تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

مشكلتنا في العجز عن التوحد والتقدم

رضوان السيد

حفلت الأسابيع الماضية في بيروت بجدالياتٍ مشتعلة حول غناء مارسيل خليفة لقصيدة محمود درويش «يوسف وإخوته» في ديوانه الصادر عام 1993 بعنوان مأخوذ من القصيدة نفسها: أحد عشر كوكباً : وموطن الخلاف في القصيدة المغنّاة الملحَّنة الآية القرآنية التي ضمنها الشاعر في آخر القصيدة، والتي تناولها أيضاً غناء خليفة وتلحينه. فقد رأت كثرةٌ من المرجعيات الدينية أن الإجماع منعقد على عدم جواز قراءة القرآن بالألحان، بينما ذهب مثقفون وإعلاميون من أنصار مارسيل خليفة ومحبيه إلى أن في التعرض لأُغنية خليفة بالفتاوى وبالقضاء اعتداءً على حرية الفكر والتعبير. والواقع أن النص الذي جرى الجدل حوله هو نص قرآني، ومن حق الفقهاء المسلمين ومن صلاحياتهم تحديد طرائق التعامل معه، لدخوله في عقائد المسلمين، ومساسه بقضايا الحل والحُرمة لديهم. فربط المسالة بالحريات العامة من جانب المتحزبين لمارسيل خليفة هو ربط في غير محله، إذ أنّ ذلك لو صحّ لكان معناه أنه ليس من حق أحدٍ الدفاع عن معتقده الديني،‏وبخاصةٍ أنّ تلك المرجعيات ما طلبت تدخُّل القضاء، ولا جزمت بأن الأستاذ خليقة قصد من وراء ذلك إلى المساس بمشاعر المسلمين ومقدَّساتهم.

قدَّمتُ بهذه الواقعة التي لاتزال آثارها تتوالى، لأشير إلى تزايد الانقسام في الأوساط الثقافية العربية والإسلامية بين المتدينين وغير المتدينين، وإحساس المتدينين من المسلمين بأن هناك تعمداً من جانب مجموعاتٍ من المثقفين العصرانيين في التعرض لعقائد المسلمين ونصوصهم وصورتهم عن مقدساتهم وتاريخهم:
ـ إقدام الأستاذ بجامعة الكويت أحمد مبارك البغدادي على التعرض لسيرة الرسول (ص) في مقابلةٍ له قبل سنوات.
ـ إصدار الأستاذ خليل عبد الكريم عدة كتبٍ حول سيرة الرسول (ص) وصحابته، تضع الجماعة الإسلامية الأولى في موضع الشك والشبهة عقائد وسلوكاً .
ـ إصرار الأستاذ المعروف محمد أركون في دراساتٍ كثيرةٍ على ضرورة تفكيك النص القرآني شأن ما فعله علماء المسيحية البروتستانتية في القرنين التاسع عشر والعشرين بالعهدين القديم والجديد في دراسات «نقد النص».
ـ هجوم الأستاذ المعروف نصر حامد أبو زيد على «الخطاب الديني» الإسلامي المعاصر بدون تفرقةٍ أو تمييزٍ بين المتطرفين والمعتدلين، وإصراره على قراءة النص الديني والفقهي بمعايير اللسانيات ومناهجها المعاصرة.
ـ إقبال الأستاذ محمد شحرور والدكتور حسن حنفي على تفسير القرآن بطرائق الاستنساب والرأي الفردي.
ويمكن طبعاً ‏المضي في سرد الواقعات التي أثارت انقساماتٍ في العقدين الأخيرين إلى مالانهاية. بيد أن «النمط» واحد: يقوم مثقف بقراءة هذا النص أو ذاك أو هذه الواقعة التاريخية أو تلك قراءةً جديدةً يعتبرها الأجدر بالاعتبار، فيتصدّى له مثقفون إسلاميون بالرد والاستنكار، وينتهي الأمر بشيوع مسألة تكفيره. بينما يجيب هو بالتظلم واتهام المنكرين عليه بالتعرض لحريته أو لإسلامه. والواقع أن النزاعات من هذا النوع تُدار في مصر وغيرها من الأقطار العربية الأخرى. فالمراجعون المصريون (باستثناء قلةٍ مثل فؤاد زكريا أو سيد ياسين) يحتجون على مكفريهم غالباً بأنهم مسلمون ومن حقهم الاجتهاد، والتنوير. بينما تكون مرجعية المراجعين من اللبنانيين أو التونسيين أو المغاربة: الحريات، وإرادة تحرير الدين من الخرافة أو الأصولية!
والحق أن ظاهرة الانقسام في الأوساط الثقافية العربية حول الإسلام نصوصاً ‏وتاريخاً ‏ليست جديدة. فقد بدأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وذهب ضحيتها مثقفون وسياسيون. لكن هناك في المشهد المتكرر في العقدين الأخيرين مستجدات لاتخطئها العين المتفحصة. فالمقبلون على التأويلات الجديدة للإسلام ونصوصه هم في الغالب من غير المختصين، أي أنه ليست لديهم الخبرة ولا التجربة الضرورية في التعامل مع النصوص الدينية، بالمناهج التقليدية أو الجديدة. فالبروتستانت الذين تعاملوا مع نصوص العهدين بنقدية كانوا ولايزالون من العلماء والمختصين بها، في حين تغلب على المغتربين الجدد الاختصاصات في اللغويات أو الفلسفة أو العلوم الاجتماعية والتطبيقية. ولا أعني هنا أنه ليس من حقّهم (لأنهم غير مختصين) دراسة القرآن أو السنة أو التاريخ الإسلامي الأول، بل ما أعنيه أن الباحث مطالب بإيضاح منهجه وآلياته في القراءة سواء أكان ذلك المنهج قديماً ‏(وعند المسلمين مناهج وتجربة عريقة في التعامل مع نصوصهم) أو حديثاً ، بينما ما شهدناه حتى الآن أعمال هُواةٍ ذوي مقاصد حسنة غالباً ‏(عصرنة الإسلام من وجهة نظرهم) وما أقصده ليس أن وضوح المنهج يسوّغ هذا التفسير أو ذاك، بل أنه يمكن عندها المناقشة في النتائج التي جرى التوصل إليها على أساسٍ من ذلك المنهج وصلاحيته. والواقع أنّ تهرب المراجعين الجدد عن ذكر مناهجهم لايعود إلى عدم معرفتهم،‏بل لأن لهم مقاصد أيديولوجية في الأعم الأغلب لاتتسق مع أي منهج للقراءة.
والمقاصد الأيديولوجية التي جمعتها في مسألة عصرنة الإسلام أو تحديثه هي ـ‏كما هو معروف ـ مسالة خارجية لاتتعلق بتلك النصوص،‏بل بالحيرة إزاء العصر وقضاياه، ومحاولات «تحرير» وعي المسلمين من الأفهام التقليدية و«المتشددة» لتلك النصوص، وذلك التاريخ.

وترتبط التوجهات التحريرية والتنويرية تلك بالمستجد الثاني الذي يدفع بالعصرانيين للمصير إليها. إنه ما يُعرف بالصحوة الإسلامية التي برز على حواشيها الإسلام السياسي بفهمه البازغ للشريعة وعلائقها بالمجتمع والدولة. فهناك توق إسلامي معاصر وغلاّب لبلورة القيم الإسلامية الكبرى السائدة في مجتمعاتنا في مؤسساتٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ وسياسية. وهناك من جهة أخرى تراجعٌ على مستوى المجتمع والثقافة والدولة للمشروع التحديثي الذي حمله مثقفو العرب حتى الستينات من هذا القرن. وأمام عجز المثقف الإسلامي عن بلورة أشواقه وأفكاره، وعجز المثقف التحديثي عن الاستمرار في رفع رايات العصرنة،‏يدور الصراع على الساحة الغلط، وفي الزمن الغَلَط. يرى التحديثي أن فشل مشروع الحداثة سببه الأصولية التقليدية والمستجدة،‏فيتجه إلى النصوص والتاريخ (التي يسميها غالباً للإيهام: التراث) في عمليةٍ مزدوجة: انتزاعها من قبضة الإسلامي، وانتزاع وعي الجمهور بها وكلا الأمرين عن طريق إعادة تأويلها أو قراءتها. أما الإسلامي فيضع نفسه في موضع حامي المقدّس، والمنافح عن مشروعه لبلورة هذا المقدس في المجتمع والدولة.
أما المستجد الثالث فيتمثل في هذا الإنجراح الإسلامي العميق، والذي تستثير لواعجه كل مجريات العصر من حوله،‏وبخاصةٍ ما اتصل منها بمقدساته، فقد شهد القرنان المنقضيان تسرُّب العالم كله من قبضة المسلم، ويجيش اليوم أن ما يتسرب منه لحم كفيه وجلد أصابعه. نحن نعرف اليوم من خلال الأدبيات المنشورة كم انزعج المثقفون المسلمون لزوال الخلافة. لكن إحساس الفقدان اليوم يتجاوز رجال الدين والمثقفين إلى أعماق المسلم العادي. ولهذا فإنه يضع نفسه فوراً ‏في موضع المدافع والمحاصر، ويرى العدو وراء كل قلعةٍ وخلف كل نافذة. وهو يملك من الشواهد على الغزو الثقافي، وعلى الاستتباع السياسي والثقافي، وعلى التآمر العالمي، مما لاتنفع معه الإشارة إلى أن المسلمين خُمس سكان العالم،‏وأنهم ليسوا مهدّدين بالإنقراض، وأن ما أصابهم وأصاب العرب من بينهم يمكن تداركه واستيعابه وتجاوزه.
ليست المشكلة في أن يُقبل المثقف العصراني على قراءة نصوصنا أو تاريخنا. بل المشكلة في مقاصده الأيديولوجية من وراء هذه المراجعة، وفي طرائقه في هذه المراجعة: المقاصد التحررية الكبرى، والطرائق التي تتخذ سَمات الفضيحة: هاقد كشفتكم!
وليست المشكلة في أن يحرص الإسلامي على ديننا ومقدساتنا ونصوصنا وتاريخنا، بل في أن يعتبر نفسه المسؤول الأوحد عن دين الأمة وثقافتها ومستقبلها.
ثم إنّ النزاعات الحاصلة على النصوص وتفسيراتها، نزاعات في الموقع الخطأ، وفي الزمن الخطأ. فمشكلتنا العجز عن التوحد والتقدم. ومشكلتنا العجز عن الاحتفاظ بمواطئ أقدامنا التي تتصارع عليها وعلينا أمم الأرض بالطول والعرض. ومشكلتنا أخيراً العجز عن الوصول إلى ما لابديل عنه: المشاركة الفاعلة والنافعة في حضارة العصر وعصر العالم. وقدماً قيل: والنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكلُه

* من الهيئة الاستشارية لمجلة «الكلمة» مدير المعهد العالي للدراسات الإسلامية، أستاذ الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية، رئيس التحرير المشارك لمجلة الاجتهاد.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة