شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يلعب الإعلام في عصر العولمة دوراً رئيساً في توجيه المجتمع، وبلورة مفاهيمه الحضارية وقيمه الدينية ورؤيته الاستراتيجية، فتقنية المعلومات والاتصال والإعلام الفضائي أتاحت الانفتاح على العالم، من خلال تغطيتها للكرة الأرضية بشبكة من الضبط والتوجيه والتبادل المعلوماتي السريع، الذي سمح بتجاوز حدود المكان والزمان، وجعل العالم على اختلاف تنوعه شاهداً على الإبداع الحضاري للإنسان.
هذه النقلة الحضارية ستتطلب دون شك إعادة تشكيل بيئة حياة الإنسان الأسرية والمحلية لمواكبة متطلبات تحديات الانفتاح الكوني والتقنيات الجديدة، مما بات يفرض على أمتنا الإسلامية وهي تتأهب للتخطيط المستقبلي، إعادة النظر في نظم التعليم والتأهيل، وتعزيز منهجية التفكير الإبداعي وبناء القدرات المتميزة.
فما هي التحديات الراهنة المطروحة على أمتنا، وعلى مؤسساتنا الثقافية لتكون المواكبة على أرضية واقعية منطقية وموضوعية؟.
هل يستطيع المثقفون العرب تشكيل حالة من الوعي المعرفي والعلمي، تجعل الانتقال ممكناً من سلبية الاستهلاك الثقافي السياسي الاقتصادي والإعلامي، إلى إيجابية البحث والاستكشاف ومتابعة تطبيق المعرفة واقعياً، وشحذ الأدوات المعرفية، ومهارات استخدام نظم عصر الاتصال المعلوماتي؟.
وهل جميع الأكاديميين على مستوى واحد من الإلمام بمختلف جوانب ثقافة العولمة، وإدراك العلاقة بين المنظور الثقافي في الماضي وتطور التربية في الحاضر؟.
هل تعليمنا الأكاديمي يرقى إلى مستوى تنمية غريزة حب المعرفة والاطلاع في نفوس وأذهان شباب أمتنا؟.
كيف يمكن للأسر العربية اكتشاف مواهب أبنائها المبدعة في مرحلة مبكرة، والحرص على توجيهها، وتحصين مناعتها ضد آفة التلقي السلبي المهيمنة على منظومة تعليمنا؟.
هل يستطيع الإعلام اليوم أن يعيد إحياء الإرادة العلمية للمشاركة في صناعة الثقافة وتنمية المهارات الذهنية، بعدما تخلى عن مهمته التنموية الأساسية، وتبنى طابع الإعلان والترفيه على حساب التوعية الثقافية؟.
هل يجب إعادة النظر في أسس ومنهجية كل المؤسسات التربوية والثقافية، لتعيد صياغة أهدافها والتخطيط لذلك على المدى القريب؟.
هذه الأسئلة وغيرها تحتاج لتضافر الجهود من قبل الأكاديميين والمثقفين والإداريين، للنهوض بالطاقات الشابة عماد مستقبل الأمة الإسلامية.
في حقيقة الأمر وبعيداً عن الشعارات البراقة، وتوصيات الندوات المهمشة، فإن جيلنا يعاني من فراغ فكري، وضعف ثقافي، يجسده بوضوح عدد محلات بيع الأشرطة الغنائية، وعدد الملاعب والفرق الرياضية مقارنة بعدد المؤسسات الثقافية، كالمكتبات الأهلية والنوادي الثقافية، (أدبية - فنية - اجتماعية ومسرحية).
وإذا أردنا معرفة المصدر المسؤول عن تدني المستوى الثقافي، ونمو مجال التقدم العلمي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، فإننا سنصطدم بمجموعة عوامل مترابطة ومتشعبة، بحيث يصعب فصل بعضها عن الآخر، فكما أن ثقافة وإيديولوجية الفرد تتكون نتيجة عوامل متراكمة وظروف متباينة، وخبرات متعددة، فإن ظاهرة الاضمحلال الثقافي وتهميش الطاقات المبدعة أعقد من ذلك، والأسباب المكونة له أكثر تعقيداً.
فمحدودية الدور الذي تقوم به المؤسسات الاجتماعية وخاصة التربوية والثقافية، عامل رئيس في تقليص جهود تحديث المنظومة الثقافية، التي تُعدُّ شرطاً أساسياً لتحديث المجتمع في شتى مجالاته، فكرياً، سياسياً، اجتماعياً، تكنولوجياً واقتصادياً.
وإذا كنا قي عصرنا نؤمن بأن تحديث أي مجتمع لا ينطلق من التطورات التكنولوجية، بقدر ما ينطلق من القدرة على تكوين مجموعة من المؤسسات الثقافية والإعلامية التي تمتلك أدوات تعزيز واستمرار التحديث والتجديد، فإن نظام العصر بات يفرض علينا الإيمان بأن المجتمع ليس مجموعة المؤسسات التربوية السلطوية، بل طرق التدريب العقلي والمعرفة المتنامية، والتخطيط المرتبط بفلسفة التربية والثقافة التي تقوم بها المؤسسات الثقافية والإعلامية والتشريعية، لتعزيز مهارات التفكير الإبداعي القائم على تجديد الأدوات الإدراكية والمعرفية، بما يحقق الاستقلال الذاتي لأجيال المستقبل في تشكيل تصوراتهم، باقتدار ونقد وأصالة، واستيعاب لقواعد التفاعل الإيجابي الخلاق مع تجليات التقدم العلمي والتقنيات وحقائق العصر.
إن التحديات الناجمة عن التحولات العميقة التي أنتجتها ومازالت تيارات العولمة، تفرض على مؤسساتنا الثقافية إعادة صياغة وتطوير العديد من الجوانب المتعلقة بتنمية مهارات الإبداع، من خلال إعادة الكفاءة الكلية للشخصية القادرة على التعامل مع متطلبات العصر الجديد وتحدياته، وهذا بدون شك يطرح تحدياً أساسياً لعمليات التعليم التقليدية، التي أقامت نظامها على مهمة التوجيه والإرشاد، بحيث ترسخ لدى شبابنا وطلابنا عادة التلقي السلبي، وأصبحت عقول طلاب جامعات عالمنا العربي والإسلامي بمنزلة صناديق سوداء، تتلقى الرسالة التعليمية دون استيعاب لمضمون هذه الرسالة، ودون ممارسة إرادتهم وقدراتهم الإبداعية في كيفية دمجها في محيطهم وبيئتهم من خلال المؤسسات الثقافية.
وقد أجريت العديد من الدراسات في حقل التعليم العام والعالي، خلصت إلى نتائج مفادها:
- أن الطلاب لا يتمتعون بمهارات التساؤل وفنون المناظرة، وذلك لأن أسلوب التلقين لا يقتصر على مرحلة التعليم العام، وإنما يتعداه إلى التعليم الجامعي الذي يقوم أساساً على إلقاء المحاضرات والشرح المباشر والاستقبال القائم على الحفظ.
- أن الطلاب لا يستطيعون شرح وجهة نظرهم بصورة متواصلة، ومن دون مقاطعة الأستاذ، مما يضعف قوة المبادرة لدى الشخصية المبدعة(1).
- أن العلاقة بين الأساتذة والطلاب علاقة تستمد جذورها من البنية الاجتماعية التسلطية التي تخشى إطلاق القوى الإبداعية وتفكيرها، وتحاول كبتها وقمعها، وبذلك تصبح التوعية الثقافية وسيلة للتطويع والمسايرة بدلاً من استثمارها كأداة للتنمية والتنوير والتوعية.
- أن معظم المدرسين داخل المؤسسات الثقافية، يشكون من ضعف الثقافة التربوية اللازمة لعصر المعلومات، مما جعل استخدام الأجهزة الإلكترونية داخل مؤسساتنا محصوراً في الأمور الثانوية دون الاستفادة الحقيقية من خدماتها الإعلامية وإمكاناتها المتعددة.
وبشكل عام يمكن إرجاع أزمة المؤسسات الثقافية في قدرتها على تكوين الشخصية المبدعة إلى أسباب رئيسة عدة من أهمها:
1ـ غياب فلسفة اجتماعية، تنبني عليها فلسفة تربوية واقعية، لاسيما وأن مثقفينا قد غابت عن وعيهم جوانب عدة من إشكالية التربية التي تزداد تعقيداً مع الوافد الغربي الإعلامي يوماً بعد يوم.
2ـ ندرة جهود التنظير التربوي، الشيء الذي ترك المجال واسعاً لملء الفراغ التربوي بالاستعارة من النظم التربوية الغربية، منزوعة من سياقها الاجتماعي(2).
3ـ غياب تفاعل منظومة التعليم مع تكنولوجيا الإعلام، لاسيما وأن إعلامنا العربي اليوم يشكو من تناقض جوهري وقع فيه بعد أن تخلى عن مهمته التنموية الأساسية، واتجه نحو تتبع السير الذاتية للفنانين والإعلان عن المسابقات الترفيهية، على حساب إعادة إحياء الإرادة العلمية للمشاركة في صناعة الثقافة(3).
4ـ رسخت عولمة الإعلام، عقداً نفسية لدى شبابنا، وصلت إلى حد شعورهم بالنقص في مواجهة الوافد الغربي المتفوق إعلامياً وتكنولوجياً ومعلوماتياً، وهذا ما يولد لديهم نوعاً من الإحساس بالدونية، وعدم جدوى تنمية قدراتهم الذهنية ومهاراتهم الإبداعية.
5ـ غياب تفاعل المؤسسات الثقافية والإعلامية، مع المحددات الإيجابية أو السلبية للبنية الأسرية، التي تلعب دوراً رئيساً في إنماء أو قتل الفاعلية الإبداعية لدى أجيالنا، مما قد يفرز مهارات ذهنية متفوقة تحصيلياً، لكن تنقصها مهارات التواصل والاتصال مع محددات العالم الخارجي.
6ـ غياب مناهج جديدة في المزج بين الثقافات، فكرها وإبداعها، وقيمها، ولغتها، ومعتقداتها (مقارنة الأديان)، تخول لمبدعينا مهارات الحوار وقواعد الجدال، وفنون المناظرة.
إن مؤسساتنا الثقافية في حاجة إلى وقفة استقراء متأنية لنمط التنشئة الأسرية للأبناء في مجتمعنا، ووقفة مع وسائل الإعلام، ووقفة مع المناهج التعليمية في علاقتها مع الإبداع وتكنولوجيا الإعلام، وهذه الدوائر الثلاث لا تساير واقعنا الاجتماعي الحالي، لأن المعوَّل عليه حالياً هو عبقرية أجيالنا الإبداعية القيادية (الكاريزماتية)، التي لا تؤمن بشرعية الاختلاف.
إضافة إلى إشكالية الإمكانات المادية التي تخمد طموحات الطاقة الإبداعية، وتؤدي إلى تمزقات واضطرابات نفسية في البناء النفسي والشخصي لأبنائنا(4).
ومما سبق تبدو المسألة بحاجة إلى مواجهة تبدأ بالتخطيط الإعلامي، الذي يستهدف بناء مشروع إعلامي قادر على صياغة القيم الثقافية في نفوس أبناء أمتنا، من خلال الإعلام المبدع الخلاق والهادف، الذي يفضي إلى نشر التراث، والمعرفة الحقيقية، والتشبث بالهوية بعيداً عن هوس الإعلام السطحي التمييعي اللاأخلاقي، الذي يؤدي إلى تغليب القيم الاستهلاكية، وتكريس هوة الانفصال الثقافي والاجتماعي والسياسي بين الإعلام العربي والمجتمعات العربية الإسلامية(5).
ومن هنا تبرز أهمية الثقافة الإعلامية في تأمين الأرضية المعرفية للقضاء على الأمية العلمية، وتأسيس إعلام ثقافي يتغلغل داخل نسيج الثقافة السائدة، ويصبح جزءاً مكملاً وضرورياً لها في عصر الهيمنة العلمية والتقنية.
إن الإعلام هو الجانب التطبيقي المباشر للفكر الثقافي والسياسة الثقافية، وهو بجانب كونه تجسيداً لثقافة العامة، فهو أيضاً نافذة نطل منها على ثقافة الخاصة، ونشكل من خلالها طاقاتنا الإبداعية.
فالإعلام يخترق عبر وسائله المقروءة والمسموعة والمرئية مختلف الشرائح الاجتماعية، بغض النظر عن مستوياتها الثقافية، ومؤهلاتها العلمية، وملكاتها الذهنية.
وكما يمكن للغة الإعلامية أن تكون أداة للتوعية الثقافية، وبناء القدرات الإبداعية، يمكن أيضاً أن تكون أداة للتضليل والطمس وتزييف الحقائق(6).
ومن هذا المنطلق فإن أهمية الإعلام العلمي كجزء جوهري من منظومة الإعلام التنموي، تصبح أمراً حيوياً ولازماً لتوفير الثقافة العلمية المطلوبة في زمن التنوع الثقافي والابتكار والإبداع والتجديد لتحقيق التنمية والتقدم، والمشاركة في دفع عجلة التنمية وبناء صورة الأمة العربية الإسلامية المشرقة داخلياً وخارجياً، وإذا كانت حيوية الإعلام الثقافي مسألة أكيدة في دفع عجلة التنمية والاستثمار الفعلي لطاقاتنا المستقبلية، فإن إعلامنا العربي ينبغي أن يطور وفق الاتجاهات التالية:
1ـ توجيه الطروحات الإعلامية لخدمة الأهداف الكبرى للمجتمع، ومعالجة مشاكله وتعزيز ثوابته وقيمه.
2ـ تأكيد مبدأ المسؤولية الاجتماعية للإعلام، بحيث يؤدي دوراً إيجابياً في التربية والتماسك الاجتماعي والارتقاء بالوعي العام للأفراد.
3ـ قيام أجهزة الإعلام بحماية الذوق العام والارتقاء به، من خلال انتقاء وبث المواد الإعلامية الراقية والهادفة.
4ـ تحرير وسائل الإعلام من هيمنة الرأي الواحد، وفتحها للحوارات والمشاركات الفكرية الجادة والمتزنة أمام شتى الفعاليات الوطنية في المجتمع.
5ـ التأكيد على دقة اختيار القيادات الإعلامية الوطنية، وإيجاد الآليات الكفيلة بتكوين الكفاءات الإعلامية المبدعة.
6ـ إنشاء مجلس أعلى للإعلام، يضم نخبة من المتخصصين الإعلاميين، وعلماء الشريعة والتربية، وقادة الفكر والرأي في المجتمع، يتولى صياغة السياسة الإعلامية وفق الهوية الوطنية والأهداف العليا للبلاد، ويراقب تنفيذها.
7ـ تطوير قوانين النشر بما ينسجم وروح الدستور وميثاق العمل الوطني، من حيث حرية التعبير وإصدار وامتلاك وسائل النشر والإعلام.
8ـ الحرص على تقديم البرامج الإعلامية -وخاصة المتلفزة منها- التي تشجع وتنمي الجانب الثقافي لدى عموم الناس.
9ـ إيجاد الآليات الكفيلة بالحد من انتشار البرامج الإباحية والأفكار الهدامة والدعايات المعادية، التي تبث عبر شبكة الإنترنت والفضائيات.
10ـ التأكيد على الالتزام باللغة العربية الصحيحة في كافة أوجه الإعلام.
11ـ الاقتصار في أجهزة الإعلام على انتقاء وبث الأعمال الفنية الراقية، والهادفة لحماية الذوق العام والارتقاء بمستوى الإنتاج الفني.
إننا نعيش في عصر تحكمه حضارة مبرمجة، وتسعى بتخطيط مدروس داخل قواعدها العلمية (وليس العسكرية) إلى السيطرة على مختلف فعاليات الأمة الذاتية والموضوعية، لهذا فإننا مطالبون جميعاً بالوعي والمنهجية والتخطيط لحاضرنا، لكي نتمكن بقدراتنا وإرادتنا من صنع مستقبلنا، ولكي تتحقق هذه الغاية وفق الحضارات، وتعمم على ضوء الأهداف والغايات، لأن البداية الفعلية لعملية النهوض الحضاري تتمركز حول استيعاب وقائع وقوانين الحاضر، لاستقراء واكتشاف مصائر المستقبل المرتقبة.
لذلك فإن دراسة علم الإعلام، والعمل على بيان مفرداته وأدواته، سيشكل ولاشك عموداً فقرياً لصنع وتنشئة وتفجير طاقات أجيالنا المبدعة، وعندئذ لن يقف جيلنا منحنياً عند حدود الاستهلاك للثروة العلمية، بقدر ما سيسعى بمنهجية إلى تمثل هذه المعارف والمعلومات للمساهمة في عملية الإنتاج.
إن بإمكان مؤسساتنا الثقافية أن تقيم علاقة وطيدة بين تنمية الإبداع وتكنولوجيا الإعلام، الأمر الذي يتطلب حتماً تضافر الجهود في دراسة ظاهرة الإبداع في عالمنا العربي الإسلامي من جوانب مختلفة:
- الجانب النفسي.
- الجانب المعرفي.
- الجانب المعلوماتي.
- الجانب الاجتماعي.
- الجانب التنظيمي.
- الجانب الاقتصادي.
فملكة الإبداع تنشأ عند الفرد نتيجة لعوامل متعددة، بعضها فطري يولد مع المرء دون تدخل العوامل الخارجية: (كالذكاء، والحذق، والبراعة، ودقة الملاحظة)، وهي ما يعبر عنها بالقدرات الذهنية المعقدة، وبعضها الآخر يتكون ويتطور وفق العوامل البيئية والمؤثرات الخارجية والسلوكية التي تؤثر في الفرد، وتشمل التربية والتعليم والرعاية والتوجيه والأمن، ولعل أبرز العوامل البيئية التي ينبغي توافرها بشكل أساسي لإنماء ملكة الإبداع لدى شبابنا هي:
1ـ الاحتياجات النفسية
وتتلخص في الحفاظ على سلامة مصدر الإبداع، وتحقيق توازنه النفسي والعقلي والروحي. والأسرة بصفتها أهم مؤسسة في المجتمع، يقع على عاتقها الجزء الأكبر من المسؤولية عن تحقيق هذا التوازن، لأن البيت هو أول حاضن للنشء، وفيه تتم عملية برمجة عقول ونفسيات الأبناء حسب مستويات تفكير الآباء، ومدى اهتمامهم بتغذية العقول وتهذيب النفوس، ورسم اتجاهات التفكير، والثقة بالنفس، وتنمية مهارات الإبداع.
2ـ الاحتياجات الاجتماعية
وتتمثل في دعم المشاركة والفاعلية المجتمعية لأجيالنا، وذلك من خلال استحداث خطط تنموية، تشمل دورات تثقيفية، وورشات عمل وأنشطة تثقيفية، وتشكيل أندية (أدبية، فنية، مسرحية، فكرية، سياسية مختلفة)، وإصدار مجلات فكرية ثقافية تعزز مفاهيم التبادل الثقافي، مع الحفاظ على خصوصية الهوية الثقافية والدينية للأمة العربية الإسلامية.
فهناك علاقة ترابط قوية بين الإبداعية (Créativité) والحرية الشخصية، التي تنبثق عن أجواء الحرية الفكرية والتوعية الثقافية، التي تتيحها المؤسسات الثقافية داخل المؤسسة الاجتماعية.
ولذلك فإن البيئة الاجتماعية التي تهمش دور المؤسسات المجتمعية الفاعلة، وتفتقر للمعيار الخلقي القيمي السليم لمواجهة تحديات المستقبل، تزداد فيها نسبة التقليد والاستهلاك والاتباع، ويقل في أجوائها حسن رعاية الكفاءات المبدعة، وبالتالي تستسلم في ظلها مهارات وكفاءات ذهنية عديدة للشعور بالدونية والإحباط، والإدمان على استهلاك ما هو جاهز للاستهلاك.
إن التنشئة الاجتماعية الاعتباطية تؤدي عموماً إلى هدم البنية النفسية والعقلية والمعرفية والبيئية للشخصية المبدعة، في حين تعمل التنشئة الاجتماعية الفاعلة على بناء قدرات الشخصية المبدعة المتكاملة من حيث الذكاء والقدرة على التكيف مع المتغيرات المجتمعية، والإنجاز والاعتماد على النفس، وتحقيق الاستقلال الذاتي وتأصيل الهوية الثقافية.
ومن خلال هذا المنظور، ينبغي أن ننظر إلى التشكيلات المجتمعية الحديثة في الفضاء المعرفي والاجتماعي العربي والإسلامي، إلا أن الكثير من المؤسسات والتكوينات الثقافية الحديثة، أي المؤسسات التي برزت في العالمين العربي والإسلامي، من جراء احتكاك وتفاعل العرب والمسلمين أفراداً وجماعات مع الحضارة الحديثة، قد لا تجد في الواقع العربي والإسلامي، بيئة صالحة لنموها وتطورها، وذلك من جراء الاستلاب المفرط للنمط الثقافي للمجتمعات الغربية.
لذلك نجد أن العالمين العربي والإسلامي، يمتلئان بمؤسسات وتشكيلات ثقافية ومجتمعية تنتمي إلى تطورات العصر الحديث، إلا أن عملها وفاعليتها في فضائنا العربي والإسلامي لا يزال محدوداً، ولا ينسجم والجهود التي بذلت في جميع الاتجاهات في سبيل تَبْيِئَة هذه المؤسسات وغرسها في تربة الواقع العربي والإسلامي، إذ إن المؤسسات التي لا تُحتضَن مجتمعياً، تصبح مؤسسات شكلية بعيدة عن دورها المنشود.
3ـ الاحتياجات المعرفية
تتطلب الاحتياجات المعرفية والإعلامية عادة طرح العلاقة بين المبدع وموقف الفئات الثقافية المختلفة لتوسيع مجال البحث المعرفي واستحضار الهاجس النقدي، حتى لا يتم تعميم المعطيات المعرفية والإعلامية دون مراعاة طبيعة شروط إنتاجها التاريخية.
وبالتالي تجنيب أجيالنا المبدعة السقوطَ في التقليد الذي يحرص على شكليات المعرفة العلمية والإعلامية(7).
إن تنمية قدرة الاستيعاب المتمثلة في الفهم والتعقل أساسية في باب الانفتاح على النظم المعرفية والإعلامية المستوردة، لتمكين المستورد للمعلومات من وعي الفوارق في سياقاتها المختلفة.
وهو الأمر الذي يفتح المجال لإمكانية الاستيعاب النقدي والمشاركة الفعالة في إعادة إنتاج المفاهيم والنظريات المعرفية والكشوف العلمية بإدخال المتغير الذاتي(8).
فالتربية من أجل اكتساب المعرفة واستخدام أفضل لوسائل الإعلام والعصر المعلوماتي، تعني بالأساس اكتساب أجيالنا القدرة على الاختيار السليم للأدوات المعرفية، ومتغيرات الخريطة الإعلامية عن طريق تحفيز مهارات الاستنتاج والاستنباط والاستقراء والتحليل، وترشيد استغلالها كبنى تحتية تقام عليها البنى المعرفية والمعلوماتية.
وكل هذه الأمور بحاجة إلى منهجية للتعامل مع الماضي والحاضر والمستقبل، لأن الثقافة التي تفتقد المنهجية هي ثقافة تراكم معرفي على المستوى العقلي، بمعنى أن بناءها النظري، ونسقها الفكري لا يشكلان منظومة متكاملة مترابطة موصولة المقدمات بالنتائج، وإنما تكون عبارة عن اجتهادات وإبداعات ثقافية موزعة، لا ترقى إلى مستوى استيعاب وهضم المتغير الحديث وصبغه بالصبغة الذاتية لمنظومتها الثقافية والفكرية والحضارية...
4ـ الاحتياجات الاقتصادية والتنظيمية
فالتنمية الاقتصادية مطلب حيوي تسعى إليه كل المجتمعات. والإبداع لا يمكن أن يتحقق في ظل غياب طاقات بشرية منتشرة على ساحات العمل ومواقع الإنتاج، تستمد عطاءها من فهم واع لمضامين الحركة العلمية، وتشحذ طاقاتها الإبداعية تحديات التطور التقني السريع، وتزود مجتمعاتنا بخطط اقتصادية مدروسة وإبداعات متلاحقة، تنعكس في صورة حقيقية للرفاه والتطوير والنشاط الاقتصادي.
إن التقدم الحضاري والسبق في مجال التنافس الاقتصادي قائمان اليوم على امتلاك المعرفة والتكنولوجيا، وتوظيفهما بشكل مباشر لتطوير الحياة في المجتمع، وفي إنتاج وتسويق السلع والخدمات ذات الجودة التنافسية، لاسيما في زمان العولمة والتكتلات الاقتصادية.
لذلك أصبح لزاماً أن تتوجه مجتمعاتنا إلى العناية بالبحث العلمي المتخصص، وتوجيهه لمعالجة المشكلات الحقيقية ورفع الكفاءة، وتحسين الجودة والابتكار، وذلك من منظور يتجاوز أساليب التبعية والتقليد والتغريب الثقافي، وهذا يستدعي تمويل البحوث العلمية للمهارات الذهنية، وإنشاء مراكز الأبحاث المستقلة في جميع المجالات التقنية، الصناعية، الاجتماعية... وتشجيع المؤسسات الخاصة، ودفع المؤسسات العامة للقيام ضمن مؤسساتها بوظائف البحث والتطوير الهادفة إلى تحسين الإنتاج كمّاً ونوعاً وفق المعايير العالمية.
إن الحديث عن تنشئة مقومات الإبداع لدى أجيالنا لا يمكن أن يتم بمعزل عن العامل البشري الذي يلعب دوراً أساسياً في عملية التنمية، ولنأخذ ماليزيا مثالاً حياً لدولة تملك أعلى معدلات النمو في العالم، لأنها هيأت العامل البشري من ناحية القدرات الإنتاجية الاقتصادية، والاستعداد الفكري للاستيعاب المعرفي، والمساهمة في الإنتاج العلمي والتقني(9).
إن هدف تنمية قدرات أجيالنا المبدعة وتهيئتها للمستقبل، لا يمكن القيام به على الوجه الصحيح، إلا من خلال تحديد احتياجات مجتمعاتنا الإسلامية، وفهم التغيرات المتوقع حصولها، ومعرفة العوامل المؤثرة فيها، واستيعاب أبعادها وآثارها المحتملة، بما يساعد على رسم خطط استشرافية مستقبلية للظروف والمواقف والتحديات التي ستفرزها المرحلة القادمة، في إطار المجتمع الإسلامي ومبادئه وإمكانياته، وما يوفره من قدرة كافية لاستقراء واستيعاب عناصر وآليات تكنولوجيا عصر المعلومات، ( مع مراعاة شروط التعميم اللازمة في كل معرفة علمية )، وبالتالي الإسهام بفاعلية في الفكر العالمي والإبداع العلمي، والتطور التقني، والازدهار الثقافي والاقتصادي والتنظيري والاستراتيجي على حد سواء(10).
إن مفهوم الحداثة كما تقدمه منظومة العولمة اليوم، مرتهن بالتنازل عن الهوية والشخصية والعقيدة والاستقلالية الذاتية للدخول في المجتمع الدولي والمجتمع العالمي.
وهنا يأتي دور المؤسسات الثقافية والإعلامية، لتصحيح مفهوم الحداثة لقدراتنا المعوَّل على إبداعاتها المستقبلية، فالحداثة بمراحلها، لا تعني التنازل عن هوية ومقومات شخصية مجتمعنا العربي الإسلامي، لأن العلم الذي تترجمه الثقافة إلى إنجازات علمية، وتجهيزات ومعدات تكنولوجية ليس حكراً على عرق أو لغة أو ثقافة معينة، وإنما هو مشاع بين المقتدرين على امتلاكه من أصحاب المهارات الذهنية والطاقات الإبداعية أياً كان انتماؤهم ولغتهم... والتاريخ خير دليل على تقدم أمم وشعوب تبادلت إبداعاتها المعرفية في مجالات علمية وتقنية وفلسفية وأدبية متعددة، من دون أن تتنازل أية أمة من تلك الأمم عن مقومات شخصيتها الثقافية وانتماءاتها العقدية(11).
إن مخطط العولمة لا يستهدف فقط إدارة الموارد الاقتصادية للعالم وفق رغبات محددة، بل يسعى أيضاً إلى تنميط العالم وفق نموذج محدد، يبدأ من طرق التفكير، ويمر بمناهج التعليم، لينتهي بالإعلام كأحد مستلزمات الحياة اليومية البسيطة، وهذا المخطط يدّعي تفوقاً مزعوماً (وإن كان غير معلن) على ثقافات وحضارات الأمم والشعوب، مما يؤكد عزمه الأكيد على محاولة سحق وخنق كل الثقافات.
وهنا يأتي دور المؤسسات الثقافية والتعليمية، والمجتمعية، والدينية.. (ذاكرة الأمة)، لتشكيل الحصانة المنشودة لأجيالنا المعوَّل على عبقريتها، ضد محاولات السحق والتهميش، وذلك بتخصيب الذاكرة الثقافية والتاريخية لدى الأجيال المتعاقبة، وتحفيز الطاقات المبدعة والخلاقة على التجديد الثقافي والحضاري، وتهيئتها لدخول عصر الرهانات والتحديات(12).
?* جامعة ابن طفيل - القنيطرة - المغرب.
?(1) علي أسعد وطفة، إشكالية التسلط التربوي في الوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية ص 333، 1999م بيروت، لبنان.
(2) عبد الدائم، عبدالله، نحو فلسفة تربوية عربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1991م.
(3) نبيل علي، الثقافة وعصر المعلومات، رؤية لمستقبل الخطاب الثقافي العربي، ص331، سلسلة عالم المعرفة عدد 276، ديسمبر 2001.
(4) الأطفال والتعصب والتربية، الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية، ص45 - 52، 1988م.
(5) عبد الرحمن، عواطف، الإعلام العربي وقضايا العولمة، مجلة العربي للنشر، القاهرة.
(6) المنار الجديد، العدد العاشر، 12 ذو الحجة 1422/ 7مارس 2002 عدد 811 السنة 18، ص 16.
(7) La crise des Intellectuels arabes : abdellah Laroui, page 19-55.
(8) نبيل علي، الثقافة العربية وعصر المعلومات، مرجع سابق، ص 276.
(9) علي حرب، حديث النهايات، فتوحات العولمة ومآزق الهوية، المركز الثقافي العربي ط1، بيروت 200، ص 12
(10) Gaston Bachlard , La Formation de Lès prit Scientifique, vrin, 1976.
(11) Robert Blanché, Lès prit emologie, p. v. f 1972.
(12) www. Mbcin. Net/ areen www. alhiya
شرعية الإختلاف : دراسة تاصيلية منهجية للرأي الآخر في الفكر الإسلامي
يحاول الكاتب محمد محفوظ في 166 صفحة أن بضيئ الحديث عن السلم الأهلي والمجتمعي، في الدائرة العربية والإسلامية، بحيث تكون هذه المسألة حقيقة من حقائق الواقع السياسي والإجتماعي والثقافي، وثابتة من ثوابت تاريخنا الراهن.
ينتمي مالك بن نبي وعبدالله شريط إلى بلد عربي إسلامي عانى من ويلات الاستعمار ما لم يعانه بلد آخر، سواء في طول الأمد أو حدة الصراع أو عمق الأثر. إنهما مثقفان عميقا الثقافة، مرهفا الشعور، شديدا الحساسية للمعاناة التي عاشها ملايين الجزائريين من ضحايا مدنية القرن العشرين، بأهدافها المنحطة وغاياتها الدنيئة.
عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات خلال الفترة الواقعة بين 6 و 8 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2012، مؤتمرًا أكاديميًّا عنوانه «الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي: تجارب واتّجاهات»، في فندق شيراتون بالدوحة، وشهد الافتتاح حشدًا كبيرًا من الباحثين والأكاديميّين من دول عربية.
يأتي الاهتمام بالقضية الفنية في فكر الأستاذ عبدالسلام ياسين من منطلق أن الوجود الحضاري للأمة كما يتأسس على أسس القوة المادية التي يمليها منطق التدافع القرآني أي التدافع الجدلي بين الخير والشر الذي هو أصل التقدم والحركة، يتأسس كذلك على جناح تلبية الحاجات النفسية والذوقية والجمالية بمقتضى الإيمان الذي هو ...
ثمة مضامين ثقافية ومعرفية كبرى، تختزنها حياة وسيرة ومسيرة رجال الإصلاح والفكر في الأمة، ولا يمكن تظهير هذه المضامين والكنوز إلَّا بقراءة تجاربهم، ودراسة أفكارهم ونتاجهم الفكري والمعرفي، والاطِّلاع التفصيلي على جهودهم الإصلاحية في حقول الحياة المختلفة
لا شك في أن الظاهرة الإسلامية الحديثة (جماعات وتيارات، شخصيات ومؤسسات) أضحت من الحقائق الثابتة في المشهد السياسي والثقافي والاجتماعي في المنطقة العربية، بحيث من الصعوبة تجاوز هذه الحقيقة أو التغافل عن مقتضياتها ومتطلباتها.. بل إننا نستطيع القول: إن المنطقة العربية دخلت في الكثير من المآزق والتوترات بفعل عملية الإقصاء والنبذ الذي تعرَّضت إليه هذه التيارات، مما وسَّع الفجوة بين المؤسسة الرسمية والمجتمع وفعالياته السياسية والمدنية..
لم يكن حظ الفلسفة من التأليف شبيهاً بغيرها من المعارف والعلوم في تراثنا المدون بالعربية، الذي تنعقد الريادة فيه إلى علوم التفسير وعلوم القرآن والحديث والفقه وأصوله، واللغة العربية وآدابها، وعلم الكلام وغيرها. بينما لا نعثر بالكم نفسه على مدونات مستقلة تعنى بالفلسفة وقضاياها في فترات التدوين قديماً وبالأخص حديثاً؛ إذ تعد الكتابات والمؤلفات في مجال الفلسفة، ضئيلة ومحدودة جدًّا، يسهل عدها وحصرها والإحاطة بها.