تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

مفهوم النظام المعرفي الإسلامي، «ملاحظات أولية»

نصر محمد عارف

الإسلام والمجتمع الأهلي
هناك علاقة وثيقة بين المدينة والإسلام, إذ ارتبط الإسلام منذ انطلاقته الأولى بالمدن وحواضر الجزيرة العربية, وتأكد هذا الإرتباط مع هجرة الرسول (ص) إلى يثرب التي سارع رسول الله إلى تسميتها بالمدينة. فعلاقة الإسلام بالمدينة والحواضر علاقة حميمة, إذ أن مجموع قيمه ومبادئه تدفع نحو الإقامة والإستقرار النفسي والإجتماعي. وقد قال تعالى {الذين أمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب} (5) . ومن المؤكد أن الإقامة والإستقرار الذي يوفرهما الدين الإسلامي, من الشروط الضرورية لتأسيس المدينة وفق قواعد ومتطلبات تزيد من فعالية الناس وحيويتهم الحضارية.
والمدينة أو الحاضرة لم يجعلها الإسلام بلا قانون وترتيب إداري يساهم في تنظيم شؤون المدينة من جميع النواحي, وإنما عمل على تنظيم شؤون المدينة, ودفع باتجاه الحشد واستكمال الجماعة, وحارب كل النوازع التي تحول دون استقرار المدينة وتطورها النفسي والإجتماعي والحضاري. ويبقى خيار الإسلام الأول انطلاقاً من رؤيته وخبرته وعلاقته بالمدينة والحواضر, أنه يسعى إلى تمدين الريف وغرس القيم المدنية والحضارية في محيطه وأجوائه. عكس الخيار المتبع عند الكثير من المدارس والأنظمة اليوم, التي فرضت خياراتها ومشروعاتها الإقتصادية والإدارية والإجتماعية ترييف المدن والحواضر, وذلك عبر المجتمعات الهامشية وأحزمة البؤس ومجتمعات الصفيح التي تشكلت في ضواحي المدن. فالخيارات الإقتصادية والتنموية المتبعة, هي التي أرغمت أبناء الريف والقرى إلى الهجرة القسريةإلى المدن والحواضر بحثاً عن لقمة العيش.
والإسلام هنا لم يلغ نظام الطاعة الطبيعي, إلى الأسرة, العشيرة, القبيلة, وإنما جعل طاعتهم في سياق طاعة الشريعة والإلتزام بقيمها ومبادئها. ولقد جاء في الحديث الشريف (لاطاعة لمخلوق في معصية الخالق) (6) . فالإسلام أسس مفهوم الطاعة على أسس جديدة, ومعايير متعالية عن معايير التراب, فالطاعة أضحت مع الإسلام إلى الشريعةوليس إلىýاي معيار آخر. ولا شك أن طاعة الشريعة والإلتزام بقيمها وترتيب المواقف والخيارات وفق هديها, هو من الشروط الأساسية للإستقرار السياسي والحضاري, وخلق المجتمع المدني ـ الأهلي في المجالين العربي, والإسلامي. والطاعة وفق هذا المنظور, هي التي تصهر التمايزات أو تجعلها في سياق الوحدة والبناء والإنفتاح والتسامح, بدل أن تكون وسيلة وسبباً للإنكفاء والإنعزال والتفتت والإنخراط في مشروعات تجزيئية, تزيد من ضعف الأمة على المستويين السياسي والحضاري.
وفي التاريخ العربي والإسلامي, نرى نموذج الحالة المدنية في فعاليات المدينة الإسلامية, والدينامية الإجتماعية التي عبرت عن نفسها بأشكال من التوازن بين التدخل السلطاني, الذي يتمثل في مؤسسات الوالي والقاضي والمحتسب وصاحب الشرطة, وبين الحاجات الإجتماعية (المدنية) التي عبرت عن نفسها بابتداع أشكال من المؤسسات التي تقوم بممارسة دورها في هذا الصدد. «فالنشاط المديني الذي تركز بشكل أساسي في الإنتاج الحرفي والتجارة انتظم في (الأصناف), وهذه الأخيرة هي تنظيمات اجتماعية تراتبية متماسكة, كل تنظيم فيها يُعبر عن أهل حرفه من الحرف. والملاحظ أن التنظيم (الصنف) الذي يدعوه البعض الطائفة, يعتمد تراتبية أهل الصوفية ابتداءً من المبتدئ (المريد) إلى الصانع, إلى المعلم, إلى شيخ الحرفة.. إلى شيخ السوق. وبين كل مرتبة تقوم أعراف وطقوس وأخلاقيات وتقنيات تعبر بدورها عن التفاوت الحاصل بين كل مرتبة ومرتبة في المعرفة والقيمة, أي وفقاً لدرجات تحصيل أو معرفة «سر المهنة» الذي أضفي عليه الطابع القدسي‏ـ‏الديني» (7) . فالروح والتراتبية المعنوية, اللتان يبثهما النشاط المديني تشكلان نقطة الإنطلاق والتطوير للمسألة المدنية في المجالين العربي والإسلامي.
إذ أن تراث العرب والمسلمين التاريخي في هذا الإطار, ثري, ومتوفر وذو مضمون عميق على مستوى التجربة التاريخية, والخبرة التي أوجدها في النسيج المجتمعي. وذلك لأن التحولات القسرية أو الفجائية, يصحبها تمزق اجتماعي رهيب, لايجعلها منتظمة في سياق متكامل, وإنما يحولها وكأنها جزيرة معزولة عن المحيط العام.
والذي يؤكد هذا الإتجاه (الإنطلاق من التجربة المدنية العربية والإسلامية لتنمية مؤسسات المجتمع المدني ـ الأهلي في الفضاء العربي والإسلامي) هو أن القيم المدنية والدينية في الإطار الإسلامي منصهرة فيما بينها, وهناك تطابق محمود بين القانون الديني والقانون المدني في التجربة الإسلامية التاريخية. وانطلاقاً‏مما يذكره (دونالد سميث) حول الفرق بين النظم العضوية ونظم الكنيسة الدينية, يمكن اعتبار الإسلام ديناً ‏عضوياً, وذلك لأنه يتضمن قيماً‏ومبادئ تعلي من الشأن المدني والإنساني, وهذه القيم هي التي تحدث قفزة نوعية في علاقة الإنسان بالمكان والزمان, وعلاقته مع بني جنسه, لذلك فإن «المديني في جميع اشكاله القديمة والحديثة يظهر كواقع جديد, أو كنتيجة لتمفصل النظام الإجتماعي والنظام المكاني. بين العلاقات الإجتماعية والعلاقات المكانية رباط جدلي لايمكن اختزاله إلى أحد طرفيه, وإذا صح أن نسمي الواجبات الإجتماعية نظاماً فإن حيز المدني, حيز الظروف الجديدة, يشكل بذاته نوعاً من التجاوز, اي عامل تغيير وتحقق. من هنا فإن المدينة لاتعكس بشكل سلبي نظاماً معيناً, ولكنها تلعب أيضاً‏دوراً‏نشطاً في تحويل هذا النظام ذاته وفي استخدامه, فهي تنظم جملة من الإحتمالات والمحظورات التي في ظلها يتطور أفراد وجماعات وأقوام يرسمون استراتيجيات مختلفة لتحقيق أهداف خاصة أو جماعية» (8) .
ويبدو لي أن القفزة النوعية, التي تحدثها القيم المدنية في النسيج المجتمعي, هي التي تبرز كطاقة خلاقة متجهة إلى بناء واقع اجتماعي يتمثل هذه القيم على مستوى علائقه المختلفة, ويتجسد كنموذج يطمح إلى التوسع والإمتداد, بحيث يكون هو النسق الإجتماعي السائد. وعلى هدى هذا نستطيع أن نقول: أن المسالة المدنية كقيم متجسدة في حركة الإنسان الخاصة والعامة, وكشبكة للعلاقات الإنسانية, لايمكن فهمها خارج السياق التاريخي لواقعنا ومجتمعنا.
ولهذا نحن بحاجة دوماً‏إلى البحث عن الإطار والقاعدة اللتين تحتضنان هذه القيم وتطورها في المحيط العام. وبكلمة يبقى الإسلام شرطاً ضرورياً‏لتأسيس المجتمع المدني‏ـ‏الأهلي وتطوير آليات عمله في المجالين العربي والإسلامي. وذلك بفعل أن الإسلام يعظم دور الأمة والمجتمع في العمران الحضاري, ويجعل الدولة مؤسسة من مؤسسات الأمة وليس العكس. ولاريب أن المدخل الفعال لدراسة المجتمع المدني ـ الأهلي وموقف الإسلام ودوره في هذا الإطار, هو أن المجتمع المدني‏ـ الأهلي جزء من الأمة التي يوليها الإسلام العناية الكاملة, ويجعلها قطب الرحى في عمليات البناء والتنمية.
وإن التجربة التاريخية الإسلامية, تشكل حافزاً حقيقياً وتجربة ثرية تساهم في بلورة خياراتنا تجاه صوغ مجتمع أهلي عربي ـ إسلامي جديد, يأخذ على عاتقه تجديد الحركة الإجتماعية الإسلامية, ورفدها بروافد جديدة وإغناءها بخبرات وإمكانات جديدة أيضاً.
وهذا المجتمع المدني ـ الأهلي سيشارك في إعطاء عالم الإسلام اليوم شخوصه العالمية في كل مجال وفي المنابر كافة, ويتيح لعالمنا الإسلامي المساهمة الجادة في تكريس نظام عالمي جديد‏أكثر تسامحاً‏وإيماناً‏ومسؤولية وحرية.
والمصادر الإسلامية تنطوي على قيم عديدة, تحفز على العلم والعمل وإعمال العقل والسعي لإعمار الأرض, والإرتقاء بالحاجات المتعددة للإنسان. وكل هذه القيم تمثل جوهر المجتمع المدني ـ الأهلي الإسلامي. فتحقيق المجتمع المدني ـ الأهلي بالمفاهيم المجردة أمر غير ممكن, وإغفال التجربة التاريخية الإسلامية في هذا المجال, لاينجز مشروع إنماء المجتمع المدني ـ الأهلي الإسلامي, وإنما يزيد من تخبطنا وترددنا. لذلك من الضروري إستدعاء التجربة التاريخية الإسلامية الأهلية, ومساءلتها للتعرف على منطق عملها وحيويتها وأدوارها, وإشراك القوى الإجتماعية في إنجاز برنامج إنماء المجتمع المدني‏ـ‏الأهلي الإسلامي. فالحركية الأهلية لاتتواصل وتتراكم بمعزل عن قوى المجتمع الحية, بل هي التي ترفد الحركية الأهلية بإمكانات التواصل وأسباب الإستدامة. والقوى المجتمعية هي صانعة المجتمع المدني ـ الأهلي وهي هدفها في ذات الوقت. حيث الغاية هي تطوير هذه القوى على المستوى النوعي والكمي, حتى تشارك في العمران الحضاري. والقدرة على الإستدامة والتطوير أمام تحديات الراهن المتعددة, لاتتأتى إلا بحيوية المجتمع المدني ـ‏الأهلي الإسلامي وفاعليته وتحمله لمسؤولياته الدينية والوطنية. وإن هذه الحركية الأهلية لاتأتي جاهزة, وإنما هي بحاجة إلى بناء نظري وعملي وممارسة مجتمعية مستديمة تبلور الوسائل الملائمة والإستراتيجيات الفعالة التي توصلنا إلى حركية أهلية مؤسسية تتجاوز الأشخاص, وتستمر في العمل والعطاء وفق نسق مؤسسي متطور.
وفي المجال العربي والإسلامي المعاصر, لازال هناك الكثير مما ينبغي عمله, حتى يترسخ العمل المؤسسي المدني ـ الأهلي, وتسير مجتمعات هذا المجال الحضاري باتجاهها, «وإن المواطنية هي التمتع بالحرية السياسية, أي بحق المشاركة من مستوى الندية, والمساواة في تقرير مصير الجماعة الإنسانية. ولا وجود لحرية سياسية دون وجود علاقة وطنية, أي أمة, واندماج سياسي‏ـ ممارسة سياسية عملية‏ـ‏في الجماعة. إن النزوع إلى الحرية, وإلى بناء الأمة كإطار للإندماج والمشاركة الجماعية في مستوى الندية وتحمل المسؤولية الجماعية, هو أحد محركات وحوافز التغيير الرئيسية اليوم في منظومات قيم المجتمعات العربية وهو بذرة ثورية ممكنة, ولابد من الرهان عليها, في بناء الديمقراطية كإطار لعلاقة اجتماعية جديدة, مؤسسة على الإعتراف الفعلي المواطنية». و«أصبح العمل من أجل الحرية والتماهيات المدنية والسياسية, يساوي العمل من أجل بناء الصدقية الذاتية وتأسيس الفاعلية, أي إحترام الذات والنظر إلى النفس كمستودع لقيم إيجابية. ولعل هذا الطلب المتزايد على المواطنية, أي على بناء وطنية حقيقية قائمة على تأسيس علاقات تضامن واعتراف متبادل وتعاون شامل, لا تذوب في الشعارات الخارجية أو التعبئة السياسوية, هو اليوم النبع الأعمق للنزعة الديمقراطية» (9) .
ويوفر المنظور الإسلامي ثقافة توحيدية, تناقض المسار الإنشقاقي والتمزيقي, وتسعى إلى زيادة الروابط ومستوى التعاون بين أبناء المجتمع الواحد, وتؤسس ذلك على قاعدة أخلاقية سامية من حسن الظن والتواضع ومساواة الذات مع الآخر ونزع الغل والأحقاد من النفوس والقلوب. ومن الطبيعي القول: أن إنحسار الثقافة الإنشقاقية والتمزيقية في المجتمع, يساهم بشكل كبير في توطيد أركان الحقل المدني ـ الأهلي, ويزيد من فعاليته وأدائه.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة