تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

في معنى الإصلاح الديني

محمد محفوظ

مقدمة

ثمة مقتضيات وضرورات عديدة، تدفعنا إلى القول: إن الاجتماع الوطني، لا يمكنه الدخول النوعي في حركة العصر واستيعاب منجزاته ومكاسبه، وتمثل القيم والمبادئ الرافعة إلى التطور والتقدم، دون الانخراط في مشروع الإصلاح الديني، نتجاوز من خلاله فهمنا القشري لقيم الدين، ونحرر وعينا الديني من الخرافة والتقليد واجترار الحواشي والشروح، والدفع بعملية الاجتهاد والتجديد والإبداع إلى الأمام.
والإصلاح الديني الذي نرى ضرورته ونشعر بأهمية تجاوز الكثير من معوقات تقدمه لا يعني رفض قيم الدين أو الخروج عن ضوابطه ومتطلباته. وإنما يعني إعادة تأسيس فهمنا للدين بعيداً عن الآحادية في التفكير والقشرية في الفهم والتعامل مع الاجتهادات الإنسانية في فهم الدين بعيداً عن التقديس الأعمى أو مفهوم الحقائق المطلقة. بل هي أفهام مرتبطة بزمان ومكان محددين وعلينا فهم هذه الاجتهادات واحترامها، ولكن دون إلغاء عقولنا أو التعامل مع تلك الاجتهادات وكأنها نصوص خالدة لا تقبل المناقشة والجدل والحوار. فبدون تحرير وعينا وفهمنا من عوائق الجمود والحرفية والتأخر، لن نتمكن من الولوج في مشروع التقدم والتطور الإنساني والحضاري.

لذلك فإن الإصلاح الديني وتجاوز الفهم الآحادي والمتعسف لقيم الدين، من الضرورات القصوى التي تؤهلنا لبناء واقع مجتمعي جديد. فالكثير من متطلبات التقدم وعوامل الرقي، لا يمكن القبض عليها اجتماعياً، بدون عملية الإصلاح الديني التي تحرر الفهم والرؤية من الجمود والقشرية، وتعيد صياغة الوعي على أسس القيم الحضارية التي نادى بها الدين، وعمل من أجلها أهله عبر المسيرة التاريخية الطويلة. >نعم، إن المعركة خيضت عربياً ـ على امتداد القرن العشرين ـ من أجل حيازة بعض أسباب الانتهاض المجتمعي، من جنس المعركة ضد الأمية، والتخلف، والاستبداد، ومن أجل التعليم والتنمية والديموقراطية، لم تكن في حصيلتها الإجمالية صفراً على اليسار، بل أنجزت الكثير من المهام وراكمت الكثير من المكتسبات، ومع ذلك، من ينفي أنها كانت دون ما تطلع إليه النهضويون الإصلاحيون منذ أزيد من قرن، ومن ينفي أنها ما زالت -حتى اليوم- ضعيفة الاستجابة لحاجات موضوعية ضاغطة ومستمرة بل دون معدل مطالبها؟ سيقول قائل: إن ذلك من حصيلة سياسات غير رشيدة درجت عليها النخب والسُّلط، ونحن لا نشك في ذلك، ولكن هل فكرنا ـ مثلاً ـ في حلقات نهضوية تحتية عليها يقوم صرح السياسات والبرامج، وعلى هديها تترشد تلك. هل فكَّرنا في علاقة ذلك القصور بالإخفاق الذي مُنِيَ به مشروع الإصلاح الديني<(1).

فالبنية التحتية لعملية الإصلاح الشامل في الاجتماع الوطني، لا يمكن أن تنجز دون الانخراط الفعلي والنوعي في عملية الإصلاح الديني الذي يوفر لنا إمكانيات هائلة على المستويات الثقافية والاجتماعية والسياسية.

فالنزعة الإصلاحية التي نطالب بها في قراءتنا ووعينا للدين وقيمه تعني فيما تعني النقاط التالية:

نقد الفهم الآحادي

إن الدين الإسلامي بقيمه ومبادئة وتاريخه، حافل بالغنى والاتساع والتعدد. إذ إنه شكّل علامة فارقة ومنعطفاً ضخماً في التاريخ الإنساني قاطبة، ولا ريب أن العمل على حصر هذه القيم والمبادئ بفهم بشري واحد، من الخطايا والأخطار الكبرى التي تواجهنا اليوم. وقد كلفنا توجه بعضنا إلى فرض رؤيتهم وتفسيرهم الخاص للدين على المجتمع الكثير من المآزق والمخاطر.
وذلك لأن هذا الفهم الآحادي للدين يفقر قيم الدين، ولا يجعل المسلمين اليوم على تواصل رحب مع كل قيم وآفاق الدين الواسعة، لذلك فلا يمكن أن تختزل الإسلام بقيمه ومبادئه وثرائه المعرفي والإنساني والحضاري بفهم واحد ورؤية واحدة، لا تمتلك القدرة المنهجية والمعرفية على إدراك واستيعاب كل قيم الدين.
من هنا فإن من أهم خطوات الإصلاح الديني في مجالنا الوطني هو: القبول والاعتراف الصريح والتام بوجود قراءات متعددة للدين. وأن هناك تفسيرات ثرية لقيم الدين، نحن بحاجة إلى احترامها وفسح المجال لنتاجها ومنهجها للعمل في الاجتماع الوطني في مختلف الدوائر والمستويات.
وإن الوعي الديني السائد في كثير من صوره وأشكاله، هو أحد المسؤولين المباشرين عن الاحتقانات الاجتماعية والسياسية والمآزق الوطنية. لذلك فإن عملية الإصلاح الوطني، بحاجة إلى ممارسة قطيعة فكرية وعملية مع مقولات الوعي الديني التي تغرس الفرقة والتشتت بدعاوى مذهبية أو طائفية، أو تمارس دور الوصاية والاحتكار لفهم قيم الدين. حيث إن كل فهم، لا ينسجم وتصوراتهم ينعت بالزيغ والضلال والكفر. فلا يمكن بأية حال من الأحوال، اختزال فهم الإسلام في طريقة واحدة، وإصرار البعض على ذلك، وممارسة القهر والفرض والإكراه في سبيل ذلك، ساهم بشكل مباشر في تفاقم التوترات وازدياد المشكلات في الحياة الإسلامية ذات الطابع المذهبي والطائفي. ولقد كلف هذا النهج والمنحى الأمة والوطن الكثير من الإخفاقات والخسائر على المستويين الداخلي والخارجي. فبفعل هذه العقلية وممارساتها الخاطئة والعنيفة ورهاناتها البائسة، تحول الإسلام إلى عدو رئيس للكثير من الدول والأمم والشعوب، وبدأت من جراء ذلك تمارس مضايقات حقيقية على الوجود الإسلامي هناك.
وعلى المستوى الداخلي تحول هذا النهج إلى صانع للتوترات والأزمات والعنف. وبنظرة واحدة إلى مناطق التوتر والعنف والعنف المضاد في العالم الإسلامي، نجد أن لهذا النهج الإقصائي والعنفي دوراً في بروز هذه الأزمات والمآزق.
وعلى كل حال، إننا لا نستطيع أن نطور فهمنا ومعرفتنا لقيم الدين الإسلامي ودورها في الحياة العامة، دون ممارسة نقد حقيقي ونوعي تجاه الفهم الآحادي للدين، والذي يستخدم القهر والإكراه للخضوع والالتزام بقيم الدين.
إن الإصلاح الديني المنشود، يتطلع للوقوف بحزم ضد كل محاولات حصر الدين الإسلامي بفهم بشري واحد، وممارسة الإكراه في سبيل تثبيت هذا الفهم في الحياة العامة للمسلمين. وذلك لأن الفهم الآحادي للدين بكل توابعه وتأثيراته، هو صانع للفرقة والانشقاق والفتنة في الأمة، ولا يمكن الخروج من هذه المحن لا بنقد وممارسة القطيعة المعرفية مع كل المنهجيات والمحاولات التي تختزل الإسلام في فهم معين.
صحيح أن الدين الإسلامي يحتضن جملة من الثوابت لا يمكن تجاوزها، ولكن فهم هذه الثوابت متعدد ومتنوع، ولا يمكن بأية حال من الأحوال إقصاء هذه الأفهام والرؤى من الدائرة الإسلامية. والذي يخالف هذا الفهم أو يقف منه موقف المناقض، لا يتهم بالضلال والزيغ والخروج على مقتضيات الصراط المستقيم. وذلك لأن هذا الفهم البشري لا يُلزم إلا أصحابه، وأية محاولة لإضفاء صفة الخلود على هذا الفهم، هو إدخال للمجتمع والأمة في أتون الصراعات الدينية والمذهبية.
من هنا ومن منطلق نقد الفهم الآحادي للإسلام، نحن بحاجة إلى إعادة بناء تصوراتنا الثقافية والاجتماعية عن الاجتهاد والتعدد الفكري والمذهبي والاختلاف والتنوع على أسس جديدة، يحتضنها المشترك الديني والوطني.
فالاختلاف ليس حالة مرذولة ومذمومة، وإنما المرذول والمذموم هو الفرقة والانقسام. والتعدد والتنوع المذهبي والفكري ليس زيغاً وضلالاً، وإنما هو من طبائع الأمور والحياة ومقتضيات مبدأ الاجتهاد الذي أقره الدين الإسلامي. وإن أية محاولة لقهر التعدد أو إقصاء التنوع، لا تفضي إلا إلى مزيد من التوترات والتشظي وغياب الاستقرار الاجتماعي والسياسي. وحرصنا على الوحدة ينبغي ألَّا يدفعنا إلى ممارسة العسف والإكراه تجاه الآراء والقناعات المغايرة والمختلفة.
لذلك فإن الخطوة الأولى في مشروع الإصلاح الديني وتجديد الخطاب الإسلامي، هو رفض الرؤية الآحادية للإسلام، والتي تبرر لنفسها ممارسة العسف والإكراه وإطلاق أحكام القيمة تجاه غيرها من الرؤى والقناعات.
إن الفهم الآحادي للقيم والمبادئ، هو أحد البذور الأساسية لانتهاك قيم الحرية والعدالة وحقوق الإنسانية.
وذلك لأن هذا الفهم الآحادي يقود صاحبه إلى الاعتقاد الجازم بأنه هو وحده الذي على الحق وغيره يعيش الزيغ والضلال والانحراف. وهذا الاعتقاد بمتوالياته النفسية والسلوكية، هو الذي يساهم في دفع هذا الإنسان إلى ممارسة العسف والإكراه تجاه الآخرين وجوداً ورأياً وأفكاراً.
إن الرؤية الاصطفائية إلى الذات وما تحتضنه من معارف وعقائد ومواقف، هي التي تقود إلى انتهاك الحقوق والانتقاص من كرامة الآخر المختلف.
إننا هنا لا ندعو إلى جلد الذات أو تحقيرها، وإنما إلى مساواة الآخر بالذات، وإن الفهم الآحادي للدين والاعتقاد من قبل مجموعة بشرية أنها وحدها القابضة على الحقيقة والعارفة بقيم الدين وأهدافه، إن هذا المنحى يقود إلى تلغيم صيغ التعايش السلمي ومجالات التواصل الإنساني. لأن هذا الفهم يعيد ترتيب العلاقات والحقوق على قاعدة المنسجم مع هذا الفهم والمناقض والمخالف له.
وخلاصة الأمر: أن القضية الأساس التي ينبغي أن تتجه إليها جهود المصلحين والمفكرين، هي نقد الفهم الآحادي وتفكيك النظام المعرفي الذي يبرر ويسوغ لصاحبه ممارسة العسف والقهر ضد الآخر المختلف والمغاير.
وإن هذا النقد هو محاولة فكرية ومعرفية لتجديد أنماط الرؤية وقواعد الفهم، وفحص متواصل لفضح ادِّعاء القبض على الحقيقة وتفكيك مبررات ومسوغات التمايز والإقصاء.

تفكيك الاستبداد

لا ريب أن الاستبداد بكل صنوفه وأشكاله، من العقبات الكبرى التي تحول دون الإصلاح والتجديد والتطوير. لذلك فإن نشدان التجديد والإصلاح، يقتضي العمل بكفاءة عالية لتفكيك أسس الاستبداد والعمل على تحرير المجال الاجتماعي والسياسي والثقافي من كل أشكال الديكتاتورية والتسلط والاستفراد بالقرار والسلطة. وذلك حتى يتسنى للمجتمع بكل شرائحه ممارسة دوره في عملية التطوير والتحديث. وإنه لا يمكن بأية حال من الأحوال أن نتصور إصلاحاً من دون الحد من صلاحيات السلطات الشمولية والمطلقة. من هنا فإن تجديد الخطاب الإسلامي، يقتضي العمل على التحرر من كل أشكال ومبررات ممارسة القهر والاستبداد والانعتاق من ذلك العبء والإرث التاريخي المليء بصور الاستبداد وممارسة السلطة القهرية تجاه الأمة والمجتمع.
فتفكيك الاستبداد السياسي والديني ونقد أسسهما الثقافية والسياسية، هو من الروافد الأساسية التي تساهم في تطوير مشروع الإصلاح وتجديد الخطاب الديني. فلا يمكن أن يتم التجديد في ظل ثقافة تبرر الاستبداد وتدعو إلى ممارسته بعناوين ويافطات مموهة.
إننا ينبغي أن نقف ضد كل أشكال وحالات الاستبداد بصرف النظر عن أصحابها أو المشروع الفكري الذي يقف وراءها.
والأحوال السيئة التي يعيشها اليوم المجالان العربي والإسلامي، هي من جراء التسلط السياسي والاستبداد الشمولي الذي ألغى الكثير من عناصر الفعالية والحيوية في جسم الأمة. فهو الداء (الاستبداد) الذي قضى على الكثير من الإمكانات والمكاسب، وهو المسؤول عن الكثير من العثرات والإخفاقات، وهو بوابة أزماتنا المزمنة وسيطرة الأجنبي على الكثير من ثرواتنا ومقدراتنا، فهو المرض الذي يختزل كل الأمراض، وهو العاهة التي تغطي كل العاهات، وهو أحد مصادر العنف والإرهاب.
لذلك كله فإن بوابة الإصلاح في المجالين العربي والإسلامي، وجسر الخروج من مآزق الراهن وأزماته، هو العمل على تفكيك الاستبداد وخلق الحقائق والوقائع السياسية والثقافية والمجتمعية التي تحد من تغوّل السلطات، وتساهم في منع الاستبداد السياسي من التمدد والانتشار في جسم الأمة. وأن موقعنا في خريطة العالم، يتحدد بمقدار قدرة مجتمعاتنا على الحد من ظاهرة الاستبداد السياسي المستشرية في واقع مجتمعاتنا.
>ولا شك أن علاقة العرب بالخارج تتوقف على وضعيتهم الوجودية بالداخل، أي على ما يصنعونه بأنفسهم وعلى ما يقدمونه للعالم، بمعنى أن ما يرفضونه من التقييمات السلبية التي تصدر بحقهم من جانب الغير، يحملون مسؤولياتها هم أنفسهم وإن بصورة جزئية. ذلك أنهم يستعدون للعالم ولا يحسنون التعامل معه، والأخطر أنهم لا يحسنون المشاركة في صناعته عبر المساهمات الغنية والمبتكرة في ميادين الثروة والقيمة أو العلم والتقنية<(2).
فمأزقنا الأكبر يتجسد في الاستبداد بكل صنوفه وأشكاله ولا نتمكن من تحسين صورتنا في العالم إلا بتغيير واقعنا. وطرد كل موجبات الاستفراد والاستبداد من فضائنا الاجتماعي والوطني.
إن تفكيك الاستبداد من الفضاء الاجتماعي والثقافي والسياسي يقتضي القيام بالأمور التالية:
1ـ تنقية مصادر المعرفة وأنظمة المعنى وسلَّم القيم الثقافية والاجتماعية، من كل جراثيم الاستبداد، وبذور التسلط والهيمنة. إذ لا يمكن أن نفكك الاستبداد السياسي من دون تطهير وتنقية ثقافتنا ووعينا الديني والاجتماعي والثقافي من كل بذور وموجبات الهيمنة والاستبداد.
ولا تنمو الحرية في واقعنا الاجتماعي والسياسي، إلا إذا نمت في ثقافتنا وأصبح وعينا العام منسجماً ومطالباً بهذه القيم والمبادئ الدستورية والديموقراطية.
2ـ تنمية الإنتاج الثقافي والمعرفي الديني، الذي يتجه إلى تطوير الوعي السياسي والاجتماعي المناقض للاستبداد السياسي والمساهم في تعميق الخيار الديموقراطي في مستويات الحياة المتعددة.
لهذا فإننا نعتقد أن تفكيك الاستبداد السياسي من واقعنا العام، يتطلب العمل على خلق معرفة دينية جديدة تبلور خيار الحرية، وتفكك كل السياقات الثقافية والاجتماعية المولدة لظاهرة الاستئثار والاستبداد.
3ـ القيام بمبادرات مجتمعية، هدفها خلق الوقائع والحقائق التي تحد من ظاهرة الاستبداد، وتوسع من دائرة المشاركة الشعبية في الشأن العام. فتفكيك هذه الظاهرة الخطيرة من واقعنا الاجتماعي والسياسي، يقتضي تشجيع الخطوات والمبادرات التي تتجه إلى خلق حقائق الحرية والمشاركة في الفضاء الاجتماعي، وتحد من تغوّل السلطة السياسية وهيمنتها على كل مفاصل الحياة. فالحرية والديموقراطية تتطلب عملاً متواصلاً وجهداً مضاعفاً، لتثبيت حقائق الديموقراطية وتوسيع مستوى المشاركة السياسية والحد من تغوّل السلطة وهيمنتها الشمولية. فتفكيك الاستبداد، لا يتم بالرغبة والتمني المجرد، بل بالكفاح المتواصل والعمل الشعبي الضاغط باتجاه نيل الحقوق وإصلاح المسار السياسي للدولة والمجتمع.
4ـ تنظيم وصياغة العلاقة بين مختلف قوى المجتمع وتعبيراته الفكرية والسياسية والمدنية على أسس الاحترام المتبادل ومشاركة الجميع في مقاومته ومجابهة الاضطهاد ومحاربة كل أشكال الاستبداد. وذلك لأنه لا يمكن تفكيك ظاهرة الاستبداد السياسي بمجتمع مفكك ومبعثر. ولا شك أن الخطوة الأولى في مشروع الوحدة الاجتماعية هو تنظيم العلاقة بين مكونات المجتمع، ونبذ كل حالات الاحتراب الداخلي والتهميش المتبادل. والعمل على بناء نظام علاقات يضم كل الأطياف والتعبيرات، وذلك من أجل العمل على تعميق الخيار الديموقراطي في الفضاء الاجتماعي والسياسي، وتفكيك القاعدة الثقافية والاجتماعية والسياسية التي يستمد منها الاستبداد آلياته وفعاليته. لذلك ينبغي دائماً وفي كل الأحوال، الاهتمام بموضوع العلاقات الداخلية بين قوى المجتمع وأطرافه المتعددة. لأنه لا يمكن بناء القوة الاجتماعية الحقيقية والقادرة على مواجهة الاستبداد السياسي، بدون تنظيم العلاقة بين مكونات المجتمع.
من هنا فإننا مع كل مبادرة وخطوة عملية تتجه أو تستهدف توطيد العلاقات الداخلية أو لامتصاص بعض السلبيات العالقة في طبيعة العلاقة السائدة بين أطراف المجتمع.
فضبط الاختلافات الداخلية وتنظيم تباينات المجتمع الثقافية والسياسية، يساهم بشكل كبير في خلق القدرة المؤاتية لمواجهة الاستبداد بكل آلياته ومخططاته.
والفكر الديني المعاصر ينبغي ألَّا يكون منعزلاً أو بعيداً عن قضايا الحرية والديموقراطية، ونقد الاستبداد بكل صنوفه وأشكاله. وإنما من المهم أن يستفيد الفكر الديني المعاصر من التراث والقيم التحررية التي يتضمنها الدين الإسلامي، والعمل على بلورتها في سياق خطاب إسلامي جديد، يتجه صوب تفكيك الاستبداد وخلق حقائق الحرية والديموقراطية في الفضاء الاجتماعي. فالدين الإسلامي بقيمه ومبادئه ونظمه، هو مناقض جوهري لنزعة الهيمنة والتسلط السياسي. لذلك من الضروري أن يتوجه معنى وسؤال الإصلاح الديني إلى تحرير الدين من استغلال وتوظيف المجال السياسي، وخلق الوعي والثقافة المنطلقة من قيم الدين ومبادئه الرافضة لخيار الاستبداد ونزعات التسلط والهيمنة. وأي محاولة لتسويغ الاستبداد دينياً، هي محاولة مصلحية ولا تنسجم والقيم الكبرى والأصلية للدين. فالإسلام جاء من أجل تحرير الإنسان من أهوائه وشهواته ونزعاته الشيطانية، ومن كل القوى البشرية الضاغطة أو المانعة لحريته واستقلاله.
فالتوجيهات الإسلامية تحث الإنسان على رفض الذل والخضوع للظلم والاستبداد. فقد جاء في الحديث الشريف: >ألا وإن الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفر، وظلم لا يترك، وظلم مغفور لا يطلب. فإما الظلم الذي لا يغفر فالشرك بالله، قال تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} وأما الظلم الذي يغفر فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات، وأما الظلم الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضاً. القصاص هناك شديد، ليس هو جرحاً بالمدى ولا ضرباً بالسياط، ولكنه ما يستصغر ذلك معه. فإياكم والتلون في دين الله، فإنه جماعة فيما تكرهون من الحق خير من فرقة فيما تحبون من الباطل<(3)، وفي حديث آخر: >فاعلم أن أفضل عباد الله عند الله إمام عادل هُدي وهدى، فأقام سنة معلومة، وأمات بدعة مجهولة. وإن السنن لنيرة لها أعلام، وإن البدع لظاهرة لها أعلام. وإن شر الناس عند الله إمام جائر ضلّ وضُلّ به، فأمات سنة مأخوذة، وأحيا بدعة متروكة. وإني سمعت رسول الله K يقول: يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر وليس معه نصير ولا عاذر فيلقى في جهنم فيدور فيها كما تدور الرحى ثم يرتبط في قعرها<(4)..
فالإسلام لا يشرع للظلم والاستبداد، بل يدعو المسلمين إلى رفض الظلم ومقاومة الاستبداد ونشدان المساواة والعدل في كل الأحوال والظروف.

صيانة حقوق الإنسان

لعل من المفارقات الصارخة في واقعنا الإسلامي المعاصر، هي تلك المفارقة المرتبطة بحقوق الإنسان في فضائنا الثقافي والسياسي والاجتماعي. حيث إننا نمتلك من جهةٍ تراثاً ونصوصاً دينية هائلة، تحث على احترام الإنسان وصيانة حقوقه وكرامته، والتعامل معه وفق رؤية أخلاقية نبيلة. وبين واقع لا يتوانى في انتهاك حقوق الإنسان وتدمير كرامته وهتك خصوصياته. فنحن في المجال الإسلامي نعيش هذه المفارقة بكل مستوياتها وتأثيراتها. فنصوصنا الدينية تحثنا على الالتزام بحقوق الإنسان وصيانة كرامته وتلبية حاجاته. ولكن في المقابل هناك الحياة الواقعية المليئة على مختلف المستويات بأشكال تجاوز وانتهاك حقوق الإنسان. ولا يمكن ردم هذه الفجوة وتوحيد الواقع مع المثال على هذا الصعيد إلا بتطوير خطابنا الديني وإبراز مضمونه الإنساني والحضاري. وذلك لأن هذا الخطاب في أحد أطواره ومستوياته كان يمارس التبرير والتسويغ لتلك المفارقة الحضارية التي يعيشها واقعنا العربي والإسلامي. وإن تجاوز هذه المفارقة، يتطلب العمل على بلورة خطاب حقوقي إسلامي، يرفض كل أشكال التجاوز والانتهاك لحقوق الإنسان الخاصة والعامة، ويبلور ثقافة اجتماعية عامة، تُعلي من شأن الإنسان وتحث الناس بكل فئاتهم وشرائحهم على احترام آدمية الإنسان وصيانة كرامته والحفاظ على مقدساته. وإن صيانة حقوق الإنسان في الفضاء الاجتماعي، بحاجة إلى نظام الحرية والديموقراطية. لأنه لا يمكن أن تصان حقوق الإنسان بعيداً عن الحريات السياسية والديموقراطية. وإن ضمان الحقوق الأساسية للإنسان، بحاجة إلى نظام، ينظم العلاقات، ويضبطها بعيداً عن الإفراط والتفريط. فلا حقوق للفرد والمجتمع، بدون مرجعية عُليا ينتظم تحت لوائها ومظلتها الجميع. فلا يمكن أن تصان الحقوق، حينما تنتشر الفوضى، ويغيب النظام وذلك لأن كل متواليات هذا الغياب تنعكس سلباً على واقع حقوق الإنسان في المجتمع. لذلك نجد أن المجتمع الذي يعاني من حروب داخلية أو أهلية، لا يتمكن من صيانة حقوق الإنسان فيه. وذلك لأن مفاعيل غياب النظام تحول دون احترام الإنسان وصيانة حقوقه. ولعل في مقولة الإمام علي C التالية إشارة إلى هذه المسألة: >لا بد للناس من أمير بَرٍّ أو فاجر يعمل في أمرته المؤمنون، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفيء، ويقاتل به العدو، وتؤمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح بَرٌّ أو يستراح به من فاجر<.
والدعوة إلى النظام لضمان الحقوق، لا تشرع بطبيعة الحال إلى الاستبداد والحكم المطلق. لأن هذا بدوره أيضاً يمتهن الكرامات ويدمر نظام الحقوق في المجتمع. من هنا نصل إلى حقيقة أساسية وهي: أن النظام الذي يكفل الحريات للمجتمع، هو النظام القادر على صيانة حقوق الإنسان. ولا يمكن أن نصل إلى هذه الحقيقة، إلا بحيوية وفعالية اجتماعية تنتظم في أطر ومؤسسات وتعمل وتكافح لخلق الحقائق في واقعها، وتفرض ظرفاً جديداً، بحيث تكون صيانة حقوق الإنسان من الحقائق الثابتة في الفضاء الاجتماعي.
إننا دون تغيير واقعنا الاجتماعي، لن نتمكن من خلق نظام سياسي يصون الحريات والحقوق.
من هنا تنبع أهمية العمل الاجتماعي والثقافي المتواصل، باتجاه تنقية واقعنا الاجتماعي من كل رواسب التخلف والانحطاط، ومقاومة كل الكوابح التي تحول دون التنمية والبناء الحضاري. إن حيويتنا الاجتماعية وفعلنا الثقافي المتميز والنوعي من الروافد الأساسية لبلورة قيم حقوق الإنسان في فضائنا الاجتماعي والثقافي. فلا يكفينا أن تكون النصوص الدينية حاضنة لحقوق الإنسان ومشرعة لها وإنما لا بد من العمل والكفاح لسن القوانين واتخاذ الإجراءات وخلق الوقائع المفضية جميعاً إلى صيانة حقوق الإنسان. وعليه فإننا نشعر بأهمية أن يتجه الخطاب الديني إلى مسألة حقوق الإنسان، ليس بوصفها مسألة تكتيكية أو مرحلية، وإنما بوصفها جزءاً أصيلاً من التوجيهات الإسلامية والمنظومة الدينية. لذلك ينبغي أن يتجه هذا الخطاب إلى الإعلاء من شأن هذه المسألة، وتنقية مفرداته ووقائعه من كل الشوائب التي لا تنسجم والحقوق الأساسية للإنسان.
فالإنسان بصرف النظر عن منبته الأيديولوجي أو انتمائه المذهبي أو القومي أو العرقي، يجب أن تحترم آدميته وتصان حقوقه. وأي فهم لأية قيمه من قيم الدين، لا تنسجم وهذه الرؤية، هو فهم مشوب وملتبس، ولا يتناغم والقيم العليا للدين.
فالإسلام بكل قيمه ومبادئه ونظمه وتشريعاته، هو حرب ضد كل العناوين والعناصر التي تنتقص من قيمة الإنسان أو تنتهك حقوقه.
فهي قيم من أجل الإنسان وفي سبيله، ولا يمكن بأية حال من الأحوال أن يشرع الإسلام لأي فعل أو سلوك يفضي إلى انتهاك حقوق الإنسان.
لذلك كله نستطيع القول: إن الانتهاكات المتوفرة في المجالين العربي والإسلامي لحقوق الإنسان، هي وليدة الأنظمة الاستبدادية والشمولية التي تمارس كل أنواع الظلم والعسف والقهر لبقاء سلطانها الاستبدادي، والإسلام بريء من هذه الانتهاكات. وإن المحاولات التي يبذلها علماء السلطان لسبغ الشرعية على تجاوزات السلطة الاستبدادية، لا تنطلي على الواعين من أبناء الأمة، ولا تحسب بأي شكل من الأشكال على الإسلام مبادئاً وقيماً ومثلاً عليا.
والإصلاح الديني المنشود، هو الذي يتجه إلى العناصر التالية:
1ـ تحرير المجال الاجتماعي والثقافي والسياسي من كل أشكال الهيمنة وانتهاك الحقوق وتجاوز ثوابت الدين القائمة على العدل والحرية والمساواة.
2ـ تنقية الثقافة الدينية السائدة، من كل رواسب التخلف السياسي والانحطاط الثقافي والأخلاقي. فلا يمكن أن تكون ثقافة دينية أصيلة، تلك الثقافة التي تبرر الظلم أو تسوغ التعذيب أو تشرع للعسف وانتهاك الحقوق والحريات العامة للإنسان.
3ـ بناء المجال السياسي والثقافي في الأمة، على أسس العدل والحرية والمساواة وصيانة حقوق الإنسان. فالمهم أولاً ودائماً أن يكون واقعنا بكل مستوياته منسجماً ومقتضيات الإسلام ومثله العليا.
4ـ تحرير العلاقات وأنماط التواصل بين مختلف المكونات والتعبيرات، من كل أشكال التمييز والتهميش والإقصاء بدعاوى ومسوغات دينية أو فكرية أو سياسية. وبناء العلاقة بين هذه التعبيرات على أساس الجوامع المشتركة ومقتضيات الشراكة والمسؤولية المتبادلة.
وهذا يتطلب تطوير علاقتنا المنهجية والمعرفية بالنصوص الإسلامية، وتجسير الفجوة بين مؤسساتنا ومعاهدنا العلمية ومصادر المعرفة الإسلامية الأساسية. وذلك من أجل إنتاج ثقافة إسلامية أصيلة ومنفتحة ومتفاعلة مع مكاسب العصر والحضارة.

الخاتمة

ثمة حقيقة أساسية نصل إليها من خلال بحثنا في معنى الإصلاح الديني في مجالنا الوطني، وهي أن المآزق والتوترات والاختناقات التي نعانيها على أكثر من صعيد، هي نتاج شبكة من الأسباب والعوامل. لذلك تتأكد حاجتنا إلى عملية الإصلاح الديني، الذي يتجه إلى إرساء حقائق ومعالم التعددية واحترام التنوع وحق الاختلاف والحريات العامة والتسامح وحقوق الإنسان.
وهذا بطبيعة الحال، ليس سهل المنال، وإنما هو بحاجة إلى جهود فكرية ومؤسسية متواصلة، لتنقية المجال السياسي والثقافي والاجتماعي من كل مظاهر الأنانية والآحادية والاستبداد.
وإن مشروع النهضة الوطنية على الصعد كافة اليوم، بحاجة إلى وعي وثقافة دينية جديدة، تتصالح مع الحرية وتنبذ العسف والاستبداد، وتتفاعل على نحو إيجابي مع التنوع والتعددية، وتقطع صلتها نفسياً ومعرفياً مع الرؤية الآحادية التي لا ترى إلا قناعاتها وتتعامل معها بوصفها الحقائق المطلقة.
ويتحمل العلماء والمفكرون المسلمون اليوم، مسؤولية بلورة وخلق خطاب ديني جديد، يجيب على أسئلة وتحديات الراهن، ويصوغ حركة المجتمع باتجاه البناء والتنمية والعمران الحضاري.
ووفق معطيات الراهن بكل مستوياته، فإن الإصلاح الديني في فضائنا الاجتماعي والوطني، هو جسر الاستقرار والتقدم وامتلاك ناصية المستقبل.

الهوامش:
?(1) عبد الإله بلقزيز، الإسلام والسياسة ـ دور الحركة الإسلامية في صوغ المجال السياسي، المركز الثقافي العربي ـ الطبعة الأولى، بيروت 2001م، ص 177.
(2) علي حرب، العالم ومأزقه ـ منطق الصدام ولغة التداول، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى، بيروت 2002م، ص 44.
(3) محمد جواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة، المجلد الثاني، ص 540، دار العلم للملايين، الطبعة الثالثة ـ بيروت 1979م.
(4) المصدر السابق، ص 460.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة