تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

وحدة الامة ومسؤولية العلماء

حسن الصفار

الوحدة أصل ثابت منýاصول الإسلام، وهدف أساس للأمة الإسلامية التي أرادها الله أمة واحدة {وان هذه امتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} والإختلاف والنزاع حالة مضادة ومناقضة لأساس الدين وغايته يقول تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا} ويقول تعالى: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}.
ولسنا بحاجة للوقوف طويلاً للحديث حول ضرورة الوحدة وأهميتها وموقعيتها على المستوى الديني فذلك أمر مفروغ منه وواضح لدى كل مسلم واع.
لكن وبالنظر إلى الواقع التجزيئي الذي تعيشه الأمة فإن السؤال الذي يفرض نفسه بالحاح هو: ما هي الخطوة الأولى في طريق الوحدة؟ ومن أين نبدأ السير؟ ومن هي الجهةالأكثر تأهيلاً للتصدي لمهمة وحدة الأمة؟
فمنذ أكثر من نصف قرن كان هناك من يراهن على دور الأنظمة والحكومات في العالم العربي والإسلامي لكي تصنع واقع الوحدة من خلال الأطر والمؤسسات الرسمية وعبر العلاقات والتحالفات الثنائية بينها.. وكانت جماهير الأمة تهلل فرحاً لكل مؤسسة رسمية ترفع راية الوحدة أو إطار اقليمي يتبنى التعاون والتنسيق أو أي صيغة تبشّر بتوجه وحدوي ولو بين دولتين وقطرين من أقطار المسلمين.
لكن هذا الرهان باء بالفشل والخيبة وتأكد لجماهير الأمة أن الأنظمة والحاكمين لايتوقع تحقيق وحدة الأمة على ايديهم.
فأكثر هذه الأنظمة تدور ضمن أفلاك دولية لاترى أن من مصلحتها وحدة الأمة بل تعمل لإبقائها مجزأة ممزقة.
وأغلب الحاكمين تسيطر عليهم نزعةالتسلط والتفرد وليسوا مخلصين لمصلحة الأمة ولا جادّين في تحقيق آمالها وتطلعاتها، كما لايمتلكون مستوى من الوعي السياسي الحضاري الذي يدفعهم للتعاون فيما بينهم.
من هنا أصبحت المؤسسات هياكل شكلية وبقيت الأطر دون محتوى ومضمون حقيقي. وانتهت أغلب مشاريع الوحدة إلى التفكك والخلاف والنزاع.
هناك من يرى أن الوحدة يجب أن تبدأ من جماهير الأمة وذلك بتعبئة الجمهور ودفعه لفرض الوحدة وأن يمارس الناس السلوك الوحدوي ويجسدون عملية الوحدة في تعاملهم الإجتماعي.
وإذا ماýأصبحت الوحدة مطلباً للناس وتحركوا لتحقيقه فإن إرادتهم ستنتصر على القوى والعناصر المناوئة والمضادة للتوجه الوحدوي.

ولكن كيف يمكن تعبئة الناس باتجاه الوحدة، وهناك واقع من التمايز والتنوع القومي والعرقي والمذهبي والإقليمي والسياسي والطبقي..‏وكل لون من ألوان التمايز قد صنع له فلسفة وتنظيراً وأشاد عليها مواقف وهياكل ومؤسسات بهدف الدفاع عن الذات والخصائص المميزة في مواجهة ما يعتبره تهديداً لتلك الخصائص ومحاولة لفرض الذوبان وتجاوز الحقوق..
كانت الأمة في سالف عصورها الأولى تعيش حالة حضارية ونموذجية للوحدة حيث انصهرت في بوتقة الإسلام شعوب مختلفة ومتمايزة عرقياً وقومياً وقبائلياً، ومع انبثاق مدارس اجتهادية متعددة دينياً وسياسياً إلا أن الأجواء العامة للأمة كانت تنعم بمشاعر الوحدة وكانت الأنظمة والقوانين السياسية والإجتماعية قائمة على هذا الأساس.
ومع حصول الكثير من الإنحرافات السياسية والإدارية على الصعيد الرسمي من قبل الحاكمين إلا أن الحالة الشعبية كانت تعيش واقع الوحدة والإندماج ولم يكن هناك شعور بالتناقض والتعارض ما بين الخصائص والميزات العرقية والقومية التي لم تكن ممارستها تثير أية حساسية ولا كان يترتب عليها أي اثر في الحقوق العامة يميز بين ذوي تلك الإنتماءات وما بين الإنتماء إلى الكيان الواحد للأمة الواحدة.

لكن المؤسف والمؤلم هو ما حصل في هذه العصور المتأخرة من حصول زخم من المشاعر والأحاسيس العميقة في نفوس أبناء الأمة باتجاه التأكيد على جوانب التمايز القومي والعرقي والطائفي والمذهبي.
مما يجعل عملية التوعية والتعبئة باتجاه الوحدة تحتاج إلى جهد خارق وبرمجة دقيقة لكي تتجاوز حالة الشعار والمشاعر وتتحول إلى طروحات فكرية وبرامج عملية تعالج المخاوف والتحفظات وتعطي الإطمئنان لمختلف الجهات بأن الوحدة لاتعني مصادرة خصائصها وميزاتها بل تفسح لها المجال لتشارك في بناء الكيان الشامل ولتتكامل مع سائر الجهات والأطراف.
ومشكلة اخرى نواجهها في طريق تعبئة جمهور الأمة باتجاه الوحدة هي وجود الدعاوى والمدعين من حاملي رايات الوحدة ورافعي شعاراتها من حكام وأحزاب ومراكز وقوى وفاعليات، في الوقت الذي تجيّر فيه هذه الدعوات وتستثمر لأغراض مصلحية لذات الجهة مناقضة للهدف الوحدوي، فكم من تجزئة وتفرقة ونزاع جرى تحت رايات الوحدة وعلىýانغام موسيقى شعاراتها، ما أحدث شيئاً من اليأس وردة الفعل والتشكيك في الدعوات الوحدوية لدى قطاع من جماهير الأمة.
كما يحصل الإلتباس والخلط فيصعب على الناس التمييز بين الدعوات الصادقة والأخرى الزائفة..

دور العلماء:

يبدو أن العلماء هم الجهة الأكثر تأهيلاً وقدرة على شق طريق الوحدة أمام الأمة وذلك للأسباب التالية:
أولا: لما يفترض فيهم من أنهم الأكثر تمسكاً بتعاليم الإسلام والأحرص على تطبيق مبادئه {إنما يخشى الله من عباده العلماء}.. والوحدة كمبدأ ونظام ينبثق من عمق الدين عقيدة وتشريعاً لابد وأن يحتضنها العلماء ويهتمون بتنفيذ أوامر الله حولها.
ثانياً: والعلماء مدعوون ومطالبون من قبل الله تعالى قبل أي جهة أخرى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واي معروف أكبر من الوحدة وأي منكر أخطر من التجزئة والتفرقة.
ثالثاً: وللعلماء رصيد كبير من الثقة في نفوس الناس مما يجعل دعوتهم أكثر مقبولية ويمكنهم من التغلب على حالات اليأس والتشكيك والإلتباس، وأن يتعاطى الجمهور مع دعوتهم بثقة وجدية.

نشأة الإختلاف في الأمم السابقة

لأهمية موضوع وحدة الأمة فإن القرآن يتناوله في العشرات من الآيات والسور القرآنية، ويعالجه من زوايا متعددة وجوانب مختلفة.
فبعض الآيات الكريمة تؤكد علىýأهمية الوحدة وضرورتها في حياة الأمة كقوله تعالى {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} (1) وقوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا} (2) .
وآيات أُخر في القرآن الكريم تبين أضرار وأخطار الفرقة والخلاف وتحذّر منها يقول تعالى: { ولاتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم} (3) .
بينما تشير مجموعة من الآيات القرآنية إلى الجهات الداخلية والخارجية التي تعمل على تمزيق المجتمع وتغذّي حالة النزاع والتمزق في الأمة منها قوله تعالى: {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء} (4) وقوله تعالى {لو خرجوا فيكم مازادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة}5 والمقصود في الآية الكريمة المنافقون أو الطابور الخامس.
ومن المسارات التي سلكها القرآن الحكيم في تناول موضوع الوحدة التوجيه إلى قراءة أحوال الأمم السابقة في هذا المجال، واخذ العبر والدروس من التحولات السلبية التي حصلت لها وعصفت بوحدتها وتماسكها، وجعلتها عرضة للتفرق والتمزق. فمن أي وسط بدأ الخلاف في الأمم السابقة؟ ومن أي شريحة اجتماعية انطلق وانتشر؟
الملفت للنظر ما يؤكد عليه القرآن الحكيم في هذا السياق من أن سبب الإختلاف في تلك الأمم ليس الجهل بالحقائق، ومنطلق الخلاف ليس من الأوساط الجاهلة بالدين والبعيدة عنه، وإنما جاء الإختلاف من واقع العلم والمعرفة، وانبثق من الأوساط العالمة بالدين والتي تحتضن الدعوة والكتب السماوية المقدسة.


وهذا ما يظهر من آيات قرآنية عديدة نذكر بعضها كنماذج:

يقول تعالى:
1/ {وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم} (6) .
2/ {وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم} (7) .
3/ {ولاتكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات} (8) .
4/ {ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوّأ صدق ورزقناهم من الطيبات فما اختلفوا حتى جاءهم العلم إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} (9) .
5/ {وآتيناهم بينات من الأمر فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم} (10) .
وقد استوقفت هذه الملاحظة العديد من العلماء المفسرين للقرآن عند تناولهم لبعض هذه الآيات الكريمة.
يقول السيد محمد حسين الطباطبائي عند تفسيره للآية رقم 213 من سورة البقرة: (ثم إنه تعالى يخبرنا أن الإختلاف نشأ بين النوع في نفس الدين، وإنما أوجده حملة الدين فمن أوتي الكتاب المبين: من العلماء بكتاب الله بغياً بينهم وظلماً وعتوا) (11) .
ويقول عند تفسيره للآية رقم 17 من سورة الجاثية:
(يشير إلى أن ما ظهر بينهم من الإختلاف في الدين واختلاط الباطل بالحق لم يكن عن شبهة أو جهل وإنما أوجدها علماؤهم بغياً وكان البغي دائراً بينهم) (12) .
ويتحدث السيد عبد الأعلى السبزواري بتوضيح أكثر حول الموضوع عند تفسيره للآية 213 من سورة البقرة فيقول:
(والمعنى: إن الإختلاف إنما حصل من حملة الكتاب العالمين به بغياً بينهم وتجاوزاً فحرفوا كتاب الله تعالى وضيّعوه وتعدوا حدوده.
ويستفاد من قوله تعالى {إلا الذين أوتوه} إن الإختلاف الحاصل في الكتاب والشريعة، لايكون إلا من حملة الكتاب الذين قد استبانت لهم الآيات، وهم الأصل في الإختلاف الواقع في الأديان الإلهية، وإن غيرهم وإن كانوا على الخلاف ولكنهم منحرفون عن الصراط وليسوا بغاة، ويشهد لذلك الإختلاف في كل علم فإنه يكون من العالمين به دون غيرهم ممن لاعلم له به.
كما يستفاد من قوله تعالى‏{من بعد ما جاءتهم البينات} إن الكتاب إنما نزل لرفع الإختلاف والتوفيق بين الناس وإسعادهم بما فيه من الحجج الواضحة، والبراهين القويمة ولكن يشوب الحق أهواء العالمين به وأغراضهم الفاسدة زيغهم بتحريف الكتاب أو تأويله بما لايرتضيه عز وجل، أو بتبديل آياته والأخذ بمتشابهاته، والإعراض عن محكماته) (13)
وحول تفسير الآية 105 من سورة آل عمران يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي:
(ثم نهاهم عن سلوك مسلك المتفرقين الذين جاءهم الدين والبينات الموجب لقيامهم به، واجتماعهم، فتفرقوا واختلفوا وصاروا شيعا، ولم يصدر ذلك عن جهل وضلال، وإنما صدر عن علم وقصد سيئ، وبغي من بعضهم على بعض) (14) .
ويؤكد نفس الحقيقة الدكتور وهبة الزحيلي عند تفسيره للآية 213 من سورة البقرة فيقول:
(ثم ذكر الله تعالى أن بعض اهل الكتاب جعلوا كتابهم مصدر الإختلاف عدواناً وتجاوزاً للحق فقال: لقد اختلف الرؤساء والأحبار وعلماء الدين في الكتاب الذي أنزله الله للحق، بعدما جاءتهم البينات الواضحة، والأدلة على سلامة الكتاب، وعصمته من إثارة الخلاف، وإنه لإسعاد الناس، لا لإشقائهم والتفريق بينهم، لم يكن ذلك الإختلاف من أولي العلم القائمين على الدين الحافظين له بعد الرسل، والمطالبين بتقرير ما فيه إلا حسداً وبغياً‏ـ وجوراً‏ـ منهم، وتعدياً لحدود الشريعة التي أقامها حواجز للناس) (15) .
ولعل القرآن الكريم من خلال إثارته وطرحه المكرر للدور السلبي الذي لعبه علماء الدين في الأمم السابقة، الذين اتخذوا الدين مطية للوصول إلى مواقع الزعامة والنفوذ، وسلاحاً في معاركهم الداخلية المصلحية مع بعضهم البعض، فمزقوا وحدة أممهم وحولوها إلى أحزاب متناحرة، وشيع متصارعة باسم الدين.
لعل القرآن يريد بذلك تنبيه الأمة وتحذيرها لتنظر إلى علمائها بعقول واعية، ولتتعامل معهم بعيون مفتوحة، لابثقة عمياء وتقديس مطلق.

إذا اختلف العلماء

قد يحدث الإختلاف والنزاع داخل أي شريحة من شرائح المجتمع وعلى أي مستوى من مستوياته وهو أمر سيئ ضار لكن أضراره تبقى ضمن حدود معينة، أما إذا حدث الإختلاف والنزاع في وسط علماء الدين فإن الأضرار ستكون أشد والخطر أعظم.
في الخلاف بين علماء الدين يصبح الدين هو ميدان الصراع، وتكون القضايا الدينية هي أدوات النزاع والخلاف، حيث يسعى كل طرف للتحصن بالدين في مقابل الطرف الآخر، وتعزيز موقفه في النزاع بمبررات دينية، وقد يكون ـ كما هو الغالب‏ـ جوهر الصراع هو اختلاف مصلحي، لكنه ما يلبث أن يأخذ المنحى الديني، أو يكون في البداية اختلافاً محدوداً ضمن مسألة من المسائل الدينية لكن حالة الصراع توسّع رقعة الخلاف وبشكل مفتعل متكلف يطال أغلب المسائل والقضايا الدينية، حتى يصبح الدين الواحد دينين، والمذهب مذهبين، والمدرسة الفكرية تنشطر إلى مدرستين..
ثم يزايد كل طرف على الآخر في التمسك بالدين، ويتهمه في دينه وعقيدته والتزامه، ويعطي لنفسه الحق في اصدار أحكام التكفير والتفسيق والمروق والخروج من الدين..
وهكذا يصبح الدين ساحة صراع، وخنادق للقتال ومواقع للمهاجمة والرمي وتصويب السهام، فتتمزق الأمة وتحترب وتتشرذم باسم الدين وتحت رايات تحمل شعارات وخلف قيادات تلبس مسوحه.
لعل من أسوأ وأخطر آثار الصراع والخلاف بين علماء الدين، انعكاسه على طرح وتبيين الحقائق الدينية.
فقد يلجأ بعض أطراف الصراع أو كلاهما إلى إنكار حقيقة دينية أو طمسها لأن الطرف الآخر يستفيد منها أو يقول بها.
وقد يحرّف شيئاً من مفاهيم الدين أو ينسب للدين ماليس فيه نكاية بالطرف الآخر، وكم حصل في الديانات السابقة وحتى في الإسلام تحريف وتزوير وإضافة وإنقاص بسبب حالات الخلاف والصراع بين المذاهب والمدارس والجهات الدينية.
وفي أكثر من آية في القرآن الكريم جاء التحذير من التحريف والتزوير والطمس للحقائق الدينية بدوافع مصلحية وعلى خلفية التعصب والإختلاف: يقول تعالى: {من الذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه} (16) أي يصرفونه عن المعنى المقصود منه وينسبونه إلى معنى آخر.
وحينما يجد عالم الدين نفسه في مقابل عالم آخر فإن الدوافع الذاتية قد تدفعه لإثبات تميزه أو تفوقه على مقابله وإن كان ذلك على حساب الحق والحقيقة إلا من عصم الله من الورعين المخلصين الأتقياء.
من هنا جاءت تعاليم الإسلام وتوجيهات أئمة الهدى للتحذير من الدخول في أي نقاش أو مناظرة تشوبها الدوافع الذاتية، فالحوار والجدال مع الآخرين المختلفين مع الإنسان دينياً يجب أن يكون خالصاً لخدمة الحق واستكشاف الحقيقة، وضمن الآداب والضوابط التي ترتقي بالحوار والجدال إلى أفضل مستوى وأحسن أسلوب كما يقول تعالى: {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} (17) {وجادلهم بالتي هي أحسن} (18) .
روى أن رجلاً قال للحسين بن علي عليه السلام: اجلس حتى نتناظر في الدين فقال: يا هذا أنا بصير بديني مكشوف عليّ هداي فإن كنت جاهلاً بدينك فإذهب واطلبه ومالي وللمماراة؟! وإن الشيطان ليوسوس للرجل ويناجيه ويقول: ناظر الناس في الدين كيلا يظنوا بك العجز والجهل (19) .
إن الإخلاص للحقيقة والموضوعية في الحوار والمناظرة عند الإختلاف تستلزم القبول بالحق وإن جاء على لسان الخصم، وحتى لو كان الطرف الآخر مبطلاً في أصل دعواه واتجاهه لكنه أورد برهاناً صحيحاً في معرض جداله فإنه لايصح رفض البرهان الصحيح بسبب العجز عن مقابلته.
وهذا ما يشير له حديث رائع مروّي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال فيه: أما الجدال بغير التي هي أحسن أن تجادل مبطلاً فيورد عليك باطلاً فلا تردّه بحجة قد نصبها الله تعالى ولكن تجحد قوله، أو تجحد حقاً يريد ذلك المبطل أن يعين به باطله فتجحد ذلك الحق مخافة أن يكون عليك حجة لأنك لاتدري كيف المخلص منه.
وفي فقرة أخرى من نفس الحديث: وأما الجدال بغير التي هي أحسن بأن تجحد حقاً لايمكنك أن تفرّق بينه وبين باطل من تجادله، وإنما تدفعه عن باطله بأن تجحد الحق فهذا هو المحرّم لأنك مثله، جحد هو حقاً وجحدت أنت حقاً آخر (20) .
وقد أفرد الإمام أبو حامد الغزالي باباً في موسوعته (إحياء علوم الدين) لبيان آفات المناظرة وما يتولد منها من مهلكات الأخلاق (21) .
والغريب أن بعض العلماء يجاهد بتخليه عن الموضوعية ومخالفته للحقيقة والأحكام الشرعية بمبرر التمايز عن الطرف الآخر ومخالفته فيما ذهب إليه.
وكمثال على ذلك ما ذكره الزرقاني في المواهب اللدنية في صفة عِمّة النبي (ص) على رواية علي عليه السلام في إسدالها على منكبه حين عممه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ذكر قول الحافظ العراقي إن ذلك أصبح شعار كثير من فقهاء الإمامية فينبغي تجنبه لترك التشبه بهم (22) .
وفي تفسيره للآية الكريمة {إن الله وملائكته يصلّون على النبي يا أيها الذين أمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} (23) يتحدث العلامة الألوسي البغدادي عن الصلاة على غير الأنبياء والملائكة عليهم السلام فيقول:
(اضطربت فيها أقوال العلماء فقيل تجوز مطلقاً قال القاضي عياض وعليه عامة أهل العلم، واستدل له بقوله تعالى {هو الذي يصلى عليكم وملائكته} وبما صح من قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم صل على آل ابي أوفى) وقوله عليه السلام وقد رفع يديه: (اللهم اجعل صلواتك ورحمتك على آل سعد بن عبادة) وصحّح بن حبان خبر (إن امرأة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: صل علي وعلى زوجي ففعل) وفي خبر مسلم (إن الملائكة تقول لروح المؤمن: (صلى الله عليك وعلى جسدك)، وقيل لا تجوز مطلقاً، وقيل لاتجوز استقلالاً وتجوز تبعاً فيما ورد فيه النص كالآل أو أُلحق به كالأصحاب..)
ثم يذكر أدلة أحد المانعين من الصلاة على غير الأنبياء والملائكة وهو محل الشاهد في بحثنا فيقول عنه: (هو أمر لم يكن معروفاً في الصدر الأول وإنما أحدثه الرافضة في بعض الأئمة والتشبه بأهل البدع منهي عنه فتجب مخالفتهم) (24) وينقل الشيخ ابن تيمية في منهاج السنة أن (المعروف في العراق ان الجهر بالبسملة كان من شعار الرافضة وأن القنوت في الفجر كان من شعار القدرية حتى أن سفيان الثوري وغيره من الأئمة يذكرون في عقائدهم ترك الجهر بالبسملة لأنه كان عندهم من شعار الرافضة) (25) .
ثم يقول ابن تيمية: (ومن هنا ذهب من ذهب من الفقهاء إلى ترك بعض المستحبات إذا صارت شعاراً لهم ـ الشيعة‏ـ فإنه وإن لم يكن الترك واجباً لذلك لكن في إظهار ذلك مشابهة لهم فلايتميز السني من الرافضي ومصلحة التميّز عنهم لأجل هجرانهم ومخالفتهم أعظم من مصلحة هذا المستحب) (26) .
وأذكر مرة أن أحد العلماء افتى لشخص ببطلان صلاته لأنه اقتدى فيها بإمام يختلف معه وأمره بإعادة الصلاة، مع إجماع الفقهاء على صحة الصلاة إذا اقتدى فيها بإمام معتقداً توفره على شروط الإمامة فبان افتقاده لها أو لبعضها وحتى لو تبين بعد الصلاة كون الإمام فاسقاً أو كافراً! ويورد الفقهاء رواية عن الإمام الصادق عليه السلام: في قوم خرجوا من خراسان أو بعض الجبال، وكان يؤمهم رجل فلما صاروا إلى الكوفة علموا أنه يهودي، قال عليه السلام: لايعيدون (27) .
ومع هذا فإن ذلك العالم أفتى بإعادة الصلاة خلف إمام مسلم على نفس مذهبه مع ثقة المصلي باجتماع الشرائط فيه حين الصلاة لا لشيء إلا على خلفية الصراع والنزاع.

إضعاف المصداقية والثقة في الدين وعلمائه:

يتأثر الناس في نظرتهمýإلىýاي فكرة أو مبدأ بالواقع المنتسب إلى تلك الفكرة أو المبدأ، سلباً وإيجاباً، وكما يقال فالناس عقولهم في عيونهم فالواقع الجميل يعتبر عامل جذب وتبشير بالفكرة التي يرتبط بها بينما ينفّر الواقع السيء من أي فكرة ينتسب إليها.
والإسلام كمنظومة قيم وتشريعات إلهية عظيمة، يجب أن تنعكس وتتجلى في حياة المؤمنين به ليكون ذلك دافعاً لإقبال الآخرين على اعتناقه والإلتزام به من خلال مشاهدتهم لنموذج تطبيقي مشرَّف.
أما لو حصل العكس وكان حياة المتدينين سيئة متخلفة فإن ذلك سيسبب عزوفاً عند الآخرين من الدين.
لذلك يروى عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قوله مخاطباً تلامذته وأتباعه: (كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الورع والإجتهاد والصلاة والخير فإن ذلك داعية) (28) .
وفي حديث آخر يخاطب أتباعه قائلاً: (أنكم قد نسبتم إلينا، كونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً) (29) .
وعلماء الدين هم قمة المجتمع الإسلامي وطليعته فإذا ما كان واقعهم مشرقاً نقياً يعكس صفاء قيم الإسلام فإن ذلك يقدم للآخرين صورة مشرقة عن الدين مما يزيد من الإندفاع والإقبال على الدين والإلتزام بمبادئه.
أما إذا ظهر الخلاف والصراع بين علماء الدين ونشط كل واحد منهم في إظهار معايب الآخر وأخطائه فسيعطي ذلك صورة مشوهة عن الإسلام، وسيتساءل الكثيرون: إذا كانت تعاليم الدين سليمة ومجدية فلماذا لايظهر أثرها على حملته والمبشرين به؟
وعلماء الدين يفترض أن يكونوا قادة المجتمع المسلم ومحل ثقته ومحور التفافه وكيف تتوفر فيهم ثقة الناس إذا ما اختلفوا وتصارعوا وعملوا على إسقاط سمعة بعضهم بعضاً؟
لقد استفاد المخالفون للإسلام كثيراً من وجود الخلافات والنزاعات بين الجهات الدينية لإبعاد الناس عن العلماء عبر التشكيك في مصداقيتهم والتأكيد على دوافعهم الذاتية المصلحية ونزوعهم إلى المواقع والمناصب.

عمق الخلاف وانتشاره:

نظراً لموقعية العلماء المميزة في أوساط جماهير الأمة، وللتأثير الكبير الذي يمتلكونه فإن اختلافهم ونزاعهم لن يبقى في حدودهم وإنما سيعكسه كل منهم على أتباعه، وسينشره في ساحة نفوذه وتأثيره، وبذلك يصبح الخلاف بين كل عالمين خلافاً‏ونزاعاً بين جماعتين وفرقتين من المجتمع وليس خلافاً بين شخصين كما هو شأن أي اختلاف بين الأشخاص العاديين.
وقد يجد الناس أنفسهم محشورين ومتورطين في صراع ونزاع بين عالمين تحت عنوان قضية فكرية أو مسألة شرعية لا يعرفون مضمونها ولا دليلها وبرهانها وانما يتمحور كل قسم منهم حول عالم يثقون به أو قد توارثوا الولاء لاتجاهه.
وقد عايشت بعض مظاهر وحالات الخلاف والنزاع بين الناس في منطقتنا بين من يسمّون أنفسهم بالأصوليين ومن يسمّون أنفسهم بالاخباريين والخلاف في جوهره علمي يرتبط بمناهج استنباط الأحكام الشرعية، ولا دخل فيه لعامة الناس بل لا يعرف الأصولي منهم ماذا تعني الأصولية ولا الاخباري منهم ماذا تعني الاخبارية ولكنهم مع ذلك يتنازعون ويتمايزون!! وقد يتشدد بعضهم في رفض التزاوج والاقتداء بالطرف الآخر في صلاة الجماعة وما أشبه، دون مبرر إلا توارث الانتماء والالتفاف حول هذا العالم أو ذاك.
واضافة إلى انتشار الخلاف واتساع رقعته بين أبناء المجتمع هناك مشكلة أعقد هي حدة الصراع وعمقه غالباً حيث يأخذ الخلاف صبغة دينية ويرى كل طرف نفسه محقاً والآخر مبطلاً، وقد يجيز لنفسه تكفير الآخر أو تفسيقه أو مقاطعته أو اعلان الحرب عليه.
وهذا ما يحدث عادة في الخلافات الدينية فأقسى الحروب وأبشعها تلك التي تتم بشعارات دينية، وأعمق النزاعات وأشدها ما يدور منها في أوساط المتدينين وبتصدي القيادات الدينية.
فالعالم يجب أن يكرس جهوده ووقته لاستنباط حقائق الدين وأحكامه ولنشرها وبثها في المجتمع، وللدعوة إلى الله تعالى حتى في أوساط غير المسلمين، ولردّ شبهات الكفار والمخالفين للدين، وتعبئة الأمة لمواجهة الأخطار المحدقة بها ولترتقي إلى مستوى الريادة بين الأمم لتكون كما أرادها الله تعالى {خير أمة أخرجت للناس} و{شهداء على الناس}.
لكن الخلافات والنزاعات بين علماء الدين تشغلهم ببعضهم بعضاً، فتتركز أذهانهم وأفكارهم في ميدان هذا الصراع، وتتجه جهودهم وأنشطتهم لتحقيق الأهداف والنقاط في ساحته، وتتمحور علاقاتهم وتحالفاتهم على أساسه.
وحينما ابتلي علماء الأمة في عصور التخلف بهذا الداء الوبيل تقصلت جهودهم للتبشير بالاسلام وتوسيع رقعة انتشاره، كما توقفت لديهم حركة الابداع العلمي والفكري، وأصبح الجهد منصباً على شرح المتون السابقة والجدل حول مفاداتها، مما أدى إلى انكماش دورهم القيادي في المجتمع.
ولو تصفحنا المكتبة الاسلامية لوجدناها مليئة بكتب الخلافات والردود المتبادلة بين الأشاعرة والمعتزلة وبين الشيعة والسنة وداخل كل مذهب بين الاتجاهات المختلفة.
بينما تقل الكتابات التي تسبر أغوار الفكر الاسلامي وتستجيلي أبعاده وتستنبط برامج الشريعة لمختلف جوانب الحياة، وتستنهض الأمة لتفجير كفاءاتها ولمواجهة التحديات التي تحيط بها.
وهكذا تزيّف الخلافات والصراعات اهتمامات العلماء وتشغلهم عن القيام بمهامهم الأساسية وأدوارهم الطليعية.

الهوامش

(1) سورة الأنبياء / آية 92.
(2) سورة آل عمران / آية 103.
(3) سورة الأنفال / آية 46.
(4) سورة المائدة / آية 91.
(5) سورة التوبة / آية 47.
(6) سورة البقرة / آية 213.
(7) سورة آل عمران / آية 19.
(8) سورة آل عمران / آية 105.
(9) سورة يونس / آية 93.
(10) سورة الجاثية / آية 17.
(11) الطباطبائي / الميزان في تفسير القرآن ج2 ص124 مؤسسة الاعلمي للمطبوعات / بيروت 1991م.
(12) الطباطبائي / الميزان في تفسير القرآن ج18 ص169.
(13) السبزواري / مواهب الرحمن في تفسير القرآن ج3 ص267 مؤسسة أهل البيت / بيروت 1990م الطبعة الثانية.
(14) السعدي / تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان / ص196 دار الذخائر / مؤسسة الريان / بيروت 1997م.
(15) الزحيلي / التفسير المنير، ج2، ص248.
(16) سورة النساء / آية 46.
(17) سورة العنكبوت / آية 46.
(18) سورة النحل / آية 125.
(19) الشيخ محمد باقر المجلسي / بحار الأنوار، ج2، ص135، الطبعة الثالثة، دار احياء التراث العربي، بيروت، 1983م.
(20) المصدر السابق ص125-126.
(21) أبو حامد الغزالي / احياء علوم الدين، ج1، ص68، دار الهادي، بيروت 1992م.
(22) أسد حيدر / الامام الصادق والمذاهب الأربعة، ص205.
(23) سورة الأحزاب / آية 56.
(24) روح المعاني / ج22، ص85، دار احياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الرابعة، 1985م.
(25) أحمد بن تيمية / منهاج السنة، ج2، ص146، الطبعة الأولى، المطبعة الكبرى الأميرية، مصر، 1321.هـ.
(26) المصدر السابق ص147.
(27) السيد محسن الحكيم، مستمسك العروة الوثقى، ج7، ص307، دار احياء التراث العربي ـ بيروت.
(28) محمد بن يعقوب الكليني / الأصول من الكافي، ج2 ص78، دار الكتب الاسلامية / طهران / الطبعة الثالثة 1388هـ.
(29) المحمدي الري شهري / ميزان الحكمة ج5 ص241 / الطبعة الثانية / مكتب الاعلام الاسلامي / قم.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة