تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

الاجتهاد والجهاد في فكر الشيخ محمد مهدي شمس الدين

حسن الصفار

 قرار الحياة والموت بيد الله سبحانه وتعالى فهو {الذي خلق الموت والحياة} (1) {وهو الذي يحي ويميت} (2) وهذا القرار خاضع لإرادته وحكمته وحده تبارك وتعالى. أما الاعتبارات الحاصلة عند أبناء البشر في ترجيح وتمني بقاء هذا أو موت ذاك فإنها لا تعني شيئاً أمام إرادة الله تعالى وحكمته، فحتى أكرم الخلق على الله وأحبهم إليه نبينا الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم) توفّاه الله في الأجل المحدّد له، ولما يتجاوز الثالثة والستين من العمر، مع أهمية وجوده الشريف، وحاجة البشرية إليه، وحساسية وضع الإسلام والدعوة آنذاك.
لذا فإنّنا مع ما نستشعره اليوم من عظيم الحزن والأسى لفقد العالم الفقيه الإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين، والذي غيّبه الموت عنّا ونحن في أمسّ الحاجة إلى عطائه العلمي المتجدد، ومواقفه الحكيمة المتألقة، لا يسعنا إلا تفويض الأمر لله تعالى، والرضا بقضائه وقدره و{إنَّا لله وإنّا إليهِ راجعونَ} (3) . وما يتوجب علينا هو دراسته كتجربة قيادية رائدة للحركة والإصلاح، والحفاظ على نهجه الرسالي الصادق، واستمرارية مدرسته الفكرية الأصيلة. لقد كان الفقيد الراحل مدرسة متميزة في الاجتهاد والجهاد، ومنهجاً رائداً في العلم والعمل.


مكونات شخصيته العلمية.

في كل شريحة أو طبقة من المجتمع، كالسياسيين أو التجار أو الأطباء أو المهندسين، هناك أفراد متفوقون متميزون في وسط أقرانهم ونظرائهم، هم الذين يرفعون مستوى أداء الطبقة التي ينتمون إليها، ويدفعون بمسيرتها إلى الأمام. وإذا كان الشيخ شمس الدين واحداً من علماء لبنان، ومن خريجي الحوزة العلمية في النجف الأشرف، ومن فقهاء الشيعة، ‏وأعلام المسلمين، فإنه كان من القلة المتميزة ضمن هذه الطبقة. ففي البعد المعرفي من شخصيته، هناك مكونات صنعت خصوصيته وتميّزه الفكري.
منها: ذكاؤه الوقّاد ونبوغه المبكر، والذي لفت نظر أساتذته إليه كالفقيه السيد علي الفاني (رحمه الله)، أستاذه في دراسة كتاب (المكاسب)‏ـ فقه التجارة ـ والذي كان معجباً كثيراً بقدرته الفائقة على استيعاب المطالب، وأشرف على بحث له في الإجارة وطلب منه طبعه ونشره.
ومنها: تفرغه وعشقه للعلم والمعرفة من حداثة سنه، فقد ولد في النجف الأشرف ـ العراق سنة 1354هـ/1936م، حين كان أبوه الشيخ عبد الكريم شمس الدين مهاجراً لطلب العلم، وحينما عزم أهله على ترك النجف والعودة إلى لبنان لتأزم وضعهم الاقتصادي، اختار الشيخ شمس الدين البقاء لمواصلة الدراسة وهو في الثانية عشرة من عمره، موطناً نفسه على تحمّل عناء الغربة، وضغوط المعيشة القاسية (حيث الفقر ـ حينذاك ـ والحاجة إلى سد الجوع، وطيّ الليالي والأيام بلا طعام. وحين يتيسر الطعام فهو غالباً طعام بسيط، وحيث النوم بلا وطاء أو غطاء، وحيث الثياب الممزقة المرقعة، ولبس ثياب الصيف في الصيف والشتاء في بعض السنين، ولبس ثياب الشتاء في الشتاء والصيف في سنين أخرى، وحيث الحفاء في شكل الاحتذاء، أو الاحتذاء الشبيه بالحفاء) كما تحدث (رحمه الله) (4) .
ومن تلك المكونات: مواصلة الاهتمام والنشاط العلمي، فقد بدأ رحلته مع العلم وهو دون العاشرة من عمره، واستمر منشغلاً بالدراسة والتدريس، والتفكير والبحث، والكتابة والتأليف، حتى الأيام الأخيرة من حياته، وهو يصارع المرض، ويتلقى جرعات العلاج الصعب في باريس، حيث أخبرني قبل عودته إلى بيروت بأيام في مكالمة تلفونية من باريس: أنه أنجز رسالة فقهية حول الجوار في الإسلام.
لقد مرّت على لبنان سنوات صعبة قاسية أثناء الحرب الأهلية، ومن جرّاء الاحتلال الإسرئيلي للجنوب، والذي امتد في بعض فتراته إلى بيروت، وما رافق ذلك من عدوان وقصف وتخريب مستمر، وعاش الإمام شمس الدين في قلب هذه المحن والعواصف والآلام، وتعرضت حياته للخطر أكثر من مرة، وأحاطت به المشاكل والضغوط، ونالته الاتهامات المغرضة، لكنه لم يترك التواصل العلمي، ولا انقطع عن البحث والتحقيق، في غالب تلك الظروف، ويشير في نهاية بعض أبحاثه العلمية إلى الظروف التي أنجز فيها البحث، كما في خاتمة بحثه القيّم (الاحتكار في الشريعة الإسلامية ـ بحث فقهي مقارن) حيث كتب يقول: (وقد وقع الفراغ من مسودة هذا البحث في صيغتها هذه.. في بلدة القصيبة من قرى جبل عامل.. يوم 7 رمضان 1409هـ 13 نيسان 1989م والحرب اللبنانية في أوج تفجّرها الرهيب المدمّر..).
واشار في نهاية بحثه عن أحكام الستر للمرأة قائلاً: (وقد حصل الفراغ من تدوين هذا البحث في الثامن من ربيع الأول 1414هـ ـ 25 آب 1993م ولا نزال في منزل التهجير..‏ونحن في بلاء عظيم من غدر الزمان، وخيانة بعض من أطغاه السلطان من أهل السياسة، وبعض من غمرته الدنيا من دجاجلة الدين..).
ويظهر من بعض بحوثه أنه أنجزها خلال رحلاته وزياراته إلى دمشق أو إيران أو مناطق أخرى. فهو لا يترك اهتماماته العلمية مهما كانت الظروف التي تحيط به، ومع كثرة المهام التي يقوم بها، والأدوار التي يمارسها، من خلال موقعيته القيادية كرئيس للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، وكزعيم ديني وسياسي في المنطقة العربية والعالم الإسلامي.
ولعل من أهم مكونات شخصيته العلمية: روحية البحث والتحقيق التي توفر عليها، فهو لا يتناول القضايا والمسائل بشكل مرتجل، ولا يطرحها ضمن أسلوب الشعارات واللغة الخطابية، بل يناقش الموضوع الذي يتناوله إلقاءً أو كتابةً بعمق وروية، عائداً به إلى جذوره وخلفيته، مستعرضاً لآثاره ونتائجه، مع استقراء مختلف احتمالات البحث بالدليل والبرهان، ومع توثيق الآراء والشواهد من المصادر المعتمدة لها. وحينما يجد نفسه في بعض البحوث أمام مسألة علمية لم تتبلور لديه الرؤية حول بعض جوانبها، فإنّه لا يرضى لنفسه التسرع، بل يعلن أنها بحاجة إلى مزيد بحث وتأمل، كما يُلحظ ذلك في عدة مسائل من بحوثه حول الاجتهاد والتقليد وحول الجهاد.


ملامح مدرسته الاجتهادية.

من يقرأ بحوثه الفكرية والفقهية، ويتابع آراءه وطروحاته في الميادين المختلفة، يجد ملامح هامة لمدرسته في الاجتهاد والاستنباط، لعل من أبرزها ما يلي:

1ـ التوجه للهموم المعاصرة والتحديات التي تواجه الإسلام والأمة. حيث أنّ السائد في أوساط الفقهاء، أن ينشغل من يبلغ رتبة الاجتهاد، ببحث المسائل الأصولية والفقهية، وفق الجدولة المتداولة في الحوزة العلمية، فيبحثون في الأصل مباحث الألفاظ والأصول العلمية، وفق منهجية كفاية الأصول للشيخ محمد كاظم الخراساني (رحمه الله) (1255ـ1329هـ)، ويبحثون مسائل الفقه على ضوء كتاب (شرائع الإسلام) للمحقق الحلي (رحمه الله) (602ـ676هـ) أو كتاب (العروة الوثقى) للسيد محمد كاظم اليزدي (رحمه الله) (1247ـ1337هـ) كما هو الغالب. فموارد البحث وإعمال الملكة الاجتهادية موارد مألوفة يتكرر طرحها، ويقل الجديد فيها. ومع كامل التقدير والاحترام للجهود التي يبذلها الفقهاء الأبرار في هذه البحوث، إلا أنّه لابد من الالتفات إلى خطورة التحديات التي تواجه الإسلام والأمة، خاصة في هذا العصر، وعلى مختلف الأصعدة: سياسياً‏وفكرياً واجتماعياً واقتصادياً. هذه التحديات تتطلب الاستجابة لها، وإعطاء الرؤية الإسلامية والموقف الشرعي تجاهها. وإذا لم يتجه الفقهاء لمعالجة المشاكل والقضايا المعاصرة، ‏فإنّ ذلك يفسح المجال للتيارت الوافدة، أو التوجهات المخالفة للإسلام، أن تملأ الفراغ وتبسط هيمنتها على أذهان المسلمين وحياتهم. كما يعني ذلك ضعف الثقة بالإسلام وجدارته بالقيادة والتطبيق في هذا العصر، وقد حصلت مثل هذه الآثار والمضاعفات بالفعل.
وهنا يتألق العطاء العلمي للشيخ شمس الدين، حيث وظّف قدرته الاجتهادية، في استنباط رؤية الإسلام واستكشاف أحكامه الشرعية، ‏في مستجدات المشاكل، والقضايا التي أفرزتها تطورات الحياة، وطبيعة الأوضاع والأحداث التي تعيشها الأمة.
فعلى مستوى التحديات الفكرية: له أكثر من بحث ودراسة في مطارحة الفكر المادي، والنظريات الاجتماعية المنبثقة عنه، منها كتابه (مطارحات في الفكر المادي والفكر الديني) وكتابه (العلمانية) وكتابه (بين الجاهلية والإسلام).
وعلى الصعيد السياسي: يعتبر من أوائل فقهاء الشيعة المعاصرين في العالم العربي الذين اهتموا بمسألة نظامالحكم في الإسلام، حيث ألّف كتابه (نظام الحكم والإدارة في الإسلام) سنة 1954م أي قبل أن يكمل العقد الثاني من عمره.
وبعد انتشار الصحوة الإسلامية المباركة، ونمو الحركات الإسلامية المبثقة عنها في مختلف بلاد المسلمين، وما رافق ذلك من احتدام الصراع بينها وبين العديد من الأنظمة والحكومات، حيث انجرت بعض الحركات الإسلامية إلى ممارسة العنف، وأمعنت بعض الحكومات في استخدام القمع، وكادت بلاد المسلمين أن تتحول إلى ساحات للاقتتال الداخلي والفتن المدمرة، هنا توجه الإمام شمس الدين لمعالجة هذه القضايا الحسّاسة برؤية علمية، وتأصيل فقهي، ولغة حكيمة، عن طريق الخطابات الجماهيرية والمقابلات عبر وسائل الإعلام، والتخاطب مع النخب في المؤتمرات، والحوار مع القيادات السياسية من حكام وزعماء تنظيمات، كما ألّف كتاباً قيّماً لعله من أهم أبحاثه ودراساته بعنوان (الاجتماع السياسي الإسلامي). إضافةً إلى مجموعة كبيرة من البحوث المهتمة بالشأن السياسي المعاصر للأمة نشر بعضها في مجلدات كتابه (دراسات ومواقف في الدين والسياسة والمجتمع). ولمركزية قضية المواجهة مع الاحتلال والعدوان الإسرائيلي فقد وجه لها الإمام القسط الأكبر من اهتمامه الفكري والعلمي، فطرح العديد من المشاريع للمقاومة والمواجهة وتصدى لخطط التطبيع مع الكيان الغاصب، مستنهضاً الأمة، ومحذراً من المؤامرات ومحاولات الخداع والمكر.
وفي المسألة الاجتماعية: استقطب فكره العديد من التحديات التي تواجه المجتمعات الإسلامية اليوم، ومن أبرزها موضوع المرأة، فهناك أعراف وتقاليد تهمّش دور المرأة في المجتمع، وتقلّص فاعليتها وفي المقابل تروّج الحضارة المادية الغربية لأنماطها السلوكية المبتذلة التي تجعل من المرأة مادة إثارة للشهوات والرغبات الجنسية، وبين هذين الاتجاهين كادت ان تضيع في أوساط المسلمين رؤية الإسلام، وأحكامه الشرعية، حول حقوق المرأة، وواجباتها ودورها الاجتماعي. ولعل الإمام شمس الدين اول فقيه يتصدى لمعالجة المسائل الحساسة والحرجة في موضوع المرأة بهذا الاستيعاب والشمول، فأنجز أربعة أبحاث تحت عنوان (مسائل حرجة في فقه المرأة) تناول الكتاب الأول منها موضوع (الستر والنظر)، والثاني (أهلية المرأة لتولي السلطة)، والثالث (حقوق الزوجية)، والرابع (حق العمل للمرأة). وللإمام شمس الدين بحوث حول المجتمع والطبقات الاجتماعية في كتابه (دراسات في نهج البلاغة). كما صدر له بحث (حول تنظيم الأسرة) وآخر حول (رسالة الحقوق للإمام زين العابدين).
هكذا كانت اهتماماته العلمية من وحي إدراكه للمسؤولية تجاه الإسلام والأمة، ووعيه بالظروف والمتغيرات التي يعيشها عالم اليوم.

2ـ ضوابط التجديد: الفقيه المنفتح على تطورات الحضارة ومتغيرات الحياة، يدرك أكثر من غيره الحاجة إلى التطوير والتجديد في الفكر والفقه الإسلامي، لكن ذلك يجب أن يكون وفق الضوابط الشرعية وآليات المنهج العلمي، المتفق عليه في الاجتهاد والاستنباط، وإلا تحول الأمر إلى خليط من الأهواء والاستحسانات البشرية تُنسب إلى الدين والشرع. ومن ملامح مدرسة الشيخ شمس الدين الاجتهادية، تأكيده على ضرورة الالتزام بتأصيل أي فكرة أو موقف يُنسب إلى الدين بالرجوع إلى الكتاب والسنة، ومن خلال منهج الاستدلال والبرهنة الفقهية العلمية، ‏وهو يدعو الإسلاميين إلى أن لا ينطلقوا في آرائهم ومواقفهم التي ينسبونها للإسلام من وحي الانفعال والعاطفة، أو من أجل تحقيق المكاسب والمصالح الفئوية، بل عليهم أن يتقيدوا بالحدود والضوابط الشرعية. فالتجديد في نظره ليس حركة خارج الدليل بل داخله. وليس عملية توفيقية بين المسلّمات ومتطلبات الواقع المعاش، تؤدي إلى بتر تلك المسلّمات عن جذورها، لإيهام تكيّفها مع الواقع، بل يجب أن يكون التجديد إعادة تأصيل وتجذير لتلك المسلّمات بأفق أوسع، ونظرة أكثر عمقاً وشمولية، تلحظ خصوصيات الظرف في ما يناسب ذلك، وتلتزم الإطلاق في غير ذلك، من خلال ضوابط وموازين، وأصول محددة، يعاد على أساسها قراءة الدليل وتحليله، وصياغته، وترتيب آثاره، وفرز العناوين وترتيبها، واستخراج ما هو ثانوي، والتفريق بين المستجدات في كونها مصاديق للعنوان الأولي، أو للعنوان الثانوي، وإخضاع المستجدات لنتائج البحث النظري (5) .


مدرسة ومنهج.

الآن وقد رحل عنّا الشيخ شمس الدين وهو في أوج عطائه العلمي، ونضج تجربته القيادية، فخسرنا بفقده الكثير، حيث لا يزال في جدول اهتماماته العلمية العديد من الأبحاث والقضايا الحسّاسة الشائكة، التي ينوي دراستها وإنجازها، فإنّ المطلوب تكريس منهجيته العلمية في ساحة الأمة. إنّ مشاعر الحزن والأسى لفقده، أو الثناء عليه وتمجيد شخصيته، وإن كان صحيحاً ومطلوباً، لكن ما ينبغي التوجه إليه هو:
أولاً: قراءة ودراسة أفكاره ومواقفه، فهي ثروة هامة وتجربة غنية ناضجة.
ثانياً: التوجه لتأكيد واستمرارية منهجيته العلمية، ‏التي تعنى بهموم العصر وقضايا الحياة، وتلتزم التأصيل الديني بضوابطه الشرعية الفقهية، وتتسم بالشجاعة والجرأة في التعبير عن الرأي، بحكمة وموضوعية، بعيداً عن الإثارات والمهاترات.
ثالثاً: تخليد آثاره العلمية الفكرية، بنشرها على أوسع نطاق، كمطبوعات وعلى شبكة الانترنت، وترجمتها إلى اللغات العالمية الحيّة، وكتابة البحوث والدراسات حولها.
رابعاً: الالتفات إلى النماذج العلمائية الواعية المخلصة، ففي ساحة الأمة علماء وفقهاء ينتهجون الخط الرسالي الذي سار عليه الشيخ الفقيد، ويحملون هموم الإسلام والأمة، وهم على قلة عددهم، واشتداد الضغوط عليهم، بحاجة إلى دعم والتفات من قبل الواعين من أبناء الأمة وجماهيرها.
ولا يصح أبداً أن ننتظر فقد العالِم المصلح حتى نكتشف عظمته ونشعر بالحرمان والخسارة لفقده، بل علينا أن ننتفع بوجوده ونستفيد من عطائه مادام يعيش معنا على قيد الحياة.


نهجه في الإصلاح والجهاد.

يحتل مفهوم الجهاد مساحة واسعة من النصوص الدينية، حيث تبلغ الآيات القرآنية التي تناولته بلفظ الجهاد ومشتقاته حوالي 40 آية، أما الأحاديث الواردة حوله فهي تعد بالمئآت.
الجهاد لغة وشرعاً: الجهاد على وزن فِعال مأخوذ من (الجُهد) ـ بالضم ـ وهو المشقة البالغة و(الجَهد)‏ـ بالفتح والضم ـ الطاقة ومنه قوله تعالى‏{والذينَ لا يَجِدُونَ إلا جُهْدَهُمْ} (6) . فتحمّل المشقة وبذل الطاقة والجهد في أي مجال يطلق عليه <<جهاد>> لغةً.
وقد اعتمد الشرع هذا الإطلاق في النصوص الدينية، فجاء في الآيات والأحاديث، استعمال كلمة الجهاد ضمن المعنى اللغوي العام الذي هو بذل الوسع وتحمل المشقة في سبيل شيء ما، خيراً كان أو شراً، فقد جاء في القرآن الكريم استعمال مادة الجهاد بمعنى السعي في الحرام، كقوله تعالى: {وإن جاهَدَاك على أَن تُشرك بي مَا ليسَ لكَ بهِ علمٌ فلا تُطِعْهُما} (7) . فأطلق على سعي الوالدين لإضلال الولد وحمله على الشرك: جهاداً وهما يبذلان جهدهما في طريق الحرام والشر.
وفي نصوص عديدة أطلق الشرع عنوان الجهاد على موارد مختلفة من أعمال البر والتوجهات الصالحة، كالروايات الواردة حول جهاد النفس، والذي اعتبره الحديث النبوي المشهور (الجهاد الأكبر). وكذلك ما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم) من أن <<الكادّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله>> (8) وما ورد من أن <<جهاد المرأة حسن التبعّل>> (9) .
وضمن هذا السياق كان اعتبار القتال في سبيل الله، والمشاركة فيه بالمال والنفس جهاداً، لما يمثله من أجلى صور البذل وتحمل المشاق. بحيث تنصرف غالب الآيات والأحاديث التي تتحدث عن الجهاد إلى هذا اللون منه، وهو القتال والعمل الحربي وما يتعلق به، وإن كان للجهاد مفهوم واسع وشامل، إلا أن هذا المصداق أصبح هو الأبرز والأوضح من مصاديقه، والذي تتبادر إليه الأذهان، ومتى ما أطلق يقصد به وخاصة في اصطلاح الفقهاء. أما الذي نقصده من كلمة الجهاد فهو بمعناه العام الشامل والذي يعني بذل الجهد والطاقة، وتحمّل العناء والمشقة في سبيل الله، للدفاع عن المبادئ والقيم، ولخدمة مصالح الأمة.


الجهاد فريضة وضرورة.

من يتأمل الواقع الذي تعيشه الأمة، والتحديات التي تواجهها، يدرك الحاجة إلى بذل أقصى الجهود، وإعلان حالة الاستنفار على جميع الجبهات، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولوقف تداعيات التخلف والانهيار الذي تعاني منه الأمة منذ زمن بعيد. إننا نواجه تحديات خطيرة رهيبة تهدد قيمنا وهويتنا، في ظل العولمة المادية الطاغية، كما نواجه عدواً شرساً (الكيان الصهيوني) تدعمه قوى الاستكبار العالمي، يحتل مقدساتنا، ويمارس البغي والعدوان ضد أبناء أمتنا، متفنناً في أساليب البطش والفتك بالأبرياء العزل من أطفال ونساء. على مسمع ومرأى من العالم. والأدهى من ذلك ما نعانيه من تخلف حضاري في حياتنا الاقتصادية والاجتماعية. ولسنا بحاجة للاسترسال في تشريح واقعنا المأساوي الأليم فصورته واضحة، وغصصه يتجرعها الجميع.
فكيف السبيل إلى الخلاص? وكيف يمكن وضع حد لهذه المعاناة?
إن الاستسلام للواقع والرضوخ له وكأنه قدر لا يمكن تغييره أو تجاوزه، موقف خاطئ لا يقبله العقل ولا الشرع، وانتظار الفرج والتغيير من الغيب، ‏مخالف لمنطق القرآن وسنة الله في الحياة يقول تعالى: {إنَّ الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم} (10) . والسعي والعمل هو وحده طريق النجاة، لكنه يجب أن يكون بمستوى المواجهة، وفي حجم التحدي الخطير، أما العمل والتحرك ضمن الحدود الدنيا، وفي إطار البرامج الاعتيادية لحياتنا بحيث لا تكلفنا صعوبة ولا عناءً.. العمل بهذا المستوى المنخفض لا يحقق أي نتيجة، ولا يردم شيئاً من الهوّة العميقة، والمسافة الشاسعة التي تفصلنا عن ركب الحضارة والتقدم.
إننا بحاجة إلى إعلان النفير العام، لنستنهض كل طاقاتنا، ولنبذل كل ما في وسعنا من جهد وإمكانية، عسى ولعلّ أن نفعل شيئاً لإنقاذ أنفسنا ومستقبلنا، ولحماية ديننا وكرامتنا. إننا بحاجة إلى روح الجهاد بالمعنى الشامل للجهاد، ليصبح كل واحد منا جندياً مقاتلاً يتحمل المشاق والعناء، ويبذل أقصى طاقته من خلال موقعه، في أي ساحة أو مجال، في ميدان العلم أو العمل، وعلى مستوى الفكر أو الحركة.
وعلماء الدين هم في طليعة من يتحملون مسؤولية الجهاد من أجل الدين والأمة، حيث <<أخذ الله على العلماء ألا يُقارُّوا على كظّة ظالم، ولا سغب مظلوم>> (11) كما يقول الإمام علي (عليه السلام). ولأنهم بجهادهم يحيون روح الجهاد في الأمة، ويشقون أمامها طريق التضحية والعطاء. لكننا نلحظ أن الكثيرين من علماء الدين قد أصبحوا جزءاً من الحالة العامة السائدة في الأمة، حيث يعيشون ضمن برنامج اعتيادي تقليدي، ويكتفون بأداء أدوار ومهام محدودة، في إطار إقامة بعض الشعائر والمراسيم الدينية، وتبيين شيء من الأحكام والمسائل الفقهية.
وإذا كنا نحترم ونقدر هذه الأعمال التي يؤدونها باعتبارها إحياءً لجزء من شعائر الدين، وحفظاً لمظهر من مظاهر الخير والصلاح في المجتمع، إلا أنها وبكل تأكيد لا ترقى إلى مستوى المسؤولية الخطيرة الملقاة على عاتق العلماء في هذه الظروف الحساسة، ولا تشكّل ثقلاً في معادلة الصراع مع أعداء الدين والأمة. وما يبعث الأمل في النفوس، ويحيي الثقة والاطمئنان، هو انطلاق عدد من العلماء الرساليين المخلصين، وتصديهم لتحمل مسؤوليات المواجهة والتغيير لواقع الأمة.
والإمام الشيخ محمد مهدي شمس الدين (رحمه الله)، هو في طليعة تلك النخبة المجاهدة الواعية، وقد تركت وفاته أثراً وصدى عظيماً في أوساط الأمة، وشعر الجميع بالفراغ الكبير الذي خلّفه رحيله، ‏ليس على مستوى الساحة اللبنانية فحسب، بل على الصعيد العربي والإسلامي بأجمعه. وإذا كنا افتقدناه شخصاً، فيجب أن نخلّده مسيرةً ونهجاً. إنه أنموذج لعالم الدين المجاهد الذي يشتغل بأقصى طاقة وقدرة لديه، ويستنفر كل جهد وإمكانية، ويستثمر كل فرصة وظرف، من أجل خدمة الإسلام والأمة. ونستعرض بإيجاز بعض معالم نهجه الجهادي.


الجهاد في ميدان العلم.

قد يتعاطى عالم الدين مع الشأن العلمي ضمن الحدود المتداولة المألوفة، فيدرس ويدرّس، ويفتى للناس ويعلمهم الأحكام، ويكتب بعض المؤلفات والأبحاث. كل ذلك في إطار حياة اعتيادية طبيعية، أما العالم المجاهد فهو الذي يشمّر عن ساعديه، ويعلن حالة الطوارئ الدائمة في حياته، ‏ويتعاطى مع الشأن العلمي كميدان جهاد، يبذل فيه كل جهد وطاقة، ويتحمل المصاعب والمشاق، في سبيل خدمة الدين والأمة على الصعيد العلمي.
والشيخ شمس الدين مثلٌ رائع معاصر لهذا الصنف من العلماء المجاهدين، فإبداعاته وابتكاراته العلمية تدل على نشاطه الفكري الدائم، ونوعية الأبحاث العلمية التي أنجزها مؤشر على اهتمامه بالتحديات الخطيرة التي يواجهها الإسلام والأمة. فهناك مسائل وقضايا حساسة يحذر الكثيرون من العلماء من خوضها وتناولها بالبحث والتحقيق، لأنها تستلزم جهداً كبيراً بسبب قلة الطارقين والمتعرضين لها. ولأن نتائج البحث فيها قد تكون مخالفة للسائد والمشهور. حيث تعاني أوساطنا العلمية الدينية من مشكلة مزدوجة ذات وجهين: الوجه الأول منها: يكمن في التحفّظ على الرأي الجديد المخالف للسائد والمألوف، في مجالات الفكر والفقه والحركة الاجتماعية، لذلك ينطوي الكثير من العلماء على آرائهم حذراً من ردود الفعل في طرحها من أبناء الصنف، وينقل الشيخ المطهري عن السيد البروجردي وكان المرجع الأعلى في عصره للحوزة العلمية في قم، إنه كان مضطراً لاستخدام التقية في المحيط الداخلي، وأنّ الشيخ عبدالكريم الحائري مؤسس الحوزة العلمية في قم طلب من عدة من الطلبة تعلم اللغات الأجنبية وبعض العلوم كمقدمات، لكي يستطيعوا عرض الإسلام على الطبقات المثقفة الجديدة، وفي البلدان الأجنبية، لكنه تراجع عن هذا الأمر تحت ضغط المعارضين الذين رأوا في عمله بدعة وانحرافاً (12) . وفي النجف الأشرف اضطر الشيخ محمد حسين النائيني (1273ـ1355هـ) وهو مرجع كبير إلى سحب كتابه (تنبيه الأمة وتنزيه الملة) من الأسواق، والكتاب كان دعوة إلى الأخذ بالشورى وتشكيل المجالس النيابية، ورفضاً للاستبداد.
ومن يقرأ عن معاناة العلماء المصلحين في الحوزة العلمية، كتجربة الشيخ محمد رضا المظفر ورفاقه في تأسيس منتدى النشر وأمثالها، يدرك عمق هذه المشكلة، ودورها في إيقاف حركة الإبداع والتطوير.
أمّا الوجه الآخر للمشكلة فيظهر في استخدام أسلوب الإثارة والتحريض عند طرح الآراء الجديدة، لتكون مادة للتعبئة والتحشيد ضد الطرف الآخر، ووسيلة للاستقطاب والجذب. فيكون الطرح مسيّساً فئوياً، يساعد على اندفاع الفئات الأخرى للتمسك بمواقعها والدفاع عن مصالحها. وبين هذين الوجهين للمشكلة تكون المصلحة العليا للعلم والدين هي الضحية.
وقد وعى الشيخ شمس الدين هذه المشكلة، وتجاوزها إلى حد كبير، بامتلاكه لشجاعة إبداء الرأي، حينما يتحقق لديه بالأدلة الشرعية، مهما كان مخالفاً لما هو سائد أو مشهور في الأوساط العلمية، لكن مع الالتزام بأكبر قدر ممكن من الحكمة في الطرح، حيث يعرض آراءه الاجتهادية ضمن قنوات البحث العلمي من تدريس أو مشاركة في منتدى، أو من خلال كتاب تخصّصي، كما يؤصل طروحاته بالبرهنة والاستدلال، وفق آليات المنهج العلمي المقبول. ويناقش الرأي الآخر السائد والمشهور بهدوء واحترام، ولا يتعمد التسويق لآرائه في الوسط الجماهيري بتعبئة وتحشيد.
ونسوق هنا مثلاً‏على ذلك رأيه حول ولاية الأمة على نفسها، والذي يخالف فيه من يرون أن لا شرعية لأي شكل من أشكال الحكم والسلطة في عصر غيبة الإمام المعصوم، كما يخالف فيه القائلين بولاية الفقيه المطلقة، إنّه يطرح رأيه في المسألة مع الأدلة والبراهين التي قادته إليه، لكن دون أن يؤثر ذلك على علاقته واحترامه لأصحاب الرأيين الآخرين، ودون أن يوظّف رأيه في صراع مع هذا الطرف أو ذاك.
ونلحظ الشجاعة العلمية الفائقة عند الشيخ شمس الدين في ما ذهب إليه وانفرد به من جواز تولي المرأة للسلطة ورئاسة الدولة، مع اتفاق من تعرض للموضوع من علماء السنة والشيعة على المنع من ذلك، ولكنه يناقش الرأي المخالف المجمع عليه بموضوعية وهدوء، فيورد كل الأدلة التي ذكروها، أو التي يُحتمل أن يستدلوا بها، مشيراً إلى ثغراتها ونقاط ضعفها، وبالتالي عجزها عن البرهنة على المنع. ويحتمل تأثر الفقهاء في موقفهم هذا بالخلفية الكلامية السائدة عندهم حول الإمامة والخلافة. وقد أفرد لهذا البحث كتاباً مستقلاً طبع تحت عنوان (أهلية المرأة لتولي السلطة).
وكذلك رأيه حول مشروعية تولي الأكفاء المخلصين من غير المسلمين من حاملي جنسية الدولة الإسلامية ومواطنيها مناصب قيادية تنفيذية، مخالفاً بذلك الرأي الفقهي المشهور عند الشيعة، وقد أفرد له فصلاً في كتابه (نظام الحكم والإدارة في الإسلام) تحت عنوان: (الخيار بين الكفاءة المهنية والإخلاص الديني).
ومن روائع بحوثه وابتكاراته العلمية الفقهية كتابه حول الجهاد (جهاد الأمة) والذي قرّر فيه إنكار مشروعية الجهاد الابتدائي، وهو القتال المبتدأ من المسلمين لأجل الدعوة إلى الإسلام بإدخال الكفار فيه وحملهم على اعتناقه، أو إخضاعهم لسلطان الإسلام بأداء الجزية إن كانوا من أهل الكتاب، وإنّما سمي ابتدائياً لأنه يتم بدون عدوان مسبق من الكفار على المسلمين. ورغم اتفاق الفقهاء سنة وشيعة على انقسام الجهاد إلى قسمين: ابتدائي ودفاعي، إلا أن الشيخ شمس الدين ينكر هذا الانقسام ويرى أن الجهاد المشروع في الاسلام واحد هو الجهاد الدفاعي، وأن لا مشروعية للجهاد الابتدائي. ويناقش كل الأدلة التي اعتمدها الفقهاء في رأيهم من آيات وروايات وسيرة وإجماع مناقشة علمية مستوعبة، بمنهجية رائعة شيقة.


في ساحة العمل السياسي.

لم يتزعم الشيخ شمس الدين تنظيماً سياسياً، ولا قاد ثورة جماهيرية، ولم يدخل ضمن تشكيلة حكومية، لكن حضوره السياسي كان بارزاً ملفتاً في أكثر من ساحة عربية وإسلامية، خصوصاً في هذا العقد الأخير. لقد أصبح مرجعية دينية سياسية ينظر لها بإكبار واحترام، فهو صاحب رؤية سياسية، ذات عمق فقهي ديني، إنه يستشرف الأحداث، ويواكب تطوراتها، فيكتشف الإشكاليات مبكراً، ويحذر من المؤامرات والأخطاء قبل وقوعها، ثم يجتهد كثيراً في وضع المعالجات وتقديم الحلول، بنظرة واقعية، مؤصلة من الناحية الشرعية.
إن الموقف الصلب والثابت من الكيان الصهيوني الغاصب، يعتبر محوراً رئيساً في تفكيره وحركته السياسية، فوجود هذا الكيان العدواني في قلب الأمة العربية والإسلامية، يعتبره الشيخ أكبر تحد للأمة في هذا العصر، والاستجابة لهذا التحدي تعني تعبئة طاقات الأمة للمقاومة، لذلك تبنى الشيخ مشروع المقاومة المدنية الشاملة، فمواجهة إسرائيل لا تقتصر على العمل الحربي، ولا تنحصر في القوى العسكرية، بل هي مسؤولية كل الأمة بكل قطاعاتها وجوانب حياتها. ولذلك يجب أن تجمّد الأمة كل خلافاتها الجانبية، وصراعاتها الداخلية، لتتفرغ لإدارة معركتها الأساسية ضد الصهاينة الغزاة المعتدين.
وعلى الصعيد اللبناني ومع ضغط القوى الطائفية المتصارعة، واشتداد محنة الحرب الأهلية السيئة الذكر، التي عاشها لبنان طيلة خمسة عشر عاماً، إلا أن الشيخ شمس الدين نأى بنفسه عن الانغماس في أوحالها، أو التلوث بأوساخها، وبقي أباً وراعياً لجميع اللبنانيين مسلمين ومسيحيين، ومن مختلف الفرقاء والفئات، يدعوهم إلى ضبط انفعالاتهم وعواطفهم، وأن يتخاطبوا بالمنطق والحوار، لا بالسلاح والعنف. وحينما استعاد لبنان عافيته بعد اتفاقية الطائف، واصل الشيخ نشاطه في حماية السلم الأهلي، وتكريس صيغة التعايش المشترك على أساس أن لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه.
وكتاباته وخطبه ومقابلاته الإعلامية وتصريحاته السياسية، ستبقى خير كنز وذخيرة للبنانيين، تعينهم على حماية تجربتهم المتميزة، وتساعدهم على مواجهة الأخطار والتحديات.


المشكلة الطائفية.

ولعل من أهم المواقف والأدوار السياسية التي قام بها الإمام شمس الدين، دوره في معالجة المشاكل الطائفية التي تعاني منها العديد من المجتمعات الإسلامية، وكان ينطلق في حركته من المبادئ التالية:
1ـ إن تعدد المذاهب وانقسام المسلمين إلى سنة وشيعة ليس أمراً جديداً بل قد حصل منذ العهود الأولى في تاريخ الأمة، وهذا التعدد المذهبي لا يصح أن يشرخ وحدة الأمة، أو يشق صفها، بل يجب أن تبقى أمة واحدة كما أمر الله تعالى {وإنّ هذهِ أُمتكمْ أمةً واحدةً} (13) . خاصة مع التحديات الكبيرة التي تواجهها والأخطار الشديدة المحدقة بها.
2ـ والتمايز المذهبي لا ينبغي ان يترتب عليه أي تمايز أو تمييز في نظام المواطنة من حيث الحقوق أو الواجبات.
3ـ والأقليات المذهبية سنية أو شيعية يجب أن تبقى جزءاً من محيطها، وأن يكون ولاؤها السياسي لوطنها ومجتمعها.
4ـ كما تحتاج الأقليات إلى المبادرة والسعي لإزالة أي لبس أو سوء فهم يحصل حول واقعها وأوضاعها، وأن تقدم عن نفسها الصورة الصحيح الواضحة، فلا تترك المجال للمغرضين والأعداء الذين يصطادون في الماء العكر، ويصطنعون الفتن والمشاكل.
5ـ كذلك فإن على الأكثرية أن تعترف للأقليات بخصوصياتها المذهبية، وأن تمنحها الشعور بالأمن والاطمئنان حتى لا تستجيب لأي تحريض داخلي أو خارجي، ولا تفكر في الاستقواء بأي جهة خارج محيطها.
6ـ والانفتاح والحوار هو السبيل لتجاوز حالات الاحتقان، واحتواء أي مشكلة أو تشنج طائفي مذهبي. ذلك أن التباعد والقطيعة تفسح المجال لسوء الظنون، والإشاعات المغرضة وتقيم الحواجز بين النفوس.
وانطلاقاً من هذه المبادئ قام بمبادرات عديدة، في الانفتاح على الحكومات، واللقاء مع الزعامات الدينية والسياسية، في العالم العربي والإسلامي، وسارع لاحتواء بعض الأزمات ذات الصبغة المذهبية، كما حدث في مصر حيث أُعتقل مجموعة من الأشخاص المتشيعين، ورافق ذلك ضجة إعلامية، تعزف على الوتر الطائفي، فقام (رحمه الله) بحركة سريعة للالتفاف على هذه المحاولات، وتواصل مع القيادة السياسية والدينية في مصر، وترتب له برنامج لزيارة القاهرة، حيث تحدث مع المسؤولين لمعالجة الموقف بحكمة ونضج، وحقق بذلك نجاحاً باهراً يسرّ قلب كل مسلم غيور على وحدة الأمة، مهتم بمصلحة الإسلام والمسلمين.
وضمن هذا السياق كانت له زيارات متكررة لدول الخليج، كما بذل مجهوداً فكرياً وإعلامياً ضخماً، لتوعية جماهير الأمة من السنة والشيعة بأضرار الفتن الطائفية، وضرورة الالتزام بمبادئ الدين وتعاليمه في أخلاقيات التعامل داخل المجتمع الإسلامي، لحماية وحدة المجتمع وضمان أمنه واستقراره، وحماية مستقبله ومصالحه.
وأهم ما يميز طروحات الشيخ شمس الدين ومواقفه السياسية، تأصيله لها من الناحية الشرعية الفقهية، فهو لا يطرحها انطلاقاً من تكتيك سياسي، أو مصلحة مرحلية، بل يستنبطها من نصوص الكتاب والسنة، وضمن مناهج الاستدلال العلمي وحسب ضوابطه، ويطالب الفقهاء المسلمين بإمعان النظر في استنباط الأحكام الشرعية المرتبطة بالمواقف السياسية، حتى لا تكون متأثرة بأجواء انفعالية، أو آراء متوارثة من عهود التخلف والصراعات التاريخية. يقول (رحمه الله): (وألتمس من ساداتي وإخواني العلماء، ومن المشتغلين بعلم الحديث، ومن المفكرين، أن يعيدوا النظر في النصوص التاريخية والتشريعية، الواردة في المسألة السياسية، ليروا كما رأيت وأرجو أن أكون قد أصبت..) (14) .
هكذا كان نهجه في الجهاد والحركة السياسية، والذي يجب أن يتحول إلى مدرسة في الرؤية والتحليل، وتأصيل المواقف حسب فقه الشريعة المقدسة. وكان (رحمه الله) حركة دائبة، لجمع الشمل، ورأب الصدع، ورغم إصابته بالمرض الخطير في الأشهر الأخيرة من حياته، إلا أنه كان يرهق نفسه بالاتصال والتواصل، والاستقبالات وعقد اللقاءات، مخالفاً نصائح الأطباء، حتى اليوم الأخير، حيث دخل في غيبوبة نقلته إلى الرفيق الأعلى.
رحم الله الشيخ الفقيد، وجزاه خير الجزاء على جهوده وأتعابه، ووفق الأمة للاستفادة من تجربته الثرة الناضجة والحمد لله رب العالمين.
(1) سورة الملك آية 2.
(2) سورة المؤمنون آية 80.
(3) سورة البقرة آية 156.
(4) شمس الدين: محمد مهدي/ نظام الحكم والإدارة في الإسلام/ ص11/ الطبعة الثانية1991/ بيروت.
(5) شمس الدين: محمد مهدي/ الاجتهاد والتجديد في الفقه الإسلامي، ص7، الطبعة الأولى 1999م، المؤسسة الدولية/ بيروت.
(6) سورة التوبة الآية 79.
(7) سورة لقمان الآية 15.
(8) المجلسي: محمد باقر/ بحار الأنوار /ج100/ ص13.
(9) الحر العاملي: محمد بن الحسن/ وسائل الشيعة ج15/ حديث رقم 19935.
(10) سورة الرعد الآية 11.
(11) الموسوي: الشريف الرضي/ نهج البلاغة خطبة رقم3.
(12) المطهري: الشهيد مرتضى/ الاجتهاد في الإسلام/ ص56ـ57/ مؤسسة البعثة ـ طهران.
(13) سورة المؤمنون/ آية52.
(14) الغدير: مجلة ـ العددان 8و9/ ص92/ سنة 1990م.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة