد العالم منصتا لنا، ولا بد من حضورنا فيه بطريقة كريمة، إذ لا يمكن للعالم أن يستمع لنا ما لم يحترمنا، ويدرك وزننا وأهميتنا، والإمكانات متوفرة لدينا بشكل كبير، ولا نحتاج إلا إلى التخطيط ولم الشمل والتعاضد، والكف عن الخنوع لرغباتنا الاستهلاكية الرخيصة التي تزيد من تبعيتنا، وهذا الأمر يمكن تحقيقه من خلال زيادة الوعي بهويتنا الحضارية وقيمنا القادرة على مواكبة العصر دون أن تفقد أصالتها وخصوصيتها، وقد حفل الربع الأخير من القرن العشرين بحركة إسلامية فكرية ناشطة بلورت الكثير من المشاريع التي لم تأخذ دورها ولم يتح لها أن تكتسب الخبرة والعمق، هي الآن قيد المراجعة حتى من الأنظمة السياسية التي حاولت استئصالها، وربما كان لها دور كبير فيما سبق لو أنها لم تهدف إلى الاستيلاء على السلطة ودخلت في مواجهات أفقدتها تأثيرها وامتدادها، ويبدو لي أن صحوة أخرى في الطريق، وستكون أكثر وعياً وإدراكاً لأهمية العمل من أجل الأمة لا من أجل السلطة، ونحن نلمس تحولاً نوعياً في اهتمامات الساحة بالأفكار الجديدة والاجتهادات الحديثة التي لا تفرط بالحقوق ولا تغلق الأبواب في وجه العصر. ولعل ال آلة الإعلامية الأميركية التي حاولت تصوير الإرهاب وكأنه من أركان الإسلام وما زالت تبالغ في تكريس حالة الخوف من الإسلام في أرجاء المعمورة قد أسهمت في بيان قوة الإسلام في النهوض والمواجهة، وجعلت القوى الفكرية والتيارات المختلفة تعيد حساباتها وبالتالي اعتزازها بالإسلام كقوة رادعة وحصينة وقادرة على المواجهة.
إن أهمية ما يطرحه الميلاد يكمن في بلورته ضمن إطار عام للتعامل مع العصر، بداية من فهم أنفسنا وهويتنا وتاريخنا، ومرورا بالتجديد الفقهي والسياسي والاجتماعي، وانتهاءً بتوفير الأدوات والوسائل المعرفية التي تحول مجتمعاتنا من مجتمعات مستهلكة للأشياء والمعرفة والأفكار إلى مجتمعات منتجة لها جميعاً، وأشارك الأستاذ الرأي بأن مجتمعاتنا تتعامل مع الأفكار المستوردة تماماً كالبضائع المستوردة إذ تقارن بالبضائع المحلية.
في الفصل الخامس يقدم الباحث آراء متعددة بخصوص أهمية تتبع تاريخ الأفكار الإسلامية، وهو منهج حفري كثيراً ما نجده عند الباحث الميلاد، وعدد من الكتاب والمفكرين الإسلاميين، وبطريقة تدعو للاحترام والتقدير لهذه الجهود المضنية والأساسية، ويبدأ الباحث بالتأكيد على هذا الأمر وغيره في سبيل التعريف بالمشروع الإسلامي المعاصر، وكنت أفضل لو أن الباحث استخدم كلمة مشروعات حتى لا يكون هناك وصاية أو ادعاء بامتلاك ناصية الرأي الإسلامي بشكل منفرد، ومن الواضح أن الباحث بعيد عن هذا التفكير.
ولا ينسى الميلاد أن يختتم هذا الفصل بتقدم اقتراحات لصياغة مشروع حضاري إسلامي ص98.
وفي محاولة جادة لقراءة المستقبل والآفاق المحتملة والممكنة يبحث الميلاد في التغيرات العالمية السريعة، والدراسات الإسلامية المستقبلية، فيقدم نقدا تفاعليا معها، ولا يفوته أن يشير إلى بعض الدراسات التي بحثت في مستقبل الإسلام مبيناً رأيها وما تستند إليه.
وفي ختام بحثه الذي يستغرق 137 صفحة، يطرح الباحث الملاحظات التالية:
* تفاوت النظرات العربية والعالمية في قراءتها لمستقبليات الإسلام والعالم الإسلامي.
* إمكانية التفريق بين الإسلام كدين ورسالة، وبين الإسلام كواقع وموضوع.
* الاقتناع بتعدد المسارات التي تحكم الاتجاه العام للدراسات المستقبلية.
* القصور الواضح والضعف في دراسة المستقبل.
* ضرورة القيام بصناعة ذاتية لمستقبل الأمة لا تركه للآخرين يشكلونه وفق مصالحهم ورغباتهم.
* الحالة المزرية للعالم الإسلامي تئد المساعي الرامية لتأسيس مستقبل أفضل ولا بد من تحسين هذه الحالة.
* حاجة العالم الإسلامي إلى إصلاحات واسعة وشاملة ومستمرة في كل المجالات لاهتمام بالعلم واحترامه.
* الاستفادة من تجارب العالم الحضارية.
* قدرة الإسلام العظيمة في البناء والعمران وصنع التقدم والحضارة.
ويختتم الميلاد بجملة محثة: (وقد صحت مقولة أن المستقبل يبدأ الآن، ومن هنا ينبغي أن نبدأ)ص137.
هذا الكتاب يمثل إضافة حقيقية لرصيد الأفكار العميقة، ويشكل أساساً لرؤى يمكنها أن تبلور مشروعاً حضارياً مميزاً، ولا يسعني إلا أن أوجه تحية تقدير لجهد الباحث الواضح في سبيل أطروحة أصيلة نابعة من هويتنا وشخصيتنا بأبعادها التراثية والمعاصرة، ومنابعها الثقافية والدينية والاجتماعية وبكلمة مختصرة بمنبعها الحضاري الخاص. وكلنا أمل في أن يسهم جهد الباحث في تفعيل المزيد من البحث والأفكار في عالمنا العربي والإسلامي.
انتهى

* قراءة في كتاب (المسألة الحضارية) للباحث زكي الميلاد، الصادر عن المركز الثقافي العربي /بيروت لبنان/ طبعة أولى 1999.

* كاتب وباحث سوري

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة