تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

أسطورة العولمة والدولة الاجتماعية الأوربية

إدريس هاني
أسطورة العولمة والدولة الاجتماعية الأوربية
بقلم: بيير بورديو*
ترجمة: إدريس هاني


يتناهى إلى مسامعنا من هنا وهناك، وعلى مر اليوم -وهو ما يمنح القوة لهذا الخطاب المهيمن- بأن لا أحد يملك الاعتراض على الرؤية النيوليبرالية، حيث أمكنها أن تقدم نفسها بوصفها بَدَهَيَّة، كما لو كانت تفتقد لأي بديل. إذا كان لها هذا الشكل من السخافة، فذلك لأن ثمة اشتغالاً كاملاً من فعل الترسيخ الذهني الرمزي، يشارك فيه بصورة سلبية الصحفيون، أو عامة المواطنين، لاسيما وبهمّة، عدد من المثقفين.
أمام هذا الفرض الدائم والمخاتل، الذي ينتج اعتقاداً حقيقياً، بتشرب، يبدو لي أن الباحثين مدعوّون للعب دور ما. بدايةً بإمكانهم القيام بتحليل كيفية إنتاج وانتقال هذا الخطاب. فهناك من الأعمال أكثر فأكثر في كل من إنجلترا والولايات المتحدة وفرنسا، تصف بصورة دقيقة للغاية، تلك الإجراءات التي تنتج من خلالها هذه الرؤية للعالم، وتنتشر أو يتم تشريبها.
لقد أظهروا من خلال سلسلة من التحاليل التي أجريت حول النصوص، أو المجلات التي نشرت عبرها تلك الإجراءات التي شيئاً فشيئاً أصبحت مشروعة، وتحليل خصائص كتّابها، والمحادثات التي يتجمع فيها هؤلاء لإنتاج ذلك... أجل،  لقد تم عمل متواصل في كل من بريطانيا وفرنسا، جمع المثقفين والصحفيين ورجال الأعمال، كي يفرضوا كيف تكون الرؤية النيوليبرالية بَدَهَيَّة، حيث هي في الجوهر، مجرد عملية إضفاء للعقلانية الاقتصادية، على ما كان من المتطلبات الأكثر كلاسيكية للتفكير المحافظ في كل العصور وفي كل البلدان.
إنني أفكر في إجراء دراسة حول دور مجلة >Preuves< التي، نظراً لكونها ممولة من قبل (CIA)، يترأسها كبار المثقفين الفرنسيين، وحيث منذ 20 إلى 25 عاماً -فحتى يصبح أمرٌ ما خاطئٌ أمراً بَدَهَيًّا، هذا يتطلب بعض الوقت- أنتجت بلا ملل، أفكاراً  كانت في البداية عبارة عن اتجاه معاكس، غير أنها سرعان ما أصبحت شيئاً فشيئاً أفكاراً بَدَهَيَّة (...).
إنه الأمر ذاته حدث في إنجلترا سابقاً. ليست تاتشر هي من أنتج التاتشرية، بل لقد تم تهيئة ذلك منذ فترة طويلة من قبل مجموعة من المثقفين، الذين كان أغلبهم يتمتعون بمنابر في كبرى الصحف، إن أولى المساهمات الممكنة بالنسبة إلى الباحثين، هو الاشتغال على نشر هذه التحليلات، في صور بمقدور الجميع أن يفهمها.
لقد بدأ العمل على فرض تلك الأفكار منذ فترة طويلة، ولا يزال مستمراً حتى اليوم. وبإمكاننا أن نرى بانتظام، كما لو تعلق الأمر بمعجزة ما، في أوقات متقاربة وفي كل الصحف الفرنسية، مع وجود متغيرات مرتبطة بموقف كل صحيفة في عالم الصحف، إثباتات حول الحالة الاقتصادية المعجزة للولايات المتحدة وإنجلترا.

إن هذا النوع من سياسة الـ(قطرة ـ قطرة) الرمزية التي يكتب عنها في الصحف وتبث عبر الهواء، ومن شأنها المساهمة بقوة ـ وفي القسم الأكبر بطريقة لا واعية، حيث أغلب الناس يرددون هذه الأحاديث بإيمان صادق ـ في إيجاد آثار عميقة. 
هكذا تقدم النيوليبرالية نفسها، وفي نهاية المطاف، كأنها أمر حتمي. إنها جملة من المقتضيات التي فرضت على سبيل البداهة: إننا نسلم بأن النمو الأقصى، وإذن، الإنتاجية والتنافسية، هو الهدف الأسمى الوحيد للنشاط الإنساني، ولا يمكننا مقاومة القوى الاقتصادية، أو الاقتضاءات المؤسسة لكل المتطلبات الاقتصادية أيضاً، حيث أحدثت قطيعة جذرية بين الاقتصادي والاجتماعي، مع التهميش والتخلي عن علماء الاجتماع، مثلما نتخلى عن النفايات.
ثمة مقتضيات أخرى مهمة، ألا وهو المعجم المشترك الذي يخترقنا ونمتصه بمجرد أن نقوم بفتح صحيفة أو نستمع إلى الراديو، والذي وضعت عباراته أساساً بصورة غاية في التهذيب واللطافة.
مع الأسف، لا يحضرني مثال من الإغريق، مع أنني أعتقد أن الأمر لا يتطلب جهداً للعثور على ذلك. في فرنسا مثلاً، لم نعد نقول: رب العمل، بل نقول: >القوى الوطنية الحية<، إننا لا نتحدث عن >الطرد< من العمل، بل نتحدث عن >إزالة الدهن<، مستعملين تعبيراً رياضياً مثيله: (على الجسم القوي أن يكون رشيقاً). ولكي نعلن أن إحدى الشركات سوف تقوم بطرد 2000 شخص من العمل، فإننا نتحدث عن >الخطة الاجتماعية الشجاعة الـ(Alcatel)<. ثمة لعب كامل على التباس واشتراك العبارات، نظير، ليونة، مرونة، انعدام الضبط، وهو ما يهدف إلى الإقناع، بأن الرسالة النيوليبرالية، هي رسالة كونية للتحرر.
يبدو لي، أنه من الضروري حماية النفس ضد هذا الرأي الشائع، عبر إخضاعه إلى التحليل، ومحاولة فهم الميكانيزمات التي تم بواسطتها إنتاجه وفرضه. لكن هذا لا يكفي، وإن كان مهماً جداً، وبالإمكان مواجهته بعدد من الإثباتات التجريبية. إن الدولة في حالة فرنسا، بدأت تتخلى عن عدد من قطاعات العمل الاجتماعي. وقد كانت عاقبة ذلك، هو مجموع معاناة فظيعة من أشكال شتى، إذ تتجاوز عدواها الناس الذين وقعوا ضحية هذا البؤس الكبير.
هكذا، بإمكاننا الكشف عن أن وراء المشكلات التي نعانيها في ضواحي المدن الكبرى، تكمن سياسة نيوليبرالية للسكن ـ نزلت حيز التطبيق في سنوات 1970م (دعم >الأشخاص<) ـ أدت إلى فرز اجتماعي، يتعلق من جهة، بالشغيلة الدنيا، المؤلف أغلبها من المهاجرين الذين لازالوا يعيشون ضمن مجموعات متعاونة، ويتعلق الأمر، من جهة أخرى، بالعمال الدائمين المتمتعين برواتب مستقرة، والبورجوازية الصغيرة، الذين يقطنون تلك البيوت الصغيرة التي ابتاعوها عبر القروض، مسببة لهم إحراجات ضخمة، تحددت هذه القطيعة الاجتماعية عبر إجراء سياسي.
نشاهد في الولايات المتحدة ازدواجية في الدولة، يتعلق الأمر من جهة بدولة تؤمن ضمانات، ومن جهة أخرى يتعلق الأمر بدولة قمعية بوليسية بالنسبة للشعب في كاليفورنيا، وهي واحدة من أغنى الولايات المتحدة ـ لقد جعل منها في لحظة ما، بعض الاجتماعيين الفرنسيين جنة كل الحريات ـ والأكثرية المحافظة أيضاً، التي تتمتع بلا شك، بألمع جامعة في العالم، كما إن ميزانية السجون هناك تفوق منذ 1994م، ميزانية كافة الجامعات مجتمعة. لا يكاد يعرف سود غيثو شيكاغو من الدولة سوى الشرطي والقاضي والسجان، وكلام الضابط المخول بتطبيق العقوبات، إذ يتعين على أولئك الامتثال أمامه بانتظام تحت طائلة عقوبة الرجوع إلى السجن.

نحن إذن، إزاء نوع من تحقيق حلم المهيمن. ثمة دولة، كما وصفها لوييس واكان، تُختزل أكثر فأكثر في وظيفتها البوليسية. إن ما نراه في الولايات المتحدة، والذي يتم تصميمه في أوروبا، هو مسار نكوص. إننا عندما ندرس ميلاد الدولة في المجتمعات التي شهدت نشوءاً مبكراً لها، مثل فرنسا وإنجلترا، نلاحظ ابتداء، تمركزاً للقوة الاقتصادية. فالاثنان يسيران مثنى مثنى. فلا بد من المال للتمكن من القيام بالحروب، أو إنشاء الشرطة إلخ. ولابد من قوى الشرطة للتمكن من سحب المال. ولنا بالتالي تمركز للرأسمال الثقافي ومن ثمة تمركز للسلطة. وحيثما تقدمت هذه الدولة، فإنها تحوز على استقلالها، وتصبح مستقلة جزئياً عن القوى الاجتماعية والاقتصادية المسيطرة. لقد بدت بيروقراطية الدولة بقدرتها على لَيِّ الإرادات المسيطرة وتمثيلها وأحياناً إلهامها السياسات.
إن مسار تراجع الدولة، يظهر بأن مقاومة الاعتقاد والسياسة النيوليبرالية بنفس المستوى أقوى في مختلف البلدان، حيث تبدو التقاليد الدولانية ـ étatique- أقوى. وهذا أمر قابل للتفسير، لأن الدولة توجد على صورتين: فهي توجد في الواقع الموضوعي عبارة عن مجموع المؤسسات مثل الأنظمة والمكاتب والوزارا ت إلخ.  كما أنها توجد أيضاً في >الرؤوس<. على سبيل المثال، داخل البيروقراطية الفرنسية لحظة إصلاح تمويل السكن، كان الوزراء >الاجتماعيون< يناضلون ضد وزارات التمويل، دفاعاً عن السياسة الاجتماعية للسكن. لقد كان من مصلحة هؤلاء الموظفين، الدفاع عن وزاراتهم ومواقفهم، لكنهم كانوا يؤمنون بأنهم بصدد الدفاع عن قناعاتهم.
إن الدولة في كل البلدان في إحدى جوانبها، هي ما تبقى في الواقع من آثار الفتح الاجتماعي. فعلى سبيل المثال، كانت وزارة العمل بمثابة فتح اجتماعي، أصبحت واقعاً، وإن أمكنها في بعض الحالات أن تتحول إلى أداة للقمع. وأما وجود الدولة في رؤوس العمال أيضاً، فمعناه وجودها عبارة عن قانون ذاتي (>هذا حقي<، >لا يمكنهم أن يفعلوا بي هذا<)، الارتباط بـ>المكتسبات الاجتماعية< إلخ.
إن واحدة من كبريات الخلاف، على سبيل المثال، بين فرنسا وإنجلترا، هو أن الإنجليز التتشريين، اكتشفوا بأنهم لم يقاوموا بالوسع الممكن. ومرد ذلك في الغالب إلى أن عقدة العمل تجري هناك وفق القانون العرفي Cammon Law، وليس كما هو الأمر في فرنسا، حيث تُعَدُّ عقود العمل اتفاقية تضمنها الدولة. واليوم، على عكس من ذلك، في الوقت الذي يتم التنويه في القارة  الأوروبية  بنموذج إنجلترا، يكتشف العمال الإنجليز، متى نظروا إلى الجانب الآخر من القارة، بأنها تمنح أشياء، لا تمنحها تقاليدهم العمالية؛ أي فكرة حق العمل.
إن الدولة حقيقة غامضة. فلا يكفي قولنا إنها أداة في خدمة المهيمنين. لاشك في أن الدولة ليست محايدة تماماً، أو مستقلة عن المهيمنين. غير أن لها استقلالية أكثر بقدر ما تكون أقدم وبقدر ما تكون أقوى، تسجل في بنياتها فتوحات اجتماعية مهمة إلخ. إنها محل للنزاعات (على سبيل المثال، ما بين الوزارات المالية والوزارات المسرفة المسؤولة عن المشاكل الاجتماعية). ولكي تقاوم نكوص الدولة، بمعنى مقاومة التراجع إلى مستوى الدولة الجنائية التي تضطلع بمهام القمع والتضحية شيئاً فشيئاً بالوظائف الاجتماعية، والتربية والصحة والمساعدة إلخ، فبمقدور الحركة الاجتماعية الحصول على الدعم من جانب المسؤولين على الملفات الاجتماعية، والقائمين بأعباء العمل على مساعدة العاطلين عن العمل لمدد طويلة، أولئك الذين يتصدون للممولين الذين لا يريدون أن يعرفوا سوى إحراجات >الكوكبة<، ومكانة فرنسا في العالم.
لقد استحضرت الـ>كوكبة<: إنها أسطورة بالمعنى الأقوى للعبارة؛ خطاب قوي >فكرة قوية<، فكرة تملك قوة اجتماعية وتملك الإيمان. إنه السلاح الرئيس للنضال ضد مكتسبات الـ>welfare State<: يتعين على العمال الأوروبيين، كما يشاع، منافسة العمال الأقل حظاً في بقية العالم. إننا بهذا نقدم للعمال الأوروبيين نموذجاً للبلدان، لا يوجد لديها الحد الأدنى من الأجور، وحيث يشتغل العمال 12 ساعة في اليوم، لقاء أجر يتردد بين 4/1 و 5/1 من الأجر الأوروبي، وحيث لا وجود للنقابات، وحيث يتم تشغيل الأطفال إلخ. إنه باسم نموذج كهذا، نفرض الليونة، >الكلمة ـ المفتاح< الأخرى لليبرالية، بمعنى العمل الليلي، والعمل في عطلة الأسبوع، ساعات العمل غير القانونية، مثل هكذا أشياء مدونة بصورة أبدية تامة في أحلام أرباب العمل. (هناك مجلات في الولايات المتحدة، تعد قوائم باسم الفائزين من أرباب العمل، هؤلاء الصداميين، المصنفين، مثل أجورهم بالدولار، حسب عدد الأشخاص الذين أمتلك أولئك الشجاعة لفصلهم من العمل. إنها حقيقة الثورات المحافظة، وحقيقة سنوات الثلاثينات في ألمانيا، وحقيقة تاتشر وريغان وآخرين، أن يعرضوا استرجاعاتهم بوصفها ثورات. تأخذ الثورة المحافظة اليوم، شكلاً جديداً: إنها بخلاف الأزمنة الأخرى، لا تستشهد بماضٍ مثالي، عبر استثارة الأزمنة الأخرى. لا تستشهد بماضٍ مثالي عبر استثارة الأرض والدم، الموضوعات التقليدية للميثولوجيات الزراعية القديمة.
إن لهذه الثورة المحافظة نمطاً جديداً يتذرع بالتقدم، والعقل، والعلم (الاقتصاد في الحالة الراهنة)، لكي تبرر الاسترجاع. وهكذا تحاول أن تبعث في الأسلوب القديم الفكرة والحركة التقدميين. إنها تشكل بمقاييس كل الممارسات وبالقوانين المثالية، الانتظامات الواقعية للعالم الاقتصادي المهجور؛ قانون السوق المعروف، أي قانون الأقوى. إنها تقر وتمجد سيادة ما يسمى الأسواق المالية، أي، العودة إلى نوع من الرأسمالية الراديكالية، دون قانون آخر غير الربح الأقصى، أي رأسمالية بلا فرامل وبلا تصنع، لكنها معقلنة، مدفوعة إلى أقصى فعاليتها الاقتصادية عبر إدخال أنواع السيطرة الحديثة، مثل إدارة الأعمال وتقنيات الإدارة والتجارة والإعلان التجاري.
إذا استطاعت هذه الثورة المحافظة أن تخدعنا، فذلك لأنها لا تحمل شيئاً يدل عليها في واجهتها. فمن المسرحية الرعوية الغابة ـ السوداء، القديمة للثوريين المحافظين لسنوات الثلاثين، إلى ثورة تتبرج بكل علامات الحداثة. لقد قال جاليلي، بأن الطبيعة كتبت بلغة رياضية. اليوم، أرادوا أن يقنعونا بأن العالم الاقتصادي والاجتماعي اليوم هو محل النزاع. بفضل التسلح بالرياضيات (وسلطة الإعلام)، أصبحت النيوليبرالية هي التعبير الأسمى لنظرية العدالة الاجتماعية المحافظة المعلنة منذ 30 سنة باسم >نهاية الإيديولوجيات< أو مؤخراً باسم >نهاية التاريخ<.
لكي نواجه أسطورة >العولمة<، التي تنحصر وظيفتها في إقناعنا بقبول عملية استرجاع نمط ما، والعودة إلى الرأسمالية المتوحشة، لكنها المعقلنة والكلبية، يتعين إذن الرجوع إلى الواقع. إذا ما تأملنا الإحصائيات، سوف نلاحظ أن المنافسة التي يعاني منها العمال الأوروبيون، هي في جوهرها >داخل ـ أوروبية<. ثمة، حسب الإحصائيات المعتمدة لدي، 70% من المبادلات الاقتصادية بين الأمم الأوروبية تتم مع بلدان أوروبية أخرى. عندما نبرز التهديد >داخل- أوروبي<، فإننا نحجب بذلك كون الخطر الرئيس ناشئاً من المنافسة الداخلية للدول الأوروبية، أوما نسميه أحياناً بـ: >سياسة الإغراق الاجتماعي< Le Social dumping: إن البلدان الأوروبية ذات الحماية الاجتماعية الضعيفة، والأجور المتدنية، بإمكانها تحقيق قدر من مصلحتها في المنافسة، لكن هذا يتم عبر سحب الدول الأخرى إلى الأسفل، تلك التي تجد نفسها، لكي تقاوم، مجبرة على التخلي عن مكتسباتها الاجتماعية.
ومؤدى ذلك، أنه حتى يتسنى للعمال في البلدان المتقدمة، الخروج من هذا الخط الحلزوني، فإنهم يجدون مصلحتهم في أن ينضمّوا إلى العمال في البلدان الأقل تقدماً، من أجل الحفاظ على مكتسباتهم، ولتشجيعهم على تعميم هذه المكتسبات على كافة العمال الأوروبيين. (وهو ليس بالأمر السهل، نظراً لاختلاف التقاليد الوطنية، خاصة ما يتعلق بتأثير النقابات بالنسبة للدولة وما يتعلق بطرق تمويل الحماية الاجتماعية). ليس هذا فحسب، بل هناك كل الآثار التي تخلفها السياسة النيوليبرالية أيضاً، حيث في وسع أيٍّ كان ملاحظتها. كذلك، هناك عدد من التحقيقات الإنجليزية تظهر أن السياسة التاتشرية كانت قد سببت حالة فائقة من انعدام الأمان، والشعور بالضيق، ليس فقط عند العمال اليدويين، بل عند البورجوازية الصغيرة أيضاً. الأمر نفسه يلاحظ في الولايات المتحدة، حيث نشاهد تنامياً في الوظائف غير القارة وذات الأجور الزهيدة (وهي التي تحفظ بشكل خادع معدلات البطالة).
تعاني الطبقات الوسطى الأمريكية التي تخضع لتهديد التسريح الفجائي من العمل، حالة رهيبة من انعدام الأمان، (هذا ما يجعلنا نكتشف بأن ما هو مهم في الوظيفة ليس العمل والأجرة التي يحصل عليها فقط، بل المهم هو حالة الأمان التي يحققها)، ففي كافة البلدان، نجد نسبة العمال ذوي الوضعية المؤقتة، تنمو بالمقابل مع جماهير العمال ذوي الوضعية الدائمة.
إن الليونة وعدم الاستقرار تؤديان إلى ضياع الامتيازات الضعيفة التي من شأنها تعويض الأجور الزهيدة، مثل العمل الدائم، ضمانات الصحة والتقاعد. من جهتها تؤدي الخوصصة إلى ضياع المكتسبات الجماعية. ففي حال فرنسا مثلاً، نجد 3 من 4 من العمال الجدد المقبولين في العمل، هم مقبولون بصفة مؤقتة، وهناك 1 من 4  فقط من أصل 4/3 سيصبحون عمالاً دائمين. لاشك في أن العمال الجدد هم شباب. وهذا ما يعني أن انعدام الأمان يقض مضاجع الشباب بالدرجة الأولى في فرنسا -وهذا ما لاحظناه أيضاً في كتابنا >بؤس العالم<ـ وفي إنجلترا أيضاً، حيث تبلغ حالة الضيق عند الشباب مستوى عالياً، وهو ما تترتب عليه آثار، مثل الجريمة وظواهر أخرى مكلفة، هذا بالإضافة إلى تدمير الأسس الاقتصادية والاجتماعية للمكتسبات الثقافية الإنسانية، الأكثر ندرة.
إن التهديد يطال شيئاً فشيئاً الاستقلالية المتنامية لعوالم الإنتاج الثقافي بالنسبة للسوق، بفضل نضالات وتضحيات الكتاب والفنانين والعلماء. وفي كل يوم، تفرض سيادة >التجارة< و>التجاري< بشكل أكبر على الأدب، خاصة عبر تمركز الطباعة الخاصة أكثر فأكثر وبصورة مباشرة، بإكراهات الربح السريع، وللنقد الأدبي والفني، حيث أمسى ساحة لأكثر الانتهازيين عبيد الناشرين (...)، دون الحديث عن العلوم الاجتماعية المهددة بأن تصبح تحت الطلب المباشر للمصالح البيروقراطية للشركات أو الدولة أو المهددة بالموت تحت ضغط رقابة السلطة (التي يتداولها الانتهازيون) أو المال.
إذا كانت >الكوكبة< قبل كل شيء أسطورة مبررة، فإن ثمة حالة تبدو فيها واقعية جداً. وهو ما يتعلق بأسواق المال. فبفضل التخفيض الذي طال عدداً من المراقبات القضائية، وتحسين وسائل الاتصال الحديثة التي أدت إلى انخفاض تكاليف الاتصال، أصبح التوجه نحو سوق مالي موحدة، وهذا لا يعني أنها سوق منسجمة. هذا السوق المالي يقع تحت هيمنة بعض الاقتصادات، أي البلدان الأكثر غنى، وتحديداً تلك الدول التي تتمتع بعملات مستعملة بوصفها احتياطياً دولياً، وتتمتع داخل هذه الأسواق المالية بهامش كبير من الحرية.
إن السوق المالية هي عبارة عن مجال، يستطيع المهيمنون، وخاصة الولايات المتحدة، أن يحرزوا فيه موقعاً يمكنهم من تحديد القسم الأكبر من قواعد اللعبة. إن توحيد الأسواق المالية حول عدد من الدول التي تتمتع بموقع المهيمن، تؤدي إلى تقليص استقلالية الأسواق المالية الوطنية. ينسى الممولون الفرنسيون ومفتشو المالية الذين يقولون: عليكم أن تخضعوا للضرورة، بأنهم متورطون في نشوء هذه الضرورة. حيث وعن طريق هؤلاء، تكون الدولة الوطنية الفرنسية هي من يتنحى.
باختصار، ليست الكوكبة تجانسية، بل هي على عكس من ذلك، اتساع في نفوذ عدد صغير من الأمم المهيمنة على مجموع المواقع المالية الوطنية. وهو ما يؤدي إلى إعادة تعريف جزئي لعملية تقسيم العمل الدولي، حيث يعاني العمال الأوروبيون من آثاره، مثل انتقال الرساميل والصناعات باتجاه البلدان ذات اليد العاملة الرخيصة. يحاول سوق العمل الدولي هذا، التقليص من استقلالية أسواق الرأسمال الوطني، وخاصة، منع معالجة الدولة الوطنية لمعدلات التبادل، ومعدلات الفائدة، التي تتحدد أكثر فأكثر من قبل سلطة محصورة في أيدي عدد صغير من الدول.
إن القوى الوطنية تخضع لمخاطر هجوم المضاربات من قبل الوكلاء الذين يتمتعون برؤوس أموال ضخمة، حيث بإمكانهم إحداث هبوط قيمة النقد. وتبقى حكومات اليسار الأكثر عرضة على وجه الخصوص للخطر، لأنها تشكك في الأسواق المالية، (إن الحكومة اليمينية التي تنهج سياسة أقل موافقة لأفكار صندوق النقد الدولي هي أقل عرضة للخطر من حكومة يسارية، حتى وإن نهجت سياسة موائمة لأفكار صندوق النقد الدولي). إن بنية المجال الدولي هي التي تمارس إكراهاً بنيوياً، الأمر الذي يضفي مظهراً قدرياً على الميكانيزمات.
يتعين في البدء، التفكير في الحدود الضمنية التي تقبل بها النظرية الاقتصادية. لا تأخذ النظرية الاقتصادية بالحسبان عملية تقييم كلفة سياسية ما، وهو ما يسمى بالأتعاب الاجتماعية. إذا أخذنا على سبيل المثال، سياسة سكنية، كتلك التي أقرها جسكار ديستان في 1970م، نجد أنها أدت إلى أتعاب اجتماعية على المدى البعيد، لا تظهر حتى كما هي. فإذا ما استثنينا علماء الاجتماع، فمن يا ترى، يتذكر العشرين سنة المتأخرة؟ من يربط بين فتنة 1990م في إحدى ضواحي ليون، وإحدى القرارات السياسية في 1970م؟ ثمة جرائم بلا عقاب، لأنها تواجه النسيان.
يتعين أن تؤكد كافة القوى الاجتماعية المنددة، على التداخل في الحسابات الاقتصادية للأتعاب الاجتماعية الناجمة عن القرارات الاقتصادية. بمعنى، ماذا يمكن أن يكلف ذلك على المدى البعيد على مستوى التسريح من العمل، والمعاناة والأمراض والانتحارات والإدمان على الكحول، واستهلاك المخدرات، والعنف الأسري إلخ؟ ثمة أشياء تكلف غالياً من المال بقدر ما تكلف من المعاناة في اعتقادي، حتى وإن بدا ذلك أكثر كلبية، يتعين العودة ضد الاقتصاد المهمين وأدواته الخاصة، ولنذكر أن في صلب منطق الفائدة، المفهوم جيداً، ليست السياسة الاقتصادية الخاصة بالضرورة اقتصادية (انعدام أمن الأشخاص والمصالح، وعليه، الشرطة).
يتعين، بصورة أدق، إعادة النظر جذرياً في هذه الرؤية الاقتصادية التي تفرد كل شيء، الإنتاج كالعدالة أو الصحة، الأتعاب كالأرباح (...)، ينبغي أن نواجه هذا الاقتصاد الضيق وذا الرؤية القريبة، باقتصاد سعيد، يسجل كل الفوائد، الشخصية والجماعية، المادية والرمزية، المرتبطة بالحركة (مثل الأمن)، وأيضاً بكل التكاليف المادية والرمزية المرتبطة بالركود أو الحالات العرضية (مثل استهلاك الأدوية: فقد حطمت فرنسا الرقم القياسي في استهلاك المهدئات).
لا يمكننا أن نخدع قانون استمرار العنف: فكل عنف هو مدفوع الثمن، وعلى سبيل المثال، فإن العنف البنيوي الذي تمارسه الأسواق المالية، على شكل تسريح من العمل وعدم الاستقرار إلخ، يدفع ثمنها بالمقابل، على المدى البعيد تقريباً، على شكل انتحارات وجنح وجرائم ومخدرات وإدمان على الكحول وأشكال صغيرة أو كبيرة من العنف اليومي.
يتعين في الحالة الراهنة على نضالات المثقفين المنددة والنقابات والجمعيات، أن تضع في أولوياتها الوقوف ضد تلاشي الدولة. إن الدولة ملغمة من الخارج من قبل القوى المالية، وهي ملغمة من الداخل من قبل المتورطين مع هذه القوى المالية، والممولين والموظفين السامين في المالية... أعتقد أنه من مصلحة المهيمَن عليهم، الدفاع عن الدولة، وخاصة في مظهرها الاجتماعي(...)، ينبغي إذن، محاولة إيجاد أسس تنظيمية لاتجاه دولي نقدي مؤهل لمواجهة حقيقية ضد النيوليبرالية.
النقطة الأخيرة، لماذا المثقفون هم غامضون في كل هذا؟ لا أشرع في إحصاء ـ فهذا سيستغرق وقتاً طويلاً وسيكون قاسياً- كل أشكال الاستقالة أو ما هو أنكى من ذلك، التعاون، أستحضر فقط نقاشات الفلاسفة المسلمين (حداثيين أو ما بعد حداثيين)، الذين لا يكتفون بترك الأمور كما هي، والمنشغلون بشكل كبير بألعابهم السكولاستيكية، يزجون بأنفسهم في دائرة الدفاع الشفهي للعقل والحوار العقلاني أو أنكى من ذلك، يعرضون متغيرات مسماة ما بعد حداثية، هي في واقع الأمر التعبير الحذق الأصيل لإيديولوجيا نهاية الإيديولوجيات، مع إدانة كبرى الحكايات أو النقض العدمي للعلم.
إن قوة الإيديولوجيات النيوليبرالية، في الحقيقة، هو كونها تستند إلى نوع من الداروينية الاجتماعية الجديدة؛ إنما الفوز لـ>الأفضل والأكثر لمعاناً< كما يقال في هارفارد (لقد طور بيكير، الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد، الفكرة التي ترى أن الداروينية هي أساس >الكفاءة< المرتبطة بالحساب العقلاني الذي تمنحه للعوامل الاقتصادية). فوراء الرؤية العولمية للجانب الدولي للمهيمنين، تكمن فلسفة الكفاءة، حيث بموجبها يصبح فقط الأكثر كفاءة هم الذين يحكمون، والذين يظفرون بالعمل، وهو ما يترتب عليه، كون الذين لم يحصلوا على عمل ليسوا أكفاء، هناك الـ Winners والـ Losers، ثمة النبل، وما أسميه بنبالة الدولة، بمعنى، أولئك الأشخاص الذين يتمتعون بكل خصائص النبالة بالمعنى القروسطوي للعبارة. الذين يرجعون سبب تسلطهم إلى التعليم، أي إلى الذكاء، حسب وجهة نظرهم، المدرك على أنه هبة لدنية، حيث ندرك أنها في الواقع موزعة من قبل المجتمع. فاللامساواة في الذكاء هي لامساواة في الاجتماع.
يبدو أن إيديولوجيا >الكفاءة< مناسبة جداً لتبرير التعارض الذي يشبه شيئاً ما تلك المرتبطة بالسادة والعبيد: مع وجود مواطنين، من جهة، باستثناء أولئك الذين يتمتعون بقدرات ونشاطات نادرة جداً وذات أجور عالية، والذين بإمكانهم أن يختاروا هم مشغّليهم، (في حين أن الآخرين في أغلب الأحوال هم مختارون من قبل مشغّليهم)، والذين في مقدورهم الحصول على مداخيل عالية في سوق العمل الدولي، وهم في غاية الانشغال، رجالاً ونساء، (قرأت دراسة إنجليزية جيدة حول هؤلاء الأزواج، ذوي الأطر الباهرة، الذين ينتقلون عبر العالم، ويقفزون من طائرة إلى أخرى، ويحصلون على مداخيل خيالية، ليس في وسعهم حتى أن يحلموا بكيفية إنفاقها...)، ومن جهة أخرى، ثمة جمهور من الأشخاص حكم عليهم ألَّا يتمتعوا إلا بالوظائف وبالبطالة.
يقول ماكس ويبر، بأن المهيمنين، هم دائماً في حاجة إلى >نظرية العدالة الإلهية حول طبيعة امتيازاتهم<، أو بتعبير أفضل، إلى نظرية للعدالة الاجتماعية، بمعنى، الحاجة إلى تبرير نظري حول لماذا هم متميزون. إن الكفاءة، هي اليوم في قلب هذه النظرية (La Sociodicée)، حيث هي مقبولة، بطبيعة الحال، ليس من قبل المهيمنين ـ فتلك هي مصلحتهم-، لا بل من قبل الآخرين أيضاً. ففي بؤس أولئك المسرحين من العمل، وفي مأساة المعطلين لفترة طويلة، يكمن شيء ما أكثر مما كان في الماضي.
لقد كانت الإيديولوجيات الأنجلوساكسونية دائماً هي المبشر، شيئاً ما، بهذا التمييز للفقراء غير الأخلاقيين والـDeserving poor -الفقراء المستحقين- الجديرين بالصدقة. يضاف إلى هذا التبرير الأخلاقي، تبرير فكري. فليس الفقراء هم غير أخلاقيين، أو مدمنين على الكحول أو فاسدين فحسب، بل هم أغبياء وغير أذكياء أيضاً. يدخل ضمن المعاناة الاجتماعية قسم كبير من معاناة العلاقة بالمدرسة، تلك التي لا تحدد الأقدار الاجتماعية فحسب، بل تحدد أيضاً الصورة التي ينشئونها عن هذا القدر، (هذا ما يساهم بلا شك في تفسير أسباب الحالة السلبية للمهيمن عليهم، وصعوبة تعبئتهم، ... إلخ).
لقد كان لأفلاطون رؤية للاجتماع شبيهة بتلك التي يحملها تكنوقراطيونا، مع الفلاسفة والحراس وأيضاً الشعب. هذه الفلسفة مدونة في نظام التدريس. إنها قوية جداً وأعمق استبطاناً. لماذا إذن ننتقل من المثقف الملتزم (Engagé) إلى المثقف الطليق (Dégagé)؟ إن السبب راجع في الغالب إلى كون المثقفين، هم من يمتلك الرأسمال الثقافي، وبأنهم حتى وإن كان مهيمناً عليهم ضمن المهيمن عليهم، فهم يشكلون جانب المهيمنين. هذه واحدة من الأسس التي تقوم عليها مفارقاتهم، وتورطهم الخفيف في النضال. إنهم يتطبعون بشكل غامض بإيديولوجيا الكفاءة تلك. فحينما يثورون، مثلما حدث في سنة 1933م داخل ألمانيا، فذلك لأنهم رأوا أنهم لم يحصلوا على كل حقوقهم، نظراً لكفاءتهم التي تضمنها شواهدهم.

الهوامش:

?* عالم اجتماع فرنسي، ومن أبرز المناهضين للعولمة.

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة