تسجيل الدخول
حفظ البيانات
استرجاع كلمة السر
ليس لديك حساب بالموقع؟ تسجيل الاشتراك الآن

حجاجيّة التأويل الفلسفي المعاصر

عمارة الناصر

تتسارع النظريات الفلسفية المعاصرة بشكل لا يسمح للفكر النقدي بالقبض على البؤر الجوهرية لنشوء هذه النظريات وتطورها، حتى لم يبقَ لهذا الفكر من الرصيد اللغوي -المستهلَك فلسفياً- إلا القدر الذي يمكِّنه من مساءلة المضمون العام لتلك النظريات، وهو المضمون الذي يقدم نفسه على أنه مقنع دون امتلاك شروط الحقيقة** من خلال نشاط اللغة وإثارة المواقع غير النشطة فيها بواسطة “اللعب الخطابي”، وتلك هي المهمة التي اضطلعت بها التأويلية والفلسفية المعاصرة ممثلةً في قطبيها غادمير (Gadamer) وريكور (Ricoeur).

وللإمساك بالنقاط الساكنة في التسارع الفلسفي للتأويلية علينا تعليق الجدل القائم حول مضمون التأويلات المتصارعة وآثاره النظرية على النص والفهم والعالم، والبحث عمّا يقف خلف ذلك الجدل، أي بالبحث عمّا يجعل خطاب التأويل الفلسفي “مقنعاً”، وعن الخلفيات الحجاجيَّة لهذا الخطاب.

* المجاوزة وإنقاذ المعنى

عرفت العلوم الإنسانية نخراً منهجياً عميقاً تركَّبت معه المعالم النظرية تركيباً معقداً، وكاد المعنى المنتَج في التراث الفلسفي الغربي أن “ينقرض” تحت أنقاض الجدران البنيوية التي ما فتئت تنخرط في كل بناء فلسفي أو أدبي، وساد في الغرب شعور بالقلق من أن التاريخ المعرفي بدأ يتجمد؛ لأن الإمكانات المعرفية لتجديد المعنى تقلصت، وهو ما يستلزم تجديد التاريخ والاستلزام المعكوس صحيح كذلك، وفي جمع الحالتين بين المعنى والتاريخ تكافؤ، لكن هذا التكافؤ لم يكن ليتحقق لولا الجهود التأويلية لإنقاذ “المعنى” و “الحقيقة” من التجمد والعتامة.

وعليه تطرح التأويلية نفسها خطاباً “بديلاً ومنقذاً” يعتقد أن “مسألة الحقيقة ليست مسألة منهج، لكنها تجلّي الكينونة لكينونة ما”(1)، وهو ما يمكن وصفه بالانزياح الجوهري عن الخط الديكارتي وامتداداته المنطقية، وتغيير هدف الفكر بتدشين مرحلة “الشك في وجود تقنية للفهم”(2)، ولكن التأويلية من خلال “تجلي الكينونة لكينونة ما” لا ترمي إلى استدعاء المنهج الفينومينولوجي بما هو دينامية للتجلي وإنما على عكس المبدأ الهوسرلي وبالقطع مع منهجه فإن التأويلية تتأسس على المبدأ الغادميري “الوعي في كينونته لا يتعلق بشيء”(3)، وعليه تُنزَع عن الثنائية المعرفية “ذات/ موضوع”، الحماية المنطقية التي كانت توفرها نظرية المعرفة***، حيث تفرض سلطة الموضوع شكلَ الوعي وتُخضعه لنظامها الداخلي، وبعد هذا الانفصال المعرفي ظهر أن الوعي أصبح في مواجهة نفسه أي في مواجهة القوالب المنطقية التي ترسبت في مستويات عملياته المعرفية.

* المصوِّغات المنطقية للحجاجيَّة التأولية

تحاول التأويلية الفلسفية**** المعاصرة الإفلات من قبضة المنطق المطور رمزياً في النظريات المعرفية الحديثة (كانْتْ خصوصاً) وتؤسس للقطيعة معه؛ إذ تصف “الرمزية المنطقية بأنها فارغة في حين أن الرمزية التأويلية ممتلئة”(4)، وهو ما يجعل المنطق والتأويل على طرفي فصل وما هو بالوصل، ولكن من أين تستمد التأويلية قدرتها الإقناعية ومرجعيتها الحجاجيَّة؟ وبأي شيء تمتلئ رمزيتها إن كانت تدعي انفصالها عن المنطق؟

يشتغل التأويل الفلسفي على “الرمز” بما هو “الوساطة الشاملة للفكر بيننا وبين الواقع لأنه يعبر قبل كل شيء عن لا مباشرية فهمنا للواقع”(5)، ولا يكون الرمز هاهنا إلا حلاًّ كانْتِياً فيما أسماه “بالمنطق المتعالي”، إذ تحتمل ثنائية (الفهم/ الواقع) قيمتي الصدق والكذب ويرتفع والكذب ويرتفع الرمز متوسطاً القيمتين وحاملاً “قيمة مطلقة”.

وتنبني المقدمات المنطقية في التأويلية انبناءً صورياً في شكل قياس تقليدي، إذ يرى ريكور أنه “إذا لم تكن اللغة لذاتها وإنما لعالم تفتحه وتكتشفه، فتأويل اللغة -إذن- لا يختلف عن تأويل العالم”(6)، فإذا افترضنا أن المقدمتين: (ليست اللغة لذاتها)، و (اللغة لعالم تفتحه وتكتشفه) مقدمتان صحيحتان، فإن النتيجة (تأويل اللغة لا يختلف عن تأويل العالم) تحتوي على تكافؤ صوري منخور الدلالة غير “ممتلئ”، فإذا كانت اللغة تكافئ العالم فلِمَ الفتح والاكتشاف؟ وأما إسناد اللغة والعالم إلى التأويل فلا يثبت تكافؤهما*****، ويوظف غادمير التكافؤ الصوريّ نفسه إذ يرى أن “كلية اللغة تتساوى مع كلية العقل، وللوعي التأويلي دور في تشكيل العلاقة العامة بين اللغة والعقل، فاللغة هي لغة العقل ذاته”(7)، إذ يقوم بإسناد اللغة والعقل إلى الكليَّة ليتمكن من المماهاة بينهما، ولكن إذا كانت المماهاة صحيحة وكانت اللغة هي لغة العقل ذاته فلِمَ الحاجة إلى التأويل؟ ثم إذا ركبنا بين مقولتي ريكور وغادمير فإن تأويل اللغة سيكون تأويلاً للعقل والعالم في الوقت نفسه، وذلك جمعٌ تستهجنه كفاية اللغة فلا يكون ذاك إلا بتحويل الرمز إلى رمز مضاعف ومنه يتلاشى التأويل إلى اللانهاية لأنه عندما يتخطى حدوده محاولاً ترقية نفسه إلى الكليِّ فإنما يكون قد دخل إلى الكليِّ المُتوهَّم، وعليه يظهر أن “مشكلة التأويل (..) ليست في الخطأ بالمعنى الإبستيمولوجي ولا في الكذب بالمعنى الأخلاقي، وإنما تكمن مشكلته في الوهم”(8)، والوهم على مستوى المنطق مغالطة إذ كيف تكون اللغة لعالم تفتحه وتكتشفه ونكون، في الوقت نفسه، “في معظم أفكارنا ومعارفنا مسبوقين بواسطة التأويل اللغوي للعالم”؟(9) فهذه الاستباقية تجعل من المنطق المتضمن في اللغة، متضمناً -وبشكل جوهري- في التأويل الفلسفي للّغة، إذ الفلسفة نفسها “لا تبدأ أبداً لأن كثافة اللغة تسبقها”(10)، وعليه تتأسس حلقة جدلية بين اللغة والتأويل الفلسفي، حيث تقوم الفلسفة بتأويل اللغة، واللغة تسبق الفلسفة. فهل تكون هذه الحلقة -بالمعنى المنطقي- مفرغة؟

ولكي تفلت التأويلية من صرامة هذا الإشكال المنطقي تبتكر حلاًّ تدعوه “الحلقة الهرمينوطيقية”، حيث التأويل “يدور في حلقة، ولكنها ليست مفرغة (..)، بحيث نعدِّل قاعدةً، إنْ هيَ أنتجت استدلالاً لسنا مستعدين لتقبُّله، ونستغني عن استدلال إنْ هو اخترق قاعدةً لسنا مستعدين لتعديلها”(11)، ومع أن هذه الحلقة تخترق القاعدة المنطقية للاستدلال فإنها تؤسس لمنطق مضاعف يجمع بين كلية المنطق وكلية “المنطق المعدَّل”، حيث التعديل لا يتم خارج الروابط المنطقية، كما أن القاعدة المعدَّلة والاستدلال البديل يريدان أن يكونا كليَّين حتى تستغرق الحجة في المشروع العام للتأويل، والكلي عندما تكتمل صياغته لذاته فإنه لا يُبقي على صفة التعديل للقواعد التي تشتمل عليها مقولاته ومنه تنمحي كلية القواعد المعدَّلة في كلية المنطق ويصبح المعدَّل أصلاً.

* الأثر الحِجاجي: الوجود والوهم

ظهر -مما سبق- أن المنطق ما يزال محايثاً للخطاب الفلسفي وإن ادَّعى -نظرياً- أنه ينفلت من قبضته، ويبني الحجاجية المناسبة لذلك، وعلى هذا يكون الإشكال: هل أن فلسفة تنشأ بعيداً عن البناء المنطقي تكون فلسفة؟ وما تكون طبيعتها إذَّاك لو كانت لها تلك النشأة؟

إن إثارة هذا الإشكال تدفع إلى رصد الحركة الدائرية بين الحجة التي تتجلى بذاتها في آثار البناء الأنطولوجي لخطاب الفلسفة وبين الفلسفة التي تتجلى نتيجةً لنسق من الحجج يريد لنفسه أن يكون خطاباً، وإن كان للرصد أن يتم عبر مراحل فستكون أولاها مرحلة الفصل المعرفي بين “حجة الخطاب” و “إرادة الخطاب” لأنها المرحلة التي تؤسس لاختراق الكثافة الأنطولوجية التي بقيت -منذ هيدغر- توفِّر حصانة معرفية للمقولات الفلسفية على افتراض أنه عند حدود هذه الكثافة يتلاشى “الوهم” وينعدم فلا يحتاج الخطاب في ظل حصانتها إلى حجاجية للدفاع عن نفسه، فقط لأنه “موجود” والموجود لا يحتاج إلى حجة لإثبات وجوده.

ومنه فإن الحجة في هذا المنظور الجديد تحتاج إلى تأويل للكشف عن ماهيتها، هل هي سابقة على الكتابة الفلسفية أم هي أثر لها؟ وفي الحالتين معاً يتعين تأويل العلاقة الناشئة بينهما والبحث عن الروابط المنطقية التي تجمعهما، وهل كل حجة تبني فكرة فلسفية؟ وهي تستوجب كل فكرة فلسفية سابقة حجاجية بالضرورة؟

إن تلمس الخطوط الكبرى للوظيفة الإقناعية في البنية الحجاجية للتأويلية المعاصرة إنما يقود بالأساس إلى إيجاد نقاط الارتكاز الأنطولوجية في فعل “توجيه” الخطاب الفلسفي وهو التوجيه الذي تنشئ الفلسفة على أساسه أفعال “الالتفاف” حول النظرية، و “الإفلات” من أنساق فلسفية سابقة، و “إحالة” الوجود إلى الفكر، وفي هذه الأفعال جميعها تشتغل الحجة بمظهرَيْها الأساسيين كسابقة للكتابة وكأثر لها، ولكن عمل التأويل يتغير في المظهرين، فإذا كان الادِّعاء بإفلات التأويل من قبضة الرمزية المنطقية فإن الحجة ستكون في جهة الأثر للكتابة الفلسفية، والأثر ليس أصلاً في قرارات الكتابة أو إرادتها ومنه فإن السلطة التي يمتلكها هذا الأثر الحجاجي تقوم بإعادة “توجيه” الخطاب الفلسفي إلى جهةٍ لم تكن مُتضمَنَةً في مقاصد التأويلية، وبهذا ينشأ الوهم.

وعليه فإن استدعاء المبحث الحجاجي في الفلسفة سيكشف عن الحدود المعرفية الجديدة التي وصل عندها تاريخ الوهم في محاولته التلبس بالمعرفة، وهي الحدود التي يبدو أن الفهم الهيدغري ما يزال يحرسها.

 

الهوامش:

* باحث من الجزائر.

** هو ما يذكرنا به الدرس الحجاجي للسفسطائية حيث يتم بناء التصورات والمفاهيم وحججها دون الاستناد إلى شروط الحقيقة وهذا بالتوليد المكثف للخطابات من بعضها حتى لا تكاد تستند إلى شيء.

(1) Ricoeur (Paul), Le conflit des interprétations: éssais d'heméneutique; Seuil; Paris; 1969. P: 13.

(2) Gadamer (Hans Georges), Vérité et Méthode; Trad: Piérre Fruchon; Seuil; Prais; 1996. P: 286.

(3) IBID; P: 413.

(وهو ما يمثل القطيعة مع المبدأ الفينومينولوجي لدى هوسرل: “الوعي هو الوعي بشيء ما”).

*** نشير هنا إلى التحول الفلسفي من نظرية المعرفة إلى الهرمينوطيقا، وهو التحول الذي حمل معه إشكالات عديدة على مستوى العقلائية عموماً ومسألتي المنهج والمنطق خصوصاً.

**** نخص بالبحث التأويلية الفلسفية دون التأويليات الأخرى (الأدبية، الفنية...).

(4) Ricoeur (Paul), De I'interprétation: éssai sur Freud; Paris; 1965. P: 60.

(5) IBID; P: 20.

(6) Ricoeur (Paul), Lectures III: aux frontiéres de la philosophie; Seuil; Paris; 1994. P: 301.

***** إضافة المقدار نفسه إلى مقدارين غير متكافئين يُبقي على عدم تكافؤهما [(أ ? ب) ? (س + أ) ? (س + ب)].

(7) Gadamer, op.cit; P: 424.

(8) Ricoeur, De l'interprétation; op.cit; P: 36.

(9) Gadamer, L'art de comprendre, Ecrits II: Hérmeneutique et champ de l'expérience humaine; Trad: Piérre Fruchon et autres; Aupier; Paris; 1991, P: 62.

(نرى في هذه العبارة تأثير أفلاطون ونظريته في المثل على الخصوص).

(10) Ricoeur; Lectures III; op.cit; P: 300.

(11) Rorty (Richard); L'homme spéculaire; Trad: Theing Marchaisse; Seuil; Paris, 1990, P: 365.

 

آخر الإصدارات


 

الأكثر قراءة