تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

ثقافتنا في ظل العصر الجديد

فيصل العوامي

لعل من أشد ما يثير انتباه المثقف الإسلامي، وهو يتابع الحركة الثقافية في العالم، ما يشاهده من تسارع جنوني بل تحوّل من نمط إلى آخر في ثنايا تلك الحركة، لدرجة لايكاد المرء يفرغ من التعرف على نمط حتى تجتاح الساحة أنماط عديدة أكثر تطوراً وغرابة.. فها نحن مثلاً ما كدنا نتعرف على أوليات العمل بالحاسوب حتى تلاحقت التطورات فيه لدرجة يصعب على الإنسان مجاراتها، ثم دخلنا عالم الإنترنت الذي يفكر العالم اليوم في تجاوزه إلى ما هو أكثر غرابة وتطوراً منه.. لقد أجاد أحد المعنيين بشأن الكومبيوتر في معرض تعليقه على تسارع التطور في عالم الإنترنت حيث قال: بأننا في المستقبل القريب سننظر إلى ما نحن فيه اليوم من تطور على أنه شيء بدائي كما هو حال نظرنا اليوم إلى بدائيات القرون القديمة.
إن هذا التحول لايثير المراقب فحسب وإنما يؤرقه، وذلك إذا فكر في مستقبل الثقافة الإسلامية، وأين، ثم كيف ستكون تلك الثقافة، وكيف ستتعامل مع هذا العصر الذي تقوده تحولاته المعلوماتية والعلمية إلى مرحلة التداخل الثقافي العالمي أو ما يصطلح عليه بالعولمة.
إنه فعلاً أمر يؤرق ويحتاج إلى وقفة مع الذات.. لهذا يحق لنا أن نتساءل.. أي ثقافة نريد في ظل المعلومات وتحديات العولمة؟
والإجابة يمكن أن تأتي على نحوين، فنحن في خضم ملاحظتنا لهذا الإستفهام تارة ننظر إلى أنفسنا من الخارج لنحدد موقفاً تجاه ما يجري، فنقول على إثر ذلك إننا يجب أن نستجيب لمتطلبات العصر، ونتفاعل مع التطور ونستفيد من سائر الإنجازات وما أشبه، وتارة ننظر إلى أنفسنا من الداخل، وهي نظرة سابقة لتلك، فنتحدث حينها عن الشكل الذي ينبغي أن تكون عليه أرضيتنا، أي نمط الثقافة التي سنحملها معنا لندخل بها العصر الجديد.. وهذا تماماً ما سيكون عليه سياق هذه المداخلة..
لهذا أعود فأسأل.. أي ثقافة نريد في ظل ثورة المعلومات وتحديات العولمة؟
ما هي تلك الثقافة التي تعيد إلينا حيويتنا العقلية والإجتماعية، وتجتثنا من الهامش المكاني والزماني لتضعنا في واجهة الصفحة الثقافية لنكون شهوداً لامشهودين فحسب؟
ثم أجيب فأقول.. سيكون من السهل علينا معرفة المعالم الأساسية لتلك الثقافة، إذا كانت أهدافنا الثقافية واضحة أمامنا، إذ لايمكن أن نحدد موقفنا تجاه ما يجري حولنا من تحولات فكرية ونرسم المعالم المهمة لثقافتنا ـ وهي المحرك الأساسي ـ من دون أن نعرف ماذا نريد وما هي أهدفنا..

مقدمات النهوض الثقافي

لهذا لابد من التصدير بعرض موجز لتلكم الأهداف، وأظنها ثلاثة:
أولاً: القضاء على الفيروسات الثقافية: التي كانت ومازالت تلعب دوراً كبيراً في تكريس حالة التأخر عندنا، وتعميق مظاهر الترهل الحضاري التي تجعل المجتمع أشبه بالسلحفاة في انطلاقاته الثقافية. ولأن الإمتداد الزمني لحالة التأخر والتراجع الثقافي في عالمنا واسع جداً، يعد بمئات السنين، فقد تراكمت تلك الفيروسات، فلم تعد مجرد أفكار ونظريات هامشية أو كلاسيكية جامدة، بحيث لايتطلب علاجها سوى بعض التصحيحات الطفيفة وإضفاء الطابع العصري عليها، وإنما تجاوز المرض إلى مستوى المنهج الثقافي الذي يبتنى عليه في تحليل الأفكار، فالقواعد الفكرية الكبرى والفرعية المعتمد عليها في تحرير مطالب ثقافتنا تشكو من أمراض لايستهان بها، ولعلها المسؤول الأول عن ترهّل ثقافتنا وشيخوختها.
والذي يزيد الأمر حرجاً أكبر، أن المرض لم يتوقف عند مشكلة الفكرة والمنهج، وإنما تعدّى إلى القناعات الثقافية المتجذّرة.. فمن أمراضنا الثقافية أن بعض المغالطات الفكرية أو لا أقل المفاهيم والتصورات التاريخية تحوّلت إلى قناعات راسخة في النفس ليس في حدود الفئات الناضجة والمثقفة‏ـ حتى يسهل معالجتها أو مراجعتها ـ وإنما لدى العموم، مما يزيدها صعوبة حيث يتعسر تصحيحها أو تهذيبها فضلاً عن تبديلها، فهي من النوع الذي لايتبدّل إلا في الإنعطافات الكبرى من قبيل الإنعطاف التاريخي النوعي الذي عاشته أوروبا إبان وعقب الثورة الفرنسية والإنعطاف الذي واكبته المنطقة بعد الثورة الإسلامية في إيران، وأشباه ذلك.
ففيروساتنا الثقافية هي تراكم من النظريات والمناهج والقناعات النفسية..‏ومن أولى أهدافنا الثقافية القضاء على هذه الفيروسات أو لا أقل التقليل من مستوى الخطورة فيها، وهو الأمر الذي عادة ما يكون نقطة انطلاق الرسل في دعواتهم حيث أنهم يعمدون في البدء إلى كنس الترسبات ثم يشرعون في عملية التأسيس، وذلك تماماً مفاد قول الباري جل وعلا {يضع عنهم أصرهم والأغلال التي كانت عليهم} (1) .
ثانياً: تنمية الوعي الثقافي في الأوساط الشعبية، برفع مستوى التفكير وتنشيط الحس العلمي، إذ ما لم تتصاعد مراتب ذلك الوعي فإن المجتمع سيظل حبيس لحظته المتأخرة ولن يخطو نحو الأفضل، لأن العقل الواعي هو المسؤول عن بعث الأمل والطموح وزرع الرغبة في الإرتقاء، أما العقل الساذج فإنه لايفرق بين الأعلى والأدنى والأفضل والأسوأ.. وذلك هو مقتضى قول الله سبحانه: {ويعلمهم الكتاب والحكمة} (2) ، والغاية من بدء الرسالة الإسلامية بالدعوة إلى العلم، حيث كانت أول آية يُؤمر الرسول (ص) بتبليغها قول الله سبحانه {اقرأ باسم ربك الذي خلق} (3) .
ولقد تنبّه الأستاذ حسن حمادة في كتابٍ له حول ترويج عادة القراءة إلى هذه النكتة قائلاً: «فقبل أن يؤسس القرآن لأي نظرية اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية، وجّه أنظارنا إلى أمر هو في غاية الأهمية، إذ وجه الخطاب لنا بصيغة الأمر بقوله عز من قائل: {اقرأ}... وكلنا يعلم بأن الرسول (ص) صدع بالحق قائلاً:اقرأ وارقَ» (4) .
وفعلاً هو تنبهٌ دقيق... فمجمل الرسالات السماوية كانت تبتدئ بالدعوة إلى التوحيد كما قال تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون} (5) .. لكن في الرسالة الخاتمة قبل أن يؤكد الخطاب على مبدأ التوحيد حيث على العلم.. والفلسفة في ذلك أن الإنسان العربي آنذاك ـ وكل إنسان عبر التاريخ ـ ما كان من السهل عليه بسبب جهله أن يميّز بين العمق العلمي الذي يدعو إليه الرسول (ص) المتضمن لفكرة الغيب والوحدانية وماýأشبه، وبين السذاجة العقلية التي ينادي بمضامينها كفار قريش من التحاكم إلى الشهود والمجرّد واتخاذ الحجر وسيلة للتقرب إلى الله زلفى.. ولهذا كان لابد أن يتعلم ويعي حقائق الأمور حتى يكون عقله قابلاً لتلقي وهضم الأفكار النهضوية الجديدة.. وهذا هو تماماً أحد أبرز أهدافنا الثقافية، فنحن نطمح إلى تقوية العصب الثقافي وتنشيط الحس العلمي كي يتأهّل المجتمع لتلقي الأفكار والأطروحات النوعية التي تقع في طريق النهضة والإصلاح الفكري والإجتماعي.
ثالثاً: حضور فاعل في الساحة الثقافية، بأن نتخطى حدود الهامشية الثقافية التي تجعل منا مجتمعاً مستورداً للأفكار، وتجعل من أرضيتنا أرضية خصبة لنمو زرع الغير..
إننا نريد أن نقفز على هذه الهامشية ونتجاوزها، ونتحول إلى مجتمع له صوت فكري في الساحة الثقافية، بما يبدعه من أفكار وحلول ومشروعات قابلة للتصدير.
وحين نطمح إلى ذلك فإننا لاننشد الإكتفاء الذاتي كلياً في عالم الفكر والثقافة، لأنه ضرب من الخيال، بل من صنوف المستحيلات، فالأفكار ليست حكراً علينا ولا على غيرنا، ولذا يمكن استعارتها من الغير والإستفادة منها في تقوية الأفكار الذاتية.. وبعبارة نحن بوسعنا المزاوجة بين العطاء والأخذ، فنرفد الساحة الثقافية بتصوراتنا العلمية والإجتماعية، ونستعير الأخرى التي تفيدنا وتخدم واقعنا بعد فحصها وتهذيبها..
لكن كل ذلك أيضاً لايسلب منا حق السعي للتفوق.. ونحن إذ نطمح لتخطي حدود الهامشية، فإننا في حقيقة الأمر نتطلع إلى التفوق في عالم الفكر والثقافة بما نحتضن من مقومات تاريخية وموضوعية.. وهذه هي الترجمة الفعلية لقول الباري جل وعلا: {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس} (6) .
إذاً فأهدافنا الثقافية تتمحور حول خطابات قرآنية ثلاثة («يضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم»، «ويعلمهم الكتاب والحكمة» الذي يُعد مؤدى لـ «إقرأ»، و«كذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس»)... ويمكن مزجها جميعاً للخلوص بنتيجة محورية وهي أننا نسعى لإسترجاع حيوتنا العقلية حتى نعيش ـ بعزّة‏ـ واقعنا لا واقع غيرنا، ونعيش زماننا لازمان غيرنا.
إذا كانت هذه هي أهدافنا الثقافية، فلابد للثقافة المعتمدة من قبلنا أن تكون منسجمة معها، بحيث تكون هذه الثقافة واقعة في طريق تحقيق تلك الأهداف.
فإذا أردنا دخول العصر الجديد، عصر المعلومات والعولمة، ونحن نحمل أهدافاً كتلك، أهدافاً تدفعنا لنكون في موقع ثقافي متميز فلا ننهزم أمام ثقافة الغير وإنما نكون شاهدين على عصرنا، فلا بد لنا من تبني ثقافة تكفل لنا ذلك التطلع، ثقافة تتناسب مع الجو الجديد، لابد من تحرير أولوياتنا الثقافية والتسالم عليها قبل كل شيء.

ثقافة الديمقراطية وديمقراطية الثقافة

إن ثقافة العصر الجديد التي نحتاجها، والتي كشفت لنا تجارب التاريخ ووقائع الحاضر خطأ وخطورة نقيضها، هي الثقافة التي تصنف جميع الآراء والطروحات النظرية والعلمية ضمن دائرة الإيمان، فلا تفترض خطين متوازيين تجاه كل فكرتين متباينتين، خط الكفر وخط الإيمان.. وهي الثقافة التي تؤديýإلى رفع الحجب النفسية والإجتماعية والفكرية عن الرأي الآخر.
إنها ثقافة الديمقراطية وديمقراطية الثقافة.. التي تنص على أن كل فكرة قابلة للنقد والتجريح أنى كان قائلها‏ـ إلا إذا كان معصوماً‏ـ، باستثناء ما تسالمت الأمة وأجمعت عليه عبر تاريخها الطويل ودعّمته بمبررات تأصيلية مقطوعة الصدور، وهذا يعني أن الأجواء المحيطة بالثقافة ينبغي أن تكون أجواء غير متشنجة، تعطي للآخر الحق في ابداء ما يخالجه من أفكار من غير أن يواجه سوء الظن وإنما سياسة حسن النوايا، فلاينظر إلى فكرته إلا بما هي بلا مؤونة إضافية أو تفسيرات جانبية.
هذا بعض ما تنص عليه ثقافة الديمقراطية، إذ أن هناك أمور أخرى تنص عليها ديمقراطية الثقافة، حيث تكون الأفكار والطروحات هي بذاتها ديمقراطية غير عدائية، لاتبحث دائماً عن ضحية أو عدواً تضعه في قبالها لتستعديه.
وهنا قد يتراءى للبعض بأن هذا النداء لايعدو كونه سطحياً، أو ليس ذا أثر على مسيرتنا الثقافية، حتى نحتاج إلى التركيز عليه وإعطائه هذه الأولوية.. ولكن هذا الترائي غير تام، لأن الحس الديمقراطي في الثقافة هو بذاته ثقافة بل هو لبّها والمتحكم في مسيرتها وبدونه لاشك ستبقى الثقافة جامدة بل ميتة، والسبب في ذلك أن الفكر لاينطلق ويأخذ تمام قوته إلا إذا وجدت بإزائه أجواء الحرية التي تنشطه، ما إذا كان مكبوتاً فإنه سيتقيد ويظل حبيس حدوده الضيقة.
فالمناخ الأفضل الذي ينعش الفكر هو مناخ الديمقراطية، فكلما كانت الأجواء أكثر ديمقراطية كلما كان الفكر أكثر إبداعاً. والدلائل التاريخية والواقعية لاتحصى في هذا المجال، فلو أخذنا مثلاً على ذلك التجربة العلمية للإمام جعفر بن محمد الصادق (ع) لوجدنا دليلاً فعلياً على هذا المدعى.
إذ بعد الكبت الشديد الذي تعرضت له مدرسة أهل البيت،‏والذي كان سبباً في شيوع مبدأ التقية الفكرية ـ وليس السياسية فحسب ـ، مرّت على هذه المدرسة مرحلة يمكن أن نطلق عليها تجوّزاً بالمرحلة الديمقراطية، وقد عاصرها الإمام الصادق (ع).. وهي مرحلة انحطاط دولة بني أمية وولادة دولة بني العباس، حيث كانت الأولى منشغلة بالحروب الداخلية، وأما الثانية فقد اهتمت من جانب بتنظيم الدولة الوليدة ومن جانب آخر بإظهار المودة ولو سطحياً لأهل البيت كي تركب الموجة العارمة التي كانت تنادي بالرضا لآل محمد (ص)..
فذلك فرض على الساحة الثقافية ديمقراطية قسرية، أو لنقل ديمقراطية مسكوت عنها لأَجَل.. لذلك نشطت الحركة العلمية عند أهل البيت، فوسع الإمام الصادق (ع) مشروعه العلمي وأظهر قناعات مخالفة وصريحة في مختلف العلوم، واستقبل متعلمين من مختلف أصقاع الأرض فأحوز بذلك نهضة علمية مازال الكل يرتشف من معينها حتى هذا اليوم.. حتى قال عنه الجاحظ: «وفجّر الإمام الصادق (ع) ينابيع العلم والحكمة في الأرض، وفتح للناس أبواباً من العلوم لم يعهدوها من قبل وقد ملأ الدنيا بعلمه» (7) .
وبمثل ذلك نظر ابن حجر لتجربة الصادق (ع) فقال: «ونقل عنه الناس من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر صيته في جميع البلدان» (8) .
ولنفس السبب فإن النشاط العلمي للصادق (ع) لم يقتصر على منطقة أو فئة، وإنما كانت مدرسة الإمام ملتقى لكل الفئات المتعلمة الوافدة من مختلف البلاد، حيث أن المناخ الفكري دفع الإمام للجهر بدعوته، وسمح للراغبين في الإلتحاق بمدرسة أهل البيت بالإستجابة لتلك الدعوة بدون أن يضعوا في حساباتهم الصعاب السياسية والإجتماعية التي تعرض إليها من سبقهم، وهذا ما دفع سيد أمير علي للقول: «إن حركته ـ الإمام‏ـ العلمية اتسعت اتساعاً هائلاً شملت جميع المناطق الإسلامية» (9) .
حتى بلغ عدد من روى (10) عن الإمام (ع) أربعة ألاف رواية حسب تصريح العديد من المتتبعين، من بينهم محمد بن جمال الدين مكي العاملي المعروف بالشهيد الأول حيث صرح في كتابه «ذكرى الشيعة في أحكام الشريعة»: «إن أبا عبد الله جعفر بن محمد الصادق (ع) كتب من أجوبة سائله أربعمائة مصنَّف لأربعمائة مصنِّف، ودوّن من رجاله المعروفين أربعة آلاف رجل من أهل العراق والشام والحجاز» (11) .
كل ذلك لأن المناخ الفكري في عصر الإمام الصادق كان ذا طابع ديمقراطي.. ولهذا بمجرد أن تبدل ذلك المناخ في عصر ابنه موسى الكاظم (ع) انحسرت الدعوة العلمية، حيث تحفظ الإمام (ع) على أفكاره وبقي «طيلة حياته يتقي شر العباسيين ولايسمح حتى لشيعته وتلامذته من الإتصال به بالشكل الذي اعتادوه في عهد أبيه، وحتى أن رواة أحاديثه قلّما كانوا يروون عنه باسمه الصريح، بل بكنيته تارة فيقول الراوي: سمعت ابا ابراهيم، أو أبا الحسن، أو بألقاب أخرى، كالعبد الصالح والعالم والسيد ونحو ذلك، وأحياناً بما يشير إليه فيقول: حدثني الرجل، وسمعت الرجل، وكتبت إليه ونحو ذلك مما يدل على أن الحكام الذين عاصرهم كانوا يراقبونه ويحصون عليه وعلى أصحابه أنفاسهم، وكان هو بدوره يؤكد على أصحابه وخاصته أن يستعملوا التقية حتى في أمور دينهم وعباداتهم كي لايتعرضوا للخطر والإنتقام من حكام زمانه» (12) .
ولملاحظة المفارقة بين تداعيات كلا المناخين، نجد أن الصادق (ع) يدعو تلامذته إلى الإنتشار بين الناس في العلن لإرشادهم، كما ظهر ذلك في دعوته لإبان بن تغلب حيث قال له: «اجلس في مسجد المدينة وافق الناس فإني أُحب أن يرى في شيعتي مثلك، فجلس» (13) .
في حين نرى الإمام الكاظم (ع) يبعث إلى هشام بن الحكم ويأمره بأن يكف عن الكلام في المسائل العقائدية خوفاً عليه.. والتزم هشام بذلك حتى مات المهدي العباسي (14) .
ثم إن ما حدث في البلاد الغربية ليس ببعيد، حيث كبلت الأفكار بفعل السطوة الكنسية، وما استطاعت أن تنطلق إلا بعد أن أرست دعائم الديمقراطية، حيث ناضلت أغلب الأقلام من أجلها حتى نُقِلَ بأن ما ألّف في الغرب من كتب تنادي بالديمقراطية قارب الألفين (15) .. وكل ما نشاهده اليوم من تطوّر هائل في المجال الثقافي في تلك البلاد إنما هو وليد للديمقراطية..
بل لو نظرنا في هذه اللحظة الراهنة إلى البلاد التي ينتعش فيها الحس الديمقراطي بعدما كان مكبوتاً كبعض البلاد العربية، لوجدنا كيف أن الثقافة تتفجر فيها بشكل يلاحظه كل مراقب.
وهذا ما نطمح إلى تحقيقه نحن أيضاً ليس في المسار السياسي فحسب وإنما في المسار الإجتماعي أيضاً، لأنه لايقل أهمية عن الأول.. وإنما نقول بذلك ونؤكد عليه لأنه يعد من أعقد مشاكلنا الثقافية المعاصرة، لدرجة لايكاد يوجد مثقف إلا وفي داخله كابح يؤرقه ويكبحه عن إبداء آرائه بصراحة، فتارة يتمثل في البيئة الإجتماعية أو السياسية، وتارة يتمثل في الإنتماءات التي تؤطر الحركة العقلية للمثقف وتقيده بفكر خاص، وقد يتمثل في المصالح المحيطة به.. مما يجعل أفكاره سجينة دائماً ومهددة بالخطر، وهو الذي لايكون مؤاده غير جمود الفكر وموت الثقافة.. وبالعكس تماماً فيما لو وجد المثقف أمامه متنفسٍ كافٍ يعبر من خلاله عن آرائه، ولم يخش من ردات فعل الآخرين قربوا أم بعدوا، فإن فكره آنئذ سيحلق بارتياح في فضاء الثقافة..
هذه مسألة تعتبر من أبرز أولوياتنا الثقافية التي نريد أن ندخل العصر الجديد ونحن متوجون بها..

تفكيك إشكالية التراث والمعاصرة

يظهر أن أبرز مسألة ثقافية انشغل بتحريرها المفكرون المنتمون لمنطقتنا الإسلامية، مسألة التفكيك بين التراث القديم والإنتاجات الفكرية الجديدة.. بل وصل الأمر إلى أن يتجه المفكر إلى تسجيل موقفه من التراث في دراسة مفصلة قبل أن يؤسس لنظريته الثقافية، كما هو ملاحظ عند العديد من المفكرين المغاربة والمشارقة أمثال الدكتور محمد عابد الجابري الذي سجّل موقفه من التراث في عدة دراسات كـ «نحن والتراث» «التراث والحداثة» ثم أسس لنظريته الثقافية في مشروعه «نقد العقل العربي»، والدكتور حسن حنفي الذي قبل أن يشرع في إعداد مشروعه الفكري «من العقيدة إلى الثورة» قدّم له بدراسة مفصلة حول التراث.
ولم يقتصر الأمر على الكتابات الموسوعية، بل تعدّاه إلى المجلات والنشرات الثقافية، حيث يعمد الكثير منها في (الأعداد الأولى حين التقديم للمشروع الفكري الذي صدرت من أجله المجلة أو النشرة، إلى إشعار القارئ بالموقف من التراث، كما شاهدنا ذلك في مثل نشرة «اسلام 21» الصادرة من لندن، ومجلة «التجديد» الصادرة عن الجامعة الإسلامية في ماليزيا، و «الكلمة» الصادرة عن منتدى الكلمة في بيروت، و «اسلامية المعرفة» الصادرة عن المعهد العالمي للفكر الإسلامي في واشنطن، وغيرها كثير.
ولسخونه هذا المبحث الفكري ومصيريته فقد احتدم الطرح الفكري بين العديد من الإتجاهات لدرجة وصل الأمر عند البعض إلى حد التراشق بالتهم..
هذا وقد نظر بعض أولئك إلى أن التراث هو المنقذ من التخلف الفكري والإجتماعي، معتبرين كل من يخالف هذا المنحى الفكري ضال ومضلَ وما يريد إلا أن يقوّض أركان هذه الأمة ويفصلها عن أصالتها الدينية، في حين رأى البعض الآخر أن التراث يعتبر أحد المقومات الأساسية للنهضة، ولايصح لنا المسير نحو العالم الجديد ونحن مثقلون به، واصفين من خالفهم بالرجعية والسذاجة.. وهناك من المفكرين من سعى للمزاوجة والتوفيق بين الإتجاهين.
والسؤال هنا.. هل نحن عازمون على اقتحام المرحلة الثقافية الجديدة ونحن بعد لم نحرر مطلباً كهذا، فلا نعرف هل نحمل معنا تراثنا ونستذكره في كل واقعة، أم نلقه في سلة المهملات؟ هل سندخل العصر الجديد ونحن مضطربون في فهمنا للتراث والواقع أم ماذا؟
أظن أننا لابد أن نوقف المساجلات الفكرية المتعلقة بهذا الموضوع، ولانتمادى أكثر في إثارتها، ونوجه اهتماماتنا لموضوعات أكثر حيوية وأهمية تتناسب مع اللحظة الراهنة ومع ما نعيشه من تسابق وتنافس فكري...
إذ بعد كل تلك الإنتاجات الفكرية، وبعد ان ازدحمت مكتبتنا بالعديد من المساهمات في هذا الحقل، لايعقل أننا لم نحرز بعد ولو رأياً نسبياً.. صحيح هناك مسائل كثيرة لم تتقارب الآراء فيها بعد، لكن الحد المتيقن من المفترض أن يتم تشخيصه من خلال النظر في ثنايا ما طرحه وتعرض إليه الجميع.. وهو الحد الذي ينبغي أن نحمله معنا في مسابقتنا الفكرية اللاحقة.
ولعل الحد المتيقن الذي تتسالم عليه جميع الأقلام إلا ما شذ منها‏ـ والشاذ لاتبني عليه السيرة العقلائية ولاتلتفت إليه غالباً، هو أننا أمة لها امتدادها الذي لايخجل منه، فتاريخنا يبعث على الفخر والعزة، وفكرنا ليس ارتجالياً وعفوياً وإنما مبني على ثوابت وأسس مستمدة من مركز واحد لايتنكر إليه احد وهو الوحي.. وفي هذا الإمتداد من النور الكثير الذي يمكن أن نستضيء به في دروبنا القادمة.
هذا حد متيقن ومسلّم به، وتبقى أمور خارجة عن هذا النطاق تشتبك عندها الآراء، يمكن مجانبتها، وبناء على ذلك لايسعنا الإلتزام بكلا القولين المتطرفين..
أولهما: الذيي يدعو لهجران التراث واعتباره مجرد تاريخ، وتركيز النظر في خصوص اللحظة المعاشة، وذلك لسببين:
أولاً: إن التراث هو أرضية الأمة التي تؤمن بها ولايمكن لأمة أن تضع نفسها في مصاف الأمم الأخرى وهي خالية الوفاض.. خصوصاً أن كل أمة لاتقدم نفسها للآخر متجرّدة من أصولها، فهذه الحضارات الصينية واليابانية والهندية حينما تعرض نفسها للآخر تذكّر بتاريخها الفلسفي وتتعامل من خلاله، مع أنه تاريخ ضارب في القدم وتعدّته مراحل أكثر نجاحاً وشيوعاً بدءاً بالتاريخ الفلسفي الإغريقي فالإسلامي وأخيراً الغربي الحديث، وهذا هو تماماً شأن بقية الأمم والحضارات وعلى رأسها الحضارة الغربية التي لاتنسى بين الحين والآخر أن تتشدق بتاريخها وأصولها الفلسفية اليونانية وغيرها.
لذلك فإن الأمة التي تتعامل مع الآخر متجردة من الإمتدادات الفكرية والإجتماعية، شاءت أم أبت ستصبح هزيلة أمامه وستضطر لإستعارة تراثه وبالتالي ستتماهى فيه من حيث لاتشعر، لهذا لايسعنا التخلي عن أرضيتنا الثقافية على وجه الخصوص.
ثانياً: إن الأمة لن تستجيب ـ كما لم تستجب ـ لأي دعوة تفصلها عن تراثها، لأنه عبارة عن الدين الذي تؤمن به وتعتقده، وليس مجرد نظريات فلسفية أو كلامية عن العقل البشري.
وثانيهما الذي يدعو إلى التماهي في القديم واعتماد منهجية السلف في كل الخطوات الثقافية والإجتماعية، فهو لايمكن تبنيه لأنه يعني نسيان القدرات الذاتية التي حبى الله بها كل إنسان بلا فرق بين القديم والحديث، وتجميد العقل والإعتماد على عقول الآخرين، حيث أن التراث ليس بأجمعه نصوصاً شرعية غير قابلة للنقد وإنما يحتوي على الكثير من الإنتاجات الإنسانية القابلة للجرح والتي لاتعبر إلا عن لحظتها.. ثم إن ذلك لن يجعلنا مؤهلين لسد الكثير من الثغرات التي تحتاج إلى ملاحظة مباشرة من قبل عقل معاصر ـ مع ضرورة التسليم بالقيم الكبرى‏ـ.
ولايخفى أنني هنا لست بصدد مناقشة جدلية العلاقة بين التراث والحداثة بصورة مسهبة، وإنما هو حديث عرضي لا أهدف منه إلا تسجيل رأي كلي بخصوصهما فقط، ولذا لم أطنب في عرض النقود والمبررات للمذهب المتبنى.. وإنما اكتفيت باختيار الرأي الثقافي الأصح الذي يفترض أن نجتاح به العصر الجديد، وذلك بأن نتوقف عن الإسترسال في هذه المجادلة الثقافية التي تفترض القطيعة أو الإتصال مع الماضي، لأن ما طرح فيها يعد كافياً ومستوعباً لأغلب مسائلها، ولأننا لايصح لنا مجاراة الآخرين في ثقافتهم بثقافة مضطربة ومختلفة اختلافاً جذرياً، ولهذا لابد من اعتماد ثقافة الحد المتيقن في هذا المنحى المهم من الثقافة والذي يقضي بدخولنا العصر الجديد ونحن محملون بكل قوانا الذاتية والتي من جملتها التراث.
ولاشك أننا إذا اعتمدنا ثقافة الحد المتيقن ـ وأوقفنا المجادلة في هذا المطلب ـ فإن العديد من المطالب الثقافية سيتقزم الإشكال فيها، كالثقافة بين النص والعقل، والثقافة بين المسلمات النفسية والإجتماعية والواقع العلمي وأشباهها.

مشكلات الثقافة بين الكل والجزء

ثلاثة إشكالات كان لها أبلغ الأثر في خلخلة ثقافة الأمة الواحدة وتجزئتها:
1ـ إشكالية المذهبيات الفئوية.
2ـ إشكالية التعدديات الحزبية الضيقة.
3ـ إشكالية التحيزات الإقليمية.
لكن كيف؟
من المعالم الأساسية للثقافة الإسلامية التي بلّغها رسول الله (ص)، ما ظهر جلياً في قول الباري جل وعلا {إن أمتكم هذه أمة واحدة} (16) .
وقوله سبحانه {كنتم خير أمة أخرجت للناس} (17) .
ومثلها {وكذلك جعلناكم أمة وسط} (18) .
وكذلك {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير...} (19)
وهو الذي يرمز إلى الثقافة التي تتعالى على كل التقاسيم العاطفية ـ أي التي تلعب العاطفة فيها دوراً كبيراً كالعائلة والقبيلة وأشباهها‏ـ والتجزؤات بل وحتى الفوارق العرقية..‏الثقافة التي تحوّل المجتمع والأمة إلى قوة فكرية واحدة.
فالثقافة التي جاء بها الدين هي ثقافة الأمة لا ثقافة المذهب ولا الحزب ولا الإقليم، وعلى أساسها تكوّنت أرضية الأمة.. وهي الثقافة التي اعتمدها رسول الله (ص) وحثّ المؤمنين على التمسك بها، لدرجة أصبحت هذه الثقافة شعاراً للدولة الإسلامية كان يتجلى في كل مشاريعها وعلى رأسها الفتوحات، بل أصبحت ظلالاً لكثير من الأحكام الشرعية في مجال العبادات والمعاملات كما لايخفى على المتتبع.
وبهذه الثقافة استطاعت الأمة في ماضيها أن تسجل العديد من الإنتصارات على صعيد الفكر والسياسة، والسبب في ذلك أنها حوّلت الجسد الممزق للأمّة إلى جسد واحد، والفكر المبعثر إلى فكر واحد.. وعلى اثرها أصبحت تلك الأزمة الضعيفة المقطعة الأوصال قوة واحدة تتحرك باتجاه هدف فكري واجتماعي واحد.
إلا أن هذه الثقافة شوهتها الأيام، بفعل الإشكاليات الثلاثة المذكورة أعلاه، إذ حينما انتشرت الثقافة المذهبية في المحيط الإسلامي تقسمت الثقافة الكبرى إلى أجزاء وحمل كل مذهب قسماً منها يكبر أو يصغر، ثم جاءت ثقافة الإقليم التي بدأت بذورها من العصر الأموي حيث مُيِّزَ بين العربي وغيره من الأعاجم، فازدادت التقسمات في كيان تلك الثقافة، ولم يتوقف الأمر عند ذلك وإنما استجدت أنواع خرى من الثقافات كان لها أثر سلبي ظاهر على ثقافة الأمة، وعلى رأسها الثقافة الحزبية، وذلك بعد أن ولدت العديد من الأحزاب في وسط الأمة وأخذ كل حزب بالترويج لثقافته فقط والتقليل من ثقافة ما عداه..
على اثر ذلك تحولت ثقافة الأمة الواحدة إلى عدة ثقافات متباينة، فأصبحت عندنا ثقافات مذهبية، وثقافات اقليمية، وثقافات حزبية، بالشكل الذي ضاعت في زحمته ثقافة الأمة وهذا ماýأضر بثقافتنا أمام الأخر وجعلها ثقافة هزيلة.
لكن ما يهوّن الخطب أن الأمة لم تتخلى نفسياً عن ثقافتها الواحدة، وإنما هي حالة معشعشة في داخلها، وكأن غبار السنين هو الذي أخفاها فقط، ولهذا كلما جاءت ريح وأثارت الغبرة عنها اشتعلت من جديد، وهو ما يدلنا على تجذّر هذه الثقافة في نفسية الأمة.
فمثلاً حين انتعشت الفكرة القومية ـ وهي تعبير عن جزء من ثقافة الأمة وليس الكل، لأن الكل يتعالى حتى على القوميات ـ رأينا كيف أن الأمة استجابت لها، وشهدنا كيف أن الأمة كانت ومازالت تنفعل بقضية واحدة وهي قضية فلسطين وذلك تعبير عن انتمائها الثقافي الواحد.. وهذا ما حدث تماماً عقب انتصار الثورة الإسلامية في ايران، حيث تفاعلت معها أغلب الشعوب الإسلامية.
لهذا كله أقول إننا إذا أردنا أن ندخل العصر الجديد بثقافة القوي ونجاري الأمم الأخرى، لابد أن ندخل بثقافة الأمة لأنها سر من أسرار قوتنا، نحمل معنا ثقافة الكل التي تتعالى على كل الإشكاليات لاثقافة الأجزاء والتفرعات، مع ضرورة الإعتراف والتسليم لأصحاب المذاهب والأقاليم وحتى الأحزاب بخصوصياتهم..
فإذاً.. نحن في هذه الحقبة الثقافية في حاجة إلى اعتماد ثقافة نظرية من نوع خاص، ثقافة الإيمان التي تؤدي إلى تنشيط الأجواء الثقافية وتقضي على حالات الركود، وثقافة الحد المتيقن التي تخرجنا من مأزق التضارب بين الأصالة والحداثة، ثم ثقافة الأمة الواحدة التي تذيب كل التمزقات الفكرية وتحوّل الأمة إلى قوة فكرية واحدة.

المصادر:
1ـ الأعراف 157.
2ـ الجمعة 2.
3ـ العلق 1.
4ـ أمة إقرأ.. لاتقرأ، للأستاذ حسن حمادة، ص 11.
5ـ الأنبياء 25.
6ـ البقرة 143.
7ـ رسائل الجاحظ للسندوبي، ص 106.
8ـ الصواعق المحرقة لإبن حجر، ص 120.
9ـ تاريخ العرب، سيد أمير علي، ص 179.
10ـ علماء الحديث نقلوا لنا بحكم تخصصهم في الرواية عدد من روى عن الإمام الصادق (ع) ولم يحصوا جميع من تتلمذ على يديه، إذ هناك العديد ممن لم يروون عنه (ع).
11ـ للإستزادة حول هذه الإحصائية، يمكن مراجعة كتاب «الإمام الصادق والمذاهب الأربعة» لأسد حيدر، ج1 ص67.
12ـ سيرة الأئمة الإثنا عشر، هاشم معروف الحسين، ج2 ص 321.
13ـ معجم رجال الحديث، السيد الخوئي «قده»، اسم ابان بن تغلب.
14ـ رجال الكشي ص 172.
15ـ احصائية وصلتني سماعاً‏ولم أطلع عليها شخصياً في مصدر مقروء.
16ـ الأنبياء 92.
17ـ آل عمران 110.
18ـ البقرة 143.
19ـ آل عمران 104.

* كاتب من المملكة العربية السعودية

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة