تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

كيف يقرأ المثقفون العرب العولمة؟

هاني ادريس
تقديم:

لعل المراقب لوتيرة الأحداث والإنجازات, وأيضاً, الإجهاضات التي شهدتها العقود الأخيرة, يكشف عن أن ثمة ـ بلاشك ـ أصرة ما متينة, تربط بين أكثر من محور سجالي متداول في عالمنا المعاصر. ولأن جاز الحديث عن طبيعة هذه الموضوعات ومدى حقيقة الأبعاد التداخلية في عناصرها ومكوناتها, فإننا لانشك في خلوها من عصر القطيعة, بالمعنى التاريخي أو المعرفي, نظراً لما تمثله من مركزية في نسف النظام العالمي, ومشروع السيطرة, الذي يقف نداً حقيقياً لقانون العلاقات الدولية. لقد كانت حرب الخليج الثانية مفصلاً أساسياً في مسلسل صراع عالمي, بين الكتلتين التقليديتين; الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفياتي. وهو المفصل الذي مثل مؤشراً حقيقياً على استفراد الولايات المتحدة الأمريكية, حتى الآن, بعناصر القوة والإستقطاب. وهكذا, فقد واكب طرح مشروع النظام العالمي الجديد, نهاية الشوط الأخير من تلك المعركة, وحيث مثّل مشروع النظام العالمي الجديد, الإطار السياسي لطموح أميركي في صياغة نمط ثقافي كوني يؤسس لقيام هذا النظام, ومحاولة كسر الحواجز والخلافات الثقافية والإيديولوجية, تمهيداً لولوج مرحلة الإنتظام ضمن نسق أمثل للعلاقات الدولية. من هنا كان موضوع «العولمة» المحور الأساسي الذي طغى على الخطاب السياسي والإيديولوجي ـ العالمي. على أن موضوع «العولمة» كحاجة تاريخية وأيضاً كحلقة أساسية في تطور منظور العلاقات الدولية, ظل طموحاً حضارياً لأقطار العالم. وبما أن «العولمة» اليوم, قد أضحت شعاراً يخفي طموحاً قديماً ظل ساكناً في قلب مشروع امبريالية ثقافية, ترعاها الولايات المتحدة الأمريكية, وتناور سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وإعلامياً من أجل كسب رهانها, فإن «العولمة» حتماً ستتحول من حاجة تاريخية إلى مأزق يخفي حرباً خطيرة, تجعل مارد المعركة الكبرى يكشف عن وجهه الحقيقي الذي طالما ظل مغيّباً تحت مناورات تكتيكية إلى حرب حضارية سافرة!
في هذا الإطار, نجدنا نحن العرب مدعوين إلى الإنخراط في هذا السجال الإشكالي عن «العولمة» ما دام أننا نمثل مجالاً حضارياً وجيوبوليتكياً, حيوياً, وما دام أن الولايات المتحدة الأمريكية, وهي تمسك بناصية مشروع «العولمة», وتناور بالمشروع في قلب الوطن العربي. وعليه, فإننا مدعوون نحن العرب إلى بحث الأبعاد الخطيرة لمشروع عولمة تتماهى إيديولوجياً وسياسياً مع طموح اختراقي يهدف أمركة العالم, وتحديداً «الوطن العربي»; الخطة التي بمقتضاها يتم تحقيق الرغبة التوسعية الأمريكية, لعولمة الحياة المعاصرة بدءاً من الرغيف حتى عالم الأذهان.
في الإطار نفسه يندرج موضوع «العرب والعولمة» وهو عنوان الندوة التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية بتاريخ 10/12/1997 في بيروت, حيث شارك فيها عدد من الباحثين والمثقفين من أقطار عربية مختلفة, إذ احتضنت جملة من الدراسات والأبحاث التي حاولت ـ نسبياً‏ـ مقاربة مسألة «العولمة» من عدة أبعاد بدءاً بالمفهوم ـ مفهوم العولمة ـ حيث قدم أ. السيد يسين بحثاً في هذا الإطار وعقب عليه عدد من الباحثين; د. سيار الجميل, ود. طلال عتريسي, ود. عمرو محيي الدين. كما تطرق الباحثون إلى بحث علاقة العولمة بالتقانة, والدولة, والهوية الثقافية. شارك في هذه الندوة باحثين من مختلف التخصصات مثل د. أنطوان زحلان ود. نبيل علي, وعبد الإله بلقزيز ود. محمد عابد الجابري, ود. جلال أمين وآخرين..
الأطروحات في عمومها داخل الندوة, كانت تعكس وجهة نظر تكاد تكون موحدة في مضامينها, حيث مشروعية «العولمة» بماýأنها بحاجة لعالم تتواصل أقطاره, إعلامياً وسياسياً‏اقتصادياً.. مع التنبيه إلى خطر الإحتكار الأمريكي لمشروع العولمة, وتحويله إلى مفهوم وظيفة إمبريالية لتحقيق مزيد من التوسع والإختراق, أو بتعبير آخر, «نعم للعولمة» في مجالات التقانة والإقتصاد.. و«لا», للعولمة الثقافية. على أن المشاركين في هذه الندوة, يمثلون نخبة من الإيديولوجيين العرب, والمنتمين إلى عالم الفكر والمعرفة, كان بالأحرى أن يتم السجال على اصول معرفية أعمق من هذا الإختزال الذي يعكس ردّة فعل مشروعة. أعني تحديداً, أن «العولمة» كمشروع «تتقطب» في سياقه الولايات المتحدة, لايمكن أن يخضع لهذا التجزيء, إلا إذا نظرنا إلى الإشكالية, نظرة بدائية بحتة, وهو ما يعني الإقتصار على النظرة السياسية والإيديولوجية. فهل العولمة في مجال العلاقات السياسية والإقتصادية والتقانية, بعيدة عن تأثير «العولمة» الثقافية. هل نستطيع أن نتحدث عن عولمة اقتصادية دون أن يقتضي ذلك إحداث صياغة لذهنية إقتصادية عالمية.. وهل من الجائز الحديث عن إمكانية الإنتقاء في مجال العولمة؟

في البدء, إشكالية التعريف:

ككل المفاهيم ـ ذات الأهمية البالغة ـ المتداولة في عالمنا المعاصر, تواجهنا إشكالية التعريف في تكوين صورة جامعة مانعة عن مفهوم العولمة, والإشكالية هنا, تبدو طبيعية جداً, نظراً لكثافة التدويل والتداول لهذا المفهوم, حيث اقتضى الأمر بأن يخرج عن معناه اللفظي البسيط, ليكسب معنى تداولياً أوسع, وتعريفاً أكثر شمولية وتعقيداً. وهذا ما نستطيع توضيحه مع أ. السيد يسين حيث تولى مهمة التعريف بمفهوم العولمة في الندوة المذكورة. رغم ما يمكن أن يلاحظ عليه من اختزال شديد, حيث بدا مشحوناً بالرغبة في تكوين موقف نهائي من العولمة يتجاوز الأهمية القصوى لتعريفها من مختلف الأبعاد الموضوعية إلاّ أن ذلك المقدار أمكنه تكوين رؤية عن العولمة مفهوماً, وأيضاً مصاديقها الممكنة في عالم اليوم, بناءاً على المنظور التاريخي الذي يعتبر العولمة مطلباً تاريخياً متطوراً ذا مراحل متعاقبة.
فالعولمة, يقول ياسين: «ليست محض مفهوم مجرد, فهي عملية مستمرة يمكن ملاحظتها باستخدم مؤشرات كمية وكيفية في مجالات السياسة والإقتصاد والثقافة والإتصال».
ولعل هذا التداخل في الأبعاد المؤطرة للعولمة, وأيضاً البعد الديناميكي لمفهومها, يجعل «صياغة تعريف دقيق للعولمة تبدو مسألة شاقة». وايضا ـ في رأي ياسين ـ تعود مشقة تحديد العولمة إلى تأثر التعريفات المختلفة لها بالمواقف الإيديولوجية من العولمة. فثمة في ورقة ياسين تعريفان مهمان, الأول يمثله «جيمس روزناو» حيث يقول: «وإن كان يبدو مبكراً وضع تعريف كامل وجاهز يلائم التنوع الضخم لهذه الظواهر المتعددة, فعلى سبيل المثال, يقيم مفهوم العولمة علاقة بين مستويات متعددة للتحليل, الإقتصاد, السياسة, الثقافة, الإيديولوجية» وتشمل إعادة تنظيم الإنتاج, تداخل الصناعات عبر الحدود, انتشار أسواق التمويل, تماثل السلع المستهلكة لمختلف الدول نتائج الصراع بين المجموعات المهاجرة والمجموعات «المقيمة» وهذا التعريف كما يظهر يحاول ربط مفهوم العولمة بعدد من المشكلات المتداخلة.
أما المحاولة الثانية في عرض «ياسين» فتتعلق بتعريف د. جلال العظم تعريف العولمة من حيث هي:«وصول نمط الإنتاج الرأسمالي عند منتصف هذا القرن تقريباً, إلى نقطة الإنتقال من عالمية دائرة الإنتاج وإعادة الإنتاج ذاتها. أي أن ظاهرة العولمة التي نشهدها هي بداية عولمة الإنتاج والرأسمال الإنتاجي وقوى الإنتاج الراسمالية, وبالتالي علاقات الإنتاج الرأسمالية أيضاً‏[...] والعولمة بهذا المعنى هي رسملة العالم على مستوى العمق بعد أن كانت رسملته على مستوى سطح النمط ومظاهره».
وهو التعريف الذي ينطلق من منظور اقتصادي بحت, يجعل العولمة في النتيجة شوطاً جديداً لتوسع نمط الإنتاج الرأسمالي على صعيد «العمق», محاولاً تغييب الأبعاد الأخرى للعولمة من حيث هي وظيفة امبريالية توسعية, تهدف إلى أكثر من «رسملة» الإنتاج, بل وأيضاً «رسملة» الأذهان ونفي الأشكال الأخرى للحضارة. لعل كلاماً كهذا لايجد معناه, طالما أن جلال العظم هنا يمثل وجهة نظر ماركسية تقليدية تجعل من صراع الحضارات مظهراً آخر, لجدل أنماط الإنتاج على قاعدة الأسبقية للعامل الإقتصادي الذي يمثل أساس الحضارة ومظاهرها ذات الأهمية الثانوية. وهذا إنما يجعلنا نقول أن تعريفاً كهذا يعود بالإشكالية إلى طور من الجدل, لم يعد يمثل أي مصداقية بعد استفراد الولايات المتحدة الأمريكية في التفوق, وانتصار الرأسمالية وانخراطها في معنى آخر للمعارك; هذه المعارك التي تنشأ وتتضخم على قاعدة ثقافية وحضارية راسخة. وهذا لايعني أن العوامل الإقتصادية لاتمثل سوى هامش من هذه المعركة, بل إن العوامل الإقتصادية هذه لاتجد معناها إلا في أجواء هذا الصراع التاريخي الحضاري. مع أننا نلاحظ ذلك الإنسحاب التكتيكي في ثنايا هذا المنظور, في تحليل ظاهرة العولمة على قاعدة الحتمية التاريخية. فنلاحظ أن التفسير أخذ منحى إرادوياً ـ عكس ما تقرره وجهة نظر المادية التاريخية ـ بجعل العولمة تحولاً ـ إرادوياً‏ـ على صعيد «رسملة» الإنتاج. لكن التفسير هنا لايجيب عن الأسباب الموضوعية التي أدت إلى ذلك التحول. على أن «العولمة» تقدم نفسها كحتمية تاريخية. فالنظر إذن يتوجه إلى الأبعاد الخطيرة في ظاهرة العولمة, أي ليس بما هي حتمية, بل بما هي وظيفة رأسمالية في عالم آخذ في التغيُّر السريع باتجاه نمط الإنتاج الليبرالي.
وهذا ما كان حرياً بالباحث «ياسين» أن يلتفت إليه, مع أنه حدد إطاراً في تعريف العولمة, وإظهار الأبعاد والمجالات التي تنطلق فيها العولمة, والنشأة التاريخية, معتمداً نموذج «تخطيط الوضع الكوني لرولاند روبرستون».

العولمة من منظور ثورة المعلومات والتطور التقاني

حينما نبحث في النشأة التاريخية للعولمة, نلاحظ أن ثمة مراحل أمامية قطعتها الظاهرة في نوع من التفاوت في مقدار تفاعلها. ومع مخطط رولاند روبرستون, نكون بإزاء أربع مراحل, الأولى تتعلق بالنشأة حيث يؤرخ لها بمنتصف القرن الثامن عشر حتى عام 1870 وما بعده حيث يحصرها في بداية تبلور منظور العلاقات الدولية ونظرية المواطنة والنظريات الإنسانية. غير أن الواقع يؤكد على أن «العولمة» بما هي حاجة تاريخية تبلورت في أزمنة متقدمة جداً على ذلك...‏وحينما يراد لها أن تبدأ من منتصف القرن الثامن عشر, فإن ذلك لايعدو أن يكون أسلوباً آخر أو طوراً جديداً من أطوار العولمة. ففي أوربا تبدأ مظاهر العولمة, مع الإكتشافات الجغرافية, وهي المرحلة التي بدأ الغرب الأوروبي يتواصل مع العالم الجديد, ومع عالم ما وراء البحار, وبداية تصدير أنماطه الثقافية والإقتصادية, ويشهد على ذلك اسلوب التدمير في الأمريكيتين, لثقافتها المحلية, وهو أسلوب, وإن لم يكن يمثل نموذجاً‏حضارياً إلا أنه ظل يمثل شكلاً لتواصل الأقوام والثقافات وتصدير الأنماط وقوى الإنتاج إلى أبعد الحدود.. إلا أن هذا لايعني أن أوربا هي مهد هذه الحاجة, بقدر ما أنها ظلت لازمة للحضارات عبر التاريخ... وهو ما تفسره عملية التثاقف الكبرى بين مختلف أشكال التراث الإنساني القديم, نذكر مثالاً عن ذلك قيام عصور كاملة على اساس من تداخل المعارف والثقافات؟ مثل العصر الهلنستي, والحضارة العربية والإسلامية التي استطاعت استيعاب أرقى ما ابتكره الإنسان في مختلف الحضارات, ومحاولة تعميمه ضمن دورة حضارية كاملة. هذا فضلاً عن أنه بفضل «العولمة» أمكن الغرب أن يتوصل بثمار هذه الحضارة. ناهيك عن اشكال التداول والتبادل والعلاقات الدولية التي كانت على تواضعها, قائمة بين شعوب ودول. إنما الذي جرى بعد ذلك, هو أن العالم وفي ظل التطور الذي جرى على الصعيد الأوربي وابتداء من منتصف القرن الثامن عشر حيث إرهاصات الثورة الصناعية وما رافقها من تحولات على صعيد علاقات الإنتاج وتداول البضاعة وتوسع في الإنتاج, فلأن كان هناك فضل للتطور العلمي في تعزيز «العولمة» فإن ذلك الفضل عرضي, وليس منشئاً حقيقياً لها. هذه العولمة التي استطاعت حقاً أن تبلغ أوجها في ظل تطور التقانة وأيضاً ثورة المعلومات ووسائل الإتصال.. إن بروز ظاهرة العولمة في عالمنا المعاصر وتضخم مظاهرها, راجع إلى الثورة الحاصلة في مجال المعلوماتية والإتصال ليس أكثر من ذلك.
ولاشك أن في التطور الكبير الذي حصل في مجال العلوم والتقانة, كان له الفضل في تعزيز مسار العولمة, والتوسيع من مجال الإستثمار وتداخل الإقتصادات وبناء على هذا التصور يرى د. أنطوان زحلان من خلال ورقته المقدمة تحت عنوان «العولمة والتطور التقاني» إن صلة أساسية تربط بين هذا الوضع الإقتصادي العالمي, وبين كل من التطور العلمي والتقاني;‏«إن العلم والتقانة هما متغير جوهري, وهما المحرك الرئيسي للإقتصاد العالمي المتحرر من المادة». وتكمن أهمية هذه الورقة في أنها حاولت عبر تحليل الواقع الإقتصادي والتنموي العربي مقارنة إياه بما هو عليه الوضع الصناعي والإقتصادي بالغرب. ولاشك في أن إجراءً كهذا, بقدر ما يخفي عن أهمية قصوى, على صعيد ترشيد المنظور الإقتصادي والتنموي العربي, إلا أنه لايستحضر الأسباب الأخرى لهذا الشرخ الحاصل في الإقتصادات العالمية والعوائق الموضوعية الأخرى التي تحول دون سياسة تنموية صحيحة للأقطار السائرة في طرق النمو. فالمقارنة تبدأ عند د. زحلان من موقف العرب من العلم والتقانة من حيث هما, وخلافاً لبلدان أخرى, مجرد متغيرين عرضيين. أما من الناحية الأخرى, فإن المفارقة تتجلى في فك الإرتباط للإقتصاد مع المادة DEMATerialisation . وهو ما أدركه آدم سميث من أمر الثورة الصناعية مع أنه أدرك بأن «المهارات البشرية والإبداع, كانت في عام 1800 أكثر أهمية من المواد الخام, وإن هذه الحقيقة وحدها ستخفض تدريجياً أهمية المواد الخام والعمالة غير الماهرة في الإقتصاد».
ولم يكن «زحلان» ليتجاوز تلك الحقيقة التاريخية, حيث يتجلى ذلك التفوق العربي في مجال المبادلات وأيضاً باقي المناحي الأخرى. فقد «كان العرب تاريخياً, المطورين الأوائل لأنظمة المتاجرة عبر البلدان, وكان نظام المتاجرة العربي معتمداً على الذات (فلم يستخدم إلا حيوانات ومعدات أنتجها العرب), وكان كذلك مرناً لأنه لم يكن بحاجة إلى بنية تحتية طبيعية, ولم يستوجب تركيزاً لرأس المال...».
ومع أن الطابع الوصفي, والقراءة الفوقية للوضع الإقتصادي والتنموي, ظلاّ متحكمين بورقة د. زحلان, فإننا نتساءل عن سبب غياب السؤال الجوهري, عن الأسباب التي دعت العرب إلى أن يرتدوا إلى آخر مستوى من النماء. وأيضاً عن سبب إخفاق كل محاولات التصنيع العربي على صعيد المعلوماتية أو التقانة الإلكترونية وغيرها, عن أن تحظى بمناخ مشجع ومناسب. فقد يكون التوصيف لمشكلات التصنيع العربي له نسبة من الموضوعية, طالما أن الأسباب الحقيقية بعيدة عن متناول البحث. وأعتقد أن من إحدى مظاهر اكتساح «العولمة» أن وجدت أو تحاول أن توجد «عقلاً» يؤازرها على إخفاء كل ما من شأنه أن يعيق اختراقها الواسع. وهو ذلك «العقل» الذي بقدر ما يضخم من أوهام العولمة, فهو يهوّن من القدرات الذاتية للكيان العربي في أن يتمكن من الدخول في رهان الإنماء بإمكاناته الذاتية.
وهذا التشكيك في القدرة الذاتية للكيان العربي, المغزى منه هو إشعاره بالحاجة إلى التكتلات العملاقة, والإستجابة إلى الرأسمال الأجنبي في تحقيق نقلته الكبرى, وكل هذا في أفق تغييب التحديات التي يطرحها «عقل» آخر, يقف خلف مشروع العولمة, ويسحبها لصالح سيطرته. هذا التحدي الذي يفرض على الكيان العربي, أن يركز على خطر الإقتصاد الأمريكي الإحتكاري, بما هو الخطر الحقيقي لإقتصاده.
وهذا ما يجعلنا قادرين على الإجابة عن إشكالية, أنطوان زحلان, عن أسباب إخفاق محاولات التصنيع العربية وأيضاً موقفهم من التقانة والعلم. ذلك أن العرب وهم يخوضون تجربة التصنيع ضمن هذه السيطرة الأمريكية والغربية على الإقتصادات العالمية, وفي مناخ احتكاري وصراعي وتكتُلي غير مشجع, كانوا على وعي بما ينبغي أن يكون عليه وضع التقانة والعلم من مسلسل التنمية.
وتكاد ورقة د. اسماعيل صبري عبد الله (رئيس منتدى العالم الثالث ووزير التخطيط السابق من مصر) أن تتفق مع هذا الرأي. فيذكر في ورقته المعنونة: «العرب والعولمة: العولمة والإقتصاد والتنمية العربية; العرب والكوكبة» بأن العولمة بالنتيجة, تؤدي وظيفة لخدمة الشركات الرأسمالية الكبرى.«وهكذا يتبين أن آليات الكوكبة تعمل أساساً لصالح الشركات الكوكبية التي أسميناها بصدق متعدية الجنسية». ولايستطيع الباحث أن يتمادى في تبرير الوضع العربي كما لو أن السبب الوحيد في تخلفه هو موقف الإقتصادات العملاقة وسياسة السيطرة.
ثمة بلا شك أسباب ذاتية, أهمها غياب الإرادة الحقيقية للإنماء, والأوضاع السياسية الغير مستقرة نتيجة غياب النزاهة والقانون الضامنين لوضع أمثل للإنسان العربي. وفي ضوء هذا الوضع الرديء للكيان العربي, فإن العولمة لاتمثل مجرد خطر عرضي على اقتصاده, بل إنها تمثل إحدى أفتك الوسائل لتفكيكه ضمن تكتلات حليفة للغرب. فالعولمة كما يراهن عليها الغرب اليوم, خصوصاً فيما يتعلق بالوطن العربي, أن يتنازل العرب عن كل حقوقهم في الأراضي المحتلة والقبول بإسرائيل كطرف رائد لإقتصاد شرق أوسطي, فالعولمة تأبى أن تتعامل مع كيان اقتصادي عربي قائم بذاته. وهي ـ أي العولمة‏ـ تعني أن يتسع العقل العربي اكثر ليستوعب ثقافة الإستهلاك الغربي, كي يكون سوقاً حقيقياً ومتحركاً على وفق مؤشر الإنتاج الغربي. إنها بالتالي, تعني كل ما من شأنه أن يجعل الكيان العربي, كياناً تابعاً بامتياز! وها هنا تكمن خطورة العولمة, مهما حاولنا الإستفادة منها. إن العولمة شئنا أو أبينا, فارضة نفسها علينا. غير أننا نراهن على استغلال أمثل لوسائلها, تفادياً لأي خطر يصيب الكيان العربي ويحطم طموحاته وجميع خصوصياته! إن العولمة, قضية كبرى لها أبعاد متعددة ومتكاملة. ومن هنا فإن مخاطر العولمة وإن في بعدها التقاني والعلمي تتجلى أكثر حينما يجري الحديث عنها في بعدها الثقافي.

العولمة الثقافية كمشروع اختراق:

بين العالمية والعولمة, ثمة مسافة كبيرة, هي ذاتها المسافة الفاصلة بين تثاقف الحضارات, وبين إلغاء بعضها للآخر. وبقدر ما تحاول العولمة في تمركزها أن تخفف من خطورة هجمتها, وتغييب الأبعاد الإختراقية, وسياسة السيطرة في هذا المشروع, فإنها لاتفعل اكثر من التأكيد على أنها تمعن في استغباء الآخر, ووتمييع الممانعة المشروعة, التي تتمثل في الآخر, الذي لاتسعفه التقانة في أن يمانع بالقدر الكافي, لكبح جماح هذه الهجمة الثقافية الكاسحة, ومن الجانب الآخر, يجدر القول بأن ثقافة «العولمة» اليوم, ليست هي فحسب, ثقافة الغرب ـ أو ثقافة الولايات المتحدة الأمريكية خصوصاً‏ـ بالمعنى النخبوي للثقافة, بل هي ثقافة استهلاكية موجهة للتسويق. إنها في نهاية المطاف, بالوجه الآخر للثقافة الأمريكية يُمثل نمط حياة معين وتعويضاً «سيكوباتولوجيا» لصراع اجتماعي حاد بين الطبقات الإحتكارية المحظوظة, وبين بؤساء المجتمع الأمريكي. وهذا الصراع الذي ينتهي إلى خلق مظاهر اجتماعية وثقافية وذوقية..‏للأسف, فإن الولايات المتحدة الأمريكية, تحاول تفعيل هذه المظاهر, على صعيد الإنتاج الثقافي, في إطار المشروع الهوليودي, لتحريك سوق التجارة والإستثمار. هكذا فإن الولايات المتحدة الأمريكية, لاتنهج تصديراً ثقافياً عالمياً, إلى العالم, بقدر ما هي حريصة على تصدير ثقافة انحطاطية, سوقية, تكرّس وعياً تسطيحياً لدى الشعوب المستهلكة لهذا المنتوج الثقافي. ثقافة لاتقدم رؤية حضارية للإنسان بل هي سلعة استهلاكية تجعل الإنسان يعيش هوس النجومية والإستهلاك اليومي لثقافة الشارع الأمريكي. فحتى في هذا الإطار, نحن مع عولمة ثقافية, بقدر ما تتمترس بأحدث وسائل التقانة, فهي تخفي كل مظاهر التخلف والإنحطاط. وهذه الهجمة الثقافية الرديئة للعولمة المتأمركة, لاتجدر ردود الفعل في العالم العربي والإسلامي فحسب, بل إن الموقف الحذر, والمتحصن منها, أصبح وسيلة لدى دول أوربية, بدأت تحس بخطر العولمة الثقافية المتأمركة, على مصيرها الثقافي والحضاري. وقد أظهرت ورقة كل من د. عبد الإله بلقزيز و د. محمد عابد الجابري, وإلى حدّ ما ورقة بول سالم, ما فيه الكفاية لفضح هذه السياسة المدبرة, لتوسيع مجال تسويق ثقافة آحادية على أساس تحطيم الأشكال الأخرى للثقافة الإنسانية.
لقد حاول د. بلقزيز, أن يثير من خلال ورقته «العولمة والهوية الثقافية: عولمة الثقافة أم ثقافة العولمة», سؤالاً جوهرياً: هل ثمة من إمكانية لمقاومة زحف هذه العولمة؟
والجواب; هو لأن كان وضعنا الراهن, لايوفر ما يجعل الثقافة الوطنية محصنة ضد هذا الإختراق, فإن ثمة ـ‏على الأقل‏ـ إمكانية للتخفيف من الحكم المطلق باستحالة الممانعة. إن هذه الأخيرة, ليست مساوقة لمعنى الإنضواء تحت أنساق مغلقة تجاه التطور الذي يجري في عالمنا المعاصر. فقد يحاول البعض بشتى الوسائل ربط موقف الممانعة, بالموقف السلبي من الحداثة ذاتها. لكن الذي يبدو هو أن هذا القسم من المثقفين لايلتفتون إلى حقيقة «العولمة», من حيث هي نزعة لجعل العالم يتوحد على ثقافة, لانقول أنها «ثقافة» الغالب, بل هي محاولة خطيرة لجعل العالم خاضعاً لثقافة استهلاكية تمثل نموذجاً هوليودياً أكثر مما هي ثقافة أمريكية حقيقية. من هنا أجدني على اتفاق مع كل الأساليب التي استخدمها بلقزيز في تعامله مع لفظ «عولمة», من حيث هي الوجه الآخر, للتسويق والإستهلاك والعنف الرأسمالي والإمبريالي. لهذا السبب تحديداً, يقول: «إن مقاومة العولمة الثقافية, ليست دعوة رجعية لقطع آصرة التفاعل الثقافي مع العالم الخارجي, بل هي طريقة للقول, أن الثقافة العالمية الحقيقية, هي ثقافات سائر المجتمعات من دون استثناء».
إنها الصورة ذاتها التي تنقلنا إليه ورقة د. الجابري «العولمة والهوية الثقافية» من حيث أنها جاءت ضمن مخطط, يسعى إلى تلخيص موقف الممانعة ضمن اطروحات عشر, كلها تؤدي إلى معنى واحد; هو أن العولمة الثقافية, ليست أكثر من مشروع اختراق, يقوم على رؤية متمركزة للأنوية الأمريكية. ولهذا فليست «العولمة مجرد آلية من آليات التطور الرأسمالي بل هي أيضاً, وبالدرجة الأولى, ايديولوجيا تعكس إرادة الهيمنة على العالم». فهي ـ أي العولمة‏ـ وحسب الجابري دائماً: «نفي للآخر وإحلال للإختراق الثقافي محل الصراع الأيديولوجي».

العولمة الثقافية وتحطيم خيارات النهضة العربية

كما هو الأمر في مجال التجارة والمبادلات فإن العولمة الثقافية تسعى إلى أن تجعل من «الثقافة» سلعة أو خدمة للإستهلاك, تحظى بجاهزية خاصة ومغرية, شأنها شأن «المعلَّبات» إنها محاولة لمزيد من تكريس التقسيم الإمبريالي للعمل, حيث بمقتضاه تستمر الولايات المتحدة الأمريكية في إنتاج أشكال الثقافة اليومية, من أفكار وأذواق وتصورات... وتظل المجتمعات الأخرى مستهلكاً, وسوقاً كبيراً للمنتوج الأمريكي. وبما أن التقسيم أعلاه, كان قد شلّ كل محاولة لتفعيل مسلسل الإنماء الصناعي في الوطن العربي فإن أمريكا تسعى لأن تجعل من العولمة الثقافية, وهي الوجه الآخر ـ لتقسيم امبريالي جديد للإنتاج الثقافي ـ آلية ردع لكل خيار نهضوي, وتمييع كل محاولة لتفعيل ثقافي حقيقي في المجتمعات المختلفة. إن غياب رادع مثل هذا, إنما يعني في الوطن العربي قيام خيارات الوحدة والتضامن والإنماء, وهي كلها تقع عائقاً في طريق السيطرة الإمبريالية. إن الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت تراهن على فهم «هوليودي» للحضارات, يقوم على الصراع والتحطيم والإلغاء.. لتتكامل الصورة ابتداءاً من صراع الحضارات لـ «هينتنغتون» حتى «نهاية التاريخ» لفوكوياما, حيث يتحول عالم الثقافات مسرحاً, لالتصاهر أو تحاور أو تثاقف الحضارات, بل عالماً, للثقافة الأمريكية, كما يصيغها المنتوج «الهوليودي». ثقافة صراعية, ومتعصبة للإقصاء والإحتكار وبالتالي «إنهاء» التاريخ!
ولعل هذا الطموح بدأ الآن واضحاً لدى الجميع, وظهر للعالم بأن عصر الهيمنة قد عاد يتهدد الكيانات القومية. فإذا أحست أوربا, وهي من «صَنَع» أمريكا مع أنها كانت وراء أخطر حركة إلغاء ثقافي في التاريخ الحديث, تسعى اليوم للتحصن من الخطر الأمريكي المتستر وراء مشروع العولمة الثقافية, يبقى السؤال ملحاً, بالنسبة للوطن العربي والإسلامي, كيف يحصن مجاله من هذا الخطر, وما هي الإمكانات المتوفرة في حوزته؟
لاشك في أن هناك أكثر من إثارة داخل «ندوة العولمة» للإجابة عن هذا السؤال, إلاّ أن الغالب ظل دائماً هو الوصف, والتركيز على ايجاد قناعة راسخة بخطر العولمة الثقافية. ولعل أهم ما أثير حول هذا الموضوع, ما تقدم به «بلقزيز» بخصوص المؤشرين الأساسيين, الذين بقدر ما هما أساس إنتاج الثقافة القومية, فإنهما يعانيان خللاً كبيراً, وهما: الأسرة والتعليم. ففي نهاية المطاف نحن أمام مأزم تربوي يجب إعادة النظر في مقوماته; الإختراق الذي أصاب الأسرة, وهو ما نتج عن التفكك الأسري يضاف إليه ضعف التعليم, وايضاً أزمة التعليم وسياسته في الوطن العربي, هما مؤشران على ضعف الفاعلية الثقافية الوطنية. من هنا, نعتقد أيضاً مع بلقزيز, أن الرهان ـ لا أقل‏ـ على توفير مناخ الممانعة, يجب أن يبدأ من التربية والعمل على النهوض بهذا القطاع إلى مستوى أكثر حيوية من أي وقت مضى. خصوصاً وأننا اليوم, وأقل من السابق, لم نعد نشك في أن العرب قاطبة هم على الدرجة ذاتها من الوعي بخطورة هذا الإختراق, وبأن العدو لايقدم امتيازات سواءً للحلفاء أو الأعداء, إلا بقدر من يستمكنهم من أنفسهم. لكن يبقى السؤال الجوهري بعد ذلك: ترى, هل الولايات المتحدة الأمريكية تحرص على العولمة التقانية والإقتصادية بالقدر ذاته من العولمة الثقافية.. هل هي بالأحرى تقبل بأن تلغي تخلف العالم الثالث تقنياً واقتصادياً بالقدر ذاته من الإصرار والإخلاص لإقصاء هويته الثقافية؟ تلك إذن هي المشكلة!

(*) كاتب من المغرب.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة