تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

ضوابط منهجية في التعامل مع النص الشرعي

قطب مصطفى سانو

تقديم الدراسة:

تروم هذه الدراسة إلقاء الضوء على الخصائص العامة التي يختص بها النص الشرعي الموحى به من عند الله دون سواه من النصوص الصادرة عن البشر، وذلك بغية تحرير القول في جملة الخطوات والمبادئ والأسس المنهجية الكلية التي ينبغي على المتعامل مع النص الشرعي مراعاتها والإلتزام بها عند تعامله مع النص، ولقد استندت الدراسة في استخلاص تلك الخصائص للنص الشرعي إلى التأمل في الجهة التي يصدر منها النص، كما لاحظت الدراسة الطريقة المثلى التي تميَّز بها النص عند نزوله ووروده منجماً ومفرقاً ، وفضلاً ‏عن ذلك، فإن الدراسة تمعنت في طبيعة الأسلوب الموجز والمعجز الذي تبناه النص الشرعي، ولم تفت الدراسة الالتفات إلى سمة المرونة والسعة التي غلبت على ألفاظ النص وتراكيبه ومفرداته.
وبناءً على هذا، فإنَّ الدراسة توصلت إلى حصر مهمّات خصائص النص في أربعة خصائص، وهي: خاصية إلهي المصدر، وخاصية التنجيم والتدرج، وخاصية الجمع بين الإيجاز والإعجاز في ألفاظه، وخاصية غلبة المرونة والسعة على مفرداته وتراكيبه،‏وليس من الوارد في شيء أن يجد المرء هذه الخصائص مجتمعة متوفرة في نص غير النص الشرعي، فلئن توفر في نص من النصوص بعض هذه الخصائص كخاصية التنجيم والتدرج، وخاصية المرونة والسعة، فإنه من المتعذر توفر خاصية الإيجاز والإعجاز فيه فضلاً ‏عن خاصية إلهي المصدر.
وانطلاقاً من هذا، فإن الدراسة تحاول تأصيل القول في جملة من المبادئ والأسس المنهجية الكلية المستوحاة من هذه الخصائص والتي يجب على المتعامل مع النص الشرعي مراعاته والإلتزام بها حفظاً له من التمحل والاعتساف وسوء التأويل والإساءة إلى المعنى المراد من النص، وتكاد تلك المبادئ المنهجية أن تنحصر في خمسة ضوابط أساسية، وهي: ضابط التحقق من صحة نسبة النص إلى مصدره، وضابط التجرد والتزام الموضوعية عند التعامل مع النص، وضابط اتِّباع النظرة الموضوعية التكاملية، وضابط الوقوف على مناسبات النزول والورود، وضابط الإبقاء على مراتب النصوص كما وصلتنا.
فهذه الضوابط المنهجية تمثل موجهات أولية تعين المتعامل مع النص الشرعي على الوصول إلى مراد الله ـ جل جلاله ـ بيسر وسهولة، وتوفر له ارضية تجعل فهمه للنص متسماً بالموضوعية والتجرد،كما توصله إلى حسن الربط بين معاني النصوص وحِكَمِها وأسرارها وأهدافها.

المبحث الأول:

في خصائص النص الشرعي

إننا نروم بالنص الشرعي في هذه الدراسة مجموع ألفاظ القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة الشريفة وما تدل عليه تلك الألفاظ من معاني وأحكام ومقاصد وغايات وأهداف وحِكَم وعلل سواء أكانت تلك المعاني والأحكام والمقاصد ظنيَّة أم قطعيَّة، وسميت هذه الألفاظ نصاً شرعياً لأن الشارع الحكيم هو مصدرها إن بطريقة مباشرة كما هو الحال في القرآن الكريم‏(إلهي المصدر لفظاً ومعنى) أو بطريقة غير مباشرة كما هو الحال في ألفاظ السنة النبوية التي قصد بها التشريع (إلهي المصدر معنىً لا لفظاً ).
وأما خصائص هذا النص الشرعي، فإن مرمانا منها تلك الأوصاف الخاصة التي ينفرد بها النص الشرعي كتاباً وسنة دون سواه من النصوص، ويمكننا استخلاص هذه الأوصاف من خلال تمعن النظر في مصدر هذا النص، وكيفية نزوله ووروده وأسلوبه، كما يمكننا إدراك هذه الأوصاف من خلال ملاحظة مارام هذا النص إصلاحه من أوضاع اجتماعية وفكرية وسياسية واقتصادية. وفي ضوء هذه الاعتبارات، يمكننا أن نفترض وجود أربع خصائص رئيسة للنص الشرعي، وهي:
أـ خاصية إلهي المصدر والنسبة.
ب ـ خاصية التنجيم والتدرج في النزول والورود.
جـ‏ـ خاصية الإيجاز والإعجاز في أسلوبه.
دـ خاصية المرونة والسعة على ألفاظه عند صياغة التشريعات.
وأما الخاصية الأولى (إلهي المصدر والنسبة)، فإنها تعني أن النص الشرعي هو النص الوحيد الذي ينسب إلى الخالق سبحانه وتعالى إمّا لفظاً ومعنى ـ كما هو الحال في النص القرآني ـ أو معنىً لا لفظاً ‏ـ كما هو الحال في النص النبوي، ومقتضى هذه الخاصية أن يستهل المتعامل مع النص الشرعي تعامله بالتحقق من صحة نسبته إلى مصدره، بحيث إذا تبين له كون النص منسوباً خطأ أو كذباً إلى الشارع، فإن عليه أن يتبرأ منه وأن يوفر على نفسه الجهد والوقت فلا يصرفه في البحث عن المعاني المرادة من هذه النصوص.
وبطبيعة الحال، فإننا نود أن نقرر في هذا المقام بأن اعتبارنا النص النبوي إلهي المصدر عائد إلى ترجيحنا القول بأن الأصل في كل ما يصدر عن رسول الله (ص) أنه وحي من عند الله جل جلاله مصداقاً لقوله {والنجم إذا هوى، ما ضلَّ صاحبكم وما غوى، وما ينطق عن الهوىـ إن هو إلا وحي يوحى، علَّمه شديد القوى} النجم 1ـ4. ولا يتنافى هذا في أن تصدر منه بعض النصوص بوصفه بشراً . فالغالب على النصوص الصادرة منه كونها وحياً من عند الله جلَّ شأنه.
ولهذا فإننا نتبنى في هذه الدراسة القول بكون السنة النبوية الصحيحة إلهية المصدر معنىً، وبالتالي، فإنه يصدق عليها وصف النص الشرعي الذي نهدف إلى تحقيق القول في الضوابط المنهجية التي ينبغي اتباعها عند التعامل معه.
ومهما يكن من شيء، فإن خاصية إلهي المصدر، تستلزم ـ كما أسلفنا ـ تحقق المتعامل مع النص من صحة نسبته إلى مصدره، ذلك لأن من الوارد أن تكون ثمة نصوص كما هو الحال في الأحاديث الموضوعة أو الضعيفة شديدة الضعف، تنسب خطأ أو غلطاً إلى الشارع، والحال أن الشارع ليس مصدراً لها، ولهذا، فإن العقلية المنهجية تقتضي ضرورة تحقق المتعامل من هذا الجانب مراعاة لهذه الخاصية الفذة.

وأما الخاصية الثانية (التنجيم والتدرج في النزول والورود)، فإنها تعني أن النص الشرعي تنزَّل من عند الله سبحانه وتعالى منجماً ومفرَّقاً مصداقاً لقوله تعالى {وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكثٍ ونزَّلناه تنزيلاً } الإسراء 106، ورداً على قول المشركين {وقال الذين كفروا لولا نزَّل عليه القرآن جملةً واحدةً كذلك لنثِّبت به فؤادك ورتَّلناه ترتيلاً } الفرقان 32. ومقتضى هذه الخاصية أن يلمَّ المتعامل مع النص بالظروف والمناسبات، والأحداث التي رام النص الشرعي تعديلها وإصلاحها على مراحل متدرجة تسهيلاً لحسن تفهمه وإدراك غاياته ومقاصده وغاياته (1) .
إن هذه الخاصية للنص الشرعي أمارة واضحة على كون الإسلام بمبادئه وأصوله وأحكامه ديناً لا يقفز على الواقع، ولا يستغرق فيه، بل هو واقعي بمعنى أنه يراعي واقع الإنسان فطرياً ‏ويعترف بقيمته، ولا يتنكر له، وقد اقتضت هذه الواقعية في النص الشرعي «.. التدرج بالإنسان، وإعانته شيئاً فشيئاً على التخلي عن الجاهلية وعاداتها المستحكمة، والتحلي بالإسلام وفضائل الأخلاق. وهذا المعنى يصدق في كل عملية تربوية، فلابدّ من التدرج في التربية والتعليم، ولا بد من المقدمات، لتكون النتائج، ولابد من تهيئة النفوس والعقول لمساعدتها على تقبل الأحكام الجديدة، ولإعانتها على التخلص من عاداتها السيئة.. وما يقال عن تربية الأفراد يقال كذلك عن تربية المجتمعات وتغيير علاقاتها، ذلك أن كل تغيير اجتماعي يستدعي فهماً عميقاً للمجتمع الذي هو موضوع النظر، وللعوامل المؤثرة في سيره وحركيته،ثم بعد ذلك يقع الارتقاء بهذا المجتمع نحو تحقيق المبادئ والمثل والبرامج.. وبذلك تصبح العملية التربوية قابلة للتطبيق، وتصبح مناهج التغيير الاجتماعي واقعية لا خيالية «طوباوية»..» (2) .
وعلى العموم، فإن الخاصية تقتضي من المتعامل مع النص الشرعي ضرورة مراعاة الظروف والأحداث التي نزل النص الشرعي مواكباً لها، بحيث لا ينبغي فهم النصوص الواردة إزاء تلك الظروف والأحداث المنفصلة ومتباينة عن فهم ذات الظروف والأحوال، لأن تلك النصوص، وإن اختلفت في فترات نزولها، بيد أنها جيء بها كلها تدريجياً لمواجهة الظروف، والأحداث من جميع جوانبها، مما يعني أن فهم جزء من نص كلي بعيداً عن بقية الأجزاء فهمٌ غير سديد، ولا سليم،‏لتجاوزه هذه الخاصية التي ينفرد بها النص الشرعي. وأما وجه انفراد النص الشرعي بهذه الخاصية، فلأن النصوص غير الشرعية لا تتسم بهذا الأمر، لعدم معرفتها بمآلات الأمور، ومصائرها، نعني أن الشارع لم يكن غافلاً عما كان سيؤول إليه الأمر، وهو يورد جزءاً من نص كلّي يمهد به إيراد جميع أجزاء النص في مرحلة معينة، وذلك لأنه لا يخفى عليه ما كان، وما يكون وما سيكون. وليس ثمّ صاحب نص يتصف بهذا الأمر، بل جلُّ النصوص البشرية المصدر تأتي إما لوصف أمر مضى،‏أو لوصف أمر قائم، أو استشراف أمر مستقبل، ولكنه لا يستطيع أن يأخذ في الاعتبار هذه الأمور الثلاثة في آن واحد، ويتحقق كلها كما توقعها وافترضها. وعليه، فإن متفهم النص الشرعي ينبغي له أن يراعي هذه الخاصية، وينظر في النصوص نظرة موضوعية شمولية تكاملية، بحيث يفصِّل ما ورد مجملاً بما ورد مفصلاً ، ويخصص ما ورد عاماً بما ورد خاصاً ، ويحمل ما ورد مطلقاً على ما ورد مقيداً . وبهذا ينجو المرء من ضرب النصوص بعضها ببعض، ومن التعسف في فهم مقاصد الشريعة وراء التنجيم والتفاوت في التأويل والورود.
فصفوة القول، إن هذه الخاصية توجب على المتعامل مع النص الشرعي حسن إدراك العلاقة الترابطية والتكاملية بين مختلف النصوص، بحيث يغدو قادراً ‏على الجمع بين النصوص التي تعالج قضايا مماثلة‏وتحاول تقديم تفسير متزن، كما أن هذه الخاصية تستلزم التجرد والموضوعية عند التعامل مع النص الشرعي، وفضلاً ‏عن ذلك، فإنها تقتضي الابتعاد عن ضرب النصوص بعضها ببعض، وإدعاء وقوع التناقض أو التضارب أو التنافر بين الأحكام التي تنتظمها النصوص الشرعية.
وأما الخاصية الثالثة (الإيجاز والإعجاز والإنجاز في أسلوبه) فإنها تتمثل في المستوى البلاغي الرفيع الذي يتميز به النص الشرعي دون سواه، وإذا كان معلوماً بأن جلالة المتكلم تنعكس على كلامه وعلى اسلوبه، وتتجلى في ألفاظه، ومفرداته، ولهذا فلا غرو أن يجد المرء في النص الشرعي تفوقاً ، ليس بعده تفوق من حيث المستوى البلاغي،‏واللغوي، ولكنه تفوق لايعلو على أفهام العامة، ولا يقصر عن مطالب الخاصة (3) ، ويمكن للمرء أن يلاحظ هذا التفوق في جمع النص الشرعي بين طياته إيجاز اللفظ مع الوفاء بالمعنى، واستخدام أسلوب أدبي راقٍ يخاطب العقل والقلب معاً ، ويستثير أحاسيس المخاطبين، مما يجعله أكثر قدرة على الإقناع، والإرشاد، ويتبين هذا الأمر أكثر فأكثر عندما يلقي الإنسان نظرة متأنية في الأسلوب الغالب على الصياغات القانونية الحديثة للأحكام التشريعية في القوانين الوضعية، فسيجد «.. نصوصاً ‏جافة تخاطب في الإنسان فكره، ولا تحرِّك مشاعره، وعواطفه، وهي تشرِّع الأحكام في صورة أوامر ونواهي، أو في صورة مواد، وهذا الأسلوب الجاف الذي يسير على طريقة واحدة، ليس من شأنه أن يربِّي في نفوس أفراد المجتمع الذي يشرِّع له الإيمان بهذا القانون والاقتناع به» (4) .
وعلى العموم،‏فإن مقتضى هذه الخاصية أن يكون المتعامل على وعي وإدراك بهذا الجانب في النص الشرعي، وأن يستحضره عندما يعمد إلى الاجتهاد في فهم نص من نصوص الشرع،فضلاً عن أنها تقتضي من المتعامل الابتعاد عن إدّعاء العصمة والسداد المطلق لما يتوصل إليه من فهم لألفاظ ودلالات النص الشرعي، إذ إن مفاد إعجاز النص الشرعي أن تظل أفهام البشرية لمعانيه ومراميه ومقاصده خاضعةً للنقص وعدم الكمال، مما يفتح المجال كل المجال أمام الأجيال المتعاقبة على تجدد فهم المرامي والمقاصد والأحكام.

وأما الخاصية الرابعة (غلبة المرونة والسعة على ألفاظه)، فإنها تتمثل في غلبة المرونة والسعة على ألفاظ النص الشرعي، ويمكن ملاحظة هذه المرونة من خلال ما تتميز به التشريعات المبنثقة عن النص الشرعي من يسر وتخفيف ورحمة، ومصلحة، ومن قدرة فائقة على الوفاء بحاجات كل المجتمعات الإنسانية عبر التاريخ، فضلاً ‏عن تضمن هذا النص علاجاً لكافة المشاكل والأزمات في شتى بقاع الأرض، وتتجلى هذه المرونة والسعة في النص الشرعي في كونه نصاً ‏يخاطب العقل والقلب، ويسمو بالروح والفطرة، ويقدم جلب مصالح العباد على مفاسدهم، ويأخذ في الاعتبار تقلبات الزمان واختلاف البيئات والأعراف والتقاليد، ويوازن في مفرداته وتراكيبه بين ما يسمو بالروح وما يحمي المادة، وبين ما يدفع إلى أخذ النصيب من الدنيا وعدم نسيان الآخرة. إنه يمكن للمتعامل مع النص الشرعي ان يقف على خيوط هذه المرونة والسعة في الشريعة من خلال التأمل في انتظامها نوعين من النصوص، عني الأول منها بإيراد الأصول والمبادئ التي لا تقبل التغيير ولا التبديل في صياغات قطعية مطلقة تخاطب الإنسان من وراء البيئات والأزمنة والأمكنة والظروف، ولا يقبل هذا النوع من النص الشرعي التطور والتغير بتغير الزمان والمكان... ويعرف هذا النوع من النص الشرعي بالنصوص القطعية دلالة وثبوتاً . وأما النوع الثاني من النص الشرعي، وهو النوع الغالب، فإنه عني بإيراد تشريعات وأحكام ومبادئ تؤثر في تفهمها عوامل البيئة والعادات والثقافات والظروف الفكرية والاجتماعية والسياسية، مما يؤدي إلى تعددية الفهم وتجدده وتبدله بتبدل الزمان والمكان والأحوال.. ويعرف هذا النوع من النص الشرعي بالنصوص الظنية دلالةً.
أجل، إن المقصد الأسمى من هذه الخاصية يتمثل في التيسير على العباد ورفع الحرج عنهم مصداقاً لقوله {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر}، فالشارع الحكيم لم يرد أن «.. يجعل نصوصه «لوائح» تنظيمية تفصيلية، وإنما أرادها منارات هادية لمن أراد السير، لهذا اهتم بالنص على المبادئ والأهداف، ولكن لم يعن بالنص على الوسيلة والأسلوب إلا في أحوال خاصة لحِكَم واسباب هامة، وذلك ليدع الفرصة لعقول البشر، ويفسح الطريق لاجتهاد الإنسان المسلم،‏كي يختار لنفسه الوسيلة المناسبة، والصورة الملائمة لحاله وزمنه وأوضاعه دون قيد أو حرج..» (5) .
وعليه فإن إدراك المجتهد المتعامل مع النص الشرعي هذا الجانب عند اجتهاده في فهم نص شرعي أمرٌ مهمٌ للغاية، لأنَّ العلم به هو الذي يورث لديه القدرة على حسن الفهم، وعلى حسن التعامل مع النص الشرعي بشقيه القطعي منه، والظني بحيث لا يتعسف في الخلط بينهما، والتعامل معهما بشفافية واحدة، فضلاً عن أن هذا سيعصمه من الخلط بين مراتب النصوص وتحويل القطعي منها إلى الظني أو الظني إلى القطعي، كما سيحميه من إساءة فهم أساليبها ومغازيها، إذ أن هذه «الأساليب في عرض الحقيقة الدينية تقوم في أدائها للمعروض على قواعد وضوابط، بعضها يرجع إلى قانون اللسان العربي في الدلالة، وبعضها يرجع إلى العلاقة بين النصوص قرآناً وحديثاً ، وبعضها يرجع إلى العلاقة المنطقية بين الكل والجزء، والعام والخاص، واللازم والملزوم، من الحقائق المعروضة، وهي بضوابطها وقواعدها المختلفة في الأداء تتضافر على تبليغ الدين إلى الإنسان، وهو في تحمل هذا المضمون فهماً واستيعاباً لابد أن يكون على بينة من تلك القواعد والضوابط، حتى يتم له فهم الدين على أساس متين..» (6) .
وإننا نخلص إلى القول بأن هذه الخاصية الأخيرة تؤكد قابلية النص الشرعي في معظم ألفاظه التعددية وتجدد فهم معانيه ومقاصده ومراميه بتجدد الأحوال والظروف التي تؤثر في تشكل الأفهام وتكوينها.
وهكذا نصل إلى نهاية تحليلنا لأهم الخصائص التي يتميز بها النص الشرعي، وينبغي أن ينبثق استخلاص الضوابط المنهجية للتعامل مع هذا النص من خلال مراعاة هذه الخصائص.
على أنه من الجدير بالذكر أننا نروم بمصطلح الضوابط المنهجية في هذه الدراسة تلك المبادئ والخطوات المنهجية المترابطة المبثقة عن خصائص النص الشرعي، والتي ينبغي على المتعامل مع النص الشرعي أن يراعيها قصد الوصول إلى فهم سديد لمراد الشارع ـ جل جلاله ـ من النص، وحسن التعامل مع مقاصد الشارع من وراء النص.. ويمكننا أن نلخص أهم تلك المبادئ المنهجية في ضوابط خمس أساسية، وهي ضابط التحقق من صحة نسبة النص إلى مصدره، وضابط الوقوف على مناسبات النزول والورود، وضابط النظرة التكاملية الموضوعية في النص، وضابط التجرد والموضوعية عند إرادة تفهم النص، وضابط الإبقاء على مراتب النصوص كما وصلتنا.
وكل واحد من هذه الضوابط المنهجية يحتاج منا إلى تأصيل القول في مبناه ومعناه وسبل تحققه وتمثله في أرض الواقع.

المبحث الثاني:

الضابط المنهجي الأول: التحقق من صحة نسبة النص إلى مصدره

لئن حددنا مرادنا بالضوابط المنهجية بأنها عبارة عن الأسس والمبادئ والخطوات المنهجية الكلية التي ينبغي على المتعامل مع النص الشرعي مراعاتها، وذلك قصد تسديد فهمه لدلالات النص ومراميه، وبغية توفير أرضية له تعصمه من الزلل والاعتساف في فهمه لمراد الشارع الحكيم من نصه، فإن أهم تلك الضوابط والمبادئ تتمثل في نظرنا في تحقق المتعامل مع النص من صحة نسبة ذلك النص إلى مصدره، ومرمانا بهذا الضابط أن يعنى المتعامل مع النص بالتثبت والتأكد من كون النص المراد تفهم المراد منه، نصاً منسوباً نسبة صحيحة إلى مصدره الذي هو الشارع، وبتعبير آخر عليه أن يستوثق من كون النص نصاً شرعياً يقيناً ‏(متواتراً )، أو ظناً غالباً ‏(مشهوراً أو آحاداً ).
إذ إنه مهما بذل المجتهد من جهد جهيد في فهم نص، ومهما تفانى وأخلص في سعيه إلى التوصل إلى المراد الإلهي من نص، فإن سعيه كله يظل جهداً وسعياً غير معتبرين، ولا مهمين إذا ما لاح في الأفق عدم صحة نسبة ذلك النص إلى مصدره، وتبين كونه نصاً لا تصح نسبته إلى مصدره يقيناً قاطعاً ، كما هو الحال في النصوص الحديثية الموضوعة، أو لا تصح نسبته يقيناً فقط، كما هو الحال في القراءات الشاذة غير المتواترة، وفي الأحاديث الضعيفة غير شديدة الضعف، كالأحاديث الحسنة لغيرها.. ولذلك، فلكي يستفيد المجتهد من وقته، وجهده، ينبغي له ان يعنى بمراعاة هذا الضابط، ويقدمه على أي إجراء منهجي يقوم به عند إرادته فهم نص شرعي لكونه الأساس الذي يهدف الاجتهاد إلى فهمه، وإلى العمل بمقتضاه في حالة صحة نسبته إلى مصدره.
على أنه من الحري بالتحقيق والتقرير أن مراعاة هذا الضابط يكاد ينحصر في النوع الثاني من النص الشرعي وهو النص النبوي الشريف، وأما النص القرآني، فإنه يكاد يستغني عن هذا الأمر، وذلك لأنه لا حاجة للتحقق من صحة نسبته إلى مصدره، لأنه قطعي من حيث الثبوت بإجماع الأمة. وإن يكن من تحقق في صحة نسبة النص القرآني إلى مصدره، فإنه لا يتجاوز التحقق من صحة بعض القراءات الواردة لبعض ألفاظ النص القرآني، نعني أنه لو أراد مجتهد ـ مثلاً ـ أن يفهم من قوله عزَّ وجلَّ في سورة المائدة {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين..} أن فرض الرجلين في الوضوء هوالغسل، فإنَّ ذلك يقتضي منه التحقق من صحة قراءة نصب «أرجلكم» (7) لكي يكون معطوفاً على «وجوهكم وأيديكم»، بحيث لو لم تصح تلك القراءة لما جاز له أن يستنبط من هذا النص حكماً شرعياً متمثلاً في وجوب غسل الرجلين في الوضوء، وكذلك الحال إذا ما أراد مجتهد آخر أن يفهم من النص القرآني المذكور أن فرض الرجلين في الوضوء المسح، وليس الغسل، فلا بد له من التحقق من صحة قراءة جرِّ «أرجلكم» لكي يكون معطوفاً على قوله «فامسحوا برؤوسكم». فهذا هو القدر الذي يحتاج إليه للتحقق منه على مستوى النص القرآني، ولا حاجة إلى تجاوز هذا القدر عند التعامل مع النص القرآني المجمع على صحة نسبته إلى مصدره جلّ جلاله، فإذا انتظم النص الشرعي القرآني أكثر من قراءة، كان ذلك مبرِّراً للتحقق من القراءة الجديرة بالاعتبار والاعتماد عند استنباط الأحكام الشرعية منه.
ومهما يكن من شيء، فإننا نخلص إلى القول بأن هذا الضابط يكاد أن يتمحور حول النص الشرعي النبوي بصورة آكد وأوضح.

المبحث الثالث

الضابط المنهجي الثاني: الوقوف على مناسبات النزول والورود

مما لا يمارى فيه أن النص الشرعي بشقيه القرآني والنبوي استهدف يوم نزوله ووردوده إصلاح الفرد والمجتمع، وإصلاح أحوالهما، وظروفهما، والأخذ بأيديهما نحو سبيل الرشاد والفلاح في الدنيا والأخرى. وليس من شك أن ثمة جوانب في حياة الفرد والمجتمع أيامئذ اتسمت بالانحراف والضلال، عن سواء السبيل، وعدم التقيد بوحي السماء، وببقية الباقية من أصول الحنيفية التي مسَّها يد الظلمة والطغاة بسوء، وغيَّروا فيها تغييراً جذرياً ، مما نتج عنه تحوُّل الحياة الإنسانية في كثير من جوانبها إلى حياة سكان الغابة، وصيرورة جزء لا يستهان به في تلك الحياة جحيماً لا يطاق، وحدِّث، ولا حرج عن شيوع قطع الأرحام، وانتشار ظلم الضعفة، وتفاقم تسلط الجبابرة، وتكبر الطواغيت، وحدِّث ولا حرج، عن الحقوق المهضومة، والمهدرة، وحدِّث عما شئت من أصناف الجور، والبغي والطغيان التي عمَّت بلواها، وفشَّت غلواها (8) .
إن وضعاً اجتماعياً بهذا المستوى، ما كان لخالق العباد الحكيم الرؤوف القدير ليذره يتفاقم ويتعاظم، ويبلغ سيله الزبى، لذلك، شاءت الإرادة الإلهية أن تمد الأرض بمدد يأتي على حياة كتلك، ومجتمع كذاك من أساسها بالإصلاح، والتعديل، والتغيير الجذري المكين. فكانت بعثة الرسول الصادق الأمين الوفي الذي علت نفسه الكريمة وتقززت من وضع كهذا، فاستنكفته، وكرهته، وما آلى جهداً في إصلاحه، واستئصال بؤرة الفساد والطغيان فيه من أساسها.. وقد اختار رب السماء، جلَّ جلاله، لتغيير ذلك الوضع المتردي والمهين للفرد والمجتمع منهج التدرج، والاستدراج، فكانت الآيات التي أنزلها لمعالجة ذلك الواقع تنتهز في أحيان كثيرة فرصة حدوث حادثة متمركزة في النفوس وشائعة في المجتمع ليغيرها تغييراً جذرياً مفهوماً لكل أحد إذ يرتبط الرفض الإلهي لذلك الوضع بنموذج ومثال، يدرك كل منهم أن مثيلاته القائمة أو التي ستقوم في المستقبل كلها ملغاة، ومرفوضة، فلا يبقى ثمة حاجة إلى تفصيل أو توضيح، أو شرح. وفي بعض الأحيان، كانت الآيات والأحاديث ترد ابتداء دونما انتظار لوقوع حادثة من الحوادث، وإنما تكون معلومة للشارع الحكيم أن وضع الفرد والمجتمع صالح لتشريع تلك الشريعات لهما، وأنه لن يكون ثمَّ إشكال في تقبلهما لتلك التشريعات، وذلك لما آل إليه شأنهما، ومستواهما المعرفي، والالتزامي، والديني والذي لم يعد متمرداً تمرداً كلياً على وحي السماء.
ولهذا، فإنَّ الناظر في النص الشرعي ليجد ثمَّ تفاوتاً سواء بين فترات نزول الآيات،‏وورود الأحاديث، وربما فهم المتعجل أن ذلك التفاوت في النزول والورود عائد إلى عدم إدراك المشرع، تعالى شأنه، عن مآلات الأمور، ولكنَّ فهماً ، كذلك، بدائي، وصبياني، لأن وجود النص الشرعي سابق على تلك الأحداث، والأوضاع، إذ كان معلوماً لصاحب النص، جلَّ جلاله، هذا الوضع قبل وقوعه، وما سيكون بعد وقوعه، إذْ إنه ـ عزَّ شأنه ـ فصَّل كل شيء قبل أن ينزله على الرسول (ص) بل إن أحكام الواقعات والأحداث كلها كانت مفصلة في اللوح المحفوظ، ومن هناك إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم من السماء الدنيا نزلت الآيات مفرَّقاً منجَّماً على الوقائع في ثلاث وعشرين سنة تهيئة للنفوس، ورأفة بها، وتمكيناً للقلوب من استيعابها وفهمها. وقد وردت الإشارة إلى هذه الحكمة في كثير من آيات الذكر الحكيم كقوله {وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث، ونزلناه تنزيلاً } الإسراء 106، وقوله تعالى {وقال الذين كفروا لولا نزِّل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت فؤادك ورتَّلناه ترتيلاً } الفرقان 32. وقوله تعالى {حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم} الدخان 1ـ4. وقوله جل جلاله {إنا أنزلناه في ليلة القدر وما أدراك ما ليلة القدر ليلة القدر خير من ألف شهر} القدر 1ـ3. وقوله تبارك اسمه {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً ‏أو على سفر فعدة من أيام أُخر} البقرة 185. فهذه الآيات وغيرها تدل على وجود أحكام الواقعات قبل وقوعها، ولله حكمة بالغة في ربط النص الشرعي في بعض الأحيان بظروف ومناسبات، وأحداث تعين اللاحقين على حسن فهم ذلك النص، وعلى حسن إدراك أبعاده ومراميه.
وبناء على ما سبق، فإننا نستعجل القول بأن لنزول الوحي ـ كتاباً ‏وسنة ـ سبباً حقيقياً كلياً يتمثل في الإصلاح الكلي الشامل للوضع الاجتماعي المتأزم من جميع الجوانب، وأما ارتباط ورود بعض النصوص بأحداث ومناسبات، فيعود ذلك إلى المنهج التربوي التعليمي المتمكن الذي اختاره الشارع في التغيير والتعديل، وليس إلا. ولذلك، فليس من المقبول في شيء أن يتوقف فهم المجتهد للنص على ذلك الحدث، أو تلك المناسبة، وإنما ينبغي له أن يجعله متعدياً ، وغير متوقف البتة عند ذلك الحدث، أو تلك المناسبة، ومما يدل على هذا الأمر دلالة واضحة أنه من الممكن جداً الوصول إلى معاني آيات وأحاديث كثيرة دونما معرفة أسباب نزولها أو وردوها، ذلك لأن الأسلوب الذي يرد به النص الشرعي يكاد يوضح المعنى المراد للشارع في حالة عدم توقف المجتهد على سبب وروده. ولكن معرفة سبب النزول والورود يزداد المعنى لدى المجتهد وضوحاً وجلاءً وصفاءً، الأمر الذي يجعل معرفة سبب النزول والورود أمراً ذا أهمية قصوى، ومكانة عليا في حسن فهم النص الشرعي، وإدراك المراد الإلهي منه. ورحم الله الإمام الدهلوي الذي أشار إلى هذا الموضوع إشارة تستحق الإشادة والتقدير، فقال مبيناً السبب الحقيقي وراء نزول الآيات، وورد الأحاديث:
«.. وقد ربط عامة المفسرين كل آية من آيات الأحكام، وآيات المخاصمة بقصة تروى في سبب نزولها، وظنوا أنها هي سبب النزول، والحق أن نزول القرآن الكريم إنما كان لتهذيب النفوس الإنسانية، وإزالة العقائد الباطلة، والأعمال الفاسدة. فالسبب الحقيقي، إذاً ، في نزول آيات المخاصمة هو وجود العقائد الباطلة في نفوس المخاطبين. وسبب نزول آيات الأحكام إنما هو شيوع المظالم، ووجود الأعمال الفاسدة فيهم. وسبب نزول آيات التذكير (بآلاء الله وايامه وبالموت) إنما هو عدم تيقظهم، وتنبههم بما يرون، ويمرون عليه من آلاء الله، وأيامه، وحوادث الموت، وما سيكون بعده من وقائع هائلة..» (9) . وإذا كان ما ذكره الإمام الدهلوي، رحمه الله، هو السبب الحقيقي لنزول الآيات ووردود الأحاديث، فما الغاية إذاً ، وراء ارتباط نزول بعض الآيات وورود بعض الأحاديث بأحداث ومناسبات خاصة؟ يجيب الدهلوي عن هذا قائلاً :
«.. أما الأسباب الخاصة، والقصص الجزئية التي تجشَّم بيانها المفسرون‏فليس لها دخل في ذلك إلا في بعض الآيات الكريمة التي تشتمل على تعريض بحادث من الحوادث في عهد النبي (ص)، أو قبله بحيث يقع القارئ بعد هذا التعريض، في ترقب وانتظار لما كان وراءه من قصة، أو حادث، أو سبب، ولايزال ترقبه إلا ببسط القصة، وبيان سبب النزول..» (10) .
وإذا تبين لنا حقيقة سبب النزول والورود، فإننا نشفع ذلك بالإشارة إلى ما تلعبه معرفة سبب النزول والورود في عملية الاجتهاد في فهم النص من دور عاصم للاجتهاد من التعسف، والجور. ويمكن القول بأنَّ معرفة سبب النزول والورود تجعل المجتهد عائشاً في الجو الذي نزل فيه النص الشرعي، وتجعل فهمه للنص فهماً متسماً بالواقعية، والوضوح، كما تمكنه من إدراك الأبعاد القريبة والبعيدة من النص، لأن العلم بالسبب، كما يقال، يُورثُ العلم بالمسبَّب، وليس وارداً تمكن المجتهد من فهم النص الشرعي، وخاصة منه النصوص التي ارتبط نزولها ووردودها بأحداث ومناسبات، إذا لم يتحقق له الوقوف على سبب النزول والورود، والذي يعني في نظرنا معرفة مقتضى الحال الذي كان قائماً ‏وقت نزول ووردود النص، ومعرفة أحوال الناس المخاطبين بهذا الشأن مخاطبة مباشرة، وغير مباشرة. وعدم معرفة أسباب النزول والورود كثيراً ما يوقع المجتهد في التعميم التعسفي حيناً ، وفي التخصيص الضيق حيناً آخر، وفي التقييد الجزئي طوراً ، وفي الإطلاق التعميمي تارة، ولذلك، فإنَّ كثيراً من العلماء كالإمام الواحدي (11) ، رحمه الله، ذهبوا إلى القول بأنه لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها، وبيان نزولها، وأن هذه المعرفة لازمة لحسن فهم القرآن، ولا يصح لمجتهد الاجتهاد قبل أن يحصِّلها تحصيلاً ، وفي ذلك يقول الإمام الشاطبي، رحمه الله: «.. معرفة سبب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن، والدليل على ذلك أمران:
أـ أن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن، فضلاً ‏عن معرفة مقاصد كلام العرب، إنما مدارُه على معرفة مقتضيات الأحوال حال الخطاب، من جهة نفس الخطاب، أو المخاطِب، أو المخاطَب، أو الجميع، إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين، وبحسب مخاطبين، وبحسب غير ذلك، كالاستفهام، لفظه واحده، ويدخله معان أخر من تقرير، وتوبيخ،‏وغير ذلك.. وليس كل حال ينقل، ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة،فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيء منه، ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط، فهي من المهمات في فهم الكتاب بلا بدٍّ، ومعنى معرفة السبب هو معنى معرفة مقتضى الحال..
ب ـ الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشُّبه، والإشكالات، ومورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال حتى يقع الاختلاف، وذلك مظنة وقوع النزاع...» (12) . ويؤكد الشيخ القرضاوي على أهمية هذا الضابط، خاصة بالنسبة للسنة ـ فيقول: «.. إذا كانت معرفة اسباب نزول القرآن لازمة لمن يريد فهم القرآن،‏فإن معرفة أسباب ورود الحديث ألزم لمن يريد فهم السنة، لأن القرآن بطبيعته عامٌّ لكل الأحوال، والأمكنة، والأزمنة. أما السنة، فكثيراً ما تأتي لعلاج قضايا خاصة، وأوضاع معينة يتغير الحكم بتغيرها..» (13) .
وبهذا يتبين لنا ما لمعرفة سبب النزول والورود من أهمية ومكانة في حسن فهم النص الشرعي، وفي حسن تنزيل المعاني المفهومة منه على الواقع، ولا يليق بمجتهد هادف إلى التوصل إلى المراد الإلهي من نصه التغافل عن هذه المعرفة، وصرف النظر عنها، لأن مردَّ ذلك سوء فهم المراد الإلهي، وإساءة التعامل مع نصه تحريفاً ، وانتحالاً ، وغلواً ، وكل أولئك آفات حذر منها رسولنا الأعظم (ص) عندما قال: «يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدولُه، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين،‏وتأويل الجاهلين» (14) .
وبعد أن أثبتنا أهمية معرفة أسباب النزول والورود في فهم النص الشرعي، فهل يعني ذلك ضرورة ربط أحكام ومعاني النصوص بأسبابها ومناسباتها، أم أنه لا تليق بتلك المعرفة أن تتجاوز دائرة الاستئناس والاستعانة في التوصل إلى حسن فهم للنصوص؟ وبتعبير آخر ما هي العلاقة بين السبب والنص الشرعي من حيث الوجود والعدم؟
وقبل فصل القول في هذا الأمر نود أن نذكّر بما أسلفناه في مستهل هذا الموضوع وهو أنَّ الشارع قد قصد من ربطه بعض نصوص الوحي ـ كتاباً ‏وسنة ـ بأسباب ومناسبات اتباع المنهج التربوي التعليمي في التغيير والإصلاح، فكأنّما تلك المناسبات والأسباب نماذج للوضع الذي استهدف النص الشرعي تغييره، وتبديله برمته. لعلنا سنبقى على استذكار واستحضار لهذا المر، ولننتقل إلى عرض جملة من المحاولات الرامية إلى تكييف علاقة النص الشرعي بسبب وروده ونزوله من أهمها:
أـ العلاقة بينهما علاقة سبب بمسبب، وتعني هذه الوجهة أنه يجب ربط النص بسببه مطلقاً ، لأنه هو سبب وروده، وما كان للنص لأن يرد لولا ذلك السبب، ولذلك، فإن السبب مؤثر في وجوده، بحيث إذا انعدم يجب أن ينعدم معه النص، وما يحمله من معنى حكماً أو مقصوداً . وهذا التفسير لعلاقة النص بسبب وروده، تفسير ينظر إلى أسباب النزول بأنها أسباب تاريخية خاضعة للظروف، وللبيئة وللزمان، والمكان تسري عليها ما يسري على غيرها من النسبية وعدم الإطلاق، بمعنى أن تلك الأسباب استدعت نزول وورد النص لظروف معينة، فإذا ما تولت تلك الظروف، ينبغي أن يتولى معها النص الشرعي مطلقاً (15) .
ب ـ العلاقة بينهما تختلف باختلاف النص، وتعني أن بعض النصوص تابعة لأسبابها وجوداً ‏وعدماً ، وتلك أسباب تاريخية، وبعض آخر لا ترتبط بأسبابها ارتباط العلة بالمعلول، ولا ارتباط السبب بالمسبب، وتلك أسباب فوق تاريخية، وكل ذلك يعرف عن طريق النظر إلى طبيعة النص الذي ارتبط وروده بسبب من الأسباب. وهذا التفسير ينظر إلى اسباب النزول والورود على أنها قد تكون أسباباً تاريخية في بعض الأحيان لوجود قرائن دالة على تاريخيتها، وقد تكون أسباباً فوق تاريخية متعالية على الزمان والمكان، والأعيان،‏وذلك لوجود قرائن معينة دالة على هذه الخصوصية للسبب وللنص.
جـ ـ العلاقة بينهما علاقة أمر كلي (نص) بأمر آخر جزئي (سبب)، وتعني أن النص الشرعي كلي في مضامينه، ولكن نزوله ووروده ارتبط بأمر جزئي في مضامينه، ولذلك ما كان ورود النص ليتوقف على وجود هذا الجزئي، بمعنى أن النص كان سيرد ولو لم يكن هناك ذلك الجزئي المسمى بالسبب، وهذه الوجهة في تكييف علاقة النص بسببه تنظر إلى أسباب النزول بأنها اسباب، وإن كانت تاريخية، غير أنها فوق التاريخ ذاته،‏ولا تخضع لما تخضع له الأسباب التاريخية من النسبية والجزئية الحقيقية، بل هي اسباب دالة على وضع كلي جاء النص الكلي في محتواه لمخاطبة ذلك الوضع الكلي بطريقة غير مباشرة، ولذلك ليس مقبولاً ربط وجود النص بوجود ذلك الجزئي، ولا ربط وروده،في حقيقه الأمر بوقوع ذلك الوضع الجزئي. وينتهي الأمر بهذا التفسير إلى اعتبار أسباب النزول نماذج ودلائل وأمارات على أسباب حقيقية، يتوقف إدراكها إدراكاً حسناً ‏على إدراك هذا النموذج، مما يعني ضرورة النظر إلى الأسباب المذكورة بوصفها أدوات مُعينات ومُساعدات على حسن فهم النص، وإدراك مراميه، ومغازيه، وأبعاده (16) .
تلك هي المحاولات، التي نخالها رامت ذات يوم، ولا تزال، تروم تكييف علاقة النص بسبب وروده ونزوله، وكلها دونما شك اجتهادات بشرية متأثرة بالخلفيات والمنطلقات، وأيا ما كان الأمر، فإن النظر الحصيف فيها تهدي صاحبها إلى اعتبار المحاولة الأولى بعيدة، وغير موضوعية، ولا علمية، بل إنه يمكن اعتبارها محاولة تتجاهل خصائص النص الشرعي، وتتغافل حقيقية الوحي الإلهي، بل تتوغل في السطحية عندما تنظر إلى النص الشرعي كنظرتها إلى أي نص بشري آخر، وذلك خلل في الموازنة والمقارنة، والنقد.

ولهذا، فإن ذلك التوجه في تكييف علاقة النص بسببه،‏توجه مشبوه، وكثيراً ما، صدر عن أناس لا يؤتمنون على دين الله، وعلى دين أنفسهم، فهو كما يقول أحد العلماء المفكرين المعاصرين: «.. نزعة نلحظ فيها رواجاً لدى من يرومون المروق من مبدأ الاستمرارية في الهدي الديني، حيث جنحواýإلى تخصيص الكثير من أحكام الوحي بأسبابها الظرفية، وجعلوا ذلك مبرر الاستعاضة عنها بأحكام وضعية. ومن البين أن هذه النزعة كفيلة بأن تهدم الدين أصلاً ، وحيث تنتهي به إلى وضع من التاريخية ينقطع به عن الحياة، ويؤول به إلى العطالة الكاملة..» (17) .
ولهذا، فإننا نعتقد أنه ينبغي نبذ تلك المحاولة، وعدم الاعتراف بها لفقدانها الموضوعية،‏لأنها لم تحاول التعرف على خصائص النص الشرعي قبل إلحاقه بغيره من النصوص، ولفقدانها العلمية في الطرح لأنها تتجاهل الأهداف والمقاصد التي يهدف النص الشرعي إلى تحقيقها في واقع الأمر عن طريق منهجيته الخاصة به، إذْ ما كان للنص الشرعي، كتاباً وسنة، ليطمح إلى أهداف ومقاصد عليا سامية تتمثل في إصلاح الفرد والمجتمع عقائدياً ، وفكرياً وتربوياً ، واجتماعياً ، واقتصادياً ، وسياسياً الخ..، ما كان له وتلك أهدافه، وغاياته أن يربط نفسه بأحداث ومناسبات نسبية غير دائمة. بل هو نص لم يكن يجهل الماضي، ولا الحاضر، ولا المستقبل، ولذلك، تسويته بغيره من النصوص القاصرة عن إدراك هذه الأبعاد الثلاثة في طروحاته ليست سوى مكابرة، وتعسف. وعليه، فإن تلك المحاولة ذات نزعة تجاهلية. وكل هذا يبرر عدم الاعتراف بها مطلقاً .
وأما بالنسبة للمحاولة الثانية، فإننا نعتقد أنها نابعة عن حسن نية خدمة دين الله، والدفاع عنه بإبراز ترابط معانيها ومقاصدها، بيد أنها لا تخلو هي الأخرى من مآخذ يتمثل أهمها في اعتمادها على القرائن في اعتبار أسباب تنزيل (نزول معينة) تاريخية، واعتبار أخرى أسباباً فوق تاريخية، بل إن القاعدة التي اتخذوها سنداً ، وعماداً ينازعهم في قاعديتها أصوليون آخرون حيث إنهم يعكسونها، ويرون أن العبرة بخصوص السبب لا بعموم اللفظ، الأمر الذي يأتي على أساس حجتهم، ورأيهم بالنقد، والإبطال. ثم إن القرائن التي انتهوا إلى ضرورة النظر فيها قصد تحديد نوعية السبب غير مطردة في كل الأحوال، بل ربما تخلفت في بعض الأحيان، كما هو الحال، على سبيل المثال، في قوله تعالى في آية {ولا تحسبن الذين يفرحون بما أوتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا لا تحسبنهم بمفازة من العذاب} فقد اشتملت هذه الآية بألفاظ عموم، ولكنها مع ذلك تبقى آية خاصة، أي تبقى العبرة فيها بخصوص السبب لا بعموم اللفظ، وأمثال هذا المثال كثيرة، الأمر الذي يعتبر مأخذاً على التوجه في أساسه.
وأما المحاولة الثالثة، فهي التي يختارها هذا البحث، ويراها أكثر سلامة من غيرها من النقد، والانتقاد، وخاصة أنها محاولة تستفيد من حسنات المحاولة الثانية في اعتبار بعض أسباب التنزيل أسباباً ‏فوق تاريخية (18) ، وبعضها تاريخية، ولكن تقدير ذلك في مفهوم هذه المحاولة الثالثة يتم عن طريق معرفة مقتضى الحال، وأحوال المخاطبين، وعاداتهم في الأقوال، والأفعال، ومجاري أحوالهم، لا عن طريق النظر المجرد إلى اللفظ الذي ورد به النص الشرعي. ويعني هذا أن النص الشرعي ابتداء هادف إلى تغيير أحوال المخاطبين، وكثير من عاداتهم ومجاري أحوالهم، وما الحادثة أو الظرف الذي ورد فيه النص سوى أمارة على الوضع العام الشائع في ذلك المجتمع المستهدف إصلاحه، وتقويمه نحو الأفضل والأحسن، ولهذا ما كانت لتلك الأسباب والظروف لتحكم على هذا النص، وتحدد صلاحيته واستمراريته، وخلوده، فالنص الشرعي متعال عليها، وحاكم عليها، ومن ثم ليس لها تأثير في بقاء هذا النص، وزواله ويعني هذا أن النص الشرعي يمثل خطاب الإله الموجه إلى العالم القائم ايام نزوله، وإلى العالم الذي سيأتي بعد ذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فأنى لسبب أي سبب بل أنى لظرف اي ظرف ليتخذ حاكماً على نص، شأنه هذا! وعليه، فإننا نرى أنه لا مفر سوى الاعتداد بتلك المحاولة الأخيرة في تكييف علاقة بعض النصوص الشرعية بالأسباب والظروف التي ارتبط ورودها ونزولها بها، لأنها إضافة إلى كل ما سبق، هي المحاولة، التي نخالها، الأضبط علمياً ، والأعمق موضوعياً ، والأقدر على التعبير عن غايات ومقاصد النص الشرعي من وراء إنزاله، ولهذا كله، تبنيناه، وعسى أن نكون موفقين فيه.
وبما أننا قد أوسعنا هذا الضابط المعرفي جانب التفصيل والتوضيح من حيث الأهمية والموقع، فإنه حري بنا بيان المنهجية الأولى بالاتباع في تحقيق هذا الضابط، وتطبيقه في واقع الأمر. وإننا نرى أنه يمكن تطبيقه عن طريق التعرف على أحوال العالم، سكان الجزيرة وشبهها، وقت بعثة الرسول (ص) وعن طريق النظر في بعض الأسباب الجزئية الخاصة التي عني علماء مفسرون بنقلها حول بعض الآيات، والأحاديث، فتلك المعلومات ـ‏دونما شك‏ـ معلومات صنعها التاريخ، ولا يجوز لأحد من الناس الاجتهاد في تكوينها، أو تعديلها، أو التغيير فيها، لأنها معلومات على ذمة التاريخ ينبغي تلقيها إذا ما صحت نسبتها إلى الصحابي الناقل إياها.
إن السبب في عدم خضوع تكوين هذه المعلومات للاجتهاد في حالة صحتها هو أنها أخبار يتلفظ بها من عاصر وواكب نزول الوحي، كتاباً ‏وسنة، وتلعب المعاينة والمشاهدة دورهما في تكوينها، ونسج خيوطها. ولذلك، فلا مجال للتفكرýأو الاجتهاد في تكوينها.
وعلى كل، نود أن نلفت النظر بأن على المتعامل وهو يتلقى هذه المعلومات التاريخية لا ينبغي له أن يهمل ضابط التحقق من صحة نسبة النص إلى مصدره الذي سبق لنا الحديث حوله، إذ إن كثيراً من تلك الأسباب لم تخل عند نقلها إلينا من شوائب الخلط في النقل عن الصحابة حيناً ، وأمارات الضعف حيناً آخر (19) ، الأمر الذي يعني ضرورة إخضاع قبولها للضوابط المنهجية من تحقق في صحة نسبتها، ومن حسن فهم لعبارات نصوص تلك الأسباب (20) ، ومن نظرة موضوعية تكاملية، إضافة إلى التجرد والموضوعية في التعامل مع تلك النصوص المنقولة عن الأصحاب.
وبهذا يتمكن المجتهد من تطبيق هذا الضابط وتحقيقه في أرض الواقع، فيوفق لحسن فهم الآية،‏والحديث، وحسن التعامل مع النص الشرعي.
وهكذا، نصل إلى نهاية الحديث عن هذا الضابط، ولكننا قبل أن نبرحه إلى حين نرى الاستغناء عن مصطلح «أسباب النزول، وأسباب الورود» وتبديله بمصطلح «مناسبات النزول والورود»، وذلك لأن مصطلح المناسبة تعني الملاءمة، والموافقة، فإذا أضيف إليه النزول أو الورود، فإنه يصبح معناه الظروف التي صادف أو وافق حدوثها نزول النص، ووروده، ويعني هذا أن مواكبة النص ووردوده لهذه الظروف مقصودة للشارع، جل في علاه، قصداً ‏تعليمياً ، وتربوياً .
وليس لتلك الظروف أي أثر في ورود النص، ونزوله في تلك الفترة، كما ليس لها أي دور في تحديد مصير ذلك النص وجوداً وعدماً ،فالنص الشرعي، كتاباً ‏وسنة، حاكم ومتعال على الظروف والأمكنة والبيئة، لأنه يخاطب الحاضر، والمستقبل، ولذلك لم يشأ النص أن يتضمن الإشارة المباشرة إلى تفاصيل تلك الظروف، ولا ربط مضامينه بها البتة.
إن هذا المصطلح المقترح بديلاً ‏لمصطلح «أسباب النزول والورود» كما سيضع حداً لذلك النزاع المفتعل حول علاقة النص بسبب وروده، فإنه سيعمل على إبراز السمة العالمية للنص الشرعي الذي لا يمكن لظرف من الظروف أن يحدِّد عمره، أو مداه، أو مجاله. إذ إن مناسبات النزول لا تعدو في تصورنا أن تكون الأجواء التي نزل فيها الوحي، والشأن في تلك الأجواء من حيث التعميم والتجريد، كشأن الناس الذين نزل فيهم الوحي، فكما لا يختص به أولئك الناس بهذا، فكذلك لا يمكن أن يخصص به تلك الأجواء أيضاً ، وذلك لأن هذه الأجواء ـ ظروفاً وأوضاعاً وأحداثاً ‏ـ مجرد مناسبات للتكليف وليس بأي حال من الأحوال داخلة في بنية النص الشرعي ذاته،‏وإلا لاشتملت عليه ألفاظ وتراكيب ذلك النص، ورحم الله سيد قطب الذي المح إلى هذا من خلال وصفه للمنهج الإسلامي المنبثق عن النص الشرعي، فقال: «.. إن هذا المنهج ثابت في أصوله، ومقوماته، لأنه يتعامل مع «الإنسان». وللإنسان كينونة ثابتة، فهو لا يتبدل منها كينونة أخرى. وكل التحورات والتطورات التي تلابس حياته لا تغير من طبيعته، ولا تبدل من كينونته، ولا تحوله خلقاً آخر. إنما هي تغيرات وتطورات سطحية، كالأمواج في الخضم، لا تغير من طبيعته المائية، بل لا تؤثر في تياراته التحتية الدائمة المحكومة بعوامل طبيعية ثابتة! ومن ثمَّ تواجه النصوص القرآنية الثابتة تلك الكينونة البشرية الثابتة،‏ولأنها من صنع المصدر الذي صنع الإنسان، فإنها تواجه حياته بظروفها المتغيرة، وأطوارها المتجددة بنفس المرونة التي يواجه بها الإنسان ظروف الحياة المتغيرة، وأطوارها المتجددة.. فالنصوص القرآنية جاءت لتعمل في كل جيل، وفي كل بيئة.. (بل) هذه النصوص التي جاءت لتواجه أحوالاً بعينها هي ذاتها التي تواجه الجماعة الإنسانية في أي طور من أطوارها. والمنهج الذي التقط المجموعة المسلمة من سفح الجاهلية، هو ذاته الذي يلتقط أية مجموعة ـ أياً كان موقفها على الدرج الصاعد ـ ثم يبلغ بها إلى القمة السامقة التي بلغ إليها بالمجموعة الأولى يوم التقطها من ذلك السفح السحيق..» (21) .
فالإنسان المخاطب بهذا النص «.. أعم من ذلك الإنسان ذي الظروف والأوضاع المعينة الذي خوطب به حال نزول الوحي، وهو ما يشهد به لفظ الخطاب وصيغه.. فإذا ما اعتبرت ـ المناسبات ظروفاً وأوضاعاً ‏وأحداثاً ‏ـ عنصراً ‏مخصصاً للفهم تخصيصاً زمنياً ، فإن الأمر يؤول إلى محذور عظيم كفيل بأن يعرض منهاج الخلافة بأكمله إلى الانتقاص..» (22) .
وهكذا، يمكن أن يتبدى لنا ما رمناه من تفضيل مصطلح «مناسبات النزول والورود» على مصطلح «أسباب النزول والورود» ولئن سأل سائل عن الفرق بين مناسبة تنزيل، وسبب تنزيل، أجبناه بأن مناسبة التنزيل عبارة عن الجو الذي نزل فيه الوحي، وليس له أي تأثير على النص من حيث وجوده أو عدمه، اعتباراً ‏بمعنى المناسبة في اللغة التي تعني الملاءمة والموافقة.
وأما سبب التنزيل، فإنه يعني الجو الذي استدعى نزول النص، واستوجب ورده، وله تأثير على النص من حيث وجوده وعدمه، انطلاقاً ‏من معنى السبب الاصطلاحي الذي يراد به الشيء الذي يلزم من وجوده وجود المسبب، ويلزم من عدمه عدم المسبب.


المبحث الرابع:

الضابط المنهجي الثالث: التزام النظرة الموضوعية التكاملية في النَّصِّ الشَّرعيِّ

إذا كنا قد أسلفنا القول بأن النص الشرعي يتميز بخاصية التنجيم والتدرج في النزول، وفي الورود، فإن مقتضى ذلك أن تكون النظرة إليه نظرة موضوعية تكاملية، ونعني بالنظرة الموضوعية التكاملية اعتبار المجتهد، النصوص الواردة وروداً‏متبايناً ومختلفاً في قضية ما، نصاً واحداً، وكلاماً واحداً، لا يتم جزء منه بعيداً‏عن بقية الأجزاء، إذ كل نصٍّ منه يمثل جزءاً مكملاً للآخر. وتعني هذه النظرة فيما تعني ضرورة جمع المجتهد النصوص ذات الأهداف والموضوعات الواحدة، ثم النظر فيها نظرةً موضوعيةً تكامليةً، باعتبارها في حقيقتها نصاً واحداً يرمي الشارع من ورائه إلى تحقيق مقصود من مقاصد الشارع، أو إلى تقرير حكم من الأحكام. ولا يضير المجتهد أن يجد،أثناء جمعه بين النصوص، ثم تفاوتاً بينها، من حيث النزول والورود، فإن ذلك كان مقصوداً للشارع عند إنزاله هذه النصوص لحكمة التدرج، وتهيئة المخاطبين لفهمها والعمل بها في يسر وسهولة.
إن لهذه النظرية الموضوعية التكاملية أهمية غير خافية، وضرورة قصوى عند الاجتهاد في فهم النص الشرعي الذي تم التحقق من صحة نسبته إلى مصدره، إذ هذه النظرة تعصم فهم المجتهد لمراد الشارع من النص من الزلل، والتعسف، والخطل، والجزئية الأحادية، بل تجعل فهمه فهماً موضوعياً علمياً‏مُركزاً، وقد اشار الشاطبي، ذات يوم إلى هذا، عندما قال: «.. إن القضية وإن شتملت على جمل، فبعضها متعلق ببعض، لأنها قضية واحدة نازلة في شيء واحد، فلا محيص للمتفهم عن رد آخر الكلام على أوله، وأوله على آخره، وإذ ذلك يحصل مقصود الشارع في فهم المكلف، فإن فرق النظر في أجزائه، فلا يتوصل به إلى مراده، فلا يصح الاقتصار في النظر على بعض أجزاء الكلام دون بعض..» (23) .
وعليه، فإذا أراد مجتهد، على سبيل المثال الاجتهاد في فهم قوله {لا يمسّه إلى المطهرون} فإنه يجب عليه منهجياً أن يعنى بجمع كل النصوص التي وردت متحدثة حول هذه القضية «مس القرآن» من الكتاب، كما يجب عليه جمع الأحاديث التي تناولت ذات الموضوع بالشرح والتفصيل والتوضيح، إذ تلك الأحاديث هي التي تعينه على فهم النصوص القرآنية، وحسن تجسيمها، وتصويرها تجسيماً وتصويراً فائقين. وذلك لأن السنة، كما أسلفنا القول، تعتبر المصدر التفسيري الأول الملزم لنصوص القرآن الكريم، وتتفق نصوصها مع نصوص القرآن في وحدة المصدر المعنوي، بمعنى لا يمكن أن يكون ثمَّ تعارض حقيقي بين نص قرآني صحيح، ونص حديثي صحيح، لكونهما إلهيي المصدر معنى ومآلاً. ولذلك، فإن حسن فهم النص الشرعي ـ كتاباً‏وسنة ـ يقتضي الالتزام بهذه النظرة الموضوعية التكاملية بغية التوصل إلى ما يغلب على الظن كونه مراد الشارع من نصوص وحيه. ولئن قررنا أهمية هذا الضابط في عملية الاجتهاد في فهم النص، فإنه حري بنا تبيين منهج تطبيقه في واقع الأمر، سواء بالنسبة للنص الشرعي القرآني، أو بالنسبة للنص الشرعي النبوي، وأما بالنسبة للنص القرآني، فإنه يمكن أن يتم عن طريق استقراء الآيات ذات العلاقة بتتبع ومعرفة اسباب النزول، وعلاقة الآيات، بعضها ببعض.
وأما تطبيقه على مستوى النص الشرعي النبوي، فإنه يتم عن طريق استقراء موضوعات الأحاديث في كتب الصحاح والحسان، والجوامع، والمسانيد استقراء أولياً، وجمع ما سلم منها من الضعف، والوضع، ثم النظر التكاملي في تلك النصوص النبوية مع النصوص القرآنية بحيث يتوصل في نهاية أمره إلى حمل المطلق على المقيد، والعام على الخاص، والمنسوخ على الناسخ، والمجمل على المفصل، وهلّم جراً.
وتحقيق كلا الأمرين على كلا المستويين ـ‏القرآني والنبوي ـ لم يعد أمراً عسيراً، بل أمسى شأناً يسيراً، وذلك بسبب الخدمات الجليلة التي عني بها علماء كثار القرآن، حيث تم، ولله الحمد، تأليف المعاجم والقواميس التي تحدد موضوعات الآيات، والتي تحدد الألفاظ الواردة في القرآن، بل ظهرت معاجم تضبط الحروف الواردة في القرآن، إضافة إلى كتب اسباب النزول، والقراءات، والتفاسير الجامعة بين بيان آيات الأحكام وأسباب النزول إلخ.. فكل هذا، يعني أنه لم يعد للمجتهد ثمّ عذرٌ في عدم عمله بهذا الضابط وتطبيقه عند اجتهاده في فهم النص الشرعي.
وأما بالنسبة للنص الشرعي النبوي، فإنه هو الآخر قد خدم خدمات لا تقل عن الخدمات التي أولاها المسلمون بالنص القرآني، إذ عني مؤلفو السنن والصحاح باستنباط عناوين موضوعات الأحاديث، وتدوينها، وضبط اسباب ورودها عن طريق سردهم الأحاديث مع الأحداث المرتبة بها، الأمر الذي يُسهِّل على المجتهد معرفة موضوع الحديث، وسبب وروده مما يعني أن على المجتهد أن يعمد إلى هذه الكتب، ويستقرئها استقراء، ويجمع الأحاديث ذات الموضوع الواحد، بغية التوصل إلى حسن فهم لهذه النصوص مع النصوص القرآنية المشتركة معها في الموضوع، والهدف، والغاية. وبذلك وحده يسلم اجتهاده في فهم النص من التعسف، وسوء الفهم، وإساءة التعامل مع كتاب الله، وسنة رسوله (ص). وبطبيعة الحال، لا نرمي من هذا الموضوع القول بضرورة إحاطة المجتهد بجميع الأحاديث الواردة في موضوع واحد، وإنما نقصد إلى القول بأنّ عليه أن يبذل قصارى جهده في جمع النصوص النبوية التي يقدر على جمعها، ويتأنى في فهمه لتلك النصوص، ولا يتعجل في ذلك، فآفة الاجتهاد في الفهم هي التعجل، والتعميم. ورحم الله الإمام الشافعي عندما قال أثناء إيراده آلات الاجتهاد: «.. ولا يكون لأحد أن يقيس ـ يجتهد ـ حتى يكون عالماً بما مضى قبله من السنن، وأقاويل السلف، وإجماع الناس، واختلافهم، ولسان العرب. ولا يكون له أن يقيس حتى يكون صحيح العقل، وحتى يفرِّق بين المشتبه، ولا يعجل بالقول به دون تثبيت..» (24) فإذا ما استفرغ المجتهد وسعه بتأنٍ، وتؤدةٍ، في جمع النصوص، وجب عليه ضمُّ بعضها إلى بعضٍ بعد تحققه ـ بطبيعة الحال ـ من صحتها، وسلامتها كلها من الضعف، والوهن.
وعلى العموم، نستطيع أن نخلص إلى القول بأن تطبيق هذا الضابط في عصرنا أصبح أيسر بكثير من العصور السابقة، وذلك بسبب التطور الهائل في عالم الطباعة، والتأليف وضبط المعلومات، بل إنه لم يعد مقبولاً من المجتهد استغناؤه في اجتهاده عن الاستعانة بالأجهزة المتطورة التي تقصِّر له المسافات التي كان يجب عليه قطعها بحثاً‏عن نص شرعي في مكان سحيق، غدا بإمكانه نيل ذلك النص النبوي في فترة وجيزة ربما لا تتجاوز بضع دقائق عن طريق الآلات الحاسبة «الكمبيوتر». فليستفد كل مجتهد من هذه النعمة التي منَّ الله بها على ناس عصرنا، ولنشكر الله على تلك النعمة عن طريق استخدام تلك الأجهزة فيما يخدم دينه، وعباده جلَّ جلاله!
وقبل أن نصل إلى نهاية عرض هذا الضابط المنهجي، نود أن نلف النظر إلى أن في الساحة الإسلامية توجهاً نحو ما يعرف بالتفسير الموضوعي للقرآن الكريم، وهذا التوجه، دونما شك، له أهمية كبرى في فهم النص القرآني، لكونه توجُّهاً يقوم على استقطاب كل الآيات الواردة حول قضية من القضايا، واستيفاء بعضها من بعض، وفكِّ ما يبدو أحياناً في ظاهرها من تعارض وتناقض بين الآيات بغية التوصل إلى المراد الإلهي في القضية حكماً ومقصوداً، ويؤدي هذا التوجه في نهاية المطاف إلى حسن فهم نصوص الكتاب، وعدم ضرب بعضها ببعض، بيد أنه مع جلالته، وأهميته، يحتاج في نظرنا إلى توسيع دائرته، وعدم الاكتفاء فيه باستقطاب الآيات القرآنية وحدها، وإنما لابد من استقطاب الأحاديث النبوية الواردة في ذات الموضوع، وذلك باعتبار السنة النبوية جزءاً‏من النص الشرعي من حيث المصدر معنى، ومن حيث الهدف، والمآل، مما يلزم ضرورة جمعها مع النص القرآني جنباً إلى جنب. وإننا نعتقد أن أخذ هذه الملحوظة في الاعتبار عند الاجتهاد في فهم النص الشرعي يؤدي إلى التوصل إلى حسن فهم النص الشرعي ـ كتاباً وسنة ـ وقد لعب غيابه دوراً كبيراً في تكوين أفهامٍ حول آيات وأحاديث لا تخلو من نقد، ونظر.
فهذا الضابط المنهجي الذي ندعو إلى اتِّباعه في هذا البحث أشمل وأدق من توجه التفسير الموضوعي الذي يركز على نصوص الكتاب دون نصوص السنة المقررة أو المؤكدة، أو المبينة، أو المفسرة لتلك النصوص الخ.. وذلك لأن ضابطنا كما أسلفنا، يقوم على النظر الشمولي الموضوعي التكاملي إلى النص الشرعي ـ كتاباً‏وسنة ـ وعلى ضرورة الجمع بين نصوص الكتاب ونصوص السنة في القضية الواحدة، وضم بعضها إلى بعض، ولا يكتفى فيه بجمع الآيات ذات الموضوعات الواحدة فقط دون التفات إلى الأحاديث الواردة حول ذات القضية، وذلك لأن السنة لئن كانت بياناً للقرآن، فإن الاقتصار على الاستنباط من القرآن دون النظر في شرحه وبيانه أمرٌ غير موضوعي، ولا دقيق.
وأياً ما كان الأمر، فإننا نختم عرضنا لهذا الضابط بإيراد نموذج لفهم النص لم يلتزم أربابه بهذا الضابط، فكان الفهم الذي انتهوا إليه محل نقد، ونظر. نعني أن تحريم مسِّ المصحف على الحائض والنفساء والجنب انبثق عن فهم لقوله تعالى: {إنه لقرآن كريم. في كتاب مكنون. لا يمسُّه إلا المطهرون} الواقعة 78ـ79.
فقد اختلف العلماء إلى اتخاذ هذا النص القرآني أساساً لتحريم مسِّ المصحف على الحائض والنفساء والجنب، والمحدث حدثاً أصغر عند بعضهم، وفي ذلك يقول ابن قدامة:
«.. مسألة، قال: لا يمسُّ المصحف إلا طاهر يعني طاهراً‏من الحدثين جميعاً. روي هذا عن ابن عمر، والحسن، وعطاء،‏وطاووس، والشعبي، والقاسم بن محمد، وهوقول مالك، والشافعي، وأصحاب الرأي، ولا نعلم مخالفاً‏لهم إلا داود، فإنه أباح مسَّه، واحتج بأن النبي (ص) كتب في كتابه آية إلى قيصر. وأباح الحكم وحمَّاد مسه بظاهر الكف، لأن آلة المس باطن اليد، فينصرف النهي إليه دون غيره. ولنا قوله تعالى {لا يمسه إلا المطهرون}، وفي كتاب النبي (ص) لعمرو بن حزم «أن لا يمسُّ القرآن إلا طاهر» وهو كتاب مشهور، رواه ابو عبيد في فضائل القرآن وغيره..» (25) .
هكذا ينتهي ابن قدامة في تقريره آراء أئمة تراثنا الفقهي‏ـ‏رحمهم الله ـ والأدلة التي استندوا عليها في ذلك، وجلي في كل ما ذكره أن الحجة الأقوى في ذلك هي آية الواقعة السالف ذكرها. ولكن فهم تلك الآية على ضوء ضابطنا المنهجي المتمثل في النظرة الموضوعية الشمولية التكاملية في النص الشرعي يهدينا إلى القول بأن الحكم الذي قرروه بناء على ذلك فهمهم للآية محل نقدٍ، ونظرٍ، وذلك لكونه فهماً‏يهمل الضابط المذكور، ولا يوليه ما يلعبه من دور جبار في حسن الفهم، والاستنباط. ولو راعوه لأدركوا أن الآية ـ قلباً وقالباً‏ـ ليس فيها أي ذكر للحكم الذي توصلوا إليه في حقيقة الأمر. إذ إن على متفهم النص منهجياً أن يجمع الآيات ذات العلاقة، والمناسبة بهذه الآية، ثم ينظر فيها نظرة شمولية تكاملية، ويتجرد من كل تصور طارف أو تالدٍ، ليتوصل إلى حسن فهم المراد الإلهي فهماً‏سليماً مستقيماً. فهذه الآية تربطها بآيات في الشعراء علاقة تكاملية وهي من قوله {وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين.. إلى قوله وما تنزلت به الشياطين، وما ينبغي لهم وما يستطيعون} الشعراء 192ـ211. بل تربطها بآيات من عبس علاقة موضوعية وهي من قوله {كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة} عبس 11ـ16 وقد أشار الإمام مالك رحمه الله إلى هذه العلاقة في موطئه، فقال: «.. أحسن ما سمعت في هذه الآية {لا يمسه إلا المطهرون} أنها بمنزلة هذه الآية التي في عبس وتولى قول الله تعالى {كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة}» (26) .
إن هذه الآيات من السور المختلفة المتفاوتة نزولاً تروم الحديث حول موضوع واحد، وتهدف إلى بيان حكم إلهي موحد إزاء قضية واحدة، إنها قضية نزول هذا القرآن الكريم على الرسول صلى الله عليه وسلم ـ سليماً‏من كل نقص، ومن كل تزوير وتبديل، إنها قضية كون الباري جل جلاله هو المنزل لهذا القرآن على قلب رسول الله، وليس شياطين الإنس أو الجن كما توهم المتوهمون من كفار قريش، وصناديدهم. وقد كان إثبات هذا المبدأ من القضايا الكبرى التي تحدث عنها القرآن المكي في أكثر من موقع، وكأنه بذلك يعلمنا مبدأ التحقق من صحة نسبة النص إلى مصدره، فأي نص لا يصح نسبته إلىمصدره، فلا داعي في البحث عن فهم محتواه ومضامينه. ولئن كانت الاتهامات الأولى التي وجَّها المشركون إلى الرسول في مكة المكرمة التي تنصب على نفي كون القرآن الكريم موحى به إلى الرسول، فقدتعرضت آيات مباركة لتفنيد هذه التهمة الخطيرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا، فإن الآيات المذكورة لا تعدو سوى أن تكون جزء لا يتجزأ من آيات كثيرات استهدفت الغاية نفسها في الرد على مدعي بشرية القرآن الكريم. بيْدَ أن غياب هذه النظرة الموضوعية الشمولية التكاملية في النص الشرعي دفع بكثير من العلماء إلى جعل آية الواقعة نازلة في بيان تحريم مس المصحف على الحائض والجنب والنفساء، وحقيقة الأمر أنه لا علاقة مباشرة أو غير مباشرة بين تلك الآية والفهم الذي اهتدوا إليه، وذلك لأن تحريم الصلاة أو الصيام على الحائض والنفساء تم في القرآن المدني، وكذلك الحال في وجوب الغسل من الجنابة والحيض والنفاس فقد شرعه القرآن المدني متمثلاً في آية المائدة {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين وإن كنتم جنباً فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيباً فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه..}6. وأما الآيات المذكورة، فهي أجمعها مكية النزول، والمحتوى، إذ إن قيام الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وضع نهاية غير مباشرة لاتهامات تتسم بالعنف، والتكذيب الصراح، والغلظة في التهمة، والعبارة، وذلك لأن الجو الجديد في المدينة المنورة قد آمن بالله وبرسوله، وبكتابه، ولم تعد مسألة نسبة القرآن إلى الله مسألة مطروقة يحتاج القرآن فيها أن يكلف نفسه جهداً في إثباتها لقوم آمنوا به سراً وعلانية، وإنما بدأت الجهود والاهتمامات تنصرف نحو تأسيس الأسس والأركان والدعائم التي ينبغي أن تقوم عليها دولة حديثة عديمة النظير والشبيه والمثيل منذ أن وجدت البشرية على وجه الأرض، إنها دولة الإسلام الأولى بطيبة الطيبة ولهذا، فإن هذا الفهم لآية الواقعة والذي توارثناه عن كثير من علمائنا ـ عليهم رحمة الله ـ‏في مسألة تحريم مس المصحف على الحائض، والنفساء، والجنب، وعلى المحدث حدثاً أصغر، يقوم ذلك الفهم ـ في نظرنا ـ على عدم الالتزام بضابط النظرة الموضوعية الشمولية التكاملية إلى النص الشرعي ـ كتاباً‏وسنة ـ ورحم الله الشهيد سيد قطب، فقد أدرك هذا الربط الموضوعي التكاملي بين آية الواقعة، وآية الشعراء فقال ما نصه في تفسير آية الواقعة:«.. زعم المشركون أن الشياطين تنزلت به. فهذا نفي لهذا الزعم، فالشيطان لا يمس هذا الكتاب المكنون في علم الله، وحفظه، إنما تنزَّل به الملائكة المطهرون. وهذا الوجه هو أظهر الوجوه في معنى «لا يمسه إلا المطهرون»، فـ «لا» هذه نافية (27) لوقوع الفعل، وليست ناهية. وفي الأرض يمسُّ هذا القرآن الطاهر والنجس، والمؤمن والكافر، فلا يتحقق النفي على هذا الوجه، إنما يتحقق بصرف المعنى إلى تلك الملابسة ملابسة قولهم «تنزلت به الشياطين». ونفي هذا الزعم، إذ لا يمسه في كتابه السماوي المكنون إلا المطهرون. ومما يؤيد هذا الاتجاه قوله تعالى بعد هذا «تنزيل من رب العالمين» لا تنزيل من الشياطين..» (28) .
وهذه الإشراقة التي تجلت لسيد قطب في فهم هذه الآية قد سبق للإمام ابن حزم ـ‏رحمه الله ـ أن ألمح إليها اثناء ردّه على الذين استدلوا بالآية علىتحريم مس المصحف على الحائض والجنب والنفساء، فقال ما نصه: «.. فإن ذكروا قول الله تعالى {في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون} فهذا لا حجة لهم فيه، لأنه ليسي أمراً، وإنما هو خير، والله تعالى لا يقول إلا حقاً، ولا يجوز أن يصرف لفظ الخبر إلى معنى الأمر إلا بنص جلي، أو إجماع متيقن، فلما رأينا المصحف يمسه الطاهر وغير الطاهر علمنا أنه عزل وجل لم يعنِ المصحف، وإنما عنى كتاباً آخر، كما أخبرنا محمد بن سعيد بن نبات.. عن سعيد بن جبير في قوله تعالى {لا يمسه إلا المطهرون} قال: الملائكة الذين في السماء.. وعن علقمة قال: أتينا سليمان الفارسي، فخرج علينا من كنيفٍ له، فقلنا له: لو توضأت يا أبا عبد الله، ثم قرأت علينا سورة كذا، فقال سلمان: إنما قال الله عز وجل {في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون} وهو الذكر الذي في السماء لا يمسه إلا الملائكة..» (29) ولئن كنا قد انتهينا إلى القول بأن آية الواقعة لا تربطها أية علاقة موضوعية بموضوع تحريم مس المصحف على المحدث حدثاً أكبر، أو كراهة مسَّه على المحدث حدثاً أصغر، فإنه مما لا يشك فيه أن الأولى والأفضل بكل من يرغب في مس المصحف أن يكون على طهارة تعظيماً وتكريماً للقرآن الكريم، وتمييزاً له عن أي كتاب آخر في هذا المجال.
إننا نعتقد ان هذا الشعور هو الذي دفع بعلمائنا الأولين ـ رحمهم الله ـ إلى اعتبار الآية دالة على تحريم مس المصحف على المحدث، ولكننا إذ نشاطرهم ذلك الشعور، ونقاسمهم تلك الغيرة، بيْد أننا نرى أن التحريم أو ايجاب لابد لهما من نص صحيح سنداً ومتناً صريح دلالة ومعنى. وإذ لا نص صحيحاً صريحاً واضحاً، فإن المسألة لا ينبغي لها أن تتجاوز دائرة الكراهة، ودائرة مخالفة الأولى في أحسن الأحوال. وأياً ما كان الأمر، فإننا نخلص إلى القول في نهاية هذا العرض لهذه المسألة إلى الإشارة إلى أن ثمة جملة من أفهام تم ترجيحها ذات يوم على غيرها بناء على مرجحات، وعوامل ظرفية ومكانية، لاتخلو تلك الأفهام من نظر، وخاصة أن جزءاً كبيراً منها جاوز هذا الضابط، ولم يولوه أي اهتمام، ولذلك، فإننا نرى أن تلك الأفهام لا ينبغي لكثير منها أن تسمو على المراجعة والنقد العلمي الرصين المخلص الهادف بعد تغير أدلة ترجيحها وقرائنه، ولتتم تلك المراجعة عن طريق الاستعانة بمثل هذا الضابط وأخواته.

المبحث الخامس

الضابط المنهجي الرابع: التزام التجرد والموضوعية في فهم النص الشرعي

إذا كانت خاصية «إلهي المصدر» من أهم خصائص النص الشرعي، فإن فهم هذا النص يجب ألا يخضع لأية مقررات سابقة، أو رواسب قديمة،‏أو مواقف ممهدة سلفاً، بل يجب أن ينطلق فهم هذا النص من النص نفسه، وينبغي أن يستمد أي فهم صلاحيته، وسلامته من النظر الأمين فيه، وليس مقبولاً‏أن يكون فهم هذا النص أسير المواقف والرواسب والمقررات السابقة القديمة. وذلك لأن الأفهام التي تنطلق في أساسها من مواقف موافقة أو مناوئة، من النادر أن يوفق إلى الوصول إلى المراد الإلهي من نصه، بل كثيراً ما تتميز بالإسقاطات والتكلف. ولهذا فإنه لكي يسلم الاجتهاد في فهم النص الشرعي، فإن على المجتهد أن يلتزم بهذا الضابط المنهجي «التجرد والموضوعية».
ومرادنا من التجرد هو تخلي المجتهد عن جميع مقرراته السابقة، ومواقفه المتعددة، وتوجهه إلى النص الشرعي بعقلية نزيهة، تهدف إلى التوصل إلى المراد الإلهي بغض النظر أن يكون ذلك المراد الذي سيتوصل إليه موافقاً لمقرراته السابقة، أو مناوئاً‏لها.
وأما مرادنا بالموضوعية (30) ، فهي تجرد المجتهد من الذاتية، ومن التحيز لآرائه السابقة، ومقرراته القديمة، وتميزه بالأمانة والاستقامة عند الاجتهاد في فهم نص من النصوص بحيث يجعل التوصل إلى المراد الإلهي من نصه هدفه ومرماه في اجتهاده.
وتكمن أهمية هذا الضابط المنهجي في كونه الضابط المظلوم ضمن ضوابط الاجتهاد في فهم النص المنهجية، إذ إنه كثيراً ما يغفل، ويهمل، ولا يذكر إلا نادراً، وبسبب إهماله، شاع التفسير السياسي والمذهبي للنص الشرعي ـ قرآناً وحديثاً‏ـ ولو استحضر هذا الضابط المنهجي المهم عند الاجتهاد في فهم نص من نصوص الوحي ـ كتاباً‏وسنة ـ لما انتشر بين المسلمين التفاسير الخادمة للتوجهات، والأفكار والمذاهب، والمشارب.. بل إن أهمية هذا الضابط تتجلى أكثر في كونه المنهج الذي التزمه الأصحاب، رضي الله عنهم، عند تعاملهم مع النص الشرعي، مما جعل فهمهم له فهماً‏لا يدارى، ولا يضاهى، إذ كان الصحابي يبذل ما وسعه من جهد في فهم النص الشرعي، دون أن يجعل مواقفه أو اتجاهه حاكماً‏على فهمه، بل كان النص الشرعي هو الذي يكوِّن له مواقفه، ومقرراته، وهو الذي على ضوئه يتخير مذهباً، أو ينتهج منهجاً معيناً. ولذلك سلم فهمهم لمراد الشارع من نصوصه، ولم يظهر في أيامهم ولا في تفاسيرهم أي لون من ألوان التفسير السياسي أو المذهبي للنص القرآني أو النبوي، وإنما ظلت أفهامهم للآيات غير متأثرة بأي موقف من المواقف المؤيدة أو المناوئة.. ورحم الله أبا الأعلى المودودي، فقد كان من أوائل الناس تنبيهاً إلى هذا الضابط المنهجي في الاجتهاد في فهم النص عندما قال: «.. إن القرآن كتاب يرِدُ على منهله الفياض عدد لا يحصى من الناس لأجل عدد لا يحصى من الأغراض.. ولا يجذبني من هذه الكتل البشرية إلا الذين أشمُّ فيهم رائحة الحرص على فهم هذا الكتاب، ومعرفة مطالبه،‏وتوجيهاته في شؤون الحياة الإنسانية ومسائلها المعقدة، فأحبُّ أن أعرِّف هؤلاء منهجاً لدراسة القرآن، ثم أشاطرهم حل المشكلات والمصاعب.. يجب ـ كخطوة أولى ـ على كل من يريد فهم القرآن، سواء آمن به، أو لم يؤمن أن يخلي ذهنه ما أمكن من جميع ما استقر فيه من قبل من التصورات والنظريات، ويطهِّره من سائر ما يكنه من الرغبات الموالية، أو المناوئة، ثم يكبُّ على دراسته بقلب مفتوح،‏وأذن واعية، وقصدٍ نزيه لفهمه..» (31) . فهذا الذي ذكره الإمام المودودي كما هو مطلوب لفهم القرآن فهماً‏صحيحاً، فهو مطلوب أيضاً لفهم السنة، فكلا النصين وحيٌ معنىً ومآلاً، ويشتركان في الخصائص العامة.
وعليه، فإذا ما تجاوز المجتهد في اجتهاده هذا الضابط المنهجي، فحدِّث ولا حرج عن التأويلات الجائرة الخائرة في البعد عن مرادالشارع من نصوص وحيه، كتاباً‏وسنة، بل إن مجتهداً‏يأتي إلى النص الشرعي ورأسه مليء بطائفة من التصورات والمواقف والمقررات والرواسب، فإن الفهم الذي يتوصل إليه لا يعدو سوى أن يكون جملة من تصوراته، أو طائفة من مقرراته، ولا يمكن أن يهديه ذلك الفهم إلى مراد الشارع، جلَّ جلاله.
إن هذا الأمر مشاهد على مستوى الكتب البشرية، نعني أنه لو أنَّ مؤلفاً نظر في كتاب، وفي خلده أفكار، وتصورات مقررة، فإن فهمه لذلك الكتاب سيتأثر بطريقة مباشرة وغير مباشرة بأحكامه الأولية المقررة،‏وتصوراته الموجِّهة لتفكيره، ومنهجه، مما يُفقده القدرة على التوصل إلى حقائق ما يحمله ذلك الكتاب. وهذا الأمر لا يختلف عليه اثنان، فما بالك لو كان ذلك النص الذي ينظر فيه هذا الإنسان نصاً شرعياً يتميز بأسلوب مرن يمكن للمرء أن يخضعه تعسفاً‏لمقرراته، وتصوراته، ويمكن لغيره هو الآخر أن يجعله مؤيداً وسنداً لاتجاهاته، وأفكاره.
لذا، فإننا نرى أنه لامفر للمجتهد الذي يسعى إلى التوصل إلى حسن فهم لنصوص الوحي، كتاباً‏وسنة، من التقيد والإلتزام بهذا الضابط المنهجي، ولا سبيل إلى الوصول إلى المراد الإلهي من النص سوى اتباع هذا الضابط،‏وسوى تجريد الفهم والاستنباطات من الذاتية، والتحيز، والاستدلالية، وبهذا وحده يجد المجتهد نصاً قادراً‏على انتشال البشرية من براثن الضياع، والتخلف والأمراض الخلقية، والنفسية، والأزمات الفكرية، والاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية!
إنّ غياب هذا الضابط في تعاملات كثير من متعصبي الفرق والمذاهب والاتجاهات مع النصوص الشرعية أدَّى إلى استجرار النص الشرعي إلى جميع ساحات الصراع الفكرية والعلمية والسياسية الخ.. استجراراً تعسفياً لتأييد مذهب أو منهج فكري أو عقدي أو فقهي، وما ذلك إلا بسبب عدم تجرُّد المتفهِّم من الذاتية والتحيُّز والتعصُّب.
فكتب الخوارج التفسيرية، هي الأخرى ميدان فسيح وسيع لتكفير أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام بل لا ترعى لأي صحابي شارك في التحكيم حرمة ولا كرامة، وكل الآيات التي نزلت في الكفار والمشركين تؤوَّل بأنها نازلة في أولئك الصحب الأجلاء الذين وقفوا مع رسول الله ساعة العسرة، وبايعوا الرسول بيعة الرضوان، ورضي الله ورسوله عنهم، ويوسع هؤلاء الخوارج الأحاديث الواردة في فضل أولئك الأصحاب جانب الإبطال، والنقد، ويتسرعون في نسبة كثير منها إلى الوضع ظلماً وعدواناً.
وأما كتب آيات الأحكام والأحاديث، فإن كثيراً‏منها لا تخلو من ليٍّ لأعناق النصوص القرآنية والنبوية كيما تكون سنداً لمذهب المفسِّر الفقهي الفرعي، وكثيراً‏ما يغمض المفسر الفقيه المتعصب عينيه عن النصوص التي تبدو في ظاهرها مخالفة لمذهبه الفقهي، بل ربما لاذ بالتأويل المتكلف لمعاني النصوص حتى تكون مؤيدة للمذهب، وممايدل على هذه النزعة ما قاله الإمام الكرخي ـ رحمه الله: «الأصل أن كل آية تخالف قول أصحابنا، فإنها تحمل على النسخ، أو على الترجيح، والأولى أن تحمل على التأويل من جهة التوفيق..» (32) بل إن كثيراً‏من المفسرين اللغويين ـ نحاة وصرفيين‏ـ لايجدون أدنى حرج في تطويع النصوص لتتفق مع قواعدهم النحوية التي دونوها وقرروها (33) ، بل إن بعضهم يلوذون باعتبار النصوص المخالفة لقواعدهم نصوصاً‏شاذة أو مؤولة.
وهكذا يجد المرء أن فهم النص الشرعي سيخضع ـ ولا محالة ـ للتصورات والمنطلقات والأفكار والاتجاهات ما لم يستنر المتفهم بهذا الضابط، وما لم يجرد نفسه من سوابقه، وصبواته، ورغباته، ومالم يضاه الأصحاب ـ رضي الله عنهم ـ في الالتزام بهذا الضابط العاصم من التأويل الجائر الخائر البائر. وبذلك وحده يحقق اجتهاده في الفهم الغاية المأمولة من ورائه والمتمثلة في التوصل إلى حسن تصور وتجسيم للمعاني المرادة للشارع جل جلاله.

المبحث السادس

الضابط المنهجي الخامس: الإبقاء على مراتب النصوص كما وصلتنا

إذا كنا قد اعتبرنا الموضوعية والتجرد ضابطاً منهجياً، فإنه تتمة لذلك، نرى أن ثمَّ ضابطاً منهجياً ذا علاقة به لابد من الاعتداد به هو الآخر، إنه ضابط الإبقاء على مراتب النصوص كما وصلتنا، نعني أنه ما كان من النص الشرعي ظنياً دلالة أو ثبوتاً أو دلالة وثبوتاً، يجب الإبقاء عليه ظنياً، وعدم تحويله، إلى نص قطعي دلالة أو ثبوتاً، أو دلالة وثبوتاً تحت أي ستار، وذلك بناءً على فهم اجتهاد يهتدي إليه مجتهد من المجتهدين في عصر من العصور، كما نعني، في الوقت نفسه، أن ما كان من النص الشرعي قطعياً دلالة أو ثبوتاً، أو دلالة وثبوتاً اعتماداً على أي مبرر اجتهادي. وهذا الضابط يكتسب مشروعيته من خلال خاصية المرونة والسعة للنص الشرعي، إذ إن مقتضى هذه الخاصية، كما أسلفنا، تقبُلُ جُزءٍ لا يستهان به من النص الشرعي تعدد الأفهام، والاجتهادات التي تتدخل الظروف والبيئات في تكوينها، وإفرازها.
وبما أن الظروف والبيئات والحياة نفسها في تغير مستمر، وتطور دائم، فإنه ليس من المقبول منهجياً إلباس فهم متأثر بظروفه، وبيئته بلباس الديمومة، والعصمة، والأبدية، والحيلولة دون أي فهم آخر منبثق عن بيئة وظروف متغايرة، ومختلفة عن ظروف وبيئة الفهم الأول، لن يكون للمرونة والسعة أي معنى إذا تحول النص الظني ـ دلالة وثبوتاً، أو دلالة وثبوتاً‏ـ بسبب اجتهاد إلى نص قطعي في حق غير المجتهد.. وبالمقابل ينبغي الإبقاء على النصوص القطعية قطعيةً فلا ينالها يد التغيير والتبديل فيتحول بسبب اجتهاد إلى نصوص ظنية بعد أن كانت في أصلها نصوصاً قطعية، والسبب في هذا هو ان القطعي من النصوص الشرعية ثابت وغير متغير، ولا يحق لسنة التغير والتبدل والتحور والتطور لأن تجري عليه، لأنه من وراء تلك السنة، وجيء به مخاطباً وراء البيئات والظروف والأحوال والعوائد، ولذلك لا يؤثر فيه أي من هذه الأمور، وإذا ما تعامل معه المجتهد مثل تعامله مع الظني من النصوص، فإن مآل ذلك إعادة النظر في جميع أحكام الدين، ونقضه من أساسه، والانتهاء في نهاية المطاف إلى المروق من هذا الدين، وتبديله بشطحات العقول، وبائسات الأفكار والتأويلات الجائرة الحائرة الخائرة!
إن إدراك هذا الضابط المنهجي في فهم النص الشرعي ينبغي أن يقوم على إدراك البعد الزمني للأفهام، والتمييز بين ما كان من الأفهام ظرفياً، وما كان منها فوق ظرفي، وما لم يتمكن المجتهد من إدراك هذا الأمر، فإن اجتهاده يظل ذا صفة تخبطية غير موضوعية، ولا منهجية. وإضافةً إلى ما لهذا الضابط من أهمية، فإن مراعاته تعصم المجتهد من تسليط سيف الإجماع على الآراء المخالفة، ومن عدم الحجر على الأفهام الأخرى في النصوص الظنية الدلالة، مما يعني أن افهام النصوص الظنية يمكن لها أن تتجدد وتتبدل بتجدد الظروف وتبدل الأحوال والأزمنة والأمكنة والعوائد في كل عصر ومصر، ويعني أيضاً، أنه ليس من المنهجية العلمية الموضوعية في شيء إلباس فهم متأثر بظروفه وبيئاته، وأزمنته، وأمكنته، وعوائده لباس العصمة والديمومة ولو تبدلت ظروفه، وتغير زمانه، ومكانه.
وعليه، نخلص إلى أن الإلتزام بهذا الضابط يؤدي إلى خصوبة المرتع، ويجعل معين الاجتهاد فائضاً لا ينضب، وسيظل مورداً‏حيوياً نشيطاً قادراً على مدِّ الأمة بالمؤن اللازمة لمواجهة مستجدات الحياة وتطوراتها الحثيثة. وإذا كان سلفنا الصالح، رحمهم الله، قد ورَّثونا تراثاً‏غزيراً ثميناً، فإن ذلك يعني أنه من واجب كل جيلٍ أن يورث الأجيال اللاحقة به ما ورثَّه به سلفه من كنوز المعرفة والفهم، ولن يكون ثم ظلم لسلف إذا ركن خلفه إلى الدعة، والكسل، واستنكف عن الاجتهاد والتجديد، واتكأ على اجتهادات سلفه التي واجهوا بها حياة، وظروفاً مختلفة في بعض الجوانب، والنواحي عن حياة ذلك الخلف، وظروفه، ومستجداته، وقضاياه الجديدة.
وعلى العموم، لا يليق بالأمة في أي مرحلة من مراحل عمرها أن تبقى مدلّلة رضيعاً إلى الأبد، لابد لها من أن تفطم وتذوق مرارة الفطام، ولابد لها من أن تواجه مستجدات حياتها مستفيدة ومستأنسة بتراث سلفها غير مقدسة إياه، ولا متعسفة في التعامل معه، فقد استطاع ذلك التراث، ذات يوم، إنقاذ الأمة في مرحلة من مراحل تاريخها، ولذلك، ليس من الإنصاف كيل اللعنات والشتائم على ذلك التراث، وإهالة التراب على محاسنه، وخدماته. وحقيق على الأمة في العصر الحاضر أن تخوض معترك الحياة الجديدة والظروف الحديثة بمناهج ووسائل وأساليب لا يلزم بالضرورة أن تكون من تركة سلفها، وإنما يمكن أن تكون من بنات أفكار أبنائها المجتهدين المخلصين الذين لم يعد يسعهم الخضوع لحاجز الخوف والهيبة التي تشل أركان القادرين منهم على خوض غمار تجديد فهم النصوص الظنية الدلالة بأفهام جديدة تستنير وتستأنس بأفهام السلف!
إن الاستهانة بهذا الضابط قد كانت وراء شيوع التعصب للآراء والاجتهادات والأفكار، وقد كانت وراء شيوع دعاوى الإجماع في المسائل الخلافية الاجتهادية، إذ كثيراً ما لاذ المتعصبون لآرائهم، ومذاهبهم بتسليط هذا الحسام الحاد «سيف الإجماع» على المخالفين، وألبسوا اجتهاداتهم لباس الديمومة والاستمرار، واعتبروا ما عداها اجتهادات خارقة للإجماع المزعوم المدَّعى. الأمر الذي أورثهم تعصباً، وتكلفاً وتبعية للآراء بدلاً‏من الأدلة والحجج والبراهين. بل إن اعتقادهم أن الحق كل الحق في فهمهم دفع بهم إلى الدعوة إلى إغلاق باب الاجتهاد المطلق حيناً، وباب الاجتهاد عموماً حيناً‏آخر، والنعي على الأمة بالعقم، والعجز عن إنجاب المجتهدين، حتى قال قائلهم إنه «.. لا يوجد في البسيطة اليوم مجتهد مطلق، هذا مع تدوين العلماء كتب التفسير والسنن والأصول والفروع» حتى ملؤوا الأرض من المؤلفات التي صنفوها. ومع هذا، فلا يوجد في صقعٍ من الأصقاع مجتهد مطلق، بل ولا مجتهد في مذهب إمام تعتبر أقواله وجوهاً مخرَّجة على مذهب إمامه، وماذاك إلا أن الله أعجز الخلائق عن هذا، إعلاماً لعباده بتصرم الزمان، وقرب الساعة، وأن ذلك من أشراطها.. (34) .
وخلاصة الأمر، إن هذا الضابط يحتل مكاناً في الصدارة، وينبغي ان يؤخذ به بقوة عند الاجتهاد في فهم النص، فهو الذي يعصم المتفهم من إلباسه فهمه للنص لباس العصمة، والديمومة والصواب المطلق، ورحم الله الإمام الشافعي عندما قال ذات يوم قولته الحكيمة الشهيرة: «رأي صواب لكنه يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ لكنه يحتمل الصواب». فكأني به يعهد صواب الرأي وخطأه إلى العوامل الخارجية التي تتكاتف في ترجيح رأي على آخر ترجيحاً غير دائم ولا أبدياً، وأنه ليس بمستبعد أن تظهر في تلك العوامل يوماً ما وهن أو ضعف، فينعكس ذلك على الفهم الذي تم ترجيحه بناء عليها. وعليه، فإن فهم المجتهد يظل دائراً ومتأرجحاً بين الصحة والبطلان، كما يظل رأيه الذي اهتدى إليه ذات يوم واعتقده صواباً‏معرضاً للخطأ، لأنه لا يخلو من تأثر بظروف زمانه، ومكانه وأحوال عصره، وعاداته، وتقاليده، الأمر الذي يجعله عرضة للخطأ.

نتائج الدراسة:

ثمة نتائج عديدة توصلت إليها الدراسة، ويمكننا تلخيص أهمها في النقاط التالية:

أولاً: للنص الشرعي خصائص عديدة، وتتمثل أهم تلك الخصائص في كونه إلهي المصدر، ونزوله منجماً ومفرَّقاً، وجمعه بين الإيجاز والإعجاز في الأسلوب، فضلاً‏عن غلبة المرونة والسعة على معظم مفرداته وتراكيبه. وليس من الواردالعثور على نص تتوفر فيه هذه الخصائص مجتمعة، فلئن توفر بعضها في نص، فإنه من المستحيل توفر خاصيتي الإعجاز وأزلية المصدر. وبناءً على هذا، فإن ضوابط التعامل مع النص ينبغي أن ينبثق عن مراعاة دقيقة لهذه الخصائص والخصال.
ثانياً: تعتبر الضوابط المنهجية للتعامل مع النص أهم المبادئ والخطوات العلمية التي ينبغي على المتعامل مع النص الإلتزام بها قبل الاجتهاد في فهم النص الشرعي أو تحديد مرادالشارع منه، فهذه الضوابط توفر له الأرضية التي يمكنه أن يقف عليها دونما وجلٍ ولا خوفٍ من الزلل والخطل وسوء فهم المراد الإلهي من نصوصه. وقد توصلنا إلى استخلاص هذه الضوابط من خلال التأمل والتمعن في الخصائص الثابتة للنص الشرعي، وقد تأكد لنا أن الابتعاد عن هذه الضوابط قائد إلى إساءة التعامل مع النص، وإضاعة الجهد والوقت وضرب النصوص بعضها ببعض بدعوى وقوع التعارض أو التناقض.
ثانياً: أوضحنا أهمية استهلال المتعامل مع النص تعامله بالتحقق والتثبت والتأكد من صحة نسبة النص إلى مصدره، وكونه مصدراً شرعياً منسوباً إلى الشارع جلَّ جلاله، وقد أكَّدنا في خضم ذلك أن النص الشرعي لا يخلو من أن يكون إلهياً لفظاً ومعنىً أو إلهياً معنى لا لفظاً، ويعتبر النص القرآني إلهي المصدر لفظاً ومعنى، وبالتالي، فإن التحقق من صحة نسبته إلى مصدره، لايتجاوز دائرة التحقق والتثبت من صحة قراءات بعض الألفاظ القرآنية، وأما أصل النص القرآني، فإنه لا يحتاج إلى أدنى تثبت أو تحقق، وذلك لأنه من المقطوع به عقلاً‏ونقلاً صحة نسبته إلى مصدره جملةً وتفصيلاً. وأما النص النبوي، فقد أبرزنا أهمية ضابط التحقق على مستواه، وذلك انطلاقاً من دس ضعاف الإيمان وأعداء الإسلام العديد من الأحاديث الموضوعة والضعيفة.
رابعاً: أبرزنا أهمية معرفة مناسبات نزول الآيات وورود الأحاديث، ودور تلك المعرفة في عون المتعامل مع النص على إدراك الظروف التي مهدت لنزول النص أو ورود الحديث. ولقد أكدنا القول في هذا الضابط بأن العلاقة بين سبب نزول الآية أو سبب ورود الحديث علاقة كل بجزئي في معظم الأحيان، فلئن نزلت آية أو ورد حديث بسبب حادثة أو نازلة، فإن الأصل أن الآية أو الحديث لا يروم توجيه هذه الحادثة بعينها وحدها، ولكنهما يقصدان في نهاية المطاف توضيح مراد الله في هذه الحادثة وفي مثيلاتها القادمة، وبالتالي، فإنه ليس من المعقول أن تكون العلاقة بين النص والسبب علاقة تاريخية، ولكنها علاقة فوق تاريخية في معظم الأحيان، وذلك لأن النص كان سينزل حتماً سواء وقعت هذه الحادثة أم لم تقع لأن النص وخاصة القرآني في حقيقته سابق للحادثة من حيث الوجود اعتباراً بكونه كلاماً لله سبحانه وتعالى.
خامساً: توصلنا إلى القول بأن معرفة أسباب النزول والورود لا تكفي لحسن التعامل مع النص، ولكنه ينبغي أن يتبع ذلك بالتزام المتعامل مع النص النظرة الموضوعية التكاملية الشمولية، بحيث يحمل العام على الخاص، والمطلق على المقيد، والمكي على المدني، ويجمع بين مختلف النصوص بسائر طرق الجمع الممكنة، ولا يليق به اللجوء إلى ضرب النصوص بعضها ببعض، وذلك لأن تنزل النص منجماً، يقتضي ضرورة الوعي على هذا المنطلق، وإلا، فإن المتعامل، سيتوجه إلى التوسع في إدعاء وقوع النسخ والتعارض بين النصوص الشرعية. وعليه، فقد أوردنا عدداً من الاجتهادات الفقهية القديمة والحديثة تجاوز فيها أربابها الإلتزام بهذا الضابط، فلم توفق اجتهاداتهم للوصول إلى مراد الله في تلك النصوص.
سادساً: أثبتت الدراسة أن ألفاظ القرآن والسنة الصحيحة حمالة وجوه، وقابلة في معظم الأحيان للتعددية المنضبطة وغير المنضبطة، ولذلك، فقد دعت الدراسة إلى التزام المتعامل مع النص بالتجرد والموضوعية والابتعاد عن النظر في النص الشرعي بقناعات مسبقة، كما هو صنيع العديد من المذاهب الفكرية والفقهية والكلامية والسياسية، فقد كانت هذه الفرق ولا تزال تتعامل مع النص الشرعي وهم محملون بجملة من القناعات القبلية، مما يؤثر على فهمهم للمراد الإلهي من الشارع، وغلبة النظرة التطويعية الاستدلالية على مناهج تعاملهم مع النص الشرعي. وعلى العموم، حاولت الدراسة تقرير القول بضرورة الالتزام بهذا الضابط وحسن الصدور عن الهم بالاجتهاد في فهم النص الشرعي.
سابعاً: وأخيراً، دعت الدراسة إلى التوقف عن الخلط بين مراتب النصوص، والإبقاء على هذه المراتب كما وصلتنا، فالنصوص التي وصلتنا قطعية ثبوتاً ودلالة، يجب أن تبقى قطعية ثبوتاً‏ودلالةً، ولا ينبغي تحويلها تحت أي ظرف من الظروف إلى نصوص ظنية إن في ثبوتها أو في دلالتها، وبالمقابل يجب الإبقاء على النصوص التي وصلتنا ظنية ثبوتاً‏ودلالة نصوصاً ظنية في ثبوتها ودلالتها، ولا ينبغي تحويلها تحت أي تأويل أو وصاية إلى نصوص قطعية. وقد أوضحت الدراسة أن الساحة الفكرية الإسلامية المعاصرة يتجاذبها فريقان من المتأولة، فريق يروم تحويل كل القطعيات إلى ظنيات ويدَّعي كون النصوص كلها ظنية،‏وفريق يحاول تحويل كل الظنيات إلى قطعيات، ويدعي كون النصوص كلها قطعية نتيجة التقادم وما بذل في ضبط معانيها من جهود قديمة. وليس من شك أن كلا الفريقين يمثلان خطورة للمذهبية الإسلامية القائمة على الوسطية ورفض الطرفية إن يميناً أو يساراً. وتجنباً من الوقوع في براثن دعاوى هذين الفريقين، قررت الدراسة ضرورة الإبقاء على مراتب النصوص وكما وصلتنا تحقيقاً لخاصية المرونة والسعة التي يتميز بها النص الشرعي.
هذه بعض النتائج المتواضعة التي توصلنا إليها، وثمة نتائج عديدة يمكن للقارئ الوقوف عليها عند القراءة. وبهذا، نصل إلى نهاية عرضنا وتحليلنا للضوابط المنهجية للتعامل مع النص الشرعي، وأملنا أن نكون قد وفقنا إلى السديد من القول والصائب من الرأي في هذا الموضوع، والله نسأل أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا أتباعه ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، إنه ولي ذلك وعليه قدير.


* أستاذ مشارك بقسم الفقه وأصوله الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا

الهوامش
1) يذكر بعض العلماء جملة من الحكم والمقاصد وراء تنجيم الوحي القرآني، ومن أهمها:
ـ تثبيت فؤاد الرسول (ص) وتقوية قلبه كما صرَّحت بذلك آية الإسراء السالف ذكرها.
ـ التدرج في تربية الأمة الناشئة علماً وعملاً تسهيلاً لفهمه عليهم، وتمهيداً لكمال تخليهم عن عقائدهم المحرفة، ولكمال تحليهم بالعقائد الحقة الصحيحة.
ـ مسايرة الحوادث، والطوارئ في تجددها وتنوعها واختلافها.
ـ الإرشاد إلى مصدر الوحي.. الخ. وثمة مقاصد أخرى كثيرة،‏يراجع للمزيد كتاب مناهل العرفان في علوم القرآن للسيوطي والبرهان في علوم القرآن للزركشي.
2) انظر: ظاهرة اليسار الإسلامي ـ دراسة تحليلية نقدية لأطروحات الاستنارة والتقدمية ـ حسن الميلي،‏تقديم: جمال سلطان‏ـ (الرياض، دار النشر الدولي للنشر والتوزيع، طبعة أولى 1993م) ص108ـ109.
3) لقد علق الدكتور الرومي على هذه الخاصية فقال: «.. هذان مطلبان لايدركهما الفصحاء، والبلغاء من الناس، فلجؤوا إلى قاعدة يعتذرون بها، فقالوا‏(لكل مقام مقال)، أما أن يأتي كلام واحد يخاطب به العلماء والعامة، والملوك والسوقة، والأذكياء ومن دونهم، والصغير والكبير.. ويرى فيه كل منهم مطلبه، ويدرك من معانيه ما يكفيه..» انظر: خصائص القرآن الكريم ـ د. فهد الرومي ـ (الرياض، طبعة خامسة، 1410هـ) 34 باختصار.
4) انظر: خصائص الشريعة الإسلامية ـ د. عمر سليمان الأشقر ـ (الكويت، مكتبة الفلاح، طبعة أولى 1982) ص45 بتصرف.
5) انظر: مدخل لدراسة الشريعة الإسلامية‏ـ د. يوسف القرضاوي ـ ص172، وص175 بتصرف واختصار.
6) انظر: في فقه التدين فهماً ‏وتنزيلاً ، للدكتور عبد المجيد، ج1، ص52ـ65، فقد تناول في كتابه هذا الجانب المتميز للنص الشرعي في بيان الهدي الإلهي تناولاً ‏علمياً محكماً ، وانتهى إلى أن أساليب البيان في هدي الإنسان إلى معرفة التعاليم الإلهية تتنوع إلى ثلاثة أنواع أساسية مترددة في الإرشاد إلى الحقيقة بين التفصيل، وبين الكلية والتعميم، ويمكن ترتيبها على النحو التالي: الهدي التفصيلي الذي كان وروده في الحديث أكثر من وروده في القرآن باعتبار الحديث في أصله مفسراً للقرآن الكريم،‏والهدي الكلي الذي ورد في القرآن أكثر من وروده في الحديث، وذلك لأن تعريف القرآن بالأحكام ـ كما يقول الشاطبي ـ أكثره كلي لا جزئي، وحيث جاء جزئياً ، فمأخذه على الكلية بالاعتبار أو بمعنى الأصل.. وأما الهدي المقصدي، فيشتمل الهديين السابقين لاشتماله عليهما بجريانهما على أساسه من حيث إن كل حكم جزئي أو كلي جار على أساس من مقاصد الشارع، كما أنه مستقل دونهما بالإرشاد فيما لم يرد فيه حكم من أفعال الإنسان المستجدة.. فهذه هي أساليب الوحي في الهدي، ولا ينبغي أن تغيب عن إدراك المتعامل مع النص الشرعي قرآناً وحديثاً .. وقد حاول الدكتور النجار تأصيل كل من هذه الأساليب عن طريق إيراد نماذج لكل منها.
7) يختلف القراء العشرة حول قراءة لفظ «وأرجلكم» من الآية المذكورة،‏إذ إن نافعاً وابن عامر والكسائي، وعاصماً في رواية، ويعقوب يقرؤونه بالنصب «وارجلَكم» فيكون بذلك معطوفاً على قوله «فاغسلوا وجوهَكم وأيديَكم»، ويعتمد الجمهور من أهل السنة والجماعة هذه القراءة ويرون أن فرض الرجلين في الوضوء هو الغسل دون المسح. وأما ابن كثير وأبو عمرو وحمزة، وعاصم في رواية وهم من القراء السبع، وخلف، وأبو جعفر من القراء العشرة، فإنهم يقرون الآية بالجر «وأرجلِكم» فيكون بتلك القراءة معطوفاً على قوله «فامسحوا برؤوسِكم»، ويعتمد جمهور الشيعة هذه القراءة، ويرون أن فرض الرجلين في الوضوء هو المسح دون الغسل. وقد حاول كل من الفريقين تأويل إحدى القراءتين وترجيحها على الأخرى.
انظر: الإقناع في القراءات السبع ـ ابن الباذش ـ تحقيق عبد المجيد قطامش (مكة المكرمة، جامعة أم القرى، طبعة أولى 1403هـ) ج2، ص634. والمبسوط في القراءات العشر ـ الأصبهاني ـ تحقيق سبيع حاكمي (دمشق، مجمع اللغة العربية،‏طبعة 1980) ص184، والنشر في القراءات العشر ـ ابن الجزري‏ـ تحقيق علي الضباغ (القاهرة، مطبعة مصطفى محمد) ج2، ص254، وانظر: الطبري، تفسير الطبري، ج1، ص58 وما بعدها، والقرطبي، أحكام القرآن، ج6، ص94 وما بعدها، والشوكاني، نيل الأوطار، ج1، ص168 وما بعدها.
8) وقد نصَّ على هذه الأحوال الاجتماعية المظلمة الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ للنجاشي عندما همَّ برد المسلمين المهاجرين إلى الحبشة إلى قريش. انظر: رجال حول الرسول ـ خالد محمد خالد ـ‏دار الفكر ص269. وللمزيد من المعلومات حول هذا الوضع ينظر في فجر الإسلام لأحمد أمين.
9) الفوز الكبير في أصول التفسير ـ شاه ولي الله الدهلوي ـ تعريب سلمان الحسيني الندوي، (الهند، دار الصحوة، طبعة ثانية 1986م) ص31.
10) انظر المرجع السابق ص31.
11) انظر الإتقان للسيوطي، ج1، ص28. وهذا القول مسلمٌ به بالنظر إلى ما قررناه من أن معرفة سبب النزول تشمل معرفة الحال والأحوال التي نزل فيها النص، وليست معرفة جملة الأسباب الخاصة فقط، وإنما لابد من معرفة أحوال الأمة التي نزل الوحي مخاطباً إياها. إذ بذلك يتمكن المجتهد من حسن فهم النص.
12) انظر الموافقات ج3، ص225 وما بعدها باختصار.
13) انظر الاجتهاد في الشريعة الإسلامية ص58 وما بعدها.
14) انظر مفتاح دار السعادة ـ ابن القيم الجوزي ـ ج1، ص163.
15) هذه الوجهة في تكييف علاقة النص بالسبب تعتنقها جلُّ من يوصفون في العالم الإسلامي بالعلمانيين، أو المتأثرين بأفكار المستشرقين الذين لا يرون ثم فرقاً بين النص الشرعي وأي نص بشري آخر، ويحاولون من خلال ذلك إخضاع النصوص الشرعية لما يخضع به غيرها من النسبية والظرفية وعدم الاستمرارة المطلقة الأبدية.
16) يمكننا القول بأن هذه النزعة في تكييف العلاقة بين الأمرين هي التي سيطرت على منهج الإمام الدهلوي عند تناوله أسباب نزوله القرآن، وقد دافع عنها دفاعاً منطقياً ، كما سبق أن أوردنا ما ذكره في ذلك، كما يمكن القول أيضاً بأن الإمام الشاطبي في جوانب من تحليله أهمية معرفة سبب النزول في فهم القرآن، ينزع إلى مثل هذه النزعة، وخاصة عندما ينتهي إلى اعتبار المراد بمعرفة سبب النزول بمعرفة مقتضى الحال، وأحوال العرب وعاداتها في الأقوال، والأفعال ومجاري أحوالها حال التنزيل. وهكذا دواليكم. ومن الواضح أن هذا التوجه يهدف إلى تكييفه إلى الإشارة بطريقة غير مباشرة إلى ضرورة الإيمان بمبدأ الإستمرارية للهدي الديني، وعدم النظر إلى النص الشرعي، كأي نص بشري يتميز بخصوصية الزمان والمكان، ويؤثر فيه الظروف وجوداً وعدماً . وعلى كل، للتوسع يرجع إلى الموافقات للشاطبي ج3، ص225 ومابعدها، والفوز الكبير في أصول التفسير للدهلوي ص31ـ و95 وما بعدها.
17) في فقه التدين فهماً وتنزيلاً ج1، ص98 باختصار.
18) نود أن ننبه أن مرادنا من لفظ «أسباب فوق تاريخية» الأسباب التي لا تخضع لما تخضع له الأسباب التاريخية من حيث النسبية، والظرفية، بل هي حاكمة على التاريخ، وليس العكس، والسبب في هذا هو أن الأسباب إذا كانت في نظرنا تاريخية، فإنها تعني ذلك أن النص الذي ارتبط ورودها ونزولها بها يجب أن يكون تاريخياً ، ولا محالة، ومعروف أن التاريخ أحداث في الماضي، لاينبغي إسقاطها على الحاضر، وليس ذلك النص الشرعي، فإنه نص للماضي، وللحاضر وللمستقبل، ولايحكمها أحداث تاريخية معينة بل فوق كل الأحداث والظروف!
19) فكثير من الكتب التي ألفت في أسباب النزول، وأسباب الورود، يحتاج المجتهد إلى النظر من جديد في سندها، ومتنها، إذ تضم بين طياتها روايات واهية، وآثاراً ضعيفة وربما موضوعة، وفي هذا يقول الإمام الدهلوي: «.. ويورد المحدثون في هذا الباب ـ يقصد أسباب النزول ـ أشياء كثيرة ضمن الآيات القرآنية لا علاقة لها بأسباب النزول مثل: استشهاد الصحابة، بآية من الآيات القرآنية في مناظراتهم. أو تمثلهم بآية، أو تلاوة النبي (ص) آية من الآيات للاستشهاد على كلامه، أو رواية حديث يوافق الآية في أصل غرضها وفحواها، أو في تعيين موضع نزولها، أو تحديد أسماء المذكورين فيها بصورة مبهمة، أو بيان طريق التلفظ بكلمة قرآنية، أو في فصل الآيات والسور، أو بيان طريقة امتثال النبي (ص) لأمر من أوامر القرآن الكريم. وكل هذه في الحقيقة، ليست من أسباب النزول في شيء، وليس من شروط المفسر استيعابها والإحاطة بها..» انظر الفوز الكبير ص96ـ97.
20) ولعله من الجدير الإشارة إليه في هذا الموضوع أنه ليست كل العبارات التي تنقل عن الصحابة ينبغي أن يفهم منها أنها أسباب نزول ووردود، فقد يقول الصحابي، على سبيل المثال «نزلت هذه الأية في كذا»، ومراده بهذه العبارة الإشارة إلى كون الآية منطبقة على ما حدث في عهد الرسول (ص)، بل قد يستنبط صحابي حكماً من آية من الآيات، ويستشهد عليه بقوله «نزلت الآية الفلانية في كذا»، مما يعني أن المجتهد ينبغي له اتباع الضوابط المنهجية في قبول هذه الأخبار، والتعامل معها. ورحم الله الإمام الدهلوي الذي نبه إلى هذا الموضوع، وقال ما نصه: «.. وما يستفاد من استقراء كلام الصحابة والتابعين، رضي الله عنهم، أنهم لا يقولون «نزلت في كذا» لمجرد بيان الحادث الذي وقع في عهد النبي (ص) وكان سبباً لنزول تلك الآية. بل إنهم يستعملون هذا التعبير أحياناً لبيان ما تنطبق عليه الآية، وتصدق عليه مما حدث في عهد النبي (ص)، أو بعده (فهو بيان لصورة من الصور التي تصدق عليها الآية) فيقولون عن ذاك «نزلت في كذا» ولا يلزم في مثل هذا الموضع أن تنطبق جميع القيود الواردة في الآية على الحادث، بل يكفي أن ينطبق أصل الحكم الوارد فيها. وتارة يكون قد أورد بعض الصحابة، في حضرته (ص) سؤالاً . أو يقع حادث في عهد النبي (ص)، ويكون هو (ص) قد استنبط حكمه من آية من الآيات، وتلاها عليهم في ذلك الباب، فيحكون هذا الحادث ويقولون «نزلت الآية في كذا» وتارة يقولون عند ذلك «فأنزل الله تعالى قوله كذا» أو «فنزلت كذا»..» انظر الفوز الكبير في أصول التفسير ص95ـ96 باختصار.
والجدير ذكره أن الزركشي قد سبق الإمام الدهلوي إلى هذا التنبيه عندما قال في كتابه البرهان في علوم القرآن ما نصه: «.. وقد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال: نزلت هذه الآية في كذا، فإنه يريد بذلك أن هذه الآية تتضمن هذا الحكم، لا أن هذا كان السبب في نزولها» انظر: البرهان في علوم القرآن ـ الإمام بدر الدين الزركشي ـ تحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم (بيروت، منشورات المكتبة العصرية طبعة 1972م) ج1، ص23 باختصار.
21) انظر: في ظلال القرآن ـ سيد قطب ـ (دار الشروق، طبعة تاسعة 1980م) م1 ص556ـ557 بتصرف واختصار.
22) انظر ظاهرة اليسار الإسلامي ـ محسن الميلي ـ (قرطاج، مطبعة تونس، طبعة 1983م) ص75 وما بعدها، نقلاً ‏عن كتاب خلافة الإنسان بين الوحي والعقل ـ للأستاذ النجار ـ ص110.
23) انظر الموافقات ج3، ص279، باختصار.
24) انظر: الرسالة، ص510، باختصار.
25) انظر المغني شرح مختصر الخرقي ـ ابن قدامة ـ تحقيق د. عبدالله التركي، ود. عبد الفتاح الحلو (القاهرة، هجر للطباعة والنشر) ج1، ص202ـ203، باختصار.
26) انظر الموطأ للإمام مالك، ومعه كتاب إسعاف المبطأ برجال الموطأ ـ جلال الدين السيوطي ـ مراجعة وتقديم فاروق سعد ـ (بيروت، دار الآفاق الجديدة، ودار الرشاد الحديثة بالدار البيضاء، طبعة ثالثة 1985) ص161. وقد علّق صاحب القبس في شرح الموطأ على قول الإمام مالك، فقال: «.. قال علماؤنا: لايجوز للمحدث أن يمسَّ المصحف لقوله تعالى {لا يمسُّه إلا المطهرون}. فإن قيل: هذا خبر، والخبر من الله لا يجوز أن يقع بخلاف مخبره، لأنه يكون كذباً، وذلك مستحيل في وصفه، فدل على أن المراد به خبر الله تعالى عن الملائكة المقربين في الصحف التي عندهم. هذا منتهى كلامهم، وهو ساقط جداً، لأن الخبر لا يجوز أن يكون بمعنى الأمر، كما لا يجوز أن يكون الأمر بمعنى الخبر، كما لا يجوز أن يكون كل واحد منهما بمعنى النهي، ولايجوز أن يكون النهي بمعناهما، لأن الكلام له حقيقة ينفرد بها عن العلم والإرادة، وكذلك أيضاً أقسامه من الأمر والنهي والخبر والاستخبار، لها حقائق ينفرد كل واحد منها حقيقة عن صاحبه، ولهذا المعنى فهمه مالك رضي الله عنه من أن الخبر لا يجوز أن يقع من الله تعالى كذباً، ومن أن الخبر لا يجود أن يكون بمعنى الأمر، أو بمعنى النهي، قال رضي الله عنه: إن هذه الآية والتي في عبس وتولى سواء يريد أنهما راجعتان إلى الملائكة وصحفها، وهذا بالغ في البيان لمن كان له قلب..» اهـ انظر: القبس في شرح موطأ مالك بن أنس ـ لأبي بكر بن العربي المعافري ـ دراسة وتحقيق د. محمد عبد الله ولد كريم ـ (بيروت، دار الغرب الإسلامي، طبعة أولى 1992م) ج1، ص397، باختصار.
27) يقصد بـ «لا» الواردة في بداية قوله «لايمسه» ومعلوم أن حرف «لا» يرد في اللغة إما للنفي، فلا يجوز الفعل المضارع كما هو الحال في الآية هنا، أو للنهي فيجزم الفعل المضارع.
28) انظر في ظلال القرآن ج6، ص3471.
29) انظر المحلى ـ ابن حزم ـ تحقيق الشيخ أحمد شاكر ـ (.. دار الفكر..) ج1، ص83ـ84، بتصرف واختصار.
30) سبق لنا أن استخدمنا مصطلح «الموضوعية عندالحديث عن الضابط المنهجي الثالث ـ النظرة الموضوعية التكاملية ـ بيد أن معناه في ذلك الضابط يختلف عن معناه في هذا الضابط الأخير. فمعناه هناك جمع المجتهد مجموع الآيات والأحاديث التي تشترك في موضوع واحد ثم ضم تلك النصوص بعضها إلى بعض، عن طريق حمل مطلقها على مقيدها، وعامها على خاصها، ومجملها على مفصلها الخ.. وأما معناه في هذا الضابط فهو تجنب الذاتية والتحيز، والتزام الأمانة والاستقامة والتوصل إلى المراد الإلهي دونما السعي إلى ترجيح موقف، أو تقديم مذهب على آخر. فالموضوعية هنا تعني هذا المعنى، وأما هناك، فإنها تعني شيء آخر أقرب أن يكون القضية التي تكون موضوع البحث والفهم..» انظر لمزيد من التوضيج معنى الموضوعية: المدرسة القرآنية ـ السيد محمد باقر الصدر ـ (بيروت، دار التعارف للمطبوعات) ص5 وما بعدها.
31) انظر مبادئ اساسية لفهم القرآن ـ أبو الأعلى المودودي ـ ترجمة خليل أحمد الحامدي، (جدة، الدار السعودية للنشر والتوزيع، طبعة 1987م) ص39 بتصرف واختصار.
32) أصول الكرخي ـ عبد الله بن الحسين أبو الحسن ـ (مصر، المطبعة الأدبية، طبعة أولى) ص84. والجدير بالذكر أن هذا الأصل الذي رواه الكرخي‏ـ في حقيقة الأمر ـ عن الحنفية قد كان مصدر تحامل على الكرخي وانتقاد واسع له، وقد حاول بعض المؤلفين المعاصرين كالدكتور عبد الوهاب أبو سليمان حمل كلامه على محمل حسن، وقرر أن «الفهم الموضوعي المتجرد لهذا الأصل يشير بكل بساطة إلى مدى حرص فقهاء الأحناف ـ كغيرهم من الفقهاء ـ في عدم تجاوزهم لنصوص الكتاب والسنة، وإن بدا شيء من ذلك ظاهراً، فذلك لوقوفهم على علة في ذلك النص من نسخ أو تأويل أو ترجيح دعاهم إلى صرف النظر..» اهـ‏الفكر الأصولي، ص122ـ123، باختصار.
إنا نعتقد أن هذا التفسير الذي ذكره الدكتور لكلام الكرخي يحتاج إلى إثبات، وخاصة أن الكرخي ناقل ومقرر مبدأ وأصلاً من أصول الفقه الحنفي، وواضح في بيانه أن تأويل الآيات والأحاديث ليساند الرأي الفقهي المدون قد كان أصلاً، بل إن العقل الاستدلالي المتحيز قد غلب على توجه كثير من علماء الأمة بعد تدوين المذاهب وتدويلها. وليس الكرخي سوى نموذج لكثير من الفقهاء الذين نظروا في الأدلة أملاً في صيرورتها مساندة لرأي المذهب!
33) ولنحاة البصرة غرام بهذا الأمر، فسرعان ما يصادرون القراءات التي تخالف قواعدهم المدونة ولو كانت متواترة، وما ذلك إلا اعتقادهم بأن قواعدهم هي الأصل الذي يحتكم إليه في كل شيء. وقد تصدى للرد على هذا المنهج عدد من العلماء قديماً وحديثاً، ولعل جهود الدكتور أحمد مكي الأنصاري في هذا الأمر من أميز الجهود وأجدرها إشادة وتشجيعاً. انظر: الدفاع عن القرآن ضد النحويين والمستشرقين، ونظرية النحو القرآني للمؤلف المذكور. ودراسات لأسلوب القرآن الكريم للدكتور عضيمة وغيرهما كثير.
34) انظر الاجتهاد في الشريعة للقرضاوي، من ص90 إلى 94، فقد نقل مجموعة من أمثال هذا القول الذي يرثى له!

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة